من ذاكرة صفحات سورية

نكبة نصارى الشام … كي لا يتكرّر التاريخ مرتين/ سامي مروان مبيّض

بعد سماع الكلام الذي أطلقه من دمشق البطريرك الأرثوذكسيّ، في اليوم الأوَّل من هذه السنة، امتدَّت اليد إلى المكتبة، وسَحَبت الكتاب المدوَّن على كعبه عنوانُ «نكبة نصارى الشام» (رياض الريس ـــ 2021)، الذي تأجَّلت قراءته مرَّاتٍ عدَّةً في السنة الفائتة. صحيح أنّ عالم اليوم لا يشبه عالمَ مطلع النصف الثاني من القرن التاسع عشر، إلا أنّ هناك بعض نقاط الالتقاء والظروف السياسية المشتركة بين اليوم والأمس. لذا، تبدو قراءة الكتاب مهمة بهدف «دراسة تلك الفتنة بعمق، ليس نبشاً لماضٍ أسود بهدف التحريض وإثارة الفتن، بل لنتعلَّم منه، أملاً في ألَّا يُعاد أبداً» كما يقول مؤلِّف الكتاب، المؤرِّخ والأكاديمي سامي مروان مبيّض

كانت لافتةً الدعوة التي وجَّهها بطريرك أنطاكية وسائر المشرق الأرثوذكسيّ، يوحنا العاشر يازجي، أثناء عظته في قدَّاس رأس السنة الميلاديَّة (كنسيَّاً هو عيد القدِّيس باسيليوس)، إلى رأس السلطة السياسيَّة الجديدة في سوريا، أحمد الشرع، لزيارة دار البطريركيَّة في باب توما، التي منح أرضها الأمويُّون للمسيحيين، تعويضاً عن استيلائهم على ضريح القديس يوحنا المعمدان، حيث بنوا الجامع الأمويّ.

لم يسبق للبطريرك الأرثوذكسيّ أن تحدَّث في أمورٍ لها علاقةٌ بالسياسة من على منبر الكنيسة، لكنَّ الظروف المستجدَّة اضطرَّته إلى ذلك؛ فسوريا تعيش مرحلةً تأسيسيَّةً شبيهةً بمرحلة ستينيات القرن الماضي، التي تحدَّد بموجب نتائجها شكل نظام الحكم في البلاد لأكثر من نصف قرن. أحيت المرحلة الجديدة، التي بدأت في 8 كانون الأول 2024، المخاوف المُبرَّرة لدى المكوِّن المسيحي، المتعلِّقة بالخشية من تجاهل رأيه في مستقبل البلد وشكْل نظام الحكم فيه، الذي تسعى «هيئة تحرير الشام» إلى أن تكون الشريعة الإسلاميَّة أساسه. فقد قال يازجي إنَّه لم يتلقَّ دعوةً إلى مؤتمر الحوار الوطنيّ الذي يجري الحديث عنه، بصفته التمثيليَّة لمسيحيي سوريا، التي يشاركه فيها ــ وفقاً لما قال ـــ البطريركان الآخران اللذان يقع مقرُّ كرسيهما الرسوليّ في دمشق، أي بطريرك الروم الكاثوليك وبطريرك السريان الأرثوذكس، رغم أنَّ وفداً من الطوائف المسيحيَّة زار الشرع قبل يومٍ واحدٍ من العظة والتقاه في قصر الشعب، ورغم أن السلطة الجديدة أوفدت ممثلين لها إلى محافظاتٍ كاللاذقية والسويداء، التقوا فيها رؤساء روحيين لطوائف سوريَّة، ووقفوا على هواجسهم ومطالبهم. وفي الوقت نفسه الذي كان يازجي يتكلَّم فيه، كانت وزارة التربية والتعليم السوريَّة تُصدر تعديلاتٍ عدة على المناهج الدراسيَّة، اعتبرت بموجب بعضها أنَّ المسيحيين «ضالّون»، أي نفت عنهم حقَّهم في المساواة الكاملة مع مواطنيهم المسلمين، الذين يمكن أن يبدأوا بالنظر إليهم وتمييزهم على هذا الأساس منذ مجاورتهم لهم على مقاعد الدراسة. وبالتالي، من المفهوم بعد ذلك ألَّا تعاملهم السلطة الجديدة، ذات الخلفيَّة الدينيَّة المتشدِّدة، معاملة النِّدّ.

تاريخٌ تمَّ تجاهله دوماً

يُعدّ الباحث والمؤرِّخ سامي مروان مبيِّض (1978) من أبرز المهتمِّين بتاريخ دمشق. ومن بين الكتب التي وضعها في هذا الشأن كتاب «نكبة نصارى دمشق، أهل ذِمَّة السلطنة وانتفاضة 1860» الذي يضيء على حدثٍ مهول، دائماً ما تمَّ تجاهله تحت ذريعة الحفاظ على «الوحدة الوطنيَّة». حتى إنَّ رئيس الوزراء السوري بعد الاستقلال عن فرنسا، فارس الخوري، لم يأتِ على ذكر تلك الأحداث في أوراقه أو خُطَبه، رغم أنَّه فقد جدَّه لأمِّه فيها. المصادر العربية التي تحدَّثت عن تلك النكبة، على امتداد أكثر من مئةٍ وخمسين عاماً، تُعَدُّ على أصابع اليد الواحدة، بينما يمكن العثور على برقياتٍ عدة ومذكِّراتٍ لديبلوماسيين ومُبشِّرين أجانب، في أرشيفات وزارات الخارجية لدول أوروبيَّة، وتحديداً بريطانيا وفرنسا، ذكروا فيها ما عاينوه من دمارٍ وجثثٍ وفوضى ونهب.

في دمشق، تُعرف حوادث عام 1860 شعبياً باسم «طوشة النصارى». تسميةٌ جائرةٌ بحسب المؤلِّف، «لأنَّ مسيحيي الشام لم يطوشوا، بل طاش بعض المسلمين عليهم». في صيف ذلك العام، وقعت في باب توما وبعض حارات القيمريَّة (التسمية العامَّة لـِ«آيا ماريَّا» نسبةً إلى الكاتدرائيَّة المريميَّة) مجزرةٌ رهيبةٌ على مدى سبعة أيَّامٍ بلياليها، راح ضحيَّتها خمسة آلاف مسيحيٍّ من أصل اثنين وعشرين ألفاً كانوا يقطنون داخل أسوار المدينة القديمة، وهو العدد التقريبيُّ للمهاجمين المُسلَّحين، وهُدِم 1200 منزلٍ من منازلهم. ينقل المؤرِّخ أنَّ القتل وصل إلى ذروته في الأيام الثلاثة الأولى، وبدأ بالانحسار التدريجي حتى اليوم الثامن، بعد تدمير الحيِّ المسيحيِّ بأكمله، وخلوِّه من أيِّ روحٍ أو أيِّ شيءٍ قابلٍ للسرقة والنهب.

حكاية ما جرى

في باب توما بدأ كلُّ شيءٍ بعبث أولاد، كما بدأ في جبل لبنان قبل أشهر من أجل طائر حَجَلٍ، على ما تقول الحكايات. إن دلَّ هذا على شيءٍ، فإنَّما يدلُّ على درجة الشحن التي بلغتها النفوس، ولهذا أسبابه التي سنذكرها في الفقرة اللاحقة، قبل أن تتَّخذ من أيَّ حادثةٍ ذريعةً للتفريغ والعدوان، مع التأكيد على أنَّ هذه ليست حالةً عامَّةً على الإطلاق، فالكثير من المسلمين خبَّأوا المسيحيين في بيوتهم وحموهم، وأبرزهم الأمير عبد القادر الجزائري وعمر العابد.

صبيحة السابع من تموز من ذلك العام المشؤوم، دخلت مجموعةٌ من الفتيان الذين تراوح أعمارهم بين العاشرة والرابعة عشرة إلى حي باب توما، وبدأوا باستفزاز أهله المسيحيين استفزازاتٍ دينيَّة. تكرَّر هذا الأمر مرَّتين بعد هذه المرة الأولى، رغم أنَّ الجنود العثمانيين كانوا يقبضون على الأولاد ويودعونهم المخفر لساعات. لكن في المرة الثالثة، ثار احتجاجٌ بسبب تكرار اعتقال الأولاد، فأطلقت مجموعةٌ من المحكومين الخارجين من المخفر سراحهم من أيدي الجنود (قيل لاحقاً إنَّ والي دمشق، أحمد عزَّت باشا، تعمَّد إطلاق سراحهم لتأجيج الاضطراب)، وتوجَّهت معهم إلى الحيِّ المسيحيّ.

أطلق ضابطٌ عثمانيٌّ النار على المهاجمين الموتورين لمنعهم من اقتحام الحي، فقُتِل منهم اثنان. لكنَّ الخبر ضُخِّم، وشاع أنَّ عدد المقتولين بلغ أربعين، ما أدَّى إلى توجُّه أبناء الأحياء المحيطة بباب توما إليه، واندلاع أعمال القتل والحرق والنهب والاغتصاب، وكان من أبرز من قُتِلوا الخوري يوسف حداد (القديس يوسف الدمشقي)، كاهن الكنيسة المريميَّة والمسؤول عن المدرسة البطريركيَّة المعروفة بالآسيَّة، الذي سُحِل في الطرقات إلى أن تهشَّم جسده، بعدما عرفه المهاجمون. وقد أعلن المجمع الأنطاكي المُقدَّس قداسته عام 1993.

أسباب «الطوشة» وتأثير ثورة 1831

لماذا تردَّدت أصداء الفتنة التي اندلعت في جبل لبنان بين الموارنة والدروز في دمشق دوناً عن بيروت؟ لذلك عدد من الأسباب، التي ارتبطت بواقع الحياة في ظل حكم الإمبراطوريَّة العثمانيَّة الضعيفة والمديونة ومنقوصة الاستقلال، التي كَثُرَ في مدنها حضور قناصل الدول الغربيَّة وتدخُّلاتهم، فقد كانت دولهم تستغلُّ أيَّ ضعفٍ في الإمبراطورية لتعميق تسلُّلها وحضورها في أراضيها المترامية، وخصوصاً في المشرق العربي بحُجَّة حماية الأقلِّيَّات، عبر الجمعيات الإغائية والمؤسَّسات التعليميَّة المموَّلة منها.

هناك أولاً الإحساس بالتخلِّي والغبن الذي ساد بين مسلمي دمشق والدولة العثمانيَّة بسبب إحدى موجات الإصلاحات، التي عُرِفَت باسم «التنظيمات»، التي كان العثمانيون يلجأون إليها سحباً لذريعةٍ لطالما تذرَّع بها الأوروبيون للتدخُّل في شؤونهم، بغضِّ النظر عن قابليَّة مجتمعاتهم لاستيعاب المتغيِّرات المُدخلَة عليها. فرضَت هذه الإجراءات الجديدة في عام 1856 التساوي التامّ أمام القانون بين المسلمين والمسيحيين، الذين ظلُّوا يُعدّون من «أهل الذِّمَّة» لزمنٍ طويل، وهو ما اعتبره كثيرٌ من فُقهاء ذلك العصر مخالفاً للشريعة الإسلاميَّة.

الأسباب الاقتصاديَّة التي لا تحدث القلاقل إلَّا عند اضطرابها كانت حاضرةً بالطبع. ففي عام 1848، ضرب المدينة وباء الكوليرا، فعطَّل الحياة فيها وتسبَّب في وفاة الآلاف. ثم دمَّر الشتاء القارس محصول الفواكه في الغوطة الشرقيَّة، بالتزامن مع فرض الدولة العثمانية ضرائب عالية على أصحاب المواشي ومُلَّاك الأراضي. وأخيراً نفد احتياطي الحبوب في ولاية دمشق، ما أدَّى إلى ارتفاعٍ حادٍّ في أسعار الخبز وإلى أعمال شغب. أما أبرز التحديات الاقتصاديَّة على الإطلاق، فتمثَّلت في تراجع صناعة النسيج والحرير تحديداً عند الصناعيين المسلمين، لأنّ زملاءهم المسيحيين بقوا مسايرين لأحدث الاختراعات العالمية وقادرين على الحصول عليها بفعل علاقتهم بالأوروبيين، الذين صرَّفوا بضاعتهم عن طريقهم أيضاً، ولأنَّ العثمانيين فتحوا باب الاستيراد بضرائب قليلة، ورفعوا في المقابل الضرائب على التصدير. كلُّ ما سبق أدَّى إلى انقلاب سيطرة الصناعيين المسلمين على صناعة المنسوجات لمصلحة الصناعيين المسيحيين.

أمَّا السبب الأهمُّ الذي يعتبر مبيِّض أنَّه لا يمكن فهم أحداث عام 1860 من دون الرجوع إليه، فهو ثورة عام 1831، وتأتي بعده من حيث الأهميَّة مدة حكم إبراهيم باشا القصيرة لدمشق. في عام 1831، فرضت الدولة العثمانية ضريبةً جديدةً على مواطنيها عُرِفَت بضريبة «الصليان»، وهي خاصَّة بالمسلمين حصراً، وتنصُّ على دفع مبلغٍ ماليٍّ على كلّ مفتاحٍ (أي عقار) يملكه الشخص. رفض الدمشقيون دفع هذه الضريبة، فعزل الباب العالي والي دمشق الذي فشل في انتزاع المال الذي تحتاجه خزينة السلطنة من الناس، وعيَّن سليم باشا والياً جديداً، وهو الذي كان صدراً أعظم (أي رئيساً للوزراء) قبل ثلاث سنواتٍ فقط، وله خبرة في قمع الثورات كما فعل في اليونان. لكنَّ الدمشقيين زادوا من عصيانهم بقيادة زعمائهم التقليديين، وتمكَّنوا من قتل سليم باشا وتشتيت قوَّاته. يشير مبيِّض إلى أنَّ هذه الثورة غيَّرت من ذهنيَّة أبناء المدينة وتعامل زعمائهم مع العثمانيين، وخصوصاً أنَّهم لم يعاقبوهم على ما اقترفوه كما كانوا يخشون ويتحسَّبون، وأثبتت لهم أنَّهم قادرون على توحيد صفوفهم وتجاوز الفروقات فيما بينهم من أجل تحقيق أهدافهم.

أما مدة الحكم المصري التي امتدَّت بين عامَي 1832 و1840، فقد أتت بعدما استغلَّ محمد علي باشا الضعف العثماني لوضع خط دفاعٍ متقدِّمٍ في الشام يقيه هجماتهم. قاد حملته البريَّة والبحريَّة هذه ابنه إبراهيم باشا، الذي دخل دمشق حاملاً أفكار الدولة الحديثة التي لم يعتَدها أبناء المدينة الغارقة في الزعامات التقليدية. أمر إبراهيم باشا برفع كل مظاهر التمييز عن المسيحيين، وساوى بينهم وبين المسلمين في الحقوق والواجبات والتوظيف في المراكز الحكومية، وحمى حرِّيتهم في الممارسة الدينية واللباس والتنقُّل وحتى شرب الخمر، فكثرت الخمَّارات التي كانوا يجلسون فيها ويشربون علناً، ما أثار حفيظة المسلمين وغضبهم، كما أنَّه سمح بدخول بعثاتٍ ديبلوماسيَّةٍ للدول الأوروبيَّة، لم تكن معتمدةً في أراضي السلطنة قبل ذلك. دعم قناصل هذه الدول المسيحيين، ومنحوهم وكالاتٍ أجنبيَّة زادت من دخلهم وحوَّلتهم إلى أصحاب ثروات، وكان ذلك بالطبع على حساب المسلمين.

المسؤوليَّة والعِبَر

نظراً إلى كلّ ما سبق، كانت الظروف مُهَيَّأةً لاندلاع هذه الفتنة، التي يمكن أن يحضر فيها، كما هي الحال مع كلِّ فتنةٍ أهليَّة، السؤال الذي يطرحه سامي مروان مبيِّض في نهاية كتابه: هل كانت أحداث 1860 فتنةً أهليَّةً استغلَّتها دولٌ خارجيَّةٌ للتدخُّل في الشؤون الداخليَّة؟ أم أنَّها مؤامرةٌ خارجيَّةٌ وجدت في هذه الفتنة حاملاً لها ليتدخَّل أصحابها في شؤون مدينةٍ كان لها دورٌ أساسيٌّ في الاقتصاد العالميّ، عبر صناعة الحرير الطبيعي التي كانت مزدهرةً فيها وتخرَّبت بشكلٍ شبه كاملٍ بعد الفتنة؟ فقبل هذه الفتنة بنحو 15 عاماً، «ضرب مرضٌ دودة الحرير في الصين وفرنسا، أدَّى إلى شبه انقراضٍ في صناعاتهم واعتمادٍ شبه كُلِّيٍّ على صناعة دمشق، التي بات أعيانها من المسيحيين تحديداً يتحكَّمون بمادة الحرير الأوَّليَّة، وبأسعارها العالميَّة».

وهو ما يُعتَقد أنَّه من الأسباب التي دفعت الأوروبيين، وتحديداً الفرنسيين، لإشعال هذه الفتنة، وفق إحدى الفرضيات. وهناك، وفق فرضيَّةٍ أخرى، ما يُشير إلى دورٍ للحكومة العثمانيَّة عبر تقاعس الدولة العثمانية في إيقاف المذبحة، فهي لم تتدخَّل إلا بعد أسبوعٍ كاملٍ من بدء القتل، في حين أنَّه كان بإمكانها إيقافه منذ اليوم الأوَّل. أما الفرضيَّة الأخيرة فتُحمِّل وكذلك أهل دمشق أنفسهم مسؤولية ما حدث في أزقة مدينتهم العتيقة، فـ«مكوِّنات المجتمع الدمشقي بالعموم لم تشعر يوماً بأنها تنتمي إلى مدينةٍ تجمعها، بل إلى مِللٍ وطوائف وزعامات، لكلِّ واحدةٍ منها «دمشق» كما يتخيَّلونها ويريدونها أن تكون» وفق ما يؤكِّد المؤلِّف، قبل أن يتابع في وصفٍ يجمع بين زمن موضوع كتابه والحاضر الذي كان يضع فيه هذا الكتاب، قائلاً إنَّه «رغم كلِّ مظاهر العيش المشترك والحضارة والتمدُّن، في أوقات المصائب والمحن، كانت كلُّ مجموعةٍ تعود إلى أصولها القبليَّة (…) وينطبق هذا الكلام على الطوائف أيضاً». وقد فاقم قلق أهل المدينة وشحن أعصابهم ما تردَّد من شائعاتٍ كاذبةٍ تزعم أنَّ المسيحيين في زحلة قد سحقوا الدروز، وهم يتوجَّهون نحو دمشق

.

أسئلة راهنة

في الفصل الأخير من كتابه «نكبة نصارى الشام» ، يطرح سامي مروان مبيِّض «أسئلةً للتاريخ» بحسب عنوان الفصل. بقيت هذه الأسئلة من دون أجوبةٍ إلى الآن، وما زالت بالتالي أسئلةً راهنة، وخصوصاً أنَّنا أمام جريمة إبادةٍ جماعيَّةٍ لم تُحدَّد هويَّة مرتكبيها. نورد في ما يأتي مطلع هذا الفصل:

بعد كل ما ذُكِر يبقى سؤال واحد: من كان المسؤول عن مجازر دمشق عام 1860، العثمانيون أم الأوروبيون أم الدمشقيون أنفسهم؟

هناك لوم كبير على والي دمشق أحمد عزت باشا الذي تخاذل في حماية الحي المسيحي، وشارك في تأجيج المشاعر الطائفية بعدم ضبطه لشائعات الشارع الدمشقي قبل الأحداث وخلالها. لعله يتحمل المسؤولية الأكبر، لكونه وليّ أمر الناس، المؤتمن على حياتهم وأرزاقهم، لكن هل كان تراخيه فرديّاً أم جزءاً من سياسة غير معلنة لحكومة بلاده؟

هناك مسؤولية كبيرة على الحكومة المركزية في إسطنبول، لا شك، التي تأخرت كثيراً في إيفاد وزير خارجيتها فؤاد باشا إلى دمشق، مدعوماً بتعزيزات عسكرية، لوضع حد لنيران الفتنة. لو أرادت، لكان بوسعها إنهاء الفتنة من يومها الأول، بدلاً من أن تنتظر أسبوعاً كاملاً للتدخل. ولكن لو أردنا القول إن العثمانيين كانوا وراء المجزرة بمفردهم، فما مصلحتهم في تدمير الحي المسيحي، وقتل خمسة آلاف شخص، وإعطاء ذريعة فاضحة للأوروبيين للتدخل في شؤونهم الداخلية؟ المسيحيون في دمشق لم يكونوا يشكلون خطراً على الدولة العثمانية، فلا أطماع سياسية لهم ولا نزعة انفصالية. على العكس، كانت صناعتهم تشكل مصدر دخل ثابت للخزينة العامة، التي كانت بأمسّ الحاجة إلى المال. الفتك بالحيّ المسيحي وتدمير كل المصانع والورش في داخله أضرّ بالاقتصاد العثماني، وبسمعة السلطان شخصياً، الذي ظهر أمام المجتمع الدولي بمظهر الضعيف والعاجز عن حماية رعاياه. قد يقول البعض إن العثمانيين أرادوا التخلص من المسيحيين لأسباب طائفية، أو خوفاً على دولتهم من علاقة هذا المجتمع بالغرب. في حال أن المسيحيين كانوا هم الهدف حقاً، لِمَ لم تطاول يد الغوغاء المسيحيين من سكان حيّ الميدان؟ كان بوسع الدولة أن تسمح للرعاع بدخول الميدان وأن يعبثوا به تماماً كما فعلوا في باب توما، ولكن هذا لم يحصل. لم يُقتل مسيحيٌّ واحدٌ في الميدان خلال «الطوشة»، ولم يتعرض أحد لكنائس الميدان.

ثم تأتي الفرضية الثانية، بأن الأوروبيين كانوا وراء ما حدث في دمشق، بسبب خلافاتهم القديمة مع السلطان العثماني. العلاقة بين الدولة والمسيحيين كانت منظمة تنظيماً دقيقاً عبر قانون «نظام المِلل»، ولو طبقه الولاة بنحو عادل ومنظم، لما كان من داعٍ لإعطاء الأوروبيين حق «الحماية» للمسيحيين، التي أغضبت المسلمين وكرست الأحقاد والدسائس ضد المكون المسيحي في المجتمع. ثم جاءت «الامتيازات» التي انتزعتها الدول الأوروبية من السلطان العثماني، وكانت أخطر من نظام الحماية، أعطت القناصل حقوقاً كثيرة، كان من بينها التدخل في الشؤون السياسية اليومية، وإقامة محاكم خاصة بهم، وإيجاد نظام ضمن النظام يدعى «الحماية القنصلية». التخلص من المسيحيين لم يكن الهدف بحد ذاته، ولكنه أعطى تلك الدول ذريعة دسمة للتدخل العسكري والسياسي في شؤون السلطنة، استمر من دون انقطاع حتى هزيمتها على أيدي الأوروبيين مع نهاية الحرب العالمية الأولى عام 1918. قتل المسيحيين كان مجرد جسر، أرادت تلك الدول الأوربية العبور من طريقه إلى قلب السلطنة، لضربها من الداخل.

هناك فرضية تقول إن الروم الأرثوذكس كانوا هم المستهدفين الحقيقيين، وليس كل المسيحيين، لكونهم سكان هذا المشرق الأصليين، وهذا كلام صحيح بالنسبة إلى مسيحيي البلقان واليونان، لا بلادنا، الذين باتوا يشكلون خطراً حقيقياً على حكم الدولة العثمانية في أوروبا. أما نظرية أن الأوروبيين أرادوا فتنة الستين للتخلص من الصناعات المسيحية الدمشقية لأنها كانت تهدد اقتصاداتهم، فهي قائمة أيضاً، وبقوة. كانت دمشق يومها أهم مدينة صناعية في المشرق، تضاهي كبرى المدن الأوروبية، قريبة من مرافئ بحرية، فيها حرفيون ماهرون ومواد أولية رخيصة، إضافة إلى أكثر من 200 صناعة محلية، أهمها وأربحها الحرير والنسيج. كان الفرنسيون يستوردون كامل الكمية الفائضة من إنتاج الحرير في ورش دمشق، عبر وسطاء دمشقيين مسيحيين، بعد تلبية هذه الورش لحاجة السوق المحلية (…) نظراً إلى الطلب الأوروبي المتزايد على مادة الحرير، ارتفعت أسعاره العالمية بنحو جنوني. لم يبقَ أمام مصنِّعي النسيج في العالم إلا حرير لبنان والساحل الذي كان يصبّ كله في ورشات دمشق ودير القمر. كان الحرير مثل الذهب، له سعر متغير كل يوم، ولم يناسب الأوروبيين هذا الارتفاع، وأصبح اعتمادهم على مدينة دمشق محرجاً، مادياً ومعنوياً.

وقد حسبوا أن البنية الصناعية الواعدة في دمشق، التي لها امتداداتها التجارية في أوروبا، تمنع عليهم الحصول على خيط الحرير بالأسعار التي تناسبهم. في عام 1860، انتقم الأوروبيون، بواسطة الغوغاء، من مدينة دمشق وحطموا جميع ورشها، بعد سرقة المكينات كلها، إلا الجاكار الميكانيكي الذي لم يفهموا كيفية العمل به، فأحرقوه. في نهاية المطاف، حصلوا على خيط الحرير المطلوب، وهو جوهر الأمر، ورفعوا عن دمشق قدرتها على التحكم به وبأسعاره من ذلك التاريخ فصاعداً.

أما الاحتمال الأخير، وهو فرضية الأرض الخصبة الحاضرة دوماً لكل أنواع الفتن، فهو قائم، وخير دليل على ذلك هو كل ما حدث في سوريا في السنوات القليلة الماضية.

سامي مروان مبيّض: كاتب ومؤرِّخ سوريّ ورئيس مجلس أمناء «مؤسسة تاريخ دمشق». أصدر مجموعة من المؤلَّفات عن تاريخ مدينة دمشق المعاصر. عَمِل في ميادين التدريس والصحافة، ووضع كتُباً وأبحاثاً باللغتين العربيَّة والإنكليزيَّة عن موضوعات كانت منسيَّةً أو مُغيَّبةً في تاريخ دمشق الحديث. من كتبه: «تاريخ دمشق المنسي: أربع حكايات 1916 ـ 1936»، و«شرق الجامع الأموي: الماسونيَّة الدمشقيَّة 1868 ـ 1965»، و«غرب كنيس دمشق: محاولات صهيونيَّة لاختراق المجتمع السوري 1924 ـ 1954»، و«عبد الناصر والتأميم: وقائع الانقلاب الاقتصاديّ في سورية» صادرة جميعها عن دار «رياض الريس».

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى