سقوط بشار الأسد، الرئيس الفار والمخلوعصفحات الحوار

حوار مع حسيبة عبد الرحمن: هل يتعارض السلم الأهلي مع المحاسبة؟

رحاب منى شاكر

03-02-2025

حسيبة عبد الرحمن (1959) سياسية وكاتبة سورية، انتسبت إلى حزب العمل الشيوعي في عام 1977، اعتقلها النظام السوري أربع مرات في ثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي على خلفية انتمائها السياسي. صدرت لها عدة روايات ومجموعة قصصية: الشرنقة (1999)، سقط سهوًا (2002)، تجليات جدي الشيخ المهاجر (2010)، وستصدر لها قريبًا رواية بعنوان السمّاق المر. عاشت حسيبة طيلة حياتها في دمشق، كفرسوسة.

         * * * * *

أين كنتِ في آذار (مارس) 2011 يا حسيبة، وأين أودت بكِ دروبُ الثورة والحرب؟

في 2011 كنا نقفُ أمام وزارة الداخلية في دمشق، كان ذلك اعتصامنا الأول منذ انطلاقة الربيع العربي، وقبلها توجّهنا إلى السفارة المصرية ومن ثم السفارة الليبية. كنا حوالي بضع مئات من الناشطين-ات والسياسيين-ات والصحفيين-ات. وقد تم اعتقال مجموعة منّا، وأذكر أن ضابط أمنٍ طلب مني أن أبتعد عن المكان، وحين رفضتُ هدّدني أن يُنزلني في سيارة البوكس، فأجبته مبتسمة: وهل البوكس غريبة عليّ؟

تكررتْ محاولات التظاهر والاحتجاج إلى أن ذهبتُ ذات يوم إلى دوما لأعزي ببعض الشهداء. كان جوّ المظاهرات قد بدأ يتغير، فسمعتُ شعارات تدل على أن الحضور ينتمي إلى الإسلام المتشدد. أنا تربيتُ في حي كفرسوسة، حيث يسود الإسلام الشعبي المعتدل، وهو الإسلام الشائع في سوريا. ولكن ما شاهدته في دوما كان أقرب للإسلام المتشدد، هذا ما دفعني إلى الابتعاد قليلًا عن المناطق التي لا أعرفها، والاقتصار على المشاركة في التشييعات والمظاهرات التي خرجت في كفرسوسة.

وقد تلاسنتُ مع بعض المعارضين حالما بدأ السلاح بالظهور في المظاهرات. رفضتُ وجود السلاح كليًا. ولكنهم راحوا يُبرّرونه على أنه حماية للمتظاهرين، فكان ردّي بأنه في حال استُخدِمت البندقية، فسوف يستخدم النظام الآر بي جي، وفي حال استُخدِم الآر بي جي، فسوف تنزل الدبابات إلى الشوارع ومن بعدها الطائرات. يكون لدينا خمسون شهيدًا في بادئ الأمر، فيتحوّل الأمر إلى القتل الجماعي. هذا هو سبب رفضي للسلاح. وفيما بعد صار كثير من المعارضين يفكرون بأن النظام لن يسقط إلا بالسلاح، مما جعلني أبتعد شيئًا فشيئًا عن النشاط داخل المعارضة، خصوصًا مع توقف المظاهرات السلمية، وبدء الصراع الدامي في سوريا.

كذلك اختلفتُ مع بعض المعارضين حول توصيف الحراك في سوريا، فأنا رأيتهُ انتفاضة، بينما هم كانوا يرونه ثورة. تحتاج الثورة من منظوري الماركسي، وقد أكون على خطأ أو صواب، إلى ثلاثة عوامل: المناخ الثوري والبرنامج الثوري والأدوات أو الأحزاب الثورية. ولم تكن جميع هذه العوامل متوفرة. مع خروج الجماهير توفّر شرط المناخ الثوري، ولكن شباب التنسيقيات لم يكن لديهم برنامج واضح. وللأسف حتى هؤلاء اعتقِلوا جميعًا، وتعرّضت الانتفاضة إلى نكسة. وحين اعتُقِلت الدفعتان الأولى والثانية، لم يستطيعوا أن يعيدوا إنتاج أنفسهم، مما تسبَّبَ بتحوّل سريع نحو السلاح. طبعًا لم يكن العامل الداخلي هو السبب الوحيد، لا شك أن قمع النظام هو الأساس، ولكن كان هناك توجه عربي وغربي لفتح الحدود وتحويل الانتفاضة الشعبية إلى ما يشبه الحرب الأهلية، لأنه لم يَكُن في صالحهم أن تتحول سوريا إلى دولة ديمقراطية. أرادوا أن تتوقف الانتفاضة عند بوابات دمشق فلا تتمدد إلى بقية الدول. لا يريدون أن تصبح سوريا أنموذجًا لتحوُّل سلمي سليم، فتأخذ دورها كحالة جماهيرية رافعة لكل النضال الوطني والديمقراطي، وتعيد الذاكرة إلى سوريا الخمسينيات. هذا ما لم يكن يريده أحد، وخاصة إسرائيل.

كذلك كنتُ أرى أن عصبَ الحراكِ إسلاميُّ الطابع، من الإسلام الشعبي مرورًا بالإسلام المتشدد إلى الإسلام الراديكالي. طبعًا شاركَ في الانتفاضة يساريون وليبراليون وقوميون، ولكن برامجهم سقطت وضَعُفت. الليبرالية السورية ضعيفة أساسًا، بدليل سيطرة العسكر الدائمة على الحكم. بالعموم لم يبق أحدٌ مُنظَّم سوى الإسلاميين، ولكن طبعًا ليس جميعهم، فأبناء الشعب مسلمون دون تأطير سياسي. الكتلة الجماهيرية الأساسية كانت أقرب إلى الإسلام، ولكن بسبب العنف الدموي والقتل الوحشي الذي ارتكبه النظام تمكّنَ الإسلام المتشدد من الهيمنة على الانتفاضة. وقد شكّلَ هذا نقطة خلاف بيني وبين قسمٍ كبير من المعارضة، على الرغم من أني كنت أوصِّفُ دون إطلاق أحكام.

بقيتِ في كفرسوسة، ولم تغادري سوريا. كيف كان وضعكِ؟ وماذا كنتُ تفعلين منذ 2011 حتى سقوط النظام؟ وهل استطعتِ لعب الدور الذي وجدته ضروريًا؟ 

كنتُ أقدّم يد العون للناس قدر المُستطاع وبما لديّ من علاقات. ولكن حين يعلو صوت الرصاص، لن يبقى لصوتكِ السلمي مكان. استطاع الرصاص أن يأكل كل الاحتجاجات السلمية. حتى أنني توقفتُ عن النشاط الحزبي، لأني لم أجد منه جدوى ضمن الشرط القائم.

عانيتُ من الوحدة الشديدة، وخصوصًا بعد رحيل عائلة عمي من البيت الذي أتقاسمه معهم. فشرعتُ أذهب إلى بساتين كفرسوسة، وأجلس مع الفلاحين وأشرب الشاي معهم. فضلًا عن زيارة بعض الأصدقاء الذين رحلوا فيما بعد، ولم يبقَ سوى القليل القليل منهم في دمشق. بالعموم قضيتُ معظم وقتي في البيت، وكان وضعي في غاية السوء. ففكرتُ أن أعود إلى الكتابة، وسجلتُ يومياتي بمنتهى الصراحة. سجلتُ لحظات قوتي وشجاعتي، ولحظات خوفي، حاولتُ تعرية ذاتي لأراها من الداخل، وأسميتها «يوميات سوريالية». كانت الكتابة صديقتي في تلك المرحلة، كتبتُ كل ما خطر في بالي. سأعيد تدقيق مذكراتي، وأوسّع جزءًا منها، لأنشرها لاحقًا.

ساعدتني الكتابة على الاستمرار في كفرسوسة. خصوصًا أنني لم أُرد مغادرة المنطقة لسبب أنتِ تعرفينه. لا أريد أن يقال إني غادرتُ المنطقة لأسباب معينة. أنا أنتمي إلى مذهب محدد، وإذا غادرت كفرسوسة، سيقال إن أهلها ضغطوا عليّ كي أخرج. لذلك رفضتُ ذلك، حتى أني لم أنم خارج المنزل كيلا يُفسر أحدٌ الأمرَ بشكل مغلوط، خصوصًا أن أهالي المنطقة من أرقى وأجمل ما يكون. جيران عمري، أحبهم ويحبوني، أحترمهم ويحترموني. لذلك لم أكن على استعداد أن يُساء لأحد منهم.

أوضحي أكثر. أنتِ تتكلمين بحذر.

لا أبدًا، لا أتكلم بحذر، ولكني لا أحب استخدام المفردات المذهبية بصريح العبارة. هذا هو السبب. فأنا أنتمي لمذهب معين وأسكن في منطقة تنتمي لمذهب آخر. لا زلتُ مقتنعة بأننا شعب سوري واحد، ولا أطيقُ استخدام المصطلحات المذهبية، لأنها لا تفعل سوى تمزيق سوريا كما يحصل الآن، وخصوصًا أنها تُستخدم بشكل سيء جدًا إلى درجة تجعلنا نخشى أن نصل إلى التقسيم، وهذا ما لا أريده. أشعر بالانتماء إلى كفرسوسة، تربيتُ هنا، وعشتُ بين أهلها، ودرستُ في مدارسها، وكانت جميع صديقاتي من هذه البيئة إلى حين تنظّمتُ في العمل السياسي، فتغيّر لونُ معارفي. ولكن قبل ذلك لم أخرج عن نطاق كفرسوسة على الإطلاق.

ما هي طبيعة كفرسوسة السكانية؟

كفرسوسة منطقة مسلمة، هذا الإسلام الشعبي الجميل. هي منطقة فلاحية، صحيح أن جميع الأشجار قد اقتُلِعت وحُوِّلت بساتينُها الوارفة إلى أسمنت، ولكنها ما زالت محافظة على الجانب الجميل في طبيعة أهلها، وهذا ما كان ولا زال يسحرني فيها. وقد يكون أحد أسباب عدم مغادرتي سوريا هو أني بقيتُ في المكان نفسه الذي اعتدتُ عليه.

دعينا نعود إلى طفولتكِ. أذكر أنكِ قلتِ في إحدى المقابلات أن صورة حافظ الأسد، كوزير دفاع، كانت معلّقة في بيتك طفولتكِ. وكانت الصورة تسبب لكِ الأرق فلا تنامين خوفًا منها. وأيضًا أخبرتِ أنكِ كنتِ تتدربين ضمن الشبيبة، ولم يكن مُستغربًا أن تصبحي مظلية حين تكبرين. ولكن فجأة حصل انقلاب لديكِ، واتجهتِ نحو المعارضة! كيف حصل هذا رغم تربيتكِ ضمن أسرة موالية؟ كيف تمكنتِ من الانفكاك عن الموالاة للنظام الأسدي؟

نشأتُ في بيئة فقيرة. تربّى والدي يتيمًا، مما اضطره في سن مبكرة إلى الذهاب مع عمي إلى دمشق. لم تكن لهما أي علاقة بالعمل السياسي، بل على العكس تمامًا: كانا يهربان من كل شيء سياسي. ولكن يحصل أن يتحدث ضيوفنا بالسياسة، خصوصًا في فترة صراع حافظ الأسد والشُباطيين. كان قسم منهم يميل إلى الشباطيين. وبعد انقلاب حافظ الأسد، علّقَ أحد الضيوف صورة حافظ الأسد في صدر البيت. كان يرتدي ثياب الطيارين السوريين الزرقاء. تلك الصورة أرعبتني، ورأيتُها مرارًا في حلمي: كان حافظ الأسد يريد قتلي بالرشاش، وأنا أركض هاربة منه في الحارة الخالية تمامًا من الناس. وقد لاحقني ذلك الكابوس طيلة مراهقتي. أنا لا أسميه حلمًا، بل كابوسًا. كتبتُ عن تلك التجربة في روايتي الشرنقة. رافقني ذلك الكابوس حتى اعتقالي الأول، ومن يومها تخلّصتُ منه ومن آثار الخوف من صورته.

لم يكن أهلي يهتمون بالسياسة، وكذلك البيئة الاجتماعية في كفرسوسة لا تهتم بالسياسية. ربما كان هناك بعض القوميين الذين يحبون جمال عبد الناصر، وبعض الانفصاليين (عن الوحدة مع مصر)، القلة القليلة المهتمة بالإسلام السياسي، ولكن الجوّ العام لم يكن سياسيًا. لم تكن أمامي خيارات سياسية إذن، فانتسبتُ إلى شبيبة الثورة، بحكم أنه كان النشاط الوحيد المتواجد في منطقتنا، وكانت هناك فرصة لممارسة بعض النشاطات والألعاب كالمسرح وكرة الطاولة. وكنتُ أشطرَ طالبة في الشبيبة والبعث، فأصبحتُ أمينة وحدة نسائية وأنا في الخامسة عشرة من عمري. ولكني لم أتحمّل الظلم، حيث حصلت محاكمات غير عادلة أمام عيني. وحين تكررت الحالة نفسها أكثر من مرة، تركتُ الشبيبة. أما حزب البعث، فقد تركته إثر زيارة حافظ الأسد لإيران. كنتُ في الإعدادية حين سألت أمين الفرقة الحزبية عن سبب زيارة الأمين العام لتلك الدولة التي انتزعت منا ثلاث جزر عربية (الطنب الكبرى والطنب الصغرى وأبو موسى)، فأجابني أنه ذهب من أجل المصلحة السياسية. فسألته مجددًا بمنتهى البساطة والبراءة لماذا لا يذهب إذن إلى إسرائيل ليُحضر لنا الجولان، فذهِل واصفرَّ وجهه حتى أصبح كالليمونة. وهكذا تركتُ الشبيبة وحزب البعث وكل ما يتعلق بالنظام.

لا أحب الظلم، وأتوق دائمًا إلى العدل، سواء العدل النسبي أو المطلق. هاتان القيمتان، رفضُ الظلم والسعي نحو العدل، أثّرتا بشكل كبير على مسار حياتي. في حين كان أهلي يعوّلون على أن يفتح نشاطي الشبيبي المجال للذهاب إلى الاتحاد السوفيتي، والدراسة والعودة كموظفة بيروقراطية ناجحة جدًا. المساكين ذهبت توقعاتهم أدراج الرياح، فلم أصل إلى صف الحادي عشر إلا بعد أن تركتُ كل شيء خلفي. وفي سنة البكالوريا التحقتُ بالمعارضة.

في مرحلة الثانوية تعرّفتُ على الماركسية من خلال صديقة فلسطينية. أخذتني معها إلى مخيمَي فلسطين واليرموك اللذين كانا يعجّان بالحركة والحيوية، خصوصًا بعد ما فعله النظام السوري في تل الزعتر. بدأتُ أسمع أحاديث ورؤى وفلسفة مختلفة عما كنتُ أسمعه طيلة حياتي، سواء في البيت أو الحي أو الشبيبة. وقد ترك ذلك أثرًا واضحًا في نفسي، وبدأتُ أنتقل شيئًا فشيئًا إلى القراءة حول الماركسية. أعجبتني فكرة العدل الاجتماعي، بمعنى المساواة الطبقية، فكرة العدل هي التي حرَّكتني! أما فيما يتعلق بالمادية الديالكتيكية، فقد كنتُ أقرأها من باب الضرورة وليس محبةً فيها.

وفي 1977 تعرّفتُ على صبية تدرس التمريض ومرتبطة بشاب من رابطة العمل الشيوعي، فانتسبتُ إلى ذلك التنظيم مباشرة. ولم يحتج انتسابي إلى أي تعب منهما. وطبعًا لعب دورًا أن رابطة العمل الشيوعي كانت تنظيمًا سوريًا بخلاف الأحزاب الفلسطينية التي سبق أن تعرفت عليها.

نسيتُ أن أقول لكِ شيئًا. كنتُ أحب قراءة الأدب، وكل النقود التي آخذها من أهلي أشتري بها الروايات: نجيب محفوظ، وطه حسين، ويوسف السباعي، وحنا مينة وغيرهم. قرأتُ كلاسيكيات الأدب العربي، ومن ثم انتقلت إلى كلاسيكيات الأدب العالمي، وبعض الكتب السياسية. قرأتُ بنهمٍ شديد، وربما تلك الشخصيات الحالمة والثورية هي التي دفعتني نحو المعارضة ظنًا مني أنها قد تحقق العدل. تأثرتُ بالأدب بطريقة عجيبة، لأني أصدّق ما أقرأ. وهذه مشكلة رافقتني في حياتي! أنا أصدق ما يُقال لي، وحتى الآن لم أتخلص من هذه العادة السيئة.

كان أهلي حنونين جدًا، ولم أتعرّض للضرب في البيت. ربما ساعدني ذلك على التمرد دون عقبات.

من المعلوم أنكِ من النساء اللواتي قضينَ الفترة الأطول في المعتقل السياسي في مرحلة ما قبل الربيع العربي. وقد توزّعت فترات اعتقالك على أربع مرات، ومجموعها ما يقارب الثماني سنوات بين عام 1979 و1994. ولكن لفتني أنك قلتِ منذ قليل أن كابوس حافظ الأسد كفَّ عن ملاحقتك منذ اعتقالك الأول. هذا يعني أن تجربة السجن لم تكن سلبية بالمطلق! لن أسألكِ عن ظروف الاعتقال، لأنك تحدثتِ عن ذلك بالتفصيل في مناسبات أخرى. ولكني أريد أن أعرف ما هي الأمور التي ساعدتكِ على تجاوز تلك المحنة دون أن تنكسري، وعلى متابعة طريقكِ ربما أكثر تمردًا من ذي قبل؟

كان الوضع السوري يزداد سوءًا يومًا بعد يوم. وإذا كنتُ أريد ترك العمل السياسي لأسباب تتعلق بالسجن وحجز الحرية ومنع التنفس، فإن ما نراه خارج أسوار المعتقل لا يُحتمل أيضًا، ولا يمكن الصمت عنه. ربما بقي القمع مقننًا حتى منتصف السبعينيات، إلا أنه ازداد شراسة بعد الصراع المسلح بين النظام السوري والطليعة المقاتلة في بداية الثمانينيات، وبعد تدمير مدينة حماة التي أنتجت لسوريا حركة سياسية قوية جدًا، والتي تدّمر جزءٌ كبيرٌ منها مع المدينة. فما بالك وأنا أرى خراب هذه المدينة التي أحب وأنتمي إليها نفسيًا مع انتمائي لرابطة العمل الشيوعي، بحكم أن عددًا كبيرًا من رفاقنا كانوا من حماة؟ فضلًا عمّا لحق سوريا من تخريب في البنية الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، والتسعير المذهبي الذي لم نكن نعاني منه في الخمسينيات والستينيات، فكرّسه حافظ الأسد، بل لعِب به ما استطاع أن يلعب. فكيف لي أن أسكت؟ حتى لو تطلّبَ الأمر اعتقالي مرة واثنتين وعشر مرات، لن أتوانى عن الدفاع عما أراه ظلمًا. وما دمتُ أرى نظام الأسد الأب والابن يفتئت على المجتمع بأسره، لن أصمت ولو بقي من عمري يوم واحد. أحرى بي أن أنتحر على أن أصمت، لذلك اخترتُ متابعة العمل السياسي داخل ذلك التنظيم، سواء نتج عن ذلك فعلٌ سلبي أو إيجابي، هذا يُترك للتاريخ!

وأعتقد أن تربيتي، التي تلقيتها في بيت أهلي، ساعدتني على تحمّل ظروف المعتقل. علّموني التعامل مع شظف العيش دون كثير من التأفّف. هكذا انطبعت شخصيتي، فمهما كانت الشروط قاسية ومريرة أستطيع تحملها والتعاطي معها كما هي، سواء داخل المعتقل أو خارجه. كنت قادرة على التحمل، رغم عدم صمتي ومواجهتي الدائمة مع عناصر الأمن، والتي قد تصل إلى حد شتمهم: نظامكم القمعي، نظامكم الحرامي، يا مرتشين، يا عفيشة، وشاطرين فقط على الشعب!!! قبل سقوط النظام بيوم واحد، مررتُ بجوار حاجز أمني، فسألتهم مَن يعرف ماذا يحصل له مني جائزة ترضية، فهربوا باتجاه الأوتستراد. عادة أنا أشتم والناس تطلب مني السكوت كيلا يُعتقلوا.

أعتقد أن الصداقات ساعدت أيضًا على تحمل ظروف المعتقل. ففي المعتقل تكوّنت صداقات عُمر بين المعتقلات! تعرفتِ على رفيقات درب، شابات في مقتبل العمر مررنَ بالتجربة ذاتها، وأُفرِجَ في أحد اعتقالاتك عنكنّ في يوم واحد (26 كانون الأول 1991)، وقد أسميتموه يوم الحرية، وما زلتنّ تحتفلنَ به سنويًا قدر المستطاع. هل هوّنت تلك الرفقة من مرارة السجن والحياة الصعبة بعده؟ وبماذا تختلف تجربة المعتقلات عن تجربة المعتقلين في تلك الحقبة؟

هذا صحيح، في الحقيقة كوّنتُ صداقات ليس فقط مع صبايا رابطة العمل الشيوعي، فقد تعرّفتُ على مجموعة من الإسلاميات أيضًا، وما زالت حتى الآن تربطني بهنّ علاقة جيدة، حتى بعد مغادرتهنّ سوريا، أتواصل معهنّ بين الحين والآخر عبر المسنجر. وجود أناس معكِ يخفف من عبء السجن، لأنكِ تمارسين معهنّ لعبة الذاكرة. بوجود الصديقات ورفيقات الدرب داخل السجن، سوف تستحضرين يوميًا مجموعة من القصص حول الأهل والأصدقاء والأحبة وكل تفاصيل الحياة خارج السجن، وبذلك تحافظين على ذاكرتكِ. أما في حال كنتِ وحيدة، فسوف تُضرب الذاكرة وتفقدين الكثير من الأحداث التي مرّت عليكِ، سواء الجميلة أو الحزينة.

تميّزت تجربة النساء من وجهة نظري، ومن خلال ما سمعته من المعتقلين الرجال، بقلة المشاكل بيننا. من الناحية السياسية لم تنشب تلك الخلافات الكبيرة التي حصلت في سجن الرجال حول وجهات نظر ورؤى سياسية وانشقاقات متعددة. حافظت المعتقلات على كتلة متماسكة إلى حدِ ما، وخلافاتنا كانت أقل بما لا يقاس. مشاكلنا كانت مشاكل سجن، حول الأكل والشرب وتفاصيل صغيرة، ولكنها لم تؤثر على المسار العام لحياتنا اليومية. في حين وصل الأمر بين بعض المعتقلين إلى القطيعة فيما بينهم. هذا لم يحصل بيننا، وحتى الانفصالات عن الحالة الجماعية تمّت بشكل محدود جدًا. أضيفي إلى ذلك أنه لم تحصل لدى السجينات حالات انهيار كلية أثناء التحقيق، وهذه ميزة تُسجَّل للتجربة النسائية.

ولكن ميزة تجربة الرجال في أنهم استفادوا من السجن بشكل أفضل، بحيث تعلَّمَ بعضهم أكثر من لغة وقرأوا كثيرًا، أما نحن فكنا نعيش ضمن شروط السجن المدني، كأننا فتحنا بيتاً، نطبخ وننفخ ونمارس جميع تفاصيل الحياة اليومية من حمام وغسيل وما إلى ذلك. وهكذا مرّت السنوات دون أن نحسّ بها، إلا أنها تركت بصماتها علينا على شكل حزن. كما أن تكرار الأيام بهذه الطريقة أفقدنا الإحساس بجمالها. نتيجة الشرط المدني الاستهلاكي في السجن، لم نتمكن من استثمار وجودنا فيه. على سبيل المثال، لم تكن القراءة ممكنة إلا بعد الساعة الثانية عشرة ليلًا أو في الرابعة والخامسة فجرًا حتى تُفتح بوابات السجن. وقتئذ سوف يدخل الضجيج اليومي دفعة واحدة، وبعد إغلاق الأبواب ستبدأ الفرجة على التلفزيون والأحاديث والخناقات. لقد تمكَّنَ الرجال من استثمار الوقت بشكل أفضل. 

نسيتُ أن أذكر لكِ أننا اشتغلنا بعض الأعمال اليدوية، كحياكة الصوف والسنارة، واشتغلنا أيضًا بالخرز، ولكننا كنا ماهرات بالصوف أكثر. كنا نبيع بعض منتجاتنا، لنتمكن من شراء بعض الاحتياجات الأساسية، لأن زيارات الأهالي كانت مقطوعة لفترة من الفترات. أرسلنا أيضًا كنزات صوفية إلى خارج السجن كهدايا لبنات الرفيقات وأطفال بعض المعتقلين.

كيف كانت ردة فعل محيطكِ العلوي على اعتقالكِ وعلى نشاطاتكِ السياسية المعارِضة بالعموم؟ هل اختلف وضعكِ عن بقية رفيقاتك المعتقلات؟ وكيف كنتِ تتعاملين مع الأمر؟

تعامل أهلي معي بحبّ. لم يتركوني يومًا دون أن يزوروني أو يحاولوا زيارتي بالوساطات وكافة الطرق. ولم يقاطعوني أو يتخذوا مني أي موقف سلبي، حتى محيطي الاجتماعي (بيت عمي) لم يتعامل معي أبدًا بسوء، رغم أنهم ضباط ومع النظام. بل على العكس تمامًا، كانوا يتعاملون معي بحبّ، ويسمحون لأنفسهم بانتقاد معارضتي وعملي السياسي انتقادًا خفيفًا تحت بند أن لا أحد يعارض هذا النظام ولن تستطيعوا فعل أي شيء معه. للأمانة: لم أتعرَّض إلى أي نوع من أنواع المقاطعة. قد يكون أهلي هم السبب، لأنهم كانوا متفهمين لموقفي، فانعكس ذلك على أقاربي جميعًا.

أضيفي إلى ذلك أني امرأة ولستُ رجلًا، ومع ذلك تعاملوا معي بهذه الطريقة. أنا ممتنة لهم جميعًا، لأنهم لم يقفوا في طريقي يومًا. أعتقد أن رفيقاتي المعتقلات تعرّضن لضغوطات اجتماعية أكثر مني، لذلك بقي صوتي عاليًا وواصلتُ الكتابة والعمل السياسي رغم كل الشروط الصعبة، أقلّها الفقر الذي كنتُ أعيشه أنا وأهلي.

لقد كتبتِ عن تجربتكِ في المعتقل. وأذكر أن أول مرة التقيتُ بكِ فيها كانت في نهاية 2007 أثناء تحضيري لبحثي عن أدب السجون في سوريا. من الأشياء التي استنتُجها في بحثي أن كتّاب وكاتبات أدب السجون يختلفون فيما بينهم بخصوص علاقة مشروعهم الكتابي بتجربة المعتقل. هناك من كان كاتبًا بمعزلٍ عن تجربة المعتقل، فكان اهتمامه الأول بالكتابة ولم تكن حكاية السجن سوى واحدة من ضمن المواضيع التي تناولها. وهناك من شكّلَ المعتقل حكايته الأساسية و(شبه) الوحيدة، فلا كتابة دون معتقل. كيف تنظرين إلى تجربتك الكتابية، وهل تنتمين أكثر إلى الكتابة أم الحكاية؟

يمكنني القول إن معظم المعتقلين اكتفوا بكتابة رواية واحدة عن السجن، وهناك من ألحقها برواية ثانية ولكنها لم تلقَ الصدى المطلوب، فتوقفوا عن الكتابة، ولا أدري إن كانوا سيستمرون الآن أم لا. ولكن هناك فعلًا كتّابٌ مشروعهم أكبر من المعتقل، فواصلوا الكتابة، كغسان الجباعي على سبيل المثال.  

بالنسبة لي، ساهمت تجربة السجن بشكل كبير في نقلي من الشعر إلى الرواية. قبل السجن وأثناءه كنتُ أكتب الشعر. وفي فترة وفاة والدي كتبت قصائد كثيرة، ولكني لم أنشرها، لأنها كانت سوداوية. وقد بدأتُ في السجن بكتابة بعض قصاصات الورق عن حياة السجن الداخلية. وبعد إطلاق سراحي كان الشرط الأمني الذي عشته تعيسًا، حيث أمضيتُ فترة التسعينيات دون أمن لي أو لأهلي. فبدأتُ بكتابة رواية الشرنقة ضمن تلك الظروف، وكانت أول رواية تصدر عن السجن النسائي في سوريا. كانت تجربة كتابة ممضة ومرهقة للغاية، لأني استعدتُ تفاصيل الاعتقال والتعذيب، ولكن كان لا بد منها للتخفّف من ثقل الذاكرة وموقعها النفسي. بعد صدور تلك الرواية، بدأتْ الكتابات عن السجن بالصدور الواحدة تلو الأخرى، والحقُّ أن معظم من كتبوا كانوا خارج سوريا. أنا كتبتُ الرواية أثناء حياة حافظ الأسد وحين كان رؤساء شُعَب المخابرات ما زالوا في أماكنهم. وعلى أثرها استُدعِيتُ للأمن أكثر من مرة. كان يمكن أن أتوقف كغيري إلى هذا الحدّ، ولكني أحب الكتابة، فواصلتُ ونشرتُ مجموعة قصص بعنوان سقط سهوًا، وكان جزءٌ منها يدور حول السجن السياسي.

وبعدها انتقلتُ نقلة نوعية، فكتبتُ عن القصّ الشفاهي لأهل الساحل السوري؛ جزءٌ من قصص أهلي، والجزء الآخر من خيالي. صدّرتُ تلك التجربة في رواية تجليات جدي الشيخ المهاجر، والتي مُنِعت أيضًا كما مُنعت الشرنقة وسقط سهوًا. هذه الرواية هي الأقرب إلى قلبي، لأني تعبتُ نفسيًا من استحضار الشخصية وتقمُّص جوانبها الروحية. كنتُ أُنهَك تمامًا بعد إتمام صفحة أو صفحتين، وخصوصًا حين يكون بطل روايتي في حالته العرفانية. كتبتُ بعدها رواية السمّاق المر، والتي تناولتُ فيها حياة حافظ الأسد السياسية وبيئته الاجتماعية، مع تدخّل بعض الخيال أيضًا. وكانت ستصدر قبل سقوط النظام، وتوقعتُ أن أُعتَقل على أثرها، ومع ذلك أصررت على إكمالها، ولكنها تأخرت لدى الناشر نتيجة التدقيق، لأن أكثر من شخص رفض تدقيقها.

أحاول أثناء الكتابة نقل مشاعري بصدق، والتماهي مع شخصياتي الأدبية بلا حسابات أدبية أو اجتماعية أو سياسية. وما فتئ الزمان والمكان يتسرب من بين أسطر نصوصي نظرًا للحالة السياسية في البلد. كل ما كتبته ممنوع، وكأنه منشور سري. أرجو أن أتخلّص الآن من هذا العيب، فأنعتق من الزمان والمكان.

دعينا ننتقل إلى الحاضر. استطعتِ يا حسيبة في السنوات الأربعة عشر الماضية أن تحافظي على علاقات مع المعارضة السياسية ومع الطائفة التي تنتمين إليها، أو ما تسمينه المذهب العلوي. كنتِ واقفة على جبهتين مختلفتين، ويمكنني وصف موقعكِ بأنك صلة وصل إلى حدِ ما. كيف تمكنتِ من ممارسة دوركِ ولم تفقدي كثيرًا من الصلات ضمن هذا الظرف المشحون، وكيف يمكن ترجمة ذلك إلى خطة يمكن تنفيذها حاليًا من قبل المعنيين-ات بدور الوساطة بين مكوّنات الشعب السوري المختلفة؟

ما ساعدني في الحفاظ على صلاتي هو أن أقربائي لم يكونوا فاسدين. كانوا موالين للنظام بحدود معينة،  مع رفضهم للفساد ولكل ممارسات النظام الاقتصادية، حتى أنهم بَقَوا فقراء، ولم يتحولوا إلى أثرياء. هذا ما سهّلَ الأمر عليّ وعليهم. وحين كنتُ أتناقش معهم فأسألهم: «هل أنتم راضين عمّا يفعله النظام؟»، كانوا يجيبونني: «بالطبع لا، لكننا نخشى من أن يتحول البلد إلى الإسلام السياسي!». لأكون واضحة، هم يخافون من التطرف الديني! أقول لهم بأننا لسنا متطرفين، فيقولون بأننا لسنا الأساس في الموضوع وبأن الأساس يكمن في مكان آخر. هذا الحوار سهّلَ عليّ وعليهم المحافظة على علاقتنا. عندما نختلف كثيرًا، نلتزم الصمت، ونتوقف عن إكمال النقاش كيلا نخسر بعضنا بعضًا. وللأمانة، هم لم يقفوا على الإطلاق ضد تحركي. كانوا في البيت حين شاركتُ في مظاهرات التشييع في كفرسوسة. كل ما فعلوه هو التبسم فقط والقول: «لنرى ما هي آخرة نشاطكِ!».

أعتقد أن بقائي في سوريا ساهم كثيًرا في إمكانية التواصل معهم. قدّروا كثيرًا بقائي رغم الظرف الاقتصادي والأمني السيء. فعلًا ثمنّوه كثيرًا، هم وسواهم. حتى أيام حواجز النظام في منطقتي، وأنت تعلمين أنها تقع ضمن مربع أمني، لاحظتُ أن رفضي الخروج من سوريا ساهم بالتعامل معي بخصوصية معينة.

وبعد سقوط النظام، جاء أقاربي إليّ وسألوني: «هل نترك دمشق أم لا؟»،  فنصحتُهم ألا يتركوها. قالوا إنهم يخشون من العمليات الانتقامية، فأخبرتهم أن لا داع للخوف، لأن ليس لهم علاقة مباشرة  بأي فعل إجرامي، فلماذا الذهاب؟ فبقوا في دمشق، ولم يتركوها. إمكانية التواصل معهم عالية جدًا، وبخاصة أنهم نشأوا في كفرسوسة. هذا يعني أنهم تربّوا ضمن علاقات المنطقة وقيمها، هذا يُسهّل كثيرًا الكلام معهم. أما بقية الناس، أو ما يسمى بالمذهب، فأعتقد أن التواصل معهم ممكن أيضًا، وبسهولة، لكن ينبغي أن تعرفي من أين تدخلين إليهم؟ هذا هو المهمّ! حين تبدئين بالـ«أوفرة» والشتيمة، ستخسرين. ابدئي معهم بالسؤال عن فعل النظام وإجرامه، وقتها ستستطيعين التواصل والكلام معهم، لأن معظمهم فقراء، وبالتالي المستفيدون من النظام هم القلّة القليلة. النظام هو الذي حوّلهم إلى مخبرين، ومنحهم سمعة سيئة من خلال التوظيف في القتل والتعفيش. هذا الموضوع يجب الإضاءة عليه.

نحتاج أن تكون لدينا شبكات أمان، من أجل خفض التوتر في بعض المناطق، فيعود الناس إلى الاندماج من جديد داخل المجتمع ككل. بمعنى: تشكيل هيئات مجتمع مدني، والحثّ على انخراطهم في الحياة العامة الاجتماعية والسياسية، أعتقد أن بمقدورهم تشكيل كتلة مدنية جيدة لدفع النشاط المدني في حال نجحنا في التواصل معهم.

نحاول اليوم أن نقوم بزيارات إلى المناطق المتوترة، ونبذل جهدًا هناك. مع الأسف الشديد، أنتِ تعرفين الوضع الاقتصادي! عندما تريدين الذهاب إلى مكان، فيجب أن تتوفر معكِ بعض الخدمات اللوجستية، ولكن هذا غير متوفر، ونحن أناس فقراء. ليست لدينا سيارات، وليس لدينا مال، وهذا ما دفعنا للبقاء في دمشق حتى الآن، وإلا كان علينا منذ البداية التوجه إلى تلك الأماكن للعب دور في وقف أي نوع من أنواع الصراع الأهلي، والتكلم معهم ومحاولة دمجهم مع باقي أفراد المجتمع بشكل طبيعي.

ذكرتِ منذ قليل «شبكات الأمان»، ماذا تقصدين بذلك؟

أقصد أن تكون لدينا لجانٌ أهلية مشتركة في مناطق الصراع، وتكون معنية بإيقاف أي نوع من التجاوز من أي طرف كان، لجان يمكنها التدخل ولعب دور فعال في هذا الموضوع. تتكون هذه الشبكات من الفعاليات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية في المناطق المتصارعة. وإذا كانت سلطات الأمر الواقع والهيئات التي تمسك سوريا عسكريًا وسياسيًا غير قادرة على القيام بهذا الدور، فعلى النخب السياسية والمدنية والثقافية أن تبدأ بتشكيل تلك الشبكات الأهلية. نحتاج مثلًا إلى تنظيم الندوات الحوارية، ولكن ليس في الفنادق، وإنما في الساحات والمناطق المتصارعة. الندوات المحصورة في الفنادق ليست إلا مهزلة، فهي لا تعمل على السلم الأهلي أو أي إنجاز، فقط تجمع بعض المثقفين ليلقوا محاضرة، ثم يتركون المنطقة ويذهبون.  

هل ترين دورًا خاصًا للنساء في السلم الأهلي؟

بالتأكيد للنساء دور في هذا الموضوع، وبإمكانهنّ المساهمة في شبكات الأمان بشكل فاعل جدًا، وحتى في مناطق الصراع، بإمكانهنّ تشكيل شبكات نسائية مشتركة بين بعضهن بعضًا إلى جانب الشبكات العامة.

هل لاحظتِ نشاطًا نسائيًا في هذا المجال؟

بصراحة لا. انطباعي أن اهتمامهنّ ينحصر بما يسمى الجندرة. وأقولها لكِ بصراحة: أظن أن ما يسمى بالجندرة لها وظيفة واحدة وهي المسألة النسائية، وتهتم أحيانًا بالتمويل أكثر من أن تلعبَ الدور المنوط بها. تكتشفين أن الشبكات النسائية تهتم بمواضيع معينة، هذه المواضيع تهمّ المجتمع بكل تأكيد، ولكن المطروح الآن هو موضوع عام وله علاقة بالسلم الأهلي وحياة الناس الاقتصادية والاجتماعية وإلى آخره. وهذه هموم كبيرة وتخصّ كل سوري أيًا كان.

من ناحية أخرى، أعتقد أنه يمكن استجلاب النساء المنشغلات خارج ما يسمى بالجندرة، أو تلك الشبكات ذات الطابع النسائي التي تطالب بحصص في السياسة والمجتمع والقوانين وإلى آخره، يمكننا العمل مثلًا مع معلمات المدارس والطبيبات وكل النساء في المجتمع السوري وضمهنّ إلى شبكات الأمان الاجتماعي، وهن يرّحبنَ بذلك كثيرًا.

ولكن الذكورية هي أساسُ كثيرٍ من المشاكل الحالية، وعلى رأسها الاقتتال السياسي. وحين تعمل النساء على تأنيث المعرفة مثلًا، فهنّ لا يخرجنَ تمامًا عن السياق.

كلامكِ دقيق: الاقتتال أسبابه ذكورية بالدرجة الأولى. وحين تدخل تاء التأنيث تصبح الحياة أكثر رحمة وإنسانية وجمال. ولكن ماذا تفعلين بهذا المجتمع الشرقي الذكوري؟ علينا العمل على المساواة قانونيًا بين النساء والرجال كي تأخذ المرأة دورها في المجتمع السوري.

دعينا نعود إلى دوركِ أنتِ في السلم الأهلي. ماذا تنوين أن تفعلي في الفترة القادمة؟

حاليًا أنوي أن أدعو بعض أولاد أقاربي ومعارفي للنزول والمشاركة داخل التجمعات المدنية والحراك العام السوري. وسبق أن قلتُ لكِ أن كل من جاء إليّ من هذا المذهب دفعتُ به إلى البقاء في دمشق، وإلى العمل داخل الأحياء التي يسكنون فيها. وقد دعاني بعض أقاربي للذهاب إليهم في مصياف والمزة 86، وسوف أذهب إلى المكانين، لأرى الوضع وأحاول قدر الإمكان فكَّ أي نوع من أنواع المحاذير أو الاشتباك. ولكن المشكلة أن الداعمين ضمن هذا الحقل قليلون جدًا. نحتاج فعلًا إلى دعم كي نستطيع أن نقوم بعمل جدي وفعال. وعلى فكرة، الدور ليس صعبًا على الإطلاق، من السهل التعاطي مع الناس بشكل جيد، وإقناعهم بضرورة العمل الأهلي والمشاركة المجتمعية.

قلتِ أن الداعمين قليلون، إلى ماذا تحتاجين كي تمارسي دوركِ في السلم الأهلي؟

نحتاج إلى بعض الدعم من ميسوري الحال، كتأمين السيارة والذهاب معنا فقط. هي أشياء بسيطة، بحيث نتمكن من التنقل من مكان إلى مكان بغرض الاجتماع بالأهالي. حتى أنني تكلمتُ البارحة مع صديق ذهب مؤخرًا إلى القصير وحمص وبانياس وقام بأعمال جيدة دون ضجيج إعلامي، قلتُ له: لو أخبرتني لذهبتُ معك!

يحزنني أن ما تحتاجينه لممارسة دوركِ قليل جدًا، ومع ذلك غير متوفر.

بكل الأحوال سأحاول الذهاب إلى أماكن متعددة لي فيها أماكنُ للنوم.

كيف ستبدئين العمل؟

سأبدأ بمن أعرفهم، ومن ثم سأتوجه إلى فعاليات كل منطقة، وأحثها على المشاركة المجتمعية وتشكيل هيئات تمثلها وقادرة على الفعل في حال الصراع الأهلي أو السلم، بحيث تقدم مطالبها إلى المركز وتشارك في صنع مستقبل سوريا. 

وقد نقيم ندوات في الساحات العامة. عبر تلك الندوات ينبغي أن يتّضح أننا أبناء وطن واحد، وبيننا مشتركات كثيرة وعميقة، وأن الخلافات محدودة، وقد عمل النظام السابق وشاركته بعض المعارضة على تَمذهُب الصراع، وأن الصراع في أساسه اقتصادي وسياسي واجتماعي. وهم يدركون ذلك، لأن الأثرياء سرعان ما يتعاونون مع بعضهم بعضًا، في حين يُقتل الفقراء ويصبحون وقودًا للصراع، سواء لدى النظام أو المعارضة. من قُتِل ودُمِّر بيته وسُفِكت دمائه هم فقراء كلا الطرفين. ومن المعلوم أن حيتان المال من المذاهب الأخرى، أي باقي الطوائف وأبرزهم الأكثرية، هم من وقفوا إلى جانب النظام. العنف وحده لا يحمي النظام، لأنه يحتاج إلى شبكة اقتصادية داخلية وخارجية.

من المهم التأكيد على أن مستقبل سوريا يصنعه جميع أفرادها، أيًا كانوا، وإلا سيحصل التقسيم، وهذا ما لا نريده.

يجد البعض أن السلم الأهلي يكون في بعض الأحيان على توتر مع مطلب المحاسبة. يبدو لي أنكِ معنية بالدرجة الأولى بالسلم الأهلي، ولكن ماذا عن محاسبة مجرمي الحرب، كبيرهم وصغيرهم؟ هل يتعارض السلم الأهلي مع المحاسبة في رأيكِ؟ وهل يمكن أن نعمل على السلم الأهلي دون أخذ المحاسبة بعين الاعتبار؟

لا أعتبر السلم الأهلي في مواجهة مع المحاسبة، بل على العكس تمامًا، المحاسبة جزء من السلم الأهلي. ينبغي محاسبة من تلطخت أيديهم بالدماء، أيًا كان الطرف، وأيًا كان المسؤول. لم أُثر موضوع المحاسبة لسبب بسيط: لأنه يُثار كثيرًا، ويوجد كثيرون ممّن يتحدثون عنه. وإذا لم تتحقق العدالة، فسنكون عاجلًا أم آجلًا أمام أناس يفتحون مواجهة جديدة في سوريا. المحاسبة ضرورية من الباب الأخلاقي، ومن الباب الإنساني، ومن الباب السياسي، ومن الباب الاجتماعي. ينبغي محاسبة كل من ارتكب جريمة بحق أي سوري. هذا أمر غير قابل للنقاش!

أنا واحدة من الذين يطالبون بالعدالة. ومن المهم أن تكون العدالة شاملة، وليست انتقائية، وأن يُشرف عليها متخصصون قضائيون وقانونيون، وأن تتم صياغة ملفات كاملة كيلا يدّعي أحدٌ أنه تم الافتئات أو التعدي عليه، وأن تطال المحاسبة أولئك الذين أصدروا الأوامر بالدرجة الأولى، لا أن يتم القصاص من المنفذين فقط، فأنا أعتبر أن مَن أصدر الأوامر هو المسؤول الأول. من الضروري جدًا تحقيق العدالة، فهي التي سوف تدفع السوريين-ات إلى التسامح والصفح، وهذا هو المهم. وإذا رفضت الناس الصفح، فلها الحق في ذلك!

بودي أن أعرف كيف تغيرت حياتكِ في دمشق منذ سقوط النظام، دمشق التي كان يتسرب الناس منها الواحد تلو الآخر، فتفقدين صداقاتك ومعارفك وشبكتك الاجتماعية؟ دمشق نفسها التي تنضح الآن بالحيوية؟ كيف وقعُ ذلك عليك؟ وكيف تقيمين هذه الفترة؟ وهل يمكن أن تعبر اللحظة التاريخية من غير أن تترك أثرًا عميقًا؟

كنتُ سعيدة جدًا بسقوط النظام، حتى أنني خرجتُ إلى الشارع في الساعة الرابعة فجرًا، أي قبل أن يُعلن الخبر رسميًا. فيما بعد بدأ الحراك المجتمعي بشكل مقبول جدًا. نشأتْ أكثر من عشرة تجمعات مدنية في دمشق، أقصد التجمعات التي أعرفها أو شاركتُ فيها، ولكن هناك تجمعات أخرى لم أتمكن من الوصول إليها. هذا حراك مجتمعي جيد جدًا بعد الاستنقاع وغياب كل الفعاليات السياسية والاجتماعية في سوريا. ولكن التخوف في أن تكون مجرد ظواهر صوتية. إذا لم تؤثر هذه التجمعات على الفعل على الأرض، سنكون أمام لوحة سيئة للغاية، وبالتالي سوف تستطيع أي سلطة تمرير ما تشاء لصالحها.

المؤسف أن الأحزاب السياسية هي التي تبدو ضعيفة ومتآكلة نتيجة تعرضها السابق للقمع، وعدم قدرتها على إعادة إنتاج نفسها من جديد، سواء الأحزاب القومية أو اليسارية أو الليبرالية. حتى الآن لم تظهر ألوية لهذه الأحزاب وتكون فاعلة على الساحة. وبالتالي اتخذت الفعاليات طابع الأنشطة المدنية، وهذا شيء جيد، لكن البلد تحتاج أيضًا للأحزاب السياسية التي تعمل على مَركزة النشاط وبلورته، بعكس الأنشطة المدنية التي قد تكون مطلبية هنا وهناك، ولكنها لا تعمل على مَركزة العمل سوريًا.

ولكن كيف تتداركُ الأحزاب السياسية ذلك التآكل الذي ذكرتِه؟ هل يمكن بعد ما عانته من استبداد أن تسترد دورها وتشارك في مشروع وطني ورؤية وطنية، وتتمكن من أن تتحاور مع بعضها بعضًا؟ هل تعتقدين أننا سنتدارك الفجوة بين تجربتنا السياسية الضعيفة والتحديات الكبيرة التي أمامنا؟

فلتحاول الأحزاب إعادة إنتاج نفسها واستقطاب كتلة شبابية. وإذا لم تنجح بذلك، فلتعلن مواتها، فتريحنا وترتاح، هذا أشرف لها!. المجتمع قادر على أن ينتج فعاليات سياسية واقتصادية واجتماعية جديدة، وهذا هو المطلوب الآن. علينا أن نحفّز الشباب على الشروع بتجربتهم وإنشاء تكتلات ذات برامج خاصة. بمقدورنا مساعدتهم في بعض القضايا، ولكن هم الأدرى باحتياجاتهم. 

ولكن الخوف من تردّي الوضع نتيجة تفلّت السلاح في سوريا والغياب الكبير لمظاهر الدولة، فتشيع المافيات والانتهاكات الاجتماعية والصراعات المذهبية، بحيث تُدفَع البنية الاجتماعية نحو استبداد جديد. عداكِ عن المسألة الاقتصادية: نحن على أبواب ثورة جياع قد تضرب ما تبقى من مؤسسات الدولة، خصوصًا أنه لا توجد أي معوقات أمام قيامها. لا تنسَي وجود أكثر من مئتي ألف عسكري سوري سُرِّحوا دون أي تعويضات، ماذا سيفعل هؤلاء إذا جاع أولادهم؟ أضيفي إليهم المسَّرحين من العاملين في الدولة. على المسؤولين أن يلحظوا هذه الأمور، ويمنحوها أقصى اهتمامهم.

السوريون-ات أمام استحقاقات عظيمة حاليًا، والمتوقع أن نشتغل قريبًا على صياغة دستور جديد لبلدنا، والأمل أن نتمكن من تنظيم انتخابات ديمقراطية. هل تتوقعين أن تكون سوريا بعد خمس أو عشر سنوات أجمل من الآن فعلًا؟ هل سنقطعُ عهدًا على أنفسنا ألا تذهب دماء شهدائنا وعذابات أهلنا سدى، فنحولها إلى طاقة تُعمّر سوريا؟

أتمنى أن تكون سوريا المستقبل ديمقراطية ومستقلة عن أي شكل من أشكال الاحتلال، فتشكل المنبر الثقافي والحضاري والمدني لكل دول المنطقة، كما كانت سابقًا. ولكننا في سوريا أمام أكثر من صيرورة، وإحدى تلك الصيرورات تتجه نحو الحضارة والثقافة والازدهار. بيد أن هذا يحتاج إلى موازين قوى داخلية وإقليمية ودولية معينة، ولا أرى في محيطنا ما يساعدنا على ذلك. كل الظروف تقريبًا تعمل على تفتيت سوريا، على عكس ما نطمح إليه من أن يكون لدينا دستور موحد وحضاري ومدني. ومع ذلك أتمنى أن نتمكن من صياغة دستور يضمن لنا حقوقنا. وإلى ذلك الحين يمكننا اعتماد دستور 1950 الذي كتبه علمانيون ومتدينون من كل أطياف الشعب، ومن بينهم مصطفى السباعي، المراقب العام للأخوان المسلمين. لا يحدد دستور 1950 دين الدولة، وإنما دين رئيس الدولة فقط. يمكن العمل وفقه ريثما تتم صياغة دستور يحفظ لجميع السوريين-ات حقوقهم وحريتهم وكرامتهم وديمقراطيتهم، وألا يكون دستورًا يفتت سوريا، بلدي وبلدكِ.

على السلطة، أيًا تكن السلطة، أن تكون جامعة لكل السوريين-ات.

موقع الجمهورية

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى