الناس/ منذر مصري
(أمَّا هُم فيلعَنون، أمَّا أنتَ فَتُبارِك) مَزامير:109:28
“شُكرًا يا إلَهي لأنَّكَ خلقتَني كباقيَ الناس” (منذريوس مصريام)
لا تَتكلَّم هكذا حماقاتٍ عنِ الناس
ماذا أنتَ لولا الناس
ضَع هذا الكَلامَ الَّذي أقولُهُ لكَ
كحَلَقٍ في أُذُنَيكَ
لا بل كحَشَرةٍ طَنَّانةٍ
في أُذُنِكَ الوُسطى
أنتَ لا شَيءَ
لَولا الناس.
/
منذُ آلافِ السِنين
سَنُّوا الحِرابَ ونَصَبوا الفِخاخَ
وقَتلوا
ولاذوا بالكهوفِ وأشعلوا النار
ونَصَّبوا القادةَ ورَضَخوا للقوانين
وعبدوا الآلِهةَ وقَدَّموا الذبائح
وارتمى كُلُّ رَجُلٍ منهم
فوقَ امرأةٍ
كُلُّ هذا
من أجلِ أن تأتي.
/
هُم مَن انتَشَلوكَ من بَينِ
فَخذَي أُمِّكَ
هُم مَن غَسَلوكَ بماءٍ دافئ
وقَمَّطوكَ
وكانوا يستَطيعون
في ذاتِ اللحظةِ
الَّتي أخرَجتَ بها رأسَكَ
تَغطيسَكَ بالماءِ البارد
وخنقَك.
/
هُم مَن علَّموكَ كيفَ بلِسانِكَ
وسَقفِ حَلقِكَ
وشَفَتيك
يخرُجُ الهَواءُ من فَمِكَ
حُروفًا وكلِمات
هُم مَن لَقَّنوكَ الأسماء
ثُمَّ نادَوكَ باسمِكَ
فعرَفتَ وَقتها مَن أنتَ.
/
مَن يغوصونَ في الوَحلِ حتَّى رُكَبِهم
ليزرعوا الأرُز
مَن يتجشَّمونَ مَشقَّةَ الصُعودِ
إلى رأسِ الجَبل
ليحقِلوا التُفَّاح
مَن يُدمونَ أيديَهُم بقِطافِ القِطن
مَن يجدِلونَ الحِبالَ الغليظة
وبكُلِّ أناةٍ
ينسِجونَ البُسُط
مَن يرحلونَ إلى أقاصيَ الأرض
ليُتاجِروا بالحريرِ والبَهار
مَن يُذيبونَ التُراب
وتجحَظُ عُيونُهم وهُم ينفُخونَ الزُجاج
لأجلِ مَن؟
لأجلِ ماذا؟
لأجلِ أن تشرَبَ
عِندَما تجُفُّ
وأن تزدرِدَ شيئًا سائغًا
عِندَما يُوجِعُكَ بطنُكَ
لأجلِ أن ترتدي
الثيابَ الرقيقةَ المُخَرَّمةَ في الصيف
والصوفَ والجِلدَ الكتيمَ في البرد
ولأجلِ أن تخرُجَ من بيتِكَ
وتذهبُ إلى حيثُ تُريد
صنعوا لكَ الحِذاء
وشقُّوا لكَ الطريق.
/
الناس
الَّذينَ مُقابلَ أيِّ شيءٍ
حتَّى الوقتُ
الَّذي لا قيمةَ لهُ عِندَكَ
يُعطونَكَ نُقودًا
ومقابلَ بعضِ هذهِ النُقود
يُعطونَكَ أيَّ شيء
حتَّى الوَقت
والوَقتُ عِندَهم من ذَهب
الناس
الَّذين يقبَلونَ شِراءَكَ مجَّانًا
لكنَّهم إيمانًا بكَ
يرفُضونَ بيعَكَ إلَّا بثَمَن
الناس
الَّذينَ يعصِرونَ رُؤوسَهم
ويُخبِرونَكَ بما هوَ أفضّلُ لكَ
وأنتَ حُرّ
الناس
الَّذين يغفِرونَ لكَ ذُنوبَكَ
دونَ أن يعرِفوها
الناس
الَّذينَ يستَطيعونَ
وأنتَ تعبُرُ الشارِعَ ساهيًا
دَهسَكَ بالسيَّارة
لكِنَّهم ينفُخونَ البوقَ
الناس
الَّذين يستطيعونَ التظاهُرَ
بأنَّهم لا يرَونَكَ
وأنتَ تقِفُ عِندَ حافَّةِ السطح
الناس الَّذين يرونَكَ
فيقفونَ بُرهةً ليتبَين لهم مَن أنتَ
وماذا في رأسِكَ أن تفعلَ
ثُمَّ يكمِلونَ طريقَهم
لأنَّهُ رُبَّما سيقتضي الأمرُ منكَ
وقتًا طويلًا
تتَردَّدُ فيهِ بالقَفزِ
وهم على عجَلةٍ من أمرِهم
لا يستطيعونَ التأخُّرَ عن أعمالِهم
أكثرَ من دقائقَ معدودة
ومنهم مَن ينتظِرونَكَ
مَهما تطلَّب الأمر
لا يُريدونَ أن يُفَوِّتوا عليكَ
فُرصةَ أن تقفِزَ على مَرأىً منهم
الناس
الَّذين بمَقدورِهم
لو شاؤوا
في المطعمِ أو في البيت
دَسَّ السُمِّ في حَسائكَ
الناس
الَّذين يعيشونَ لتعيش
تَصوَّر لو ماتَ كُلُّ الناس
ماذا يبقى مِنكَ!
الناس
الَّذينَ يموتونَ لتعيش
تصوَّر لولا يموتُ الناس
ماذا يبقى لكَ!
الناس
الَّذينَ بكُلِّ سُهولةٍ
يستطيعونَ خُسرانَكَ
والحياةَ من دونِكَ
لكنَّهُم لأسبابٍ شَتَّى
أغلبُها تافِهة
يُفضِّلونَ الإبقاءَ عليكَ
والحياةَ معكَ.
/
الناس
لا تتكَلَّم هكذا تُرَّهاتٍ عنِ الناس
لا ترُدِّد كالبَبَّغاء
ما يقولُهُ الناسُ عنِ الناس
مَن أنتَ لولا الناس
مَن تُلقي عليهِ التحيَّةَ: “صَباحُ الخير”
فيُجيبُكَ: “صَباحُ الخير”
ويَضيفُ: “كيفَ حالُكَ؟”
ولكَ أن تُجيبَ
أو لا تُجيب
مَن تحرُصُ أن تكونَ السَبَّاقَ
في استقبالِهِ
ثُمَّ تأتي بمائةِ عُذرٍ لتُفوِّتَ وَداعَهُ
مَن تجلِسُ وحيدًا في جُحرِكَ
فيرُنُّ جَرسَ هاتِفِكَ
أو يقرَعُ بابَكَ
مَن تكتُبُ لهُ الرسائلَ
ثُمَّ تُمزِّقُها
ثُمَّ تركُضُ لعندِهِ
وتقِفُ أمامَهُ لاهِثًا
مَن تكرهُهُ كُلَّ هذا الكُره
وفي نفسِ الوقت
تُحِبُّهُ كُلَّ هذا الحبّ
مَن تُعادي وتُعِدُّ لهُ المَكائدَ
مَن تنتَصِرُ عليهِ فتحزنُ
فتدعُهُ ينتصِرُ عليكَ ليفرَح
من تكفُرُ بهِ
ثُمَّ تُصلِّي لهُ وتطلُبُ غُفرانَه
عمَّن تصفَحُ وممَّن تنتقِم
من دونِ الناس
مَن تنتظِرُهُ وتنتظِرُهُ وتنتظِرُهُ
فلا يأتي
ثُمَّ يأتي ويجدُكَ في البيتِ
مع شخصٍ آخر
مَن تتفقَّدُهُ
وكأنَّهُ طَرفٌ من أطرافِكَ
أو جُزءٌ من جسَدِكَ
فلا تطمئنَّ إلَّا عِندَما تلمُسهُ
مَن تنتقي لهُ أجملَ حَصى الشاطئ
وهوَ لا يُبالي
مَن تطلُبُ منهُ كُوبًا منَ الماء
فيُحضِرُ لكَ كوبًا منَ الحليب
مَن يُغنِّي أمامَكَ فترتبِك
مَن يُبكيكَ غيابُهُ
وبعدَ هذا يُبكيكَ حُضورُه
مَن تُحضِرُ لهُ باقةَ زُهورٍ
ثُمَّ ترمي بها في وَجهِه
لكنَّكَ تعودُ وتركعُ
مُقبِّلًا يدَيهِ ورُكبتَيه
مَن توسِّدُ رأسَكَ على ساعِدِه
وأنتَ تُفَكِّرُ بسِواه
مَن تراهُ وأنتَ مُغمِضٌ عينَيكَ
وعِندَما تفتحُهُما لا تراهُ
وهوَ رُبَّما يقفُ أمامك.
/
أخبرَني الحَلاّجُ أنَّهُ
عِندَما مات
أدخَلَهُ اللَّـهُ الجَنَّة
فوجدَها خاليةً منَ الناس
…
“ماذا أفعلُ هُنا وَحدي”
قالَ في سِرِّه
وقفَزَ عن سورِها
وهرَبَ إلى جَهنَّم
لأنَّها مليئةٌ
بالناس..
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 4/12/1990