سوريا حرة إلى الأبد: مقالات وتحليلات 05 شباط 2025

حرية إلى الأبد: كل المقالات والتحليلات والحوارات التي تناولت انتصار الثورة السورية اعتبارا من 08 كانون الأول 2024، ملاحقة يومية دون توقف تجدها في الرابط التالي:
سقوط بشار الأسد، الرئيس الفار والمخلوع
———————————-
ثلاث ملاحظات على هامش الانتقال السوري/ مروان قبلان
05 فبراير 2025
ما زلت أعتقد أن من غير المنصف إصدار أحكام، أو تقييم أداء الإدارة السورية الجديدة في الحكم، أو توجيه انتقادات لها، وهي لمّا تكمل الشهرين بعد في السلطة. هذا يمكن أن يحدُث في دولة مستقرّة، مؤسّساتها راسخة، تملك اقتصاداً قوياً، موارد وفيرة، ونظام إدارة حديثاً، مجتمعاً متماسكاً، وهوية وطنية جامعة، دستوراً عريقاً، ونظاماً سياسياً متفقاً عليه، تحميه طبقة وسطى واسعة، تتمتع بثقافة سياسية عصرية، وظروف معيشية معقولة، وتعيش الدولة في سلام مع جيرانها، ومن دون تدخّلات سافرة منهم. … لا يتوفر من هذا كله في سورية شيء، فقد ورثت الإدارة الجديدة بلداً محطّماً، ودولة مقسّمة ترابياً ومهشمة مؤسّساتياً، مجتمعاً مُفقراً ومنقسماً بشدة على نفسه، هوياته الفرعية تسمو على الهوية الوطنية الجامعة، وفصائل مسلحة اعتاد أن يحكم قادتها بمنطق أمراء الحرب في بلدٍ منهوب، موارده شحيحة، وتجثم أربعة جيوش أجنبية على أراضيه، ولا يوجد اتفاق بين نخبه على شكل الدولة والدستور ونظام الحكم. وفيما تنشغل النخب بقضايا السياسة العليا (الدستور، الديمقراطية، والحرّيات العامة وعلاقة الدين بالدولة… إلخ)، وتتدافع لشغل المناصب العامة، تكافح بقية السكان حرفيّاً للبقاء على قيد الحياة في ظل صعوبة الحصول على أبسط مقوماتها، مثل الأمن، والخبز، والماء، والكهرباء، ووقود التدفئة، دع جانباً حقوق التعليم والصحة وغير ذلك مما اعتاد الناس على توفّره، باعتباره معطىً طبيعيّاً.
رغم هذا، وحتى نكون منصفين أكثر، يجب أن نقر أيضاً بأن الإدارة الجديدة حققت إنجازين مهمين عشية سقوط النظام: حفظ السلم الأهلي، بمعنى منع وقوع حوادث انتقام على نطاق واسع بين فئات المجتمع، وقد كان هذ أحد المحاذير الكبرى التي أخّرت سنوات، ربما، سقوط النظام. وحفظ مؤسّسات الدولة، إذ لم نشهد عمليات نهب وتخريب على نطاق واسع لحظة سقوط النظام. فوق ذلك كله، يجب أن نلحظ أمراً في غاية الأهمية، أن الإدارة الجديدة تواجه، منذ تصدّرها المشهد، ضغوطاً من جهات ثلاث متعارضة تحاول أن تقيم توازناً في ما بينها، ما يوقعها أحياناً في حالة من التخبّط والارتباك، فتأخذ قراراتٍ غير مدروسة، ثم لا تلبث أن تتراجع عنها. هذه الجهات هي أولاً، عامة المجتمع السوري الذي ينتظر من الإدارة الجديدة أداءً سياسيّاً واقتصاديّاً وأمنيّاً يتوافق مع تطلعاته وطموحاته للمرحلة المقبلة. وثانياً، قواعد الإدارة الجديدة الضيقة التي ترى أن من حقها وقد أسقطت النظام أن تحكم بطريقتها ووفق رؤيتها. وثالثاً، المجتمع الدولي الذي يطلب مزيداً من البراهين على أن الإدارة الجديدة قد قطعت كليّاً مع ماضيها، وأنها لا تريد احتكار السلطة وفرض نسخة متشدّدة من الحكم.
بعد هذا كله، نستطيع أن نورد ملاحظات يُخشى إذا استمرّينا في تجاهلها أن نقع لاحقاً في المحظور. أهم هذه الملاحظات، وأكثرها وجاهة، خطأ الاستمرار في حالة الفراغ الدستوري الراهنة، خاصة بعد وقف العمل بدستور 2012. فنحن لا نعرف، مثلاً، الأساس الدستوري الذي تحكم بموجبه الحكومة القائمة، ولا حدود سلطات الرئيس الانتقالي، ومدة الانتقال…، ولا نعرف، فوق ذلك، الحكمة من ربط إصدار إعلان دستوري بعقد “مؤتمر الحوار الوطني” الذي قد يستغرق الإعداد له شهوراً. الملاحظة الثانية، أنه في ظل بطء الحركة على المسار السياسي، يوجد استعجال غير مبرّر في تقرير وضع المؤسّسات الاقتصادية، الإنتاجية منها خصوصاً. وبصفتها إدارة انتقالية، لا تملك السلطة الحالية صلاحية اتخاذ قرارات كبرى تؤثر في مستقبل البلد ومصيره. ومثلما تدرك أنها لا تملك تفويضاً لعقد اتفاق سلام مع إسرائيل، مثلاً، فإن السلطة الحالية لا تملك، بالمثل، تفويضاً لتحديد مصير القطاع العام، بيعه، خصخصته كلّيّاً أو جزئيّاً، أو حتى تسريح عمّاله، ولا التصرّف بأصول الدولة الاستراتيجية، مثل قطاع النقل والطاقة وغيرها، فهذا حقٌّ حصري لحكومة منتخبة، وفق برنامج تطرحه على الشعب، ويمكن تضمينه حتى في الدستور. الملاحظة الثالثة والأخيرة، لن تستطيع السلطة الحالية الحكم بالاستناد فقط إلى شبكة تحالفات دولية وإقليمية تسعى جاهدة إلى إنشائها، على أهميتها، فهذه لن تُغني شيئاً في غياب تحالف وطني واسع في الداخل، أساسه عقد اجتماعي توافقي، فشرعية الحكم تنبع من رضا الأمة، وقوته تستمد من إرادة الشعب. … نشير بهذا حرصاً على نجاح التجربة، التي يجب أن نساعد جميعاً فيها، لأن الفشل، لا سمح الله، يعني الفوضى.
العربي الجديد
————————————-
وزير الداخلية السوري محمد الشعار: “سفاح طرابلس” ذو “الضمير المرتاح”/ مناهل السهوي
05.02.2025
الشعار، الذي يعدّ أحد أبرز الوجوه في آلة القمع التي دمّرت البلاد، ليس سوى البداية في سلسلة محاسبة طويلة، يجب أن تشمل العشرات من رجال نظام الأسد الذين ارتكبوا جرائم على مختلف الأصعدة.
ظهر وزير الداخلية الأسبق محمد الشعار في فيديو، في قبضة عناصر الإدارة السورية الجديدة، بعدما سلّم نفسه، وهي المرة الأولى التي يسلّم فيها مسؤول سوري رفيع المستوى، يتبع للنظام السابق، نفسه للحكومة السورية الجديدة، وذلك بعد نحو الشهرين على فرار بشار الأسد إلى روسيا.
من النجاة إلى المحاسبة
محمد الشعار، الذي كان الوحيد الذي نجا من تفجيرين سابقين، يبدو أنه لم ينجُ هذه المرة، إذ سبق أن نجا من تفجير خلية الأزمة في 18 تموز/ يوليو 2012، الذي قُتل فيه عدد من المسؤولين، بمن فيهم صهر عائلة الأسد آصف شوكت ووزير الدفاع داود راجحة، وقيل حينها إن الشعار أيضاً قُتل لكنه ظهر على التلفزيون السوري بعد 10 أيام من التفجير مصاباً بيده، وهو ما أثار الشكوك حول دورٍ له في عملية التفجير، كما نجا لاحقاً من تفجير أمام مبنى وزارة الداخلية السورية في كفرسوسة يوم 12 كانون الأول/ ديسمبر 2012، ونُقل على أثره إلى العاصمة اللبنانية بيروت لتلقّي العلاج. وللمصادفة، تبنّت الهجوم في حينها “جبهة النصرة”، التي انبثقت منها لاحقاً “هيئة تحرير الشام” التي أطاحت في النهاية نظام الأسد.
وظهر الشعار في مقطعي فيديو منفصلين. في الأول، داخل سيارة مع رجلين، وفي الثاني، في مقابلة تلفزيونية بعدما سلّم نفسه، وقال خلالهما: “ضميري مرتاح وكنت أعمل وفق القانون (…) وزارة الداخلية ليست لديها سجون مخفيّة، وكانت اللجان الدولية والصليب الدولي تدخل إلى السجون، كل السجون، وكل الأمور التي ترتبط بالعمل الإنساني كانت بإشراف القضاء والأمم المتحدة… ليس لدينا شيء نخفيه (…) السجون التي تعنيها (المعارضة) ليست تابعة لوزارة الداخلية وليست بعهدتها، سجون وزارة الداخلية تختلف كثيراً، وفيها مواصفات تهدف إلى تحسين ما أمكن من ظروف السجين. لا علاقة لنا بالسجون الأخرى ولا نعرف عنها شيئاً”.
وفي ظل الفوضى والتصعيد الملحوظ في حالات الانتقام، يبدو أن الشعار؛ في خطوة غير متوقعة، اختار تسليم نفسه للسلطات الجديدة. فقد أشار إلى أنه منذ سقوط النظام في سوريا، بذل محاولات عدة للتواصل مع هذه السلطات.
وربما يعكس هذا التسليم محاولة للابتعاد عن مصير مجهول، بعدما أدرك أن التغييرات السياسية الحاصلة، قد تكون فرصته الأخيرة للخروج من دائرة الانتقام الفردي والملاحقات، خصوصاً أنه عاجز عن التحرك والهرب بسبب العقوبات المفروضة عليه، ومن بينها تجميد الأصول ومنع السفر.
حالة الشعار والطريقة التي سلّم بها نفسه، تعكسان مصير الكثير من عناصر النظام السابق، الذين تركهم رئيسهم ليواجهوا مصيرهم وحدهم. قبله، أُلقي القبض على عاطف نجيب الذي حاول الهرب، ويبدو أن مسار العدالة والعقوبات المفروضة على رجال الأسد سيدفعهم في النهاية إلى الخضوع وتسليم أنفسهم، عوضاً عن أن ينتهوا ضحايا “أخطاء فردية” كما تكشف تسجيلات كثيرة، خصوصاً أن آلية المحاسبة ما زالت غامضة إلى الآن.
وكان الشعار تولّى منصب وزير الداخلية في عام 2011، وقبل ذلك شغل مناصب عدة، منها قائد الشرطة العسكرية ورئيس فرع الأمن العسكري في حلب وطرطوس، وأُدرج اسمه ضمن قوائم العقوبات الغربية منذ منتصف العام 2011.
خضع الشعار لعقوبات الاتحاد الأوروبي منذ العام 2011، التي فُرضت عليه رداً على مشاركته في الحملة العنيفة التي شنّتها الحكومة السورية ضد المتظاهرين السلميين، خلال الثورة عام 2011، وصُنِّف كمسؤول عن انتهاكات حقوق الإنسان، بسبب دوره في قمع المعارضة والمساهمة في قمع الاحتجاجات بشكل عنيف في سوريا.
من جهة أخرى، فرضت الولايات المتحدة عقوبات على الشعار في عام 2011، تماشياً مع الجهود الدولية الأوسع للضغط على الحكومة السورية. وظهر الشعار تحديداً في تصنيف وزارة الخزانة الأميركية، الذي استهدف المسؤولين السوريين والكيانات المسؤولية عن انتهاكات حقوق الإنسان.
تحدث الشعار عن فترة سوريا ما بعد الثورة، ولم يأتِ على ذكر ما قبل الثورة والانتهاكات التي كان جزءاً منها، إذ كان له دور في مجزرة سجن صيدنايا في عام 2008، التي حصلت على أثر العصيان الذي نفّذه المعتقلون آنذاك.
جرائم الشعار في لبنان
ربما يسعى الشعار الى الهروب من الجرائم التي ارتكبها النظام، لكنه يدرك جيداً أن ماضيه ما زال حاضراً في الأذهان، فالرجل كان مسؤولاً عن الأمن في طرابلس خلال الثمانينيات، وواحداً من أبرز الشخصيات في لبنان في عهد غازي كنعان، ففي كانون الأول/ ديسمبر من العام 1986، كانت قواته جزءاً من الأحداث الدموية في باب التبانة في طرابلس، حيث سقط نحو 700 ضحية من المدنيين، بينهم أطفال. وعلى إثر تلك المجزرة، أصبح يُعرف بلقب “سفاح طرابلس”، اللقب الذي لازمه ليكون شاهداً على جزء مظلم من تاريخه.
يُعتقد أيضاً أنه كان مسؤولاً عن مقتل خليل عكاوي، مؤسس “المقاومة الشعبية” في طرابلس، والمعروف بلقب “أبو عربي”.
وفي عام 2012 وخلال علاج الشعار في لبنان بعد التفجير الذي أصيب فيه، تقدّم المحامي اللبناني طارق شندب ببلاغ ضده على خلفية اتهامات بضلوعه في مقتل المئات في مدينة طرابلس اللبنانية، بطلب من مجموعة من أهالي الضحايا الذين تسبب الشعار بقتلهم. ونقلت الوكالة الفرنسية عن شندب قوله في حينها، إنه تقدّم ببلاغ ضد الشعار “بتهمة ارتكاب جرائم إبادة جماعية، وتطهير عرقي، وقتل واغتيال سياسي، واغتيال رجال دين وأطفال في منطقة باب التبانة”.
وقال شندب خلال لقاء تلفزيوني آنذاك، إن محمد الشعار اغتال عن سابق إصرار الزعيم الشعبي خليل عكاوي، مضيفاً: “هذه الجرائم التي ارتكبها محمد الشعار هي جرائم ضد الإنسانية، جرائم تطهير عرقي عن سابق تصوّر وتصميم، ويطبّق عليها قانون العقوبات اللبناني”.
ومع “ضمير الشعار المرتاح” يبدأ أخيراً طريق المحاسبة، الذي انتظره السوريون طوال 54 عاماً من الظلم والانتهاكات. الشعار، الذي يعدّ أحد أبرز الوجوه في آلة القمع التي دمّرت البلاد، ليس سوى البداية في سلسلة محاسبة طويلة، يجب أن تشمل العشرات من رجال نظام الأسد الذين ارتكبوا جرائم على مختلف الأصعدة.
درج
—————————————–
ملامح النظام السوري الجديد/ رانيا مصطفى
05 فبراير 2025
في وضعٍ سوريٍّ مفتتٍ، ومنهكٍ، وشديدِ التعقيد، كان لا بد من إعطاء صفةٍ شرعيةٍ لسلطات الأمر الواقع؛ اختار الحكام الجدد تنصيب أحمد الشرع رئيساً لسورية في مرحلة مؤقتة غير مؤطَّرة زمنياً، وعبر الاكتفاء بمبايعة قادة الفصائل العاملة في الشمال، في إدلب، وتلك التابعة للأجندة التركية في مناطق غصن الزيتون ودرع الفرات، إضافة إلى “جيش سوريا الحرّة” العامل في التَّنف ضمن الأجندة الأميركية. وقرّرت كل تلك الفصائل التي حضرت “مؤتمر النصر”، وفي مقدّمتها هيئة تحرير الشام، حل نفسها والاندماج ضمن الجيش السوري الجديد الذي تشرف عليه وزارة الدفاع؛ غابت عن المؤتمر فصائلُ الجنوب، في درعا والسويداء، رغم تصريحات سابقة بقبول اندماجها بالجيش السوري، وغابت أيضاً قوات سوريا الديمقراطية بعد رفضها حلَّ نفسها مشترطةً الدخولَ في الجيش الجديد ككتلة، ومحاصصةً في وزارات الحكومة وفي ثروات المنطقة الشرقية. فقد جرى تنصيب الشرع رئيساً بدون توافق كلِّ الفصائل العسكرية، وبلا مشورة للنخبة السياسية، وبالتأكيد بدون مشورة الشعب، إذ يستحيل إجراء انتخابات في سورية من دون تحقيق حدٍّ أدنى من الاستقرار.
لم تستحوذ سلطات الأمر الواقع على الحكم بانقلاب عسكري، ولا يمكن القول إنها حرّرت مدناً سورية، فقد تبين أن جيش الأسد منهارٌ ولا يريد القتال، والنظام كله كان منهاراً، ومنذ 2015، لولا التدخل الإيراني والروسي، ونَهَشَهُ الفساد طوال السنوات التالية، لا سيما بعد 2019، واحتاج “دفشةً” نفَّذتها إدارة العمليات العسكرية. وبالتالي، ملأت السلطة الحالية الفراغ العسكري والأمني منذ السقوط، ثم السياسي بعد إعلان الشرع رئيساً. تم تعطيل الدستور والبرلمان وحلّ الجيش والأجهزة الأمنية وحزب البعث وأحزاب الجبهة الوطنية التقدمية، وهي قرارات صحيحة لا يعارضها أحد، لكن بيان مؤتمر النصر وخطاب الرئيس السوري الجديد الأول الموجّه إلى الشعب السوري لم يتضمَّنا إعلانا دستورياً محدَّد المدة، واكتفى الشرع بعناوين عريضة للمرحلة الانتقالية، وأنه سيكون رئيس البلاد فيها.
حلَّ مجموعة من الفصائل ودمجها في جيش واحد هو الإنجاز الأبرز، وإنْ ما زالت ملامحُ هذا الجيش مشكوكاً بها؛ فمن حيث الاحترافية والموثوقية، لم توكَل مهمَّةُ تشكيل الجيش إلى ضبّاطٍ منشقين، وهم كثر، وهناك فصائل مشاركة تحمل سمعة سيئة ولم تكن سوى مرتزقة تقاتل قوات سوريا الديمقراطية (قسد). ومن حيث الوطنية، توجد في الجيش عناصرُ أجنبية وبرتب عليا، ولم تحدّد مهمَّتها بوضوح بحماية حدود الوطن، خاصة في ظلِّ الاجتياح الإسرائيلي المستمرّ في القنيطرة والشريط الحدودي، وهو الأمر الذي لم يتطرّق له الشرع في خطابه، واكتفى بكلام عام عن توحيد الأراضي السورية.
الانتقال من عقلية الفصائل القائمة على محسوبياتٍ عائلية ومناطقية وغنائم وتشكيلات غير سورية إلى عقلية الجيش الوطني الذي يحمي الحدود ويحرّر الأراضي المغتصبة مرتبطٌ ببناء الدولة نفسها، وتشكُّل هويَّتها الوطنية، اللاطائفية، وهنا مشكلة أخرى ترتبط بهذا الجيش أن طيفاً دينياً واحداً يغلب عليه. وزاد إلغاء الخدمة الإلزامية من الشكوك بشأن رغبة الحكام الجدد إبقاء الجيش موالياً لهم. حلُّ هذه الفصائل ودمجها في جسم واحد، في هذه المرحلة، هو الخطوة الممكنة في ظل حالة فوضى السلاح، وستشكِّل أرضيةً للتفاوض مع بقية الفصائل غير المنضوية.
يرى بعضُهم أنَّ تنصيبَ الشرع رئيساً عبر العسكر، وليس باستفتاء شعبي، مرفوضٌ، وهم محقُّون من حيث المبدأ، خاصة بوجود مخاوف من عودة الديكتاتورية وحكم العسكر. ولكن أيضاً علينا أن نعترف بمقدار التصحُّر السياسي الذي تعاني منه النخب السورية، وبالفجوة الكبيرة بينهم وبين الشعب وحاجاته، فالأحزاب القديمة باتت مهترئة، وتحتاج إلى حلِّ نفسها أو إعادة صياغة برامجها وفق الواقع الجديد، والتيارات التي نشطت في الخارج عانت من التبعية لأجندات متعدِّدة، ومن الكثير من الفساد وفقدان الثقة الشعبية بها، وتحكّم شخصيات بعينها في قياداتها. رغم ذلك هناك محاولات جديدة لتجريب البدء بحوارات وطنية على مستوى المدن والبلدات، مع ضرورة توسيع مشاركة القاعدة الشعبية، وصولاً إلى تشكيلات سياسية جديدة تحمل برامج واضحة. من الواضح أن الحاكمين الجدد لسورية يجرِّبون أيضاً، فقد أشيع سابقاً عن مؤتمر وطني كان سيجري على عجل، وبدا أنه صعبٌ، وسيثير امتعاضاً كثيراً في الداخل، وسينعكس ذلك على الرأي العام في الخارج، وبالتالي كان الممكن ما كان.
يقول الشرع إن المرحلة الانتقالية جزءٌ من عملية سياسية تتطلب مشاركة كل السوريين والسوريات. فوَّضه بيانُ الفصائل الأخير بسلطاتٍ مطلقةٍ تخوِّلُه تشكيلَ مجلس تشريعي مصغّر بديلاً عن البرلمان، ولجنة تحضيرية لمؤتمر الحوار الوطني، وإعلانٍ دستوري مرجعاً قانونياً للمرحلة الانتقالية. وكل ما قاله الرجل في خطابه المكثَّف جيد، عن اهتمامه بالسلم الأهلي ومحاسبة المجرمين والعدالة الانتقالية وبناء مؤسّسات الدولة واقتصاد قوي واستعادة الخدمات الأساسية؛ لكنه لم يقل ما يطمئن السوريين إنه لا يرغب بالاستئثار بالحكم، كسابقه، وإلى الأبد. القرارات التعسُّفية وغير المدروسة، والتي يتخذها وزراء حكومة تسيير الأعمال، تحت مسمّى إعادة هيكلة الوزارات، ولا تستند إلى تشريعات الدولة، تتجاوز صلاحيات حكومة تصريف الأعمال، والأخطر الإعلان عن نيَّتها خصخصة كل القطاعات وفتح الأسواق، من دون النظر في حاجات الأغلبية الساحقة المفقرة، فضلاً عن تعطيل القضاء، وفتح محاكمَ شرعية في المساجد للنظر في بعض القضايا، لا ينبئ ذلك كله إلا بنيات السيطرة على مفاصل الحكم والدولة. سيحتاج الشرع إلى صياغة برامج سياسية واضحة تعبّر عن رؤيته إلى الحكم، هذا يعني أن على منظّري هيئة تحرير الشام خوضَ معاركهم الخاصة لإجراء مراجعات واضحة لإيديولوجيتهم الإسلامية، تقوم على انفتاح كبير على المجتمع السوري، وتُرضي الغرب خصوصاً من حيث تخلّيها عن فكرة الجهاد ضد الاحتلال الإسرائيلي، وتفتح على رفع العقوبات عن الجماعة المصنَّفة إرهابياً.
لا يريد الغرب ديمقراطية حقيقية في سورية، كما لا يريدها في كل العالم العربي، لأن الشعوب العربية الديمقراطية ستفرض على دولها رفض التطبيع مع الكيان الإسرائيلي، وتضغط باتجاه مقاومته، وباتجاه بناء اقتصادٍ وطني قوي. فيما يبدو أن انتهاج نمطٍ اقتصادي نيوليبراليٍ متطرفٍ هو البرنامج الوحيد المعلَن عنه من حكومة دمشق، ويتناغم مع الأهواء الغربية، ويتفق مع عرض وزير الخارجية السوري، أسعد الشيباني، الموانئَ السورية ومصانع الدولة، للخصخصة والاستثمار في المنتدى الاقتصادي العالمي الأخير في دافوس، أثناء تسويقه نظاماً جديداً ينكفئُ تحت مقولة “سورية أولاً”.
العربي الجديد
——————————
قرارات مؤتمر النصر السوري… نقطة نظام/ علي العبدالله
05 فبراير 2025
أصدر مؤتمر النصر، الذي عقدته إدارة العمليات العسكرية في 29 من الشهر الماضي، وضم قادة 18 فصيلاً عسكرياً، قرارات صادمة، أبرزها: تولية أحمد الشرع رئاسة سورية في المرحلة الانتقالية، وقيامه بمهام رئاسة الجمهورية وتمثيلها في المحافل الدولية، وتفويضه بتشكيل مجلس تشريعي مؤقت، حلّ حزب البعث وأحزاب الجبهة الوطنية التقدمية وحظر إعادة تشكيلها، حلّ الأجهزة الأمنية والجيش، وتشكيل مؤسسة أمنية جديدة وبناء جيش جديد على أسس وطنية، حلّ مجلس الشعب، وإلغاء العمل بدستور سنة 2012، حلّ جميع الفصائل العسكرية، والأجسام الثورية والسياسية والمدنية، ودمجها في مؤسسات الدولة. وعكست هذه القرارات توجّهاً سياسياً مختلفاً عن تصريحات وإعلانات سابقة لقيادة إدارة العمليات العسكرية ووزراء في حكومة تصريف الأعمال بشأن المرحلة الانتقالية ومؤتمر الحوار الوطني والمشاركة السياسية، فالقرارات الجديدة ليست على الضد من تلك التصريحات والإعلانات فقط، بل تكاد تكون نقضاً صريحاً لها وتخلّياً جازماً عنها. فقرار تولية أحمد الشرع منصب رئيس الجمهورية في المرحلة الانتقالية أثار تساؤلات بشأن ظروفه، حيث جاء من دون تمهيد أو إعلان مسبق، وبشأن المحدّدات التي حكمت عملية الاختيار، والطريقة التي جرت بها، وخاصة أن التولية جاءت مقترنةً بتفويضه بتشكيل مجلس تشريعي مؤقت، تفويضاً مفتوحاً من دون ضوابط. وهذا مع عدم وجود قواعد دستورية ناظمة، منحه صلاحيات تنفيذية وتشريعية وقضائية مثل أي رئيس منتخب شعبيا، عدا عن أن التفويض ذاته انطوى على كسر للعُرف السائد في تشكيل المجالس التشريعية، حيث تشكّل المجالس عادة هيئات تشريعية. وزاد الطين بلّة إعلان الشرع، في خطابه الرئاسي، أنه سيشكّل لجنةً تحضيريةً مهمّتها اختيار أعضاء المجلس العتيد، لجنة تختار وليس هيئة عامة تنتخب؟! فقرار التفويض يُخضع عملية تشكيل المجلس لتقديرات فرد ورغباته وتفضيلاته السياسية والاجتماعية، حسم في خطابه الرئاسي طبيعة النظام السوري الجديد: نظام رئاسي ومركزي، والتي ستتعارض مع مواقف نسبة وازنة من السوريين، حيث ثمّة مطالبات واسعة باعتماد أساليب ديمقراطية ونظام لامركزي.
كان المنطقي أن تبدأ إدارة العمليات العسكرية التشاور مع القوى السياسية والمجتمعية ومنظمّات المجتمع المدني لتأسيس مجلس تشريعي مصغّر من قانونيين وخبراء دستوريين، يضع إعلان مبادئ دستوري ينظّم عمل السلطات الثلاث قبل انتخاب رئيس جمهورية، بحيث يأتي انتخابه استكمالاً للهيكلة وضبط قراراته وممارساته بهذه المبادئ.
ولم يكن لقرار حل حزب البعث وأحزاب الجبهة الوطنية التقدمية وحظر إعادة تشكيلها مبرّر موضوعي في ضوء سقوط هذه الأحزاب عمليا وافتقارها عوامل البقاء والاستمرارية، علما أن لاتخاذه تبعات اجتماعية سلبية، كالعزلة والأحقاد، الواقع الوطني في غنى عنها. وينطوي قرار حل الأجهزة الأمنية والجيش، وتشكيل مؤسسة أمنية جديدة وبناء جيش جديد على أسس وطنية، على خطورة أمنية على خلفية تحويل عشرات الآلاف من الضباط وصف الضباط وعناصر اجهزة المخابرات إلى عاطلين من العمل، والدفع بأسرهم إلى الفقر والحرمان، ما قد يدفعهم للمغامرة بإحداث فوضى واضطرابات اجتماعية، إن بسلوك بعضهم طريق الجريمة أو عمل بعضهم ضد النظام الجديد مع قوى تريد إلحاق الأذى به عبر إشاعة مناخ من عدم الاستقرار وتهديد الأمن الوطني، مستفيدين من خبراتهم العسكرية والأمنية. مع الأخذ بالاعتبار أثره السلبي على ترميم النسيج الاجتماعي وإشاعة مناخ لاندماج وطني متين على خلفية البعد الطائفي في الموقف، كون نسبة كبيرة من عناصر الجيش والمخابرات من أبناء الطائفة العلوية. وكانت الحصافة تستدعي أخذ هذه المخاطر بالاعتبار والتعاطي مع الحالة بروية ومرونة والقيام بعملية فرز وغربلة لعناصر الجيش والمخابرات، وتحييد الفاسدين والعدوانيين وإحالتهم على التقاعد ومنحهم راتبا شهريا يطمئنهم لجهة توفير معيشة أسرهم، ويحدّ من اندفاعهم نحو المغامرة والتهور كخطوة في سياق العدالة الانتقالية.
أما بناء جيش جديد على أسس وطنية عن طريق تحويل الفصائل العسكرية إلى جيش محترف فليست وصفة مُجدية، فثمّة تباين واسع بين تأهيل عنصر الفصائل والعسكري المحترف. وكانت الحالة تستدعي مساراً آخر يبدأ بغربلة الجيش القديم وفرز الصالح والطالح ووضع الصالحين بعهدة الضباط وصف الضباط الذين انشقّوا عن جيش النظام لفرزهم حسب الاختصاصات والخبرات التي اكتسبوها في فترة خدمتهم السابقة، وتكوين هيكل لجيش مهني ومحترف، في مرحلة لاحقة يتم إلحاق عناصر الفصائل به، بعد دمجهم معاً ومرورهم في دورات تأهيل على حياة العسكري المحترف، وعلى كيفية التعامل مع المختلف دينياً ومذهبياً وسياسياً تعاملاً لائقاً، كونه سورياً مثله، وإكسابهم خبرات محدّدة، وتوزيعهم على كتائب الهيكل الجديد وألويته. وبهذا الشكل، لا تكون العملية منطقية ومجدية فقط، بل وتعالج تبعات تشكيل جيش من الفصائل العسكرية، وما يمكن أن يثيره من حساسيات وردود فعل في ضوء انتماء هذه الفصائل إلى المذهب السني وتبني معظمها للفكر السلفي.
وكان قرار حل مجلس الشعب، وإلغاء العمل بدستور سنة 2012، يستدعي وضع إعلان دستوري، أو العمل بأحد الدساتير السورية السابقة، قبل اتخاذه، كي لا تقع البلاد في فراغ دستوري، وتكون ممارسات السلطات الثلاث، التنفيذية والتشريعية والقضائية، تقديرية واستنسابية، من دون محدّدات وضوابط ناظمة تعمل في ضوئها في المرحلة الانتقالية، ريثما يتم وضع دستور جديد.
وكان قرار حل جميع الفصائل العسكرية والأجسام الثورية السياسية والمدنية ودمجها في مؤسسات الدولة أكثرها تعسفاً، للأسباب التالية: أن الدولة العتيدة لم تعد موجودة فعليا حتى تدمج الأجسام الثورية السياسية والمدنية في مؤسّساتها. لقد أزيلت الدولة عبر قرارات إلغاء دستور 2012 وحل مجلس الشعب وتعطيل القضاء، ودمجها في مؤسّسات الدولة الجديدة، والتي سيستغرق بناؤها وقتا طويلا، سيبقيها معلقة ومعطّلة ويدفعها نحو الترهل والاندثار، وفي هذا خسارة لإمكانيات وخبرات نظرية وعملية. ولأن القرار لم يحدّد من هي الأجسام الثورية السياسية والمدنية المقصودة، أثار الهواجس من شمول الحل منظمّات المجتمع المدني والأحزاب والنقابات التي شاركت في الثورة، وهذا إن حصل سيحرم هذه المؤسّسات من المشاركة في عملية بناء الدولة، عبر إعادة الساحة السياسية إلى نقطة الصفر، علما أن دورها مهم في مرحلة تشكيل الدولة عبر موازنة دور الفصائل العسكرية سلفية التوجّه وتطعيم توجّهاتها وتصوّراتها النمطية برؤى فكرية واجتماعية وسياسية تجعلها أكثر انسجاما مع المعايير القانونية والدستورية.
تناقش الملاحظات الواردة أعلاه قرارات مؤتمر النصر، لكنها لا تغطّي كل جوانب الموقف/ المأزق الذي أدخلت العملية السياسية فيه، فاختيار قادة الفصائل العسكرية الرئيس وتفويضه بإدارة المرحلة الانتقالية أخذت شكل فرض أمر واقع على الشعب، كان يمكن إخراج العملية بصورة أخرى بطرح الموضوع على القوى السياسية والاجتماعية، ما كان سيجعلها أكثر قبولا وشعبية. وقد أثارت العملية بالصيغة التي جرت فيها هواجس كثيرين ومخاوفهم، وبذرت بذور الريبة والشك في صدقية الوعود والإعلانات التي تطلق حول التشاركية والشمولية.
لماذا تستخف إدارة العمليات العسكرية وحكومة تصريف الأعمال بالرأي العام السوري، عبر اتخاذ القرارات في غرف مغلقة، ووضع السوريين أمام الأمر الواقع، كما عكسه المتحدّث باسم الإدارة العسكرية العقيد حسن عبد الغني بقوله، عند إعلانه قرارات المؤتمر: “إن المجتمعين قرّروا”، أهو لأنهم كما قال الشرع “أعادوا لنا كل سورية”، أم لإدراكهم أن الشعب ما زال في نشوة الخلاص من النظام البائد ولن يعترض على أي قرار يتّخذونه، أم لإدراكهم أنه منهك، ويريد أن يرتاح في كنف الأمن والسلامة، وليس له قوة للاعتراض، حتى لو كان غير مقتنع بالقرارات، أو يرى فيها ضرراً على حياته ومستقبله. وإن كان الأمر على هذا النحو فإنه يزرع ألغاماً بين السلطة والمجتمعات السورية، كلٌّ لاعتباراتٍ تخصّها، وهي وصفة للفوضى وعدم الاستقرار، وقد بدأت بوادرها بالتشكل كما عكستها الشكاوى والتظاهرات ضد الفصل من العمل والتذمّر من ارتفاع أسعار بعض السلع والخدمات وتأخر الرواتب وعدم تنفيذ الوعد بزيادتها.
كان لافتا أن الشرع قلب في خطابه الرئاسي استحقاقات المرحلة الانتقالية رأسا على عقب، حيث قال إنه سيشكل لجنة تحضيرية لاختيار مجلس تشريعي مؤقت، وبعدها يتم وضع إعلان دستوري، في حين الصواب والبداية المنطقية هي تشكيل مجلس تشريعي مصغّر من هيئة عامة تضم ممثلين عن كل قوى الثورة والمعارضة، يضع إعلانا دستوريا قبل انتخاب رئيس للجمهورية، وقد تحوّل مؤتمر الحوار الوطني، حسب كلامه، إلى مؤتمر تشاوري، لن تصدر عنه قرارات ملزمة. كما كان مستغربا قبوله الوصول إلى كرسي الرئاسة بهذه الطريقة، وعن طريق قوى محدودة من الشعب السوري، ما سيجعل رئاسته تفتقر إلى الشرعية الشعبية. وقد أضاف هذا عاملا جديدا إلى تحفظات واعتراضات مكوناتٍ في المجتمع السوري متعدّدة ومتنوعة ومتباينة في تصوّراتها وطموحاتها.
جاءت قرارات المؤتمر العتيد تنفيذا حرفياً لمقولة “من يحرّر يقرّر”، التي روّجتها هيئة تحرير الشام وحلفاؤها، وقد حاولت أقلام بعض الموالين والمستوزرين ربط القرارات بـ”الشرعية الثورية”، وهي نكتة سمجة، لأن “الشرعية الثورية” تبرّر إسقاط نظام فاسد وظالم خارج الأطر الدستورية، لكنها لا تبرّر ما بعد ذلك إذا جاءت الممارسة خارج المطلوب وطنيا.
… نتمنّى أن لا ينخدع الشرع بالتهاني العربية، ويذهب بعيدا في الانفراد بالسلطة واتخاذ القرارات، فهذه التهاني مرتبطة برغبات أنظمة تريد توجيه المخاض السوري، ودفعه في مسارٍ محدّد، وستنقلب عليه في حال تجاهل ذلك، فيخسر على المسارين الرسمي العربي والشعبي السوري.
العربي الجديد
——————————–
مخيّم اليرموك المحطّم/ سمير الزبن
05 فبراير 2025
تردّدتُ كثيراً قبل الذهاب في رحلة درب الآلام إلى مخيّمي، مخيّم اليرموك، فأنا أعرف أن مواجهة المكان المُدمر الذي قضيت عمري فيه قبل مغادرة البلد في 2012 سيكون وقعها مؤذياً، لكنها زيارة ضرورية إلى المكان الذي تكوّنت فيه. كنتُ أعرف أن المكان مدمّر، لكن واقع الدمار الهائل للمخيم يتفوّق على كل خيال، ولا أجد تفسيراً للقصف الوحشي للنظام المنهار ومن بعده الطيران الروسي للمخيم، سوى أنه استخدم من الطاغية السوري مثل غيره من المناطق لقتل السوريين وترويعهم، وتحديده من الطاغية الروسي مكاناً لتجريب أسلحته المدمِّرة، كما استخدمت في عديدٍ من المدن السورية المنكوبة. وحشية حاقدة تنصبّ على رؤوس المساكين المحاصرين في المخيم، بذريعة وجود مقاتلي تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) فيه.
لم يرغب حكّام دمشق في خمسينيات القرن المنصرم في رؤية اللاجئين الفلسطينيين في شوارع دمشق، فقرّرت الحكومة السورية منح قطعة أرض نائية في قلب الغوطة جنوب دمشق للهيئة العامة للاجئين الفلسطينيين، والذهاب بهم إليها، وسيصبح هذا المكان النائي في نهاية الخمسينيات مخيّم اليرموك الذي كان يفتقد إلى كل الخدمات الأساسية، لا مياه شرب نظيفة، لا طرق معبّدة، لا شبكة صرف صحيّ، لا شبكة كهرباء لها معنى. حفر اللاجئون آبار الماء في الجهات البعيدة عن الأماكن التي حفروا فيها حفر المياه العادمة، حتى لا تلوّث الأولى.
في مكانٍ لا يصلح للعيش، بنى الفلسطينيون المبعدون إلى خارج المدينة مخيمهم، لكن الحظ أسعفهم في أنّ مخيمهم البعيد أصبح مع توسّع المدينة وتضخمها في قلبها، ما جعله ملاذاً لمفقري المدينة الغرباء في وطنهم، وعندما لجأوا إلى المخيم لم يحاولوا تغيير سماته الفلسطينية، بل اندمجوا في هذه الفلسطينية، وأصبحوا فلسطينيين مستعارين، غرباء في وطنهم يبنون مع غرباء من خارج وطنهم مكاناً للعيش المشترك، توافقوا على أن يكون مخيماً للاجئين حتى مع عدم اعتراف وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (أونروا) به مخيم لاجئين للفلسطينيين. حوالي مائة ألف فلسطيني مقيمون بين حوالي 600 ألف سوري حافظوا على فلسطينية المكان، ليس بالضد من إرادة الأكثرية السورية المقيمة في المكان، بل باندماج هذه الأغلبية السورية في فلسطينية المكان. واستطاع هذا الوطن الصغير للمندمجين فيه أن ينتزع مكانة مركزية في المدينة، وتحوّل إلى سوق تجاري ينافس الأسواق التاريخية في دمشق، مثل الحميدية والصالحية، وأصبحت مطاعم المخيم مورداً أساسياً لطعام المدينة الجاهز ليلاً ونهاراً، وأصبح من أكثر أماكن المدينة ازدحاماً.
هكذا كان الحال عندما انطلقت الثورة السورية، وعندما بدأ النظام في قصف المناطق المحيطة به، مثل الحجر الأسود والتضامن والقدم، احتضن اللاجئون القدامى اللاجئين الجدد في وطنهم، والذين قُدّر عددهم بـ200 ألف لاجئ في بيوت المخيم ومدارسه وجوامعه. وعندما قرّر النظام المجرم تهجير سكّان المخيم وقصفَه بالطائرات الحربية، كانت تغريبة جديدة في اليوم التالي، فلسطينيون يحملون مفاتيح بيوتهم في فلسطين والمخيّم، ويحملون القليل من الأغراض الضرورية التي سيحتاجونها في لجوئهم الجديد، وسوريون يحملون مفاتيح بيوتهم في المخيم، وبعض الأغراض القليلة تائهين في شوارع المخيم، لا يعرفون مكاناً يذهبون إليه.
لم يكتفِ النظام بتهجير سكّان المخيم، بل عملت مدفعيّته وبراميله المتفجّرة على تدمير مباني المخيم التي لا مبرّر عسكرياً لها، وما لم تدمّره وحشية النظام، دمّرته وحشية القصف الروسي في 2018، وحولته إلى ركام. وعندما انتهى النظام من تدميره، لم يُسمح للناس بالعودة الى أنقاض بيوتهم، هؤلاء الذين لم يعد بمقدورهم تحمل كلفة العيش خارج المخيم، الغلاء الرهيب في البلد الذي يقابله انخفاضٌ في دخول البشر أكثر رهبة، وقد حوّلت هذه الأوضاع الأغلبية في سورية عاملين وغير عاملين إلى جائعين.
عندما دخلتُ المخيم لم أتعرّف على معالمه، كتل إسمنتية رمادية تنتشر على امتداد النظر إلى مبانٍ مدمّرة، لم يكتفِ المجرمون بتدميرها، بل سرقوا كل شيء في المكان، حتى حديد الأسقف، فلا ترى بين الأنقاض أي لون آخر غير رمادية الإسمنت. مكان مدمّر، لا يعلن أنه لم تعد هناك عناوين تصل إليها عبر طرق المخيم فقط، بل وليس هناك حياة في المكان، ولم يعد المكان يصلح للعيش البشري أيضاً. لذلك، صُدمتُ عندما، قابلت بعض جيرانٍ لم يخرجوا مطلقاً من المخيم، وعاصروا مراحل الجريمة بحق المخيم 13 عاماً، بما فيها مرحلة حصار الجوع التي ذهب ضحيتها أكثر من 260 شخصاً من سكان المخيم.
لا يمكن قراءة وجوه من بقوا في المخيم، هناك شيء غريب في ملامحهم، وكأنّهم قادمون من موت، تقول الوجوه إننا متنا عشرات المرّات، وكأنهم أمواتٌ مع وقف التنفيذ، لأنهم لا يجدون قبوراً تحتضنهم. لم أتعرّف على وجوه الجيران الذين بقوا في المخيم، هم من تعرّفوا عليّ، صديق الدراسة الذي تحوّل إلى هيكل عظمي، فقد ولديْن في المخيم، وجارتنا التي فقدت ولديْن، وحدّثتني عن خسائر الجيران الآخرين، سألتني: “بدّك ترجع على المخيم؟” جاملتها وقلت: “يمكن” أشارت بيدها إليّ لأقترب وكأن مخابرات الأسد الفارّ تتنصّت علينا، وهمسَت بأذني: “لا ترجع، إحنا أموات”.
عندما شاهدتُ الفيديو الذي صوّرني إياه صديقي وأنا أجول ببن حطام منزلي المدمّر بدوْتُ تائهاً، أبحثُ عن نفسي وعن طفولة أولادي وضحكاتهم في هذا البيت، وعن صخب الأصدقاء في سهرات لا تنتهي، كنّا نحاول العيش في بلد احتله الطغيان من دون أن نتلوّث به، لكنه لم يتركنا بحالنا، فاستخدم كل وسائل القتل فينا، سوريين وفلسطينيين، وأنا بين دمار منزلي، شعرتُ بتناقض رهيب، أن جزءاً من حياتي وروحي قد أصابه الدمار بدمار هذا المنزل، والدمار الهائل القتل الرهيب لأهالي المخيّم والبلد، كما جعلني أشعر بالنجاة أنا وعائلتي من أنياب الوحش.
العربي الكبيرة
———————————————
بين بيروت ودمشق: حين يصبح الانتماء عبئاً/ سالي موسى
04 فبراير 2025
“لم تؤثر العلاقات اللبنانية-السورية يومًا على هويتنا المزدوجة. فعلى الرغم من القمع الذي مارسه جيش الردع الأسدي على الجيش اللبناني، إلا أن والدتي، يوم تقاعد والدي من الجيش عام 2004، اقترحت عليه أن نستثمر تعويضه في شراء بيت دمشقي قديم، نحوله إلى منزل لنا ونعيش فيه.
لكن حلم أمي بقي معلقًا، ولم يتحقق حتى يومنا هذا. فبعد 2012، قلبت الأحداث الموازين، وتحوّل جزء من اللبنانيين إلى جيش ردع داخل الأراضي السورية، ليصبح الحلم كابوسًا، وليتحول الانتماء المزدوج إلى عبء نخشى حمله. كيف يمكن لجزئي اللبناني أن يقتل جزئي السوري، ويسلبه أرضه؟ وكيف لجزئي السوري أن يتحوّل إلى أداة قمع لحرية جزئي اللبناني؟ في هذه الفوضى، لم يبقَ للانتماء سوى شعور مرير بالضياع.”
لم يكن ما سبق مجرّد مثال ذاتي، بل صورة مصغرة لواقع العلاقات اللبنانية السورية عبر التاريخ، حيث تشابكت المصائر بين القمع والتحالف، بين الأخوة والعداء، وظلّت الهوية المزدوجة رهينة تقلّبات السياسة والصراع.
على مدى أكثر من نصف قرن، اتسمت العلاقات السورية اللبنانية بمعادلة معقدة بين التحالف والوصاية، حيث لعبت سورية دور “الأخ الأكبر”، فارضة نفوذها السياسي والعسكري على لبنان. بدأ هذا النفوذ رسميًا عام 1976 مع دخول الجيش السوري تحت غطاء “قوات الردع العربية” خلال الحرب الأهلية اللبنانية، واستمرّ لعقود، خاصّة بعد اتفاق الطائف عام 1990، حيث تولت دمشق الإشراف على تنفيذه، ما عزّز هيمنتها. غير أنّ هذه الهيمنة بلغت ذروتها في مرحلة الوصاية السورية، قبل أن تنتهي بانسحاب القوات السورية عام 2005، عقب اغتيال رئيس الحكومة اللبناني، رفيق الحريري، وتحت وطأة ضغوط داخلية ودولية، في محطة مفصلية أعادت تشكيل العلاقة بين البلدين، وطرحت تساؤلات حول مستقبل لبنان بعيدًا عن معضلة “الأخ الأكبر”.
وحين اندلعت الثورة السورية في مارس/ أذار 2011، انعكس الانقسام اللبناني التقليدي تجاه النظام السوري بشكل أكثر حدّة. فمع دخول حزب الله الحرب إلى جانب النظام متذرّعاً بأن تدخله في سورية سيحمي طريق إمداد السلاح، أغفل أنّ الإمداد الحقيقي لا يقتصر على العتاد العسكري، بل يشمل أيضاً الحاضنة الشعبية التي ساندته واحتفت بنصره في حرب 2006، والتي تحوّلت لاحقاً إلى ضحايا القصف والتهجير، فتبدّلت النظرة إليه، ليجد نفسه في موقع المدافع الأوّل عن النظام السوري، بعدما كان يُنظر إليه كحركة مقاومة تتجاوز الحسابات الداخلية الضيّقة، أي تحوّل من “مقاومة عربية” إلى قوات ردع إيرانية ناطقة باللبنانية على الأراضي السورية، ليُحكم حول عنقه طوقًا مذهبيًا صفويًا جعله يتخبّط في مواجهة الجميع.
فبعد وصاية بعثية، أمنية، أحكمت قبضتها على لبنان لعقود، وردع إيراني دعم نظامًا مترّنحًا بغطاءٍ طائفي، يطرح السؤال نفسه: كيف سيكون واقع العلاقات اللبنانية السورية في ظلّ المتغيرات الإقليمية والإدارة الجديدة؟ وهل ستبقى هذه العلاقة أسيرة النفوذ الخارجي والتجاذبات الإقليمية، أم أنّ ثمّة فرصة لإعادة رسم ملامحها على أسس أكثر استقلالية وتوازنًا؟
في زيارته الأخيرة إلى سورية ولقائه الرئيس الحالي أحمد الشرع، حاول رئيس حكومة تصريف الأعمال، نجيب ميقاتي، لعب ورقته الأخيرة عبر استثمار نفوذ الإدارة الجديدة لفرض سطوتها على الداخل اللبناني. وإذ يدرك حجم إفلاسه السياسي، سعى لإبرام صفقة تقضي بإطلاق سراح السجناء الإسلاميين في مبنى “باء” من سجن رومية، مقابل تأمين دعم سوري تركي قطري يمهّد لتسميته رئيسًا للحكومة المقبلة. إلا أنّ الرد جاء حاسمًا: سورية ستظل ملتزمة بالوقوف على مسافة واحدة من جميع الأطراف اللبنانية. تصرّ الإدارة الجديدة على التمسّك بهذا الخطاب، ساعية إلى ترسيخ أسس أكثر توازنًا للعلاقات اللبنانية السورية، بعد عقود من التدخلات والتجاذبات التي أنهكت كلا البلدين وشوّهت مسار هذه العلاقة على مدى 50 عامًا.
إنّ العلاقات السياسية بين لبنان وسورية يمكن أن تُبنى على أساس من احترام سيادة كلّ بلد، فكما تمّ انتهاك السيادة اللبنانية في فترات ماضية، فقد تمّ التعدي على السيادة السورية في ظروف معينة. إذًا، يبقى الاحترام المتبادل للسيادة والتفاهم بين البلدين هو الأساس لأيّ علاقات مستقبلية.
أخيراً، يبقى الشق الأصعب في العلاقات اللبنانية السورية هو معالجة الذاكرة المشتركة بين الشعبين، فمع الانتماء المزدوج للكثيرين بين البلدين والتداخل العميق في التاريخ الثقافي والاجتماعي، ما تزال هذه الذاكرة تحمل جراحًا وآلامًا خلّفت آثارًا عميقة في النفوس رغم مرور السنوات وتغيّرات الواقع الإقليمي والدولي، يبقى السؤال الأهم حول كيفية إدارة الذاكرة المشتركة وتحقيق التوازن بين سيادة كلّ دولة. إنّ الاعتراف بالآلام المشتركة والتعامل مع الجروح التاريخية من خلال الحوار المجتمعي يعدّ خطوة حاسمة نحو بناء الثقة وإعادة العلاقات إلى مسار أكثر استقرارًا وتعاونًا. لعل المستقبل يحمل فرصة لإعادة رسم ملامح هذه العلاقات على أسس أكثر استقلالية وتفاهما، بعيدًا عن الصراعات القديمة، سعيًا نحو السلام والعدالة لشعبي لبنان وسورية.
العربي الجديد
——————————————
صورة السلطة السوريّة الجديدة… تجميل الميليشيا؟/ نوار جبور
05.02.2025
يظهر في سوريا قمع غير دموي بالتأكيد، لكنه قمع قائم على الإنهاك الاجتماعي والتقييد غير المباشر لإرادة عامة سورية كان يمكن إشراكها بطريقة مختلفة. إنه ممارسة منهجية للإنهاك السياسي، تعتمد أدواته على تكتيكات الغموض، التردد، والإبقاء على الأزمات مفتوحة لفترات ممتدة، وكأن كل أزمة تعيش دورة حياة مدروسة من خمسين يوماً قابلة للتكرار، بخاصة عندما يتعلق الأمر بعمليات القتل التي تمارسها الفصائل المسلّحة.
ظهرت السلطة السورية الجديدة أخيراً في الإعلام، بعد سلسلة من التأجيلات والمواعيد غير المحددة، في ما بدا أنه بحثٌ عن التوقيت المناسب للإطلالة الأولى.
جاء هذا الظهور، بحسب الإعلان الرسمي، على شكل بثٍّ متلفز، وذلك في سياق اتفاق بين قوى الأمر الواقع على حلّ الفصائل المسلّحة والتمهيد لتشكيل جيش وطني موحّد، أو على الأقل إعادة هيكلة الفصائل ضمن إطار تنظيمي جديد.
خمس شخصيات من قادة الهيئة والفصائل المسلّحة صعدوا الى المنصة، مخاطبين حشداً كبيراً من المسلحين الذين ارتدوا البزة العسكرية، على رغم أن مقاتلي الهيئة المنتشرين في عموم سوريا لا يعتمدون زيّاً موحداً. لكن، في ظل حاجة السلطة الجديدة الملحّة إلى تقديم صورة منظمة ومنضبطة، ظهرت مئات الرؤوس مصطفّةً خلف القادة، فيما ركّزت الكاميرات على المتحدثين وحدهم، في مشهد بدا أقرب إلى إخراج رمزي للهيمنة السياسية والعسكرية.
لم تعكس البزة العسكرية الموحّدة سوى صورة اعتباطية لفكرة الطاعة، من خلال مشاهد مُصممة بعناية لتُرسّخ الانضباط كإطار بصري، لا كحالة فعلية متجذّرة في الواقع. فخلافاً لأي ظهور سابق للهيئة في الشارع، أو لكل الفصائل التي انضوت ضمن ما سُمّي بالجيش الوطني، بدت هذه المشاهد وكأنها استعراضٌ للزيّ أكثر من كونها تجسيداً لبيئة عسكرية منسجمة.
الانضباط كصورة
التركيز على الظهور العسكري المرئي كشكلٍ استعراضي، يُقدّم الطاعة على هيئة صورة، لا كواقع فعلي. إنتاجٌ للطاعة البصرية وهيمنة رمزية موجّهة الى الخارج، لا انعكاس لها على المستوى الداخلي، حيث لا تزال الفصائل قائمة بتشكيلاتها المختلفة، والولاءات موزّعة بين قوى الأمر الواقع، من دون أن يكون لهذا الزيّ العسكري أثرٌ يُذكر على إعادة تشكيل السلطة من الداخل.
لم تكن الفصائل العسكرية كاملة التمثيل في هذا الظهور، وهو أمر تم التعتيم عليه على المستوى الرسمي، ما يُبقي السلطة في حالة مراوغة مستمرة، متجاوزةً الأسئلة الملحّة حول بنيتها الفعلية وتوازناتها الداخلية. وبدلاً من مواجهة هذه الإشكاليات، يُعتمد على إعلاميين هامشيين لتسويق صورةٍ مصطنعة عن الحداثة التي تروّج لها السلطة، والتي تتضمن تقديم نفسها كنظام مدني، والسعي إلى نزع الطابع الميليشياوي عن تشكيلاتها.
هذا الطرح يظل إخراجاً رمزياً أكثر من كونه تحوّلاً جوهرياً، إذ تبقى الهياكل العسكرية والولاءات الفصائلية قائمة خلف المشهد، في ظل غياب أي إعادة هيكلة فعلية تتجاوز الإطار البصري والإعلامي.
تداولت وسائل الإعلام العربية سريعاً، من دون أي تدقيق، إنتاج القبول الإعلامي والتجميل السياسي للحظة حل الفصائل، كما صوّرها الإعلام الرسمي. وبدأ مصطلح جديد بالانتشار لوصف العمليات العسكرية باعتبارها عمليات للجيش الوطني، على رغم معرفة الجميع بأن الفصائل لم تُحلّ فعلياً.
وعلى رغم مظاهر الديكتاتورية الاحتفالية التي سادت في المدن السورية، فإنها لم تكن سوى إعادة إنتاج للحرية السلبية، وتجسيداً لمظاهر تسويق اللاواقع، حيث يتم فرض صورة جديدة لا تمتّ بصلة الى الواقع الفعلي على الأرض.
الرؤوس الحليقة، والبزة الرسمية تصوّر حالة من الاطمئنان المصطنع، لكننا لم نرَ الوجوه. هناك آلية مقصودة لإخفاء وجوه السلطة أو تبديلها بين التلفاز والشارع، حيث لا وجود لذقون على الشاشات، ولا شعر طويل في مشهد يعكس إخراجاً بصرياً ممنهجاً للسلطة الجديدة.
هذا الجانب الصوري الخفي للسلطة ينسجم تماماً مع آليات الميليشيات، حيث يكون العناصر محميين من دون أي التزام قانوني واضح. وقد ظهر ذلك جلياً بعد يومين فقط من إعلان حل الفصائل في حمص وحماة، حيث ارتُكبت جرائم من دون أي مساءلة. وإن كان نموذج العقاب لفلول النظام يُنفَّذ أمام الكاميرا، بالأحذية والعنف الشديد، فإن عقاب مرتكبي الفصائل يُمارَس عبر التلغرام فقط، من دون صورة، في محاولة لإخفاء ديناميات الانتقام الداخلي وإبقاء عمليات التصفيات بعيداً من المشهد العام، ما يؤكد أن السلطة الجديدة لا تسعى إلى العدالة بقدر ما تعيد إنتاج أدوات السيطرة، مع تبديل الوجوه والإخراج البصري.
لكن أي اتفاق على الحل يضعنا في مواجهة مباشرة مع الذهنية الميليشياوية، من دون أي قدرة على المشاركة أو الإدارة، فالولاء داخل الميليشيات مرتبط مباشرة بقائد العملية العسكرية، ما يطرح تساؤلاً جوهرياً: إلى أي مدى يستمر هذا الولاء؟ وهل يتمتع هؤلاء المقاتلون بحصانة مطلقة، ومن هي الجهة التي تراقب أعمالهم؟
الطابع الفردي لعناصر الميليشيات، وصعوبة نقلهم إلى نظام إداري مؤثر عليهم، يزيدان من تعقيد المشهد، بخاصة أن المقاطع التي نراها عن ممارساتهم تشير إلى أن عنفهم لم يعد مجرد وسيلة لتحقيق هدف سياسي أو قانوني، بل أصبح جزءاً من هويتهم الشخصية والجماعية، حيث يتحول “أخذ الحق” إلى مبرر للعنف العشوائي، بما في ذلك عمليات قتل المطلوبين وتعذيبهم.
وكحال كل الميليشيات التي تشعر بالاضطهاد، نتيجة روايات عن تعرّضها لظلم تاريخي، تصبح هذه الجماعات عصية على الاندماج الاجتماعي من دون وجود نظام عدالة قوي، وغياب أي تأقلم مع فكرة الانتقال إلى الدولة. وقد تجسد ذلك في اليوم التالي لحل الفصائل، إذ ظهر تكيّفهم النفسي والسلوكي مع الفوضى عبر استمرار عمليات التعذيب، والقبض على المتهمين من دون أي إجراءات عدالة منظمة، وكأن غياب الفصائل لم يكن سوى تحول في البنية الشكلية، بينما بقي السلوك الفوضوي كما هو، من دون أي تحوّل حقيقي نحو سلطة منظّمة.
5 دقائق لرئيس غير منتخب
كان الظهور الثاني أكثر وضوحاً، ففي اليوم التالي ظهر رئيس الجمهورية السورية غير المنتخب، مقدَّماً بوصفه “الرئيس المختار” من الفصائل العسكرية. لم يتجاوز خطاب أحمد الشرع الخمس دقائق، وعلى رغم المظهر المتواضع، ومحاولة الإحاطة بكل تعقيدات المشهد السوري، إلا أن النظام السياسي الجديد بدا عاجزاً عن تقديم أي مؤشرات ملموسة الى حل القضايا العالقة. لم يكن هناك أي جدول زمني أو التزام واضح ببدء معالجة الأزمات التي ينتظر السوريون حلولها، ما يعكس استمرار إدارة الانتظار السياسي، إذ تُطرح السلطة بوصفها واقعاً ناجزاً، من دون أي آليات تنفيذية لتحقيق التغيير الفعلي.
في كلَي الظهورين، أُرسي عقد اجتماعي قسري مع السلطة الجديدة، مُطعّماً بطابع احتفالي عفوي من دون شك، شارك فيه أشخاص لم يكونوا جزءاً من العقد أصلاً. كانت الطاعة الاجتماعية قائمة على الخوف، لا على أي مستوى من الشرعية السياسية المتعارف عليها. ومع ذلك، فإن لهذه السلطة “ليفثانها الخاص”، المستمد ليس من إرادة شعبية، بل من اللاوعي الجماعي الذي يبحث عن مخلص من سردية مُرعبة للأسد، واعتياد متراكم على الميليشيات التي استحوذت عقليتها على سوريا لأربعة عشر عاماً، ومن حاجة الى التخلص من مشهد يومي من الجريمة، الفوضى، والسرقات. إذ لا يملك الناس أي أمل، إلا بسلطة الأمر الواقع من دون إغفال جذبها الكثير من الناس وحصدها محبتهم.
وهكذا، فإن الليفثان الظاهر ليس سوى كيان وهمي، مصنوع من كرتون، مجرد صورة مفرغة من القوة الحقيقية، تتكئ على الاستعراض أكثر من استنادها إلى أي شرعية حقيقية أو قدرة على فرض النظام. هذا صراعها الذي عليها تجاوزه.
ناهيك بالهيمنة الإلكترونية، التي تتخذ طابعاً فنتازياً، إذ عادت المصطلحات والشعارات والمباركات التي تُشبه مبايعات النظام البائد للأب والابن. عادت معها سلوكيات تُغري السلطة بأن تكون خارج نطاق النقد، إذ يُمنع السوري من التعبير عن اعتراضه بشكل غير مباشر، من خلال إعادة إنتاج مناخ عام يجعل انتقاد النظام أشبه بالمحظور الاجتماعي، وليس مجرد منع سياسي صريح.
“المضافة” عوضاً عن المؤسسة
يظهر في سوريا قمع غير دموي بالتأكيد، لكنه قمع قائم على الإنهاك الاجتماعي والتقييد غير المباشر لإرادة عامة سورية كان يمكن إشراكها بطريقة مختلفة. إنه ممارسة منهجية للإنهاك السياسي، تعتمد أدواته على تكتيكات الغموض، التردد، والإبقاء على الأزمات مفتوحة لفترات ممتدة، وكأن كل أزمة تعيش دورة حياة مدروسة من خمسين يوماً قابلة للتكرار، بخاصة عندما يتعلق الأمر بعمليات القتل التي تمارسها الفصائل المسلّحة.
ما لم نتحدث عن “البداوة السياسية”، فإن تغييب المؤسسات واستبدالها بـ”مضافات” سياسية ولقاءات نُخبوية يجعلان المشهد السياسي أقرب إلى علاقات شخصية غير مؤطرة، فتُفتح القصور والسجون أمام بعض الصحافيين والمؤثرين، في محاولة لإنتاج رمزية تعويضية تُقدّم مظاهر إنسانية استعراضية بدلاً من معالجة القضايا الجوهرية، مثل تنظيم مؤسسات العدالة وفرض آليات شفافية تضمن حماية المشاركة السياسية.
في السياق ذاته، يُستخدم التواضع كأداة سلطوية، إذ تصبح البساطة الظاهرية وسيلة لإخفاء احتكار السلطة بدلاً من أن تكون مؤشراً إلى انفتاح سياسي حقيقي.
يُمارس هذا كله أمام أعين المؤثرين والصحافيين العرب والسوريين، الذين غالباً لا ينتبهون إلى آليات السلطة في إدارة العلاقة معهم، إذ يتم صنع الولاء وإعادة تدويره عبر استقطاب شخصيات إعلامية ومؤثرين بدلاً من الاعتماد على نخب سياسية، ما يجعل حرية الإعلام تتحول إلى جزء من منظومة السلطة ذاتها، عبر احتواء إعلامي استراتيجي مدروس، يهدف إلى جعل الأصوات الناقدة جزءاً من إطار الهيمنة الناعمة بدلاً من أن تكون قوة ضاغطة مستقلة. وبهذا الشكل، يتحول المشهد السياسي إلى مزيج من الهيمنة غير المباشرة، الإخراج الرمزي، وإنتاج الطاعة الإعلامية، إذ يبدو كل شيء وكأنه يتغير، بينما يبقى جوهر السلطة على حاله، معاد إنتاجه في صورٍ أكثر نعومة لكنها ليست أقل قسوة.
درج
———————————————-
عقلانية الشرع/ طارق الحميد
5 فبراير 2025 م
منذ فرار بشار الأسد، ووصول أحمد الشرع إلى دمشق، ثم إعلانه رئيساً، وكل خطاب أو مقابلة صحافية، متلفزة أو مقروءة، قدمها الشرع تُظهر عقلانية لم تعرفها سوريا طوال نصف قرن.
الرئيس الشرع قام بإجراء عدة مقابلات صحافية، غربية وعربية، كلها ذات مضمون، ولم ينتج عنها تكرار، أو عبارات لا معنى لها، كما كان يفعل المجرم الأسد، الذي كان بمقدوره التحدث لثلاث ساعات دون قول شيء.
الرئيس الشرع مثله مثل من يسبح مع أسماك القرش، أو من يسير بدرب كله حقول ألغام، داخلياً وخارجياً، من إيران إلى إسرائيل، ومن لبنان إلى العراق، ومع العرب المتلكئين عن دعم سوريا.
وقد يقول البعض إن السبب في تردد البعض خشيتهم من بعد «الإسلام السياسي» لدى الشرع وأعوانه، لكن الشواهد بمنطقتنا كثيرة حيث تماهى البعض مع «الإخوان المسلمين»، و«حماس»، و«حزب الله»، وغيرهم، بل وقدم مبادرات لاحتوائهم.
ورغم كل هذه المخاطر استطاع الرئيس الشرع التخاطب مع الداخل السوري، ومع السعودية، والأردن، وبالطبع تركيا، وطمأنة العراق، بفيديو مسجل، وكذلك الأوروبيون، ورأينا ما فعله وزير خارجيته في «دافوس»، ويحرص الشرع الآن على فتح صفحة جديدة مع الولايات المتحدة.
عقلانية الشرع تجلت في التعامل، وحتى اللحظة، مع «قسد»، والتجاوب مع انتقادات السوريين حيال قضايا مختلفة استجدت بعد سقوط الأسد، الحكومة والانتخابات، حيث رسم خارطة طريق. وكذلك تصريحاته تجاه إسرائيل لنزع فتيل عربدتها تجاه سوريا الجديدة.
عقلانية الشرع تجلت باختياره السعودية كوجهة أولى لزياراته الخارجية، وبعدها تركيا، مما يعني أنه يدرك لعبة التوازنات، ويريد الحصول على أفضلها، وخصوصاً عندما قال إنه لا يريد معونات خليجية، بل شراكة، وهذه نقطة جوهرية.
هل هذا دعم مفتوح للشرع؟ شيك على بياض؟ لا أخفي دعمي المطلق طوال مشواري الصحافي لسوريا، وقضيتها الجوهرية، وهي سقوط نظام الأسد، لكن هذه ليست عاطفة، ولا ادعاء صحافياً.
هذا الموقف هو انطلاق من مبدأ أساسي وهو أن تكون سوريا عربية، وبعودتها يقطع المد الإيراني، وتصدير الثورة. وبالتالي فلا دعم مطلق لأشخاص، بل لمشروع سياسي ينعكس على أمن منطقتنا، واستقرارها، والحفاظ على نسيجها، ونبذ الطائفية فيها.
وما أظهره الشرع إلى الآن هو عقلانية لم يظهرها بشار الأسد، ولا «حماس»، ولا «حزب الله»، ولا حتى معارضوه في لبنان. ولم نرها من أشخاص مدعين.
وعليه، ليس من الحكمة تضييع الفرصة التاريخية بسوريا، ولا يجب أن تتنافس المنطقة على النفوذ هناك، وإنما على الاستثمار، وضمانة أن تكون دمشق ذات دور محوري بالاستقرار، وليس المؤامرات. ويجب عدم تكرار أخطاء التنافس بلبنان، وتلك قصة تطول.
أضاع البعض بمنطقتنا عمراً ومقدرات لإقناع الأسد بوقف العنف، والبعد عن إيران، واليوم سوريا بعيدة كل البعد عن إيران، مع انحسار النفوذ الروسي، وأقرب ما تكون للعرب، وإن بات لتركيا نفوذ فيها، وأنقرة اليوم على مسافة جيدة مع دولنا.
الواجب اليوم دعم عقلانية الشرع واستثمارها، وحتى يثبت العكس، فنحن أمام فرصة انتظرناها، وقبلنا السوريون، منذ قرابة الخمسين عاماً.
الشرق الأوسط»
————————–
قرارات “الشرعية الثورية” وانتظار “الشرعية الشعبية”/ رفيق خوري
العمل في سوريا الجديدة يدار على مسارين أولهما الاتصالات مع الشرع والثاني العمل على الأرض
الأربعاء 5 فبراير 2025
لا مجال لاختصار السوريين الذين تظاهروا في الشارع وقاتلوا وتعرضوا للسجن والتعذيب أو المنفي والذين لجأوا إلى الخارج والذين صمتوا خوفاً من القتل في الفصائل التي كانت محظوظة بنيل فرصة الإجهاز على النظام في أيامه الأخيرة.
كان رئيس الوزراء البريطاني الراحل هارولد ويلسون يقول إن “أسبوعاً في السياسة زمن طويل”، لكن المسافة الزمنية لانتظارات السوريين بعد السقوط الصامت لنظام الأسد مرشحة لأن تطول إلى ثلاثة أو أربعة أعوام، ولا شيء يوازي الوضوح سوى الغموض على الطريق بين الماضي والحاضر والمستقبل، فالكل يطرح السؤال التقليدي: سوريا إلى أين؟ وعلى الكل أن يطرح على نفسه السؤال الآخر، أين سوريا الجديدة على خريطة الصراع الجيو-سياسي عشية البحث عن نظام أمني إقليمي محروس دولياً؟
وليس ما رآه بعضهم من المفاجآت سوى ما كان، بطبائع الأمور، من التوقعات بعد اليوم الأول للثورات، فالسوريون انتظروا وعد “المؤتمر الوطني” فجاءهم عهد “مؤتمر النصر”، وتوقعوا المبادرة إلى “إعلان دستوري” يرسم الإطار العام لعمل السلطات ويحدد الضوابط للمسؤولين فجاءتهم قرارات أكبر مما أعلنه بول بريمر في العراق بعد إسقاط نظام صدام حسين، وه شيء بدا مثل إلقاء قنبلة فراغية على ما كان للنظام من مؤسسات، وتجميد العمل بالدستور وحل مجلس الشعب وحل حزب البعث وأحزاب الجبهة الوطنية وحل الجيش السوري وحل الأجهزة الأمنية وتسمية أحمد الشرع رئيساً انتقالياً لسوريا، ولا إعلان دستورياً يملأ الفراغ، وسلطة مطلقة، وبعضهم يقول إن نظام الأسد كان عملياً نوعاً من الفراغ عبر إلغاء الشعب في سوريا التي تتقاسم أرضها خمسة جيوش خارجية، لكن مؤسسات سوريا الجديدة لم تكتمل في غياب المؤسسات المحلولة، ومئات آلاف الذين صاروا خارج الخدمة ليسوا أرقاماً بل أناس بينهم أصحاب خبرة وبينهم مرتكبو جرائم وتعذيب، وبينهم من يعرف كيف يهدد الأمن، وكلهم في حاجة إلى تسوية أوضاع.
العمل في سوريا الجديدة يدار على مسارين في وقت واحد، مسار الاتصالات العربية والإقليمية والدولية مع الرئيس أحمد الشرع وبعض الوزراء، إذ يسمع السوريون وضيوف دمشق كلاماً يبعث على الاطمئنان إلى المشاركة في مصير البلد ومستقبله، ومسار العمل على الأرض حيث الإمساك بكل مفاصل السلطة على أيدي الفصائل في ولاية إدلب، فماذا يبقى للحكومة الشاملة الانتقالية؟
صحيح أن الثورات تعتمد دائماً على “الشرعية الثورية” التي تؤخذ السلطات باسمها ولو من دون دستور وقانون وقضاء وعدالة انتقالية لا انتقامية، لكن الصحيح أيضاً أن الثورة في سوريا ليست فقط ما حدث خلال الأيام الـ 10 الأخيرة التي سقط فيها النظام، بل هي أيضاً ما جرى في أعوام منذ بداية الثورة عام 2011 في درعا على أيدي أطفال المدرسة الذين كتبوا على جدرانها “إجاك الدور يا دكتور”، وجرى تعذيبهم على يد ابن خالة بشار عاطف نجيب الذي جرى اعتقاله أخيراً.
والصحيح أيضاً وأيضاً أن “الشرعية الثورية” لا تكتمل إلا بـ “الشرعية الشعبية” التي هي أبعد حتى من شرعية المؤتمر الوطني المفترض عقده بعد أسابيع، والمطلوب منه اتخاذ قرارات البناء الإيجابي لسوريا الجديدة بعد قرارات الهدم الطبيعي للمؤسسات القديمة على يد مؤتمر النصر، فلا يمكن اختصار حتى الفصائل المسلحة بـ 18 فصيلاً مسلحاً ضمهم “مؤتمر النصر” في غياب فصائل الشمال والجنوب وسواها، ولا مجال لاختصار السوريين الذين تظاهروا في الشارع وقاتلوا وتعرضوا للسجن والتعذيب أو المنفى والذين لجأوا إلى الخارج والذين صمتوا خوفاً من القتل، بالفصائل التي كانت محظوظة بنيل فرصة الإجهاز على النظام خلال أيامه الأخيرة، فكله كان التراكم الكمي البطي الذي أدى إلى تحول كيفي سريع، بحسب الديالكتيك الماركسي، ذلك أن ما ضاعف رصيد أحمد الشرع ورفاقه هو ارتياح الناس للخلاص من نظام سلطوي قاسٍ، لكن هذا الرأسمال يحتاج إلى زيادته عبر قيام نظام جديد قائم على الحريات والعدالة الاجتماعية، وهو معرض للتآكل إذا بدا النظام الجديد نسخة أخرى ولو معاكسة من النظام القديم، أي سلطات مطلقة بلا حريات، وحتى الحريات السياسية، على أهميتها، فإنها تبقى قاصرة من دون الحريات الاجتماعية، فالتزمت الرسمي في حياة الناس مشكلة كبيرة، ولا معنى لمجتمع رجال من دون مشاركة النساء في الحياة الاجتماعية والنشاط السياسي والثقافي والنقابي، فضلاً عن أن التنوع السوري الذي هو قوة كبيرة في حد ذاته، لم يبق فقط تنوعاً إثنياً وطائفياً وفكرياً، بل أضيف إليه تنوع آخر عبر الجيل الجديد الذي ولد في البلدان العربية والأوروبية خلال اللجوء، وصار في سن الشباب حاملاً أفكاراً جديدة يجب أن تُغني التنوع السوري، وإذا كان المؤرخ البريطاني أريك هو بسباون قد تحدث عن “اختراع التقاليد”، فإن سوريا التي عجزت الأنظمة السلطوية عن تغيير تقاليدها الاجتماعية الجميلة ليست في حاجة إلى اختراع تقاليد، وخصوصاً على أيدي متشددين.
يقول ألكسيس دو توكفيل “كلما بدأ عهد جديد سنشاهد في فرنسا دور الحكومة، وفي بريطانيا دور حاكم عظيم، وفي أميركا نتأكد من فن الترابط”، والتحدي في سوريا الجديدة هو الرهان على ما كان فيها من فن الترابط بين الناس.
—————————–
ثلاثة سيناريوهات أمام ” قوات سوريا الديمقراطية” بعد سقوط الأسد/ جيمس جيفري
أحد أبرز الأسئلة المطروحة على الساحة اليوم بالنسبة لمستقبل سوريا هو: ما دور “قوات سوريا الديمقراطية” (قسد)؟
آخر تحديث 05 فبراير 2025
أحد أبرز الأسئلة المطروحة على الساحة اليوم بالنسبة لمستقبل سوريا هو ما دور قوات سوريا الديمقراطية (قسد). فعلى مدى عقد من الزمن، نجح التحالف بين الولايات المتحدة و”قوات سوريا الديمقراطية” (التي تقودها في الواقع “وحدات حماية الشعب” الكردية، وهي الجناح المسلح للفرع السوري من “حزب العمال الكردستاني”) في هزيمة “داعش” كـ”دويلة” إقليمية، ولكنه سمح لـ”قوات سوريا الديمقراطية” تحت مظلة أمنية أميركية بتطوير دويلتها الخاصة في شمال شرقي سوريا.
وقد اضطلعت هذه “الدويلة” المزعومة الناشئة بإدارة شؤون ملايين السوريين، والسيطرة على أكثر من 20 في المئة من مساحة البلاد، إلى جانب معظم ثرواتها النفطية وأراضيها الزراعية، ما حرم نظام الأسد وحلفاءه الإيرانيين والروس من النفاذ إلى تلك المنطقة الاستراتيجية. ومع ذلك، فإن هذا النجاح، باعتبار “قوات سوريا الديمقراطية” امتدادا لـ”حزب العمال الكردستاني”، أوقعها هي ورعاتها الأميركيين في نزاعات متكررة مع تركيا. وقد شكّلت إدارة هذا التناقض المحوري في السياسة الأميركية تجاه سوريا أحد المتغيرات الأكثر تعقيدا، حتى إنها هيمنت في بعض الأحيان على التوجهات الأميركية العامة في الشرق الأوسط خلال الفترة الممتدة بين 2016 و2024.
وأدى التحول الذي شهدته سوريا في ديسمبر/كانون الأول 2024، إلى القضاء على النفوذ الإيراني والروسي في سوريا تقريبا وتشكيل حكومة في دمشق ترغب في التعاون معها كل من تركيا والولايات المتحدة وأوروبا والدول العربية. وهو ما يعيد ترتيب أدوار “قوات سوريا الديمقراطية” وواشنطن في سوريا بشكل كلي، ويؤثر في الوقت نفسه بشكل خاص على “قوات سوريا الديمقراطية” بقوة.
اليوم تضعنا هذه الأحداث أمام ثلاثة سيناريوهات رئيسة لمستقبل “قوات سوريا الديمقراطية”: استمرار وضعها المستقل الحالي وشراكتها مع الولايات المتحدة، أو صدام كبير مع تركيا بمساعدة الولايات المتحدة العالقة في المنتصف بين حليفين هامين بشكل أو بآخر، أو دمج “قوات سوريا الديمقراطية” كقوة عسكرية وكدويلة إقليمية في الدولة الوطنية الجديدة في دمشق التي تسيطر عليها “هيئة تحرير الشام” (هتش).
ثمة جهات فاعلة مختلفة تؤثر على المسار الذي سوف تسلكه “قوات سوريا الديمقراطية”، بدءا من قيادة القوات نفسها، ومقر “حزب العمال الكردستاني” في العراق، وصولا إلى تركيا، وانتهاء بحكومة دمشق الجديدة. غير أن اللاعب الخارجي الأكثر أهمية هو إدارة ترمب. ونظرا لنقص الخبرة مع الإدارة الجديدة لترمب بوصفه رئيس الولايات المتحدة السابع والأربعين، ونهجه المتناقض في كثير من الأحيان تجاه سوريا خلال ولايته السابقة، فقد يكون التنبؤ بنهج محدد أمرا صعبا للغاية. ومع ذلك، ينبغي لنا أن نفترض أن واشنطن سوف تعمل على تعزيز مصالحها العديدة المتعلقة بسوريا، وهي مصالح يمكن تحديدها.
وقبل المضي قدما، من الأهمية بمكان أن نستعرض الهواجس الأمنية التي تلقي بظلالها على المشهد برمته. ذلك أن الحفاظ على الموقف الضعيف الذي تجد إيران نفسها فيه اليوم قد يكون الأكثر أهمية من بين تلك الهواجس التي تشمل أيضا الحد من أي نفوذ باقٍ لروسيا في سوريا، واحتواء تنظيم الدولة الإسلامية، والقضاء عليه بشكل كلي إن أمكن. كما أن الحفاظ على علاقات قوية مع تركيا هو أمر حيوي، نظرا لدورها في سوريا والشرق الأوسط عموما، وكذلك دورها في حرب أوكرانيا.
ويعتبر تطوير العلاقات مع حكومة دمشق غاية في حد ذاته نظرا لأهمية سوريا، كما أنه عامل رئيس يساهم في تحقيق النجاح فيما يخص المصالح الأمنية المذكورة أعلاه. كما يمكن للحكومة العاملة أن تهيئ الظروف اللازمة كي يتمكن اثنا عشر مليون لاجئ ونازح من العودة إلى ديارهم، وهو ما يقلص العبء المالي الذي تتحمله الولايات المتحدة والجهات المانحة الأخرى بشكل كبير.
إن المسار المحتمل الأول، وهو استمرار الولايات المتحدة في علاقتها الحالية مع “قوات سوريا الديمقراطية”، ومع احتفاظها بالسيطرة الفعلية على الشمال الشرقي، من شأنه بالتأكيد أن يسمح باستمرار العمليات ضد “داعش”. لكن من الأهمية بمكان أن ندرك أغراض وحدود تلك العمليات. فهي ليست مصممة للقضاء على آخر فلول “داعش” المتبقية، خاصة في عمق البادية جنوب الفرات البعيدة حتى الآن عن متناول “قوات سوريا الديمقراطية”. فبالإضافة إلى إحكام السيطرة على آلاف السجناء من “داعش” وعشرات الآلاف من أفراد عائلاتهم الذين يشكلون خطرا محتملا، تركز العمليات ضد “داعش” التي تشنها “قوات سوريا الديمقراطية” بدعم الولايات المتحدة على مكافحة التمرد، لمنع “داعش” من التسلل إلى المجتمعات العربية على طول نهر الفرات وفي عمق شمال شرقي سوريا.
ويشمل الجهد المشترك أيضا قيام كلا الشريكين بتطوير المعلومات الاستخباراتية عن “داعش” في البادية والمناطق الأخرى البعيدة عن الشمال الشرقي، ما يسمح بتنفيذ ضربات أميركية في بعض الأحيان.
وهذا العمل مهم في مكافحة الإرهاب نظرا لإمكانية التنظيم في إعادة بناء نفسه، ولكنه لن يجتث “داعش” من قلب المسرح السوري. وسيتطلب ذلك: أولا حكومة مركزية سورية لا تقمع ولا تشن حربا على الأغلبية العربية السنية التي يستمد التنظيم دعمه منها مثلما فعل الأسد، بل تعمل معها. وثانيا عمليات مكافحة إرهاب فعالة ضد “داعش” في جميع أنحاء سوريا بما في ذلك البادية.
وقد تكون الحكومة المركزية بقيادة “هيئة تحرير الشام” هي القوة الوحيدة القادرة نظريا على الاضطلاع بهذه المهمة. غير أن استمرار الدعم الأميركي لـ”قوات سوريا الديمقراطية” من شأنه أن يسبب خلافا بين الولايات المتحدة ودمشق، التي تسعى بشكل مفهوم إلى دولة موحدة. كما أن التعامل مع كيان شبه مستقل تدعمه الولايات المتحدة سوف يستهلك موارد دمشق، ويشجع مناطق أخرى على الخروج عن سيطرتها، ما قد يقضي على أولوية القتال ضد “داعش”. وهو ما يعني أن الولايات المتحدة ستعرقل إنشاء دولة سورية قوية موحدة ليس بهدف هزيمة “داعش” بحلول وقت محدد، وإنما لمواصلة حملة مكافحة التمرد دون نهاية واضحة.
أما المسار الثاني الذي قد تسلكه “قوات سوريا الديمقراطية” فقد يفضي إلى الانهيار التام بسبب هجوم تركي في عمق شمال شرقي سوريا لإضعاف سيطرة تلك القوات على المدنيين، وبشكل خاص على المجتمعات العربية. وهو ما سيقف حائلا أمام جهود مكافحة “داعش” ويجبر الولايات المتحدة على الاختيار بين حليفين قيمين. ومثل هذا التطور قد يؤدي إلى دوامة من الانهيارات والتداعيات التي لا يمكن إيقافها، والتي من المرجح أن تشمل تقليصا حادا للجهود الرامية لمكافحة “داعش” في الشمال الشرقي، وانقساما حادا بين واشنطن وأنقرة، وتآكلا خطيرا للثقة بين القوات الأميركية و”قوات سوريا الديمقراطية”. ويبدو جليا أن هذا المسار هو الأكثر سلبية لكافة الأطراف المعنية، إلا أنه قد يكون الأكثر ترجيحا إذا لم تتحرك “قوات سوريا الديمقراطية” وأنقرة وواشنطن ودمشق بسرعة وحكمة في الأسابيع المقبلة.
أما المسار الثالث للمستقبل فقد يكون هو الأفضل تقريبا وفقا لمختلف وجهات النظر، ولكنه سيتطلب أيضا بذل جهود جبارة من قبل جميع الأطراف- الاندماج التدريجي ضمن سوريا الموحدة لفرعي “حزب العمال الكردستاني” اللذين شكلا ركيزة “قوات سوريا الديمقراطية”، وهما “وحدات حماية الشعب” المسلحة، وحزب “الاتحاد الديمقراطي” السياسي. حيث تتولى في الوقت نفسه “وحدات حماية الشعب” دورا داخل الجيش السوري وآخر كقوات محلية، ويقوم حزب “الاتحاد الديمقراطي” بتشكيل حزب سياسي، على غرار حزب “الشعوب الديمقراطي” المتحالف مع حزب “العمال الكردستاني” والذي يمكن القول إنه موجود الآن في البرلمان التركي.
ومن ناحية أخرى، فإن مثل هذا التطور سوف يشجع على التقارب المحتمل بين أنقرة وأعضاء من حزب “العمال الكردستاني” بمن فيهم زعيمه أوجلان، وهو ما يعزز عملية واعدة بدأت بالتبلور للتو.
إن الخطوات الأولى معروفة جيدا، وتؤيدها بدرجات متفاوتة حكومة دمشق وواشنطن وأنقرة: تتخلى “قوات سوريا الديمقراطية” عن كبار قادتها من غير السوريين في حزب “العمال الكردستاني”، وتنسحب من المناطق ذات الأغلبية العربية في الشمال الشرقي، وتسلم البنية التحتية الرئيسة للنفط إلى الحكومة المركزية. وفي المقابل، تتوقف بشكل كلي العمليات العسكرية المحدودة ضد “قوات سوريا الديمقراطية” التي تنفذها وحدات جوية تركية وقوات الجيش الوطني السوري المعارضة المتحالفة مع تركيا (لن تقبل تركيا مصطلح “وقف إطلاق النار”)، وتتوصل الأطراف المعنية إلى اتفاق لتقاسم العائدات بين دمشق والإدارة المدنية بقيادة حزب “الاتحاد الديمقراطي”، لتعويض تلك الإدارة جزئيا عن تشغيل وحراسة المرافق النفطية.
وبمرور الوقت، قد يتمكن قادة “قوات سوريا الديمقراطية” من التفاوض على ترتيبات مماثلة لتلك التي تفاوض عليها زعماء أكراد العراق مع بغداد عند وضع الدستور العراقي عام 2005، ولكنها محدودة أكثر وذات طابع غير رسمي: مثل الحصول على حكم ذاتي محلي على الأقل (ربما لا يشمل الأكراد فقط ولكن المجتمعات المحلية في جميع أنحاء البلاد)، ودمج بعض وحدات “قوات سوريا الديمقراطية” الأكثر قدرة في الجيش السوري الجديد، كي تكون قوة مناهضة لـ”داعش” على وجه التحديد، على غرار تكليف بعض ألوية البشمركة بالجيش العراقي. ويمكن تكليف “قوات سوريا الديمقراطية” الأخرى بمهام الشرطة المحلية والحرس الوطني، مع استخدام الأسلحة الخفيفة فقط، في حين تُسرّح العناصر الأخرى.
وهنا سيكون لدمشق وأنقرة وواشنطن رأي في هذا الشأن. ويمكن للولايات المتحدة تحويل وجودها العسكري في الشمال الشرقي (والتنف) إلى عمليات استشارية وعمليات مكافحة للإرهاب لا تحصر جهودها في الشمال الشرقي وحسب وإنما تعمل مع حكومة دمشق ضد “داعش” أيضا، مع تعزيز الأمن الداخلي وظهور جيش سوري حديث في نهاية المطاف.
نقف اليوم على أعتاب مرحلة حاسمة، حيث سيتحدد في سوريا مستقبل الشرق الأوسط، ومستقبل التهديدات التي عاثت فيه فسادا على مدار العشرين عاما الماضية، تلك التهديدات التي تمثلت في الإرهاب الإسلامي والتوسع الإيراني. ومما لا شك فيه أن الوصول إلى نتائج إيجابية سينقل المنطقة بأسرها نحو مستقبل أفضل، وقد ينهي دورات العنف التي نشهدها بين الحين والآخر. وعلى الرغم من أن التوصل إلى حل لوضع “قوات سوريا الديمقراطية” في حد ذاته لن يضمن النجاح للمشروع السوري الأكبر، فإن الفشل في دمجها ودمج الأقلية الكردية بشكل عام في سوريا الجديدة سيؤدي بالتأكيد إلى وأد هذا المشروع في مهده، تاركا المنطقة عُرضة لدورات جديدة من الصراع وعدم الاستقرار.
المجلة
———————————–
زيارة الشرع لتركيا… استشراف المستقبل وتعزيز دائرة الحلفاء/ عمر اونهون
البعد الاستراتيجي التركي لسوريا
05 فبراير 2025
التقى الرئيس السوري المؤقت أحمد الشرع بالرئيس التركي رجب طيب أردوغان في أنقرة خلال زيارته الخارجية الثانية.
وقد وصل الشرع ووفده إلى أنقرة قادمين من دمشق على متن إحدى طائرات الرئاسة التركية.وعقد الزعيمان اجتماعا ثنائيا في القصر الرئاسي، تلاه اجتماع موسع بين الوفود.وكان المؤتمر الصحافي المشترك مقتضبا، ولم يُسمح بطرح أسئلة.
وتصدرت قضايا الأمن والاقتصاد جدول المباحثات، حيث أشار الرئيس أردوغان إلى أنهما ناقشا “الخطوات الواجب اتخاذها لمواجهة تنظيم (وحدات حماية الشعب) الإرهابي الانفصالي، التابع لـ(حزب العمال الكردستاني)، والذي يحتل شمال شرقي سوريا”. مؤكدا أن تركيا ستدعم سوريا في مواجهة هذا التنظيم، كما ستقف إلى جانبها في السيطرة على المعسكرات التي يُحتجز فيها مقاتلو تنظيم “داعش”.
وعلى الصعيد الاقتصادي، شدد الرئيس أردوغان على استعداد تركيا لدعم إعادة إعمار سوريا، داعيا العالم العربي والإسلامي إلى تقديم الدعم المادي والمعنوي لها. كما حث على ضرورة رفع العقوبات المفروضة.
من جانبه، كان أحمد الشرع مقتضبا في تصريحاته، لكنه أعرب عن تقديره لتركيا، مؤكدا رغبته في “تحويل العلاقات مع تركيا إلى تعاون استراتيجي عميق في كل المجالات”.
وأشار الشرع إلى أنه ناقش مع أردوغان التهديدات القادمة من شمال سوريا وشرقها. وكان لافتا أنه دعا المجتمع الدولي إلى الضغط على إسرائيل للعودة إلى حدود عام 1967.
يعود تاريخ علاقة أحمد الشرع بتركيا إلى الفترة التي كان يُعرف فيها باسمه الحركي أبو محمد الجولاني،حينما كان يرتدي الزي العسكري.
وبحكم موقعها الجغرافي، شكلت تركيا البوابة الرئيسة لـ”هيئة تحرير الشام” إلى العالم الخارجي، ومن دونها كان استمرار الهيئة أمرا بالغ الصعوبة.
يدين أحمد الشرع، بشكل أو بآخر، بالكثير لتركيا، لكن إلى جانب ذلك، هناك مصالح وهواجس مشتركة تحفز التعاون بين الجانبين.فبفضل موقعها الجغرافي القريب وميزاتها الاقتصادية والتجارية، ستؤدي تركيا دورا محوريا في تعافي سوريا وإعادة إعمارها. وإلى جانب كونها المورد الرئيس لسوريا في المجال التجاري، فإن خبرتها الواسعة في قطاع البناء ستوفر فرصا إضافية لدعم عملية إعادة الإعمار.
من ناحية أخرى، وباعتبار سوريا جزءا من العالم العربي، ومع سعي الرئيس السوري أحمد الشرع للحصول على دعم مالي لإعادة الإعمار، لا سيما من دول الخليج، فإنه يحرص على تجنب أي خطوات قد تثير حساسيات هذه الدول أو تؤثر على علاقاته معها.
وفي هذا السياق، تجدر الإشارة إلى أن أول زيارة خارجية قام بها الشرع بصفته رئيسا مؤقتا كانت قبل يومين إلى الرياض، التي تُعد مركز الثقل في العالم العربي. كما أن أول زعيم أجنبي استضافه في دمشق كان أمير قطر، الشيخ تميم بن حمد آل ثاني.
وعلى الرغم من أن مصر والإمارات، وهما من القوى العربية الكبرى، غير مرتاحتين لخلفية أحمد الشرع و”هيئة تحرير الشام”، فإنهما لا تتخذان موقفا سلبيا علنيا تجاهه.
وبالرغم من سقوط نظام الأسد، فإن الكثير من العوامل التي أدت إلى اندلاع الأزمة في عام 2011 وما تبعها من تطورات لا تزال قائمة. وتأتي الكراهية الطائفية والرغبة في الانتقام، إلى جانب الأزمات الاقتصادية، على رأس التحديات الأكثر خطورة التي تواجه سوريا.
ويعمل أحمد الشرع وفريقه على الحفاظ على الأمن، وفي الوقت ذاته، يسعون إلى تأسيس نظام جديد. فقد جرى تفكيك المؤسسات الرئيسة لنظام الأسد، بما في ذلك الجيش والأجهزة الأمنية ومجلس الشعب وحزب “البعث” و”الجبهة الوطنية التقدمية”، إلى جانب إلغاء الدستور.
وفي هذا الإطار، أعلن الشرع عن خارطة طريق لإعادة بناء النظام والمؤسسات، تتضمن تشكيل حكومة انتقالية جامعة، وصياغة دستور جديد، وإجراء انتخابات حرة.
ومع ذلك، لم يجر تحديد أي جداول زمنية لهذه الخطوات، وسيجري تنفيذ جميع الإجراءات من خلال لجان يعين أعضاءها الرئيس المؤقت أحمد الشرع. وقد أثار هذا النهج في إدارة المرحلة الانتقالية مخاوف وانتقادات متعددة.
وهناك مقربون من أحمد الشرع يصفونه بأنه رجل طموح سياسيا، يتمتع بمرونة وقدرة على التعامل ببرغماتية. كما يشيرون إلى استعداده للتخلص من أي شخص يعتبره عبئا، بغض النظر عن العلاقات السابقة.
ويتولى أحمد الشرع قيادة مرحلة انتقالية سبق أن صرح بأنها قد تستمر ما بين أربع إلى خمس سنوات. وخلال هذه الفترة، سيكون أمامه خياران: إما تأسيس نظام يحترم الحريات ويستند إلى إرادة الشعب في اختيار من يحكمه، أو إعادة إنتاج نسخة خاصة به من نظام الأسد.
وتبدو تصريحات الشرع بشأن مستقبل البلاد واقعية وإيجابية، لكنها تظل رهينة التنفيذ. ووحده الوقت سيكشف مدى جدية التزامه بما يعلنه، ومدى تطابق أقواله مع أفعاله.
إحدى القضايا الأكثر أهمية في عملية بناء سوريا الجديدة هي مصير الأكراد السوريين، الذين يُقدر عددهم بما يتراوح بين مليونين وثلاثة ملايين نسمة. فعلى مدى عقود، عانى الأكراد من القمع في ظل حكم “البعث” ونظام الأسد، حيث حُرم عدد كبير منهم من الجنسية السورية، بل وحتى من الحصول على بطاقة هوية.
ومع اندلاع الأزمة عام 2011، أسست الجماعات الكردية المتأثرة بفكر عبدالله أوجلان، المسجون حاليا في تركيا مدى الحياة، قواتها المسلحة، ممثلة في “وحدات حماية الشعب” (YPG)، التي تلقت دعما عبر برامج التدريب والتسليح الأميركية.
وتمكنت “وحدات حماية الشعب”من فرض سيطرتها على مساحات واسعة من الأراضي السورية، حيث تدير حاليا نحو 30في المئة من البلاد، وتسعى إلى الحفاظ على المكاسب التي حققتها خلال الحرب ضمن إطار “سوريا الجديدة”.
ورغم أن مظلوم عبدي، قائد “وحدات حماية الشعب”، أكد أنهم لا يعتزمون تقسيم سوريا وأنهم ملتزمون بوحدة أراضيها، فإن التصريحات والوعود التي تُطلق في ظل الأوضاع الراهنة لا تمثل ضمانة أكيدة على المدى المتوسط أو البعيد.
وقد أجرت “هيئة تحرير الشام”و”وحدات حماية الشعب”مفاوضات حول شكل النظام الإداري الجديد في سوريا، ومستقبل الوحدات، وتقاسم عائدات إنتاج النفط، إلا أن هذه المحادثات انتهت دون التوصل إلى اتفاق.
وفي الوقت الحالي، تنتشر الفصائل السورية المدعومة من تركيابالقرب من المناطق الخاضعة لسيطرة الوحدات الكردية، فيما تشهد بعض هذه المناطق اشتباكات متقطعة بين الطرفين، خاصة في محيط سد تشرين.
وترى تركيافي وجود “وحدات حماية الشعب”على حدودها تهديدا مباشرا لأمنها القومي، وتعتبر أن ما يُعرف بـعملية المصالحة، التي أطلقها مؤخرا أقرب حلفاء الرئيس رجب طيب أردوغان، دولت بهجلي، ومستقبل الأكراد في سوريا، مسألتين مترابطتين.
وتسعى أنقرة إلى تقليص نفوذ “وحدات حماية الشعب”إلى الحد الذي يؤدي إلى إنهائها تماما، لكن آلية تحقيق ذلك لا تزال غير واضحة.
وفي هذا السياق، طالب وزير الخارجية التركي بضرورة خروج المقاتلين الأجانب المنتمين لـ”الوحدات”، أي أولئك الذين انضموا إليها من تركيا وإيران والعراق، من سوريا، إلى جانب مغادرة القيادات العلياللمنظمة، حتى وإن كانوا سوريين.إلا أن الوزير لم يحدد الوجهة التي يُفترض أن يتجهوا إليها، سواء كانت العراق، أو الولايات المتحدة، أو أي مكان آخر.
وفي هذه المرحلة، على الأقل، تتقاطع مواقف تركياو “هيئة تحرير الشام”بشأن “وحدات حماية الشعب”.ففي خطابه بتاريخ 30 ديسمبر/كانون الأول، أكد أحمد الشرعأن إحدى أولوياته ستكون “استكمال وحدة الأراضي السورية بالكامل، وفرض سيادتها تحت سلطة واحدة وعلى أرض واحدة”،في رسالة واضحة تفيد بعدم استعداده للرضوخ لمطالب “وحدات حماية الشعب” الكردية.
ويشكل العامل الأميركي عنصرا محوريا في هذه المعادلة المعقدة. فرغم ميل دونالد ترمبإلى تجنب التورط في قضايا خارجية معقدة ومكلفة، فإن الولايات المتحدةلا تزال منخرطة في المشهد السوري، ساعية إلى تحقيق توازن دقيقبين تهدئة تركيا، حليفها المهمَل في “الناتو”، قدر الإمكان، وحماية استثماراتها وشريكها المحلي، “وحدات حماية الشعب”. إلى جانب ذلك، تعمل أميركا على توجيه “هيئة تحرير الشام”نحو بناء نظام في سوريا يمكن للولايات المتحدة التكيف معه.
المجلة
———————————-
إلى أين وصلت إعادة هيكلة وزارة الإعلام؟: اختبارات وتعيينات جديدة وإجازات مدفوعة لمدة ثلاثة أشهر/ محي الدين عمّورة
05-02-2025
اقتربنا من شهرين على سوريا الجديدة، لكنّ معظم الوزارات ومؤسسات الدولة لم تعد تماماً إلى عملها، ومن بينها وزارة الإعلام التي ما تزال تعيش حالةً من الضبابية وعدم الاستقرار. منذ اليوم الأول لتشكيل حكومة محمد البشير، سُمّي محمد العمر وزيراً للإعلام، وهو من مواليد محافظة إدلب عام 1985، يحمل إجازةً في العلوم السياسية وعَملَ بين عامي 2012 و2019 صحفياً يغطي المعارك في شمال سوريا. وظهر وزير الإعلام في عددٍ من اللقاءات الإعلامية مع وسائل إعلام عربية وغربية تحدّث فيها عن الإعلام السوري قبل وبعد سقوط النظام، وعن رؤية الحكومة الجديدة حياله في المرحلة المقبلة، ومن ضمنها لقاء أجراه مع قناة الجزيرة القطرية، تحدّثَ فيه عن الإعلام بشكل عام، وخصَّ فيه الإعلاميين المُنشقين وأولئك الذين عملوا في وسائل إعلام النظام السابق، وأشار إلى أن الوزارة أعادت تفعيل وكالة الأنباء السورية (سانا) لتكون مرجعاً موثوقاً للحصول على الأخبار الرسمية، وكذلك الصفحات الرسمية للجهات العامة.
يعتقد الوزير العمر أنه من المبكر الحديث عن إعادة هيكلة الأجسام الصحفية، موضحاً أن الوزارة تعمل حالياً على وضع رؤيةٍ إعلاميةٍ شاملة، تجمع مختلف المؤسسات الصحفية تحت مظلّةٍ واحدةٍ تُعبّر عن قيم الحرية والتغيير في سوريا الجديدة. وقد خصت وزارة الإعلام الإعلاميين المنشقين عن النظام برابطٍ إلكتروني يمكن من خلاله تقديم معلوماتهم الشخصية من أجل العودة إلى العمل في المؤسسات الإعلامية الرسمية. وفي ما يتعلق بالصفحات الرسمية التي تحدّث الوزير عن إعادة تفعيلها، فهي على وسائل التواصل الاجتماعي، أما المواقع الإلكترونية الرسمية لمعظم الوزارات فما زالت متوقفةً عن العمل، ومنها موقع وزارة الإعلام. وكان وزير الإعلام قد اصطحب عدداً من الإعلاميين الشباب الذين كانوا يعملون في وسائل إعلامية مختلفة في إدلب، وأسند لهم مهمة الإشراف على جميع الوسائل الإعلامية، مع الإبقاء على معظم المدراء الذين كانوا يمارسون عملهم أيام النظام البائد، والذين بدأت عملية تغييرهم تباعاً وبحسب الضرورة.
الهيئة العامة للإذاعة والتلفزيون
يضمّ هذا المبنى الذي يقع في ساحة الأمويين عدة قنوات تلفزيونية: السورية، ودراما، والمحلية، ونور الشام التي تتبع لوزارة الأوقاف، أما قناة الإخبارية فقد اتّخذت مقراً لها في مبنى كلية الإعلام منذ سنوات، بينما يقع مقر قناة التربوية التابعة لوزاة التربية بالقرب من فندق الشام. وفي الهيئة أيضاً ثلاث إذاعات رسمية: دمشق، وصوت الشباب، وسوريانا. وكانت صدمة القادمين الجُدد إلى مبنى الهيئة كبيرةً بسبب حجم الفساد والسرقات والترهُّل الإداري والإعلامي، عدا عن أجهزة البث التلفزيوني المتهالكة وخروج الكثير منها عن الخدمة. ويصل عدد العاملين في الهيئة، بما في ذلك المراكز التلفزيونية والإذاعية المنتشرة في المحافظات، إلى نحو 7 آلاف موظفٍ وموظفة، يعمل منهم فعلياً عددٌ لا يتجاوز 3 آلاف، والبقية مجرد أرقام يتقاضون الرواتب دون عمل، وحتى الذين يعملون يكتفون بيومٍ أو يومين في الأسبوع في أحسن الأحوال، باستثناء عددٍ قليلٍ يلتزمون بدوامٍ متواصل. ويعود سبب قلة الدوام إلى تدنّي مستوى الأجور، لذا يتّجه معظم العاملين لاستثمار خبراتهم خارج المبنى بحثاً عن دخلٍ إضافي يُحسّن من وضعهم المعيشي، وهو ما كان مُتساهلاً معه لمَن يملك الواسطة حتى لو كان يعمل بدوامٍ كامل.
تواصلت إدارة غرفة عملية ردع العدوان مع عددٍ من العاملين في الإذاعة والتلفزيون قبل أيامٍ من سقوط نظام بشار الأسد، وبعثت إليهم رسائلَ طمأنةٍ ليبقوا في عملهم حتى في حال دخول إدارة العمليات إلى دمشق، وهو ما حدث بالفعل. قام التلفزيون السوري منذ اليوم الأول، وعبر بثٍّ مشتركٍ لكافة قنواته مع بثٍّ مشترك للإذاعات، بإذاعة البيان رقم واحد الذي أُعلن فيه سقوط نظام بشار الأسد وتحرُّر سوريا بالكامل من نظامه، ثم استمرّ البث عبر صورٍ ثابتة تحوي إعلاناتٍ صادرة عن إدارة العمليات العسكرية حتى تاريخ 1/1/2025، عندما توقف البث نهائياً عبر قمر النايل سات نظراً لعدم دفع المستحقات المالية المترتبة على بث حزمة القنوات السورية على القمر المذكور.
داخل المبنى كان هناك حركة كبيرة، وعددٌ من الشباب الوافد إلى المبنى تسلّم مهمة الإشراف على كل المديريات والأقسام، فيما بقي المدراء السابقون في مواقع عملهم. وبدأ المشرفون الجدد يلتقون بالموظفين تباعاً، بما أسموه اختباراتٍ شفهية لتحديد كفاءة الأشخاص. في حين كانت عشرات الروابط تُرسَل إلى جوالات الموظفين لتعبئتها بمعلوماتٍ عنهم، والتي شكّلت في معظمها إرباكاً جديداً لموظفين لم يعتادوا على مثل هذه التقنيات رغم بساطتها، بل إن الكثيرين منهم لم يكن لديهم جوال حديث لفتح هذه الروابط. بتاريخ 16/1/2025 صدرت قائمةٌ تضمُّ عدداً كبيراً من العاملين في الهيئة العامة للإذاعة والتلفزيون، وتم منحهم إجازاتٍ مأجورةً لمدة ثلاثة أشهر. القائمة واجهت سخطاً كبيراً وجدلاً واسعاً بسبب وجود أسماء عدد كبير من الأشخاص المتوفين والمتقاعدين والمستقيلين، وآخرين خارج البلاد أو داخلها متوقّفين عن العمل منذ فترة طويلة بإجازات سنوية، وعدد آخر من العاملين الذين كانوا على رأس عملهم وهم أشخاص فاعلين ومنتجين، في حين خَلَتْ القائمة من بعض الأسماء الخلّبية غير المُنتجة. تم تبرير الموقف أن «التنمية الإدارية» ورؤساء الأقسام هم مَن وضعوا الأسماء، وأن الأشخاص الذين وردت أسماؤهم سيخضعون لاختبارات جديدة، وبالفعل بدأت اختباراتٌ للكثير من العاملين في التلفزيون واستمرّت عدة أيام حتى تاريخ 31/1/2025، والذي قيل إنه اليوم الأخير للاختبارات، ثم ستصدر نتائج تقييم جديدة، في حين ترددت الكثير من الشائعات داخل أروقة التلفزيون عن استبعاد بعض الأسماء بشكلٍ نهائي.
على العموم هناك حالة استياء عامة لدى العاملين في المبنى بسبب استمرار الكثير من المدراء في مناصبهم رغم تاريخهم لجهة الفساد والمحسوبيات والتكتلات التي كانوا يصنعونها، بالإضافة إلى عدم مهنيّتهم الإعلامية ووصولهم إلى مناصب مهمة في عهد النظام البائد بسبب المحسوبية. ورغم أن التغييرات بدأت في الكثير من المناصب الإدارية، إلا أن البعض يعتبرها غير كافية حتى الآن.
أما على صعيد القنوات الإذاعية، فقد جرت اختباراتٌ للعاملين في الإذاعات الحكومية الثلاث، وشملت المُعدّين والمذيعين، وعاد بث إذاعة دمشق بتاريخ 1/1/2025 بمعظم العاملين الذين كانوا فيها، وبمجموعة من البرامج القديمة والجديدة، مع الاحتفاظ بمواجز ونشرات الأخبار كما جرت العادة. وصدر قرارٌ بدمج إذاعتي صوت الشباب وسوريانا في إذاعةٍ واحدة تبثّ فقط الأخبار والبرامج السياسية والاقتصادية والرياضية، وبالكادر نفسه الذي كان يعمل في الإذاعَتين من قبل. يُذكر أن إدارات الإذاعات الثلاث بقيت على حالها دون تغيير مع وجود مشرفٍ عليهم جميعاً. وفوجئ العاملون في مديرية التشغيل الإذاعي، بعد شهرٍ على انطلاق بث إذاعة دمشق، باختبارات شفهية للعاملين في هذه المديرية التي تضم المخرجين والمنفذين والمهندسين في كافة أقسام المديرية، ومنهم أشخاصٌ شارفوا على التقاعد، وهي اختبارات لم يُعرَف الهدف منها.
طبعاً كانت الحسرة حاضرة لدى كثيرين من العاملين بسبب توقّف بث إذاعة صوت الشباب بعد 24 عاماً من عملها، رغم أنها الجهة الإعلامية الرسمية الوحيدة التي كانت تستقطب الإعلانات وبرامج الرعاية على مدار العام، وترفد خزينة الهيئة بملايين الليرات السورية سنوياً، وذلك بسبب بثّها القوي الذي كان يغطي كل المحافظات السورية تقريباً وانتشارها الكبير وبرامجها المتنوعة وقربها من الناس، خاصةً فئة الشباب.
أما القنوات التلفزيونية، فقد صدر قرارٌ ضمني باستبعاد معظم المذيعين والمذيعات الذين كان لهم ظهور سابق على القنوات، خاصةً أولئك الذين كانوا يظهرون في البرامج السياسية والتغطيات المباشرة. وتتحضر قناة السورية للانطلاق من جديد، حيث يتم العمل حالياً على شكل القناة والبرامج التي ستبثّها مع كادرٍ جديد، خاصةً من المذيعين والمذيعات. قنوات الدراما والتربوية والمحلية ونور الشام لم تشهد أي حراكٍ يوحي بعودتها للانطلاق، فلا اختبارات للعاملين ولا تحضير لأي برامج، رغم أن إدارات هذه القنوات قد تمّ استبدالها بإدارات جديدة.
وقد بدأت قناة الإخبارية منذ أيام، وبعد اختبارات وتجارب عدة، ببثٍّ مسجل على مدار اليوم كأنّه بثٌّ مباشر، بما يشمل نشراتٍ إخبارية وبرامج متعددة، وأيضاً بكادر جديد خاصةً من المذيعين، منهم من كوادر القناة الذين لم يسبق له الظهور على الشاشة ومنهم آخرون جدد من خارج القناة. وقد تم ربطها مؤخراً بالمراكز الإذاعية والتلفزيونية في المحافظات، حيث تقوم هذه المراكز بإعداد تقارير خاصة بالقناة، ولكن كل ذلك دون بث مباشر.
الوحدة للصحافة والطباعة والنشر والتوزيع
تضمُّ مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر والتوزيع الصحفَ التالية في دمشق والمحافظات: الثورة، تشرين، العروبة، الفداء، الوحدة، الجماهير، الفرات، سيريا تايمز باللغة الإنكليزية، الموقف الرياضي. منذ الأيام الأولى تمّ تعيين مدير عام جديد للمؤسسة، في حين بقي عددٌ من رؤساء التحرير وتمّ تغيير عددٍ آخر. وشهدت المؤسسة والصحف الصادرة عنها مقابلاتٍ شفهية للعاملين، واختير عددٌ منهم لمتابعة العمل، فيما مُنح الباقي إجازاتٍ مأجورةً لمدة ثلاثة أشهر. وكما حدث في الهيئة العامة للإذاعة والتلفزيون، فقد ثار العاملون على مواقع التواصل الاجتماعي، وبدأ بعضهم بتوجيه الاتهامات لأشخاصٍ بعينهم بالمسؤولية عما جرى من استبعاد. وكمثال عما جرى نورد ما كتبه رئيس تحرير صحيفة الثورة أحمد حمادة على صفحته في الفيسبوك رداً على ما أسماها «حملة تضليل واتهاماتٍ» استهدفته من قِبل بعض العاملين الذين تم استبعادهم، تحت عنوان «صحافة هيك سمعنا»، حيث قال: «في مؤسسة الوحدة للصحافة 1600 موظف وتصدر 9 صحف وفي كل المحافظات كما تعلمون… وصحيفة الثورة إحدى صُحفها وملاكها حوالي 250 موظف منهم حوالي 150 صحفي و100 إداري وفني وناشر ومدقق ومهندس ومخرج وخدمة… إلخ. بالنتيجة قررت اللجنة اختيار فريق من 100 صحفي (بالمركز دمشق 51 وبالمحافظات 38 ورياضة 12)… كما اختارت أكثر من 70 فني وإداري ومخرج وناشر ومدقق وسكنر وخدمة وأما من سيكون غيابهم مبرراً ريثما يتم توزيعهم على تشرين أو صحف المؤسسة أو غيرها فعددهم 54 صحفياً وعدد قليل من الخدمة بعد إعادة الهيكلة في الفترة المحددة..». طبعاً صحيفة الثورة نموذج لما حدث في بقية الصحف، وقد عادت جميعها للعمل ولتغطياتها الإعلامية إلكترونياً.
المشهد ذاته تكرر في الوكالة العربية السورية للأنباء (سانا)، حيث جرت اختبارات ومقابلات شفهية للعاملين في الوكالة. يقول أحد العاملين في قسم الأخبار الخارجية للجمهورية.نت: «تم تقليص عدد العاملين في القسم من 25 محرراً إلى 6 محررين فقط، وهو نموذج لبقية الأقسام، وجاء ذلك بعد الاختبارات التي قال المسؤول عنها إن 60 بالمئة من المحررين لم يتجاوزوا الاختبار بنجاح. وكما حدث في مؤسسة الوحدة، فإن تبادل الاتهامات كان حاضراً بين الزملاء، والتهمة الأكثر تداولاً في كل المؤسسات الإعلامية كانت أنّ فلاناً كان عميلاً للنظام السابق ورغم ذلك لم يتم استبعاده، في حين استُبعد أشخاص لهم تاريخ طويل في العمل الإعلامي، منهم شخص في وكالة سانا يدير موقعَين اقتصاديَّين هامَّين خارج الوكالة».
الإعلام «الخاص»
في سوريا لا يوجد إعلام خاص. قد يعتقد البعض أنه كان هناك قنوات إذاعية وتلفزيونية وصحف خاصة، لكن في الواقع جميعها تعود ملكيتها للقصر الجمهوري أو لمقربين من بشار الأسد. قناة سما يملكها رجل الأعمال محمد حمشو، والذي كان يُعرف بأنه واجهةٌ اقتصادية لرامي مخلوف ثم ماهر الأسد، وقد توقّف بثُّها. القنوات الإذاعية الخاصة في معظمها، والأشهر منها، كانت مُلك رامي مخلوف ثم تحولت للقصر الجمهوري، وأيضاً توقف بثها جميعاً، منها بشكل نهائي، ومنها ما زالت تبث الأغاني فقط، مع وجود بعض الإذاعات التي لا يتجاوز بثُّها دمشق ومحيطها. أما الصحف، فهناك صحيفة واحدة هي صحيفة الوطن، وكانت تُعرف بأنها شبه رسمية ومُقرّبة من النظام السابق، أسسها رئيس التحرير وضاح عبد ربه، إلا أن الحصة الأكبر كانت لرامي مخلوف قبل أن تتحول للقصر الجمهوري. قال لنا بعض العاملين فيها إنّ عبد ربه سافر إلى فرنسا بعد سقوط النظام، ثمّ عاد واجتمع مع العاملين بعد نحو 20 يوماً، قبل أن يغادر ثانيةً إلى فرنسا. وكانت الصحيفة تصدر قبل سقوط نظام الأسد بنظام pdf وتنشر الأخبار إلكترونياً، لكنها اليوم عادت لتصدر إلكترونياً فقط، والعاملون مازالوا في عملهم ويتقاضون رواتبهم، بل إنهم عادوا لدوامهم في المكاتب بتاريخ 4 شباط (فبراير)، لكن لا يعملون إلى متى.
نشيرُ في الختام إلى نقطتين أساسيتين: الأولى أنّ كل الأقاويل التي انتشرت بين العاملين في المؤسسات الإعلامية، بعد الاختبارات وقبلها، بأنه سيكون هناك استبعاد للعاملين على أساس طائفي أو مذهبي غير صحيحة، ولم يحدث ذلك في أي مؤسسة إعلامية حتى الآن؛ والنقطة الثانية أن الكلمة التي وجهها أحمد الشرع للشعب السوري بعد تنصيبه رئيساً لم تُبث عبر التلفزيون الرسمي السوري أو بواسطة معداته، بل تابعها السوريون عبر شاشات القنوات العربية كما يتابعون الأحداث في سوريا منذ سقوط النظام عبر القنوات العربية التي اتّخذت من مبنى الهيئة العامة للإذاعة والتلفزيون بدمشق مقراً ومنبراً لها، في حين اكتفى العاملون في هذا المبنى بمحاولة التقاط الصور مع هؤلاء الإعلاميين القادمين من الخارج.
موقع الجمهورية
———————————
سوريا الجديدة وتحديات الهويّة والوجود للكُرد/ شفان إبراهيم
2025.02.05
مع سقوط النظام السوري، بدأت معه إعادة تسليط الضوء على الشعب الكردي في سوريا، خاصة أن سوريا الجديدة، تعني إعادة تشكيل المشهد السياسي والأمني في المنطقة. والكرد الذين يشكلون جزءا أساسيا من التكوين المجتمعي والفضاء السياسي العام في سوريا، وبما لاقوه سابقاً من تجارب كانت تهدف إلى الإبادة الجماعية لهم بطرق سياسية وأمنية ومعيشية، لم يحصلوا على أدنى درجات الحقوق والاعتراف السياسي سابقاً. لذلك من الطبيعي أن تفرض سلسلة من الأسئلة نفسها على المخيال الكردي، حول مستقبلهم في البلاد، ونفوذهم في مناطقهم وضمن العاصمة دمشق وكافة التشكيلات السياسية والأمنية والعسكرية المقبلة.
طرح كردي وأدوار إقليمية ودولية
لا استحياء من البوح برغبة الكرد في إنشاء نظام سياسي يمنحهم، وباقي المكونات، فرصة إدارة مناطقهم، وربطهم بالعاصمة دمشق، وفق شكل من أشكال الدولة المتفق عليه. لكن لا يحق للآخرين القول إن هذه المطالب جديدة، فالمطلب الكردي ومنذ بدايات الثورة السورية كان حاضراً وبقوة، وغالباً ما كانت قوى المعارضة السورية، تطلب تأجيل البت في الموضوع إلى حين سقوط النظام، ومع سقوطه حان وقت قطف ثمار الوعود والاصطفاف لجانب القوى الوطنية والمعارضة السورية. وحتّى ما قبل بدء الثورة السورية، فإن الحركة السياسية الكردية، كانت تطالب بالاعتراف الدستوري بهم، ومنحهم شيئا من الخصوصية الثقافية، والتي كثيرا ما كانت تجد نفسها وحيدة.
ورغم سيولة التطورات المتلاحقة ضمن سوريا، لكن المطالب الكردية لا تزال في حالتها الأولى، ولا يخفى رفض الأطراف السياسية والعسكرية السورية، حيال وجود العمال الكردستاني في المنطقة، بالإضافة للأدوار التي تلعبها قوات التحالف والإدارة الأميركية، والذين يسعون لتحقيق تفاهمات كردية-كردية، وذلك عبر الدور العميق الذي يلعبه حالياً السيد مسعود البارزاني، عبر تقريب وجهات النظر بين قوات سوريا الديمقراطية والمجلس الوطني الكردي، والضغط لتشكيل وفد كردي مشترك يتجه لدمشق لمناقشة مستقبل البلاد، وتعزيز التنسيق بينهم وبين بقية المكونات السورية، خشية المزيد من الانقسام والتباين في المصالح، الكردية-الكردية أو الكردية -السورية.
قضية قومية-وطنية ضمن سوريا
الأكثر سوءًا من كل ذلك، هو بناء المواقف من القضية الكردية وفق تساؤلات حول الحقوق الكردية كمصدر تهديد للاستقرار الإقليمي، وهل سيكون له تأثير على الدول المجاورة التي يقطنها الكرد؟ هذه الأسئلة، معقدة ومخيفة وتثير الكثير من النقاشات، خاصة في ظل التهديدات المتلاحقة التي تحاصر الدول العربية، سواء من إيران، والخوف من التمدد الإسرائيلي في سوريا، وغيرها من التهديدات ضمن السياق الجيوسياسي للمنطقة. المشكلة أن المواقف من الحقوق الكردية تتجرد من أبرز عواملها والتي هي: كيفية تطور الوضع السياسي للكرد في سوريا، وهل من حق دول أخرى التدخل أو الرد على الحقوق وتطورها؟ وهذا يقودنا لأربع قضايا مترابطة:
الأولى: ستكون مشكلة كبيرة متبادلة للكرد في سوريا والدول الإقليمية، لو أن دول الجوار، اعتبرتهم من ضمن مُهددات أمنها القومي الاستراتيجي أو كمهدد لاستقرار ووحدة أراضيها، بما يستلزمه من تدخل أو حصار، أو تشكيل ضغط عال لا يمكن تجنبه. وضمن هذا التهديد، يرى العقل السياسي الكردي أحياناً، أن الوجود الأميركي سيحميهم، لكن المشكلة أن الكثير من الدول المترابطة مع بعضها بعضا، والتي إن وجدت في أيّ مشروع كردي خطراً عليها، يُمكنها أن تشكل أيضاً خطراً على المصالح الأميركية، خاصة بما تملكه من أوراق قوة ضمن الجيوبوليتيك في الشرق الأوسط، أو بما يرتبط أميركا بهم من روابط ومصالح استراتيجية، تفوق حجم الخدمات التي يُمكن الكرد سوريا أن يُقدموه.
الثانية: بالمقابل، يُمكن البحث عن مصدر هذه المخاوف، فهل هو إدراك بعض الدول أن نتائج سياساتها المحلية لم تنجح، وجاءت بنتائج عكسية ارتدادية عليهم. ألم يكن من الممكن اعتبار قضية القوميات الكردية أو غيرها، شأناً داخلياً يتوجب البحث فيه والتعمق في تطوير العلاقة السياسية بين الكرد وحكوماتهم على قاعدة الشراكة والعيش المشترك والسلام، كان سيكون أفضل من سيولة المشكلات والصراعات والمواجهات، بالرغم من أن الصراع التركي-الكردي ومنذ ثمانينيات القرن الماضي، لم يدخل ضمن أجندة المجتمع الدولي في علاقاتها الخارجية مع أنقرة، بل اعتبر دوماً على أنه شأن داخلي محض.
والثالثة: هل كان المطلوب لكرد سوريا ومناطقهم أن تتحول لمنصة تهديد على تركيا، أو استفزازها، خاصة مع الفارق الرهيب في موازين القوة والعتاد الحربي والعمق الدبلوماسي والعلاقاتي.
والرابعة: القضية الكردية، هي وطنية وقومية تخص كرد سوريا وعلاقتهم مع باقي المكونات، وليس من المنطق أن تتحكم بها أيّ دولة أخرى، طالما لا تشكل تهديداً عليهم عبر كرد سوريا مباشرة.
أدوار دولية لترتيب التقارب
بالرغم من حجم الضغط الذي يُمكن لبعض الدول الإقليمية أن تشكله على المصالح الأميركية، فإن التعامل الدولي مع طموحات الكرد في سوريا، سيكون حاسماً أيضاً، لتحقيق توازنات جديدة مع القوى المحلية السورية والإقليمية، وإذا ما اعتُبر المطلب الكردي في سوريا تهديداً كبيراً للحدود الإقليمية والتهديدات الأمنية، فإن الأوضاع ربما تنزلق إلى صراع مع القوى الإقليمية. وكأفضل الحلول هو الانفتاح العربي والتركي على حقيقة الوجود التاريخي للكرد في سوريا، وأن استقرار الكرد سيساهم في تعزيز الاستقرار السياسي والاقتصادي لكامل سوريا، بشرط وجود إدارة محلية فعالة وحوكمة حقيقية والتنسيق مع المكونات الأخرى في المجتمع السوري مثل العرب والآشوريين وغيرهم، وهو ما يحتاج لتفاهمات بين كل السوريون وموافقة اللاعبين الأساسيين إقليميا ودولياً.
مخاطر داخلية على الهويّة الكردية
بالرغم من كل تلك التحديات والفرص. لكن أبرز العوامل هي الأوضاع الداخلية، وتحديداً قدرة الكرد الحفاظ على هويّتهم الثقافية الخاصة بهم في مستقبل البلاد، خاصة في ظل أبرز مُهددين الأول: التحديات القومية والسياسية التي يواجهونها، والثاني: حجم الملفات التي تحتاج للمعالجة والحلول سواء في قضية التعليم، والتعددية اللغوية والثقافية، أو في حجم الشرخ والضربات التي تلقتها الهويّة الكردية، أو التفكك عن مفاهيم الهويّات والكتّابة والتأليف الأسري الذي ضرب الأسرة الكردية، أو ابتعاد شبه تام للجيل وانشغاله بقضايا استهلاك التكنولوجيا. أو هوس الهجرة، يغذي ذلك الضعف المالي والفقر المدقع الذي تسبب بفقدان الرغبة والأمل بالتحصيل العلمي، وتحديات الحفاظ على الثقافة الكردية بإرثها اللغوي والفني والتراثي والثقافي العميق، وكل ذلك يقود لتحدٍ مباشر وواضح يتجلى في كيفية موازنة الحفاظ على الهويّة الكردية مع الاندماج في المجتمع السوري بشكل عام. وخاصة قضية التربية والتعليم والمناهج، ودور الوضع المادي والاقتصادي الصعب باستمرار الاهتمام بالثقافة لصالح البقاء على قيد الحياة، ومخاطر تفضيل الاندماج على حساب الحفاظ على الخصوصية الثقافية والهويّاتية.
ختاماً: كل ما جرى ويجري في سوريا، وما ستؤول إليه الأيام، سواء شكلت هذه التغيرات فرصا أم تحديات، فإن الأكثر وضوحاً حتّى الآن، أن الأمر يعتمد على كيفية تعامل الكرد مع الظروف المتغيرة وخاصة حجم الدعم الدولي، وطريقة الشراكة في إدارة المنطقة، والتفاعل مع الدول المجاورة والإقليمية، ومدى تأثيرهم في الاستقرار الإقليمي، وعمق العلاقة مع الإدارة الجديدة في دمشق. ومساعي الكرد للحفاظ على الهويّة الثقافية والسياسية في مستقبل البلاد، يعتمد على قوتهم الداخلية، والفرص السياسية السانحة، بالإضافة لعامل الانفتاح المشترك بين الكرد والعرب على الثقافات المختلفة لتعزيز التفاهم، رغم سيولة التحديات الاجتماعية والسياسية.
تلفزيون سوريا
————————————–
مئوية الثورة السورية الكبرى تقترب.. عن الذكرى والذاكرة والمستقبل أيضاً/ علي سفر
2025.02.05
بعد ستة أشهر تقريباً، ستحلّ على السوريين المئوية الأولى للثورة السورية الكبرى، وإلى هذه اللحظة لم يرصد كاتب هذه الكلمات أي إشارة لدى أي مؤسسة سورية، عامة أو خاصة، توحي بأن القائمين عليها يستعدون للاحتفال بالمناسبة.
هنا، لن يكون من المفيد تذكير أصحاب الشأن، وهم هنا السوريون بكل قومياتهم وطوائفهم، بأهمية الحدث التاريخي، فالكل يعرف أن سوريا كبلد وشعب قد تعمّدت بالمقاومة الباسلة التي أبداها الثائرون في وجه سلطة الانتداب الاستعماري الفرنسي، الذي أراد أن يمارس التدجين على القوم الذين ظنّوا أن رياح التغيير ستنقلهم من الحقبة العثمانية المديدة (400 سنة) إلى زمن بناء الدولة الوطنية، وفق القواعد التي وضعها المؤتمر السوري العام، حيث جرى إقرار البلاد كمملكة يحكمها الأمير فيصل بن الحسين، بدستور عصري، وحماس كبير لدولة ديمقراطية. وأصدر البرلمان السوري في الثامن من مارس/آذار 1920 إعلان الاستقلال باسم الشعوب الناطقة بالعربية القاطنة في سوريا الكبرى (التي تضم اليوم لبنان وسوريا والأردن وفلسطين).
لكن هذه المحاولة الجريئة لكسر قواعد السياسة الدولية آنذاك وُوجهت ليس بالتآمر عليها وحسب، بل برغبة انتقام متّقدة حملها الجيش الفرنسي، الذي اجتاح البلاد بعد معركة ميسلون الشهيرة، والتي قاومه فيها بقايا الجيش الوطني وثُلّة من المتطوعين بقيادة وزير الدفاع الشهيد يوسف العظمة.
قادة الثورة السورية الكبرى
نعم، لقد قتل الغرب الديمقراطية السورية الوليدة، وهذا ما تؤكده الباحثة إليزابيث ف. تومسون في كتابها “كيف سرق الغرب الديمقراطية من العرب؟”، حيث ترى
“أن الأوروبيين لم يدمروا فقط المملكة العربية السورية بوصفها دولة؛ وهي سردية متداولة عند العديد من المؤرخين، ولكن الأوروبيين سعوا أيضاً إلى تدمير الديمقراطية في المنطقة العربية جمعاء؛ إذ أثبتت الحكومة التي أُسست في دمشق أن العرب تمتعوا بالقدرة التامة على حكم أنفسهم بطريقة ديمقراطية حديثة، وهو ما شكّل تهديداً للإمبراطوريتين البريطانية والفرنسية. فالتجربة السورية دحضت ادّعاء القوى الإمبريالية التي كانت تزعم أن سبب احتلالهم للعرب والمسلمين (وشعوب آسيا وأفريقيا الأخرى) قائم على فرضية خاطئة مفادها أن غير الأوروبيين ليسوا مؤهلين لحكم أنفسهم وفق منهج ديمقراطي”.
السوريون، ككناية عن العرب جميعاً، لم يثبتوا فقط أن الخيار الديمقراطي ممكن وقابل للتحقق على أرضهم، بل أكدوا أيضاً أنهم يمكن أن يثوروا دون أن يولوا تهديدات المندوبين الساميين أهمية تُذكر. فبعد أن تفجّرت المعارضة عبر هبّات شعبية ومقاومة مسلحة متفرقة، منذ بداية الاحتلال وحتى عام 1925، ورداً على إهانة وجّهها المندوب السامي ساراي لوفد من جبل العرب أتى بيروت لتقديم وثيقة تطالب المفوض السامي موريس بول ساراي بتعيين حاكم محلي بدلاً من الكابتن كاربييه سيئ الصيت، اندلعت الثورة شبه الشاملة، واستمرت لمدة سنتين، قبل أن تتمكن الدولة المنتدبة، وبالتعاون مع الإنجليز والعملاء المحليين، من السيطرة على المناطق الثائرة.
لا يمكن اختصار الحكاية كلها بمقالة مختصرة، بل يحتاج الأمر إلى مراجعة المؤلفات الكثيرة التي كُتبت عن الثورة، بما فيها مدوّنات الفرنسيين أنفسهم، وأيضاً ما كتبه بعض مؤيديهم، لاستجلاء التفاصيل التي تم توثيقها، والنظر في الفجوات الكبيرة في سردية الثورة، ولا سيما دور الفرنسيين في تكريس وجود الأقليات كحالة سورية خاصة، ودفع بعض شبابها للتطوع في جيش الشرق الكبير، الذي تشكّلت منه طلائع الجيش السوري في مرحلة ما بعد الاستقلال في العام 1946، وهو ما مثّل تفخيخاً للمستقبل السوري، الأمر الذي حدث فعلاً وأحال البلاد إلى حريق دائم، يُصادف أن السوريين أنفسهم نجحوا في إطفاء موجته الكبرى قبل شهور فقط من حلول ذكرى مئوية الثورة السورية الكبرى، حين هزموا نظام بشار الأسد، ودمروه.
إذاً، كيفما نظرنا كأحفاد لأولئك الثائرين، سنجد أنفسنا في مواجهة مع الواقعة التاريخية، ليس بوصفها مجرد ذكرى، بل من خلال كونها درساً حقيقياً يجب أن نستفيد من فصوله من أجل رؤية ما ينتظرنا، ونحن نشرع في العمل على تأسيس الدولة السورية الجديدة، بعد ثورة هائلة كلّفت البلاد ملايين النازحين واللاجئين، ومئات الآلاف من القتلى في المعارك وفي السجون والمعتقلات، ومثلهم من المغيّبين مجهولي المصير.
لا أدري إن كان ثمة مبالغة في التعبير عن أن الثورة السورية ضد نظام الأسديين هي استمرار ضمني لما صنعته ثورة عام 1925، لكن تفصيلاً يقول إن الغرب، الذي يحاول الآن الضغط على الحكومة الحالية في قضايا الحقوق المدنية والدستور ومراعاة حقوق الأقليات وضرورة أن يحظى الجميع بنسبة تمثيل لائقة في صناعة مستقبل سوريا، لربما يحاول التكفير عن جريمته التي ارتكبها قبل قرن من الزمن.
غير أن هذا، حتى وإن جاء مشفوعاً بالحرص المصاغ بعبارات تبدو صادقة، يجب ألا يُلغي عند السوريين حاسة اليقظة، كي لا يتم الغدر بهم مرة أخرى.
—————————
الديمقراطية والشورى: نحو حكم رشيد في سوريا المستقبل/ بشار الحاج علي
2025.02.05
في ظل ما شهدته سوريا من صراعات طويلة مع الاستبداد، أصبح واضحاً أن أي حديث عن مستقبل البلاد لا يمكن أن يتجاهل مسألة نظام الحكم. فكيف نضمن أن يكون النظام القادم قائماً على العدالة والمشاركة الشعبية، وفي الوقت ذاته يحافظ على الكفاءة والاستقرار؟ هنا يبرز مفهومان أساسيان: الديمقراطية، التي تتيح للشعب حق اختيار من يحكمه ومحاسبته، والشورى، التي تضمن وجود أصحاب الخبرة والتخصص في صناعة القرار، بحيث لا تكون الدولة خاضعة لمزاجية الحكومات أو تقلبات المصالح السياسية قصيرة الأمد.
الديمقراطية: ضمانة الشعب لاختيار قيادته ومحاسبتها
إن أحد أكبر الأخطاء التي وقع فيها السوريون لعقود هو غياب الديمقراطية، ليس فقط كنظام انتخابي، ولكن كآلية تحميهم من تسلط السلطة وتجبرها على الخضوع لإرادتهم، فالديمقراطية الحقيقية ليست مجرد صناديق اقتراع، بل هي الضمانة الوحيدة التي تتيح للشعب تغيير الحاكم سلمياً إذا أخفق، ومحاسبته إذا انحرف، وتمنع احتكار السلطة تحت أي ذريعة أو مبرر.
لقد عشنا في سوريا تجربة مريرة مع نظام فرض نفسه بالقوة، وألغى أي إمكانية للمشاركة الشعبية الحقيقية. لم يكن هناك أي وسيلة لمساءلة الحاكم سوى المواجهة المباشرة، وهي المواجهة التي دفع السوريون ثمنها غالياً من دمائهم ومستقبلهم، ولهذا لا يمكن القبول بأي نظام لا يعطي الشعب حقه في اختيار من يحكمه بحرية، وحقه في إسقاطه إذا أخل بواجباته تجاه الوطن والمواطنين.
اليوم، ومع التطورات المتسارعة في الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي، لم يعد بإمكان أي سلطة إخفاء فشلها أو قمعها كما كان يحدث في الماضي.
أصبح المجتمع أكثر وعياً بحقوقه، وأكثر قدرة على كشف الفساد والأخطاء السياسية، مما يجعل الحاجة إلى نظام ديمقراطي راسخ أمراً لا يمكن تجاوزه. فالسلطة التي لا تستند إلى إرادة الناس وتخضع لرقابتهم ستتحول عاجلاً أم آجلاً إلى استبداد جديد، مهما حاولت تبرير ذلك بالشعارات أو الأيديولوجيات.
الشورى: دور الخبرة في ترشيد القرار السياسي
لكن الديمقراطية وحدها لا تكفي لضمان نجاح الحكم، فليس كل قائد منتخب هو بالضرورة الأجدر أو الأكثر كفاءة، فكم من دول ديمقراطية شهدت وصول قادة لا يمتلكون المؤهلات المطلوبة، أو وقعوا تحت تأثير الحسابات الشعبوية الضيقة التي أضرت بالصالح العام؟ لهذا، لا بد من وجود آليات تضمن أن يكون في صناعة القرار أصحاب الخبرة والكفاءة، بحيث لا تترك القضايا المصيرية للصدف أو للحملات الانتخابية العاطفية.
الشورى، بهذا المعنى، ليست بديلاً عن الديمقراطية، بل هي عامل مكمل لها، فهي تتيح مشاركة أوسع للخبراء والمتخصصين في وضع السياسات وصناعة القرارات، مما يقلل من احتمالات الوقوع في أخطاء كارثية قد يدفع الشعب ثمنها لاحقاً. في سوريا المستقبل، يجب ألا يقتصر دور المشاركة الشعبية على الانتخابات فقط، بل يجب أن يكون هناك مجالس متخصصة تضم أصحاب الخبرة في الاقتصاد والسياسة والإدارة، لضمان أن تكون القرارات مبنية على رؤية علمية، وليس فقط على اعتبارات سياسية أو مزاجية.
تحقيق التوازن بين الديمقراطية والشورى
بعض الأطروحات ترى أن الديمقراطية قد تؤدي إلى حالة من الفوضى، فيما يرى آخرون أن الاعتماد على مجالس استشارية فقط قد يفتح الباب أمام نظام مغلق تتحكم فيه نخبة ضيقة. لكن التجارب الحديثة أثبتت أن الحل لا يكمن في إلغاء أحدهما لصالح الآخر، بل في تحقيق توازن بينهما.
في سوريا، يمكن تصور نموذج يدمج بين الديمقراطية والمشاركة الاستشارية الفعالة:
– الديمقراطية تمنح الشعب الحق في اختيار قيادته ومحاسبتها، مما يضمن عدم احتكار السلطة أو توريثها بأي شكل من الأشكال.
– وجود مجالس متخصصة تضم أصحاب الخبرة يضمن أن تكون القرارات مدروسة، وألا تقع الدولة تحت تأثير قرارات شعبوية أو غير واقعية.
هذا النموذج ليس فكرة نظرية فقط، بل هو ما أثبت نجاحه في العديد من الدول التي استطاعت الجمع بين آليات الديمقراطية ومؤسسات استشارية قوية تقدم المشورة والرأي المستقل، مما جعل قراراتها أكثر توازناً واستقراراً.
التطبيقات الحديثة: كيف يمكن لسوريا تبني نموذج حكم متوازن؟
عند الحديث عن الديمقراطية والشورى، لا بد من النظر إلى نماذج حكم استطاعت المزج بين المشاركة الشعبية الواسعة وبين المؤسسات الاستشارية التي تضمن اتخاذ قرارات مدروسة. يمكن الاستفادة من تجارب بعض الدول التي نجحت في تطوير أنظمة حكم تدمج بين الانتخابات الحرة، وبين مجالس استشارية أو هيئات مستقلة تعمل على تقديم المشورة في المجالات الحساسة، بحيث لا تترك السياسة وحدها تتحكم في القرارات المصيرية للدولة.
على سبيل المثال، بعض الدول اعتمدت على برلمانات منتخبة بالكامل، لكنها في الوقت ذاته أنشأت مجالس خبراء تعمل إلى جانب السلطة التنفيذية، وتتمتع بصلاحيات تقديم التوصيات الملزمة في بعض الملفات، مثل الاقتصاد أو العلاقات الخارجية أو الأمن القومي، هذا النموذج يمكن أن يكون مثالاً جيداً لسوريا، بحيث لا يتم تكرار أخطاء أنظمة حكم قامت إما على استبداد مطلق، أو على ديمقراطية غير منضبطة أوقعت البلاد في أزمات لا تقل خطورة.
نحو نظام حكم يحقق المشاركة والاستقرار
من المهم أن يدرك السوريون أن بناء المستقبل لا يتم فقط برفض الماضي، بل بوضع أسس لنظام حكم قادر على تحقيق التوازن بين الحرية والاستقرار، بين الإرادة الشعبية والرؤية الاستراتيجية، وبين حق الجميع في المشاركة وضمان أن تكون هذه المشاركة منتجة وقائمة على أسس سليمة.
سوريا تحتاج إلى نظام لا يسمح بعودة الاستبداد تحت أي ذريعة، وفي الوقت ذاته لا يسقط في فخ الفوضى السياسية، بل يحقق الاستقرار عبر ضمان مشاركة واسعة للمواطنين، إلى جانب وجود مؤسسات تضع مصلحة الدولة فوق أي اعتبارات حزبية أو شخصية.
هذا النموذج المتوازن هو ما سيجعل سوريا قادرة على تجاوز أزماتها، والخروج من دائرة الحكم الفردي من جهة، والفوضى السياسية من جهة أخرى، ليكون مستقبلها أكثر استقراراً، وأكثر عدالة، وأكثر قدرة على تحقيق طموحات أبنائها.
تلفزيون سوريا
———————————–
مدينة منبج ضحية الملغمات والمرجعية المزدوجة/ حسن النيفي
2025.02.05
في صبيحة الثامن من شهر كانون الأول/ديسمبر الماضي، وتزامناً مع هرب بشار الأسد واندحار نظام الإبادة الأسدي، غادرت قوات قسد مدينة منبج، وانكفأت عند بلدة سد تشرين جنوباً على بعد 15 كيلو متراً عن مركز المدينة، في حين انكفأت شرقاً عند جسر “قرة قوزاق” على بعد 30 كيلو متراً عن المدينة ذاتها، وذلك على أعقاب حشود عسكرية لفصائل “الجيش الوطني” مدعومةً بغطاء جوي تركي تقدمت من مدن وبلدات الشمال السوري ودخلت مدينة منبج التي رزحت تحت سلطة قوات قسد قرابة ثماني سنوات (آب 2016 – كانون الأول 2024).
التحرير المنقوص
وفي الوقت الذي ازدانت به المدن والبلدات السورية بالأعلام الخضراء ابتهاجاً بيوم النصر العظيم، استبدّت نشوة النصر ذاتها في نفوس أهالي منبج الذين خالوا أن مدينتهم ستحتفل بنصر مزدوج، تحرير البلاد السورية من براثن الطغمة الأسدية، وعودة مدينتهم إلى أهلها بزوال سلطة حزب الاتحاد الديمقراطي التي لم تكن ترى في منبج طوال سنوات خلت سوى بقرة حلوب لم يُترك منها سوى جلدها وهيكلها العظمي من جهة، وحيّز جغرافي صالح للاستثمار بكل أشكاله من دون أي حساب يُذكر للمواطنين الذين لم يكن حالهم ليختلف كثيراً عن أقرانهم تحت أي سلطة من سلطات الأمر الواقع من جهة أخرى، إلّا أن لهفة المنبجيين لمشاركة أقرانهم السوريين بفرحة النصر لم تكتمل، فما إن انسحبت قوات قسد من المدينة حتى حلّ مكانها فصائل أخرى من الجيش الوطني تنضوي في غرفة عمليات “فجر الحرية”، وكان من المفترض أن يكون قدوم هذه الفصائل التي جاءت من الشمال السوري باعثاً للطمأنينة والأمان لدى المواطنين، وأن تكون أكثر رحمةً بل أكثر حرصاً على تامين السلامة والأمن والحفاظ على الأرواح والممتلكات، وذلك بحكم انتمائها إلى مشروع الثورة من جهة، وكذلك بحكم دورها التحرّري الذي دخلت المدينة من أجله من جهة أخرى، إلّا أن واقع الحال قد أظهر خلاف ذلك، إذ ربما وجدت تلك الفصائل الوافدة باسم التحرير في مدينة منبج المغنمَ الأخير في مسيرتها التحريرية، فانفلت عقال العديد من عناصر تلك الفصائل ليتسلّطوا على السكان ويمارسوا أشكالاً متعددة من السطو والاعتداء على الممتلكات وتهديد السكان وترويعهم وسلب السيارات والدراجات النارية فضلاً عن اقتحام حرمات البيوت، بل وقد تجرأ البعض على الاعتداء على الممتلكات العامة كالمشافي ومحطة الكهرباء بهدف سرقة محتوياتها من معدّات ونقود وسوى ذلك. من جهتها تؤكّد الفصائل العسكرية أن مرتكبي هذه الجرائم المشينة ليسوا من ضمن صفوفها، بل هم عبارة عن لصوص وعصابات سطو تحاول انتحال الصفة العسكرية خلال الاعتداء على السكان، ربما يكون هذا الكلام صحيحاً، ولكن الصحيح أيضاً أن تلك الفصائل لم تبذل الجهد المطلوب للقبض على هؤلاء ومحاسبتهم، بل ربما كان جوابهم الدائم لإسكات أي احتجاج أو شكوى من المواطنين: “نحن نرابط على الجبهات ونقدّم الأرواح والدماء في مواجهة قسد، واتهامنا بممارسات مشينة هو ضرب من انعدام الضمير بل ربما الخيانة”. يمكن لنا أن نستثني عدداً لا بأس به من عناصر تلك الفصائل، والذين هم في الأصل من أبناء المدينة، وقد حاولوا بالفعل التصدّي لشتى مظاهر الانفلات، وحاولوا قدر المستطاع الدفاع عن أهلهم وأبناء بلدهم، ولكن عددهم وعتادهم المحدود لم يقوَ على مجابهة حيتان الخراب.
الإدارة المدنية.. تحديات قاهرة
لقد خرجت قوات قسد من منبج ولكنها ظلّت تحتفظ بطاقة هائلة من الانتقام الذي بلغ ذروة الشناعة حين انصبّ على المواطنين المدنيين الذين باتوا ضحايا للملغمات التي تباغت الأرواح ولا تميّز بين طفل أو امرأة أو شيخ، وكان انفجار آخرها حتى كتابة هذه السطور، يوم الإثنين الموافق للثالث من شباط/فبراير الجاري، والذي أفضى إلى مجزرة كبرى راح ضحيتها 20 امرأة ورجل واحد وإصابة 20 أخريات، وكان قد سبقها انفجار ملغمة أخرى قبل يومين أودى بحياة 4 مواطنين وإصابة 7 آخرين، وقد بلغ عدد الملغمات التي استهدفت المواطنين المدنيين منذ الثامن من شهر كانون الأول وحتى الرابع من شباط، 6 ملغمات.
حالة الفوضى والانفلات الأمني التي يعزّزها انفجار المفخخات المتلاحقة، تزامناً مع انعدام شبه تام للخدمات الأساسية ( كهرباء، ماء، ونقص في الطحين، خروج عدد من المشافي عن الخدمة) كل ذلك جعل المدينة في حالة من الضياع فضلاً عن البؤس الناتج من تواتر الأخطار وتراكمها، ما دعا إلى مبادرة لعدد من ناشطي المدينة وثوّارها ومثقفيها إلى تشكيل “إدارة مدنية” تهدف إلى مأسسة العمل الخدمي وتقديم ما يمكن تقديمه من تنظيم للحالة المدنية من خدمات سواء على مستوى الصحة أو التعليم أو النظافة و تيسير شؤون المواطنين الإدارية والبلدية الأخرى، إذ يمكن لهكذا مبادرة أن تسهم في التخفيف من عبء الفوضى التي تجتاح المدينة، إلّا أن هذه المبادرة ظلّت تنوء تحت ضعف الإمكانيات وعدم توفر الدعم اللازم للنهوض بالواقع الخدمي، وكذلك تعاني من تغوّل بعض الفصائل العسكرية التي ترى أن السلاح الذي تملكه هو القاهر لجميع القيم الإنسانية وليس المنافح والمدافع عنها. ولعل أبرز التحدّيات التي تواجهها الإدارة المدنية:
أولاً، المرجعية المزدوجة: إن قرار القيادة السورية الجديدة بحل جميع الفصائل العسكرية وإدماجها في هيكل واحد يتمثل بوزارة الدفاع، كان من المفترض أن يؤدي إلى حلول قوى أمنية تابعة للسلطة المركزية (شرطة، أمن عام) إلى جميع المدن والبلدات السورية لتولّي مهام الحفاظ على الأمن العام، لكن استمرار المعارك والمواجهات العسكرية بين الجيش الوطني وقسد جعل جميع المناطق والبلدات في الشمال، والشمال الشرقي لسوريا تحت النفوذ التركي، وذلك بحكم التنسيق القائم بين الحكومة التركية وفصائل الجيش الوطني التي لا ترى أنها معنيّة بالشأن المدني، بل مهمتها محصورة بالجانب القتالي فقط، وحين بادرت الإدارة المدنية بالتواصل مع القيادة الجديدة للبلاد ومطالبتها بتحمل مسؤولياتها الأمنية والمدنية حيال المدينة، كانت استجابة القيادة المركزية باهتة، إذ اقتصرت على إرسال عدد من عناصر الأمن العام الذين عاملوا الإدارة المدنية باستعلاء من دون مؤازرة حقيقة أو تنسيق يمكّن هذه الإدارة من ممارسة عملها الوظيفي بالشكل المطلوب.
ثانياً، الحاجات المعيشية والخدمية التي باتت مطلباً يلحّ عليه المواطنون، وهو مطلب في غاية المشروعية، إلّا أن الاستجابة مشروطة دوماً بتوفر الإمكانيات التي تبدو خارج قدرة تلك الإدارة في ظل غياب أي جهة داعمة سواء حكومية رسمية أو أية جهة أخرى، الأمر الذي يحصر دور الإدارة المدنية بتلقي سخط المواطنين الناتج عن البؤس المعيشي من جهة، وكذلك بتحمّل ما تمارسه بعض الفصائل العسكرية من تغوّل من جهة أخرى.
منبج، التي كان كثيرون ينتظرون أن يزدهي يوم النصر العظيم بقصائد شعرائها ولوحات فنانيها وكلمات حكمائها ومثقفيها وثراء فولكلورها، هي اليوم تشيّع شهداءها من ضحايا المفخّخات نهاراً، وتداري خوف أطفالها ونسائها من سطوة اللصوص وعديمي الضمير ليلاً.
تلفزيون سوريا
—————————-
الرأي العام السوري.. بين ثقافة الهدم والحاجة لثقافة النقد البناء/ نزار بعريني
2025.02.05
تشارك، بلا كلل منذ الثامن من ديسمبر/كانون الأول، أطياف واسعة من النخب السياسية والثقافية والإعلامية في الداخل السوري، وفي الخارج، خاصّة الأوروبي، في حملات إعلامية منظمّة لأقناع السوريين، خاصة في المناطق الساحلية، بأنّهم مُستهدفين في نهج ونوايا السلطة الجديدة، وعبر التشكيك بقدرتها على قيادة عملية سياسية لبناء نظام وطني سوري يحمي مصالحهم وحقوقهم، ومسؤوليتها الحصرية عن كلّ ما يُرتكب من جرائم في محاولة للإيحاء بأن الخلاص يأتي بحماية من خارج مظلّة الدولة.
في هذه الأجواء المشحونة، تختلط الرؤى، ويصبح من الصعب على الرأي العام كشف حقيقة النوايا وخبث الأهداف وأبعاد الارتباطات، وحجم المخاطر، ويصبح من مصلحة السوريين بشكل عام، وأبناء الساحل، المُستهدفين بالدرجة الأولى، التدقيق، والوعي، لكي لا يكونوا ضحايا وأدوات لمقتلة جديدة، وتقاسم أكثر تدميرا لسوريا… كما كان جميع السوريين خلال السنوات التي سبقت سقوط النظام، خاصة بين 2011 – 2012!
النقد المطلوب اليوم هو الواقعي، بدوافعه الوطنية، الذي يُدرك أوّلا طبيعة المشروع الوطني والبرنامج السياسي الذي تطرحه وتعمل عليه الإدارة الجديدة بقيادة الرئيس السوري المكّلف خلال المرحلة الإنتقالية، كما يعرض تفاصيلها في لقاءات إعلامية متتالية (1)، وهو الذي يعترف بطبيعة التحدّيات الحالية والاستراتيجية التي تكشف جوهر الصراع على سوريا في هذه المرحلة، الذي يستعر بأدوات وأشكال مختلفة بين قوى “التوحيد وبناء مؤسسات دولة العدالة والمواطنة المتساوية”، وبين” طيف واسع من قوى التقسيم التي تعمل على تفشيل المسار”.
وبالتالي فإنّ كلّ فشل في تعزيز جهود حماية السلم الأهلي ومصالح السوريين، وفي بناء مؤسسات الدولة الوطنية تصب نتائجه في خدمة أجندات وأدوات القوى التي تعمل على تثبيت وشرعنة عوامل تقسيم سوريا وتحاصصها!
هي أبرز سمات الصراع السياسي على سوريا في هذه المرحلة المصيرية، وعلى الوطنيين، الذين يؤمنون بوحدة سوريا، وديمقراطية نظامها السياسي، العمل معا لمواجهة قوى التطييف والتقسيم الداخلية، التي باتت ارتباطاتها بأجندات ومصالح دول خارجية واضحة المعالم، وتعزف على أوتار الممارسات الإجرامية واللاوطنية الممنهجة أو الفردية، تحت مسميات ويافطات مختلفة!!
تتجاهل قوى جبهة التفشيل والتقسيم تحديّات مواجهة إرث الدولةُ التي تركها بشار الأسد حين لاذَ بالفرار من سوريا، وقد أصبحت كومة من الركام والفساد، ووقائع الحاجة إلى نهج وطني ورغبة صادقة لإعادة صياغة مؤسّسات دولتنا الوطنية الجديدة بحيث تصبح مؤسّسات لخدمة المواطن، لا لافتراسه، ومن الطبيعي أن يكون الطريق طويلا جدّاً أمام هذا المشروع غير المسبوق، وأن يكون المخاض مؤلما!
فثقافةُ الفساد متجذّرةٌ في جميع مفاصل الدولة لكن طريق الألف ميل يبدأ بخطوة وقد بدأ العمل في هذا الاتّجاه بالفعل، ومن اللاموضوعية وضع العصي في دواليب تقدّم مشروع الإصلاح المؤسساتي والإداري الاقتصادي من خلال اتهام الإدارة الجديدة بالعمل على بيع قطاع الدولة، وتجاهل وقائع تصاعد ممارسات وسياسات تفشيل قطّاع الدولة تمهيدا لبيعها، منذ العام 2000، ونحن نعلم جيدا مَن تاجر وباع، ومَن قبض، خاصّة، بعد 2020!
لمصلحة مَن نتجاهل أنّ المخاطرُ المحدقة بسوريا داخليّاً وخارجيّاً جمّة، وأنّ المخاضَ عسير والطريق طويل وشاقّ، وأن نتفاءل بمستقبل سوريا وبالقيادة الجديدة الموجودة، وأرى أنّها تستحقّ الدعم والمساعدة ما ظلّت مخلصة في سعيها لتوفير شروط حماية السلم الأهلي من خلال مصادرة السلاح وتفكيك الميليشيات، ونهج بناء مؤسسات دولة المواطنة المتساوية والقانون العادل.
من مصلحتنا أن ندرك أن الدعم لا يكون بالتطبيل والتهليل ورفع الصور وإعادة استنساخ ثقافة النفاق وصناعة الأصنام التي عهدناها بل بمساندة الكوادر وبناء مؤسّسات مدنيّة قويّة قادرة على رفد الدولة وحفظ المجتمع، كما يكون بالتناصح لا بالتزلّف.
النقد مسؤولية وطنية وأخلاقية، ونحن بأمس الحاجة لتعزيز أشكال ثقافة ولغة النقد البنّاء، الذي يكشف المخاطر، وسوء العواقب على السلم الأهلي ومصالح الناس المشروعة، وليس من أجل دفع سوريا وشعبها إلى هاوية الحروب الأهلية والتقسيم، بل للدفع باتجاه تعزيز وحدة السوريين في إطار المسار السياسي المؤسساتي الذي يقوده رئيس سوريا خلال المرحلة الانتقالية.
(1)-
لتأخذ على سبيل المثال رؤية الرئيس السوري أحمد الشرع حول قضية “السلم الأهلي”، كما عرضها في المقابلة على تلفزيون سوريا، 3 شباط الجاري:
تساؤل:
قضية السلم الأهلي، وتحقيق السلم الأهلي، وضرورة ذلك. تعلم، تحصل أحداث مؤسفة في بعض المناطق، في ريف حمص والساحل، ما هي خططكم للتعامل مع هذا الملف؟
جواب:
ظهرت خططننا أثناء العمل العسكري، وكانت سماته واضحة. وهو الذي حافظ على السلم الأهلي… عبر طريقة الدخول إلى المدن.. كنت حريصا جدا على طريقة دخولنا إلى حلب. عندما كنا نحضّر للمعركة، كررنا دائما “بقدر ما نهتم بالعمل العسكري، ينبغي الاهتمام بكيفيّة الدخول إلى المدن والبلدات الكبرى. كان في الدخول إلى حلب انضباط شديد، وهذا أوصل رسائل للجميع.
كما نعلم، النظام خلال فترة حكمه، عمل على تقسيم المجتمع، من خلال الاعتماد على فئات معينة، استخدمها ضد فئات أخرى، وكانت بالتالي احتمالية حصول حرب أهلية كبيرة جدا، وعمليات انتقام.. ولكن عندما سارت مجريات المعركة بسلاسة، وكان دائما عنوانها فيه رحمة و”فتح، لا ثأر فيه”، وكنت أركّز دائما على هذه المسائل في الجهد الكبير الذي بذلناه قبل بدء المعركة، حتى نصل إلى هذا الأداء… وهذا أعطى رسالة طمأنة إلى الجميع وكان فيه رفعة وقوّة لِمَن يقوم به. اليوم الدولة هي التي تشكّل الضمانة لكلّ الطوائف، بمن فيها التي كانت تُستخدم لإيذاء أطراف أخرى… نحن يجب أن نركّز في الحالة السورية على عملية البناء، والبناء لا يمكن أن يكون إذا لم يكن المجتمع موحّدا.
السلم الأهلي ليس رفاهية اليوم في سوريا، بل هو واجب على السوريين أن يبذلوا كلّ ما استطاعوا من قوّة إلى أن يبقوا موحدين، لأنّ هذا هو العنصر الأساسي، والدعم الرئيسي لنهضتهم..أمّا إذا بقينا أسرى للخلافات البينيّة، والطائفية، وإثارة النعرات البينية، أخشى أن يكون هناك كارثة كبيرة في سوريا.. اليوم وصلنا إلى بر الأمان… وأن يكون هناك حوادث تجري هنا وهناك… فهي بالحد الأدنى… وكان المتوقع مع الأسف أكبر من هذا بكثير، بسبب ما خلّفه النظام. فستين سنة من السياسات السلبية في إدارة البلاد، مُحيت في بضعة أسابيع، والحمد لله”.
تلفزيون سوريا
——————————
العقوبات الأميركية على سورية: بين الإرث الثقيل والسيناريوهات المستقبلية
يمان زباد
يمان زباد
نشر في 5 شباط/فبراير ,2025
تحميل الموضوع
مشاركة
مشاركة
مقدمة
بعد انطلاقة الثورة السورية عام 2011، فرضت دولٌ ومنظمات دولية العديدَ من العقوبات على نظام الأسد، كورقة ضغط سياسي واقتصادي عليه، في محاولة لمعاقبة نظام الأسد وإجباره على تغيير سلوكه ودفعه إلى طاولة المفاوضات السياسية. وأدّت هذه العقوبات إلى إضعاف بعض أدوات نظام الأسد ورموزه، ولا سيّما بعد إقرار أميركا قانون قيصر عام 2019. وبعد سقوط الأسد، طالبت حكومة تسيير الأعمال الجديدة في سورية وعدد من المنظمات برفع العقوبات المفروضة، ولا سيما الأميركية منها، وذلك لزوال سبب فرضها، وهو سقوط النظام، في حين طالبت بعض الحقوقيين بالتأني في رفع العقوبات، لحين تبيان سلوك الحكومة الجديدة، لكي تكون هذه العقوبات بمنزلة أداة ضغط عليها.
يقدّم تقييم الحالة قراءة سردية العقوبات الأميركية التي فُرِضت على نظام الأسد الأب والابن، وتبيين ماهية هذه العقوبات والقطاعات التي استهدفتها على صعيد الإجراءات والأفراد والكيانات، وتفنيد مآلات استمرار فرضها على الحكومة الجديدة بعد سقوط نظام الأسد، مع رسم السيناريوهات المستقبلية للعقوبات، وعرض نتائج كل سيناريو، داخليًا وخارجيًا.
أولًا: العقوبات الأميركية على نظام الأسد
العقوبات الأميركية قبل 2011
بدأت العقوبات على نظام الأسد الأب في كانون الأول/ ديسمبر عام 1979، بسبب دعمه لبعض الفصائل الفلسطينية التي استهدفت مصالح أميركية واحتلاله سابقًا للبنان[1]، وتمت معاقبة الدولة السورية حينها تحت بند “دولة داعمة للإرهاب”، وشملت العقوبات فرض حظر المبيعات والصادرات العسكرية لسورية، وبعض القيود المالية.
وكانت المرحلة الثانية من العقوبات عام 2003، تحت قانون “محاسبة سورية والسيادة اللبنانية”، وتم تطبيقه عام 2004، في عهد الرئيس الأميركي جورج بوش الابن[2]، وذلك بسبب تسهيل نظام الأسد عبور المقاتلين من سورية باتجاه العراق، وتضمنت العقوبات جوانب عدة:
عسكري: حظر معظم الصادرات الأميركية إلى سورية، ومنع الشركات الأميركية من العمل أو الاستثمار في سورية، ومراقبة استيراد نظام الأسد لأي مواد يمكن أن تُسهم في الصناعات العسكرية.
دبلوماسي: تقييد حركة البعثة الدبلوماسية السورية في واشنطن ونيويورك.
اقتصادي: يشمل منع شركات الطيران المملوكة للدولة السورية من الإقلاع أو الهبوط أو التحليق فوق الأراضي الأميركية، وحظر تصدير جميع المواد المنتجة في أميركا، باستثناء المواد الغذائية والطبية.
ومُنح الرئيس الأميركي حينها صلاحية إعفاء سورية من العقوبات المتعلقة بتصدير المواد الأميركية لمدة ستة أشهر، أو السماح بتقديم مساعدات إنمائية مباشرة للحكومة السورية، في حال التأكد من توقف دعم نظام الأسد للجماعات المسلحة في العراق، والتزام سورية باحترام سيادة لبنان، وعدم التدخل في الشؤون الداخلية اللبنانية. وسحبت الولايات المتحدة الأميركية سفيرتها في دمشق مارغريت سكوبي عام 2005، بعد حادثة اغتيال رئيس الوزراء اللبناني رفيق الحريري. وفي عهد الرئيس الأميركي باراك أوباما عام 2010، خُفّضت العقوبات في الجانب الدبلوماسي، وحدث بعض الانفتاح الدبلوماسي بين سورية وأميركا، حيث عُيّن روبرت فورد سفيرًا للولايات المتحدة في دمشق.
يمكن تقسيم العقوبات الأميركية على سورية قبل عام 2011 إلى نوعين، من حيث جهة إقرار العقوبات: الأول: عقوبات تم إقرارها حسب قانون مكافحة الإرهاب “باتريوت”، إذ استُهدف البنك التجاري السوري بتلك العقوبات عام 2006 عبر منع البنوك الأميركية أو المؤسسات التابعة لها من التعامل معه، وانتهى العمل بالقانون عام 2015. والنوع الثاني: لوائح عقوبات يعدّها الكونغرس ويوافق عليها الرئيس وتقرّها وزارة الخزانة الأميركية، وكان الهدف منها ملاحقة الأشخاص السوريين والكيانات المتورطة بأنشطة إرهابية في العراق أو لبنان، وتقييد حركتهم المالية، وما زالت سارية.
العقوبات الأميركية بعد 2011
مع انطلاق الثورة السورية، استدعت الولايات المتحدة سفيرها في دمشق، في تشرين الثاني/ أكتوبر 2011، بعدما قالت إن هناك تهديدًا جديًا على سلامته في حال بقائه في دمشق، وأصبحت العلاقات الأميركية مع نظام الأسد مجمدة دبلوماسيًا حتى سقوطه.
بدأت العقوبات الأميركية تدريجيًا، منذ نيسان/ أبريل 2011، واستهدفت مسؤولين عن “انتهاكات حقوق الإنسان”، بحسب التصريحات الأميركية[3]،حيث كانت العقوبات الغربية، ولا سيما الأميركية، التي فُرضت تباعًا منذ عام 2012 حتى عام 2024 على نظام الأسد، رغم تفاوت طبيعتها، تهدف إلى تقويض أدواته العسكرية والأمنية ورموزه، وبشكل خاص واجهاته الاقتصادية التي تشمل الشخصيات والشركات، بهدف إضعافه ودفعه إلى طاولة المفاوضات بعدما تكرر رفضه الجلوس عليها، إضافة إلى تحجيم قدرته على تمويل ميليشياته وأذرعه. وصدرت في تلك الفترة قرارات تتعلق بمراقبة دقيقة لأدوات نظام الأسد العسكرية وترسانته الكيميائية، وتضمنت ميزانية الاستخبارات الأميركية لعام 2014 المادةَ رقم (324)، المتعلقة بترسانة الأسد الكيميائية وفيها أوامر بجمع معلومات عن[4]:
مخزونات الأسلحة الكيميائية، والكميات، والمواقع، وأشكال التخزين والإنتاج، ومرافق البحث والتطوير في سورية.
قائمة بالأفراد الرئيسيين المرتبطين بالبرنامج الكيميائي.
مخزونات الأسلحة الكيميائية غير المعلنة والذخائر والمرافق، فضلًا عن إجراء تقييم لكيفية الحصول على المخزونات والمواد الأولية وأنظمة التسليم.
الثغرات الاستخباراتية.
أدوات الأسد في إنكار برامج الأسلحة الكيميائية الخاصة به، وكيفية تشويش الدولة على وجوده.
وجاءت تلك المراقبة بعد قصف نظام الأسد للغوطة الشرقية بغاز السارين، في آب/ أغسطس 2013، وتسليمه جزءًا من ترسانته الكيميائية لاحقًا عبر صفقة روسية أميركية.
أما على صعيد رصد الانتهاكات، ففرضت الحكومة الأميركية على وزارة الخارجية تقديم تقارير دورية عن “المجازر” التي تحدث في سورية، مثل البند (1232)، في قانون التفويض الوطني الأميركي للدفاع عام 2019، الذي نص على أنه “يجب على وزارة الخارجية تقديم تقرير عن جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية والإبادة الجماعية في سورية”، وبحسب الجدول (1)، نجد أن العقوبات الأميركية كانت ديناميكيتها منذ البداية في عامي 2011 و2012 تتركز في استهداف ثلاثة محاور: بعض المؤسسات، وبعض الأفراد، وإجراءات عامة.
جدول (1) ديناميكية العقوبات الأميركية في عامي 2011-2012
وكانت ذروة العقوبات الأميركية بإقرار قانون قيصر عام 2019، وتطبيقه عام 2020، الذي تميّز عن العقوبات السابقة باستهدافه القطاع المصرفي وقطاع الطاقة بشكل مباشر، حيث شمل القانون تجميد أصول الأفراد والكيانات المرتبطة بالأسد، واعتبر أن مصرف سورية المركزي هو وسيلة “لغسل أموال” نظام الأسد، ومما يميز قانون قيصر إجرائيًا عن باقي العقوبات، أنه استهدف الداعمين للأسد، سواء أكانوا سوريين أم غير سوريين، وليس فقط حظر خدمات أو تقييدها، كما العقوبات السابقة، ومن ثم يحاصر الأسد اقتصاديًا، ويزيد الضغط الاقتصادي على النظام.
وتضمّنت العقوبات الأميركية على سورية ثلاثة أنواع للرخص ضمن فترات زمنية متتالية:
رخص لتركيا في مجالات التنمية: مثل الطاقة والدفاع والزراعة والتعليم، للعمل في المناطق غير الخاضعة لسيطرة نظام الأسد، وذلك للسماح لها بتنفيذ مشاريع أو المساهمة فيها على صعيد الحكومة التركية، على ألا تتعامل مع حكومة الأسد بشكل مباشر أو مع الأشخاص المُعاقبين[5].
رخص بسبب حالات طارئة:
جائحة كورونا 2019: أصدرت الحكومة الأميركية استثناءً من العقوبات، شمل قطاع الوقاية والعلاج الطبي، من خلال السماح باستيراد المواد الطبية لمواجهة جائحة كورونا، وانتهت هذه الرخصة في حزيران/ يونيو 2024[6].
كارثة زلزال شباط/ فبراير 2023: أصدرت الحكومة الأميركية استثناءً من العقوبات، سمح بتحويل الأموال إلى سورية، على ألا يتم التحويل لأشخاص معاقبين بحسب القوائم الأميركية، وانتهت الرخصة في آب/ أغسطس 2023[7].
رخص بحسب المنطقة الجغرافية 2022: أصدرت الحكومة الأميركية، في أيار/ مايو 2022، رخصة لمناطق جغرافية في شمال شرق وشمال غرب سورية، مستثناة من العقوبات الأميركية في قطاعات عديدة، مثل الاتصالات والبنية التحتية والتعليم واستيراد وتصدير بعض المواد إلى المناطق المُستثناة، وما زالت الرخصة سارية حتى الآن[8].
ثانيًا: العلاقات الأميركية مع سورية بعد سقوط نظام الأسد
تزامن هروب الأسد وتسلّم إدارة العمليات العسكرية للسلطة، في كانون الأول/ ديسمبر 2024، مع شهر إقرار تمديد قانون قيصر من عدمه، وعلى الرغم من هروب الأسد، أصدرت الولايات المتحدة الأميركية قرارًا بتمديد القانون في 12 كانون الأول/ ديسمبر 2024 حتى عام 2029.
وبعد سقوط الأسد؛ طالبت الحكومة الجديدة وعدد من منظمات وشخصيات المجتمع المدني السوري، برفع العقوبات المفروضة على سورية، ولا سيما الأميركية منها، وذلك لزوال مسبب تلك العقوبات وهو نظام الأسد، ولحدوث بداية انفتاح أميركي على الحكومة الجديدة، مع زيارة وفدٍ من وزارة الخارجية الأميركية لدمشق، ضمّ كلًا من المستشار الأول لدى مكتب وزارة الخارجية لشؤون الشرق الأدنى “دانيال روبنشتاين”، الذي عُيّن مبعوثًا رئاسيًا خاصًا لسورية، ومساعدة وزير الخارجية لشؤون الشرق الأدنى “باربرا ليف”، والمبعوث الرئاسي الخاص لشؤون الرهائن “روجر كارستينز”، ولقائهم بأحمد الشرع، وتبع الزيارة تغيّرات عدة:
ألغَت أميركا المكافئة التي رصدتها لمن يقدّم معلومات عن أحمد الشرع (أبو محمد الجولاني)، مما أعطى الحكومة السورية انفتاحًا سريعًا عليها[9].
إعلان وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن أن إدارة بايدن على تواصل مباشر مع “هيئة تحرير الشام”، وأن أميركا متفقة مع الشركاء على مجموعة مبادئ يرتبط الاعتراف بالحكومة المؤقتة الجديدة في سورية بمدى تطبيقها.
منحت أميركا رخصة في إيقاف بعض القيود المفروضة على سورية بسبب العقوبات، لمدّة 6 أشهر، وتسمح الرخصة ببعض التعاملات مع الحكومة منها بعض قطاع الطاقة، وبتحويل الأموال الشخصية إلى سورية حتى عبر مصرف سورية المركزي.
وتشير السياسات الأميركية تجاه سورية بعد سقوط الأسد إلى انفتاح حذر ومحاولة المحافظة على تثبيت الوجود في خارطة الدول التي تتواصل مع الحكومة الجديدة، من دون تقديم انفتاح كامل عليها، وذلك بالتزامن مع تمايز ظهر في موقف بعض الحقوقيين السوريين تجاه رفع العقوبات، إذ اعتبروا أن العقوبات قد تكون ورقة ضغط على الحكومة السورية الجديدة، من أجل إطلاق عملية سياسية تشمل كل الفئات والمكونات السورية، وبذلك يتحوّل الهدف من العقوبات، من الضغط على الأسد، إلى الضغط على الحكومة بعد سقوط الأسد، وهذا يحمل بعدَين لهما خطورة على المستقبل القريب في سورية:
الأول: أنه لا يمكن أن يكون هناك مرحلة تنموية انتقالية بسورية مع وجود العقوبات، في ظل الواقع الاقتصادي والمعيشي في سورية، وهذا يحدّ من نجاح خطط أيّ حكومة.
الثاني: أن جعل العقوبات الأميركية أداةً للضغط على الحكومة الحالية أو القادمة، يُعدّ بابًا لتدخّل خارجي بمطالب جاهزة، من أجل رفع العقوبات التي ستُحدّد شكل الاقتصاد السوري في حال إبقائها أو رفعها.
وضمن الفلسفة الأميركية في موضوع العقوبات تاريخيًا؛ نجد أنّ فرض العقوبات أسهلُ من إزالتها، وأقرب نموذج زمانيًا كان أفغانستان.
ثالثًا: مآل العقوبات الأميركية بعد الرّخصة المؤقتة
أعلنت أميركا تخفيف العقوبات المفروضة على سورية في بعض القطاعات لمدة 6 أشهر[10]، من تاريخ 6 كانون الثاني/ يناير، حتى تاريخ 7 تموز/ يوليو 2025، إذ شمل تخفيف العقوبات أربعة محاور أساسية:
تسهيل عمل الحكومة من أجل أداء مهامها، وتوفير المتطلبات الأساسية للبنية التحتية مثل المياه والكهرباء.
السماح بالتعامل مع مؤسسات الدولة (عدا الدفاع والاستخبارات)، وتشمل الإدارات والوكالات والمنشآت الخدمية مثل المستشفيات.
السماح للمعاملات المتعلقة بمجالات دعم تبادل الطاقة، بكل أنواعها البترولية والكهربائية، سواء على صعيد إيصالها إلى سورية أو تخزينها داخل سورية.
السماح للحوالات الشخصية غير التجارية بالوصول إلى سورية حتى عبر مصرف سورية المركزي، باستثناء تحويل الأموال للأفراد المدرجين في قائمة العقوبات.
وعلى الرغم من أن المرحلة القادمة في سورية تحمل بعدَين أمني عسكري واقتصادي بدرجة أولى، وتستهدف العقوبات الأميركية كِلا البعدَين، فلا يمكن البدء بعملية إعادة هيكلية أمنية أو عسكرية، في ظل عقوبات ممتدة على هذا القطاع منذ عام 1979 عندما صنفت سورية “دولة داعمة للإرهاب”، وأفضَت هذه العقوبات إلى حظر الصادرات والمبيعات الدفاعية لسورية، حتى عام 2023 ضمن قانون قيصر، وسيكون السعي فقط نحو إلغاء قانون قيصر والعقوبات المفروضة على مؤسسات الدولة بعد 2011 قاصرًا، ولن يجعل سورية تبدأ مسار تعافٍ اقتصادي وحوكمي. وبحسب الشكل (1) يجب أن تكون مطالبات إلغاء العقوبات على سورية بحسب المسارات التالية:
ومن ثم، تحتاج الحكومة السورية إلى السّعي أيضًا لإزالة تصنيف سورية كـ “دولة داعمة للإرهاب”، حيث أزيلت دول عدة من القائمة، مثل العراق واليمن الجنوبي سابقًا، وليبيا، والسودان عام 2020،ولكن هذه الدول أزيلت من القائمة، بعد طلبات أميركية أغلبها غير مرتبط بالبنية الداخلية للدولة أو سلوكها الداخلي، إنما بسلوكها الخارجي، وذلك بعد أحداث مفصلية مرت في كل بلد على حدة، ويضع الجدول (2) رؤية عامة عن الخطوات التي سببت إزالة هذه الدول من القوائم:
جدول رقم (2) الدول التي كانت مصنفة كدول داعمة للإرهاب وشروط إزالتها
ويُلاحظ أن الولايات المتحدة الأميركية، ضمن واقع مصالحها في المنطقة، تهتم بالملفات التالية، التي ربما ستكون موجودة في أي ورقة خطوات قد تقدمها الحكومة للقيادة السورية الجديدة لرسم خارطة رفع العقوبات وإزالة سورية من تصنيف “الدول الداعمة للإرهاب”:
ضمان عدم عودة إيران إلى سورية، وهذا يتقاطع مع إرادة القيادة السورية.
ضمان عدم إنشاء علاقات سياسية قوية مع روسيا قد تُفضي إلى علاقات عسكرية متعلقة بإعادة تسليح الجيش السوري، وحينذاك لن تكون الولايات المتحدة اليد الأعلى والوحيدة في الدعم العسكري لسورية.
الملف الأمني لإسرائيل.
ملف قوات سوريا الديمقراطية (قسد).
تحوّل الجيش السوري القادم إلى المعسكر الغربي، بعد أن كان الاتحاد السوفيتي وروسيا المورد الأساسي للتجهيزات العسكرية له.
وفي ظلّ تشابك المصالح الدولية، ولا سيّما الأميركية، في سورية، مع المشهد الاقتصادي الهشّ، تظهر السيناريوهات التالية على صعيد الرخص والعقوبات المفروضة على سورية.
1- تمديد الرّخص الممنوحة بالتتالي:
في حال اعتمدت الإدارة الأميركية على ديناميكية تمديد الرخص على العقوبات المفروضة بشكل متتال، ستحافظ الدولة السورية والمنظمات العاملة على مستوى الاستجابة العاجلة في سورية، مع غياب انطلاق أي مشاريع طاقة أو مشاريع بنية تحتية مستدامة، لأن تحديد مدى الإعفاء من العقوبات الاقتصادية يُكبِّل الحراك الاقتصادي للقطاعات الأساسية، وهذا الأمر يُقاس أيضًا على المنظمات الدولية أو المحلية، التي ستكون عاجزة عن وضع خطط طويلة الأمد وبناء هيكلية مؤسساتية لها، في ظل واقع اقتصادي غير مستدام، ولا سيما بالنسبة للحوالات التي تعتمد عليها تلك الجهات.
ويضاف إلى ذلك أن التفويض الممنوح لا يسمح باستلام مساعدات من مؤسسات مالية دولية، مثل صندوق النقد الدولي والبنك الدولي، ولا يرفع الحظر عن أي ممتلكات ومصالح تخص الحكومة السورية أو مصرف سورية المركزي، ومن ثم ستبقى كل ممتلكات الدولة السورية خارج سورية مجمّدة، وممّا قد يرجّح حدوث هذا السيناريو:
عدم توسيع القيادة السورية الحالية للمشاركة السياسية في الحكومة التي تلي حكومة تسيير الأعمال التي ينتهي عملها بحسب التصريحات الرسمية في آذار/ مارس 2025، حتى الآن.
فتح قنوات دبلوماسية موسّعة من جديد مع روسيا، بسبب صفقة قد تقدّمها روسيا متعلقة بالأسد أو أصوله المالية الموجودة في روسيا.
عدم إعلان آليات إعادة هيكلة الجيش والأمن وماهية عملية الإصلاح الأمني المُطَبَقة، مما يُفضي إلى تخوّفات من تحوّل الجيش إلى فصيل موسّع بتوجهات أيديولوجية فقط، ويشكل هذا السلوك بالنسبة إلى أميركا تهديدًا خارجيًا لإسرائيل، مما قد يمنعها من أخذ قرار بإزالة العقوبات، والاكتفاء بتجديد الرُخص فقط.
2- رفع العقوبات بشكل كامل عن سورية بالتدريج
يُعدّ هذا السيناريو الأمثل، على صعيد إعادة الإعمار الاقتصادي والسياسي والاجتماعي، في حال توصّل الإدارة الأميركية إلى خارطة طريق واضحة مع حكومة تسيير الأعمال أو الحكومة التي تليها، من أجل تحقيق رفع العقوبات الأميركية، ومما قد يرجّح هذا السيناريو:
توصّل الجانبَين الأميركي والتركي إلى اتفاق حول مصير “قوات سوريا الديمقراطية”، مما يسهّل على الحكومة السورية تعاملها مع أميركا في ملف شمال شرق سورية. وفي حال عدم التوصّل إلى ذلك الاتفاق، فقد تظل هذه النقطة إشكالية بالنسبة إلى تركيا، ولا سيّما إذا دخلت (قسد) في حكومة ائتلافية، أو دُمجت في الجيش المُراد بناؤه ككتلة عسكرية لا كأفراد.
إبقاء الحكومة السورية على قنوات دبلوماسية محددة مع روسيا، من دون الوصول إلى مستوى تنسيق عسكري وسياسي عال.
حدوث حراك عربي، وخصوصًا من قبل السعودية وقطر، لرفع العقوبات عن سورية، عبر قنواتهم الدبلوماسية، وسعيهم لاستصدار رخص للعمل في سورية.
ويُضاف إلى تلك النقطتين أن يكون هناك سعي دبلوماسي سوري يعمل مع الشركاء الدوليين أو الدول الراغبة في العمل في سورية، ويشجّعها على التواصل مع الإدارة الأميركية ضمن مستويين متزامنين:
الحصول على تراخيص وإعفاءات فردية، ضمن قطاعات معينة، عن طريق مكتب مراقبة الأصول الأجنبية[11].
الدفع باتجاه تسريع الحصول على نتائج التراخيص التي ستُقدم إلى الإدارة الأميركية، على غرار ما فعلته وزارة التجارة الأميركية بعد زلزال شباط/ فبراير 2023، إذ أعلنت تسريع إصدار التصريحات الخاصة بالصادرات إلى سورية[12].
3- عدم تمديد الرّخص والإبقاء على العقوبات
يتمثل هذا السيناريو بعدم تمديد الرُخصة الممنوحة حاليًا، التي تنتهي في تموز/ يوليو 2025، وبصدور قرار واضح من الحكومة الأميركية بعدم رفع العقوبات أبدًا على سورية، وهذا سيُشكل بداية دخول سورية في مرحلة لا استقرار اقتصادي وسياسي وحتى اجتماعي، إذ سيقوض أي جهود مساعدة دولية من المنظمات أو من الدول، ويجعلها في المستوى الأدنى فقط الذي يكفل المساعدات الغذائية والطبية، بالتزامن مع عدم القدرة على إعادة إعمار المدن المهدّمة، مما يفضي إلى غياب القدرة على تأسيس بيئة تُناسب عودة اللاجئين، أما على الصعيد الأمن القومي الخارجي للدول، فسينعكس موضوع عدم رفع العقوبات على الملفات التالية:
تجارة الكبتاغون: حاول نظام الأسد استغلال ملف تجارة المخدرات عبر ميليشيات مقربة منه وتابعة له، من أجل العبث بالأمن القومي للدول، ولا سيّما دول الجوار مثل الأردن، وما زالت تلك الميليشيات موجودة، ولكنها لم تعد فاعلة بعد سقوطه، بسبب حذرها من النظام الجديد الذي يتشكّل الآن، وتصريحاته أنه لن تكون سورية دولة لتصدير المخدرات. ولكن في حال عدم وجود تحسّن اقتصادي، وتراجع قدرة النظام على الضبط الأمني بسبب فقدان قدرته بناء جهاز أمني فاعل نتيجة العقوبات؛ ستعود هذه الميليشيات للنشاط في التهريب وإغراق المجتمع المحلّي به، وذلك للعائدات المالية الكبيرة لهذه التجارة، في ظلّ انتشار البطالة والضعف الاقتصادي، بسبب استمرار العقوبات.
الدور الإيراني: كان سقوط نظام الأسد هزيمةً للمحور الإيراني في المنطقة، حيث شكّل نقطة فراغ في خط الإمداد الإيراني إلى لبنان، ولطالما كانت المنتجات الإيرانية، من النفط أو من السلاح، هدفًا للأسواق المعاقبة أوروبيًا وأميركيًا مثل الصين، ومن ثم قد يُفضي استمرار العقوبات الغربية على سورية، إلى دخول إيران إلى سورية عبر البوابة الاقتصادية، وسيؤدي ذلك حتمًا إلى إعادة تفعيل ميليشياتها المحليّة.
الدور الروسي: كان الدور الروسي فاعلًا في تاريخ سورية، منذ انقلاب البعث عام 1963، وكان الدور الأبرز عسكريًا، عبر مدّ الجيش السوري بالمعدات العسكرية بكل أنواعها، وبرز هذا الإمداد، بسبب العلاقات السورية الجيدة مع الاتحاد السوفيتي ورخص المعدات الروسية، مقارنة بالتجهيزات الغربية، واستمر هذا الدعم حتى سقوط الأسد، وجاءت الضربات الإسرائيلية التي دمّرت نسبة كبيرة من مقدرات الجيش السوري، ومن ثم، فإن عملية بناء الجهاز العسكري الآن أمام مفترق طرق، وإن إبقاء العقوبات المفروضة على سورية، وهي التي تمنع أي إيرادات عسكرية لسورية، قد يؤدي إلى عودة الدور العسكري الروسي في سورية بقوة، وذلك بسبب غياب البدائل.
ختامًا؛ كانت فلسفة العقوبات الأميركية على سورية، منذ بدايتها عام 1979، ضمن مشهد أوسع مرتبط بالصراع الأميركي السوفيتي، إضافة إلى سلوك نظام الأسد (الأب والابن)، ابتداءً من احتلال حافظ الأسد للبنان، وتحالفه مع إيران بعد ثورة الخميني، مرورًا بتورط بشار في ملف الجماعات المتطرفة في العراق بعد عام 2003، وضلوع نظامه في اغتيال رئيس الوزراء اللبناني رفيق الحريري عام 2005، وانتهاءً بسلوك نظام الأسد ضد الشعب السوري بعد 2011، وزوال الأسد الذي انتهج تهديد الأمن القومي للدول سلوكًا لتحقيق مصالحه، من أجل فرض سلطة أمر واقع على صعيد علاقاته الدولية، وكسر الحصار المفروض عليه في عدة مناسبات.
إن كلّ المعطيات الحالية تدلّ على أن العقوبات الأميركية فقدت الهدفَ الذي وضعت لأجله، وإن تحوّل ملف العقوبات، من ملف كان هدفه محاصرة الأسد، إلى أداة ضغط على حكومة تسيير الأعمال أو الحكومات اللاحقة، لتنفيذ لائحة سياسيات مطلوبة دوليًا، يُنذر بحدوث كارثة اقتصادية، ودخول البلاد في دوامة من الركود الاقتصادي واللا جدوى من مشاريع المنظمات، ويعوق وضعَ خطط تنمية مستدامة في ظل العقوبات، في حين إن القطاع الأمني والعسكري يحتاج إلى دعم معداتي، بسبب تآكل التجهيزات العسكرية لنظام الأسد وتدمير جزء كبير منها، وإنّ الإبقاء على العقوبات سيترك سورية دولةً هشةً، اقتصاديًا وعسكريًا، ويجعلها عرضة لأن تكون خاصرة رخوة، تنشط فيها ميليشيات تجارة المخدرات، وتؤثر سلبًا في الأمن القومي لدول الجوار، ما يفتح البابَ لعودة دور إيران وروسيا في المنطقة، ولو عبر أذرع محلية.
المراجع:
US Department of state, U.S.-Syria Relations
US Congress, H.R.1828 – Syria Accountability and Lebanese Sovereignty Restoration Act of 2003
S.Hrg. 112-365 — U.S. POLICY IN SYRIA
US Congress, S.1681 – Intelligence Authorization Act for Fiscal Year 2014, DEC 2013
Office of Foreign Assets Control, GENERAL LICENSE 3, Authorizing Official Activities of Certain International Organizations Involving the Ministry of National Defense or the Ministry of Energy and Natural Resources of the Government of Turkey
Office of Foreign Assets Control, Syria General License 21B, Authorizing Certain Activities to Respond to the Coronavirus Disease 2019 (COVID-
Office of Foreign Assets Control, Syria General License 23, Authorizing Transactions Related to Earthquake Relief Efforts in Syria,
Office of Foreign Assets Control, GENERAL LICENSE NO. 22, Authorizing Activities in Certain Economic Sectors in Non-Regime Held Areas of Northeast and Northwest Syria
Office of Foreign Assets Control, GENERAL LICENSE NO. 24, Authorizing Transactions with Governing Institutions in Syria and Certain Transactions Related to Energy and Personal Remittances
Office of Foreign Assets Control, Specific Licenses and Interpretive Guidance
BUREAU OF INDUSTRY AND SECURITY, COMMERCE ANNOUNCES EXPEDITED LICENSING FOR EXPORTS TO ASSIST IN EARTHQUAKE RELIEF
[1] US Department of state, U.S.-Syria Relations, https://www.state.gov/countries-areas/syria/
[2] US Congress, H.R.1828 – Syria Accountability and Lebanese Sovereignty Restoration Act of 2003, https://bit.ly/3PEgzRg
[3] S. Hrg. 112-365 — U.S. POLICY IN SYRIA, https://bit.ly/3Q2hDyz
[4] US Congress, S.1681 – Intelligence Authorization Act for Fiscal Year 2014, DEC 2013, https://bit.ly/40KbHiJ
[5] Office of Foreign Assets Control, GENERAL LICENSE 3, Authorizing Official Activities of Certain International Organizations Involving the Ministry of National Defense or the Ministry of Energy and Natural Resources of the Government of Turkey https://bit.ly/40MM8NY
[6] Office of Foreign Assets Control, Syria General License 21B, Authorizing Certain Activities to Respond to the Coronavirus Disease 2019 (COVID-19), https://bit.ly/4aN45R1
[7] Office of Foreign Assets Control, Syria General License 23, Authorizing Transactions Related to Earthquake Relief Efforts in Syria, https://bit.ly/4goR4yn
[8] Office of Foreign Assets Control, GENERAL LICENSE NO. 22, Authorizing Activities in Certain Economic Sectors in Non-Regime Held Areas of Northeast and Northwest Syria https://bit.ly/4hpRBBE
[9] The Guardian, US lifts $10m bounty on HTS leader after talks in Syrian capital, 20 DEC 2024 https://bit.ly/3WN0Bbs
[10] Office of Foreign Assets Control, GENERAL LICENSE NO. 24, Authorizing Transactions with Governing Institutions in Syria and Certain Transactions Related to Energy and Personal Remittances, https://bit.ly/4jGq28x
[11] Office of Foreign Assets Control, Specific Licenses and Interpretive Guidance, https://bit.ly/4gpVyF1
[12] Bureau of Industry and Security, Commerce Announces Expedited Licensing for Exports to Assist In Earthquake Relief, https://bit.ly/42FJwnO
تحميل الموضوع
مركز حرمون
——————————–
احتفاء تركي بالشرع: نريد موطئ قدم عسكرياً / الدكتور محمد نور الدين
تحديث 05 شباط 2025
في زيارته الثانية خارج سوريا، وصل الرئيس السوري، أحمد الشرع، رفقة زوجته لطيفة، ووزير الخارجية أسعد الشيباني، ورئيس الاستخبارات أنس خطاب، أمس، إلى تركيا، حيث التقى الرئيس رجب طيب إردوغان، ووزير خارجيته حاقان فيدان، ورئيس الاستخبارات إبراهيم قالين. وأعقب لقاء الرئيسَين، اجتماع مشترك للوزراء المشاركين في المحادثات، في ما يذكّر باجتماع مماثل مشترك لحكومتَي البلدَين في عام 2009. وبعده، عقد الرئيسان مؤتمراً صحافياً مشتركاً، تحدّث فيه إردوغان أولاً، قائلاً إن «زيارة الشرع تشكّل فصلاً جديداً بدأ ليس فقط في تركيا، بل في المنطقة أيضاً»، مشيراً إلى أن «مناقشاتنا ركّزت على الأمن والاستقرار في سوريا، وكان التفاهم كاملاً، ولا سيما تجاه التنظيم الإرهابي، حزب العمال الكردستاني». كذلك، أبدى الرئيس التركي استعداد بلاده للسيطرة على مخيمات «داعش» في شرق سوريا، مجدّداً التأكيد أنه «لا محلّ للإرهاب في منطقتنا». وأكّد أن تركيا «تولي أهميّة كبيرة لنجاح الإدارة الجديدة، وهي مستعدّة لتقديم كل المساعدة لإعادة إعمار سوريا»، داعياً إلى رفع العقوبات المفروضة على سوريا، بعدما أعلن تحقيق تقدُّم طفيف في هذا المجال. كما لفت إلى أن التعاون بين البلدين «سيشمل كل المجالات الاقتصادية والتجارية والصناعية وغيرها».
من جهته، شكر الشرع، إردوغان على دعوته لزيارة تركيا، مضيفاً أن الشعب السوري «لن ينسى الدور التاريخي لتركيا في تقديم المساعدة لملايين السوريين». وإذ وصف العلاقات بين البلدَين بأنها تمتدّ عبر التاريخ، فقد أردف: «اليوم، العلاقات أخوية، وستمتدّ عبر الزمن». وأوضح أن العمل يشمل كل المجالات، ولا سيما «الأمني ووحدة الأراضي السورية»، معلناً أنه يعمل مع تركيا على انسحاب إسرائيل من المنطقة العازلة في جنوب سوريا، وانتهى موجّهاً الدعوة إلى إردوغان لزيارة سوريا.
وممّا لفت في كلمتَي إردوغان والشرع، حديثهما في العموميات، ولا سيما في الموضوع الأمني، إذ لم يأتِ الزعيمان على ذكر أيّ خطوات عملية لمواجهة «الوحدات» الكردية، ما قد يعني أن الأوضاع ليست ممهّدة بعد لخطوات عملية، في انتظار الموقف الأميركي. ولفت أيضاً أن الشرع تحدّث عن انسحاب إسرائيل من المنطقة العازلة التي احتلتها بعد سقوط نظام الأسد، في حين تجاهل تماماً احتلالها لهضبة الجولان. وفي المقابل، يبدو واضحاً أن تركيا تتهيّب التفرّد بمساعدة سوريا، لعدم قدرتها على ذلك بمفردها، وهو ما حدا بإردوغان إلى دعوة الدول العربية والإسلامية إلى المساعدة، في ما يمثّل إشارة إلى أن أنقرة ليست في وارد احتكار النفوذ هناك. ولم يفت المراقبين أن إردوغان والشرع أنهيا المؤتمر الصحافي وغادرا فوراً من دون تلقّي أيّ أسئلة من الصحافيين، الأمر الذي أدّى إلى عدم اتّضاح الرؤى بشكل تام.
من جهتها، رأت صحيفة «تركيا» الموالية أن أنقرة ودمشق تمضيان لتكون العلاقة بينهما كما هي الحال بين تركيا وآذربيجان، أي «أمة واحدة في دولتَين»، علماً أن التوصيف يتناقض وواقع أن الغالبية الساحقة من الشعب السوري ليست من جذور تركية، كما هو حال الشعب الآذربيجاني. ووفقاً لما رشح إلى وسائل الإعلام، فإن إردوغان والشرع وضعا اللمسات النهائية على الخريطة التي أعدّها مسؤولو البلدين حول إعمار سوريا، وإعادة بناء المؤسسات الأمنية والعسكرية. ونُقل أن الشرع طرح مشاريع على الأتراك بقيمة مئة مليار دولار في المرحلة الأولى، و300 مليار دولار في المرحلة الثانية، في ما خصّ الإعمار والدفاع والأمن والجيش وقوى الشرطة.
على أن الموضوع الأبرز على جدول أعمال الزيارة، كان تصفية «حزب العمال الكردستاني»، وإدارة منابع النفط التي تسيطر عليها «الوحدات» الكردية، بعدما لقي هذا الموضوع دفعة قوية من الشرع الذي أعلن، قبل وصوله إلى تركيا، أنه قدّم وعداً بإنهاء «الكردستاني» في سوريا.
————————————-
الشرع يكرس العلاقة الاستراتيجية مع تركيا ويؤسس لتوازنات إقليمية جديدة/ سميح صعب
تحديث 05 شباط 2025
على رغم أن الرئيس السوري أحمد الشرع اختار السعودية محطة أولى في إطلالته على الخارج، فإن زيارته أنقرة هي عنوان الترجمة العملية للدعم التركي الذي يحظى به منذ 2017، ومكنه تالياً من قطع المسافة بين إدلب ودمشق.
تعتبر تركيا نفسها الرافعة التي منحت الشرع القدرة على الانتقال من الإمارة إلى الدولة. وعليه، لن تقبل إلا بلعب الدور الأول في سوريا ما بعد بشار الأسد وحزب “البعث”. وهي طامحة بلا أدنى شك إلى ملء الفراغ الإيراني في سوريا والإقليم، أكثر من أي دولة عربية أخرى راغبة في تقديم الدعم للنظام الجديد.
قطر متممة للدور التركي، لأنها كانت أيضاً من الدول الداعمة للشرع في إدلب. وكون أمير قطر الشيخ تميم بن حمد آل ثاني أول زعيم أجنبي يزور دمشق بعد إعلان الشرع تولي مقاليد الرئاسة في الفترة الانتقالية، يثبت دوراً أساسياً للدوحة أيضاً في رعاية النظام الجديد.
أما تركيا فوحدها من تعود من الباب الواسع، عبر السعي إلى اتفاق دفاعي مشترك يضمن إنشاء قواعد جوية تركية في وسط سوريا، وتدريب الجيش السوري الجديد.
ومن شأن هذا التطور أن يضيق الخناق على “قوات سوريا الديموقراطية” (قسد) التي تشكل “وحدات حماية الشعب” الكردية عمودها الفقري. وتعتبر أنقرة أن الوحدات هي النسخة السورية من “حزب العمال الكردستاني” الذي يخوض صراعاً مسلحاً مع الدولة التركية منذ 1984.
وبعد سقوط الأسد، شرعت الفصائل السورية المسلحة الموالية لأنقرة في الهجوم على معاقل “قسد” في منبج وكوباني، بدعم من الجيش التركي. لكن توسط واشنطن حمل الرئيس التركي رجب طيب أردوغان على التريث في مواصلة الهجوم.
ودخل الشرع على الخط، بإجرائه مفاوضات مع “قسد” كي تحذو حذو فصائل سوريا معارضة أخرى، أعلنت حل نفسها والاندماج في الجيش السوري الجديد المنوي إنشاؤه. بيد أن “قسد” التي وافقت مبدئياً على الانخراط في الجيش السوري، طالبت بأن تحتفظ بوضعية خاصة، الأمر الذي لقي معارضة من دمشق وأنقرة.
وفي حال وصل الحوار بين الشرع والأكراد إلى طريق مسدود، فإن من شأن ذلك تعقيد مهمة النظام الجديد في تثبيت الاستقرار، والتهديد ببؤرة توتر جديدة.
وعلى الأرجح، لن يحسم الملف الكردي إلا في ضوء ما سيقرره الرئيس الأميركي دونالد ترامب، على صعيد الانسحاب الكامل من سوريا أو البقاء هناك لحماية الأكراد، شركاء أميركا في التحالف الدولي ضد تنظيم “داعش”.
وإسرائيل، بدورها، ليست بعيدة عن المسألة، وتطمح إلى توسيع دورها في سوريا عبر تقديم نفسها أيضاً حليفاً للأكراد، ما سيضفي مزيداً من التعقيد على المشهد السوري. كما أن إسرائيل لن تنظر بعين الرضا إلى الاتفاق الدفاعي بين دمشق وأنقرة. وها هو وزير الدفاع الإسرائيلي يسرائيل كاتس يعلن الأسبوع الماضي، أن الجيش الإسرائيلي باق في جبل الشيخ والأراضي السورية التي توغل فيها بعد سقوط الأسد، إلى أجل غير مسمى.
وهذا من العوامل التي تجعل الشرع يسير على حبل مشدود في علاقاته الداخلية والخارجية. وفي حين أن المطلوب ترسيخ السلام في الداخل ومحاذرة المجازفة في صدام عسكري مع الأكراد أو مع أي من الأقليات السورية الأخرى، فإن وضع الأوراق كلها في يد تركيا، سيثير انزعاجاً عربياً لا يزال مكتوماً حتى الآن.
ما تجدر الإشارة إليه، هو أن زيارة الشرع لأنقرة، تزامنت أيضاً مع زيارة وزير الخارجية المصري بدر عبد العاطي لتركيا. وبين القاهرة وأنقرة ملفات إقليمية مشتركة تمتد من غزة إلى سوريا وليبيا.
وفي نهاية المطاف، لن تكون سوريا خارج العواصف الجيوسياسية التي تجتاح الشرق الأوسط منذ 7 تشرين الأول /أكتوبر 2023، والحروب الإسرائيلية التي أسفرت عن توازنات جديدة، وصولاً إلى وقفين هشين للنار في غزة ولبنان، مترافقاً مع اقتراح ترامب بنقل سكان غزة إلى مصر والأردن، بينما توسع إسرائيل حربها على الضفة الغربية.
النهار العربي
——————————
التعاون العسكري بين الممكن والمستحيل؟ / سركيس قصارجيان
تحديث 05 شباط 2025
كشفت وسائل إعلام تركية وعالمية عن عزم أنقرة إنشاء قاعدتين عسكريتين في سوريا كجزء من خطوة استراتيجية لتعزيز أمن الحدود ودعم الحكومة السورية بقيادة أحمد الشرع.
وأوردت وكالة “رويترز” عن “مصادر ديبلوماسية واستخبارية” احتمال توصّل دمشق وأنقرة إلى “اتفاق دفاع مشترك يتضمن إنشاء قاعدتين جويتين تركيتين في وسط سوريا وتدريب الجيش السوري الجديد”، وهو ما مهّدت له صحيفة “تركيا” المقرّبة من الحكومة التي قالت إن الخطوة تأتي استجابة لمجموعة من التهديدات التي تواجه دمشق، بما في ذلك تهريب المخدرات، وخطر تنظيم حزب “العمال الكردستاني”، والتوترات الإقليمية، خصوصاً مع إسرائيل.
كما ورد في خبر الصحيفة أن أنقرة تخطط لنشر طائرات من دون طيار هجومية واستطلاعية، إلى جانب أنظمة رادار وحرب إلكترونية على طول الحدود السورية، بطلب رسمي من الحكومة السورية لتعزيز أمن حدودها، بخاصة الجنوبية منها والمحاذية لإسرائيل.
وتعتمد حكومة الرئيس رجب طيب أردوغان استراتيجية القواعد العسكرية المتقدّمة منذ عقد تقريباً، كاستراتيجية ذات وظائف سياسية وعسكرية تسهم في تقديم تركيا قوّة إقليمية فاعلة في المنطقة وشريكة في مشاريعها الاستراتيجية الأمنية منها والاقتصادية.
وتنشر تركيا قواعد عسكرية في كل من الصومال، وقطر، وشمال قبرص، وشمال العراق، وسوريا، تؤدي كل منها وظائف سياسية وعسكرية مختلفة تتنوع بين تقديم التدريب العسكري وبناء قدرات الشركاء وتقديم الدعم الأمني، وبناء التحالفات، وإبراز القوة، وتعزيز الدفاع الجماعي، ومكافحة الإرهاب، وحماية الحدود وغيرها، في ظل التقلبات الإقليمية المستمرة.
وبررت أنقرة دخولها العسكري المباشر إلى سوريا في البداية كرد فعل على التهديدات الإرهابية لـ”داعش” و”قوات سوريا الديموقراطية (قسد) التي تعتبرها الجناح السوري لـ”حزب العمال الكردستاني”، لتتوسع هذه العمليات بمرور الوقت وتشمل أهدافاً سياسية أوسع، كتسهيل عودة اللاجئين السوريين عبر إنشاء حكومة سورية تعددّية قادرة على تبديد مخاوف هؤلاء.
ومع تراجع سلطة الحكومة المركزية السورية في عهد بشار الأسد، ونشوء فراغ في السلطة، وسّعت أنقرة وجودها العسكري عبر أطر سياسية وقانونية متعددة، كمسار أستانا الذي اعترف بتركيا كضامن للمعارضة في اتّفاق وقف إطلاق النار وجهود خفض التصعيد، منتزعة ورقة الشريك المفاوض في تشكيل مستقبل سوريا.
وتحتفظ تركيا بنقاط عسكرية تنتشر على طول الحدود السورية شمالاً من ريف اللاذقية الشرقي إلى ريف الحسكة الغربي المتاخم لمناطق سيطرة “قسد”، وبأعداد غير معلنة من الجنود والآليات والمدفعية والمسيّرات، لكنها تبقى دون مستوى “القاعدة العسكرية”، كتلك الموجودة في بعشيقة العراقية على سبيل المثال.
صدام عسكري محتمل بين دمشق و”قسد”
مع وصول “هيئة تحرير الشام” المدعومة من أنقرة إلى السلطة، دخلت العلاقات التركية-السورية مرحلة جديدة تجلّت في زيارات رفيعة المستوى ومناقشات حول التعاون السياسي والاقتصادي والأمني والعسكري.
وتسعى دمشق في ظل حكم الشرع إلى الحصول على الدعم التركي العسكري إلى جانب السياسي لمواجهة ضغوط “الإدارة الذاتية” التي أعلنت رفضها تعيينه رئيساً للبلاد من خلال مبايعة الفصائل العسكرية المتحالفة مع “هيئة تحرير الشام” والأخرى المنضوية تحت لواء “الجيش الوطني” التابع لأنقرة، بالتزامن مع تأكيد قائد “قسد” مظلوم عبدي، مطلب الدولة العلمانية اللامركزية.
ويبرز احتمال الصدام العسكري بين دمشق و”قسد”، بعد فشل محاولات أنقرة تغيير خريطة السيطرة الميدانية من خلال فصائل “الجيش الوطني” باستغلال فترة الفراغ الدستوري في دمشق وقبيل تسلّم الرئيس الأميركي دونالد ترامب منصبه بشكل رسمي، حين نجحت هذه الفصائل بإخراج “قسد” من منبج غرب الفرات، لكنها فشلت في المضي قدماً في منطقة سد تشرين وجسر قراقوزاق.
لا جدوى من نشر مقاتلات أف-16 في سوريا
إلى جانب عامل “قسد” الحيوي بالنسبة إلى أنقرة، فإن إعادة تشكيل الجيش السوري الجديد بعد قرار حلّ السابق، وتنسيق عملية ضم فصائل متعددة يحمل العديد منها ايديولوجيّات متشددة، تعتبر أولوية تركية لناحية الحفاظ على أمنها القومي وضمان عدم امتداد تأثير الإيديولوجيات المذكورة إلى الداخل التركي.
ووفق ما أوردته الصحيفة المقرّبة من أنقرة، من المتوقع أن تلعب القوات المسلحة التركية دوراً محورياً في إعادة هيكلة الجيش السوري، وتقديم التدريبات للعسكريين السوريين والطيارين، إلى جانب نشرها 50 مقاتلة من طراز اف-16 في القواعد المزمع إنشاؤها، حسب خبر الصحيفة.
في المقابل، يشكك الجنرال السابق في الجيش التركي، توركير أرتورك، في دقّة التفاصيل الواردة في خبر الاتّفاق الدفاعي.
ويقول أرتورك، الذي ترأس سابقاً الكلية الحربية البحرية في تركيا، لـ”النهار”: “أعتقد أن أنقرة ستبرم اتفاقية تعاون عسكري مع دمشق، وقد تشمل هذه الاتفاقية توسيع الوجود العسكري التركي في سوريا، لكن فكرة نشر مقاتلات اف-16 مستبعدة لسببين، الأول أنه وبحسب صفقة اقتناء هذه المقاتلات لا يحق لتركيا بيعها إلى طرف ثالث وبالتالي ماذا سيستفيد الطيار السوري الذي يتدرّب على طائرة لا يحق له استخدامها؟”، مضيفاً: “الأمر الثاني هو قرب القواعد الجوية التركية من الحدود السورية، وبالتالي لا معنى لنشر مقاتلات تركية داخل سوريا، أما الرقم 50 فهو مبالغ فيه جداً جداً”.
ويشرح ارتورك أن “إنشاء قواعد جوية ليس بالأمر السهل. عليك تأمين كل الأمور اللوجستية بدءاً من المهبط المناسب لمثل هذه المقاتلات مروراً بأجهزة الرادار والتحكم وصولاً إلى عمليات التزوّد بالوقود والترميم والتذخير وغيرها”.
أما في ما يخصّ المسيّرات فيقول أرتورك: “المسيّرات التركية بإمكانها البقاء في الجو لمدة 24 ساعة، لذا ليس مجدياً تأسيس قواعد جوية لها داخل سوريا”.
ويلفت أرتورك إلى العامل الإسرائيلي في مثل هذه التحرّكات العسكرية: “قد يكون إنشاء قاعدة عسكرية جنوب سوريا مجدياً من الناحية التكتيكية، لكن من المؤكد أن الموقف الإسرائيلي سيكون جازماً في الرفض، وبالتالي فإن نشر تكنولوجيا أميركية أو أطلسية في هذه المنطقة يكاد يكون مستحيلاً”.
ويؤكد المحللون الأتراك أهمية إعداد “وثيقة سياسة الأمن القومي لسوريا” لتكون دليل أنقرة في تحديد الاتجاه الاستراتيجي والاحتياجات العسكرية للبلاد في المستقبل، وإمكان دمج التقنيات العسكرية التركية بشكل فعال في صفوف القوات المسلّحة السورية، ذات التوجه السوفياتي-الروسي في العقود الماضية”.
النهار العربي
——————————
الأوروبيون يعودون إلى سورية: ترى دول الاتحاد أن الأهداف المُعلَنة للقيادة الجديدة في دمشق تشكّل أساسًا للتعاون/ مارك بييريني
تحديث 05 شباط 2025
تقدّم مدوّنة “ديوان” الصادرة عن مركز مالكوم كير– كارنيغي للشرق الأوسط وبرنامج الشرق الأوسط في مؤسسة كارنيغي للسلام الدولي تحليلات معمّقة حول منطقة الشرق الأوسط، تسندها إلى تجارب كوكبةٍ من خبراء كارنيغي في بيروت وواشنطن. وسوف تنقل المدوّنة أيضاً ردود فعل الخبراء تجاه الأخبار العاجلة والأحداث الآنيّة، وتشكّل منبراً لبثّ مقابلات تُجرى مع شخصيّات عامّة وسياسية، كما ستسمح بمواكبة الأبحاث الصادرة عن كارنيغي.
للمزيد من المعلومات
توافد إلى سورية خلال الأسابيع القليلة الماضية أكثر من عشرين دبلوماسيًا ومسؤولًا أجنبيًا رفيع المستوى، من فرنسا وألمانيا وقطر وروسيا والمملكة العربية السعودية وتركيا وأوكرانيا والإمارات العربية المتحدة والاتحاد الأوروبي وغيرها. فالكثير من الدول تودّ الانخراط في عملية إعادة إعمار سورية، لكن المقترحات المختلفة التي قدّمتها قد لا تكون بالضرورة متناغمة ومتجانسة مع بعضها البعض. في غضون ذلك، لا تزال تسود حالةٌ من اللايقين حيال القيادة السورية الجديدة.
شكّل السقوط المفاجئ لنظام بشار الأسد، بعد امتناع إيران وروسيا عن إنقاذه، الحدث الأقلّ توقّعًا ضمن سلسلة الأحداث التي غيّرت قواعد اللعبة في الشرق الأوسط مؤخّرًا. وبعد تولّي قائد هيئة تحرير الشام أحمد الشرع، المعروف سابقًا بلقب أبو محمد الجولاني، سُدة الحكم في سورية، صدر عن البلاد سيلٌ من الرسائل والتصريحات التي هدفت إلى طمأنة الشركاء الأجانب، واستعادة العلاقات الطبيعية مع الدول. يملك الشرع سجلًا حافلًا بأعمال العنف أثناء تزعّمه تحالفًا من الفصائل المسلّحة، وقد نصّب نفسه الأسبوع الفائت رئيسًا لسورية في المرحلة الانتقالية. ونتيجةً لذلك، راودت الحكومات الغربية آمالٌ وشكوكٌ في آنٍ.
بعد نصف قرنٍ ونيّفٍ من حكم آل الأسد، أتاح الواقع الجديد فرصًا أمام الدول الإقليمية والغربية. فسارعت إسرائيل إلى تدمير ما تبقّى من الدفاعات الجوية والقدرات الصاروخية للجيش السوري، عبر شنّ سلسلةٍ من الضربات الاستباقية في مطلع كانون الأول/ديسمبر الماضي. وهرعت تركيا بدورها إلى زيادة هجماتها ضدّ القوات الكردية في شمال سورية، وأوفدت مسؤوليها إلى دمشق لإيضاح أولوياتها. كذلك، تُبدي دول الخليج حرصًا على المساعدة في إعادة إعمار سورية والتخلّص من النفوذ الإيراني.
في خضمّ هذه الزيارات، تحرّك الاتحاد الأوروبي أيضًا على جناح السرعة نسبيًا. فشاركت الممثّلة العليا للاتحاد الأوروبي للشؤون الخارجية والسياسة الأمنية، كايا كالاس، في اجتماعات العقبة بشأن سورية يوم 14 كانون الأول/ديسمبر؛ وأجرى وزيرا خارجية فرنسا وألمانيا زيارة مشتركة إلى دمشق في 3 كانون الثاني/يناير، أعقبتها زيارة وزير الخارجية الإيطالي في العاشر من الشهر نفسه. كذلك، وصلت مفوضة الاتحاد الأوروبي لشؤون المساواة والاستعداد وإدارة الأزمات، حجة لحبيب، إلى سورية في 24 كانون الثاني/يناير، حيث أعلنت عن تقديم حزمة مساعدات إنسانية بقيمة 235 مليون يورو (حوالى 241 مليون دولار)، وناقشت رفع العقوبات عن سورية من أجل “تشجيع السلطات الجديدة على بناء دولة شاملة للجميع تحتضن جميع مواطنيها ومكوّناتها المتنوّعة […]. ويجب احترام حكم القانون وحقوق الإنسان وحقوق المرأة”.
نتيجةً لهذه الاجتماعات وغيرها من المحادثات الدبلوماسية، تمكّنت كالاس من التوصّل إلى اتفاقٍ مبدئيّ خلال اجتماع وزراء خارجية الاتحاد الأوروبي الذي عُقد في 27 كانون الثاني/يناير، يقضي بتخفيف العقوبات التي فرضها الاتحاد الأوروبي على سورية، كبادرة حسن نيّة، على افتراض أن تتّخذ دمشق إجراءات إيجابية في المقابل. وما زالت الترتيبات المفصّلة قيد النقاش، بانتظار المصادقة عليها في 24 شباط/فبراير الجاري.
مع ذلك، يشكّل تعدّد الأولويات عبءًا على المساعي الجارية. فبعض حكومات الاتحاد الأوروبي ركّزت على قلقها من عودة نفوذ تنظيم الدولة الإسلامية، في حال انحسر دور القوّات الكردية السورية في الشرق السوري، أو قرّرت واشنطن الإسراع في سحب قوّاتها المنتشرة في هذه المنطقة. ووجّهت حكوماتٌ أخرى أنظارها نحو حقوق التنقيب عن النفط والغاز في شرق البحر المتوسط. هذا وتشدّد حكوماتٌ كثيرة على ضرورة أن تستعيد دمشق سيطرتها على كامل الأراضي السورية، فيما يساور معظمها القلق من أن يتكفّل الاتحاد الأوروبي بتمويل إعادة إعمار سورية، من دون أن يكون له رأي في القضايا السورية الأساسية.
أما خارج الاتحاد الأوروبي، فلدى دولٍ مثل إسرائيل وتركيا والولايات المتحدة أهدافٌ محدّدة أيضًا. وقد تجلّت الطموحات التركية من خلال سيل الزوار الذين توافدوا إلى دمشق منذ أوائل كانون الأول/ديسمبر 2024 “محاولين استغلال الفرصة السانحة”، ومن ضمنهم رئيس جهاز الاستخبارات التركية، وعدد من الوزراء بمن فيهم وزير الخارجية، إضافةً إلى وفدٍ عسكري رفيع المستوى. تريد أنقرة القضاء على وحدات حماية الشعب الكردية، وإقناع اللاجئين السوريين في تركيا بالعودة إلى وطنهم، وتأمل بانسحاب القوات الخاصة الغربية من شرق سورية. وتودّ أنقرة أيضًا مساعدة السلطات السورية في إعادة تنظيم الوحدات العسكرية لإنشاء جيش وطني سوري موحّد وتزويده بأسلحة تركية. وترغب أيضًا في أن يتولّى قطاع البناء التركي مشروع إعادة إعمار المساكن والبنية التحتية السورية المتضرّرة بتمويل أجنبي. كذلك، تشمل طموحات تركيا ربما إبرام اتفاقيةٍ بشأن حقوق التنقيب عن الموارد الطبيعية في المناطق البحرية المجاورة. وستلقي هذه الأهداف بظلالها على الاتحاد الأوروبي.
في نهاية المطاف، ستتّخذ قيادة سورية الجديدة القرارات السياسية الرئيسة في دمشق، وتنتظرها مهمّة جسيمة. فهم بحاجة إلى إعادة إحياء مؤسسات الدولة واستئناف العمل فيها، وضمان تمثيلها التنوّع السوري. كذلك، على القيادة السورية توفير الغذاء إلى السكان المحتاجين، وإعادة إعمار المساكن والبنى التحتية، وإصلاح قطاع الأمن، وتبنّي موقفٍ واضح ضدّ الإرهاب، واستعادة السيطرة على كامل الأراضي السورية، فضلًا عن إطلاق عملية العدالة الانتقالية، وتحقيق توازنٍ بين طموحات شركاء سورية الدوليين.
في هذا السياق، تُعدّ مهمّة دول الاتحاد الأوروبي دقيقةً للغاية، بعد غيابها الطويل عن النقاش السياسي والأمني حول سورية. لكنها اتّخذت الآن زمام المبادرة الأولية وأوضحت رؤيتها حيال العلاقات المقبلة مع البلاد. وتشمل أبرز الإجراءات الأوروبية زيادة المساعدات الإنسانية وتعليق العقوبات المفروضة على قطاعات أساسية في سورية. كذلك، ثمّة سُبلٌ أخرى يمكن للاتحاد الأوروبي من خلالها دعم قيادة سورية وشعبها.
تتمثّل إحدى هذه الخطوات في الاعتراف بمعاناة المواطنين السوريين على يد نظام الأسد طوال السنوات الأربعة عشرة الماضية، وتقديم الدعم لهم من خلال وكالات الأمم المتحدة والمنظمات غير الحكومية المتخصّصة، من أجل توثيق هذه المأساة وربما إطلاق عملية ترمي إلى تضميد الجراح على المستوى الوطني. ومن الضروري أيضًا لمستقبل سورية والسوريين فتح تحقيقٍ كامل بهدف ضمان المساءلة عن جرائم التعذيب والقتل التي ارتُكبت خلال فصول الصراع السوري. ومن التدابير المهمّة الأخرى التي ينبغي على الاتحاد الأوروبي أو بعض الدول الأعضاء فيه اتّخاذها على الصعيد الأمني، إرساء آلية تعاون مع القيادة السورية الجديدة من أجل توثيق المعلومات المتعلّقة بالإرهابيين المعروفين ومراقبة تحرّكاتهم، ولا سيما أولئك الذين يحملون جنسيةً أوروبية والمحتجزين راهنًا في شرق سورية.
لا يزال الوضع في سورية شديد التعقيد. لكن الأمر الجديد من المنظور الأوروبي هو أن القيادة السورية الجديدة أعربت بوضوحٍ عن التزامها بالحفاظ على التنوّع بناءً على أُسس شاملة للجميع، وإجراء انتخابات حرة ونزيهة، وتحقيق السلم الأهلي. من الناحية النظرية، تبدو هذه النوايا منسجمة مع مبادئ الاتحاد الأوروبي، وبالتالي يمكن أن توفّر ركيزةً لإعادة بناء العلاقات بين سورية وأوروبا.
سورية
لا تتّخذ مؤسسة كارنيغي مواقف مؤسّسية بشأن قضايا السياسة العامة؛ تعبّر وجهات النظر المذكورة في هذه الدراسة عن آراء كاتبها ولا تعكس بالضرورة وجهات نظر المؤسسة، أو فريق عملها، أو مجلس الأمناء فيها.
مركز مالكوم كير– كارنيغي للشرق الأوسط
—————————–
======================