محمد أمير ناشر النعم: مشايخ الشام لن يعطوا ولاءهم إلا لمن يحكم دمشق
سليمان عبدالله
06 شباط 2025
“يمتلك السيد أحمد الشرع الآن فائضاً من الشرعية الدينية والثورية والعسكرية والإقليمية والدولية. اجتماع هذه الشرعيّات يُشعره بالراحة التامة في علاقته مع المشايخ، التي يكفيها ما اتخذه من إجراءات حتى الآن”. هذا ما يقوله الكاتب الإسلامي محمد أمير ناشر النعم في هذا الحوار الذي يسلّط الضوء على العلاقة، سابقا وحاليّاً، بين المجلس الإسلامي السوري وهيئة تحرير الشام، واحتمالات العلاقة بين الهيئة الحاكمة الآن ورجال الدين والمؤسسات الدينية التقليدية في سوريا.
مع سقوط نظام بشار الأسد في الثامن من شهر كانون الأول/ديسمبر الماضي، بدا أنّ السلفيين سيطروا على المشهد الإسلامي السني في سوريا، مع سيطرتهم على الحكم “مؤقتًا”. مع عودة مجموعةٍ من “مشايخ الشام” من منفاهم، كأسامة الرفاعي ومحمد راتب النابلسي، ممن انضووا في الأعوام الأخيرة تحت مظلّة المجلس الإسلامي السوري، تشكّل مشهدٌ غير واضح المعالم، وظهرت أسئلةٌ حول مستقبل العلاقة بين مشايخ دمشق والحاكم المؤقّت أحمد الشرع. في هذه المقابلة مع الكاتب محمد أمير ناشر النعم، نحاول فهم طبيعة العلاقة المضطربة بين المجلس الإسلامي السوري وهيئة تحرير الشام التي حكمت إدلب في السنوات الماضية، واستشراف تطوّرها في قادم الأيّام، وفيما إذا كان مشايخ دمشق سيلعبون أيّ دورٍ سياسي في المرحلة القادمة. يوضّح ضيفنا الأسباب الذي تدفعه إلى عدم مشاركة بعض السوريين/ات خوفهم من الاتجاه السلفي الذي سيطر على كثير من المتدينين في سوريا، ولا سيما في المناطق المحرّرة قبل سقوط الأسد، هذا الخوف الذي ازداد بعد تدفقهم من إدلب إلى جميع أنحاء سوريا.
محمد أمير ناشر النعم، كاتب سوري مقيم في ألمانيا. تتركز دراساته وبحوثه حول الإسلام في نصوصه وتاريخه وممثليه، وواقعه المعيش، وآفاقه المستقبلية. خريج المدرسة الخسروية في حلب وخريج كلية الشريعة في جامعة دمشق. شارك في تحرير الموسوعة الإسلامية الميسّرة (صدرت في عشرة مجلدات) وفي كتابة العديد من موادها، وصدر له “الإسلام والدور المنتظر” و “من ينابيع التجديد في الفكر الإسلامي المعاصر” و”الدهر والعطار: احتضارات الثقافة الإسلامية المعاصرة” و “جَدَدُ القول: هموم وأوهام في الفكر الإسلامي” و”جورة الهمّ: سوريا في زمن الأسد”، وغيرها من البحوث والمقالات المنشورة في مختلف المجلات والصحف والمواقع الإلكترونية.
مَن لم يتابع الوضع في شمال غرب سوريا، ربما لا يعلم بأمر الخصام في الأعوام الفائتة، والتباين في المواقف بين التيار الصوفي الإخواني، ممثلًا بالمجلس الإسلامي السوري، والسلفية التي تتبعها هيئة تحرير الشام، هل لك أن تحدّثنا عمّا تمحور الخلاف حوله في السنوات الماضية؟
قبل الحديث عن العلاقة بين المجلس الإسلامي السوري وهيئة تحرير الشام يجب أن نعود إلى جذر الخلاف الذي انعكس على العلاقة المتوتّرة بينهما فيما بعد، فقد كان من الطبيعي ألا تكون العلاقة وديةً لأسباب عديدة؛ منها أنّ السلفية في سوريا، ولا سيما الجهادية، ليست امتداداً طبيعياً للمؤسسة الدينية التقليدية، إذ لم يكن هنالك من وشائج وصلاتٍ بين أتباعها والمشيخة الدينية في الشام على اختلاف أُسَرها، فهم ليسوا من تلاميذهم، ولا يمتّون إليهم بصلة، والمشايخ لا يعرفونهم، وليسوا متأكدين منهم، في جوٍّ يبالغ في الحذر من كلّ حركةٍ شبابية، لما وقر في الوجدان أنّ الاختراق الأمني يطال كلّ شاردةٍ وواردة في البلد، ومن جهة أخرى فقد بدا هؤلاء الشباب المنتمون لهذه الحركة في تعاطيهم مع مسألة الخروج على الحاكم أقرب ما يكونون إلى مجموعاتٍ مغامرة ومقامرة تنسف التفاهمات الضمنية التي نسجتها المؤسسة الدينية مع السلطة بآليات المداهنة، أو المداورة، أو المطاوعة، أو امتصاص الصدمات وتحملها، أو التكيّف معها، أو التجاهل، أو الإنزواء والعزلة، في حين برزت السلفية الجهادية في وجهٍ راديكاليّ لا يؤمن إلا بالحلول الجذرية القائمة على استئصال السلطة الحاكمة وإنهائها. وكان يُفترض، نظرياً، بعد انطلاقة الثورة السورية ضدّ السلطة الأسدية، وتحوّلها إلى الخيار المسلّح، أن يتلاقى جميع الإسلاميين، على اختلاف مشاربهم، في مشروع واحد، فهم الآن جميعاً يحملون السلاح، وهم جميعاً في حالة خروجٍ واحدة على السلطة، يخوضون المعارك ويضحون بالغالي والنفيس من دون تفاضل فيما بينهم، إلا أنّ هذا لم يحدث أيضاً لاختلاف المرجعيات الفكرية التي أدّت إلى اختلاف وجهات النظر في الغاية من حمل هذا السلاح ما بين رؤيةٍ أمميّة تمثّلها القاعدة في تجلياتها السورية المخفّفة والمغلّظة، ورؤية وطنية يمثلها الجيش الحر على اختلاف فصائله، وبعض الفصائل ذات التوجّه الإسلامي في الإطار الوطني.
وفي هذه الأثناء، وبعد فترة وجيزة من هذه الانطلاقة بدأت تتشكّل هيئاتٌ شرعية في المحافظات، وروابط لعلماء الدين بمختلف المشارب الفكرية والعقائدية سلفيةً وصوفية، وكان لمعظم هذه الهيئات والروابط علاقاتها مع الفصائل والكتائب المقاتلة، وبدأ التفكير جدياً في تجميع هذه الهيئات في جسمٍ واحد، فاجتمع في يومي ١٠ ــ ١١/ نيسان/ أبريل ٢٠١٤ قرابة ١٣٠ شيخاً وداعيةً، وأعلنوا بعد ثلاثة أيام بتاريخ ١٤/ نيسان عن تأسيس (المجلس الإسلامي السوري)، وكان هذا التجمّع نظير التجمعات التي عقدتها الفصائل تحت تسمياتٍ عدّة من قبيل الجبهة الإسلامية، وجبهة التحرير الإسلامية، وأخيراً مجلس قيادة الثورة السورية.
أطلق المجلس الإسلامي السوري أُولى فتاويه حول تنظيم “الدولة الإسلامية في العراق والشام”، وجاء فيها أنهم خوارج وبغاة، وعلى رغم كون جميع الحيثيات التي ذكرتها الفتوى تنطبق على (جبهة النصرة) فإنّها لم تقترب منها ولم تشملها في الحكم، وهذا يعني أنّ المجلس كان يفرّق بين داعش وجبهة النصرة، غير أنّ هذا التفريق لم يكن تفريقاً في النوع بل في الدرجة، فقد كانت جبهة النصرة، بالنسبة إلى المجلس، ما تزال تتجلّى في صورة شديدة التشدّد، إنْ على مستوى تعاملها وإخضاعها لبقية الفصائل أو على مستوى إقامة الحدود إقامةً متعسّفة لا تراعي شروط الفقهاء أنفسهم الذين حكموا بتعطيلها في فترة النزاعات الأهلية، التي لا تكون السلطة فيها مستقرة.
فيما بعد استقرت الأوضاع في الشمال السوري في تكتلين رئيسيين: تكتل في إدلب تحت قيادة جبهة النصرة التي تخلّت عن تسميتها، وشكلت مع بضعة فصائل أخرى هيئة تحرير الشام لتتجاوز التصنيف السلبي السابق لها محلياً ودولياً، وتكتّل مناطق “درع الفرات” و”غصن الزيتون” التي ضمّت مناطق شاسعة تمتدّ من عفرين وأعزاز إلى غرب الفرات، تحت قيادة ما سُمّي “الجيش الوطني” المشكّل من فصائل عديدةٍ أيضاً برعاية تركية وبدعوة ومبادرة من المجلس الإسلامي السوري نفسه.
قدّم المجلس الإسلامي الغطاء الديني للجيش الوطني، وبدأ أعضاء المجلس الساكنين في تركيا يزورون مناطقه ويقيمون فيه بعض الفعاليات الدينية، إضافةً إلى فضّ المنازعات والتحكيم بين فصائله إذا اختلفت فيما بينها، ولكن لم يكن له كلمة في منطقة إدلب وأريافها، فقد استغنت هيئة تحرير الشام دينياً بمشايخها الذين تقلدوا مناصب تنفيذية في وزارتي العدل والأوقاف التابعتين لحكومة الإنقاذ التي شكّلتها الهيئة.
وطوال السنوات اللاحقة حتى تحرير سوريا من ربقة الأسد ظلّ التنافر هو سيّد الموقف في العلاقة بين الهيئة والمجلس، إلى درجة أنّ المجلس أصدر في 3 كانون الثاني/ يناير 2018 البيان التالي الذي وصف فيها هيئة تحرير الشام بالبغي: “إن هيئة تحرير الشام (جبهة النصرة) قد أدمنت البغي على كتائب الجيش الحر وقتل وأسر المدنيين الأحرار حيث لا يردع قيادتها رادع من دين أو خلق عن ارتكاب الفظائع وإراقة الدماء، […] وإن المجلس الإسلامي السوري يود الإشارة إلى الآتي:
1- إننا ندعو كل فصائل الجيش الحر إلى الوقوف صفًا واحدًا لدحر هذه الهيئة الباغية حتى لا تتمكن من العودة إلى العدوان مرة أخرى.
2- ندعو الشباب المقاتل مع الهيئة إلى الابتعاد عنها حتى لا يكونوا وقودًا لمعارك تُزهق فيها الأنفس البريئة وتراق فيها الدماء الزكية.
3- ندعو كل الهيئات الثورية وجميع أنصار الثورة الأحرار إلى التظاهر والاحتجاج ضد العمل الآثم والعدوان الغاشم الذي تقوم به هيئة تحرير الشام.
اللهم انصر عبادك الموحدين على البغاة المارقين يا رب العالمين”. ونلاحظ هنا أن الحدّة التي تكلم بها المجلس لا تقل بتاتاً عن حدته في توصيف الدولة الإسلامية في العراق والشام (داعش).
وظلت القطيعة قائمةً حتى يوم الزلزال الكارثي الذي ضرب شمال سوريا وجنوب تركيا بتاريخ 6/1/2023، وكان هذا الزلزال فرصًة مواتية لرئيس المجلس الإسلامي وأعضائه لزيارة إدلب ومواساة أهالي الضحايا والمنكوبين وتقديم ما يمكن تقديمه من عون ومساعدة، واغتنام هذه الفرصة لمدّ جسور اللقاء مع الهيئة، ولكن المجلس لم يفعل ذلك أيضاً، واكتفى بزيارة مناطق الجيش الوطني في أعزاز.
والسؤال ههنا: هل كان هذا الموقف نابعاً من الخلاف بين الصوفية والسلفية؟ والجواب: لا. فكما رأينا لقد دمج المجلس الإسلامي السوري في تكوينه الجناحين الصوفي والسلفي، بل نحن نقرأ أسماء رجال بارزين من السلفية ممن أسهموا في تأسيسه كالشيخ سرور زين العابدين، والشيخ فايز الصلاح، والشيخ خير الله طالب رئيس هيئة الشام الإسلامية ذات التوجه السلفي، وغيرهم. وهذا يعني أنّ مبعث الخلاف كان الاصطفاف السياسي في جوٍّ يسيطر عليه الأمل من كلّ طرف أن ينهي الطرف الآخر، ويقضي عليه قضاء مبرماً ويخرج منتصراً ومنهياً حالة التشرذم والانقسام، ويبدو أنّ المجلس كان يستشرف أنّ الغلبة ستكون للجيش الوطني المدعوم من تركيا، لكن أثبت الواقع فيما بعد إخفاق هذا الاستشراف.
يُلاحظ أنّ ثلاثة شيوخ ذوي نفوذ على الهيئة، هم عبد الرحيم عطون ومظهر الويس وعبدالله المحيسني، كتبوا كلامًا طيبًا عن الشيخ سارية الرفاعي عند وفاته قبل أسابيع. كذلك قدّم أحمد الشرع ورئيس حكومته المؤقتة العزاء لشقيقه الشيخ أسامة الرفاعي في دمشق. بعدها استقبل الشرعُ في القصر الجمهوريّ الشيخَ أسامة، ثم الشيخ راتب النابلسي، الذي عاد أيضًا إلى دمشق بعد سنواتٍ طوال قضاها في المنفى. كيف تحلّل هذه المحاولة أو المقاربة في التعامل مع شيوخ دمشق الذين يتمتعون بنفوذ شعبي كبير؟
لقد جاءت وفاة الشيخ سارية فرصةً مناسبة لكسر الجليد الذي خيّم على علاقة الهيئة بالمجلس، وكان متوقعاً، بالنسبة إليّ، أن الأستاذ أحمد الشرع سيستغل هذه المناسبة ويزور الشيخ أسامة معزّياً ومواسياً، فقد كانت سياسة الشرع تقوم على تقديم التطمينات التي كانت مفاجئة لمختلف أطياف المجتمع السوري وهو يجتاح سوريا من أقصاها إلى أقصاها تحت عنوان (نصرٌ لا ثأر فيه). وواضح أنّه منذ تلك اللحظة بدأ بسياسة تصفير المشكلات مع الداخل والخارج ليزيل قدر الإمكان كلّ ما يعكّر تمهيد الأمر لبنيان الدولة الذي يضعه في تصوّره، وهو تصوّرٌ ما زال غير واضحٍ لنا حتى هذه اللحظة.
تتجاوز سياسة التطمينات التي يقدّمها الشرع وفريقه دائرة الأقليات إلى الوجود السني نفسه، الذي يتوجّس مشايخه حقيقةً من الصيت السابق للهيئة بوصفها جبهة النصرة. وقد صدرت في الأيّام الماضية عدّة قرارات إدارية من مديريات الأوقاف في عدة محافظات بعزل بعض رجال الدين من مناصبهم الدينية، إمامةً وخطابة. ونُشرت هذه القرارات في صفحات مديريات الأوقاف، وعلى رغم أنّ هذه الشخصيات الدينية المعزولة مشهورةٌ بتأييدها ودعمها للأسد فقد كُتبت عدّة تعليقات تتساءل: هل نحن أمام تفريغٍ لرجال الدين من المشارب الصوفية أو الأشعرية حتى يحلّ مكانهم مَن يلائم سلطة أمر الواقع الجديدة من الاتجاه السلفي؟ غير أنّ الهيئة ما فتئت تقدّم التطمينات للمؤسسة الدينية التقليدية من خلال اجتماع الشرع نفسه مع وفود المشايخ من دمشق وحلب، أو من خلال الاجتماعات التي بدأت تقيمها وزارة الأوقاف، التي يتصدرها الشيخ حسام حاج حسين، وزير الأوقاف، مع المشايخ في مختلف المحافظات، عبد الرحيم عطون والدكتور إبراهيم شاشو، وتهدف هذه الاجتماعات إلى أمرين:
أن يتعرّف المشايخ إلى قيادتهم الدينية الجديدة، وأن تُؤلّف هذه القيادة قلوب المشايخ بالإشادة بالعلماء من أمثال الشيخ عبد الكريم الرفاعي وحسن حبنكة الميداني وعبد الفتاح أبو غدة ومصطفى الزرقا ومحمد علي الصابوني وسواهم، وبالتأكيد على اعتبار المذاهب الفقهية الأربعة واحترامها وإجلال أئمة المذاهب الفقهية، مع الإشارة إلى أنهم اليوم في مرحلة انتقالٍ من الثورة إلى بناء الدولة، وأن الخطاب الأحادي الذي كانوا يقدمونه في إدلب كان من ضرورات المرحلة الثورية، وأنهم الآن يراعون متطلبات المرحلة الجديدة، ويمدون أيديهم للجميع معترفين بالتنوّع الفقهي والمذهبي، ولكن ما نلاحظه هنا أنّ هذا الانفتاح الجديد هو في إطار العالم السني، وهم لا يتطرقون من قريبٍ أو بعيد إلى بقية المذاهب من خارج هذا الإطار.
يشار إلى لقاء جمع بين الشيخ راتب النابلسي وأحمد عودة، الذي يصوّر كرجل الحرب القوي في الجنوب، هل ترى أن هناك تنافسًا بين مختلف الأطراف العسكرية على كسب شيوخ دمشق إلى جانبهم، أي هل يحاول الشرع بالتقرّب من الشيخين ضمان عدم معارضة شرائح سنية أخرى له، أم أنه يرى نفسه الآن كـ “رجل دولة”، يترفّع عن هذا النوع من المنافسات؟
لا. لا أرى تنافساً بين الأطراف العسكرية على كسب ودّ شيوخ دمشق، لسبب بسيط وهو أنّ مشايخ الشام لن يعطوا ولاءهم إلا لمن يحكم دمشق، أما بقية الأطراف فبإمكانها أن تأخذ هذا الولاء إذا استطاعت أن تتربّع على كرسي السلطة في دمشق. وسوى ذلك، لا يعدو الأمر أن يكون إلا مجرّد علاقةٍ شخصية، أو نوع من العلاقات الاجتماعية القائمة على المعهود من اللباقة الشامية خصوصاً والمشيخية على وجه العموم، كما أنني لا أظن أنّ الشرع يتوجّس من معارضة شرائح سنية أخرى، فهو رجل المرحلة السني المديني المتدين الذي تربى في حي المزة الراقي، وهو رجل المغامرة الجهادية المذهلة المكلّلة بالنجاح، وهذا النموذج شديد الإغراء لكلّ الأطياف الدينية والمشيخية، لا يشذّ عنها أحد. وفوق ذلك كله، يمتلك الشرع الآن فائضاً من الشرعية الدينية والثورية والعسكرية والإقليمية والدولية. اجتماع هذه الشرعيّات يُشعره بالراحة التامة في علاقته مع المشايخ التي يكفيها ما اتخذه من إجراءات حتى الآن، وهي إجراءات ترضي المشايخ من كيسهم، فلا يضطر معهم للمواجهة والمجابهة ولا للتملّق والتلهوق.
أصدر المجلس الإسلامي السوري في تشرين الأول/أكتوبر الماضي فقط، ما يمكن رؤيته كخارطة طريقِ لمستقبل سوريا. من حيث المبدأ، تتضمّن هذه الخارطة كلّ مطالب الثورة، منها إجراء انتخاباتٍ حرة وتبادل السلطة. تبدو هذه الرؤية مختلفةً عن تلك التي يتبعها الشرع، الذي لم يتحدث عن الديمقراطية، وتكلّم بغموض عن الانتخابات، التي لا ندري ماهيتها حتى الآن. هل ترى أن هذا التباين سيكون موضع خلافٍ بين الطرفين، وهل تتوقع تدخلًا من شيوخ دمشق في السياسة، أو ربما سببًا يدفع الشرع نحو استقطاب المجلس، ومنحهم الشرعية، وتنصيب شخصية منهم (الشيخ أسامة)، كمفتي عام لسوريا، الأمر الذي رفضته الهيئة سابقًا …؟
يتحدث هذا البيان عن الانتقال إلى نظام حكمٍ رشيد بعيد عن الاستبداد والخضوع لإرادة الأجنبي، وتحقيق العدالة لطيّ صفحة الماضي، والحوار الشامل، والشفافية والوضوح وصدق النوايا، والاعتراف بالتنوع، وتأكيد الانتماء العربي الإسلامي، ووحدة التراب والشعب واستقلالية القرار الوطني، وكتابة دستور جديد، وإجراء الانتخابات الحرّة والتداول السلمي للسلطة، واستقلال القضاء والمساواة أمام القانون، وواضح أنّ هذا البيان مكتوب في مواجهة أهم سلطات الأمر الواقع المتحكّمة في سوريا إبّان كتابته: السلطة الأسدية، وقسد، وهيئة تحرير الشام.
وبتصوّري أنّ الشرع يتفق مع معظم ما جاء في هذا البيان، ولن يكون التباين ما بين هذا البيان وأداء الشرع موضع خلاف، بل ستحل المسألة على قاعدة مقولة الشيخ رشيد رضا التي يردّدها المشايخ دائماً: “نتعاون فيما اتفقنا عليه، ويعذر بعضنا بعضا فيما اختلفنا فيه”، ولذلك لا أتوقّع تدخّلاً من شيوخ دمشق ولا شيوخ حلب ولا شيوخ بقية المحافظات في السياسة في الفترة القريبة القادمة. أما شيوخ المرحلة السابقة من مؤيدي الأسد فلسان حالهم يقول: لقد رضيت من الغنيمة بالسلامة، وأما من عارض السلطة الأسدية وثار عليها من الشيوخ فسوف ينشغلون بإعادة ترتيب أوضاعهم، وتدارك ما فاتهم على مدار أكثر من عقد من الزمان، مستغلين الانفراجة الدينية التي يأملون أن تشهدها البلاد، وهذا أقصى طموح لهم، ويمكن أن تشذّ بعض الأصوات هنا وهناك ولن يُنظر إليها عندئذ إلا على أنها نوع من أنواع المشاغبة التي يتميّز بها بعض المشايخ، ولن تؤخذ على سبيل الجد.
يُنظر إلى الشيخ السلفي عبدالرحيم عطون، على أنه اليوم أحد أهم رجال الدين في سوريا، ويقدّم المشورة السياسية والدينية لأحمد الشرع. يُقال أنه عمل منذ سنوات، رفقة وزير خارجية الحكومة المؤقتة الشيباني، على فتح العلاقات الخارجية والتطبيع. ويُصوّر باحثون غربيون عطون، بأنه رجل ذو نفوذ كبير، وكان مهندس تحوّلات الجولاني سابقًا، أي تحوّله من الجهاد العالمي إلى السلفية المحلية، وتمكينه من ذلك بفتاوى، عند ترؤّسه مجلس الإفتاء.
نعم هذا ما أقرأه وأسمعه عن الشيخ عبد الرحيم عطون، ومعرفتي به لا تتعدى المعلومات العامة التي يتداولها أهل الشأن، لكن إذا كان ما ورد في السؤال صحيحاً فأنا أرحب به، وأرجو له مزيداً من الانفتاح والتطامن والاستجابة الحقيقية الحصيفة المتوازنة للواقع والمجتمع بتعقيداته وتشابكه وتنوعه، وهذه التحوّلات هي من الطبيعة البشرية التي تبتدئ من نقطة وتنتهي في غيرها، والأمثلة على ذلك كثيرة وفيرة، ويمكن أن نشير ههنا تجارب مماثلة من عالم اليسار الفكري التي كان مسارها يبتدئ من نقطة راديكالية ثم ينتهي في نقطة تروتسكية.
لا شكّ في أنّ بعض السوريين اليوم يتخوّفون من الاتجاه السلفي الذي سيطر على كثير من المتدينين في سوريا ولا سيما في المناطق المحررة قبل أن يسقط الأسد، ويخافون أكثر بعد سقوطه وتدفّقهم من إدلب إلى جميع أرجاء سوريا! وبالنسبة إلي فإنني لا أتخوّف من هذه الاندفاعة للأسباب التالية:
أولاً: إنّ معقل السلفية الأساسي في السعودية يشهد تحوّلات هائلة نراها جميعاً وندرك أبعادها ومضامينها، ومن أهم هذه التحوّلات انكفاء السعودية عن دعم هذا الاتجاه وتمويله في البلدان الأخرى، وهذا سوف ينعكس على جميع التيارات السلفية ويجعلها تعيد النظر في كثير من أفكارها وممارستها.
ثانياً: إنّ الأداء الموصوف بالبراغماتي الذي نشهده في ممارسة هذه الفصائل الإسلامية لا يُفسّر بالبراغماتية فقط، إذ لا يمكن إنكار أنّ كثيراً من الأفكار والتصوّرات تتشذّب وتتهذّب حين تمرّ على مبرد الممارسة العملية وتعبر القنطرة من النظرية إلى التطبيق.
ثالثاً: وبناءً عليه فإننا اليوم قد نعيد، مع الشيخ عبد الرحيم عطون وزملائه من مشايخ الهيئة، اكتشاف السلفية الشامية التي كانت أساس نهضة بلاد الشام على جميع الأصعدة، فهذه السلفية كانت المبادِرة إلى الانفتاح على العلوم غير الدينية وعلى الصحافة والإعلام، وكان أصحابها أوّل من مدّ الجسور إلى الشخصيات السورية التي لا تنتمي إلى طبقة العلماء، وكانوا أول من فكّك الطابع النخبوي الصارم لطبقة العلماء.
وهذا ما يتيح لنا اليوم أن نعيد اكتشاف سلفية العلماء السوريين المغايرة لسلفية الوهابية وعلى رأسهم العلامة جمال الدين القاسمي (ت: 1914)، وقد امتازت سلفيته بما يجمله الأستاذ حسان القالش في كتابه (سياسة علماء دمشق) في النقاط الأربع التالية:
١ ــ الرفض القاطع للتكفير.
٢ ــ محاولة بناء الجسور بين السنة والشيعة والتخفيف من الخلاف بينهما.
٣ ــ رفض تكفير ابن تيمية لابن عربي، وتصنيفه ضمن الفلاسفة كالفارابي وابن رشد.
٤ ــ مخالفة القاسمي ابن تيمية في الهجوم على المنطق والفلسفة.
وأضيف إلى ذلك:
٥ ــ عدم معاندة العلم واكتشافاته وعدم استخدام النصوص الدينية لتأييد هذه المعاندة.
٥ ـ الانفتاح الحقيقي على المخترعات العصرية وعدم رفضها رفضاً مبدئياً أو التوجس منها، أو محاولة تجاهلها وكأنها غير موجودة.
كما تلاحظ، رجال الدين، الدروز والمسيحيون والمسلمون يتسيّدون الشاشات الآن، هل نحن أمام تحوّل نحو مرحلة يُعتبر فيها رجال الدين ممثلين للطوائف، أو تبني نمط كالذي كان يسمّى المجلس الملّي في العهد العثماني، حيث لا حياة سياسية حقيقية على الأرض؟ هذا السؤال مبني على حقيقة أن الشرع والهيئة كانت تدير منطقة إدلب لسنوات دون حياة سياسية، بل بحكومة معينة من قبلهم.
في تصوّري سيكون نمط الحكم القادم أشبه بنمط دولة قطر أو بصورة أقل السعودية، نمط يضع نصب عينيه المعادلة التالية: الأمن والرفاه والتنمية مقابل السياسة، مع هوامش أكثر اتساعاً من المثالين المذكورين، وبناءً عليه لن يكون لرجال الدين المسلمين أو غيرهم دورٌ سياسيٌّ مستقلٌّ أو بارز، وإن كانوا سيحظون بكثير من الاحترام الذي سيعوّضهم عن هذا الدور السياسي.
يشاع أن الإدارة الجديدة فصلت العديد من خطباء المساجد في دمشق، هل هذا صحيح بحسب متابعتك أم أن الأمر يتعلّق باتباع النظام فحسب؟ وهل تتوقّع أن نشهد هذا النوع من الشدّ والجذب، ومحاولة الدفع نحو تعيين رجال دين سلفيين في مجتمع سوري قائم حتى الآن على الصوفية؟ ما تبعات ذلك إن حصل؟
أجبت عن هذا السؤال في تلافيف الجواب عن السؤال الثاني، وبحسب مشاهدتي فإن المفصولين حتى الآن هم ممن جاهروا بدعم السلطة الأسدية حين كانت في أوج إجرامها، وربما نشهد فصل أو عزل بعض رجال الدين عن وظائفهم الدينية ليس لأنهم صوفيون بل لأنهم يغوصون في الخرافات ويروّجون لها ترويجاً يتجاوز الحد المعقول.
بالعودة إلى مقاربة نظام الأسد تاريخيًا في التعامل مع السنة في سوريا، من ناحية التمثيل الديني، وعقد تحالفات مثبتة لشرعيته. هل لك أن تستشرف مصير اتباع بعض الشخصيات والجماعات في مرحلة ما بعد سقوط النظام، أقصد هنا تحديدًا ثلاث شخصيات الراحل أحمد كفتارو والراحل محمد سعيد رمضان البوطي، وأحمد الحسون وجماعة القبيسيات؟
ربما سنشهد استمراراً طويل الأمد مع خفوتٍ تدريجي لجماعة الشيخ أحمد كفتارو وجماعة القبيسيات، أما الدكتور البوطي وأحمد حسون فلا يمكننا الحديث عن جماعةٍ لهما نظير جماعة كفتارو والقبيسيات، مع الفرق الهائل ما بين الشخصيتين أعني: البوطي وحسون، فالبوطي رجل علم وكاتب ومؤلف وصاحب أثر لا يُنكر، وسيظل أثره يفعل فعله في قرّائه ومتابعيه، وإن لم تكن له جماعة منظّمة مؤطّرة، في حين لا يشكل أحمد حسون في أحسن أحواله سوى ظاهرةٍ صوتية يضيع صداها ويتلاشى أثرها في زحمة التحولات.
حضرتك من مدينة حلب، هل لك أن تحدّثنا عن الوضع في المدينة الغائبة عن وسائل الإعلام، خاصةً من ناحية عودة رجال الدين المهجرين منها، وكيف تعاطى شيوخ المدينة مع الهيئة من ناحية التمثيل الديني؟
حلب مدينة مظلومة منذ أكثر من نصف قرن. همّشها النظام البائد وأنكرها وأهملها عامداً متعمّداً، ولكنها صمدت بثبات أبنائها وحيلتهم. تهجّر قسم كبير من رجال دينها منذ الستينيات وليس منذ ٢٠١١، وهذا من عموم البلوى الذي استغرق مدن سوريا كلّها وبخاصة المدن الرئيسية: دمشق وحمص وحماة، ومنذ تحرير حلب من السطوة الأسدية بدأ رجال الدين الحلبيون يتوافدون إليها بعد غيابٍ امتدّ ما بين الأربعين إلى العشر سنوات، واستقبلت المدينة المنهكة المتعبة أبناءها أجمل استقبال، وفرحت بهم أيّما فرح.
في الأيام الأولى للتحرير كان الحلبيون على اختلاف صنوفهم متوجّسين أشدّ التوجّس فقد أُترعوا من الدعاية الأسدية التي صوّرت هيئة تحرير الشام بوصفها غولاً أقرب ما يكون إلى آكلي لحوم البشر أو مصاصي الدماء، وربما أسهمت هذه الدعاية بشكلٍ مضاد في انهيار قوات الأسد وفرارهم، ولكن سرعان ما اكتشف الأهالي خطل هذا التصوّر، ففُتحت المدينة من دون إراقة دماء، وجهد الفاتحون في تطمين الناس واستئناسهم، وهذا ما فعلوه مع المشايخ أيضاً، فعيّنوا شيخاً حلبياً مفتياً للمدينة وعميداً لكلية الشريعة هو الدكتور إبراهيم شاشو، وقد تابعت لقاءاته وتصريحاته فوجدته لا يألو جهداً في تقديم خطاب يهدّئ النفوس ويسكّن الخواطر، مبيّناً بأنّ السلطة الجديدة لن تلعب بعدادات الوجود المشيخي، بل ستحافظ عليه وتدعمه وتساهم في إعادة الألق إليه بعدما كبا وخبا.
أخيراً: أود أن أشكرك أستاذ عبد الله على أسئلتك الحصيفة والنبيهة، وأسأل الله لبلدنا سوريا أن يضمّد جراحه وألا تعود للنزف مرة أخرى، وأن يوفّق أفراد المجتمع أجمعين لينظموا أنفسهم ويقوموا بدورهم في تهذيب كلّ سلطة حاكمة وتشذيبها لتؤدي مهامها في خدمة الشعب لا خدمة نفسها.
صحافي سوري مقيم في ألمانيا، يكتب في مواضيع الهجرة والنقاش العامة المرتبطة بالهوية والعنصرية والفن.
حكاية ما انحكت