منوعات

يوميات بائع كتب/ نواف القديمي

لا أخفي ابتهاجي بكوني أقضي ساعاتٍ من يومي وسط مكتبة عامرة ومتنوعة

5 فبراير 2025

يغلب على زبائن المكتبات وروادها أنهم من المهتمين بالقراءة ومن المثقفين، الأمر الذي يجعل التعامل والحوار معهم يبدو مُريحًا ومفيدًا

أقرأ دومًا وأسمع عن أمنيات بعض محبي الكتب في العمل وربما العيش في مكتبة، وأحيانًا تكون مرفقة بمقولة بورخيس “لطالما تخيلت الجنّة على هيئة مكتبة”، غير أن الحقيقة ليست رومانسية بهذا القدر. صحيحٌ أنها بيئةٌ مُريحة ومُبهجة – خاصة لمحبي الكتب – وتتعامل فيها عادة مع مرتادين من مستويات تعليم وثقافة جيدين، لكن طبيعة العمل وسط كم هائل من التفاصيل والعناوين والمتابعات هو أمر مرهق أيضًا، خاصة إذا ما أضفنا إليها الجهد العضلي الذي يستلزمه حمل كراتين الكتب ذات الوزن الثقيل.

رغم أنني أعمل في مجال النشر مذ كنت طالبًا في الجامعة عام 2000، ثم تطورت التجربة بتأسيس الشبكة العربية للأبحاث والنشر في بيروت عام 2008، وما تلا ذلك بسنوات من تكوين مكتبات الشبكة العربية، ابتداءً من القاهرة في 2011، ثم الدار البيضاء في المغرب في 2013، ثم بقية المكتبات.. لكن منذ إقامتي في إسطنبول أواخر عام 2017، صار عملي اليومي فيها يتم وسط مكتبة الشبكة العربية.. في هذا التوقيت فقط، أصبحت أعمل في مكتبة.

تقع مكتبة الشبكة العربية بإسطنبول في حي الفاتح التاريخي داخل سور القسطنطينية القديم، والذي بات يُشكل العرب نسبة جيدة من سكانه، وفيه كمٌ وافر من الآثار والمساجد القديمة وسواقي المياه وشواهد القبور المُنتشرة في الشوارع والزوايا والمكتبات العثمانية المبنيّة بالحجر. كانت بيوت الحي، وعلى امتداد قرون، تُبنى بالخشب، الأمر الذي جعل جزءًا من تاريخ المدينة القديمة يعتمد على السنوات التي اشتعلت فيها حرائق ضخمة، حتى أخذت الدولة قرارًا في منتصف القرن العشرين بمنع البناء بالخشب والاستعاضة عنه بالإسمنت والحديد. لذا فأنت حين تتجول مثلًا في بعض المدن الأوروبية أو في القاهرة أو دمشق وسواهم، ستجد بيوتًا عمرها 100 و200 عام وأكثر، ولكنك لن تجد الشيء نفسه في حي الفاتح بإسطنبول، فالمباني القديمة فيها هي لمساجد وقصور ومكتبات ومقرات حكومية وليست منازل للسكان. ولهذا السبب فمعظم المباني السكنية في هذا الحي بُنيت قبل 40 إلى 60 عامًا، لذلك تجد أن أصحاب الشقق غالبًا من كبار السن أو من ورثتهم، فيما يُفضل الأبناء والأحفاد – في حال رغبتهم بشراء بيت – أن ينتقلوا إلى السكن في الأحياء الجديدة. رغم ذلك لا تكاد تخلو أزقة الفاتح من الفتيان الذين يلعبون كرة القدم في الشارع، والفتيات اللواتي يتجمعن في مداخل البنايات للرسم والحديث وتبادل الألعاب.

في حي الفاتح ما زالت “الحارة” وعلاقات الجيران حاضرة بنمطها التقليدي القديم، فيما تُشكل الأزقة والدكاكين المنتشرة حيزًا اجتماعيًا فاعلًا ونشطًا، أما “البازار” الأسبوعي فهو أشبه بلوحة منزوعة من العهد العثماني لنمط الأسواق الشعبية القديمة التي تبيع كل شيء بأقل الأسعار. يبدو الفاتح دائمًا أقرب إلى التاريخ الاجتماعي والثقافي منه إلى الحاضر، فمن عربات الباعة المتجولين ونداءاتهم الصباحية المألوفة، والمقاهي الشعبية التي يملؤها كبار سنٍ يُمضون الوقت بين أكواب الشاي وورق اللعب، فيما تفضل كبيرات السن قضاء الوقت بالإطلالة من النوافذ ومراقبة الشارع والعابرين، مرورًا بالمساجد القديمة المُمتلئة بالمُصلين، وعربات بيع السميت، وضربات دُف المسحراتي التي توقظك للسحور قبيل الفجر في رمضان. وحتى طرق الأطفال لباب بيتك صباح العيد للحصول على العيدية وبعض الحلوى.

وعلى ممر واسع مُخصص للمُشاة، تتوسط مكتبة الشبكة العربية محلّة “آق شمس الدين” المُجاورة للجامع الكبير، والتي سُميت باسم العالم العثماني المولود في دمشق، والذي كان شيخًا ومُربيًا لمحمد الفاتح في صغره. وهي بدورين، مساحة كل دور تُقارب المئة متر. خلف الدور الأرضي حديقة جميلة ومستودع صغير. وفي الدور العلوي، إضافة إلى رفوف الكتب، ثمة مجموعة من الطاولات والكراسي المُطلة على الشارع، مُخصصة للقراءة والدراسة ولقاء الأصدقاء. كما وأقيمت في الصالة العلوية عشرات الفعاليات الثقافية والندوات والأمسيات، وكانت تشهد دومًا حضورًا جيدًا. وتتزين المكتبة بعشرين لوحة فنية، ويمتد على كامل عرض دورها العُلوي زجاجٌ ينفذُ منه ضوء الشمس، ومكتوبٌ عليه بخط النسخ الجميل، بيتُ أبي الطيب المُتنبي: “جُهْدُ الصَبابة أن تكون كما أرى/ عَينٌ مُسَهَّدةٌ، وَقَلبٌ يَخْفِقُ”.

لا أخفي ابتهاجي بكوني أقضي ساعاتٍ من يومي وسط مكتبة عامرة ومتنوعة، تضم أكثر من 25 ألف عنوان، صادرة من أكثر من 400 دار نشر تنتمي إلى قرابة 14 دولة عربية.. كما أن المكتبة، بسبب مُراكمة الخبرة ووجود فروع لها في عدة دول، باتت قادرة على جلب مختاراتها من الكتب الصادرة حديثًا في العالم العربي في وقت وجيز، وذلك يمنحك دائما القدرة على متابعة الكتب الجديدة، فتتصفح ما يروق لك منها، وتقرأ فيه قليلًا، ثم تختار ما يعجبك لتُكمل القراءة فيه. إلا أن قضاءك لوقتٍ طويلٍ من يومك وسط الكتب قد يُشعرك تجاهها أحيانًا بالامتلاء، فتزيد عندك الرغبة بمتابعة الجديد، وتنخفضُ عندك الرغبة بالاقتناء. ومع ذلك كنتُ، وما زلت، أعتقد أن منظر الكتب المصفوفة بعفوية على الرفوف الخشبية الداكنة والمُمتدة، أجمل من أي لوحة فنية.

ورغم خوضي لتجارب تجارية مُتعددة، كانت تجربة العمل في مكتبة هي الأولى في العلاقة المباشرة مع “الزبون”، والبيع لعموم الناس باختلاف طِباعهم وأفكارهم ونفسياتهم، والعمل المرتبط بالمبيعات اليومية، والرزق الذي يأتي وينقطع، ويخف ويزيد، ويتأثر بالبرد والمطر والإجازات والأزمات، وبداية الشهر وآخره، والأوضاع الاقتصادية المُتأرجحة، ومُكايدات الأسواق الصغيرة.

سنة انتشار فيروس كورونا وما صاحبه من إغلاقاتٍ طويلة وحظرٍ للتجول، كانت بالنسبة لي أكثر فترة عامرة بالعزلة مع الكتب. أخرج صباحًا من شقتي القريبة إلى المكتبة، أدخلها مُتسللًا ومعي زادي من الأكل الخفيف، أُغلق الباب الخارجي، وأُسدل الستائر حتى تحجب الرؤية عن العابرين، أُحضِّر الشاي، وأبقى فيها حتى المساء. ولا تخلو تلك الأيام من زيارات خاطفة لأصدقاء لديهم بطاقات صحفية تعطيهم إمكانية التحرك وسط الحظر.

أما الحديقة الصغيرة المُلحقة بالمكتبة، والتي نحن في صراعٍ دائم للهيمنة عليها مع مجموعات من القطط، شُركاؤنا في الطبيعة والمكان، والتي فشلت كل الأسوار والأسلاك الشائكة وأجهزة إصدار الذبذبات في منعها من الدخول والاستيطان – تبقى لنا فقط استخدام المُفخخات والقناصة – فجلساتها وروادها وحواراتها الهادئة والصاخبة، وعشرات المثقفين والكتَّاب والسياسيين والصحافيين الزوّار من بلدان مختلفة، وعشرات الأصدقاء المرتادين لها، فلكل ذلك قصة طويلة ومُمتعة تستحق أن تُروى بعض صفحاتها في وقت لاحقٍ. بالنسبة إلي، كان لافتًا أنّ من تلقاهم على امتداد الأيام والشهور في مكتبةٍ بسيطة، أكثر ممن يُمكن أن تُقابلهم في أي مؤتمر.

يغلب على زبائن المكتبات وروادها أنهم من المهتمين بالقراءة ومن المثقفين، الأمر الذي يجعل التعامل والحوار معهم يبدو مُريحًا ومفيدًا، إلا أن الأمر لا يخلو أحيانًا من قصص وتجارب لافتة أو طريفة تحصل وسط هذا العالم المتنوع والمُختلف من المُرتادين. ويمكن أن أروي بعضًا مما علق في الذاكرة منها:

فمثلًا، يدخل عليك شخصٌ تبدو عليه سِمات الحزن وذقنه مُهمل، ويشرع بالسؤال عن بعض العناوين: عندكم كتاب بؤس العالم؟ أو كتاب اقتصاد الفقراء؟ ثم يسرد مجموعة أخرى من العناوين: كيف يزداد الفقراء فقرًا، الإنسان المقهور، أوركسترا المغلوبين، الموت عمل شاق، ثمانون عامًا في انتظار الموت.. إلخ، وبعد أن جمع له الزملاء ما توفر من هذه الكتب، قلتُ له مازحًا: وسنُهدي لك معهم كتاب “عشرون طريقة للانتحار”. شاب آخر يسأل عن عناوين محددة: كتب عن الطاقة، شمس المعارف، قانون الجذب، الكارما، الأبراج، أوشا.. ثالث يسأل بحماسة، وكان في فترة رئاسة ترامب للولايات المتحدة: عندكم كتاب إيفانكا على الشاطئ؟ “يقصد كتاب كافكا على الشاطئ”. رابع سألني، وأنا مُنهمك بعمل بين يدي: عندكم كتاب “يحدثُ ليلًا في الغرفة المُظلمة”؟ ولا أدري كيف سألته لحظتها: هو إيه اللي بيحدث بالضبط؟

مرة، كنتُ أملي على زميل، وهو يسجل، قائمة بعناوين كتب صدرت وليست لدينا في المكتبة، وقد نختار بعضًا منها. ورغم أن في القائمة مئات العناوين، إلا أنه تصادف وجود زبائن بجوارنا حين وصلنا في القراءة لـ: كتاب شهيق طويل قبل أن ينتهي كل شيء، كتاب أحببت وغدًا، كتاب حشيش فاخر، كتاب فن الغواية.. عندها قلتُ لزميلي: لنتوقف قليلًا حِفاظًا على سُمعة المكتبة. أما قصص الزبائن المغرمين بالحديث وفتح موضوعات ونقاشات قد تطول، دون أن يمنعهم من ذلك رؤية الزملاء وهم منهمكون في العمل، فهي كثيرة. يخطر ببالي أحيانًا أنه لو استطاعت البشرية اختراع جهازٍ لتحويل طاقة الكلام لدى البعض إلى طاقة كهربائية، لاستطعنا عندها إنارة أحياء كاملة بالمجان.

يدخل زبون ويقضي مدة يسأل فيها عن أسعار ما يُقارب الأربعين كتابًا، ويطلب رؤيتها، فيجمعها الزملاء له من رفوف المكتبة ومن المستودع، ثم يُفاصل في الأسعار، ثم بعد ساعة ونصف من تقليب الكتب، يدعها ويخرج من دون شراء كتابٍ واحد. وآخر يسأل أيضًا عن عشرين كتابًا، ويطلب رؤيتها، ثم بعد أن يتم جمعها له وينظر فيها، يقول لك إن لديه مكتبة خاصة ويبحث عن مشترٍ لها، وحين تخبره أننا لا نشتري كتباً مستعملة، يترك المكتبة ويغادر. سيدة تدخل ومعها أربعة أطفال، تنشغل بتصفح بعض الكتب، وتترك الأطفال ينتشرون في المكتبة، يلعبون ولا يُبقون كتابًا يعتب عليهم دون العبث به، أمّا الأم – التي تمتلك سَكينة تُحسد عليها – فلا تلتفت إليهم. أيضًا، موقفٌ مُتكرر أن يدخل شابٌ إلى المكتبة ويقول للزملاء: أريد أن تُرشّحوا لي رواية رومانسية تحكي قصة كذا وكذا، ويشرع في شرح القصة التي يريد، فيما يبدو، أن يقدمها كهدية. أربتُ على كتف الزميل الذي يقوم عادة بتلبية هذا النوع من الطلبات الخاصة، وأسميه “رسول الغرام” أو “سفير النوايا الحسنة”.

كما يبدو ظريفًا وصف بعض الزبائن للكتب التي يريدونها، فبعضهم لا يحفظ العناوين أو يتذكر منها كلمة أو اسمًا ويطلب مساعدتك في إيجاده، ويذكرني ذلك بصاحب مكتبة في القاهرة رأيته مرة في أحد معارض الكتب، وكنتُ بصحبة صديق، فقال لي من بعيد وبصوت مُرتفع: نيتشه شغال كويس، بس هايدغر بعافية شوية “يقصد حركة مبيعات كتابي نقد الحداثة في فكر نيتشه وهايدغر”، فأتذكر ما قاله المسيري رحمه الله من أن بعض العاملين في هذا المجال لا يرون فرقًا بين العمل في مكتبة أو محل جزارة.

زبون آخر يدخل إلى المكتبة في يوم بارد، ويقضي نصف ساعة يتجول ويُمسك في إحدى يديه جهازه الجوال ويتحدث عبره بصوت مرتفع يسمعه من في الشارع، ويده الأخرى تمر على الكتب فتحًا وتقليبًا وتغييرا لمواقعها – وكأنه يتصفح – دون أن ينظر إلى أيٍ منها. ثم حين يُنهي مكالمته، يدخل إلى دورة المياه، ثم يغادر المكتبة.. آخر طويل البنية وكبيرٌ في السن ويضع قبعة أوروبية على رأسه، دخل إلى المكتبة، وحين رآني رمقني بنظرة فاحصة، ثم سألني: من أي العرب أنت؟ ورغم مفاجأة السؤال ابتسمتُ وأجبته بكذا وكذا. عندها مد يده مصافحًا وقال لي: معك أخوك فلان ابن فلان ابن فلان من بني تغلب، ثم أخذ يسرد لي نسبه العائلي، ومواقع استقرار قبيلته، وشيئًا من تاريخها وبطولاتها.

كما أن بعض الزبائن يبدو من طبيعته أنه صعبٌ ومرهِق، حتى لو كان ما سيشتريه مجرد قارورة ماء من دكان، لأنه إذا لم يُفاصل ويُفاوض ويضغط ويُناور ويُخبرك عن أماكن أخرى تبيع المنتج نفسه بسعر أقل، فلن يشعر بالزهو والانتصار. وقد يأتي أحيانًا من تشعر أنه حين يشتري منك كتابًا فإنه يُعطيك المال باعتباره صدقةً وتبرعًا لوجه الله! أما سؤال: “عندكم مصاحف؟” فهي القصة التي تتكرر معنا ربما كل أسبوع، وفي رمضان يغدو سؤالًا يوميًا. فقد تعودنا في العالم العربي على أن المكتبات الثقافية لا تبيع المصاحف، فربما تجدها في المكتبات المهتمة بالكتب الإسلامية والتراث، أو في أماكن بيع أخرى. ولكن في إسطنبول، وفي رمضان تحديدًا، لا يخلو يوم من عدة مرات يُفتح فيه باب المكتبة، ويسأل الزبون وهو واقفٌ عند الباب: عندكم مصاحف؟ وحين يجيبه الزملاء بالنفي، يُعبِّر بعضهم عن اندهاشه وامتعاضه ويغادر. زميل قال لي مرة: صرتُ أُحس بأننا كفار.

رجل كبير في السن يدخل ومعه مجموعة نسخ من كتابٍ قام بتأليفه، ويطلب من الزملاء عرضه للبيع في المكتبة، فيُجيبونه بتعذر ذلك للأسف، لأن الكتب المعروضة يجب أن تكون مُسجلة في برنامج البيع، وهذا أمرٌ لا يمكن أن يتم سوى في المكتب الرئيس في بيروت، وأن المكتبة تتعامل مع دور نشر لا مؤلفين، إضافة إلى وجوب استخراج ملصق الباركود “البندرول” باسم المكتبة لكل كتاب. ولكنه حين يسمع ذلك يظن أنها أعذار للتنصل من بيع كتابه، فيُتحِفهم – وهو غاضب – بربع ساعة من الحديث عن عدم احترام العلم والعلماء، وعن أهمية كتابهِ وتأثيرهِ في الثقافة العربية، وتهافت المكتبات عليه. أيضًا سيدة كبيرة في السن، بعد أن سألت عن بعض الكتب، أخذت تحدث الزملاء عن كونها طبيبة متخصصة في علاج الضعف الجنسي، وتخبرهم عن تجاربها في علاج الكثير من المرضى، وتعرض خدماتها، دون أن يخطر ببالها أن تسأل الزميلين اللذين كانت تتحدث معهما، لأنهما أصلًا غير متزوجين.

أما أهم الرواد فهو من نسميه عادة “الزبون النادر”، تجده يدخل بهدوء، ويتجول بتمهلٍ على الرفوف، يقرأ العناوين، يسحب بعض الكتب، ينظر إلى المحتويات ويقرأ بعض الصفحات، ولا يتردد في سحب كرسيٍ صغير والجلوس عليه للنظر مليًا في الرفوف السُفلى، يسأل عن مواقع التخصصات وبعض العناوين، ويختار كل فترة كتابًا أعجبه ويضعه جانبًا بقصد شرائه، ويقضي ساعة أو ساعتين، وربما أكثر، وهو يتفحص ويقرأ ويختار بعناية، وقد لا يشتري كتبًا كثيرة ولكنه يعرف بالضبط ماذا يريد. يعرف الزملاء محبتي لهذا النوع النادر من الرواد، وأنني – على الطريقة المصرية – أكاد “آخده بالحضن” و”أتصور معاه سيلفي”.

زبون نادر آخر قد يأتي، لكن هذه المرة من الضِفة الأخرى، حيث يدخل إلى المكتبة ويقول لك مباشرة ومن الآخر: أنا مُنتج أو مُعد لبرنامج تلفزيوني، ونحتاج في الديكور إلى مجموعة من الكتب تكون مرصوصة خلف مُقدمي البرنامج، وكل ما نطلبه هو أمران: أن تكون كعوب الكتب ذات ألوان متنوعة وزاهية، وألا تكون مرتفعة القيمة، وما سوى ذلك غير مهم. وفي هذه الحالة يعمل الزملاء على جمع مجموعة من الكتب التي لم يسأل عنها أحد منذ سنوات، ويكون لدينا عدة نسخ منها، ويتعاملون مع الموضوع وكأننا في موسم “تصفية شاملة” أو “تقليب البضاعة” على طريقة تجار التجزئة. وقد حصلت معنا هذه القصة مرتين.

وفي مرة دخل شاب عربي إلى المكتبة بوقار مُصطنع، يلبس بدلة أنيقة ويضع نظارة شمسيّة، وكان حليق الذقن وله شارب كث – وكأنه أحمد زكي في فيلم زوجة رجل مهم – وعرّف بنفسه بأنه يعمل في موقع سيادي مهم في الدولة التركية، ثم طلب مني أن نتحدث قليلًا. جلسنا في الحديقة الخلفية، وأخذ بالحديث المتواصل لمدة ساعة ونصف – بدون توقف – عن الإنسان والكون والوجود والقوى الدافعة والتغيير وكلام آخر كثير لم أفهم معظمه. وفي ختام حديثه فهمت أنه يعرض علينا الاشتراك معه في مؤسسته – ودفع مبلغ مالي محترم نظير ذلك – من أجل أن يقدم لنا استشارات ودراسات لتطوير العمل. وكان مما قاله لي نصًّا: “المؤسسة ستجعلك تستعيد إنسانيتك، وذلك عبر فلسفة تدفق الحياة التي ستجعلك تنجح في تحقيق أسطورتك، من خلال نظرية خاصة في تغيير التغيير مرتبطة بموقعك في الزمكان ومن خلال إعادة تموضع الروح السارية في الأبنية الاجتماعية، وأننا نستطيع معًا أن نغير العالم إلى الأبد”. وقد دونت هذا المقطع – الذي امتد فقط لدقيقة ونصف – من كلامه عمدًا أثناء حديثه وذلك لتسجيل عينة قصيرة من الكلام المذكور. ولك الآن أن تتخيل ساعة ونصف ممتلئة بمثل هذا الكلام.

ورغم أن المكتبة مكانٌ لبيع الكتب ولا علاقة لها بالنشر، إلا أن طلبات النشر لا تتوقف أيضًا. ففي مرة أتت فتاة عمرها قد لا يتجاوز السادسة عشرة أو السابعة عشرة، ولديها كتاب تريد نشره بعنوان: “هكذا علمتني الحياة”. قلتُ في نفسي ربما إذا بلغتْ الخامسة والعشرين فستكتب كتابًا بعنوان: مذكرات شاهد على القرن. شابٌ آخر طلب نشر كتاب له، وتحدث عنه باستفاضة وإعجاب متناه، ثم ختم كلامه بأنه قام بدراسة جدوى ويتوقع أن يبيع كتابه ثلاثة ملايين نسخة! ثالث يطلب اجتماعًا خاصًا، وحين جلست معه بمفردنا أخبرني أنه كان ينتمي إلى طائفة دينية ثم غيّر انتماءه إلى طائفة أخرى، وأنه سيكتب كتابًا – لم يكتبه بعد – يكشف فيه الأسرار والخبايا والمؤامرات التي كانت تُحاك في الطائفة الأولى ضد الثانية، وهو يعرض عليّ شراء حقوق نشر هذا الكتاب بمئة ألف دولار! ويقول إنه تلقى عروضًا أعلى من هذا الرقم (لاحظ أنه تلقى عروضًا لنشر كتاب لم يُكتب بعد) ولكنه يُفضل نشره لدينا. رابع يعرض عليك نشر رواية له تدور أحداثها حول شرح “حقيقة” أن حاكم بلده العربي من أصول يهودية.

ثمة الكثير الذي يُمكن أن يُحكى عن عالم المكتبات، وموضوعات الكتب، ومواسمها وموضاتها وأكثرها مبيعًا، وأصناف المؤلفين، وأنواع القُرَّاء، وطبيعة السوق، وشبكات المطابع وشركات الورق والتجليد، وطُرُق التسعير، ومعارض الكتب وروادها، وقصص الناشرين وحيل بعضهم، وعوالم الترجمة والمترجمين، ودهاليز سوق تزوير الكتب، وحكايات كثيرة لا تنتهي. وهذه المقالة محاولة أولى للكتابة في هذا المجال، بين محاولة شرح طبيعة الصنعة، وتوثيق التجارب والمشاهدات، وسرد الطرائف وقصص الناس.

في الأيام المُمطرة الشاتية، حين تدخل صباحًا إلى المكتبة، وتصنع لك فنجان قهوة أو شاي وأنت تستمع إلى صوت عبد الباسط عبد الصمد وهو يتردد في الأرجاء، ثم تتجول وسط كل هذا الكم من الكتب والأفكار والقصص والتجارب والخيالات والفلسفات والتاريخ والمُعتركات والتأملات والهموم، فتكون كمن جمع تاريخ البشرية في مكانٍ واحد، وتُحس بما كتبتْه جيوكوندا بيلي عنوانًا لروايتها الشهيرة “الكون في راحة اليد”، وتشعر أن عبارة بورخيس الشهيرة لم تكن مُفرطة في الخيال، وأنك لا تُريد أكثر من ذلك.

ميغازين

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى