الهجرة العكسية كظاهرة اجتماعية في السويد: لماذا يترك العرب دولة الرفاه؟/ سنان السبع
![](https://www.alsafahat.net/wp-content/uploads/2024/12/website-cover-1-2_jpg-780x470.jpg)
08-02-2025
كانت السويد حتى وقتٍ قريب واحدةً من أكثر الوجهات الأوروبية جذباً للمهاجرين، خاصةً من الدول التي فتكت بها الحروب والصراعات. وقد ساهمت سياسات اللجوء السخية وتاريخ من الترحيب بالمهاجرين في جعلها مقصدًا لآلاف الباحثين عن حياة جديدة وآمنة وكريمة. فوفقًا لتقارير الحكومة السويدية، استقبلت البلاد نحو 163.000 طالب لجوء في عام 2015 وحده، وهو أعلى رقم في تاريخها الحديث. ومع ذلك، شهدت السنوات الخمس الأخيرة تحولًا غير متوقع، إذ بدأت السويد تسجّل «هجرةً عكسية»، إذ يغادر عددٌ متزايدٌ من المهاجرين الحاصلين على الجنسية السويدية، وخاصةً من الدول العربية، الدولةَ الإسكندنافية عائدين إلى أوطانهم الأصلية أو بحثاً عن فرصٍ أفضل في أماكن أخرى من العالم.
صافي الهجرة سالب
تشير الإحصائيات السويدية الرسمية الأحدث إلى أن عدد المغادرين من السويد قد تجاوز عدد الوافدين إليها لأول مرة منذ أكثر من نصف قرن. ففي عام 2023، شهدت السويد صافي هجرة سالب، حيث غادر نحو 5.700 شخص البلاد بين كانون الثاني (يناير) وأيار (مايو) من ذلك العام، في حين بلغ عدد المهاجرين الجدد 4.900 شخص فقط. على الرغم من أن الهجرة إلى السويد كانت تمثّل حياةً جديدةً للكثيرين، فإن التحديات الاقتصادية والاجتماعية أدّت إلى تحوّل تلك الآمال إلى خيبة أمل.
وبحسب موقع Statista المعني بالإحصائيات، شهدت السنة الأخيرة انخفاضاً في عدد اللاجئين القادمين إلى السويد، إذ انخفض عدد طلبات اللجوء بنسبة 42 بالمئة مقارنةً بالعام الذي سبقه. وتُظهر إحصائياتٌ أخرى أن نحو 22.000 من المهاجرين العائدين، أو حوالي 13 بالمئة من جميع المهاجرين في السنوات الأخيرة، أي بعد العام 2015، قد غادروا البلاد بسبب عدم القدرة على التكيّف مع البيئة السويدية أو الظروف الاقتصادية.
علاوةً على ذلك، أظهرت أرقام هيئة الإحصاء الوطني السويدية أن عدد المهاجرين الذين غادروا البلاد في عام 2022 بلغ 50.592 شخصاً، وشكّل المولودون في السويد من أبوين سويديَيْن نسبة 37 بالمئة منهم، وذلك لأسباب متنوعة. ومع نهاية عام 2023، تم تسجيل أكثر من 66 ألف شخص مهاجر من السويد (أي أنهم غادروا لأكثر من عام وتمّ شطبهم من سجلات المقيمين)، وهي أرقامٌ «مُقلِقة» تُظهر اتجاهاً متزايداً نحو الهجرة أو ما يمكن تسميته «الهجرة العكسية».
ترافق ذلك مع انخفاض عدد الولادات إلى معدلات غير مسبوقة، مما أدى إلى تراجع النمو السكاني ليصبح الأدنى منذ عام 2001. وهذه الأرقام تعكس القلق المتزايد بين المهاجرين حول الاستقرار في السويد، وتساهم في فهم الأسباب وراء قرار الهجرة العكسية.
السياسة: اللاعب الأساسي في ملف الهجرة
في السنوات الأخيرة الثلاث الأخيرة، بدأت السويد في تطبيق سياسات هجرة أكثر تشدّداً، وذلك بالتزامن مع تصاعد تأثير الأحزاب اليمينية المتطرفة على المشهد السياسي في البلاد. فبعد الانتخابات العامة في عام 2022، حصل حزب «المعتدلين» على السلطة في تحالف مع حزب «الديمقراطيين السويديين» اليميني، مما أدى إلى تغييرات جوهرية في سياسة الهجرة. وزيرة الهجرة السويدية، ماريا مالمر ستينرجارد، صرّحت بفخر أن السويد تسجل الآن «صافي هجرة سلبي» للمرة الأولى منذ عقود، مشيرةً إلى أن الحكومة تهدف إلى السيطرة على تدفق المهاجرين وتقليل أعدادهم.
ومع ذلك، فإن هذه السياسات كانت مثار جدلٍ واسع في المجتمع السويدي. فعلى الرغم من أن الحكومة تدّعي أن هذه الخطوات ضرورية لتحقيق الأمن والاستقرار، فإن العديد من المنظمات غير الحكومية والمراقبين يعتبرون أن هذه السياسات «تؤدّي إلى تهميش الفئات الضعيفة». وتعليقًا على ذلك، أفادت المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين بأنّ «التضييق على فرص اللجوء يعد انتهاكاً للحقوق الإنسانية».
أسباب الهجرة العكسية
تتنوع العوامل التي تدفع المهاجرين لمغادرة السويد بين اجتماعية وسياسية واقتصادية. فقد وصلت دراسةٌ مسحية أجرتها جامعة أوبسالا إلى أن 58 بالمئة من المهاجرين الذين غادروا السويد عبّروا عن استيائهم من ظروف العمل، في حين أن 67 بالمئة أشاروا إلى قلّة فرص الاندماج الاجتماعي. كما عزت الدراسةُ تزايد الهجرةَ العكسية إلى الارتفاع الملحوظ في تكاليف المعيشة، إذ ارتفعت أسعار السلع والخدمات بنسبة 6.6 بالمئة في عام 2023، مما أثّر على القدرة الشرائية للمهاجرين، الذين هم بين أضعف الفئات اقتصادياً. لكنّ رغم ذلك، فإنّ قرابة 45 بالمئة من العائدين لم يعودوا لأسباب اقتصادية فحسب، بل لأنهم افتقدوا الهوية والثقافة، خاصةً مع الاغتراب الذي شعروا به في المجتمع السويدي.
علاوةً على ذلك، يُعبّر العديد من المهاجرين عن شعورهم بالعزلة الاجتماعية، حيث يُعتبر المجتمع السويدي في كثير من الأحيان «منغلقاً» على حدّ وصفهم. يقول كريم العلي، الذي عاد إلى العراق بعد عشر سنوات من الإقامة في السويد: «كنت أطمح لتحقيق أحلامي في السويد، ولكن بعد معاناةٍ من الاغتراب والشعور بعدم الانتماء، أدركت أنه من الصعب الاستمرار. القوانين الجديدة التي قيّدت فرص العمل لم تساعدني على بناء مستقبلي، وعندما عُرضت عليّ فرصة العودة إلى بلدي، كانت الخيار الأفضل بالنسبة لي».
«سحب الأطفال» كسبب للهجرة العكسية
في السنوات الأخيرة، أصبحت القضايا المتعلقة بجهاز الرعاية الاجتماعية (السوسيال) في السويد محور جدل واسع بين الأسر المهاجرة. تشعر العديد من العائلات بالقلق المتزايد حول إمكانية سحب أطفالهم من قبل «السوسيال»، وهو ما يسبب شعوراً بعدم الأمان ويؤثّر بشكلٍ كبير على قرارات الهجرة العكسية. هذا الوضع تفاقم بسبب تصاعد حملات الكراهية ضد المهاجرين، مما جعل العديد من الأسر تشعر بأن «السوسيال» يستهدفهم بشكل خاص، كما ساهمت وسائل إعلام ناطقة بالسويدية أو بلغاتٍ أخرى في تنمية هذا الشعور بالتهديد.
العديد من العائلات المهاجرة فقدت الثقة في النظام، خاصةً بعد ما وصفته بـ«الخروقات» في عمليات سحب الأطفال. يعتقد البعض أن هناك تمييزاً في كيفية تنفيذ هذه العمليات، إذ «يُسحب» الأطفال أحياناً دون التحقق من الأضرار الحقيقية التي قد تلحق بهم. في هذا السياق، قال أحد المهاجرين، الذي فضل عدم ذكر اسمه: «الخطاب العنصري متصاعد على المستويين الرسمي والمجتمعي، وهذا يشمل أيضاً المؤسسة الاجتماعية. نشعر بالخوف على أطفالنا، ومن أن يتم سحبهم منا حتى في غياب أي مبرر واضح لذلك. هذا الضغط يدفع الكثير من الأسر إلى التفكير في العودة إلى البلدان التي قَدِمت منها في حال استقرارها الأمني والسياسي والخدمي».
هذه القضايا أصبحت أكثر وضوحًا بعد انتشار وسم «أوقفوا خطف أطفالنا» على منصات التواصل الاجتماعي، مما أدى إلى خروج مظاهرات في العاصمة ستوكهولم في شباط (فبراير) الماضي. رفع المحتجون صور أطفالهم، وردّدوا هتافات مثل «أوقفوا خطف أولادنا» و«العدالة من أجل أطفالنا»، وهذه المظاهرات ليست إلا استمراراً لمظاهرات ما انفكت تخرج بين حين وآخر طوال العامين الماضيين. ورغم التصعيد الأخير، نفت الحكومة السويدية الاتهامات الموجهة إليها من الأسر، ولم تعلّق على المظاهرات.
وفقًا للقانون السويدي الذي تم إقراره في السبعينات، يحق لمؤسسة «سوسيال» انتزاع الأطفال من أسرهم إذا ثبتَ وجود تجاوزات تُمارس ضدهم، مثل العنف أو عدم القدرة على توفير الأساسيات التي يحتاجها الطفل. وبموجب هذا القانون، يمكن سحب جميع أطفال العائلة إذا تعرّض أحدهم لظروفٍ تعتبرها المؤسسة غير مناسبة. لكن العديد من المهاجرين يعتقدون أن «سوسيال» تنفّذ عمليات السحب بشكل غير عادل، ويشتكون من أن الأطفال يتم سحبهم «بناءً على مزاعم غير صحيحة»، الأمر الذي يزيد من تعميق الفجوة بين المجتمع السويدي والمهاجرين.
وفي هذا السياق، ذكر محقق سابق في «سوسيال» أنه عمل في هذا المجال لمدة عشر سنوات وشهد العديد من الانتهاكات التي أدت إلى استقالته، وأوضح أن هذه الانتهاكات تتضمّن تحريف أقوال الأطفال أو اعترافات الأسر بهدف إتمام عملية السحب، مشيراً إلى شبهات فساد يصعب توثيقها بسبب غياب الرقابة على الموظفين الإداريين. كما أشار إلى أن بعض الأسر البديلة التي تحتضن الأطفال تتقاضى أموالًا ضخمة مقابل ذلك، ما حول المسألة إلى «ما يشبه التجارة» على حدّ وصفه.
على الرغم من هذه الاتهامات، أكدت الحكومة السويدية عبر حساباتها في منصات التواصل الاجتماعي أنه «يحق لجميع الأطفال في السويد التمتّع بطفولة آمنة»، مشيرةً إلى أنّ الدولة لا تسعى إلى فصل الأطفال عن أسرهم «إلا إذا كان هناك خطر حقيقي على الطفل». وأضافت أن القرار النهائي بشأن الأطفال لا يتم اتخاذه من قبل «سوسيال»، وإنما من قبل القضاء، مع الإشارة إلى أن هناك حالات يعود فيها الأطفال إلى أسرهم.
ومع ذلك، أكدت الحقوقية المتخصصة في حقوق الأطفال د.ماريتا هولمبيرغ في حديثها للجمهورية.نت «وجود خروقاتٍ في نظام سوسيال وأن الأموال التي تُدفع للأسر البديلة تعتبر مصدراً للانتفاع غير المشروع». كما أشارت إلى أن بعض الأسر البديلة «تتقاضى ما يصل إلى 7 آلاف دولار شهرياً مقابل كل طفل يتم احتضانه، ما يثير تساؤلات حول نزاهة الإجراءات المتّبعة في عملية سحب الأطفال».
أما فيما يتعلق بالشهادات من الأسر المتضررة، فقد تحدث العديد من الآباء عن تجاربهم مع «سوسيال». قال لنا أحد الآباء (فضّل عدم ذكر اسمه)، وهو أب لسبعة أطفال، إن ابنته تم سحبها بعد أن كتبت صديقاتها رسالة إلى المعلمة في الفصل حول مزاعم تعنيفها في المنزل. وأضاف أن سحب ابنته تم بناء على مزاعم غير صحيحة، حيث تم التحقيق مع باقي أولاده، لذا «اضطُروا إلى الهروب من السويد لتجنب فصل باقي الأطفال عنهم»، ولم يُتح لنا سماع رد السوسيال على مزاعم الأب. مهاجرٌ آخر التقيناه تحدّث عن سحب ابنته من قبل «سوسيال» بعد شجار مع إحدى زميلاتها في المدرسة، مشيرًا إلى أنه «كان متهماً بالعنف، رغم أن الاتهام لم يكن دقيقاً، وأنه لم يتمكن من استعادة ابنته منذ ذلك الحين» على حدّ ادعائه.
وفي ما يخص الإحصائيات، ذكر تقرير صادر عن «سوسيال» أن عدد الأطفال الذين خضعوا للرعاية في عام 2020 بلغ 27 ألفًا و300 طفل-ة، تم وضع 19 ألفاً منهم لدى عائلات بديلة و8300 في دور رعاية، حيث كانت النسبة الأكبر من الأطفال الذكور (58 بالمئة) مقارنةً بالإناث (42 بالمئة).
إجمالًا، تعكس هذه القضية العديد من التحديات التي تواجه الأسر المهاجرة في السويد، بما في ذلك الشعور بالعزلة، وفقدان الثقة في النظام الاجتماعي، واتخاذ قرارات مؤلمة بالعودة إلى أوطانهم الأصلية.
ردّت الحكومة السويدية رسمياً على الاتهامات الموجهة لها بشأن سحب الأطفال، أبناء العائلات المسلمة على وجه الخصوص، من عائلاتهم، مؤكدةً أن التقارير التي تحدّثت عن هذه الظاهرة «غير صحيحة». وفقاً للأرقام الرسمية، بحسب الحكومة، لا توجد «زيادة غير مُبرّرة» في حالات سحب الأطفال من العائلات المسلمة، كما أن إجراءات السوسيال تتم بناءً على مصلحة الطفل دون تمييز ديني أو ثقافي. الحكومة شددت على أنها تلتزم بحقوق الإنسان وتستند إلى قوانين راسخة لحماية الأطفال من جميع الأوساط الاجتماعية.
مقترحات حكومية لتشجيع «العودة الطوعية»
لم تكتفِ الحكومة السويدية بتقليل أعداد المهاجرين من خلال القوانين الصارمة فقط، بل تسعى أيضاً لتشجيع العودة الطوعية من خلال تقديم حوافز مالية. وفقاً لتقريرٍ صادرٍ عن وزارة الهجرة السويدية «قد تُقدّم الحكومة حوافز تصل إلى 350.000 كرون سويدي (حوالي 32.000 يورو) للمهاجرين الذين يرغبون في العودة إلى بلدانهم. ومع ذلك، واجهت هذه الخطة انتقاداتٍ واسعة، إذ يعتبر البعض أن تقديم الأموال لا يعالج الأسباب الجذرية التي تدفع المهاجرين إلى مغادرة السويد.
تأثير الهجرة العكسية على المجتمع السويدي
يُشكّل ارتفاع معدلات الهجرة العكسية تحدياً كبيراً للحكومة السويدية. من جهة، تُعتبر الهجرة العكسية بمثابة إشارة إلى نجاح السياسات الصارمة في تقليل تدفق المهاجرين. لكن من جهةٍ أخرى، يتساءل البعض عما إذا كانت هذه السياسات ستُفضي إلى فقدان المواهب والكفاءات التي تحتاجها السويد. تشير التقارير إلى أن العديد من المهاجرين يعودون إلى بلدانهم بسبب فقدان الأمل في الحصول على حياة أفضل، وأفادت دراسةٌ صدرت مؤخراً إلى أنّ 72 بالمئة من العائدين «قالوا إنهم لم يشعروا بأنهم جزء من المجتمع السويدي».
لماذا تركت السويد؟
طرحنا هذا السؤال على مجموعةٍ من الأشخاص، جميعهم ولدوا في بلدان عربية وانتقلوا للسويد لأسباب مختلفة، ثم تركوها نحو بلدانهم أو نحو بلدٍ ثالث. يمكن من خلال قراءة إجاباتهم، وتنوّع أسبابهم الحصول على عددٍ ليس قليل من الأسباب، تتقاطع كثيراً، ولكنها تعكس مدى أهمية التجربة الشخصية في اتخاذ قرار ترك واحدةٍ من الدول الأكثر استقراراً ورخاءً في العالم.
سارة الأحمد- الوجهة: دبي
«الأسباب الرئيسية لمغادرتي السويد هي الشعور بالوحدة والعزلة. عشت هناك لمدة خمس سنوات، لكنني شعرت أنني لا أستطيع التكيف مع ثقافة المجتمع المحلي. إضافةً إلى ذلك، كان لدي فرصة عمل أفضل في دبي. تجربتي كانت مختلطة. في البداية كان الأمر رائعًا، ولكن مع مرور الوقت واجهتُ تحدياتٍ كبيرةً في الاندماج. صعوبة تعلّم اللغة وتكوين صداقات جديدة كانا من أكبر التحديات. كما أن تكاليف المعيشة كانت مرتفعةً جداً، مما جعل الأمور أصعب. الحياة في دبي أكثر حيويةً وتنوعاً. في دبي أشعر أنني جزءٌ من المجتمع، ويمكنني التواصل بسهولة مع الآخرين. أما في السويد، فقد شعرت دائماً أنني غريبة، حتى بعد سنوات من الإقامة. أكبر صعوبة كانت التكيف مرةً أخرى مع نمط الحياة في دبي. بعد فترة من العزلة في السويد، كان من الصعب إعادة بناء شبكة علاقاتي الاجتماعية. ولكن بمرور الوقت، بدأت أستعيد اتّصالي بأصدقائي وعائلتي».
سمير أحمد- الوجهة: العراق
«السبب الرئيسي لمغادرتي السويد كان صعوبة التكيف مع الحياة هناك. بعد عامين من المحاولة، شعرت أنني لم أستطع العثور على فرصة عمل تناسب مهاراتي، وكانت الحياة اليومية صعبة للغاية. كانت تجربتي مليئة بالتحديات. شعرت بالانفصال عن عائلتي وأصدقائي، وواجهت صعوبةً في العثور على وظيفة مناسبة لي. اللغة كانت عقبة كبيرة، حيث لم أتمكن من التحدث بها بطلاقة، مما جعل الاندماج صعباً. الحياة في العراق أكثر حميمية وارتباطًا بالعائلة. رغم التحديات، أشعر أنني في مكانٍ أفضل، حيث يمكنني التواصل مع مَن حولي بسهولة. السويد كانت رائعة من حيث الحقوق الاجتماعية، لكنني شعرت بالفقدان في العلاقات الإنسانية. أكبر صعوبةٍ أواجهها حالياً هي إعادة التكيف مع الحياة في العراق. الأمور قد تكون مختلفة، ولكنني افتقدت القيم الثقافية والروابط الأسرية التي عشتها قبل مغادرتي نحو السويد».
محمد سعد- الوجهة: مصر
«أسباب مغادرتي للسويد كانت متعددة، بما في ذلك الشعور بعدم الانتماء والإحباط من قيود سوق العمل. لم أتمكن من العثور على عملٍ يناسب مهاراتي، مما جعلني أفكر في العودة. التجربة كانت صعبة. بينما كانت السويد توفّر جودة حياةٍ أعلى، كنت أواجه صعوباتٍ في التكيف مع الثقافة الجديدة. كما أن الشتاء القاسي كان مؤثراً جداً على المستوى النفسي. شعرتُ بالانفصال عن عائلتي وأصدقائي. في مصر، أشعر بالقدرة على التواصل مع الناس وبسهولة تكوين العلاقات. السويد كانت رائعةً في بعض الجوانب، لكنها كانت غريبةً بالنسبة لي. هنا في مصر، أستطيع التواصل بسهولة مع عائلتي وأصدقائي. أكبر صعوبة كانت التكيف مع الوضع الاقتصادي المتغير في مصر. رغم أنني عدت إلى بلدي، لكنني شعرت ببعض القلق حيال المستقبل الوظيفي».
أحمد علي- الوجهة: العراق
«أسهم الخطاب العنصري المتزايد في السويد بجعلي أشعر بعدم الارتياح. كنت أعيش في قلقٍ دائمٍ حول مكانتي هناك، وهذا دفعني للتفكير في العودة. تجربتي كانت صعبة. بالرغم من أنني حصلت على الجنسية، فإن شعوري بأنني غريب في بلدي الجديد كان يرافقني دائماً. كانت هناك تحديات اقتصادية وصعوبات في العثور على عمل مناسب. الحياة في العراق تُعطي شعوراً بالانتماء والهوية. بينما كانت السويد تمنحني فرصة عيش حياة كريمة، إلا أنني كنت أشعر بعدم الراحة وعدم الانتماء. بعد العودة، كان عليّ التكيف مع وضع العراق، الذي يختلف تمامًا عن السويد. الأوضاع الاقتصادية والتحديات الأمنية كانت صعبة، لكنني شعرت بالراحة لكوني في بلدي».
العمل، والأسرة، والعزلة الاجتماعية، جميعها أسباب لترك السويد
من خلال مقابلاتٍ أخرى، تتكشف أبعاد جديدة تدفع المهاجرين للعودة إلى أوطانهم الأصلية، و نصل إلى شهادات وأسباب متنوعة لهذه الظاهرة، تشمل تحديات سوق العمل المغلق، والخوف من تأثير السياسات الاجتماعية، والشعور بالعزلة في مجتمع يفتقد الدفء الاجتماعي. هذه الشهادات تسلّط الضوء على الجانب الإنساني العميق وراء هذه القرارات المصيرية، وتكشف النقاط التي تجعل العودة خياراً حتمياً لبعض العائلات والأفراد.
«العودة إلى العراق فتحت لي أبواباً لم أجدها في السويد»، بهذه الكلمات يلخّص الصحفي عامر محسن قراره بالعودة إلى بلده الأم. على الرغم من حصوله على الجنسية السويدية وسنواتٍ من تطوير مهاراته اللغوية والمهنية، وجد أن العمل في مجال الإعلام في السويد مغلق أمام المهاجرين. يشرح عامر تجربته قائلاً: «توفّر السويد حريةً إعلاميةً كبيرة، لكنّ سوق العمل في الإعلام يشبه النادي المغلق الذي يصعُب على المهاجرين اختراقه. بذلت كل ما في وسعي، لكنني شعرت بالإحباط المتزايد مع كل محاولة غير ناجحة. عندما عدت إلى العراق، كان هناك تحدٍ جديد، لكنه فرصة كذلك. تمكنت من العمل مع مؤسساتٍ إعلامية، ووجدت بيئةً تناسب طموحاتي المهنية. لقد كانت خطوةً صعبة، لكنها الخيار الصحيح لاستعادة مسيرتي المهنية والشعور بالقدرة على تحقيق أهدافي».
أما صادق عبد الله، وهو رب أسرة عاد إلى العراق مع زوجته وابنتيه، فكان قراره بالعودة متعلقاً بالأسرة والأمان. يقول صادق: «عشتُ مع عائلتي في السويد لسنوات، وأحببنا الكثير من الجوانب هناك، لكنّ الخوف كان يرافقنا دائماً. القوانين المتعلقة بدائرة السوسيال، رغم أنها تبدو مصممةً لحماية الأطفال، سبّبت قلقاً كبيراً لي كأب. كنت أخشى أن يسيء أحدٌ تفسير ‘اختلافاتنا الثقافية’، فيؤدي ذلك إلى تدخّل الدولة في حياتنا الأسرية. هذه المخاوف لم تجعلني أشعر بالأمان حتى في دولة متقدمة مثل السويد. عدنا إلى العراق حيث نعيش بين الأهل والأصدقاء، وعلى الرغم من التحديات، أشعر أنني أملك السيطرة على حياة أطفالي ومستقبلهم في ظل قيمنا وثقافتنا».
من جهتها، عادت ليلى إبراهيم مع عائلتها إلى دبي بعد سبع سنوات من الحياة في السويد. تصف ليلى تجربتها قائلةً: «كانت السويد مختلفةً جداً عما توقعت. الجو البارد والمظلم كان يؤثر على حالتي النفسية بشكل كبير، لكن الأمر لم يكن مقتصراً على الطقس فقط. الحياة الاجتماعية هناك تكاد تكون معدومة؛ شعرت بأننا كعائلة نعيش في عزلة تامة، بلا روابط أو تفاعل حقيقي مع الآخرين. حتى محاولاتنا للاندماج كانت تصطدم بحواجز الثقافة واللغة. زاد الأمر سوءاً مع تصاعد الخطاب العنصري في السياسة السويدية، خاصةً من قبل الأحزاب اليمينية، ما جعلني أشعر أننا لسنا مرحباً بنا. العودة إلى دبي كانت خطوة استعدنا من خلالها حياتنا الاجتماعية النشطة وأسلوب حياة يشعرنا بالدفء، سواء على المستوى الإنساني أو العائلي. اليوم، أستطيع أن أقول إنني أشعر بالراحة أخيرًا».
تعكس هذه الشهادات الهواجس الإنسانية المُعقّدة التي يواجهها المهاجرون في السويد، من العوائق المهنية إلى مخاوف الأسرة وصولاً إلى الشعور بالعزلة الاجتماعية. وبجمع هذه الأصوات، يصبح من الواضح أن القرارات المتعلقة بالهجرة العكسية ليست مجرد رد فعل على الظروف المادية، بل هي عملية معقدة تتأثر بالعوامل الثقافية والنفسية والاجتماعية. هذه الشهادات تضيف بعدًا عميقًا لفهم هذه الظاهرة وأثرها على المجتمعات المهاجرة والمستقبلة.
المشهد السياسي الحالي في السويد
تعيش السويد حالياً فترةً من التغيرات السياسية الكبرى، بعد أن تمكنت الحكومة من تقليل أعداد المهاجرين والوصول إلى صافي سلبي للهجرة، وهو أمرٌ يُعتبر إنجازاً كبيراً في نظر العديد من السياسيين. تحت قيادة وزيرة الهجرة، ماريا مالمر ستينرجارد، تبنّت الحكومة مجموعةً من السياسات الهادفة إلى تقليل تدفّق المهاجرين، حيث أكدت في عدة مناسبات أن هذه الخطوات «ضرورية للحفاظ على الأمن الاجتماعي والاقتصادي في البلاد».
في تصريحاتها الأخيرة، أعربت مالمر ستينرجارد عن سعادتها بإنجاز الحكومة في «تقليص أعداد المهاجرين»، مشيرةً إلى أن هذه النتائج تعكس نجاح السياسات الجديدة في خلق بيئة أفضل للمواطنين السويديين. صرحت كذلك بأنّ «الوصول إلى صافي هجرة سلبي يُعدُّ علامةً على أننا نعمل على تعزيز الأمان والاستقرار في مجتمعنا». وتأتي هذه التصريحات في وقتٍ حساس، إذ يزداد الدعم للأحزاب اليمينية المتطرفة التي تنادي بتقليل أعداد المهاجرين وتضييق الخناق على سياسة اللجوء.
علاوةً على ذلك، أعرب العديد من المسؤولين الحكوميين عن ارتياحهم لهذا الاتجاه، معتبرين أن الانخفاض في أعداد المهاجرين سيُساعد في تحسين مستوى الخدمات العامة ويخفف من الضغط على الموارد. ففي تصريحات أدلى بها رئيس الوزراء أولف كريستيرسون، أكد على أن هذه الخطوات «تعكس التزام الحكومة بتلبية احتياجات الشعب السويدي». وبشكلٍ عام، تبدو الحكومة السويدية متفائلةً بشأن مستقبل البلاد بعد اتخاذ هذه الإجراءات، مع تأكيدها على «ضرورة التركيز على قضايا الأمن والاندماج».
حملات «تبشيرية» عبر وسائل التواصل الاجتماعي
انتشرت في الآونة الأخيرة عبر وسائل التواصل الاجتماعي دعواتٌ تُروج لفكرة العودة إلى الوطن تحت شعار «عودوا إلى الجذور»، تُشجّع المهاجرين على العودة إلى بلدانهم الأصلية، مشيرةً إلى الأوضاع المعيشية الجيدة التي قد يوفرها الوطن. تتبنّى هذه الحملات أسلوباً يدعو إلى العودة للهوية الأصلية والتواصل مع الثقافة الأم، بينما تتزايد الضغوط الاجتماعية والنفسية التي يعاني منها المهاجرون، مما يجعل هذه الحملات تحظى بمتابعةٍ واهتمامٍ كبيرين. ينظر بعض المهاجرين إلى هذه الحملات كفرصة لاستعادة الروابط الثقافية والاجتماعية التي فقدوها في الغربة، حيث يعتقدون أن العودة إلى الوطن قد تكون الحل الأمثل لتخفيف معاناتهم النفسية والتواصل مع بيئة أكثر دفئاً وإنسانيةً.
العديد من الشخصيات العامة على منصات التواصل الاجتماعي بدأت تشارك تجاربها الشخصية المتعلقة بالعودة إلى الوطن، مما جعل هذه الحملات تزداد قوة وانتشاراً. إحدى الشخصيات التي كان لها تأثير كبير في هذا السياق هي الفتاة سمانة، التي تمتلك أكثر من مئة ألف متابع على منصة تيك توك. سمانة، التي انتقلت مؤخراً من السويد إلى دبي، بدأت في نشر فيديوهات تشرح أسباب انتقالها إلى الإمارات، وهو ما جذب الكثير من النقاشات والمتابعات.
في أحد الفيديوهات التي نشرتها على حسابها في تيك توك، تحدثت سمانة عن الأسباب التي دفعتها للانتقال إلى دبي، وقالت إن القرار كان مدفوعاً بعدة عوامل. أولاً، أشارت إلى أنها «تفضّل الطقس الحار في دبي على المناخ البارد في السويد، معتبرةً أن الأجواء المشمسة تمنحها شعوراً أفضل». كما أكدت سمانة أن «عدم وجود ضرائب في دبي كان من العوامل المهمة التي شجعتها على الانتقال»، حيث ترى أن هذا يتيح لها الفرصة لتوفير المزيد من المال. وأضافت أن الحياة الاجتماعية في الدول العربية، بما في ذلك دبي، أفضل بكثير مقارنةً بالدول الأوروبية، حيث «تجدها أكثر ترابطاً وقرباً».
وتابعت سمانة أنها تجد في دبي رفاهيةً عالية، مشيرةً إلى أن تكلفة الخدمات منخفضة وأنها قادرة على الحصول على كل ما تحتاجه بسهولة من خلال التطبيقات المتوفرة على الإنترنت. كما تحدثت عن فرص العمل المتنوعة التي توفّرها دبي، معتبرةً أن السوق هناك يسمح لها بالعمل في أكثر من مهنة خلال اليوم. وأخيراً، قالت سمانة إن تربية الأطفال في دبي أسهل وأكثر راحة حيث «يوجد قانون صارم في الإمارات تستطيع من خلال السيطرة على أطفالها، عكس ما هو موجود في أوروبا، مما يجعلها تشعر بأن بيئة دبي أكثر ملائمة لنشأة أطفالها».
هذا التصريح يعكس بعض الأسباب التي دفعت سمانة لاتخاذ قرارها بالانتقال إلى دبي، ويُظهر كيف أن بعض المهاجرين يجدون في العودة إلى دول المنطقة أو الانتقال إليها «مميزات تتناسب مع نمط حياتهم».
أما آية عبد، هي صانعة محتوى تمتلك أكثر من نصف مليون متابع على منصات التواصل الاجتماعي، وكانت قد عاشت سابقاً في دبي وهي الآن في السويد، فقد ردّت على سؤال حول ميزات دبي والسويد قائلة: «نظام السكن في دبي أسهل بكثير مقارنة بما هو موجود في السويد. في دبي، يمكنني ببساطة الذهاب إلى أحد المكاتب المتخصصة والحصول على سكن بسهولة، بينما في السويد يتطلب الأمر الانتظار لعدة سنوات للحصول على سكن مناسب». وأضافت: «أما الطقس، فهو شديد البرودة في السويد خلال فصل الشتاء، بينما في دبي يكون الطقس معتدلاً ومريحاً، ما يسهم في تحسين نوعية الحياة».
الأمر لا يقتصر على السويد وحدها من حيث تأثير المؤثرين على وسائل التواصل الاجتماعي، ويمتد ليشمل الدول الأوروبية الأخرى. عصام سعيد هو شاب فلسطيني متخصص في العملات الرقمية ولديه أكثر من 10 آلاف متابع على منصات التواصل الاجتماعي، نشر فيديو على منصة إنستغرام حصد أكثر من مليون مشاهدة، قال فيه: «حين عشت لفترة شهر في دبي، عدت للعيش في بلجيكا لكن لم أعد أستطيع العيش هنا كما كنت سابقًا. الملل في بلجيكا غير طبيعي. بدأت أكتشف كم أن قوانين أوروبا غبية، خصوصاً فيما يتعلق بالعملات الرقمية. حتى التكنولوجيا في دبي متقدمة على أوروبا بعشر سنوات. هذا غير عقلية الناس الذين يعيشون هنا مقارنة بدبي. بصراحة، لا أستطيع العودة للعيش في بلجيكا.
مع أن بلجيكا بلد جميل جداً ومتقدم، ومن أنجح دول العالم، وقد عشت هنا لمدة 11 سنة ورأيت تطور البلد كل أربع أو خمس سنوات، إلا أن الوضع في دبي مختلف. في شهر واحد في دبي، أنجزت في مجال الأعمال ما لم أتمكن من إنجازه في سنة كاملة هنا في بلجيكا. ولهذا قررت أن أذهب وأعيش في دبي».
تمثّل العودة العكسية للمهاجرين تحوّلاً كبيراً في الساحة السويدية، ويبدو أن المستقبل سيشهد مزيداً من التحديات، سواء على المستوى الفردي أو الاجتماعي. تعكس تجارب الأشخاص الذين تحدّثنا إليهم عمقَ المعاناة التي قد يواجهها المهاجرون، وتسلط الضوء على الحاجة إلى تطوير سياسات هجرة أكثر شموليةً وتضمن فرصاً متكافئةً للجميع. ينبغي أن تكون هذه السياسات مرتبطة بالتواصل الفعّال بين الثقافات، وضمان فرص العمل والاندماج، مما يسهم في تحسين نوعية الحياة للمهاجرين في السويد.
* * * * *
سنان السبع إعلامي وكاتب عراقي مقيم في السويد. يعمل مراسلاً لقناة الرابعة العراقية وكاتباً في جريدة الصباح، ويغطي القضايا السياسية والاجتماعية والثقافية في العراق والسويد.
أُنتج هذا المقال ضمن زمالة «الصُنعة» الصحفية، والتي أُقيمت بالتعاون بين الجمهورية.نت وشبكة فبراير.
موقع الجمهورية