قانون قيصر.. ما هو؟وكيف تحولت عدسةمصور إلى كابوس للنظام السوري؟/ أحمد إبراهيم
![](https://www.alsafahat.net/wp-content/uploads/2025/02/Cover_Caesar_Of_Syria_png-780x470.jpg)
عربي بوست
2025/02/07
في عام 1941، وجد المصور الفوتوغرافي الكاتالوني فرانسيسكو بويكس نفسه مطارداً، كغيره من آلاف المنفيين الإسبان جراء الحرب الأهلية في بلدهم، فقادتهم الأقدار إلى معسكرات الاعتقال النازية، وتحديداً إلى معسكر ماوتهاوزن في النمسا. هناك، عمل مساعداً لمصور التوثيق، ليسجل يوميات الموت، فصار شاهداً على الجريمة وساعياً لكشفها. وقام بتهريب النيجاتيف الخاص بمئات الصور.
يقول الفيلسوف الألماني كارل ماركس: “التاريخ يعيد نفسه مرتين، مرة على شكل مأساة، ومرة على شكل مهزلة.” وفي سوريا، أعاد التاريخ نفسه كمأساة.
فبعد أكثر من نصف قرن، يتكرر المشهد، لكن هذه المرة في سوريا، حيث خرج رجل آخر، لم يحمل كاميرته اختياراً، بل مكلفاً، مثل فرانسيسكو، من قادة عسكريين، لكن هذه المرة لتصوير جثث من أبناء شعبه. فمع اندلاع الثورة السورية في مارس/آذار 2011، عمل كمجندٍ في الجيش السوري، مكلفاً بالتقاط صور لضحايا الجرائم المرتكبة داخل معتقلات النظام. كان يُطلب منه توثيق جثث المدنيين، ضحايا التعذيب والقتل في سجون نظام بشار الأسد، حيث كان قادة الأجهزة الأمنية يقدمون صور جثث ضحايا الاعتقال كقرابين تعبيراً عن ولائهم المطلق لنظام الأسد.
فاختار ذلك المصور بعدسته ألا يخون الضحايا، وقرر تهريب الصور إلى الخارج، متخفياً في اسم “قيصر”، بعد أن قام بتوثيق 55 ألف صورة لجثث المعتقلين، مهرباً وسائط نقل الصور في ثيابه تارة، وفي ربطات الخبز تارة أخرى، وحتى في جسده، متجاوزاً الحواجز الأمنية.
بهذه الصور، كشف “قيصر” أمام العالم واحدة من أبشع الجرائم في العصر الحديث، وأصبحت التسريبات التي حملها أساساً لإخراج “قانون قيصر”، الذي فرض عقوبات دولية على النظام السوري وشدّد الخناق عليه. فمن هو هذا الرجل؟ وما هو قانون “قيصر”؟
من هو قيصر؟
قبل سقوط نظام بشار الأسد، لم يكن أحد يعلم من هو “قيصر”، إذ ظلت هويته محاطة بسرية تامة، بسبب الاحتياطات الأمنية التي اتخذها حفاظاً على حياته. لكن بعد سقوط النظام وفرار الأسد، أزاح “قيصر” الستار عن هويته لأول مرة، في مقابلة خاصة لشبكة الجزيرة، ليكشف أنه المساعد أول فريد ندى المذهان، رئيس قسم الأدلة القضائية في الشرطة العسكرية بالعاصمة دمشق، وهو منحدر من مدينة درعا جنوبي البلاد، مهد الثورة السورية.
قبل الحرب، كان “قيصر” مجرد مصور يعمل لصالح الشرطة العسكرية، حيث كانت مهامه تقتصر على توثيق الحوادث الجنائية والانتحار والجرائم العادية. كان مصوراً عادياً ولم يكن منخرطاً في الثورة ضد الأسد، لكن مع اندلاع الثورة السورية في مارس/آذار 2011، طُلب منه، مع باقي الفريق الذي كان يعمل في التصوير لمصلحة وزارة الدفاع، التوجه نحو المستشفيات العسكرية، وخصوصاً مستشفى المزة العسكري رقم 601 ومستشفى تشرين العسكري، لتصوير وتوثيق جثث القتلى.
وبعدما بدأ في التصوير بفترة قصيرة، رأى أن غالبية الضحايا هم من المتظاهرين والمعتقلين المدنيين الذين خرجوا في بدايات الثورة عام 2011. أدرك “قيصر” أنه يشهد على جريمة منظمة، حيث كان قادة الأجهزة الأمنية يعبرون عن ولائهم المطلق لنظام الأسد عبر تصوير جثث ضحايا الاعتقال.
بعد مشاهدته حجم القتل والمجازر التي يرتكبها النظام، قرر “قيصر” أن يبقى داخل النظام لأطول فترة ممكنة، لأنه رأى أن توثيق هذه الجرائم قد يكون الأمل الوحيد لأهالي المعتقلين في معرفة مصير أبنائهم.
ووفقاً لقيصر، فإن أولى عمليات تصوير جثث المعتقلين تمت في مشرحة مستشفى تشرين العسكري بدمشق، وكانت لجثث متظاهرين من مدينة درعا، مهد الثورة السورية، وذلك في مارس/آذار 2011.
كان النظام قد بدأ مبكراً باتباع آلية ممنهجة في تعامله مع المعتقلين: بمجرد دخول الشخص إلى المعتقل، يُعطى رقماً يُكتب على جسده، ليصبح مجرد رقم في قوائم الموت، قبل أن تتم تصفيته.
وحكى قيصر عن الأساليب التي استخدمها لإخفاء وسائط نقل الصور أثناء مروره عبر حواجز النظام ومناطق سيطرة الجيش الحر، قائلاً: “كنت أخبئ وسائط نقل الصور في ثيابي، وربطة الخبز، وأحياناً على جسدي، خوفاً من التفتيش على الحواجز الأمنية.”
كان بحوزته هوية عسكرية رسمية وأخرى مدنية مزورة، مما أتاح له التنقل بين مقر عمله في دمشق ومكان إقامته في مدينة التل بريف دمشق. كما أشار إلى أن عملية تهريب الصور كانت تتم بشكل شبه يومي من مقر عمله إلى منزله، واستمرت لما يقارب ثلاث سنوات.
لكن في عام 2013، وقع ما لم يكن في حسبان النظام السوري، إذ انشق قيصر عن المؤسسة العسكرية، حاملاً معه أدلة دامغة لا تترك مجالاً للشك في جرائم النظام. فخرج عبر الأردن إلى قطر، حيث قام مكتب محاماة هناك بتجهيز ملفه لمحاسبة النظام السوري.
تعاون “قيصر” مع آخرين في التقاط تلك الصور، من بينهم صاحب الاسم المستعار “سامي”، الذي كشف عن شخصيته أيضاً، وكان يعمل مهندساً مدنياً قبل قيام الاحتجاجات في سوريا خلال عام 2011.
لاحقاً، بدأ قيصر بتسريب هذه الصور، التي أحدثت صدمة واسعة في سوريا، وكانت فاجعة لأهالي المعتقلين، حيث تمكن الكثير منهم من التعرف على جثث أبنائهم بين الصور المسربة.
صور “قيصر” وثقت قتل آلاف المعتقلين في سجون الأسد – رويترز
ومع بدء تسريب تلك الصور في وسائل الإعلام عام 2014، أجرت لجنة من المدعين العامين في جرائم الحرب وخبراء الطب الشرعي المشهورين دولياً تحليلاً لها، وذكروا أنها دليل على “التعذيب والقتل المنهجي” من قِبَل نظام الأسد. وأظهرت حوالي 11 ألف ضحية، بحسب تقديراتهم.
حاولت فرنسا بعد ذلك استصدار قرار من مجلس الأمن لإحالة القضية إلى المحكمة الجنائية الدولية، التي لا تعد سوريا عضواً فيها، لكن روسيا استخدمت حق النقض ضد القرار.
ما هو قانون قيصر؟
لم تقتصر مهمة المذهان أو “قيصر” على تصوير وتسريب تلك الصور فقط، بل سافر إلى الولايات المتحدة لإقناع الكونغرس الأميركي باتخاذ إجراءات ضد نظام الأسد، وهو ما أسفر في النهاية عن إصدار “قانون حماية المدنيين السوريين”، أو ما عُرف لاحقاً باسم “قانون قيصر”، الذي نص على فرض عقوبات جديدة على رموز نظام الأسد السوريين.
وحين وجه “قيصر” خطابه إلى الكونغرس، قال: “جئت لأوجه رسالة لكم: الرجاء أوقفوا القتل في سوريا”، وأضاف: “هناك مذابح تُرتكب، والبلاد تُدمَّر دون رحمة.. هناك عشرة آلاف ضحية لن يعودوا إلى الحياة، كانت لهم أحلام وطموحات وعائلات وأصدقاء، لكنهم قضوا في سجون الأسد.. السوريون يطالبونكم بفعل شيء مثلما فعلتم في يوغوسلافيا السابقة”.
منذ عام 2016، أقر مجلس النواب الأميركي مشروع القانون ثلاث مرات، لكنه كان يتعثر في مجلس الشيوخ في كل مرة، حتى أقره المجلس في ديسمبر/كانون الأول 2019.
ودخل قانون “قيصر” حيز التنفيذ في 17 يونيو/حزيران 2020، وفرض القانون نمطاً جديداً حكم الحصار المالي والاقتصادي ضد النظام، وعاقب حلفاءه، بغية إجباره على القبول بالحل السياسي على أساس قرار مجلس الأمن 2254.
كيف شقّت صور قيصر طريقها إلى أمريكا وأصبحت قانونًا يلاحق النظام؟
لكن الطريق إلى إقرار هذا القانون لم يكن سهلاً، فقد مرَّ بمراحل متعددة قبل أن يصبح تشريعاً نافذاً. في ذلك الوقت، كان هناك دور محوري للمنظمات الحقوقية والناشطين الذين عملوا على دعم وصول القضية إلى أروقة القرار الأميركي، وكان من بينهم أسعد حنا، مدير البرامج في المنظمة السورية للطوارئ (SETF)، وهي إحدى المنظمات التي رافقت “قيصر” في رحلته إلى الكونغرس الأميركي، حيث أدلى بشهادته عن الجرائم التي وثّقها.
وقد تحدث أسعد حنا عن المراحل التي مر بها مشروع “قانون قيصر” حتى أصبح تشريعاً نافذاً، وذلك في مقابلة مع “عربي بوست” آنذاك، في النقاط الآتية:
جمع الشهادات: في المرحلة الأولى عمل الفريق على جمع أكبر عدد من الشهادات الممكنة لأسر الضحايا يقول حنا، والتي أسهمت في دعم الصور التي قدمها قيصر، والتي كانت عبارة عن 50 ألف صورة لـ16 ألف ضحية.
التوثيق: كان عليهم توثيق الشهادات التي جمعوها، لإثبات أمر هام، هو أن الإرهاب الذي يمارسه رجال الأسد ما هو إلا إرهاب دولة، يأتي بتعليمات رسمية ومتسلسلة بداية من القيادة العليا مروراً بالأذرع الأمنية ومراكز الاحتجاز، وليس فعلاً استثنائياً بقوم به ضباط لهم سلطة، أو مسؤولون عن المعتقلين.
حديث شخصي مع أعضاء الكونغرس: بدأ أعضاء من فريق المنظمة الحديث مع أعضاء في الكونغرس الأمريكي بشكل شخصي، ليقنعوهم بضرورة اتخاذ خطوة لحماية المدنيين في سوريا، والضغط على النظام بأي طريقة كانت، عرضنا الصور عليهم، والتي تسببت لهم في صدمة وأثارت تعاطفهم بشكل كبير.
مخاطبات رسمية: استجابة الأعضاء أعطت لهم دافعاً لتكون المخاطبات رسمية، وعليه بدأوا في تكليف الفريق القانوني المختص في المنظمة للتقدم بشكل رسمي للكونغرس، بما لديهم من شهادات وصور “قيصر”، ليتمكنوا من مناقشتها وإطلاع باقي الأعضاء عليها، وبالفعل خرج بعض الأعضاء بنسخة أولى من القانون.
أوباما عرقل القانون: في أواخر العام 2014 بدأت إدارة الرئيس الأمريكي السابق باراك أوباما بعرقلة سير القانون، بحجة أن ذلك سيضر بعلاقات أمريكا مع روسيا، لأن هناك هدنة باتفاق روسي أمريكي، وأنه إذا فرض الأمريكان عقوبات سيضر ذلك بمصلحة السوريين لأن الهدنة سيتم خرقها.
للمفارقة، والكلام على لسان أسعد، أنه في نفس اليوم الذي صرح فيه أوباما دخلياً بهذا التصريح، خرق الروس الهدنة بإطلاق نار على مدينة إدلب.
عندما كُتب نص القانون كُتب بطابع إنساني لحماية المدنيين والمعتقلين، بما لا يشمل فرض عقوبات على دول أخرى، ولا يشمل قطاع النفط والقطاع العسكري، لكن أوباما اتصل برئيسة مجلس النواب آنذاك نانسي بيلوسي قبل أيام من جلسة المجلس للتصويت على القانون، وطلب منها سحب التصويت.
تكرار المحاولة: بعد سحبه كرّرت المنظمات الأهلية المحاولة، على أمل إعادة طرحه للتصويت، في البداية كانت عملية إقرار القانون تجري على أساس “قانون مستقل”، وكان يحظى بالأغلبية الساحقة في مجلس النواب.
راند بول يتدخل: حينها حاول مجدداً السيناتور الجمهوري عن ولاية كنتاكي راند بول، المعروف بعلاقته مع روسيا ودعمه الرئيس بشار الأسد، عطل تمرير القانون، ولأن هذا النوع من القوانين لا يمر من دون الحصول على تصويت كل أعضاء الكونغرس، تم إيقاف القانون.
3 سنوات من التعطيل: عَطّل بول القانون لمدة 3 سنوات، في تلك الأثناء حاولت المنظمات السورية التواصل مع حقوقيين أمريكيين ومع منظمات أهلية، بهدف إيجاد طريقة لإقرار القانون.
ضغط ناعم وتغيير في الخطة: مارَسَ بعض أعضاء المنظمات الأهلية وسائل من الضغط الناعم، عن طريق تشكيل “لوبيات” لدعم القرار في الأوساط السياسية، ومن ثم تم تغيير خطة طرح القانون على الكونغرس.
مرروه عن طريق وزارة الدفاع: تم الاتفاق على ضم القانون إلى متن مشروع قانون موازنة وزارة الدفاع، والذي لا يحتاج التصويت عليه إلى موافقة كل أعضاء مجلس الشيوخ، وحظي بموافقة 74 صوتاً.
قال أسعد لـ”عربي بوست” حينها: “إن إقرار القوانين في الحكومة لا يتم هكذا بشكل مفرد، وإنما يتم تمريرها ضمن حزمة من القوانين والقرارات، فإما أن يتم رفضها أو قبولها بشكل إجمالي. في المرة الأولى التي قدمنا فيها القرار، تم رفضه، لكننا حاولنا مرة أخرى، وبذلنا جهدنا ليكون ضمن حزمة قرارات متعلقة بإقرار ميزانية وزارة الدفاع الأميركية، ليكون من الصعب رفضه.”
واجه “قيصر” أزمة إصرار ترامب خلال فترته الرئاسية الأولى على أن يشمل مشروع الموازنة بناء الجدار الحدودي، وتعطلت إمكانية إضافة أي اقتراح، خصوصاً أن مشروع الموازنة لا يمكن رفعه للتوقيع عليه من الرئيس، إلا إذا حصل على موافقة الحزبين وأغلبية أعضاء مجلسي الشيوخ والنواب. وفي النهاية، انتصر مشروع القانون، الذي بموجبه فُرضت عقوبات على النظام السوري.
عربي بوست