قصة المعركة التي أسقطت الأسد في اثني عشر يوماً/ عبد الله الموسى
![](https://www.alsafahat.net/wp-content/uploads/2025/02/60001233-780x470.jpg)
2025-02-07
فجر اليوم الأخير من المعركة، صعد شبان دبابة متروكة وسط ساحة الأمويين، وركنت أربع صبايا سيارتهنّ قربها على صوت عبد الباسط الساروت يغنّي “جنّة جنّة جنّة.. جنّة يا وطنّا”، مُعلنين سقوط الأسد ونظامه قبل دخول أي مقاتلين من الفصائل إلى العاصمة، في مشهدٍ توّج أعواماً من التخطيط لمعركةٍ امتدت اثني عشر يوماً مشحونة بالتفاصيل.
دخل قائد هيئة تحرير الشام أبو محمد الجولاني في مطلع شهر فبراير 2020 غرفةَ عمليات “الفتح المبين”، التي جمعت قيادات الفصائل الجهادية والمعارضة السورية، صارخاً على قادة جيوشه مطالباً إياهم بزيادة المقاتلين وبدء معركة لاسترجاع مدينة سراقب التي وصلت إليها قوات النظام بعد تسعة أشهر من المعارك العنيفة. كانت قوات النظام وإيران قد تقدمت تحت غطاءٍ جوّي روسي من ريف حماة الشمالي وريف حلب الجنوبي وسيطرت على ألفين وثلاثمئة كيلومتر مربع في طريقها إلى سراقب، ثم خمدت المعارك باتفاق بين الرئيسين التركي رجب طيب أردوغان والروسي فلاديمير بوتين. لم يكن بمقدور القادة العسكريين في هيئة تحرير الشام فعل المزيد، فقد خسروا في الأشهر التسعة أكثر من ألف وخمسمئة مقاتل من قوات النخبة، واضطروا لتنفيذ سبعٍ وعشرين عملية انتحارية لوقف تقدم قوات النظام وإيران دون جدوى، عدا عن خسائر كبيرة للفصائل الأخرى التي شاركت في المعارك.
من غرفة العمليات ذاتها، وبعد أربع سنوات وتسعة أشهر وتغيّرات كبرى وأحداث لم يكن يهتم لها سوى ستة ملايين سوري محشورين في زاوية البلاد الشمالية الغربية، انطلقت معركة “ردع العدوان” في 27 نوفمبر 2024 في مفاجأةٍ لم يتوقعها أحد. وفي مواجهة الفصائل المشاركة كانت خطوط النظام في ريف حلب الغربي تتهاوى أسرع من المعتاد، وكانت القلوب ترتجف لاحتمال انتهاء المعركة كسابقتها إلى انتصارٍ منقوص يتسبب بحملاتِ قصفٍ انتقامية على منطقة محاصرة مكتظة نعمت بالهدوء لأكثر من أربع سنوات من وقف إطلاق النار. لكن الأهالي كانوا مُهيَئين نفسياً بعد أن راجت شائعات بدء المعركة ست مرات في فترةٍ لم تزد عن خمسين يوماً، وفي آخر مرتين كانت المؤشرات أوضح. سجلت شبكة منسقو استجابة سوريا، وهي شبكة أهلية معنية بالإغاثة، نزوحَ عشرات الآلاف من أرياف حلب وإدلب في بيان نشرته يوم 27 نوفمبر 2024، وقالت إن السبب كان تصاعد القصف الروسي في السابعة من صباح ذلك اليوم. لكن البداية كانت في فتح هيئة تحرير الشام نيرانها معلنة بدء معركة لم يتوقع أكثر المتفائلين أنها ستتخطى مدينة حلب، في حين كان المخططون قد رتبوا كل شيء لإدارة منطقة تشمل مدينة حماة الواقعة وقتئذ تحت سيطرة النظام السوري.
بعد اثني عشر يوماً من تلك اللحظة، انهارت قوات نظام بشار الأسد وانتهى حكمه، مما فتح الباب أمام نظريات مؤامرة حاولت تفسير الحدث الهائل المعارض للمنطق. لكن الحقائق، وإن غابت عنها التفاصيل، كانت بادية للمتابع المدقق. فالتجهيز العسكري والتقنيات الجديدة والتخطيط الدقيق وتوقيت المعركة المرتبط بتغيرات إقليمية رسمت صورة الإعداد لمعركةٍ أسقطت الأسد، فحققت ما فقد الكثيرون الأمل في تحققه.
مع انتهاء المعركة في مدينة سراقب في مارس 2020 باتفاق أردوغان وبوتين الذي عُرف باتفاق سوتشي، أدرك أبو محمد الجولاني الذي عاد لاحقاً لاسمه الرسمي أحمد الشرع أن هيئة تحرير الشام غير قادرة على الدفاع عن منطقة سيطرتها، وبدا الضعف العسكري فيها كبيراً وهو ما دفعه لإعادة حساباته. فكانت المراجعات الفكرية في البداية بتبنّي الخطاب الثوري والمعتدل بعيداً عن الخطاب الجهادي المعتاد، وتعزيز الحوكمة عبر ذراعه المدني المتمثل بحكومة الإنقاذ، وتعزيز جهاز الأمن العام وتقوية العلاقة بفصائل في الجيش الوطني السوري وهو فصيل من الجيش الحر أعادت تركيا تنظيمه وتدريبه.
تقول مصادر عسكرية من هيئة تحرير الشام للفِراتْس إنه منذ ذلك الحين كان آلاف المقاتلين يتدربون سراً، وكان المجلس العسكري الذي يجمع الفصائل يخطط لاقتناص الفرصة الأمثل وقلب الطاولة. وفي ذروة اللقاءات بين نظام الأسد وتركيا في موسكو وظهور مؤشرات لعملية تطبيع بينهما، قال الجولاني في 27 مايو 2023 وسط مؤتمر لأهالي مدينة حلب وناشطيها ووجهائها استضافه الجولاني في ريف إدلب إن “الجاهزية العسكرية وصلت إلى أعلى مداها، وإني أراكم تجلسون في حلب كما تجلسون أمامي الآن”.
منذ تأسيسها سنة 2012، شهدت جبهة النصرة (التي سُمّيت بعدها جبهة فتح الشام ثم هيئة تحرير الشام) تغييرات هيكلية بارزة في تشكيلاتها العسكرية، بدءاً من القواطع (الكتائب)، ثم الجيوش المناطقية التي ظهرت بعد موجات التهجير إلى الشمال السوري. حملت هذه الجيوش أسماء المناطق المُهجَّرة مثل جيش حلب وجيش حماة، قبل أن تُستبدل لاحقاً بأسماء الخلفاء الراشدين أبي بكر وعمر وعثمان وعلي.
في رمضان سنة 2020 تشكّل المجلس العسكري لمحافظة إدلب بعد اتفاق قائد هيئة تحرير الشام أبو محمد الجولاني مع قائد حركة أحرار الشام الإسلامية جابر علي باشا وقائد فيلق الشام منذر سراس (والأخيران ضمن الجبهة الوطنية للتحرير). وتشكّل المجلسُ من ثلاثة مندوبين، هُم مرهف أبو قصرة (أبو الحسن 600) والنقيب عناد درويش (أبو المنذر) ومحمد الغريب (أبو أسيد، محمد حوران). وسنة 2021 باتت حركة أحرار الشام بقيادة عامر الشيخ، بعد خلافاتٍ داخل الحركة نُفيت فيها القيادة القديمة إلى ريف حلب الشمالي وانضمّت للجيش الوطني. كان هذا المجلس العسكري نقطة التقاء الفصائل المتبقية في إدلب لإدارة الوجود العسكري، والتي شكّلت غرفةَ عمليات “الفتح المبين” لتصبح بمثابة قيادة الأركان. ومع تشكيل المجلس العسكري غيّرت هيئة تحرير الشام هيكلتها وقُسمت الجيوش الأربعة إلى اثني عشر لواءً حملت أسماء شخصيات بارزة في التاريخ الإسلامي مثل خالد بن الوليد وطلحة بن عبيد الله والزبير بن العوام إلى جانب ألوية أخرى مثل العصائب الحمراء، وهدفت هذه الخطوة إلى إزاحة أي تهديد داخلي قد يقوم على التكتل المناطقي.
نشرت الهيئة عدة مقاطع مصورة أظهرت تدريب الفصائل العسكرية مقاتليها في معسكرات تدريب صعبة رفعت من استعداداتهم القتالية والبدنية مستفيدةً من وجود مدربين أجانب من ألبانيا والشيشان وداغستان كانوا ضباطاً في القوات الخاصة في بلدانهم قبل أن يقودوا تشكيلات عسكرية ويدربوها في سوريا. كنت أراقب هذه المعسكرات عن قرب وألحظ الفرق بينها وبين المعسكرات الاستعراضية التقليدية، ولفتني أنها لم تكن لغاياتٍ دفاعية بل هجومية.
جهّزتْ هيئة تحرير الشام فرقاً للمدفعية والصواريخ وقوات نخبة قوية، أبرزها فرقة العصائب الحمراء. وفي الفترة من 2022 إلى ما قبل معركة إسقاط نظام الأسد في 2024 شكّلت الهيئةُ سرايا الحراري، وهي مجموعات من عشرة مقاتلين نخبة بأسلحة رشاشة وقواذف مجهزة بمناظير حرارية ليلية وكواتم صوت. تتحرك هذه السرايا مدعومة بالطائرات المسيرة المزودة بآلات تصوير ليلية تكشف لهم المنطقة المحيطة وتبث لقطاتها لغرفة العمليات لتوجيههم. شنّت الهيئة بهذه السرايا إحدى وأربعين عملية على خطوط الجبهة من اللاذقية إلى ريف حلب الغربي أسمتها “عمليات انغماسية”، كانت أكبرها في أغسطس 2023 في جبال اللاذقية في قمة النبي يونس، بعمق ثمانية كيلومترات عن خط الجبهة مستهدفةً غرفة عمليات للنظام وروسيا.
أكدت مصادر عسكرية من القيادة العسكرية المشتركة للفِراتْس أن هيئة تحرير الشام أطلقت برنامجاً لتصنيع الطائرات المسيرة واستعمالها سنة 2017. وكان هيكل الطائرات البسيط في البداية هدفاً سهلاً للإسقاط، لكبر حجمه وبطئه وضعف منظومة التحكم والاتصال. ثم تطور وبلغ مرحلة جيدة نهاية سنة 2021. لكن تصنيع المُسيرات قفز قفزة كبيرة في أعقاب الحرب الروسية الأوكرانية في 2022 إثر تحليل بنية ووظيفة وطريقة عمل المُسيرات الصغيرة من طراز “إف بي في” التي وصلت إلى سوريا حينها، وبعد تدخلات وتعديلات أنتجت مسيرات شاهين.
جمعت الفِراتْس من مصادر أمنية وعسكرية خاصة داخل الهيئة قصة تطوير مسيرات شاهين، التي بدأت منتصف سنة 2022 حين ودّع مقاتل يُعرف باسم عبدالكريم الأوكراني إدلب بعد أن قضى فيها إحدى عشرة سنة مشاركاً في معظم معارك الشمال السوري. ومثل كثير من المقاتلين الشيشانيين والأوكرانيين، عاد عبدالكريم من سوريا إلى أوكرانيا للقتال ضد الروس عبر مناطق سيطرة قوات سوريا الديمقراطية المعروفة اختصاراً باسم “قسد” وبالتعاون مع المخابرات الأمريكية. فكان عبدالكريم نقطة وصل بين هيئة تحرير الشام والاستخبارات الأوكرانية. وبلغ التنسيق حدّ إرسال المسيرات مخبأة في شحناتٍ تجارية، ويَسَّر تبادل الخبرات عن بُعد بين التقنيين المسؤولين عن برنامج المسيرات في هيئة تحرير الشام والقوات الأوكرانية – وهو ما علمت به موسكو وأعلنت عنه محذرة في سبتمبر 2024، أي قبيل بدء معركة ردع العدوان بشهرين اثنين – فشكلت الهيئة سرايا من الشبان الموهوبين في ألعاب الفيديو، الذين تدربوا جيداً على تطويع المسيرات بعمليات المحاكاة وفي الميدان.
حصلت الفصائل العسكرية على صواريخ غراد يبلغ مداها ستون كيلومتراً، وصواريخ بمدى أقل طوَّرتها لإصابة الأهداف بدقة. ويحمل أكبر الصواريخ شحنةً متفجرةً بوزن ثلاثمئة كيلوغرام بِمدى يصل خمسة كيلومترات وبِهامش خطأ يبلغ عشرة أمتار. ثم بلغ التطوير مرحلة دمج برنامجي المسيرات والصواريخ لتكون ثمرته صاروخاً مجنحاً باسم “زؤام” كشف عنه إعلام الهيئة في نوفمبر 2024 قبل أيام من بدء المعركة، وهو صاروخ يُتحكّم به كالمسيرات بعد انطلاقه ليُقاد إلى هدفه.
في السنوات الثلاث التي سبقت معركة ردع العدوان، بدأت هيئة تحرير الشام بناء علاقات مع فصائل في الجيش الوطني السوري، فتغيرت التحالفات وأصبح أعداء الأمس أصدقاء اليوم وأصدقاء الأمس أعداء اليوم. ثم انقلبت الآية مجدداً وعادت التحالفات إلى نصابها القديم، تخللها اشتباكات ومحاولة الهيئة السيطرةَ على مناطق شاسعة في ريف حلب الشمالي، وكان وراء التحالفات وانتكاساتها صراع تيارين في المخابرات التركية المسؤولة عن الملف السوري.
وفي ذروة ذلك وقعت “أزمة العملاء” نهاية سنة 2023، عندما اكتشف جهاز الأمن العام التابع للهيئة خلايا عملاء تتبع روسيا والمخابرات الأمريكية. فطالت الاعتقالات المئات، بينهم قادة عسكريون تعرضوا للتعذيب. انفجر الوضع داخل صفوف الهيئة وشكّل الجولاني لجنة للبتّ في قضايا المشتبه بهم والمتهمين، أُطلق سراح معظمهم، ثم بدأ جولة تسامح مكثفة. انتهت أكبر أزمة ضربت صفوف التنظيم منذ إعلان انفكاك جبهة النصرة عن تنظيم القاعدة في يوليو 2016.
وحين انتهت أزمة العملاء بدأت الدعوات التركية رئيسَ النظام السوري بشار الأسد لتطبيع العلاقات، فاندلعت مظاهرات عنيفة في الشمال السوري في يوليو 2024، وهاجم مدنيون ومقاتلون القواعدَ العسكريةَ التركيةَ ووصلت رسالة حادة اللهجة لأنقرة. لكن دعوات التطبيع مع الأسد عادت جدياً دون ردّ من الأسد، لم تهمّ هذه التحولات الداخلية الكبيرة غير سكان الشمال السوري. بالتزامن، كان الوضع قد انفجر إقليمياً منذ السابع من أكتوبر 2023 في غزة. فأثرت حرب لبنان والضربات القاضية التي تلقاها حزب الله، والغارات الإسرائيلية ضد قادة الحرس الثوري الإيراني ومقراته في سوريا، وشبه اليقين الإيراني بتورط النظام السوري بها في الخارطة السورية. نأى الأسد بنفسه عن الحرب الإقليمية لكن ذلك لم ينفعه. أما الروس فقد سحبوا معظم قواتهم في سوريا إلى أوكرانيا منذ أكتوبر 2022، وشمل ذلك الجنود والضباط الخبراء والمعدات العسكرية والقتالية. وبقي لموسكو قاعدة حميميم الجوية والقاعدة البحرية في طرطوس، موطئ القدم الروسي الوحيد على المتوسط. وقد رصد موقع تلفزيون سوريا في منتصف ديسمبر 2024 إبقاء موسكو إحدى عشرة طائرة سوخوي فقط في قاعدة حميميم، بينما كان عدد الطائرات الروسية لا يقلّ عن سبعين طائرة في ذروة الوجود العسكري الروسي في سوريا.
قال الجولاني إن التجهيز العسكري لمعركة ردع العدوان لم تشهده الثورة السورية من قبل، والفصائل العسكرية متقاربة كما لم تكن من قبل، والخطر محدق من التطبيع التركي وما سبقه من تقارب عربي مع الأسد وتطبيع أوروبي مرتقب، والفرصة كانت سانحة للانقضاض على الأسد المترهل الضعيف المشكوك به من حلفائه.
بَلَغني قبل بدء المعركة بستة أشهر من قادة في الفصائل التي شاركت في معركة ردع العدوان لاحقاً أن معركة حلب جدية وقريبة، ومع اقتراب ساعة الصفر أطلقت قيادة المعركة شائعات حول قرب المعركة على مدار ثلاثة أشهر. وعندما كان يسألني زملاء ومختصون في دراسات الحرب عن تلك الشائعات كنت أقول لهم إنهم يقدرون على حلب بالتأكيد، لكن لا أعرف متى ولا ما بعد حلب، وما الخطة إذا قرر النظام وروسيا سحق المنطقة بالبراميل والصواريخ.
تعتمد التفاصيل الواردة من التخطيط العسكري الدقيق للمعركة على أربعة عشر مصدراً بينهم قادة عسكريون من الصف الثاني من فصائل هيئة تحرير الشام وحركة أحرار الشام والجيش الوطني وأنصار التوحيد، وجنديين وضابطين في قوات النظام برتبة رائد ونقيب، وثلاثة إعلاميين رافقوا المقاتلين في المعركة. وهذه المعلومات الحساسة تتقاطع بين ثلاثة مصادر على الأقل، وقد اطلعتُ على محادثات مجموعات واتساب خاصة بضباط النظام في حلب وريف إدلب وحماة، من الهواتف المصادرة أو التي تم الاستيلاء عليها من إدارة العمليات العسكرية.
سمحتْ العملياتُ الانغماسيةُ السابقةُ بدءَ معركة ردع العدوان لمقاتلي النخبة بمعرفة تضاريس المعركة وتوزع دفاعات النظام. وأدرك المقاتلون حقولَ ألغام على كامل خط النار المحيط بحلب، فصارت مهمةُ قوات النخبة وسرايا الحراري والعصائب التسللَ ورسم خريطة حقول الألغام. وقبل المعركة بأشهر بدأت عمليات التسلل ليلاً لتفكيك الصواعق في الألغام وإبقاء الألغام مكانها. كانت قوات النظام مطمئنة مع بدء المعركة لوجود حقول الألغام التي تمنع وصول أي قوات مشاة أو مدرعات.
نفذت هيئة تحرير الشام مخططاً استخباراتياً حين أوكلت لأحد قادتها من قبيلة البكارة التفاوضَ مع أبناء عمومته في “لواء الباقر”، وهو أكبر الألوية القتالية الرديفة لقوات النظام في مدينة حلب ويبلغ عدد مقاتليه ثلاثة آلاف مقاتل متفرغ ومثلهم من الاحتياط. بعد أشهر من التفاوض، تفاهم الطرفان على تقديم الأمان وبعض المكاسب للواء مقابل حياده وتقديم معلومات عن قوات النظام. وبالتزامن، أرسلت الهيئة ستة عناصر من العصائب الحمراء إلى المدينة قبل معركة ردع العدوان، استقروا في مقرات “لواء الباقر” مع ثلاث عربات مفخخة.
في أثناء هذه العملية، تلقت قيادة الهيئة مكالمةً من مجهول أبلغها أن أحد مقرّاتها العسكرية سيتعرض لغارةٍ روسية في ساعة محددة، ولم يُفصِح المتصل عن هويته ومصدر معلوماته. أفرغت الهيئة المقرّ الذي كان فيه نحو أربعين مقاتلاً، قبل أن تنسفه غارة روسية مدمّرة. توصلت الهيئة لاحقاً إلى الجندي المجهول الذي يقود مجموعة من قراصنة المعلومات المتطوعين العاملين من شمال غربي سوريا، اخترقوا هواتف ضباط في قوات النظام. أثناء عملي البحثي لتوثيق معركة ردع العدوان، قابلتُ هؤلاء الجنود المجهولين الذين كان لهم دور غير متوقع في المعركة، لكنهم أرادوا البقاء مجهولين.
في ثلاثة أشهر قبل معركة ردع العدوان نشرت قيادتُ الهيئة مجسمات مزيفة لمدفعية ودبابات على خط النار، بالتزامن مع نشر شائعات اقتراب المعركة، ما أربك قوات النظام بسبب زيادة عدد الأهداف الوهمية المعدّة للقصف. في هذه الأثناء كان الثوار يحفرون أنفاقاً وحفراً تتمركز فيها المدفعية الحقيقية وترمي أهدافها من فتحاتٍ مخفية، ولم يُنشر السلاح الحقيقي إلا قبل أيام من المعركة. كان نقل السلاح الثقيل ليلاً وخفية تحت غطاء إعلانات من شركات الكهرباء والاتصالات عن عمليات صيانة للشبكات وقطع الطرق في المنطقة حتى انتهاء نقل المعدات العسكرية.
كانت الليلة الفاصلة بين يومَي الثلاثاء والأربعاء، الموافقَين السادس والعشرين والسابع والعشرين من نوفمبر، ليلةً هادئة لا تختلف عن أي ليلة أخرى. كان الأهالي يرقبون الشوارع ليلاً منذ انتشرت شائعات الحرب في انتظار أرتال المقاتلين والسلاح التي تشير إلى جدية المعركة، ولكن لم يمرّ أحد، حتى استيقظ الناس في ريف حلب الغربي وريف إدلب الشرقي الساعة السابعة صباحاً على أصوات قصفٍ يميّزونه جيداً. قصف من جبهة الثوار. بدأت معركة ردع العنوان وبدأ النزوح الذي أعدّت إدارة العمليات العسكرية طريقَه مسبقاً. صُدم الأهالي النازحون على الطريق بإزالة المطبات في الطرق الرئيسية، وانقسام الطرق إلى نصف عسكري للإمداد والأرتال والإسعاف، وآخر للمدنيين.
اقتصرت المعركة في الساعات الأولى على منطقة قبتان الجبل في الزاوية الشمالية الغربية من مدينة حلب، وهي ذات تضاريس متعرجة وتلال صخرية تضمّ عشر بلدات سيطرت عليها إدارة العمليات العسكرية في نهاية النهار الأول من معركة ردع العدوان. كانت القوات المقتحمة من الجبهة الشامية وحركة نور الدين الزنكي وفرقة السلطان سليمان شاه، وهم فصائل في الجيش الوطني السوري المعارض بشارَ الأسد، ومعهم هيئة تحرير الشام والجبهة الوطنية للتحرير والحزب الإسلامي التركستاني وحركة أحرار الشام وأنصار التوحيد. قُسّمت هذه القوات على خمسة محاور وعلى دفعات تتوالى في الهجوم تحت غطاء تمهيدي كثيف بالمدفعية والصواريخ، وشهدت متاريسُ النظام المحصنة اشتباكاتٍ عنيفة قُتل فيها أكثر من ثلاثين من الثوار. كانت خطةُ قوات النظام السماحَ للثوار بالوصول إلى المتاريس ليقعوا في حقول الألغام، لكن النظام لم يعلم أن الألغام غدتْ بلا صواعق، وضربت المسيرات الأهدافَ المعدّة مسبقاً مثل مدفعية النظام وتحصيناته الدفاعية في خط الجبهة وقطعت طرق إمداد قوات النظام.
كان الأهالي يترقبون انطلاقَ محورٍ آخر في سراقب أو ريف إدلب الجنوبي، متلهفين لمعرفة مدى المعركة، وهل هي لتحرير حلب فقط أم العودة إلى خريطة السيطرة قبل الحملة الروسية سنة 2019. في الساعة الواحدة ظهراً خرج المتحدث بِاسم إدارة العمليات العسكرية المقدم حسن عبدالغني بأول بيان عن المعركة معلناً “بدء عملية عسكرية لردع العدو ودحر قواته المحتشدة وإبعاد نيرانه عن أهلنا”. وبعد الحديث عن حرب النظام وإيران المفتوحة على الشعب السوري بحجة المقاومة التي اعتبرها “خديعة”، رفع يده اليمنى وقال: “إنها حرب معلنة”.
مع إعلان معركة ردع العدوان انطلق المحور الثاني جنوبي الأول، وسيطر الثوار على “الفوج 46” ومحيطه في معركة عنيفة قُتلَ فيها أكثر من عشرين من الثوار. كان الفوج أقوى تحصينات النظام في ريف حلب الغربي، لكن مقاتلي هيئة تحرير الشام عرفوا جيداً تفاصيل هذه التحصينات عبر خمس عمليات عسكرية خاطفة قبل المعركة. على أثر ذلك تشتت الطيران الحربي الروسي والسوري، فقد تغيرت الأهداف ونجحت خديعة المجسمات وتفوقت على قدرته سرعةُ التقدم وعدد المحاور الكثيرة ودفعات المقاتلين المتتالية على مسافة خمسة وعشرين كيلومتراً، فكانت الغارات عمياء ولو لم تفارق سماء المعركة.
أسدل ليل اليوم الأول من معركة ردع العدوان على مئة وخمسين كيلومتر مربع محرر في ريف حلب الغربي. وتحت جنح الظلام تقدمت سرايا الحراري خمسة كيلومترات أخرى وتجاوزت بلدتي أورم وكفرناها، ووصلت منطقة خان العسل المتاخمة مدينةَ حلب وضاحية الراشدين، وودّعت الفصائل خمسين قتيلاً من مقاتليها وأصيب أكثر من ضعف هذا العدد.
أوحى بيان معركة ردع العدوان واسمها بغاية استباقية دفاعية، ولم يشهد الأهالي أرتالاً وحشوداً للفصائل كمعارك سابقة، ونقلت وكالة رويترز في الثامن والعشرين من نوفمبر عن “مصادر أمنية تركية” أن العملية ضمن حدود منطقة خفض التصعيد في إدلب التي اتفقت عليها روسيا وإيران وتركيا في 2019. فُسّرت التصريحات بدعم تركيا العمليةَ، فتفاءل النازحون بالعودة إلى مناطقهم التي سقطت أثناء الحملة الروسية قبل الخامس من مارس 2020، لكن هذه التصريحات لم تبدُ أكثر من دبلوماسية تستند إلى اتفاقيات نسفها الروس والإيرانيون ونظام الأسد بالنار.
أكدت المصادر للفِراتْس أن الموقف التركي قبل أشهر من المعركة كان رافضاً للمعركة بحزم، وهدّد بإغلاق الحدود وعدم استقبال المصابين، وحمّل “تحرير الشام” كامل المسؤولية عن تبعات خرق وقف إطلاق النار. لكن أحد التيارين المتناحرين في المخابرات التركية كان داعماً المعركة وعلى تواصل مع المخططين عبر القيادي التركي في الهيئة عمر محمد جفتشي (المعروف أيضاً باسم مختار التركي)، وروّج لها في أنقرة على أنها الحل الوحيد المتاح وستحقق مكاسب كبيرة لتركيا، لكن التيار الآخر الرافض المعركةَ كان أعلى صوتاً إلى أن وصل الثوار مشارف مدينة حماة، فانقلب الموقف التركي بالكامل.
تفاصيل معركة ردع العدوان
في اليوم الثاني من المعركة، الموافق الثامن والعشرين من نوفمبر، وصلت قوات إدارة العمليات العسكرية إلى منطقة الزربة في ريف حلب الجنوبي وقطعت طريق حلب دمشق الدولي. ثم بدأت هجوماً على محورٍ جديد في محيط مدينة سراقب، ولكن النظام حشد في المدينة الاستراتيجية نخبة قواته وخصّص القوة الجوية للدفاع عنها، فواصلت قوات الثوار التقدم بوتيرةٍ أبطأ من اليوم الأول في محاور ريف حلب الغربي. امتدّ قطع طريق حلب دمشق الدولي من محيط سراقب إلى منطقة خان العسل، وبهذا التقدم بعمق اثني عشر كيلومتراً فقد النظام خطوط الإسناد الخلفية التي كانت فيها مرابض المدفعية والوسائط النارية وغرف العمليات الفرعية.
استمر الوضع على هذا المنوال ليلاً. وفي اليوم الثالث من “ردع العدوان” عندما كانت المعارك على أشدّها في أطراف مدينة سراقب، وتقدّم الثوار أكثر في ريفي حلب الغربي والجنوبي، حدثت المفاجأة في الساعة الثانية عشر ظهراً يوم التاسع والعشرين من نوفمبر. اقتحم عناصر العصائب الستةُ، الذين كانوا يكمنون مع قوات “لواء الباقر”، اجتماعَ غرفة عمليات النظام المركزية في الشمال السوري في مبنى التدريب الجامعي داخل مدينة حلب، واشتبكوا مع الحرس ودخلوا المبنى السرّي وقاتلوا في الممرات وقُتل معظمهم إلا أن آخرهم وصل إلى غرفة العمليات ففجر نفسه. أسفر الهجوم عن مقتل قائد قوات الحرس الثوري الإيراني في حلب الجنرال كيومرث بورهاشمي وضابط روسي (لم تصرّح المصادر عن هويته ورتبته بعد) وعدد من قادة قوات الأمن والجيش السوريين. وفي الوقت ذاته دمّرتْ مسيرات الشاهين برجَي الاتصالات الرئيسَين لقوات النظام في حلب، ثم بدأت مجموعة قراصنة البيانات اتصالاتها بضباط النظام تحضّهم على ترك السلاح والاستسلام.
شكلت ضربة غرفة العمليات وقطع الاتصالات والرسائل للضباط صدمةً مدويةً في قلوب قادة النظام في حلب، وبات التحرك للدفاع عن المدينة غير مركزي وبلا قيادة. فتحركت من الأكاديمية العسكرية الواقعة عند مدخل مدينة حلب عشرُ مدرعات ودبابات ومدافع مجنزرة إلى حدود المدينة ورُفعت سواتر لتشكيل خط دفاع عند دوار الموت (دوار أبي فراس الحمداني) ودوار السلام، وهما مدخلا مدينة حلب من جهة الغرب، لكن الوقت لم يسعف النظام. كان الثوار قد وصلوا إلى منطقة المنصورة والبحوث العلمية في الزهراء على بعد كيلومتر واحد من المدينة. ولاستثمار الصدمة والخلل في صفوف قوات النظام أرسلت الفصائلُ عربة مفخخة إلى دوار باب السلام، فنسفت خط الدفاع المنشأ حديثاً، وتقدمت عشراتُ المدرعات والعربات المصفحة التابعة للفصائل في دقيقتين تحت غطاء الدخان والغبار المنبعث من المفخخة لتدخل طلائعُ الثوار مدينة حلب في الساعة الثالثة عصراً من حي حلب الجديدة الذي استعصى على الثوار في معركة فك الحصار عن المدينة سنة 2016.
كانت الأحياء الأولى من مدينة حلب خالية من الدفاعات، ولم تطلق فيها طلقة وصولاً إلى ساحة سعد الله الجابري، باستثناء اشتباك في حي الأعظمية حيث يقع قصر الضيافة (قصر بشار الأسد في المدينة) ونادي الضباط. سقطت مدينة حلب من يد النظام. ففي ساعات قليلة انسحبت أفرع النظام ورمى الجنود مئات البنادق في الشوارع، وبعضهم هرب راجلاً إلى القطع العسكرية شرقي المدينة، وغنم الثوارُ أكثر من ثلاثين دبابة وعشرات المدرعات وقطع الأسلحة الثقيلة الأخرى ومستودعات فيها جميع أنواع الذخائر. سيطر الثوار أيضاً على مدينة سراقب في ريف إدلب بعد قتالٍ عنيف، إذ صارت المدينة مكشوفة وعلى مرمى أسلحة الثوار بالسيطرة على بلدتي كفربطيخ وداديخ المجاورتين اللتين دخل إليهما الثوار من أنفاق معدة مسبقاً فضربوا قوات النظام من خلفها.
بقيتْ في مدينة حلب وتخومها مواقعُ خارج سيطرة الثوار، وهي مدرسة المدفعية والأكاديمية العسكرية في الطرف الغربي من المدينة التي كانت تضمّ نحو ستّمئة ضابط معظمهم علويّون، اشتبكوا مع الثوار مراراً وتحصنوا في القاعدة العسكرية الضخمة والحصينة. وتمترست وحدات حماية الشعب التابعة قوات سوريا الديمقراطية في حَيَّي الأشرفية والشيخ مقصود ذوي الغالبية الكردية في الطرف الشمالي من المدينة، ثم تمددوا ليلاً إلى أحياء الهلك والشعار شرقاً وحي الخالدية غرباً على مدخل المدينة الشمالي عند دوار الليرمون.
اختارت إدارة العمليات العسكرية إدارة ملفّ وحدات الحماية بالتفاوض، أما الأكاديمية العسكرية ومدرسة المدفعية، فقد تواصلت مع الضباط لتسليم أنفسهم. ثم أحضرت حافلات في الليل وأخلت مئات الضباط إلى منطقة خناصر جنوب شرق حلب وسلّمتهم للنظام دون تصوير أو إعلان رسمي تفادياً لحالة انتقاد في أوساط الثوار. لكن هذه المعاملة للعلويين المؤيدين النظام الذين كانوا يتوقعون مشاهدة جثث أبنائهم وبناتهم في الأكاديمية، ترك أثراً إيجابياً وأنتج ثقة أن الثوار لن يقتلوا من يسلّم نفسه. اتصل الأهالي بأبنائهم في الجيش وطلبوا منهم تسليم أنفسهم إذا ما وصل الثوار إليهم، وهو ما ظهر لاحقاً في الأيام الخمسة التالية عندما صُدمت إدارة العمليات العسكرية بمشاهد انسحاب جماعية لم تكن متوقعة.
في الأيام التي تلت السيطرة على مدينة حلب، شنت الطائراتُ الحربية الروسية والسورية عشرات الغارات على مدينتَي حلب وإدلب وعدد من القرى والبلدات، وقبلها ارتَكبت مجزرة في مدينتَي الأتارب ودارة عزة حين بدأت المعركة. ومساء اليوم الثالث أصدرت “إدارة الشؤون السياسية”، التي كانت بمثابة وزارة خارجية غير رسمية لهيئة تحرير الشام، بياناً قالت فيه إن الثورة السورية لم تكن يوماً ضد أي دولة أو شعب بما في ذلك روسيا، وليست طرفاً في الحرب الروسية الأوكرانية. ودعا البيان روسيا “إلى عدم ربط مصالحها بنظام الأسد أو شخص بشار، بل مع الشعب السوري، وإن الشعب السوري يسعى لبناء علاقات إيجابية قائمة على الاحترام المتبادل والمصالح المشتركة مع كل دول العالم بما في ذلك روسيا التي نعتبرها شريكاً محتملاً في بناء مستقبل مشرق لسوريا الحرة”.
بالتزامن مع إصدار البيان السياسي الواضح والمطمئن، حلّق سربُ طائرات مسيرة في سماء حميميم دون أن يلقي قنابله. كان ذلك رسالةً تحذيرية لموسكو مفادها أن قاعدتها الجوية مكشوفة للنسخ الجديدة من الطائرات المسيرة القادرة على تدمير الأسطول الجوي الروسي. انخفضت وتيرة الضربات الروسية، ونقلت وكالة رويترز عن مصادر عسكرية سورية أن النظام تلقّى وعداً بوصول عتاد روسي إلى حميميم خلال ثلاثة أيام. فكشف هذا الإعلان عن عدم كفاية العتاد الروسي في سوريا، وعدم إمكانية وصول المساعدات قريباً. وفي الثلاثين من نوفمبر أعلن مستشار أردوغان أن الزعيم الوحيد الذي يجب على بشار الأسد أن يثق به هو الرئيس أردوغان، وأن “السبيل الوحيد لاستقرار سوريا ومخرجها من الأزمات هو التعاون مع تركيا”.
التزمت أنقرة بمسار أستانا الذي بدأ سنة 2017 وجمع روسيا وتركيا وإيران مع وفدين من النظام والفصائل السورية المعارضة، آليةً ناظمةً العلاقةَ والمفاوضات التركية مع النظام وروسيا وإيران، وغضّت الطرف عن خرق الاتفاقيات الكبير عندما سيطر الأخيرون على نصف المساحة الخاضعة لسيطرة الثوار سنتي 2019 و2020 وخسر الجيش التركي حينها نحو أربعين جندياً في إدلب. ولكن باتت أنقرة الآن أكثر حماسة للمعركة بعد السيطرة على حلب، ولم تعلن ذلك صراحةً خوفاً من بدء النظام وحلفائه حملة انتقام تدفع موجة هجرة جديدة إلى تركيا، ولذلك اتخذت موقفاً بعدم الضغط لوقف المعركة وتبني خطاب سياسي حذر.
صباح اليوم الرابع من معركة ردع العدوان، الموافق الثلاثين من نوفمبر، وفيما لم يستفق ضباط النظام وجنوده بعد من صدمة ضياع حلب من أياديهم، شاهد عناصر قوات النظام في ريف حلب الشرقي والجنوبي زملاءهم منسحبين أرتالاً وأفراداً متحدثين عن انهيار الصفوف. ومع هذا الانهيار وسرعة الهجوم وتفوّقه ورسائل التطمين ودعوات الانشقاق، تُظهر الرسائل التي اطلعت عليها الفِراتْس من هواتف الضباط المُصادرة لدى الهيئة أن نظريات المؤامرة تشكلت في صفوف قوات النظام أن روسيا تخلّت عن بشار الأسد وأن أنقرة ستكفل لموسكو بقاء القواعد. ولذلك أطلقت أنقرة هذه المعركة لتضغط على الأسد الرافض لقاء أردوغان، أو أن إسرائيل قررت إسقاط النظام كما فعلت مع حزب الله وأن إيران غير قادرة على إرسال جندي واحد. أدت هذه النظريات وما سبقها إلى قرار الانسحاب الجماعي من مواقع النظام العسكرية التي تجمّعت فيها كلّ القوات العسكرية التي انسحبت من حلب، وقد صدم هذا الانسحابُ الجماعي السريع إدارةَ العمليات العسكرية.
انسحبت قوات النظام من مطار حلب الدولي ومن عشرات المواقع العسكرية في الزاوية الجنوبية الشرقية إلى منطقة السفيرة حيث معامل الدفاع العسكرية، أكبر قطع النظام العسكرية في الشمال السوري. ومع وصول المنسحبين بدأ مسلسل الانسحاب بلا تنظيم، مع رفض الجنود أوامر قيادتهم بالثبات والتحصن، ثم أَبلغ الضباط زملاءهم في ريف إدلب، فاستمر الانسحاب الجماعي من قطعة عسكرية إلى ما بعدها وصولاً إلى ريف حماة الشمالي.
تحركت وحدات حماية الشعب من منطقة تل رفعت شمالي مدينة حلب ووسعت سيطرتها على حساب قوات النظام المنسحبة شرقاً وسيطرت على مطار حلب الدولي ومواقع عسكرية في الزاوية الشمالية الشرقية من المدينة، ليطلق بعدها الجيش الوطني السوري معركة باسم “فجر الحرية” بمحورين جنوباً. أحدهما باتجاه مطار كويرس العسكري والمحطة الحرارية للسيطرة على ريف حلب الشرقي قبل انسحاب قوات النظام منها، والثاني إلى المنطقة التي باتت تسيطر عليها وحدات حماية الشعب الممتدة من تل رفعت إلى مطار حلب الدولي مروراً بالمنطقة الصناعية في الشيخ نجار. أما في إدلب فسيطرت قوات “ردع العدوان” على معرة النعمان وخان شيخون وكانت قوات الثوار تتقدم شرقاً وجنوباً بلا مقاومة كبيرة.
سيطر الجيش الوطني بعد معارك شديدة على مطار كويرس العسكري والفوج 111 والكلية الجوية ومساكن الضباط والمحطة الحرارية، ثم وصل إلى أطراف مدينة حلب من جهة الشرق وسيطر على مطار حلب الملاصق للمدينة بعد اشتباكات مع وحدات الحماية لتصبح الأخيرة محاصرة في عشرين بلدة بريف حلب الشمالي. واستولى الجيش الوطني على مئات الدبابات والعربات ومستودعات الذخيرة وراجمات الصواريخ ومنظومتي دفاع جوي روسيتين من طراز “بانتسير” المتطورة وعشرات صواريخ الدفاع الجوي المحمولة على الكتف.
أكملت قوات عملية فجر الحرية تقدمها وصولاً إلى منطقتي دير حافر والسفيرة في ريف حلب الجنوبي، والتقت هناك مع قوات ردع العدوان القادمة من ريف إدلب الشرقي وريف حلب الجنوبي، وأكملت قوات الثوار في محور ريف إدلب الجنوبي تقدمها إلى ريفي حماة الشمالي والغربي. ثم خرج أحمد الشرع في بيان يدعو المقاتلين إلى الالتزام بالأمان المعطى لمن يسلّم سلاحه وبالإحسان للأسرى. قالت إدارة العمليات العسكرية إنها سوف تعلن في المرحلة المقبلة عن بدء عودة المهجرين في مخيمات النزوح إلى ديارهم وتوسعة المناطق الآمنة لضمان عودة كامل النازحين.
في اليوم الخامس، الموافق الأول من ديسمبر، أكمل الجيش الوطني السوري تقدّمه باتجاه منطقة تل رفعت شمالي حلب وتمكن من طرد وحدات حماية الشعب بعد اشتباكات شديدة. وكانت الأخيرة قد حصنت منطقة تل رفعت بشبكة أنفاق قدّر قادة عسكريون طولها بأكثر من عشرة كيلومترات. ثم قبلت الوحدات الانسحاب شرقاً إلى مناطق سيطرة قوات سوريا الديمقراطية “قسد”. أما جنوباً فسيطرت قوات الثوار على معامل الدفاع وخناصر، ليصبح خط المواجهة الجديد من أثريا شرقاً في البادية السورية إلى مدينة حلفايا غرباً، مروراً بمدينتَي صوران وطيبة الإمام في ريف حماة الشمالي.
في خمسة أيام استعاد الثوارُ مساحاتٍ جغرافيةً استغرقتْ القواتُ الروسيةُ والإيرانيةُ نحوَ عامٍ ونصف العام للسيطرة عليها سنتي 2019 و2020، وكسرت قوات الثوار وقف إطلاق النار الذي حرصت الدول الفاعلة في سوريا على استدامته والدعوة إلى الالتزام به سراً وعلانية. وبعد سقوط حلب بدأت مجموعات المقاتلين المحليين من أبناء المناطق المهجرة المشاركة في معركة استعادة مناطقهم، وانضمّت إلى القتال تباعاً فصائل لم تكن ضمن إدارة العمليات العسكرية في اليوم الأول. وكسبت معركة ردع العدوان زخماً إضافياً في كل منطقة تنتزعها قوات الثوار من سيطرة الأسد والقوات الموالية له بانضمام مقاتلين من المناطق المُحررة إلى المعارك التالية.
شهد ريف حماة الشمالي منذ سنة 2013 خمس معارك حاولت فيها قوات الثوار إنهاء وجود نظام الأسد، لكنها فشلت جميعاً عند وصول المعارك إلى خط دفاع قوات النظام الحصين قرب مدينة حماة، المتمثل بجبل زين العابدين المطلّ على كامل المنطقة والذي تحيطه قطع عسكرية. تقع بلدة قمحانة التي باتت من أشهر البلدات الموالية للنظام السوري قرب الجبل، وإلى الغرب من قمحانة بلدة خطاب التي تحتوي على قطع عسكرية مع قربها من مطار حماة العسكري.
في اليوم السادس من معركة ردع العدوان، الموافق الثاني من ديسمبر 2024، رصّت قوات النظام صفوفها شمال الخط الحصين بمسافة خمسة عشر كيلومتراً، وبات خط المواجهة مع الثوار عند مُدن صوران وطيبة الإمام وحلفايا التي دارت فيها اشتباكات عنيفة استمرت لليوم الثاني، إلى أن سيطر عليها الثوار وانتقل خط المواجهة إلى جبل زين العابدين وقمحانة.
قالت مصادر عسكرية في هيئة تحرير الشام إن النظام السوري حشد في المنطقة “الفرقة 25 مهامّ خاصة” المدعومة روسياً، إضافة إلى الفرقة الرابعة واللواءين 105 و106 حرس جمهوري، ومجموعات مسلحة أفغانية توالي إيران كانت في سوريا لدعم الأسد منذ سنة 2013، إضافة إلى جزء من القوات المنسحبة من الشمال السوري وقوات من أفرع المخابرات. كل هذه الحشود تشير إلى أن معركة حماة أصبحت معركة الدفاع عن دمشق، لأن السيطرة على حماة ستفتح الطريق إلى العاصمة. فبعد حماة جنوباً يقع ريف حمص الشمالي، وهو منطقة حاضنة للثورة لا تزال فيها مجموعات من الجيش الحر تصل إلى مدخل مدينة حمص. وبعد حمص تكون المنطقة مفتوحة إلى القلمون والغوطة الشرقية، ويمكن الوصول إليها بسهولة من البادية السورية. نشرت قوات النظام في مواجهة هذا التحدي دعواتٍ لاستقطاب الشباب للقتال على الجبهات براتب خمسة ملايين ليرة سورية، بلا أي استجابة.
هيئة تحرير الشام
أسهم بشار الأسد بنفسه في انخفاض جاهزية قواته لمواجهة معركة ردع العدوان، فلم تدفع الفرقة 25 مهامّ خاصة أياً من قواتها في معركة حلب. الفرقة التي كان يقودها سهيل الحسن الملقب بالنمر حتى ترقيته وتعيينه قائداً للقوات الخاصة في أبريل 2024 وتعيين اللواء صالح عبد الله خلفاً له. يقع مقر قيادة الفرقة شرقي جبل زين العابدين. كانت الفرقة تعاني من الترهل الذي أصاب الجيش السوري قبل تغيير قيادتها، وجاءت التعيينات الجديدة وتبديل بشار الأسد المناصبَ بين القادة العسكريين في شهري أبريل ومايو 2024 لتفاقم من هذا الترهل. كان هدف بشار هو منع تكوّن أية تكتلات عسكرية متينة قد تشكل خطراً عليه في ظلّ التطورات الإقليمية بعد حرب لبنان، لكن هذه التبديلات تسببت في تفكك الألوية المقاتلة ووقوع خلافات كبيرة بين قياداتها، مثل الخلاف الذي دبّ بين النمر وعبد الله، والذي سجلته المحادثات النصية التي اطلعنا عليها في الهواتف المُصادرة لضباط جيش النظام، ثم أكدته للفِراتْس مصادر عسكرية خططت وقادت معركة ردع العدوان.
في اليوم السابع من المعركة، الموافق الثالث من ديسمبر، ظهر التوتر في النبرة السياسية لحلفاء النظام. في إيران اتهم مستشار المرشد الأعلى للشؤون الدولية علي أكبر ولايتي تركيا بالوقوع في”الفخ الإسرائيلي الأمريكي”، وأظهرت التصريحات العراقية أن بغداد تجاوزت دورها وسيطاً وزادت مؤشرات إرسال قوات من فصائل الحشد الشعبي، وأعلن وزير الخارجية الإيراني أن اجتماعاً بشأن سوريا سينعقد في الدوحة يومَي السابع والثامن من ديسمبر على هامش منتدى الدوحة، إلا أن الخارجية القطرية نفت ذلك.
كانت المعارك في الثالث والرابع من ديسمبر ضارية في محور جبل زين العابدين، وقُتل فيها عشرات الثوار حتى سيطروا أخيراً على بلدة معرشحور شرقي جبل زين العابدين وجبل كفراع الملاصق له وهو أصغر وأخفض منه، وكذلك مقر الفرقة 25 في مدرسة المجنزرات، ورحبة خطاب. وتقدم الثوار ليلاً من بادية خناصر إلى باديتي أثريا والرهجان ثم إلى بادية السعن شرقي حماة وأكملوا تقدمهم في البادية السورية وصولاً إلى شرقي معرشحور في بادية السلمية، ثم وصلوا بلدة المباركات الملاصقة للجهة الشرقية من مدينة حماة بعد أن سيطروا على اللواء 87، وتعرّض هذا المحور لعشرات الغارات الجوية من الطائرات الروسية وطائرات النظام.
ردع العدوان
تواترت حشود النظام العسكرية من القوات النظامية والمجموعات المسلحة الرديفة لها إلى المنطقة، وعوّل النظام كثيراً على خط الجبل قمحانة، ولذلك اعتمد قادة معركة ردع العدوان خطةً بديلةً كانت قاضية بناءً على معلوماتٍ استخباراتيةٍ دقيقة. أعلنت إدارة العمليات العسكرية عبر قنواتها الإعلامية على مواقع التواصل الاجتماعي استهدافها اجتماعاً لقادة النظام الأمنيين والعسكريين، وعلى رأسهم قائد القوات الخاصة اللواء سهيل الحسن وقائد “قوات الغيث” العميد غياث دلة، في معسكر الطلائع في الشيخ غضبان قرب مدينة مصياف في ريف حماة الغربي بطائرة مسيرة ضربت الغرفة التي يجتمعون فيها، ثم انهالت المسيرات على أهداف كثيرة فدمّرت عشرات الآليات العسكرية في جميع محاور حماة ولاحقت مجموعات النظام وقتلت العشرات منهم.
ومع وصول المعركة إلى تخوم القرى العلوية في ريف حماة الغربي، ولحضّهم على عدم المشاركة في معركة حماة، نشرت إدارة الشؤون السياسية عبر قناة تواصلها في تطبيق تلغرام بياناً موجهاً إلى الطائفة العلوية دعت فيه إلى “طيّ صفحة الآلام” وإلى “سوريا المستقبل موحدة بأبنائها جميعاً” ودعتهم إلى “فك أنفسهم عن هذا النظام”. ودخل الثوار مدينة محردة ذات الغالبية المسيحية في ريف حماة الغربي بلا قتال وبعد اتفاق وتطمينات لأهلها في الخامس من ديسمبر، وكذلك مدينة السلمية ذات الغالبية الإسماعيلية شرقي حماة.
في اليوم التاسع الموافق الخامس من ديسمبر، وصل الثوار المتقدمون من محور البادية إلى شرقي مدينة حماة. وبينما انشغل النظام بالدفاع عن جبل زين العابدين وقمحانة وحاول صدّ التقدم في محور خطاب، باغته الثوار من المحور الجديد شرقي المدينة والتفوا على الجبل. وتحت أجنحة مسيرات الشاهين تقدم الثوار إلى الزاوية الشمالية الشرقية من المدينة في المزارب ودخلوا حَيَّي الأربعين والقصور. ومن الزاوية الشمالية الغربية دخلوا حَيَّي كازو والبرناوي، فانهارت قوات النظام وانسحبت على عجالة من المدينة ومطارها العسكري برتلٍ طويل إلى حمص وريف حماة الغربي ذي الغالبية العلوية. وبذلك حوصر جبل زين العابدين وبلدة قمحانة، فاستسلمت قوات النظام فيهما عبر اتفاق على فتح الطريق إلى الساحل السوري.
كانت معركة حماة قاسية في الجانبين، تعامل معها النظام باعتبارها معركة دفاع عن دمشق والساحل، وتعامل معها الثوار على أنها بوابتهم إلى حمص ودمشق. كانت معركة حماة رهان على قدرة النظام على تجميع صفوفه بعد انهيارات حلب، وقد خسر الرهان. كان للمسيرات دور مهم في المعركة، ثم كانت الخطة المفاجئة القاضية من محور البادية. وفي مباركة الجولاني لأهالي حماة أعلن لأول مرة رسمياً عن اسمه في نهاية البيان قائلاً إنه أحمد الشرع.
غصّت شوارع مدينة حمص، في ليلة تحرير مدينة حماة، بأرتال من سيارات مدنية وعسكرية تحمل الهاربين إلى الساحل السوري، وانسحبت القوات الروسية من مواقع متفرقة في المنطقة الوسطى والبادية السورية، في حين اختنق طريق حلب دمشق الدولي بأرتال الأهالي القادمين من الشمال السوري إلى المناطق المحررة الجديدة ومدينة حماة. وارتدى المقاتلون القدماء من الثوار الذين اعتزلوا القتال منذ سنوات جعبهم، وانطلقوا للمشاركة في تحرير ما تبقى من سوريا، وكذلك فعل آلاف المدنيين الذين انضموا للمشاركة. وفي ريف حمص الشمالي انتفض ثوار مدينتَي تلبيسة والرستن اللتين خضعتا لاتفاقية تسوية ومصالحة منذ سنة 2018 وهاجموا حواجز النظام، وقصفت الطائرات الروسية جسر الرستن الإستراتيجي بثماني غارات لم تكن كافية لتدميره، ولكن الغاية كانت إبطاء تقدم الثوار إلى مدينة حمص.
في اليوم العاشر الموافق السادس من ديسمبر، ومع ساعات الصباح الباكر، بدأ ثوار درعا مهاجمة مواقع النظام في المحافظة. وسيطر الثوار بعد حماة على مدن وبلدات الرستن وتلبيسة وتير معلة والدار الكبيرة في ريف حمص، وأعلن الشرع أن هدف المعركة هو تحرير دمشق وإسقاط النظام. فيما أعلنت المجموعات الثورية المحلية في محافظة درعا تشكيل “غرفة عمليات الجنوب” التي أطلقت معركة “كسر القيود”، وأعلنت مجموعات أخرى في ريف درعا ودمشق عن تشكيل “غرفة فتح دمشق”، وتحركت مجموعات محلية في السويداء للسيطرة على مواقع النظام العسكرية.
سيطر مقاتلو الجنوب على أكبر قطع النظام العسكرية وحواجزه تباعاً، وسقطت قطع عسكرية كبيرة وحواجز رئيسة بعد اشتباكات وقع فيها قتلى من الثوار، وشارك فيها طيران النظام ومدفعيته. وبعد ساعات العصر بدأ الانسحاب الجماعي لقوات النظام نحو دمشق، وقبل منتصف الليل انسحب رجل النظام الأول في محافظة درعا العميد لؤي العلي نحو دمشق. وفي رسالة مصوّرة بثتها عبر شبكات التواصل الاجتماعي، أعلنت غرفة عمليات الجنوب “درعا حرة”. وفي ساعات استعاد مقاتلو درعا مساحةً أكبر من المناطق التي خسروها أمام الحملة الروسية سنة 2012. بقي للنظام ريف درعا الشمالي، وأعلنت غرفة عمليات الجنوب في الرسالة المصورة نفسها أن وجهتها دمشق.
مع انسحاب القوات الروسية من جنوب البلاد واقتراب الثوار من حمص ودمشق، حثّت موسكو رعاياها على مغادرة سوريا وأعلنت بغداد وقوفها إلى جانب الشعب السوري وسيادة سوريا، وقال أردوغان إنه يأمل أن يستمر زحف الثوار السوريين نحو حمص ودمشق دون أي مشاكل. ثم تحرك جيش سوريا الحرة من قاعدة التنف تحت غطاءٍ أمريكي غير مُعلن فأغلق الحدود العراقية ووصل إلى مدينة تدمر وبلدة القريتين، شرق حمص، لمنع استغلال تنظيم الدولة الإسلامية “داعش” في البادية السورية ما حدث. وهذا ما ساهم بحماية الخاصرة الشرقية للثوار. ثم انسحبت قوات النظام وجماعات إيران المسلحة من مدينة دير الزور وريفها إلى العراق، لتحلّ محلها قوات سوريا الديمقراطية “قسد”، وتحرك الثوار المحليون في المنطقة للسيطرة على المدينة.
في اليوم الحادي عشر للمعركة الموافق السابع من ديسمبر، وبينما يتسارع انهيار النظام، عُقِد اجتماع الدوحة بمشاركة قطر والسعودية والأردن ومصر والعراق مع دول أستانا الثلاث تركيا وروسيا وإيران، وأصدروا بياناً لا يحمل أي اتفاق. في هذا المنتدى اقتنع حلفاء النظام أنه قد سقط وتجاوز مرحلة الإنقاذ.
استكمل ثوار الجنوب السيطرة والتقدم على مواقع النظام التي انسحب منها، وأُعلنت محافظات درعا والسويداء والقنيطرة مناطق محررة مع ساعات العصر. ومع وصول الثوار الذين التفوا من بادية حمص إلى تخوم منطقة القلمون، أعلنت إدارة العمليات العسكرية تنفيذ المرحلة الأخيرة بتطويق العاصمة دمشق. وبدأت تتوارد أخبار انسحاب قوات النظام من محيط دمشق، ووصل الثوار من ريف درعا وريف القنيطرة الشمالي إلى منطقة “مثلث الموت” وكناكر وسعسع وزاكية وخان الشيح ودير خبية والكسوة في ريف دمشق الغربي. وسيطروا على داريا ومعضمية الشام المتاخمتَين لمطار المزة العسكري، مع تحرك مقاتلي الجيش الحر الذين بقوا في هذه المناطق بعد تسويات سنة 2018 وما سبقها. ومع ساعات المساء انسحب حاجز “منكت الحطب” من مدخل دمشق الجنوبي، وبدأ ثوار درعا التقدم باتجاه مدينة دمشق. وفي الغوطة الشرقية انتفض الأهالي بلا سلاح وطردوا قوات النظام التي كانت تتحضر للانسحاب، وكذلك تحرك المقاتلون المحليون في بلدات القلمون مع انسحاب قوات النظام من عشرات القطع العسكرية في المنطقة. ومع ساعات المساء أمسى الطريق مفتوحاً نحو مدينة دمشق من جنوبها وشرقها وغربها وشمالها.
شهدت ساعات النهار معارك على تخوم مدينة حمص، وقاومت قوات النظام في الكلية العسكرية القريبة من حي الوعر بمشاركة الطيران الحربي. توقفت المعارك ظهراً وبدأت المفاوضات. وقبل منتصف الليل، انسحبت قوات النظام والجماعات المسلحة الموالية لها وقوة الرضوان التابعة حزبَ الله اللبناني من مدينة حمص ومحيطها.
مع الدقائق الأولى من ليلة اليوم الثاني عشر الموافق الثامن من ديسمبر، دخل الثوار مدينة حمص ووجدوا الآلاف من أهالي مدينة حمص يتواترون إلى الشوارع والساحات محتفلين بحرية مدينتهم. انسحبت قوات النظام وحزب الله اللبناني من مدينة القصير، فأكمل مقاتلو الفصائل المهجّرون من مدينة القصير طريقهم إلى مدينتهم. وصل إلى محيط حمص آلاف المقاتلين المتطوعين، ولم يستطع كثيرون الخروج من الشمال للمشاركة في المعركة لأن الوقود في الشمال السوري نفد بسبب زيادة الطلب الكبير عليه من الأرتال المنطلقة إلى الجنوب.
وصل الثوار إلى شنشار جنوبي مدينة حمص، لكن الطريق الدولي في الاتجاهين كان مكتظاً بأرتال الهاربين من دمشق وحمص، مدنيين وعسكريين ومؤيدين إلى الساحل السوري. فسَمح الثوار لغير المسلحين منهم بإكمال الطريق وانتزعوا السلاح من الضباط والجنود. ووصل مسلحون محليون إلى سجن صيدنايا العسكري بعد الاشتباك مع آخر حواجز النظام وانسحاب البقية. وبعد ساعات من الاشتباكات والمفاوضات، فتحوا باب السجن وحرروا المعتقلين، ووصل ثوار الغوطة الشرقية المهجّرون إلى مدنهم قادمين من الشمال السوري عبر البادية.
خرج بشار الأسد من دمشق إلى قاعدة حميميم ومنها إلى روسيا، وأوعز ضباط الجيش لجنودهم أن النظام سقط، وشاهد الدمشقيون من نوافذهم جنود الأسد يرمون أسلحتهم في الشوارع ويطرقون الأبواب طلباً للباسٍ مدني. وفي الساعة الرابعة وخمس وأربعين دقيقة فجراً، أعلنت إدارة العمليات العسكرية رسمياً، عبر قنواتها على وسائل التواصل، دخول قواتها العاصمةَ دمشق. وفي الخامسة فجراً صعد شبان يهتفون فرحاً على دبابة متروكة وسط ساحة الأمويين، وركنت أربع صبايا سيارتهنّ قربها على صوت عبد الباسط الساروت يغنّي “جنّة جنّة جنّة.. جنّة يا وطنّا”، مُعلنين سقوط الأسد ونظامه قبل دخول أي مقاتلين من الفصائل إلى العاصمة.
صحفي سوري وباحث في الشؤون العسكرية
مجلة الفراتس