أبحاثسقوط بشار الأسد، الرئيس الفار والمخلوع

“هيئة تحرير الشام”… النشأة والتحولات الفكرية والعقيدة السياسية/ عباس شريفة

تفكيك الذات من أجل الدولة

08 فبراير 2025

كانت “هيئة تحرير الشام” التي أسسها أحمد الشرع والتي حملت اسم “جبهة النصرة”، فرعا لتنظيم الدولة الإسلامية (داعش)، في الثورة السورية نهاية 2011، بمباركة وتوجيه من أبو بكر البغدادي، لكن بعد أن قويت شوكة “الجبهة” في سوريا بعد سلسلة من العمليات العسكرية النوعية ضد النظام مما أكسبها سمعة جيدة بين الناس، زاد عدد أتباعها ومؤيديها واستقطبت آلاف المقاتلين الأجانب إلى صفوفها.

هنا شعر تنظيم الدولة بتضخم الفرع على حساب الأصل ليأخذ قراره بدخول سوريا وإعلان تبعية “جبهة النصرة” للتنظيم وإلغاء العمل باسم “جبهة النصرة” ليضم كل مكتسباتها العسكرية والبشرية والمالية لتنظيم الدولة، لكن قيادة “النصرة” شعرت أن التبعية للفرع العراقي سيعيد التجربة العراقية المتخمة بالأخطاء والكوارث والانزلاق نحو الحرب الطائفية وسيذهب بكل مكتسبات الثورة التي تحققت في حال رضيت بالتبعية لـلتنظيم فقررت الهروب إلى الأمام وإعلان بيعتها لزعيم تنظيم “القاعدة” أيمن الظواهري لتبدأ قصة الفراق الأبدي بينهما. وهكذا خطت “تحرير الشام” خطها السياسي المختلف والقائم على الحنكة والبرغماتية والواقعية ومراعاة الظروف الدولية والإقليمية وطبيعة المجتمع المحلي في سوريا مع احتفاظها بمرجعيتها الإسلامية.

وفي هذا المقال سنناقش مراحل التطور الفكري لـ”هيئة تحرير الشام” وعقيدتها السياسية والعسكرية والعقلية الاستراتيجية لقيادتها المتمثلة في القائد أحمد الشرع لنتعرف على هذه الجماعة الأكثر تنظيما وانضباطا والتي استطاعت مع حلفائها في إدارة العلميات العسكرية أن تسقط الأسد بمعركة استمرت 11 يوما في ظرف دولي وإقليمي كان غاية في التعقيد.

أولا: مراحل التحول من النشأة إلى “هيئة تحرير الشام”

بدأت مسيرة التحولات لدى “هيئة تحرير الشام” التي انتهت بتحولات كثيرة منذ أن ظهرت باسم “جبهة النصرة” نهاية 2011 إلى اليوم ولعلنا هنا نسرد أهم هذه المراحل والتحولات.

‏المرحلة الأولى والتحول في اكتساب المشروعية الجهادية

بدأت هذه المرحلة في 10‏/4‏/2013 حين أعلن أحمد الشرع قائد “جبهة النصرة” المعروف وقتها بـ”أبو محمد الجولاني” عن بيعته لتنظيم “قاعدة الجهاد” وزعيمها أيمن الظواهري وفك ارتباطه من تنظيم “داعش” الذي أعلنه أبو بكر البغدادي في اليوم نفسه، وهاهنا تحول تنظيم “جبهة النصرة” من فرع لمشروع “داعش” إلى فرع لتنظيم “القاعدة”، وتحولت “جبهة النصرة” إلى الفرع السوري لتنظيم “القاعدة” الذي كانت علاقتها به شكلية بسبب ضعف الاتصال وضعف التنظيم بشكل عام. ورغم هذه التبعية الشكلية، لم يقم أحمد الشرع بأي نشاط خارج الحدود السورية ولم تكن التبعية لـ”القاعدة” إلا إجراء فرضته الإكراهات السياسية لقطع الطريق على تنظيم الدولة ومنعه من التوغل في سوريا. ومن أجل حماية القوة التي بناها أحمد الشرع تحت مظلة جهادية مختلفة عن تنظيم “داعش”، لم يكن الشرع يهتم بالتبعية لـ”القاعدة” أو تنظيم “الدولة” أكثر من اهتمامه بالاستقلال عنهما والبحث عن مساحته الخاصة للعمل العسكري دون أي وصاية صارمة عليه وهو ما يفسر انفكاكه عن تنظيم “القاعدة” عندما حاولت قيادتها الانتقال إلى سوريا والسيطرة على قيادة الفرع السوري للتنظيم.

المرحلة الثانية والتحول التنظيمي

أدت الظروف الصعبة التي واجهتها “جبهة النصرة” من فشل معركة تحرير حلب التي شنها “جيش الفتح” وهو مجموعة من الفصائل المتحالفة بداية شهر أغسطس/آب 2016 بسبب الخلافات الفصائلية ومحاولة تنظيم “القاعدة” السيطرة على قيادة الفرع السوري “جبهة النصرة” إلى تحرك الشرع وطرح مشروع جديد يبدد مخاوف الفصائل من تبعية “جبهة النصرة” لتنظيم “القاعدة” ليكون مقدمة لدعوة الفصائل الأخرى للتوحد معه في مشروع جامع، فذهب الشرع إلى تأسيس جبهة “فتح الشام” في تاريخ 14‏ ديسمبر/كانون الأول 2014 والتي أنهى في بيان تأسيسها ارتباطه بتنظيم “القاعدة” وإنهاء التبعية لها وإضفاء الصفة القطرية والمحلية على التشكيل الجديد “فتح الشام” والقطع مع تنظيم “القاعدة” العابر للحدود، مع التمسك بوحدة الانتماء والمدرسة والأدبيات والاعتراف لهم بالفضل وهو الأمر الذي رفضه الظواهري محاولا إعادة إحياء التنظيم عبر تأسيس تنظيم “حراس الدين” في شهر فبراير/شباط 2018 والذي عمل الشرع على تفكيكه تماما فيما بعد.

‏المرحلة الثالثة والتحول الأيديولوجي

بدأت هذه المرحلة مع تأسيس الشرع لـ”تحرير الشام” في 28 يوليو/تموز 2016 وهو تشكيل ضم عددا من الفصائل مثل “حركة نور الدين الزنكي وجيش الأحرار وحركة الفجر ولواء الحق”.

وبذلك أنهت “تحرير الشام” تبعيتها الفكرية للسلفية الجهادية ولم تعد شخصيات مثل المقدسي وأبو قتادة الفلسطيني يشكلان أي تأثير شرعي في توجهاتها وقراراتها وفي هذه الفترة بدأت “هيئة تحرير الشام” تغيير خطابها الشرعي، قاطعة بذلك مع نهج “القاعدة” و”السلفية الجهادية”، متجهة إلى الحديث عن مرجعية المذاهب الأربعة الفقهية وليس مقررات اتجاه بعينه والاعتماد على العناصر السورية في المواقع القيادية والشرعية المتقدمة.

المرحلة الرابعة والتحول السياسي

بدأت هذه المرحلة تبدو ملامحها مع تشكيل “هيئة تحرير الشام” لحكومة الإنقاذ في شمال غربي سوريا، بتاريخ 2 نوفمبر/تشرين الثاني 2017. مستعينة بشخصيات تكنوقراط مستقلة من خارج تنظيم “هيئة تحرير الشام” لتقديم الخدمات في منطقة شمال غربي سوريا كما عملت في حينها على استقطاب أكبر عدد ممكن من الناشطين والإعلاميين الذين يحظون بقبول شعبي بين الناس، كما وافقت على إدخال نقاط المراقبة التركية إلى مناطق سيطرتها في أكتوبر/تشرين الأول 2017 وأرست الإدارة السياسية برئاسة أسعد الشيباني وهو ما فتح المجال لعلاقات راسخة بين تركيا و”تحرير الشام” ومع الكثير من الدول التي بدأت تتواصل معها.

ثانيا: العقيدة السياسية والعسكرية

في الوثائقي الأميركي الذي حمل اسم “الجهادي”، الذي أنتجه الإعلامي الأميركي مارتن سميث بداية شهر يونيو/حزيران 2021 اعتبر أحمد الشرع فيه أن نهج تنظيم “القاعدة” نهج خاطئ ومنحرف وأن أحداث 11 سبتمبر/أيلول 2000 جريمة مرفوضة، وتنظيم “داعش” تنظيم محظور في مناطق سيطرة “تحرير الشام” بمنطقة شمال غربي سوريا و”هيئة تحرير الشام” هي من تقوم بقتاله في إدلب اليوم كما اعتبر وضع “هيئة تحرير الشام” على قوائم الإرهاب مجرد تصنيف سياسي وحكم جائر وعلى الغرب إعادة النظر فيه وأن السعي في إزالته واجب شرعي، كما تحدث أحمد الشرع عن المصالح المشتركة والمهمة مع الولايات المتحدة والغرب ورحب الشرع بالصحافيين الأجانب في ربوع إدلب لينقلوا الحقيقة إلى العالم وتعهد بحمايتهم مع كفالة حريتهم، ودعا المنظمات الإغاثية الغربية لمساعدة الشعب السوري الذي يعاني الشدة والفقر واعتبر تركيا دولة حليفة وصديقة وتعهد بمواجهة أي مقاتل أجنبي يمسها بسوء.

كما أعاد الشرع تعريف ما يجري في سوريا بأنه ثورة شعبية ضد نظام سفاح مجرم وليس تجربة جهادية، وبات علم الثورة هو العلم المرفوع في مظاهرات إدلب بعد منعه لسنوات، وقد ظهر الشرع بدرجة كبيرة من الشفافية ليفصح عن اسمه وعن أحوال عائلته بالتفاصيل كما تحدث عن حقوق الأقليات والطوائف المكفولة بنص الشريعة، وأكد على التزامه باتفاق وقف إطلاق النار مع النظام الذي أبرم بين روسيا وتركيا في شهر مارس/آذار 2020.

وبالنسبة للعقيدة العسكرية فرغم تبعية “جبهة النصرة” سابقا، “هيئة تحرير الشام” حاليا، لتنظيم “القاعدة” في مرحلة من المراحل، فإن الهيئة لم تقم بأي نشاط عسكري أو أمني خارج الحدود السورية وعندما فك أحمد الشرع بيعته لـ”القاعدة” عام 2016 كان يؤكد تعريف العقيدة القتالية لـ”تحرير الشام” بأنها حركة تحرر وطني محلية رغم وجود عناصر أجنبية في صفوفها لا يتجاوز عددهم 5 آلاف مقاتل من أصل 18 ألف مقاتل سوري محلي من جنود “هيئة تحرير الشام” والقسم الأكبر من هؤلاء المقاتلين هم من قومية الإيغور والباقي من مختلف الدول العربية والإسلامية بعدد قليل جدا.

كما أن منهجها الفكري بات يستند إلى فهم معتدل للإسلام ينفتح على كل المدراس الفقهية ولا ينحصر في منهج “السلفية الجهادية”.

ثالثا: الرؤية الاستراتيجية لقيادة “هيئة تحرير الشام”

لا تستند الرؤية السياسية لأحمد الشرع على الأيديولوجيا أو الوصفات النظرية الجاهزة مع أنه كثير القراءة، إنه رجل يحسن التخطيط ويمتلك قدرة فائقة على الصبر الاستراتيجي ولا يدخل في مغامرات عسكرية غير محسوبة أبدا، كما أنه يرصد الفرصة بشكل جيد ويقتنصها في الوقت المناسب ويرى أن الاعتراف السياسي ليس مجرد استحقاق قانوني رسمي وإنما أقدام ثقيلة على الأرض تجعل منك رقما صعبا، ومع تقاطع المصالح الحيوية للدول معك سترغم الأطراف الدولية والإقليمية على التعامل معك والاعتراف بك كفاعل أساسي.

لقد حول الشرع تحدي الضيق الجغرافي في إدلب وانعدام الموارد مع اكتظاظ المنطقة بالسكان والمخيمات إلى فرصة فقد كان النظام يظن أنه طرد كل معارضيه إلى إدلب وأنه تخلص منهم إلى الأبد وأن طول انتظارهم في إدلب سيدفعهم لفقد الأمل والرضوخ للاستسلام أو الهجرة إلى أوروبا.

لقد كان سكان إدلب من السكان الأصليين ومن المهجرين من كل المحافظات السورية يربو عددهم على 4 ملايين نسمة، مليون منهم يسكنون الخيام.

لقد استطاع الشرع أن يستثمر في هذه الموارد البشرية ففتح الجامعات في إدلب والتي بلغ عدد طلابها 18 ألف طالب من الذكور والإناث وكثير منهم كانوا من عناصر “تحرير الشام” وأقام منظومة اقتصادية عملت على تنمية المنطقة بحيث أصبحت الخدمات في إدلب أفضل منها في دمشق رغم انعدام الموارد وعلى الجانب العسكري أقام الشرع معسكرات التدريب وأسس الأكاديمية العسكرية ووسع دائرة تحالفاته مع فصائل المعارضة وأسس 17 لواء مقاتلا مجهزا بالعدة القتالية الكاملة ودعم التصنيع العسكري المحلي الذي أنتج الطائرات المسيرة شاهين المصنعة محليا.

كما أنشأ جهازا أمنيا قويا استطاع أن يقاوم كل محاولات الاختراق والتفكيك من داخل تنظيمه وطوق كل حركات التمرد التي حاولت الانقلاب عليه. ورغم كل هذه النجاحات العسكرية والاقتصادية والخدمية والأمنية كان سؤال التحرير والمعركة مع النظام هو السؤال المطروح دائما، خصوصا من المهجرين الذين أخرجهم النظام من مدنهم وقراهم.

وهنا جاءت الحرب الأوكرانية الروسية في بداية شهر فبراير 2022 لتطرح سؤالا إلى أي مدى يمكن أن تنكفئ روسيا على نفسها إذا استنزفت في هذه الحرب ثم جاءت حرب غزة في 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023 ليطرح سؤلا آخر وهو إلى أي مدى يمكن أن تتدحرج الحرب وتفقد إيران أذرعها في سوريا ولبنان.

لقد بنى الشرع قراره على هذه المعطيات وبدأ فعلا بالتجهيز للمعركة وأخذ قرار الحرب بعد أن امتدت الحرب الإسرائيلية إلى لبنان. لكنه من وازع الموقف الأخلاقي لم يعلن عن بدأ المعركة إلا بعد أن وقع “حزب الله” اتفاقا لوقف إطلاق النار مع إسرائيل في 26 نوفمبر 2024، وكان قرار الحرب في يوم 27 نوفمبر 2024 وفي غضون 11 يوما وفي يوم 8 ديسمبر كانت قوات إدارة العمليات العسكرية تجوب شوارع دمشق معلنة سقوط نظام الأسد.

التحول إلى فكر الدولة

بعد أن أدت “هيئة تحرير الشام” مهمتها في إسقاط نظام الأسد وبعد وصولها إلى دمشق ودخول الشرع إلى قصر الشعب والسيطرة على القسم الأكبر من التراب السوري وعلى مؤسسات الدولة، باتت الجماعة أمام التحدي والاستحقاق الأهم وهو مدى إمكانية التحول من التنظيم إلى الدولة؟ وما هي إمكانية الانفتاح على كل المكونات والشرائح السورية وتحقيق الانتقال السياسي لدولة مدنية تعددية ديمقراطية بشراكة وملكية سورية. من الواضح أن قيادة “تحرير الشام” تدرك استحقاقات المرحلة ولديها الرغبة والقدرة على تحقيق هذا التحول وهي في سباق مع الزمن في هذا الأمر.

كما أن التحولات والقرارات الجريئة والتي كانت غير متوقعة التي اتخذتها الجماعة في مسيرتها خلال 13 سنة ماضية يدفعنا للتفاؤل بأن الجماعة ماضية في تفكيك نفسها لصالح بناء الدولة السورية ومؤسساتها وأن قدرتها على ضبط سلوك المقاتلين الأجانب طوال السنوات السابقة يحمل الكثير على الثقة بالشرع في إدارة هذا الملف.

المجلة

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى