أي حلول وسط بين المحاصصة وتجاهل دوافعها في سوريا؟: خيارات السوريين السياسية للتعامل مع تنوعهم الإثني والطائفي/ وسيم نابلسي
![](https://www.alsafahat.net/wp-content/uploads/2025/02/Web1334-780x470.png)
10-02-2025
كَثُرت النقاشات حول مستقبل سوريا عقب السقوط المفاجئ لنظام بشار الأسد، أما غير المفاجئ فهو تركيز هذه النقاشات على موضوع العلاقات بين المكونات الإثنية والطائفية في البلد. فالمسألة الطائفية والإثنية كانت دائماً حاضرةً منذ وصول البعث إلى السلطة في الستينيات، وإن كان التداول العام العلني بشأنها شبه غائب، ولم يتردد الأسدان في استخدامها لصالحهما. كذلك فإن اللاعبين الإقليميين والدوليين وجدوا في هذا الخطاب الهوياتي الوسيلة الأسهل للتدخل في مجريات الأحداث بعد 2011، وترافقَ ذلك كله مع تغطية إعلامية غربية واسعة ذات منظور استشراقي، يختزل كل ديناميات المنطقة الاجتماعية والسياسية في هذه المسألة. وفي هذا السياق، تمحورت المناظرات السياسية حول شكل الحكم المستقبلي بين فريق يدعو للمُحاصصة الهوياتية حفاظاً على حقوق الأقليات، وبين من يرفض هذه المُحاصصة مُستشهِداً بالعواقب الوخيمة للتجربتين اللبنانية والعراقية. وهذه المواقف تجد منبعها، بطبيعة الحال، في مصالح الفرقاء أكثر مما تجده في دراسة كلا المُقاربتين واختيار الأصوب بينهما.
تتزايد هذه النقاشات في المجال السوري العام اليوم، بينما يُنبئنا استقراءُ تجارب المجتمعات التي مرّت بما يشبه ما تمرُّ به سوريا اليوم بمشكلة جوهرية في هذه النقاشات، وهي طبيعتها الاستقطابية المحكومة بعقلية كل شيء أو لا شيء، وذلك رغم وجود طيف واسع من الخيارات الوسطية، التي تُقدِّمُ بدائل عن تكريس المحاصصة بصيغها المتطرفة كالعراقية واللبنانية، وعن رفضها بالمطلق لصالح نظام أكثري يحاول أن يتجاوز الهويات ما دون الوطنية عبر إغفالها وتَجاهُل فاعليتها. وبالفعل، فالأدب الأكاديمي ومنذ عقود بدأ يُبشّر بمقاربة هجينة تجمع المدرستين معاً.
يتم انتقاد اتجاه المُحاصصة لكونه يُكرِّسُ ويُمأسِسُ الانقسام الهوياتي، ما يؤدي إلى إعادة إنتاجه وجعله أكثر تأثيراً في المجتمع والحياة السياسية، وهو ما يُعيق تَطوُّرَ هوية وطنية جامعة ويؤدي عادة إلى خلق نزاعات جديدة في كل مرة يحصل فيها تغيّرٌ في موازين القوى بين الفئات المختلفة. ويُشكِّلُ المثالان العراقي واللبناني نموذجاً مرعباً لفشل هكذا مقاربة. بالمقابل، يُنتقَدُ التوجه الثاني لكونه يُغلِّبُ مصالح الأكثرية ويُشرعِنها باعتبارها ناتجاً طبيعياً للعملية الديمقراطية. وهناك انتقادٌ ثانٍ يتعلق بغياب الأدلة التجريبية التي تُثبت صحة ما يَعِدُ به أنصار هذا التيار، لجهة أن هذا النهج يؤدي إلى سلام أكثر استدامة في المجتمعات المنقسمة هوياتياً. كذلك، فإن بعض التجارب تُشير إلى أنّ الاتفاق على مسار إدماجي ليس مضموناً عندما نصلُ إلى التطبيق، لأن الفئات الحاكمة أو المسيطرة غالباً ما تجد أنّ مصالحها قصيرةَ المدى يمكن أن تتحقق بشكل أسهل عبر الارتداد إلى نظام مُحاصصة يسمح لها بإعادة إنتاج علاقات زبائنية مع المواطنين. المثال الأوضح هنا هو أفغانستان، حيث تَحوَّلَ الخيار الإدماجي إلى خيار مُحاصصة بحكم الأمر الواقع، ورغم النصوص والاتفاقات السابقة. أخيراً، هناك انتقادٌ يُوجَّه للإنتاج الأكاديمي لكلا المدرستين، وهو انطلاقهُما من تسليم ضمني بفهم للدولة يُطابِقُ الفهم الغربي الفيبري (Max Weber)، من حيث افتراض وجود مؤسسات دولة فاعلة ومستقلة ومجتمع مدني متطور واحتكار الدولة للعنف الشرعي. غير أن أياً من هذا قد لا يكون موجوداً بالضرورة في الدول غير الغربية الخارجة من نزاعات مسلحة، أو حتى الغربية المستقرة كما هو حال الولايات المتحدة مُؤخَّراً مع ترامب. من هنا نشأ تيار ثالث خلال العقدين الأخيرين، يدعو كما أسلفنا إلى خيار هجين (Hybrid) يجمع بين المقاربتين.
فليس من الضروري نبذُ المحاصصة في الوظائف العامة إذا اعتُمِدَت آليات رقابة مؤسساتية صارمة، تضمن كفاءة شاغلي المناصب بحيث لا تنزلق تلك المُحاصصة إلى شكلٍ من الزبائنية على الطريقة اللبنانية. وهناك العديد من التجارب التي يمكن الاستلهام منها، كالتجربة الهندية مع لجنة الخدمة العامة المنصوص عنها في الدستور، والمولجة بإجراء الاختبارات والتعيينات للوظائف العامة بطرق تضمن النزاهة والشفافية، 1 أو التجربة البريطانية مع لجنة المساواة وحقوق الإنسان التي تعمل على ضمان النزاهة وتساوي الفرص ومكافحة التمييز. 2 ليس ثمة مانع من تأسيس لجنة أو لجان شبيهة في سوريا تحظى بالاستقلالية عن باقي السلطات، ويتأسَّسُ عملها على الشفافية والكفاءة ويكون إطلاعُ الجمهورِ على تقاريرها جزءاً من مهامها. كذلك بالإمكان إخضاع هذه اللجنة لرقابة دولية دورية، بحيث يُتَّفَقُ على جهات دولية تتمتع بموافقة وثًقة المكونات السورية، لتشرف على عمل هذه المؤسسات كما تشرف اللجان الدولية على نزاهة الانتخابات مثلاً.
وبالمقابل، ليس من الضروري إقرار المحاصصة في الانتخابات النيابية إذا جرى اعتمادُ نظام انتخابي برلماني يشجع التعاون بين الجماعات المختلفة. فمن ناحية، قد لا يكون خياراً جيداً أن تُترَكَ كل فئة لانتخاب ممثليها بالاستقلال عن باقي الأطياف، كما لا يجوز السماح للأكثرية بتقرير مُمثِّلي الأقليات. هنا يمكن الحديث عن الـ«Vote Pooling»، فيصار الى اختيار الدوائر الانتخابية بعناية بشكل يشجع المكونات المختلفة على التواصل فيما بينها للتفاوض وعقد التحالفات. المطلوب هنا دوائر انتخابية لا تشتت أصوات الأقليات، وتعطيهم حصة وازنة في منطقتهم تشجع الأحزاب المختلفة على أخذ مصالحهم وتَطلُّعاتهم ومُرشَّحيهم بعين الاعتبار. وفي الوقت نفسه، يتم اتّباعُ نظام انتخابي يسمح للناخبين بتحديد تفضيلاتهم، كنظام الصوت البديل «Alternative Vote» الذي اعتُمِدَ في فيجي، أو الصوت القابل للتجيير «single transferable vote» الذي اعتُمِدَ في إيرلندا الشمالية واسكتلندا ومالطا، وهي أنظمة صُمِّمَت خصيصاً لتشجيع التواصل والتعاون بين المكونات المختلفة.
لنأخذ نظام الصوت القابل للتجيير كمثال؛ في هذا النظام تُطبَّق النسبية الانتخابية ويُقسَم عدد الأصوات على عدد المقاعد للوصول إلى رقم الكوتا المطلوبة للفوز بمقعد من مقاعد الدائرة. مثلاً إذا أنتجت صناديق الاقتراع عشرة آلاف صوت صحيح بعد طرح الأصوات المُلغاة، وكان عدد مقاعد الدائرة خمسة، تكون الكوتا ألفَي صوت، فإذا حصل مُرشَّح ما على ثلاثة آلاف صوت، فإنه يفوز بمقعد ويُصار الى إعادة توزيع الألف صوت الفائضة على المُرشَّحين الآخرين نسبياً بحسب تفضيلاتهم. يصبح المرشحون مضطرين مع هكذا نظام إلى مدِّ أياديهم لفئات ناخبة من خارج كُتلهم الصلبة. فالمُرشَّح ليس فقط بحاجة لأصوات أولئك المخلصين له لأسباب طائفية أو غيرها، ولكنه أيضاً بحاجة أولئك الذين يُفضِّلون ابن أو بنتَ طائفتهم أو منطقتهم كخيار أول، لكنهم مستعدون لأن يعطوه خيارهم الثاني أو الثالث لأن خطابه كان أكثر اعتدالاً من منافسيه. وعليه، فهذا النظام الانتخابي لا يضمنُ فقط إيصال أصوات مُختلَف الفئات، بل هو يُشجّعُ أيضاً على إنتاج خطاب وبرامج أكثر اعتدالاً، بما ينزع فتيل الاحتقان في الفترة الحرجة التي تسبق الانتخابات. وبدلاً من أن تكون الخطابات الشعبوية المُزايِدة في تطرُّفها هي السبيل لكسب الأصوات، يصبح الخطاب المعتدل هو المطلوب.
وطبعاً يتوجب هنا الاستفادة من الدرس اللبناني الذي دمج النسبية مع المحاصصة الطائفية، وأوصل إلى نتائج كاريكاتورية عندما فاز عدد من المرشحين بمقاعدهم ببضعة عشرات من الأصوات، وخسر منافسون لهم حازوا آلاف الأصوات، فقط بسبب التوزيع الطائفي للمقاعد. كذلك كان تقسيم الدوائر الانتخابية مُصمَّماً لخدمة مصالح النُخَب والأحزاب الطائفية، وأَوصلَ إلى عكس المُتوخَّى منه لجهة نشوء تحالفات عابرة للطوائف.
المشكلة في هذه الأنظمة الانتخابية أنها معقدة نسبياً، وقد تجعل من الصعب على المواطن أن يفهم تأثير صوته، ولكن يمكن حَلُّ هذا بحملات تدريب. ومن الضروري الاستطراد هنا قليلاً لتبيان مشكلة أخرى جانبية في النقاشات الدائرة حالياً، فالمقصود هنا هو حملات تدريب على النظام الانتخابي وليس حملات توعية أو تدريب على الديمقراطية، كتلك التي يطرحها بعض فاعلي المجتمع المدني بشكل لا يخلو من نزعة استشراق ذاتي أو وصاية على الشعب السوري، تتماهى بقصد أو من دون قصد مع خطاب النظام السابق عن ضرورة تنوير السوريين لكونهم، على حدِّ زعم بعض مثقفي هذا النظام وبعض صناع الدراما المرتبطين به، غير جاهزين للديمقراطية بعد.
وحتى رئيس الجمهورية أو رئيس الحكومة يمكن أن يكونا مَحطَّ رضى مُختلَف الفئات دون الحاجة إلى مُحاصصة على الطريقتين اللبنانية والعراقية. فيمكن مثلاً الاستفادة من النموذج النيجيري، حيث لا يكفي لنجاح المُرشَّح للرئاسة أن يحصل على غالبية أصوات «الشعب»، بل يشترط أيضاً حصوله على حد مُعيَّن أدنى من الأصوات في ثُلثي محافظات البلاد.
يمكن أيضاً بطبيعة الحال اعتمادُ البرلمان ثنائي الغُرَف، المُتكوِّن من مجلس للنواب مُنتخَب على أساس غير هوياتي، ومجلس للشيوخ تتمثل فيه الهويات الطائفية والإثنية المختلفة. كما يمكن تدعيم هذا الخيار بإنشاء مجلس اقتصادي اجتماعي يتمثل فيه المواطنون بناء على مصالحهم الاقتصادية الاجتماعية بدلاً من هوياتهم. من فوائد هكذا مجلس أنه يُعيد فتح المجال العام لنقاش المصالح الاقتصادية والاجتماعية للناس في سوريا، بعدما أغلقه حافظ الأسد بداية الثمانينات عندما أَحكمَ قبضته على النقابات والاتحادات وسائر مساحات المجتمع المدني السوري، وأَفرغها من محتواها. وفي السياق نفسه فإن الكثير من الباحثين يُصرّون على ضرورة عدم التركيز على المستوى السياسي أو البرلماني إلى درجة تجاهل الفعاليات الأكثر محلية كالبلديات، والتي يُوصَى بإعطائها صلاحيات واسعة لتشجيع مفاهيم المواطنة وإشراك المواطنين في اتخاذ القرارات على مستوى الإدارة المحلية.
هذه كلها بضعة أمثلة من بين نماذج أخرى كثيرة. وبطبيعة الحال فليست أي منها وصفة سحرية، وهي غالباً بحاجة للتعديل لتتناسب مع السياق السوري، لكنّ المهم هو أنها تُظهِرُ كيف أن بالإمكان تجاوز حالة الاستقطاب السائدة والوصول إلى حلول وسط، من شأنها نزع فتيل التوتر وجعل النقاش العام بشأن الهويات أقل حِدَّة وأقلَّ إلحاحاً، والأهم، أقلَّ قابلية للاستغلال من الفرقاء المحليين والخارجيين.
المشكلة الثانية، ولعلّها الأهم، في النقاشات السائدة حالياً على الساحة السورية تكمن في أن التركيز على الخلافات الهوياتية يخدم مصالح فاعلين بعينهم، ويؤدي إلى تجاهل انقسامات مجتمعية أخرى ليست فقط أكثر أهمية وإلحاحاً، بل قد تتقاطع مع الانقسامات الهوياتية لتشكل الأساس المادي لهذه الانقسامات. فبينما انشغلَ الكثيرون بمشاكل العلويين والكُرد والدروز والمسيحيين، جرى تجاهل النزاعات الريفية المدينية التي يُقرِّ كبار الباحثين بالشأن السوري كحنا بطاطو أنها كانت أكثر أهمية من المشكل الطائفي خلال الستينيات. ورغم ظَنِّ كثيرين أن هذا البُعد من الانقسام قد تراجع على مرِّ العقود لصالح البُعد الطائفي، فقد جاءت ثورة 2011 لتعيد التأكيد على أهميته. طبعاً لا يعني ذلك التسليمَ بالفهم التبسيطي السائد في الأكاديميا الغربية، كما في خطاب النظام السابق، بشأن كونها انتفاضة ريفية ضد المكتسبات التي حققتها المدن الكبرى نتيجة اللبرلة الاقتصادية تحت حكم بشار الأسد، ولكن هذا لا ينفي أن العلاقات الريفية المدينية شكلت محوراً أساسياً من مَحاور الثورة. وقد استمرَّ النظام في التلاعُب بهذا المحور حتى لحظة سقوطه. لم يتوقف الموضوع عند قرار التمسُّك بسوريا المفيدة أو بعمليات الهندسة الديموغرافية، بل تكاملَ ذلك مع تَلاعُب النظام بالخطاب العام بشكل يسمح له بتقرير من هو الريفي ومن هو المديني في سوريا. وبالمختصر، حَوَّلت عقودُ الحكم الأسدي علاقة الريف والمدينة الى علاقة تنافس وعدائية، في حين أن جُلَّ اهتمام صُنّاع القرار والأكاديميين وفاعلي المجتمع المدني في العالم هو إيجاد السُبُل لتحسين العلاقة بين المدن والأرياف، وجعلها علاقة تكاملية من خلال تطوير القطاعات الإنتاجية الأنسب لتمكين كل طرف من رفد الآخر، كما بتكريس خطاب عام وثقافة يُركِّزان على هذا التكامل بدل الاستثمار في التحقير والتخوين المُتبادَلين.
هناك أيضاً المشاكل المناطقية المتعددة، والتي لم يوفر النظام الأسبق الاستثمار فيها كما كل الانقسامات. فمحافظات الجزيرة السورية تعاني من تجاهل مزمن في التنمية، ومن خطاب عام مُعادٍ يزيد من مرارة أبناء هذه المحافظات. وحلب متروكة اليوم لقدرها في مواجهة الاجتياح التجاري التركي المُتوقَّع والذي، لن تقدر صناعات المدينة المدمرة على الوقوف في وجهه. كذلك تُعاني دمشق من تَهالُك بُناها التحتية، وعدم قدرتها على تلبية احتياجات السكان المتزايدة، وهذه فقط ثلاثة أمثلة من بين أخرى كثيرة.
يقودُ الحديث عن حلب وصِناعاتها إلى الحديث عن الانقسامات بين قطاعات الاقتصاد المختلفة. فالحكام الحاليون للبلاد لم يتوانوا في تأكيد أنهم مصرون على الاستمرار بنهج النظام السابق لجهة تفضيل القطاع الثالث (الخدمات) على الصناعة والزراعة. فما الحكمة من إهمال هذه القطاعات؟ وما هي المخططات لتعويض العمّال وأصحاب العمل في هذه القطاعات؟
هناك أيضاً الفيل الذي في الغرفة، وهو الانقسام الطبقي بين أغنياء وفقراء، وبين من يعتمدون في مداخيلهم على الشغل ومن يعتمدون على الريع. الموضوع مُطمئن أكثر هنا، حيث تعالت بعض الأصوات في وجه الحديث الراهن عن الخصخصة واللَّبرلة ووقف الدعم. لكنه يظل من المفيد التشديدُ على هذا البُعد الطبقي، وضَمُّهُ إلى الأبعاد السابقة للتأكيد على أن الانقسامات الهوياتية ليست كل شيء في سوريا، لا بل هي أقل أهمية من غيرها لمن يريد العمل فعلاً على مستقبلٍ أفضل للبلاد، بدلاً من الاستثمار في الهويات الطائفية والإثنية إما للحفاظ على البقاء في الحُكْم ،أو في للحصول على حصة في الحُكْم، أو حتى لدعم «طموحات انفصالية» من نوعٍ ما، قد تكون مشروعة لكنها غير واقعية في ظل المُعطَى الدولي الراهن.
1. The Union Public Service Commission (UPSC).
2. Equality and Human Rights Commission.
موقع الجمهورية