سقوط بشار الأسد، الرئيس الفار والمخلوعمقالات سينمائية

“إلى سما”: أهوال الحرب السورية وحصار حلب/ سمر شمة

9 فبراير 2025

خاضت مدينة حلب، العاصمة الاقتصادية لسورية وإحدى أكبر مدن الشرق الأوسط وأقدمها، معركة ستالينغراد جديدة بعد انطلاق الثورة السورية، هذه المعركة التي كانت نقطة التحوّل في الحرب العالمية الثانية وأكثر المعارك دموية خلالها. وتعرضت حلب بعد مشاركة أهلها بفعالية وزخم كبيرين عام 2012 في الثورة، لحرب طاحنة ولقصف متواصل على مدى سنوات على يد النظام البائد وحلفائه: روسيا وإيران وحزب الله اللبناني والميليشيات الطائفية، في محاولة للسيطرة التامة على المدينة والقرى والبلدات في هذه المحافظة ولإلحاق الهزيمة بالجيش السوري الحر والفصائل الأخرى.

وقد تحولت حياة الحلبيين جميعًا خلال هذه المعارك والحصار الطويل إلى جحيم لا يُطاق، وأدت لاستشهاد واعتقال الآلاف من الرجال والأطفال والنساء والشيوخ، ودمرت وهدمت المنازل والمنشآت والمواقع الأثرية والتاريخية والأسواق والمدارس والمستشفيات والمدن الصناعية المعروفة والجوامع والكنائس.

وقد وثقت أعمال فنية مختلفة تفاصيل حياة الناس هناك والتي كانت تشبه أفلام الرعب التي لا يمكن تحمل مشاهدتها، ومن بين هذه الأعمال الفيلم الوثائقي الطويل “إلى سما”، الذي وصفه النقاد بالمروع والذي حاول صناعه وعلى مدى خمس سنوات توثيق الواقع كما هو لمواجهة أكاذيب النظام السوري وحلفائه، ونقل المأساة الكبيرة التي يعيشها السوريون إلى العالم.

وقد عُرض هذا الفيلم مؤخرًا في النادي السينمائي الأهلي بجرمانا بريف دمشق، بعد أن جاب دولًا عربية وأجنبية وشارك في مهرجانات عالمية ونال العديد من الجوائز والترشيحات. تم إنتاجه في سورية والمملكة المتحدة عام 2019، وهو من إخراج: وعد الخطيب والمخرج البريطاني إدوارد واتس، إنتاج: تشانل (قناة) 4 البريطانية، تأليف وتصوير وتعليق: وعد الخطيب، تمثيل: دانا عابد – تيا الكردي – حمزة وسما وتيماء ووعد الخطيب.

بدأت مخرجة العمل بتصويره في 2012 تزامنًا مع تدفق السوريين إلى الشوارع والميادين عقب انطلاق الثورة السورية طلبًا للحرية ولمستقبل أفضل لهم ولأبنائهم، ومع اندلاع المعارك في حلب، ولم تفارقها الكاميرا بعد ذلك التاريخ ولمدة سنوات جمعت خلالها 500 ساعة من معاناة الناس وأوجاعهم وجرائم النظام المخلوع وحلفائه. ومع سيطرة نظام الأسد على الأحياء الشرقية لحلب بعد هجوم عسكري واسع وإجلاء عشرات الآلاف من المدنيين ومقاتلي المعارضة اضطرت مع زوجها وابنتها الصغيرة (سما) إلى مغادرة البلاد في رحلة تهجير قسري قاسية مريرة أودت بها وبعائلتها إلى لندن.

الفيلم رسالة من أم إلى ابنتها الوليدة، يروي قصة حياة وعد في النضال والثورة بحلب السورية والتي وجدت نفسها بين نارين: الهروب إلى بر الأمان لتربية ابنتها، أو البقاء سعيًا للحرية ودفاعًا عن حقوق السوريين في العيش بحرية وكرامة.

الفيلم غير مقتبس عن قصة حقيقية بل هو القصة ذاتها كما حصلت، والسيناريو فيه ما يقوله الناس وما يواجهونه من خوف وقتل وقصف ودمار شامل أمام أعين العالم الذي اكتفى بالشجب والإدانة والقلق على المدينة وأهلها.

يروي “إلى سما” آثار الحرب من وجهة نظر امرأة سورية شاهدة على ثورة تتطلع إلى إسقاط الطغاة والمجرمين وإقامة دولة المواطنة والقانون والديمقراطية، ويحكي عن حصار حلب الخانق ومعاناة السوريين التي خلفها نظام شمولي دموي لم يعرف التاريخ المعاصر مثله، ويجيب بالصورة والصوت عن الأسباب التي جعلت السوريين يغادرون بلادهم وكيف استنزفت ماكينة القتل التي استخدمها النظام وإيران وروسيا طاقة البشر وقدرتهم على البقاء في ديارهم. وفيه رصد حقيقي لكل ما يحدث في حلب الشهباء، ولإصرار الناس على الحياة، فرغم كل المآسي والقتل تقع وعد في الحب وتتزوج وتنجب طفلتها سما وتعيش في المشافي الميدانية مع زوجها الطبيب حمزة الذي يبرز في العمل رافضًا مغادرة المدينة.

التقطت عدسة المخرجة قصص القتل والحياة، الحزن والفرح، الطيران الحربي والبراميل المتفجرة والقذائف والصواريخ وفقدان الأحبة والأهل والأبناء والجيران والأصدقاء.

دار الفيلم الطويل حول مغامرة ملحمية لسيدة وطفلتها وزوجها الذي ينتقل من مشفى ميداني لآخر في محاولة لإنقاذ المصابين والجرحى من الموت والآلام والفجيعة، وحول معاناة المرأة أثناء الحروب.

يسرد الفيلم الأحداث اليومية التي وقعت في حياة وعد والتي بدأت بتوثيقها بكاميرا هاتفها المحمول ثم انتقلت لمعدات أكثر تطورًا واحترافية، صورت تفاصيل ما يجري بمشفى زوجها والأوضاع المعيشية المتدهورة للأسر التي اختارت البقاء في المدينة المحاصرة بالحديد والنار. ورصدت طريق الهجرة الذي كان محفوفًا بالمخاطر المخيفة ومسكونًا بالموت والغرق والخطف والسرقة والنهب أمام اللاجئين السوريين، ومعاناتهم بعد أن اضطروا للهروب من منازلهم تحت وابل من القصف بالطيران والمدفعية.

نقلت مخرجة الفيلم من خلال ما صورته حصار حلب بتفاصيله المريرة والإجرامية، وقدمت قصصًا واقعية حقيقية عن الأسرة والوجع، وهي التي قالت: “الحرب كانت قاسية جدًا والنظام حاول أن يدمر الناس من داخلهم ولكنهم استمروا في حياتهم رغم ذلك وبقوا في حلب أقوياء”. وعن دخول الثورة إلى جامعة حلب ومشاركة الطلاب والطالبات باحتجاجاتها المستمرة، وبؤر الموت والشقاء الذي عاشه الشعب السوري هناك والجثث المتناثرة في كل مكان ودموع الأمهات الثكالى وهمجية شبيحة الأسد والميليشيات الطائفية، ونقلت أيضًا قوة الشعب السوري وإصراره على مقاومة الطغاة والمحتلين.

الفيلم مشبع بالحقائق المصورة ميدانيًا بشجاعة نادرة، كما قال بعض النقاد، ويمكن أن يكون مرجعًا توثيقيًا لمراحل صعبة ومصيرية من تاريخ سورية الحديث الذي طغت عليه جرائم سفك دماء السوريين واستباحة مدنهم وقراهم بوحشية مسعورة.

التقطت عدسة المخرجة قصص القتل والحياة، الحزن والفرح

هناك مشاهد حدثت وصورتها الكاميرا في غاية الحزن والألم، كالمشهد الذي حضرت فيه امرأة حامل إلى المشفى بعد تعرض بيتها إلى القصف بالطيران الروسي، وإنقاذها من تحت الأنقاض ووضعها على نقالة المشفى لإجراء عملية قيصرية لها وقيام الأطباء بمداواة جروحها، وعندما وضعت طفلها كان جامدًا لا يتحرك، فأسرع الأطباء لإنقاذه وأجروا له تنفسًا اصطناعيًا في مشهد قاسٍ جدًا، وبعد جهد كبير بدأ بالبكاء وفتح عينيه فعم الفرح في أرجاء المشفى رغم أصوات القصف التي كانت تسيطر على المكان. ومشاهد العمليات الجراحية الطارئة لضحايا القصف الوحشي من الأطفال والرجال والنساء والمسنين وحديثي الولادة والذين مات بعضهم وفارق الحياة أثناء العملية في مشهد تراجيدي وجنائزي.

مشاهد الفقد والفراق هي السمة الأبرز في الفيلم. طفل يبكي بحرقة لفقده أفراد أسرته جميعًا تحت ركام منزلهم، تائهًا يبحث عن كتف يستند إليه ويدٍ حنونة تمسح دموعه وترعاه، ودماء على إسفلت المشفى وفي كل ركن فيه، ومشاهد الانفجارات والتفجيرات المفتعلة وانهيارات المنازل المتكررة على رؤوس ساكنيها، ومشاهد من عرس بطلة الفيلم وكيف كانت القلوب تتمزق آنذاك في حفلة متواضعة تحولت إلى مناسبة للبكاء والنحيب، إضافة إلى مشاهد الأطفال وهم يركضون في الشوارع ويلونون الباصات المحروقة. ومشاهد الطبيب حمزة الخطيب بين الجرحى والشهداء في المشافي الميدانية بظروف عمل طارئة وقاهرة، وهو الذي اعتبر الثورة السورية صراع سردية وحرب ذاكرة بين النظام الذي يتهم معارضيه بالإرهاب وناشطين مدنيين، والذي قال: “الفيلم جزء مما عشناه فعلًا، وحاربنا في سبيله بكامل طاقتنا، وهناك أمور لا يمكن نسيانها أبدًا، وما يلمسني من الداخل عند مشاهدته هي لحظات السعادة لا الحزن لأنها لحظات حُرمنا منها وأحلام هناك من يحاول كسرها”.

بدأ الفيلم بمشاهد القصف العنيف وبالكلمات الأولى للطفلة سما، وتوافد الجرحى إلى المشافي، وضمّ مشاهد رحلة العودة إلى حلب التي قامت بها المخرجة مع طفلتها في تموز/ يوليو 2016، ومشاهد ارتباطها بالمكان وبحلب المنسية التي انهارت تحت وطأة البطش والأسلحة الثقيلة وتفاصيل الحصار.

مشاهد الدم والإصابات في الفيلم كانت قاسية جدًا ولكنها وضعت المشاهد في قلب الحدث ونقلت الحقيقة بلا تجميل، وجزء من الحديث فيه كان يدور من طرف واحد بين أم توثق معاناة مدينة وشعب وابنتها التي أطلت للتو على عالم فوضوي وقلق، وكل ذلك نقل الفكرة للجمهور وأشركه في المشاعر والأحاسيس.

نائبة رئيس تحرير القناة البريطانية والمنتج التنفيذي للفيلم نيفين مابرو قالت: “في كانون الأول/ ديسمبر 2016 هجرت وعد الخطيب حلب مع أسرتها وبحوزتها ما يقرب من 500 ساعة تصوير من لقطات قوية، وقد أتى ترشيح الأوسكار ليشهد على شجاعة أقوى صانعة أفلام عملنا معها في قناة 4 نيوز”.

وقال المنتج التنفيذي للفيلم: “نحن فخورون للغاية بالعمل على هذا المشروع خلال حصار حلب وصولًا إلى هذا العمل الوثائقي الأوسكاري، وهو يثبت أن دعم صناع الأفلام المستقلين له تأثير قوي”.

الجدير ذكره أن الفيلم لاقى إشادة فنية دولية منذ طرحه في عدد من المهرجانات والدول، تُوجت بترشيحه لجائزة الأوسكار كأفضل فيلم وثائقي لعام 2020. ونجح في أن يحصد لقب الوثائقي الأعلى ترشيحًا في تاريخ حفل جوائز بافتا. وفاز عام 2019 بجائزة أفضل فيلم بريطاني مستقل وأفضل مخرج وأفضل تحرير. كما فاز أيضًا بجائزة العين الذهبية لأفضل فيلم وثائقي في مهرجان كان السينمائي، 2021، وجائزة أفضل فيلم وثائقي طويل في مهرجان أفلام الهجرة الدولي في تركيا، إضافة إلى الجائزة الكبرى في مهرجان الجزيرة بلقان للأفلام الوثائقية بدورته الثانية عام 2019 في مدينة سراييفو في البوسنة والهرسك.

وعد الخطيب هي مخرجة أفلام وثائقية سورية، أخذت دور المواطنة الصحافية في 2011 بعد اندلاع الثورة في سورية والمظاهرات، وبدأت بتوثيق الأحداث المروعة في حلب في بداية 2016 ضمن سلسلة أفلام بعنوان: “داخل حلب” لقناة تشانل 4، وأصبحت تقاريرها عن الصراع في سورية الأكثر مشاهدة في برنامج الأخبار البريطاني. وحصدت حوالي 24 جائزة من بينها جائزة الإيمي العالمية للتغطية الإخبارية العاجلة، تهجرت مع عائلتها من حلب، و”إلى سما” هو فيلمها الطويل الأول. أما المخرج البريطاني إدوارد واتس فقد اشتهر بالأفلام الوثائقية والأفلام التي تركز على السرد، وهو مخرج ومؤلف وصانع أفلام وحصل على العديد من الجوائز.

تقول وعد الخطيب: “إن الواقع أكبر من السينما، والثورة لا تحتاج إلى ما ينصفها، ولا أجد فيلمًا أيًا كان نوعه قادرًا على الإحاطة بالثورة، إن حلب معي حتى لو لم أكن هناك”.

اليوم وبعد سقوط النظام الذي دمر سورية بأكملها، ونهب ثرواتها وخيراتها، وسجن وقتل خيرة شبابها وشاباتها ورجالها ونسائها وأطفالها، تعود حلب الشهباء إلى احتضان أهلها ومحبيها ويعود السوريون إليها وصوت شاعرها المتنبي يتردد على مسامعهم: “كلما رحبت بنا الروض/ قلنا حلب قصدنا وأنت السبيل”. بينما يبشرهم نزار قباني بأن “كل دروب الحب توصل إلى حلب”.

ضفة ثالثة

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى