“سجن صيدنايا”: “ثينك تانك” إسلامي ومفارقة أصل الثورة السورية!/ عمّار المأمون
![](https://www.alsafahat.net/wp-content/uploads/2025/02/1-11-1_jpg-780x470.jpg)
10.02.2025
ربما هذا التنويع والتأمّل في حكاية صيدنايا ضروري الآن، كي لا تُحتكَر الحكاية الوطنية من قِبل أحد، حتى لو كان أساسها “المسلخ البشري”، الذي حسب أبو محمد، أحد الحراس السابقين في السجن: “يمثّل نهاية الحياة، ونهاية الإنسانية”.
حجّ كثيرون وكثيرات نحو صيدنايا، لا الدير، بل السجن العسكري المتربّع في الأعلى، أمهات وآباء، أخوة وأخوات، صعدوا درباً نحو “ما وراء الشمس” أملاً بزيارة معتقليهم في “المسلخ البشري“، درب لا يقاس التعب فيه بالخطوات أو المسافة أو زمن الوصول، بل بأطياف الأمل واحتمالات أن يُشفق حديد السجن وسجّانوه على المُتعبين، علّهم يسمحون بزيارة سريعة لأحد المعتقلين هناك، والمفارقة المرعبة “غرفة الإعدام تقع في قبو المبنى الأبيض، أسفل غرفة الزيارات العائلية…”.
نكتب عن سجن صيدنايا اليوم، بوصفه مولّداً للحكايات والمفاهيم (جذموراً ربما بالتعبير الدولوزي) متجاوزاً دوره كصرح مادي يدلّ على وحشية نظام الأسد، نحو فاعل في تكوين الحكاية الوطنية السورية الجديدة، التي تُخاض صراعات خطابية حول الفاعلين فيها ورموزها، تأسيساً لـ”الجمهورية الثالثة”.
أول اللغط
عادت سوريا إلى التاريخ لحظة تحرير سجن صيدنايا، عودة بصرية، تلقيناها فيديوهات وتسجيلات بُثّت من السجن سيئ السمعة متفرقة، بلا ترتيب أو وصف واضح، تشبه “فيديوهات الثورة”، مُرتجلة، مفعمة هذه المرة بنشوة “الانتصار” لا الخوف، مقاطع مجتزأة تغذّي وسائل التواصل الاجتماعي، وهنا الفخّ.
امتلأت ساعات التحرير باللغط، وهُرع الناس، “كل” الناس نحو صيدنايا وكأنم ا”مسهم السحر”، يبحثون بالمعاول والأزاميل والمطارق عن أبواب سرية، إلى حدّ أن صديقاً لي، وهو معتقل سابق في سجن صيدنايا، لم يصدّق بداية أن “ردع العدوان” اقتحموا السجن، مردداً، هذا ليس المدخل الذي أعرفه!.
أول فيديو أثار الجدل هو الذي صُوّر في 8 كانون الأول/ ديسمبر 2024، داخل غرفة المراقبة في السجن، يظهر فيه طفل صغير لم يُعرف سبب وجوده، وفُسّر الأمر لاحقاً، بأن من دخل بداية إلى السجن هم من سكان المنطقة، لتتوالى بعدها الأخبار عن وجود أنفاق سرية وزنازين خفية، بينما دياب سرية، مُعتقل سابق في صيدنايا، أحد مؤسسي “رابطة معتقلي صيدنايا”، يكتب عبر وسائل التواصل الاجتماعي ويظهر على وسائل الإعلام، مؤكّداً أن خريطة السجن وما فيه معروفة ولا أماكن سرية!.
“المكبس”: الرغبة في الرعب وأزمة اللايقين!
استثنائية لحظة اقتحام سجن صيدنايا، وهول الحكايات المحيطة به، ترافقت مع مبالغات وحشية، ولا نُنكر وحشية الأسد، لكنها حكايات لا تتفّق مع الشهادات السابقة، لنصل إلى مرحلة من اللا يقين، ونتحدث هنا بالضبط عن “المكبس”، الذي نفى دياب سرية أنه يُستخدم لهرس المعتقلين، بل كان جزءاً من ورشة خشب في السجن، مؤكّداً أنه “يُستخدم لضغط ألواح خشب “إم دي إف” (MDF) خلال عمليات صيانة أثاث غرف الإدارة والضباط في السجن”.
بدأت القصة بفيديو انتشر في اليوم التالي لتحرير السجن، يظهر فيه “المكبس” وبثّته الجزيرة لاحقاً، ثم فيديو آخر بعد يومين، نشاهد فيه أمام رجل الدفاع المدني السوري، رجلاً آخر يشرح بدقة كيف يعمل “المكبس”، وكيف يتم التخلّص من الجثث، علماً أن كمية الغبار وخيطان العناكب الموجودة عليه تشي بمرور فترة طويلة من دون أن يُستخدَم!.
على رغم تكذيب “قصة المكبس” عدة مرات، بقيت سرديتها موجودة، حتى إن المعتقل السابق في صيدنايا الأردني إبراهيم حسن الصقور، تحدث في 28 كانون الأول/ ديسمبر 2024، في مقابلة تلفزيونية مع “الجزيرة” عن “المكبس” وآلية عمله.
يتوسّع الصقور في الحديث عن استخدام “المكبس”، مقسّماً من يُقتل به إلى 3 أصناف من المعتقلين: “صنف يُجوّع ويُضعف ويُقطع رأسه ويُكبس”، ليصغر حجمه ثم “يُرمى في الأفران”، وصنف ممن يُطبّق عليهم عقاب مختلف كونهم قتلوا عنصراً من عناصر النظام، إذ يُوضع المتّهم “أجزاء أجزاء على المكبس” ليُهرس وهو حّي من “القدمين ثم الركبتين ثم الحوض…”، والصنف الثالث هم من قاموا بتفجير سيارة أو قتل عناصر، أولئك يتم كبسهم أحياء لـ”ينفجر الدماغ”، ويقول الصقور إن هذه الروايات مصدرها عنصر كان يخدم في صيدنايا، ثم سُجن فيه لتجارته بـ”العملة”.
استمرّ تكذيب “قصة المكبس”، مع ذلك بقيت الحكاية تُتداول وتزداد درجة الجدية في التعامل معها، ففي لقائه الأول مع صحيفة “الشرق الأوسط” في 1 كانون الثاني/ يناير 2025، يشير أسامة عثمان، الشاهد الملك في ملف “قيصر” إلى “المكبس” الذي “لم يخطر على باله” أنه موجود!.
قام أيضاً وزير خارجية فرنسا جان نويل بارو، بكتابة سلسلة تغريدات في 3 كانون الثاني/ يناير 2025 بعد زيارته سوريا، أفرد فيها تغريدة منفصلة وصف فيها “المكبس” بـ”آلة الموت”.
هذا التسلسل السريع للمعلومات والأخبار الخاصة بـ”المكبس” وتصاعد قيمتها حتى تُقتَبس من قِبل وزير خارجية بلد أوروبي، يقابله جهد إعلامي يسعى للحفاظ على استثنائية المقتلة السورية، وضبط “الحقيقة” السردية عن سجن صيدنايا عبر شهادات المعتقلين، بوصفها مأساة ما زالت مستمرّة، لا مساحة للجدل والاختلاف، وصلت حدّ مطالب بتجريم “إنكار الإبادة السورية”.
وهنا المفارقة، تعلّمنا من تجربة الهولوكوست ومنكريه، أن هكذا تفاصيل، تتطوّر لاحقاً إلى نظريات مؤامرة، وصلت حد إنكار غرف الغاز، لكن ربما هي حماسة الناجين و”سحر” التحرير، ما خلق أزمة مكبس الخشب، غواية الخلاص هدفها ترسيخ أن النظام السوري “أصل الشرّ” ولا شرّ يفوقه!.
مسرح الجريمة/ مسرح اللعب
تحوّل سجن صيدنايا بسرعة مُريبة إلى وجهة سياحية- استكشافية (السجن بقي لأيام من دون حراسة من السلطات السورية الجديدة) وجد فيها المؤثرون وصنّاع المحتوى ضالّتهم المنشودة، كحالة وارف كاتبي صاحب قناة “وارف وديالا” الذي نشر في قناته على “يوتيوب” فيديو لرحلة استكشافية داخل السجن، بتاريخ 14 كانون الأول/ ديسمبر 2024، بعد 6 أيام من سقوط النظام.
نشاهد في الفيديو كيف يدخل وارف المكان مع معتقل محرر من صيدنايا، ليشرح له طبيعة “الحياة/ الموت” التي يعانيها المعتقلون، لنختبر خلال نحو 40 دقيقة، قشعريرة مستمرة ، لا بسبب أهوال سجن صيدنايا، ولا بسبب محاكاة السجين السابق لما كان يختبره، بل بسبب الصيغة الاستكشافية التي يتحدث فيها “المؤثر”، مخاطباً الجمهور في بعض الأحيان بالنبرة ذاتها، التي كان يخاطبهم فيها قبل سقوط النظام، هو الذي سارع إلى تغيير كوفرات فيديوهاته السابقة على “يوتيوب” لتحوي علم الثورة بعد أن هرب الأسد!.
يظهر “صانع المحتوى” وكأنه دليل سياحي من نوع ما، والسجن مكان للاستكشاف الذي يقوده أحد “المقيمين الأصليين”، الذي لا نعلم ما هو الدعم النفسي الذي تلقّاه، ليعود إلى مكان اعتقاله بعد أيام من تحريره، لكن نعلم في النهاية أن وارف دعاه إلى سندويشة شاورما في نهاية الفيديو!.
يتصارع هنا موقفان، بين حق السوريين في التحديق بسجن صيدنايا، واكتشاف كل زوايا بلادهم وزواريبها ومعتقلاتها وجحيمها، وبين هول المكان، وضرورة الحفاظ عليه، لا لأسباب قانونية وقضائية فقط، بل أيضاً، كوننا أمام مسرح جريمة لم تنتهِ بعد، إذ ما زالت حتى أغراض المعتقلين في أماكنها، مسرح الجريمة مازال صرفاً!، لكن عدد المشتركين والمشاهدات هو الأهم، مهما كانت النيّة حسنة!.
مفهوم مسرح الجريمة وما يملكه من “قدسية” وهالة وأهمية قانونية، لم يهدد “الإنتاج” عالي الجودة، كما في حالة حلقة اليوتيوبر جو حطاب من داخل السجن، إذ تحوّل المكان إلى فضاء لإنتاج “المحتوى” ذي الصور الواضحة للتأمل في وحشية نظام الأسد، هنا يأتي الرهان على توق لدى السوريين لمعرفة أدقّ التفاصيل حول “المسلخ البشري”، الذي كان مصمماً لتصفيتهم، لكن، شكل المحتوى “الشخصي” الذي أُنتج من السجن، يساهم (وبسرعة) في تحويله إلى محتوى تنتهي قيمته بمجرد تبادله، والمفارقة، أن أهالي الكثير من المعتقلين كانوا أثناء تصوير حلقة وارف أمام السجن، في حين في حلقة جو حطاب، المكان فارغ لا نحيب ولا أمل، “خشبة” مجهّزة للتصوير عالي الدقة.
يُضاف أيضاً، أخبار عن “نشاط” عصابات لـ”تعفيش” حديد السجن، كذلك أفراد قاموا بسرقة ملفات وهاردات منه، بصورة ما حتى الدليل على المقتلة، وسبيل إدانة المجرمين، مُجزّء، موزّع، مبعثر بين الإنترنت واللصوص والفضوليين.
المشكلة الأكبر هي في الإنتاج التلفزيوني، ونتحدث هنا عن مسلسل “الخروج من البئر” تأليف سامر رضوان، الذي من المفترض أن يبدأ تصويره قريباً، من إنتاج شركة “ميتافورا” القطرية، وتم تداول أنباء عن احتمال تصوير بعض المشاهد داخل السجن.
في حال تم التصوير داخل السجن، سيتدخل “الإنتاج” ليُعيد ترتيب الفضاء، وإنتاج حكايات من داخل مسرح الجريمة، العمليات الإنتاجية نفسها (إضاءة، كاميرات…إلخ) ستحوّل المكان إلى فضاء للعب، خصوصاً أننا أمام مسلسل لا وثائقي، وفي كلا الحالين، الجريمة المرتكبة في المكان لم تنتهِ بعد، الأدلة عليها والقرائن موجودة ، وتحويل السجن إلى “مساحة للعب”، يهدد مصداقيتها، والأهم يهدد الحكاية الوطنية، تلك التي لا يمكن أن تُختزَل بـ”محتوى” يوتيوب أو مسلسل، بل سنجد أنفسنا أمام نسخة متخيّلة تفوق في شعبيتها وانتشارها شهادات المعتقلين والوثائق، التي أًنتجت عن المُعتقل.
بث “بودكاست أثير” التابع لـ “الجزيرة 360” حلقة طويلة مع أحد قادة “استعصاء صيدنايا” في 2008، القائد السابق لحركة “أحرار الشام” محافظ اللاذقية الحالي حسن صوفان، أو كما يصف نفسه على تويتر”من جنود الدولة السورية الجديدة”.
أربع ساعات نسمع فيها شهادة مرعبة عن الاستعصاء وما حصل خلاله، لنرى أنفسنا أمام سردية تختصر بقول صوفان: “سجن صيدنايا هو أول ثورة سورية ضد نظام الأسد، وكانت ركيزة لإسقاطه”، ويضيف: “أول بقعة تحررت من النظام السوري، هي سجن صيدنايا، المبنى الأحمر بأكمله، ومبنى الإدارة”، يقول لاحقاً: “نحن أول تحرير صار في سوريا، وأول ثورة صارت في سوريا، هي ثورة سجن صيدنايا”.
المثير للاهتمام أيضاً أثناء حديث صوفان، أننا نتلمّس كيف كان صيدنايا أقرب إلى “ثينك تانك إسلامي”، تتحاور وتتناقش فيه التيارات الإسلامية، أو حسب كلام صوفان بدقة “حالة الاحتكاك الشديد في السجن في تلك الفترة… وإتاحة الفرصة لمناقشة الأفكار والمناهج بين التيارات الإسلامية، التي حصلت داخل سجن صيدنايا، بالأخير تبلورت في إطار فكري… صار نقاشات أحياناً حادة بين المناهج، بين منهج القاعدة، منهج الإخوان، منهج حسب التحرير… السلفية الجهادية… الميزة بسجن صيدنايا أن كل هذه المواضيع فُتحت على الطاولة”.
الواضح أن هناك سردية يتم العمل على صناعتها بخصوص الثورة في سوريا (أو مخاضها الأول) التي انتهت بتزعم “صيدناويين” قيادة بعض الفصائل، ثم إسقاط النظام، سردية تسعى لتفكيك ما أشاعه النظام عن الاستعصاء والاتهامات التي طالت المشاركين به، فالنظام الذي كان يواجه استعصاء أعلنه في 5/7/2008، كان في الوقت ذاته يحتفل بدمشق عاصمة الثقافة العربية، بعدها بأيام بدأت فعاليات “ليالي موسيقى العالم”.
لكن مخاض ثورة 2011 في سوريا، له سردية أخرى، إذ تُنسب إرهاصاتها إلى ربيع دمشق و”العقد الضائع” والمنتديات السياسية والحوارات، والتشديد على المجتمع المدني ونشاطه شبه العلني، أولئك “الآخرون” اللا إسلاميون، يقول ميشيل كيلو إن بشار الأسد وصفهم بـ”الأقزام” و”سيسحقهم”.
بصورة ما، لثورة 2011 والدان (أو والدتان) لا يتفقان فكرياً، وكلاهما كان له “الثينك تانك” الخاص به، الأول سري اختمر تحت التعذيب والقتل والرعب في صيدنايا، وهي السردية التي انتصرت، والتي يُستثمر في ترسيخها حالياً. وسردية مدنية، شبه علنية، كانت مفتوحة أمام الجميع، تتمثّل بالمنتديات، هذه السردية تراجعت تدريجياً مع عسكرة الثورة، ويمكن القول إنها تلاشت أمام الأمر الواقع، فـ”هيئة تحرير الشام” هي التي “أسقطت” النظام (البعض له الكثير من الملاحظات على دور قسد).
حالياً، تتصارع هذه السرديات أمام مصطلحات كــ”ثوار الـ2011″ الذين شاركوا في التظاهرات وهُجّروا وقُتلوا، و”ثوار الـ2024″ الذين يطرحون سؤال “من هو قيصر؟”، هذا الصراع تُغذّيه رغبة السوريين في الكلام وتقديم شهاداتهم، كل يوم حكايات جديدة عن فظائع المعتقلات السورية، ولا بد من وقت لرصد الاختلافات بين هذه السرديات ومعانيها، خصوصاً أننا في لحظة تأسيس، لا لسردية الثورة فقط، بل لسردية سوريا ومستقبلها، بل حتى في سجن صيدنايا نتلمّس نوعاً من الاختلاف في تفاصيل السرديتين الدقيقة، أي سردية الإسلاميين وسردية “الآخرين”، حين نستمع إلى نسخة رغيد الططري وتوصيفه لاستعصاء صيدنايا.
إذاً، تشهد سوريا اليوم، علاقة جديدة بين السجين السياسي والممارسة السياسية التي كان السجناء السياسيين بغالبيتهم محرومين منها، خصوصاً “خريجي صيدنايا” الإسلاميين، الذين تزعّموا شرعية لها خصومها، وتُستدَعى حالياً ضمن الخريطة السياسية الجديدة، فهيثم مناع المعارض السوري، وفي معرض ردّه على الانتقادات التي وُجهت إلى الاجتماع الوطني الذي دعا إليه، ذكر أن “2 من المسجلين مثلاً عندهم 5 سنوات سجن في صيدنايا”!.
الصيدناويون على اختلاف تياراتهم، ضحايا عنف الأسد، وهذا لا شكّ فيه، لكن تجربة الاعتقال أيضاً جعلتهم أصحاب شرعية سياسية، تُثقل مشاركتهم في الحياة العامة والسياسية، لا بناءً على التوجه السياسي، بل على الاعتقال نفسه كمصادرة للحرية يتم استعادتها الآن بعد سقوط النظام، مما يتركنا أمام سؤال قد يكون ساذجاً، هل كل معتقل سياسي سابق يصلح لأن يكون تكنوقراط؟.
“الصراع “على تمثيل الضحايا
تستمرّ الحكايات حول صيدنايا بالتناسل، لكن أبرز ما يُثار الحديث حوله، هو حقوق الضحايا والمخفيين قسراً، وضرورة العمل في سبيل تحديد مصائرهم لفتح باب الحداد أمام أحبائهم، الجهد الذي أخذته على عاتقها عدة مؤسسات ومنظمات يُديرها معتقلون سابقون، أبرزهم دياب سرية، أحد مؤسسي”رابطة معتقلي صيدنايا”، والمُساهم في إنشاء عدد من الملفات التي تشرح هندسة السجن والعمل ضمنه، الذي عمل منذ لحظة فتح السجن على تكذيب حكاية “المكبس”، وأيضاً جمع الأسماء والبيانات الخاصة بالمعتقلين لحسم مصائر الكثيرين.
هذا الجهد المؤسساتي شكل من أشكال التنظيم لضمان حقوق الضحايا، وخلق قدرة على الضغط على أي جهة مسؤولة في سبيل دفع الملف، لكن المفاجأة، بداية، أن السلطة الجديدة لم تلتقِ ممثلي أهالي المعتقلين والمخفيين قسراً إلا في 5/2/ 2025، أي بعد أكثر من شهرين من سقوط النظام، في حين أن والدة الصحافي الأميركي أوستن تايس، التقى بها الشرع بعد ساعات من وصولها إلى سوريا!.
المثير أيضاً، أن دياب سرية وجد فجأة نفسه أمام ما وصفه بالتالي: “استغل زملاؤنا السابقون، ممن تقاسمنا معهم مرارة التجربة، انشغالنا وتعبنا والفوضى التي عمّت البلاد عقب سقوط النظام، وقاموا بتسجيل الرابطة في دمشق من دون علمنا، مستخدمين الاسم اللوغو نفسيهما، سعياً وراء الدعم وفرض أمر واقع”.
لم نسأل سرية عن التفاصيل، وليس هذا الغرض، لكن الواضح أننا أمام صراع على تمثيل الضحايا رسمياً، أولئك الذين ما زال الكثيرون منهم مجهولي المصير، هذا الصراع على ما يحويه من أبعاد سياسية و”دعم” و”فرض أمر واقع”، تحول إلى شأن مؤسساتي، وسعي لاحتكار التمثيل إن صح التعبير، ونفي الآخر، الضحية أيضاً.
نطرح هذه التساؤلات حول حق تمثيل الضحايا، كوننا الآن أمام نوعين من الشهداء، الأول كان منفياً، ممنوعاً من الحداد، ولا يمتلك حقوق “الشهيد” المادية والرمزية، والمقصود هنا القتلى من المحسوبين على “الثورة”، أولئك الذين منعت أسماء الأسد الحداد عليهم واحتكرت مفهوم الشهادة.
والنوع الثاني منحتهم أسماء الأسد اللقب والوضعية القانونية، والمقصود قتلى الجيش السوري سابقاً، وهنا السؤال، كيف ستتعامل مؤسسات العدالة الانتقالية مع ازدواجية الشهادة هذه؟ وهل تُنزع صفة الشهيد عن أحدهم بشقيها المادي والمعنوي من قبل السلطة الجديدة؟ وماذا عن التعويضات؟
جريدة الأخبار اللبنانية أفادت عن مصدر في وزارة المالية اقتباساً غير مباشر جاء بالشكل التالي: “ولا يُنكر المصدر سعي الإدارة الجديدة لإنهاء عقود جميع الموظفين المرتبطين بالنظام السابق، مثل موظفي وزارة الدفاع وذوي الشهداء وجرحى الحرب والمسرّحين وغيرهم”.
الحق بالسخرية؟
الكثير من التسجيلات التي خرجت من سجن صيدنايا أثناء التحرير كانت خارج السياق، صور النساء المحررات تبين أنها من غير مكان (صيدنايا سجن للرجال فقط) صور الأطفال أيضاً ليست من السجن العسكري سيئ السمعة، أغلب ما انتشر كمحتوى فردي، من دون كادر يؤطر ما يحصل، وتُرك للمعلّقين والناشطين والخائفين أيضاً حرية تفسير الفيديوهات.
تجزئة لحظة التحرير بسبب شرط العصر نفسه، ورغبة “الجميع” في المشاهدة ضمن اقتصاد الانتباه، وإثبات الانتصار، تركنا أمام نُتف من حكايات بصرية، وترك للمخيّلة حريّة تغذية هالة الرعب، بناء على صور ووثائق تحاول الإمعان في التهويل.
أحد هذه “الهبدات” الفيديو الذي تم تداوله بعد 4 أيام من سقوط النظام، والذي يحوي مخططات الكاميرات في السجن، هذه الصور، مع تسجيلات كاميرات المراقبة، تحوّلت إلى تهمة جديدة تُضاف إلى “المسلخ البشري”، بوصفها مخططات لبث فيديوهات تعذيب المعتقلين عبر “الدارك ويب”.
هكذا ممارسة ليست غريبة عن منتديات “الدارك الويب”، ولطالما تكررت الفضائح حول هذا الموضوع في مختلف أنحاء العالم، لكن نحن أمام فرضية لا هدف منها سوى محاولة تفسير وثيقة (الواضح أن من قرأها لم يفهم ما هي) أو محاولة للإمعان في كشف شرّ النظام السوري، الذي هيمن على مُخيلة السوريين، ودفع بحدود الرعب إلى الأقصى، وكأنه شرّ صرف، كالمخرز في العين الدامية، لا يستحي من شرّه، مع ذلك، لحظة سقوط صيدنايا بالذات، تأسيسية وتتعرّض حالياً لإعادة السرد والتكوين.
لكن وفي خضمّ كل هذا، المبالغة في تقديس سجن صيدنايا، قد تحوّله إلى أداة سياسية (لا مأساة إنسانية -سورية) ذات أبعاد أديولوجية قائمة على مركزية الضحية الصيدناوية، والسخرية هنا ضرورية، خصوصاً أمام عبارات كـ”أين النسويات من المجاهدين الذين حرروا النساء من السجون”، أو “لم تستطع منظمات المجتمع المدني الدولية أن تُخرج معتقلاً واحداً”، هكذا عبارات تشي بنوع من الرغبة بحكم سوريا ضمن سردية “التحرير”، تقابلها السخرية التي يظن البعض أن الوقت ما زال باكراً عليها.
هذه الحساسية اتّضحت في ردود الفعل على منشور ساخر من أحمد الشرع، نشرته “شبكة الحدود”، وتحوّل إلى محط جدل نتيجة سوء قراءة النكتة (الشأن المباح للجميع طبعاً) التي تستهدف مماطلة السلطة القائمة في دمشق بخصوص قضية المعتقلين والعدالة الانتقالية، التي لم نشهد منها شيئاً إلى الآن، مماطلة لا بدّ من مواجهتها بالصراخ، الشتم، السخرية، وكل أشكال تجاوز عقلية “من يحرر يقرر”.
المثير للاستغراب، أن سجن صيدنايا، ومع التسارع المرعب وصل حد “الكيتش”، بوصفه اختزالاً رمزياً للسردية الوطنية بصورة تُفقدها قيمتها، “كيتش” نراه بوضوح، ومن دون مواربة، في أغنية “صيدنايا” لعدنان الجبوري، التي نُشرت في 23 كانون الثاني/ يناير 2025، أي بعد أقل من شهرين من سقوط النظام.
لا يمكن التعليق على الأغنية كونها تهدد التماسك العقلي لمن يستمع إليها ويشاهد الفيديو كليب، تضرب الملكات اللغوية والنقدية، لا بسبب تكرار حكاية “المكبس”، بل لأن سجن صيدنايا، تحوّل إلى Green screen خلفية رقمية يمكن وضع أي شيء أمامها، وفي هذه الحالة، الجبوري بشعره المصفف بإتقان، ووراءه صور للزنازين، متأملاً ما خطّته أصابع المعتقلين، كولاج غير متقن، تختلف فيه أبعاد الجدران وحجمها، عن حجم الجبوري صاحب أغنية “حرامي وعلى المستوى، أسرق لك روح الدوا”، ناهيك بأنه أحياناً لا يتطابق الغناء مع حركة شفاهه.
ربما هذا التنويع والتأمّل في حكاية صيدنايا ضروري الآن، كي لا تُحتكَر الحكاية الوطنية من قِبل أحد، حتى لو كان أساسها “المسلخ البشري”، الذي حسب أبو محمد، أحد الحراس السابقين في السجن: “يمثّل نهاية الحياة، ونهاية الإنسانية”.
درج