سوريا حرة إلى الأبد: مقالات وتحليلات 10 شباط 2025
حرية إلى الأبد: كل المقالات والتحليلات والحوارات التي تناولت انتصار الثورة السورية اعتبارا من 08 كانون الأول 2024، ملاحقة يومية دون توقف تجدها في الرابط التالي:
سقوط بشار الأسد، الرئيس الفار والمخلوع
————————————–
سوريا.. كيف نربط بين القضايا الديمقراطية والاجتماعية والاقتصادية لخدمة 99% من الشعب؟/ جوزيف ضاهر
10 شباط 2025
كان النظام السوري بعيداً جداً عن الاشتراكية، أو يفتقر إلى أيّة هوية اقتصادية، بل إنه في الواقع اتبع المسار النيوليبرالي بنجاح مع عواقب كارثية على الغالبية العظمى من السكان. واليوم يبدو أنّ هيئة تحرير الشام على استعدادٍ لاتباع المسار النيوليبرالي نفسه، ما سوف يعمّق التفاوتات الاجتماعية والاقتصادية الحاليّة، ويُؤهّب لاستمرار الإفقار وانعدام التنمية الإنتاجية، وهذه كانت بعض الأسباب الرئيسية لانتفاضة عام 2011، ما يعني أن الهيئة لا تمثل قطيعة مع النظام السابق بل استمرارٌ له.
الجزء الأول: الليبرالية الجديدة، في ظلّ نظام الأسد أو هيئة تحرير الشام، هي وصفةٌ لعدم المساواة الاجتماعية والاقتصادية.
بعد سقوط نظام الأسد، شهدت دمشق ديناميكيةً كبيرة من حيث زيارات العائدين والناشطين المنفيين والسوريين من مناطق أخرى، وخاصة من المناطق الشمالية الغربية، فضلاً عن المؤتمرات والاجتماعات التي نظمتها مختلف الجهات السياسية والاجتماعية والمنظمات غير الحكومية والناشطين والمثقفين. ومن المؤسف أن بقية البلاد لم تشهد المستوى نفسه من الديناميكية، سواءٌ أكان بسبب العزلة السياسية والاقتصادية المتزايدة ووقوعها في محيط البلاد، أم بسبب انعدام الأمن والسلم الأهلي. ومع ذلك، يتم تنظيم مبادراتٍ ومؤتمرات محلية بشكلٍ متزايد في مناطق خارج دمشق، وفقاً للقدرات المحلية وظروف كلّ منطقة.
لقد حظيتُ بشرف مشاهدة هذه الديناميكية في بداية العام، وخاصة في دمشق، أثناء زيارتي للسويداء وحلب، ومروري السريع بحمص. أتيحت لي فرصة المشاركة في اجتماعاتٍ عديدة، والمناقشة والتبادل مع كثيرٍ من الناشطين السياسيين والإعلاميين والنسويين والفاعلين السياسيين والسجناء السياسيين السابقين والطلاب والأفراد المشاركين في الجمعيات المحلية والعاملين في المنظمات غير الحكومية والمنظمات الدولية غير الحكومية، إلخ… القادمين من مناطق مختلفة من الجغرافيا السوريّة، بما فيها دمشق.
وقد أفادتني جميع هذه المناقشات والتبادلات. كان هدفي الرئيسي خلال هذه الفترة في سوريا هو الاستماع والرؤية والتعلّم من أجل فهمٍ أفضل لتعقيد الديناميكيات المختلفة داخل البلاد، دون التظاهر بامتلاك المعرفة الكاملة.
تركّزت المناقشات والحوارات على قضية المواطنة والديمقراطية والحوار الوطني أو المؤتمر الوطني وصيغته وحقوق المرأة والوضع الأمني في حمص والمناطق الساحلية وقضية السلم الأهلي والقضية الكردية والطائفية والسجناء والمختفين السياسيين، إلخ.. وبالمثل، ناقشنا الحكومة الجديدة لهيئة تحرير الشام وسياساتها وكيفية التعامل معها. وبغضّ النظر عن تنوّع الآراء حول كلّ هذه القضايا وحكومة هيئة تحرير الشام، فقد اتفقت الغالبية العظمى على ضرورة ضمان وتعزيز قدرة المجتمع المدني (ليس فقط المنظمات غير الحكومية ولكن في تعريفه الأوسع) على تنظيم نفسه وصياغة أحد أشكال القوّة المضادة داخل البلاد لمعارضة أيّة حكومة استبدادية محتملة في المستقبل. وتُظهر الإعلانات الأخيرة عن تعيين أحمد الشرع رئيساً مؤقتاً، ومسؤوليته عن تشكيل “مجلس تشريعي مؤقت”، بعد حلّ البرلمان وتجميد الدستور، رغبة هيئة تحرير الشام في الهيمنة السياسية على الانتقال السياسي السوري.
ومع ذلك، ظلّت القدرة والأدوات اللازمة لتعزيز هذه المشاركة من الأسفل في كثير من الأحيان سؤالاً مفتوحًا، خاصة في بلد عانى من دمار هائل ويعيش 90٪ من سكانه تحت خط الفقر. وهذا يقودني إلى القضية الرئيسية التي غابت إلى حدٍّ كبير عن المناقشات والمناظرات في سوريا: الاقتصاد والتوجّه الذي يجب اتباعه من أجل معالجة قضايا كالفقر والتفاوت الاجتماعي والاقتصادي والتنمية الإنتاجية للاقتصاد، وما إلى ذلك.. وبشكل عام، فإنّ التوجّه الاقتصادي للحكومة الحاكمة الجديدة لا تتمّ مناقشته أو مناقشته كثيراً، باستثناء مسألة شرعيتها لاتخاذ مثل هذه القرارات.
إنّ القدرة على تحسين الظروف الاجتماعية والاقتصادية في مستقبل البلاد أمرٌ بالغ الأهمية لتوسيع المشاركة بين الطبقات الشعبية والعمالية المحلية في المناقشات والنضالات من أجل الحقوق الديمقراطية في البلاد والقضايا المذكورة أعلاه. إنّ عدم قدرة قطاعات كبيرة من السكان على رؤية كيف سيتعاملون مع حياتهم اليومية، وتغطية احتياجاتهم الأساسية، وإيجاراتهم، والكهرباء، ورسوم المدارس، وما إلى ذلك.. يمنع إدماجهم ومشاركتهم في القضايا والنضالات الديمقراطية، التي تقتضي مصالحهم الشخصية أن ينجحوا فيها. تكمن خطورة هذا الوضع في أن تظل القضايا الديمقراطية محلّ مناقشة بين شرائح صغيرة من المجتمع، أي نخبوية.
في هذا الإطار، سأحاول في هذا المقال إظهار ضرورة ربط القضايا الديمقراطية والاجتماعية والاقتصادية لزيادة مشاركة قطاعات كبيرة من السكان من الأسفل. في القسم الأول، سأعود بإيجاز إلى التوجّه الاقتصادي النيوليبرالي لهيئة تحرير الشام في السلطة، وكيف أنه لا يمثّل قطيعة مع السياسات الاقتصادية للنظام السابق، بل هو استمرارٌ لها أو حتى تسريع. وسوف أعرض بعد ذلك المشروع السياسي والاقتصادي التاريخي لليبرالية الجديدة في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، وأحلّل التجارب الإقليمية المختلفة للسياسات النيوليبرالية في فترة ما بعد الحرب، لبنان والعراق كمثال، وعواقبها على الاقتصاد والسكان. وسوف يتناول القسم الأخير الحاجة إلى إعادة تنشيط النقابات العمالية والجمعيات المهنية، ودورها في تعزيز المطالب الديمقراطية والاجتماعية والاقتصادية، ولكن الأهمّ من ذلك هو نوع المطالب الفورية التي يمكن طرحها لمحاولة تحسين الاقتصاد وظروف المعيشة في الأمد القريب.
هيئة تحرير الشام، أو الليبرالية الجديدة الإسلامية
منذ وصول هيئة تحرير الشام إلى السلطة، أصدرت الحكومة الحالية عدّة تصريحات وقرارات تجاه السوق الحرة وإجراءات التقشف. وفي مناسباتٍ عديدة، وصف وزير الاقتصاد الجديد، التابع لهيئة تحرير الشام، التوجّه الاقتصادي النيوليبرالي للحكومة الجديدة، قائلاً على سبيل المثال “سننتقل من اقتصاد اشتراكي… إلى اقتصاد سوق حر يحترم الشريعة الإسلامية”. وبصرف النظر عن الخطأ الكامل في وصف النظام السابق بالاشتراكي، كما سنرى في النص، فإنّ التوجه الطبقي للوزير انعكس بوضوح في التأكيد على أنّ “القطاع الخاص… سيكون شريكاً ومساهماً فعالاً في بناء الاقتصاد السوري”. كما عقد زعيم هيئة تحرير الشام أحمد الشرع ووزير اقتصاده عدّة اجتماعات مع ممثلي هذه الغرف الاقتصادية ورجال الأعمال من مناطق مختلفة، لشرح رؤاهم الاقتصادية والاستماع إلى مظالمهم من أجل إرضاء مصالحهم. ولا تزال الغالبية العظمى من ممثلي الغرف الاقتصادية المختلفة للنظام القديم تشغل مناصبها.
وعلى النقيض من ذلك، لم تُنظّم السلطات الجديدة لقاءاتٍ مع العمال والفلاحين وموظفي الدولة، ولا مع النقابات أو الجمعيات المهنية، بشأن اقتصاد البلاد المستقبليّ، ولم تأتِ على ذِكره.
فضلاً عن ذلك، هناك علاماتٌ ملموسة على تسريع عملية الخصخصة وإجراءات التقشف في البلاد. قبل زيارته للمنتدى الاقتصادي العالمي في دافوس، الأشبه بمؤتمرٍ للمصالح المشتركة بين النخب الغربية والعالمية في ديناميكيات الرأسمالية الليبرالية الجديدة، قال وزير الخارجية السوري أسعد الشيباني لصحيفة فاينانشال تايمز إنّ الحكام الجدد يخططون لخصخصة الموانئ والمصانع المملوكة للدولة، بما في ذلك مصانع الزيوت والقطن والأثاث، ولدعوة الاستثمار الأجنبي وتعزيز التجارة الدولية. وأضاف أنّ الحكومة “ستستكشف الشراكات بين القطاعين العام والخاص لتشجيع الاستثمار في المطارات والسكك الحديدية والطرق”.
وعلى صعيد الإجراءات التقشفية، تم اتخاذ عدّة قرارات، بدءاً من زيادة سعر الخبز المدعوم من 400 ليرة سورية (وزن 1100 غرام) إلى 4000 ليرة سورية (وزن 1500 غرام)، والإعلان عن وقف دعم الخبز خلال شهر إلى شهرين تماشياً مع تحرير السوق وتقليص عدد موظفي الدولة في مختلف الوزارات عبر حملات الفصل. وأعلن وزير الاقتصاد والتجارة عن تسريح ربع القوى العاملة في الدولة، أيّ الموظفين الذين يتقاضون راتباً ولا يعملون، بحسب الحكومة الجديدة. ومنذ ذلك الحين، لا توجد تقديرات لعدد الموظفين المفصولين، بعضهم حالياً في إجازة مدفوعة الأجر لمدّة ثلاثة أشهر، للبتّ في وضعهم، سواء أكانوا يعملون أم لا. وعلى إثر هذا القرار، اندلعت احتجاجات العمال المفصولين أو الموقوفين مؤقتاً في مختلف أنحاء البلاد، ولا تزال مستمرة حتى اليوم.
ورغم الإعلان عن رفع أجور العمال بنسبة 400% لشهر شباط 2025، ليصبح الحدّ الأدنى للأجور 1,123,560 ليرة سورية (حوالي 86 دولاراً)، وهي خطوة في الاتجاه الصحيح، إلا أنها لا تزال غير كافية لتغطية احتياجات الناس خلال أزمة غلاء المعيشة المستمرة، وبحسب تقديرات صحيفة قاسيون، بلغ الحد الأدنى لتكاليف المعيشة لأسرة سورية مكونة من خمسة أفراد تعيش في دمشق 9 ملايين ليرة سورية (حوالي 692 دولاراً ).
إلى جانب التدابير والقرارات الأخرى للسيطرة على مؤسسات الدولة، وخاصة الجيش والأجهزة الأمنية، فإنّ السياسات الاقتصادية لهيئة تحرير الشام هي جزءٌ من خطة أوسع لتعزيز قوتها. وفي هذا الإطار، تحاول هيئة تحرير الشام أيضًا تهدئة المخاوف الأجنبية، وإقامة اتصالات مع القوى الإقليمية والدولية، والاعتراف بها كقوّة شرعية يمكن التفاوض معها. إنّ تغيير العواصم الإقليمية والدولية لسلوكها تجاه هيئة تحرير الشام واضحٌ بالفعل، ولا سيما من خلال رفع العقوبات أو تعليقها مؤقتًا من قبل الدول الغربية. من الواضح أن أنقرة هي الفاعل السياسي والعسكري الرئيسي في سوريا الجديدة. من خلال تقديم دعمها لهيئة تحرير الشام، تعمل أنقرة على تعزيز سلطتها على سوريا. إلى جانب الأهداف السياسية الأخرى، كتنفيذ عمليات العودة القسرية للاجئين السوريين، وإنكار التطلعات الكردية للحكم الذاتي، وبشكل أكثر تحديداً تقويض الإدارة الذاتية لشمال وشرق سوريا، تريد تركيا الاستفادة من الفرص الاقتصادية المستقبلية خلال مرحلة إعادة الإعمار في سوريا، لتجعلها بعد ذلك سوقَ تصديرٍ رئيسية للمنتجات التركية.
كما قامت وفود رجال الأعمال الأتراك بالفعل بزيارات إلى غرف التجارة والصناعة المختلفة في سوريا للاطلاع على فرص الاستثمار المحتملة. وفي نهاية يناير/ كانون الثاني 2025، خفضت دمشق الرسوم الجمركية على أكثر من 260 منتجاً تركياً، بعد أن رفعت الحكومة السورية الرسوم الجمركية على الواردات التركية بنسبة تصل إلى 300 في المئة، بهدف توحيد الأسعار عبر حدودها. وبشكل عام، اكتسبت التجارة بين تركيا وسوريا زخماً كبيراً في بداية عام 2025، حيث زادت الصادرات التركية إلى سوريا بنسبة 35.5 في المئة على أساس سنوي، لتصل إلى 219 مليون دولاراً اعتباراً من 25 يناير/ كانون الثاني، وفقًا لوزير التجارة التركي عمر بولات. وبالإضافة إلى ذلك، اتفق المسؤولون السوريون والأتراك على بدء مفاوضاتٍ لإحياء اتفاقية التجارة الحرة بين تركيا وسوريا، الموقّعة في عام 2005، والتي تمّ تعليقها في عام 2011، مع فهم أوسع للشراكة الاقتصادية. وهذا من شأنه أن يؤثر على الإنتاج الوطني السوري الذي لا يستطيع منافسة المنتجات التركية. وللتذكير، فإنّ اتفاقية التجارة الحرة بين تركيا وسوريا في عام 2005 وما نتج عنها من استيراد هائل للمنتجات التركية لعبت دوراً سلبياً في تهجير الموارد الإنتاجية وإغلاق العديد من مصانع التصنيع المحلية، وخاصة تلك الواقعة في ضواحي المدن الرئيسية.
وعلى نحوٍ مماثل، من المرجح أن تلعب قطر دوراً رئيسياً كركيزة اقتصادية. ففي نهاية يناير/كانون الثاني 2025، كان أمير قطر تميم بن حمد آل ثاني أول رئيس دولة يزور سوريا بعد سقوط الأسد. وأعلن رئيس الوزراء القطري محمد بن عبد الرحمن آل ثاني، الذي زار دمشق في منتصف يناير/كانون الثاني، أن بلاده ستزوّد سوريا بـ 200 ميغاواط من الكهرباء وتزيد الإنتاج تدريجياً. ولا يزال هذا الأمر ينتظر التنفيذ. وعلاوة على ذلك، كانت هناك شائعات بأن الدوحة قد تموّل أيضاً زيادة أجور القطاع العام التي تقرّرها السلطة السورية الجديدة.
وبالتالي، يحاول الطرفان الفاعلان، تركيا وقطر، بالفعل تقديم أشكال مختلفة من المساعدة (السياسية والعسكرية والاقتصادية) للحكومة الجديدة في دمشق.
وفي الوقت نفسه، يعمل الشرع على بناء علاقات مع دول عربية أخرى. على سبيل المثال، أشادت هيئة تحرير الشام بخطط التنمية الطموحة للمملكة العربية السعودية، في إشارة إلى مشروعها رؤية 2030، وأعربت عن تفاؤلها بالتعاون المستقبلي بين دمشق والرياض. بالإضافة إلى ذلك، تم مؤخراً إبرام عقد بين شركة أسمنت الجوف ومقرها السعودية وشركة محمد شاهي الرويلي للمقاولات لتصدير الأسمنت والكلنكر إلى سوريا بقيمة حوالي 10.1 مليون دولار.
وعلى رغم أنّ مسؤولي هيئة تحرير الشام روّجوا لهذه السياسات التحريرية وتدابير التقشف مع “العصر الاشتراكي” لنظام الأسد، إلا أنّ هذا الأمر في الواقع يشكل استمراريةً للسياسات الاقتصادية للنظام السابق وتسريعاً لبعض عملياته.
وكما أوضحنا في مقالات سابقة، ففي حين أنهى حافظ الأسد السياسات الاجتماعية الجذرية التي انتهجها حزب البعث في نهاية الستينيات، شهدت سوريا تحت حكم بشار الأسد تسارعاً في السياسات النيوليبرالية. ولم يؤدِ اندلاع الثورة إلا إلى تكثيف السياسات والتوجّهات النيوليبرالية التي تبناها النظام السوري قبل الحرب، إلى جانب تعميق إجراءات التقشف، وتعزيز الجوانب الاستبدادية والوصائية للنظام. وقد ساهمت هذه السياسات في توسيع ديناميكيات وممارسات الفساد في البلاد.
وقد تجسّد هذا التوجّه والأولوية للقطاع الخاص في فبراير/شباط 2016 بإعلان الحكومة السورية عن “الشراكة الوطنية”، وهي استراتيجية اقتصادية سياسية جديدة حلّتْ محل “اقتصاد السوق الاجتماعي” السابق الذي تأسّس في عام 2005. ومن الجوانب الأساسية للاستراتيجية الجديدة قانون “الشراكات بين القطاعين العام والخاص” الذي صدر في يناير/كانون الثاني 2016، بعد ست سنوات من صياغته، والذي يخوّل القطاع الخاص بإدارة وتطوير أصول الدولة في جميع قطاعات الاقتصاد كمساهم/مالك أغلبية، باستثناء استخراج قطاع النفط.[1] وأعلن وزير الاقتصاد والتجارة الخارجية السابق همام الجزائري أنّ القانون أنشأ “إطاراً قانونياً لتنظيم العلاقات بين القطاعين العام والخاص ويلبي الاحتياجات الاقتصادية والاجتماعية المتزايدة في سوريا، وخاصة في مجال إعادة الإعمار”، مع توفير الفرصة للقطاع الخاص “للمساهمة في التنمية الاقتصادية كشريك رئيسي وفعال، والمساعدة أيضاً في تطوير القطاع العام من خلال العلاقات التعاقدية المحدودة زمنياً مع القطاع الخاص”.
ولقد اتبعت الحكومات السورية المتعاقبة سياسات التحرير والخصخصة، بما في ذلك شركات الدولة التي تراكم الأرباح مثل تحرير تجارة التبغ الذي أعلن عنه في مايو/أيار 2024 أو التعاقد مع شركة خاصة لإدارة الخطوط الجوية السورية في يوليو/تموز 2024. وبالإضافة إلى ذلك، أعلنت دمشق في أكتوبر/تشرين الأول 2024 عن اتفاق لخصخصة إنتاج لوحات السيارات قبل بدء حملة لإجبار أصحاب المركبات على تحديث لوحات سياراتهم بلوحات مصمّمة حديثًا. كما تم إبرام مشاريع شراكة أخرى بين القطاعين العام والخاص، وخاصة في صناعة الأسمنت والجرارات والبطاريات والأدوية.
تؤدّي عملية الخصخصة هذه إلى تعزيز نفوذ رجال الأعمال التابعين للنظام وسيطرتهم على السلع العامة، على حساب مصالح الدولة والعامة. وبالتالي، تعمل هذه السياسات الاقتصادية على تجديد استراتيجيات تراكم رأس المال الخاص التي تعود إلى ما قبل عام 2011، وفي الوقت نفسه تجديد وتعزيز استبداد النظام وسلطته الأبوية.
في نوفمبر/ تشرين الثاني 2024، قال وزير الصناعة في النظام السابق، محمد سامر الخليل: إنّ هناك خسائر ضخمةً في عدد كبير من الشركات والمؤسسات والمصانع التابعة للوزارة، مما يثقل كاهل خزينة الدولة. ولإيجاد حل لهذه المشكلة، دعا إلى بيع هذه الشركات للقطاع الخاص. كذلك شجع رئيس الوزراء محمد غازي الجلالي في الواقع عملية سياسة الخصخصة المستمرة لأصول الدولة.
وقد شمل استعداد النظام السابق لخصخصة الاقتصاد بشكل أكبر أيضًا قطاعاتٍ اجتماعية رئيسية، كنظام الصحة والتعليم، وفي قطاع الطاقة، حيث اتُّخذتْ خطواتٌ فعلية مماثلة لمزيدٍ من الخصخصة.
في هذا الإطار، ولترسيخ هذه الديناميكيات، عمدت الحكومة أيضًا إلى تعميق إجراءات التقشف وخفض سياسات الدعم، من خلال زيادة أسعار النفط والديزل والكهرباء والخبز بشكل مستمر في السنوات القليلة الماضية، مع تقليص الكمية المدعومة المقدمة. وعلاوة على ذلك، استبعدت دمشق أيضًا حوالي 600 ألف أسرة من برنامج الدعم الخاص بها في فبراير/شباط 2022. لذلك كان النظام السوري بعيداً جداً عن الاشتراكية، أو يفتقر إلى أيّة هوية اقتصادية، بل إنه في الواقع اتبع المسار النيوليبرالي بنجاح مع عواقب كارثية على الغالبية العظمى من السكان. في نهاية المطاف، تشترك هيئة تحرير الشام في هذا التحليل وهي على استعداد لاتباع المسار النيوليبرالي، ما سوف يعمّق التفاوتات الاجتماعية والاقتصادية الحاليّة، ويُؤهّب لاستمرار الإفقار وانعدام التنمية الإنتاجية، وهذه كانت بعض الأسباب الرئيسية لانتفاضة عام 2011. في هذا الإطار، لا تمثل هيئة تحرير الشام قطيعةً مع النظام السابق بل هي استمرارٌ له.
الليبرالية الجديدة في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا
من بين جميع المناطق التي يطلق عليها “الجنوب العالمي”، فإنّ منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا هي أكثرها معاناةً من أزمة التنمية الأكثر حدة. فبعد ستينيات القرن العشرين، حيث كانت أغلب اقتصادات المنطقة خاضعة لسيطرة القطاع العام من منظور تنمية الدولة، شهدت السبعينيات تدشيناً وتوسيعاً تدريجيّاً لما يسمّى بسياسات “الانفتاح”. وبالتالي، كانت بعض البلدان في المنطقة، ومصر على وجه الخصوص، رائدةً في “برامج التكيّف الهيكلي” التي فرضت في جميع أنحاء العالم، منذ ثمانينيات القرن العشرين فصاعداً، كجزءٍ من التحرير النيوليبرالي. ومنذ ثمانينيات القرن العشرين، تبنّتْ غالبيةٌ من دول منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا نموذجاً نيوليبرالياً يركّز على الاستثمار المضاربي بحثاً عن أرباح قصيرة الأجل في القطاعات غير المنتجة في الاقتصاد، وخصوصاً في العقارات والتمويل والتجارة.
إنّ الليبرالية الجديدة تنظيمٌ خاص للرأسمالية لضمان الظروف لإعادة إنتاج الرأسمالية على نطاق عالمي، وكجزءٍ من هجوم الطبقة الحاكمة، الذي مرّ بفترات ركودٍ في السبعينيات والثمانينيات، وأدى إلى إعادة هيكلة وتوليد أشكال جديدة وموسّعة من التراكم الرأسمالي.
لقد أصبحت هذه السّماتُ إقليمية بشكل تدريجي في أعقاب أزمة الأنظمة القومية العربية منذ السبعينيات، التي دفعتها إلى التخلّي عن سياساتها الاجتماعية السابقة، (كالسيطرة المحلية على الصناعة، ودعم التعليم، ودعم السلع الأساسية، وسيطرة الدولة على الأراضي والموارد الأخرى)، وعملت بشكل متزايد على تغيير سياساتها الخارجية لسببين رئيسيين: الأول أنها عانت من الهزيمة على يد إسرائيل، والثاني أنها بدأت أساليبها الرأسمالية في التنمية في الركود. ونتيجة لذلك، اختارت التقارب مع الدول الغربية وحلفائها في الخليج وتبنت الليبرالية الجديدة، وتراجعت عن العديد من الإصلاحات الاجتماعية التي أكسبتْها شعبيةً بين العمال والفلاحين.
وعلى مساراتٍ مختلفة، بدأت خصخصة السلع العامة في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا مع السياسات النيوليبرالية في أوائل التسعينيات، وخاصة في القطاعات الصناعية والعقارية والمالية. كما بدأت المؤسسات المالية الدولية في الترويج للشراكات بين القطاعين العام والخاص في الدول الإقليمية، واتّبعت الطريقة نفسها في مختلف أنحاء العالم كأداة جديدة للخصخصة وإدارة السلع العامة من قِبَل كيانات خاصة. وقد تبنت دولٌ عديدة في الشرق الأوسط بالفعل تشريعات الشراكة بين القطاعين العام والخاص من أجل مضاعفة خصخصة الخدمات العامة والبنية الأساسية للدولة. وفي المملكة العربية السعودية، أصبحت الشراكات بين القطاعين العام والخاص عنصراً أساسيا في الاستراتيجية الاقتصادية والسياسية لرؤية 2030 التي روّج لها الأمير محمد بن سلمان. ويوضح برنامج التحوّل الوطني 2020، الذي قدّم بعد رؤية 2030، السياسات الاقتصادية لفريق القيادة السعودي الجديد، ويضع رأس المال الخاص في مركز الاقتصاد السعودي المستقبلي. وقد أعلنت الحكومة السعودية عن خططها لتنظيم الشراكات بين القطاعين العام والخاص للعديد من الخدمات الحكومية، بما في ذلك قطاعاتٌ مثل التعليم والإسكان والصحة. ووصفت صحيفة “فاينانشيال تايمز” الخطط بأنها “ثاتشرية سعودية”، وهي الخطة الاقتصادية التي أشاد بها مسؤولون في هيئة تحرير الشام، ومنهم أحمد الشرع.
وفي الوقت نفسه، أبقت الدول الضرائب المفروضة على الشركات الأجنبية والمحلية منخفضة، وضمنت لها العمالة الرخيصة. لقد عملت أجهزة القمع التابعة للأنظمة كـ “عملاء أمن” يحمون مصالح هذه الشركات ويتخذون إجراءات صارمة ضد العمال والفلاحين والفقراء. لقد خفضت الدول الخدمات العامة، وألغت الدعم عن الضروريات الأساسية مثل الغذاء، وخصخصت الصناعة الحكومية التي تبيعها غالبًا لرجال الأعمال المرتبطين بمراكز السلطة السياسية. ونتيجة لذلك، تتميّز جميع بلدان المنطقة بعدم المساواة الطبقية الشديد، ومعدلات الفقر المرتفعة، والعمالة غير الرسمية المرتفعة (المجرّدة من حقوق الحماية التي يمنحها العمل، حتى المحدودة منها) والبطالة المرتفعة، وخاصة بين الشباب. لذلك يغادر المتعلّمون وذوو المهارات القيّمة بلدانهم بحثًا عن فرص عملٍ في أماكن أخرى. وفي حالة ممالك الخليج، تعتمد اقتصاداتها على العمال المهاجرين المؤقتين الذين يشكلون غالبية السكان العاملين وهم محرومون من الحقوق السياسية والعمالية والمدنية. تُعدّ نسبة العمال المهاجرين في ممالك الخليج من بين أعلى النسب في العالم بمتوسط 70.4 في المئة، وتتراوح من 56 إلى 93 في المئة للدول.
إن عملية الإصلاحات النيوليبرالية المصحوبة بالخصخصة وتدابير التقشف لم تعنِ تراجع الدولة، بل إعادة نشرها بطرق تعدّل الحكم الاستبدادي. لقد أدت هذه السياسات النيوليبرالية في الواقع إلى مرحلة جديدة من “الاستبداد المتطور”.
ولذلك فإنّ اندلاع الانتفاضات الشعبية في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في عام 2011 لم يكن نتيجة للأزمة الاقتصادية العالمية في عام 2008. لا شك أنّ الركود العظيم ساعد في إشعال فتيلها، لكن المنطقة تعاني من مشاكل هيكليّةٍ أعمق مقارنة ببقية النظام العالمي. يركز هذا النمط من الإنتاج الرأسمالي على استخراج النفط والغاز الطبيعي، وتخلف القطاعات الإنتاجية، والإفراط في تطوير الخدمات، وتغذية أشكال مختلفة من الاستثمار المضاربي وخاصة في العقارات.
إن منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا اليوم هي المنطقة الأكثر تفاوتاً في العالم. فقد وجدت دراسة قامت بقياس مدى وتطوّر تركيز الدخل في المنطقة بين عامي 1990 و2016 أنّ 64% من إجمالي الدخل ذهب إلى أعلى 10% من أصحاب الدخل، مقارنة بـ 37% في أوروبا الغربية، و47% في الولايات المتحدة، و55% في البرازيل. وفي الوقت نفسه، لم يتلقَّ أدنى 50% من سكان المنطقة سوى 9% من إجمالي الدخل، مقارنة بـ 18% في أوروبا.
علاوة على ذلك، دعونا نرى كيف أثرت السياسات النيوليبرالية في مختلف البلدان الإقليمية التي مرّت بفترة ما بعد الصراع على اقتصاداتها وسكانها المحليين، وعمّقت في كثير من الأحيان ديناميكيات ما قبل الحرب كما حدث في سوريا.
إنّ جذور الأزمة المالية التي شهدها لبنان في عام 2019، على سبيل المثال، تكمن في الاقتصاد السياسي للبلاد والطريقة التي تطوّر بها منذ نهاية الحرب الأهلية اللبنانية، حيث كان هناك تركيز ثابت على التكامل الأعمق في الاقتصاد العالمي، وبما يماثله على نمو القطاع الخاص. وقد عزّزت هذه السياسات النيوليبرالية بعض السمات التاريخية للاقتصاد اللبناني: نموذج التنمية الذي يركز على النظام المالي والعقارات والخدمات، حيث أصبحت التفاوتات الاجتماعية والفوارق الإقليمية واضحة. وقد أدّت هذه السياسات إلى تفاقم التفاوتات المكانية والاجتماعية في لبنان وترتبط ارتباطًا وثيقًا بالطبيعة المالية الشديدة للاقتصاد السياسي في البلاد، وتهميش قطاعات مهمة مثل الزراعة والصناعة. وقد استفادت النخب الاقتصادية والسياسية الطائفية أكثر من غيرها من هذه السياسات، من خلال مخطّطات الخصخصة المختلفة ومن خلال التخصيص الزبائني للعقود الحكومية أيضًا.
في العراق، وبعد احتلال القوات الأميركية والبريطانية للبلاد، قامت هذه التحالفات بخصخصة الجزء الأعظم من اقتصاد البلاد وتسليمه إلى الشركات الأجنبية باسم إعادة الإعمار. وخلال الأشهر الثلاثة عشر التي قضاها في السلطة، أصدر بول بريمر، المدير المدني لسلطة التحالف المؤقتة التي عيّنتها إدارة بوش، نحو مئة أمر من أوامر سلطة التحالف، بما في ذلك الأمر رقم 394، الذي تعامل مع الاستثمارات الأجنبية. ولعب هذا الأمر دوراً رئيسياً في المسيرة القسرية للعراق نحو اقتصاد ليبرالي جديد، حيث سمح للمستثمرين الأجانب بالتمتّع بذات الحقوق التي يتمتّع بها العراقيون في تطوير السوق الوطنية، في حين خصخص القطاع العام العراقي بأكمله. وعلى هذا فقد تأثرت نحو 200 شركة وطنية: السكك الحديدية، والكهرباء، وإمدادات المياه والصرف الصحي (البنية الأساسية التي دمرها التحالف البريطاني الأميركي في معظمها)، والتلفزيون والإذاعة، والمستشفيات (التي كانت مجانية في السابق)، وخدمة الهاتف، والمطارات، إلخ.. كما تسمح الإصلاحات بملكية أجنبية تصل إلى 100% من الشركات العراقية، باستثناء صناعة النفط والبنوك التعدينية وشركات التأمين. وتضمنت هذه الإصلاحات الحفاظ على ضريبة الشركات بمعدل منخفض يبلغ 15%، وخصخصة المرافق المملوكة للدولة العراقية ومنح المقاولين الأجانب الحصانة من التشريعات العراقية، بما في ذلك شركات الأمن الخاصة. وقد اتبعت الطبقة الحاكمة العراقية هذه السياسات بعد ذلك. كما كانت الزراعة في العراق واحدة من القطاعات التي تأثرت عميقاً بالإصلاحات التي أعقبت الغزو، فقبل عام 2003، كان العراق مكتفياً ذاتياً زراعياً. وحتى عام 2002 ظل مكتفياً ذاتياً بالفاكهة والخضروات. وقد طوّر المزارعون في العراق صناعة بذور ذاتية التشغيل خاضعة لسيطرة مركزية عبر تقاسم البذور من خلال المزارعين. بعد غزو العراق عام 2003، تم تدمير النظام الزراعي ولم يعد هناك بنكٌ للبذور الوطنية. وبحلول عام 2005، لم يكن سوى 4% من الزراعة في العراق تُزرع من بذورها الخاصة. وبعد ذلك، سعت الحكومات العراقية المتعاقبة إلى تنفيذ مشروع التحوّل النيوليبرالي للبلاد. وكانت السياسات النيوليبرالية، المصحوبة بالفساد المستشري والمحسوبية، بكل ما للمحسوبية من آثار مدمرة على المجتمع العراقي.
وبشكل عام، وكما هو الحال في سوريا، اغتنم عددٌ من البلدان الخارجة من الحروب، و/أو الأزمات الشديدة، الفرصة لمواصلة و/أو تعميق التحرير الاقتصادي، غالباً بمساعدة المؤسسات المالية الدولية. ولا ينبغي اعتبار هذه السياسات مجرّد سياسات “تكنوقراطية”، بل إنها محاولات لإعادة الهيكلة ودفع التغييرات إلى الأمام بطرق كانت مغلقة في السابق، وتوسيع نطاق السوق بشكلٍ كبير في مجموعة من القطاعات الاقتصادية التي كانت حتى الآن خاضعة لسيطرة الدولة إلى حد كبير.
لقد أهمل العديد من الاقتصاديين، والسياسيين ومنافذ المنظمات غير الحكومية والتقارير ذات التوجّه الليبرالي، تأثيرات الديناميكيات الاقتصادية النيوليبرالية في سوريا ومنطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا على نطاق أوسع، وركزوا على النفوذ المتزايد المستمر لرأسماليي المحسوبية والمستويات العالية من الفساد لتفسير أوجه القصور الاقتصادية و/أو الأزمة والتوزيع غير المتكافئ للثروة. وفي الوقت نفسه، يجب تحدّي مفهوم “عملية للديمقراطية” الذي تدعمه المؤسسات النقدية الدولية في إطار “الإصلاحات” و”سياسات الحكم الرشيد” من أجل تعزيز السياسات النيوليبرالية. وكما سنرى، فإنّ هذه الإصلاحات الليبرالية الجديدة أدّت، من ناحية أخرى، إلى تعزيز الاستبداد والطابع الميراثي لدول المنطقة.
وعلى رغم أنّ المساءلة والشفافية الاقتصادية تشكلان ضرورة، فإن فشل الهياكل والسياسات الاقتصادية للأنظمة الإقليمية في توليد النمو المستدام والطويل الأجل، إلى جانب انخفاض مستويات الاستثمار العام في القطاعات الإنتاجية للاقتصاد، هي السبب الرئيسي وراء الوضع الاقتصادي في المنطقة. ويشمل هذا سوريا إلى جانب عناصر أخرى مثل العقوبات وآثار الحرب. وبعبارة أخرى، كانت التنمية الاقتصادية الإقليمية، ولا تزال، معوقة في كثير من النواحي، بسبب نمط الإنتاج: الرأسمالية المضاربية والتجارية التي تتميّز بالسعي إلى الربح في الأمد القريب.
الجزء الثاني: التعبئة من الأسفل والمطالب الاقتصادية الفورية
لقد جلب سقوط نظام الأسد تغييراتٍ على مستوى النخب السياسية الحاكمة والمؤسسات العسكرية الرئيسية (الجيش والأجهزة الأمنية)، لكنه لم يغيّر كما شرحنا أعلاه النظام النيوليبرالي لتراكم رأس المال ونمط الإنتاج نفسه. وفي حين أنّ نهاية سلالة الأسد هي انتصار كبير، فإن المشاكل في سوريا لم تقتصر أبدًا على النظام السياسي الاستبدادي، بل على شكله الخاص من الرأسمالية مما أدى إلى عدم المساواة الاجتماعية والاقتصادية والإفقار وغياب التنمية الإنتاجية.
في هذا الإطار، تشكّل القضية الاجتماعية والاقتصادية مفتاحاً لمستقبل سوريا الديمقراطي. ومع ذلك، فإنّ التوجه الاقتصادي لهيئة تحرير الشام يعيد إنتاج ديناميكيات اقتصادية نيوليبرالية، كما يعيد إنتاج أشكال الاستبداد والقمع بالفعل، وإن كان على مستوى أدنى، حيث لا تزال تعزّز حكمها على المجتمع. كيف يمكن تحدي هذا على المدى القصير؟
أولاً، علينا رؤيةُ الأدوات التي يجب استخدامها، ثم ما هي المطالب الفورية التي يجب تعزيزها بناءً على المستوى الحالي من التعبئة.
دور النقابات العمالية والجمعيات المهنية في بناء قوة مضادة للنخب الحاكمة
من أجل تعزيز المشاركة الديمقراطية من الأسفل وتعزيز القضايا الاجتماعية والاقتصادية في طليعة المناقشات الوطنية بين الطبقات العاملة والشعبية في البلاد، فإنّ إعادة تنشيط دور النقابات العمالية والجمعيات المهنية يعد أداة حاسمة لتحقيق هذا الهدف.
إن القمع التاريخي الذي مارسه النظام السوري في العقود الماضية على النقابيين العماليين المناضلين والجهات السياسية اليسارية التي تروّج لمصالح الطبقة العاملة، إلى جانب السياسات التي تسيطر على الاتحاد العام لنقابات العمال والجمعيات المهنية وتستغلها، أعاق بشدة أيّة تعبئة عمالية محتملة وأيّ عملٍ جماعي، وخاصة بعد اندلاع الانتفاضة في مارس/ أذار 2011. لقد عمل الاتحاد العام لنقابات العمال كأداة للسيطرة والقمع في يد النظام، ودافع عن سياساته على حساب مصالح قطاعات كبيرة من الطبقات العاملة.
إنّ بناء منظمات عمالية جماهيرية مستقلة وديمقراطية في المستقبل في سوريا أمرٌ ضروري لتحسين ظروف معيشة وعمل السكان والنضال من أجل الحقوق الديمقراطية بشكلٍ عام. كانت الإضرابات والعمل الجماعي من قبل العمال والعاطلين عن العمل عوامل رئيسية في الإطاحة برؤساء الدول في تونس ومصر في عام 2011 وعلى نحو مماثل في السودان في عام 2019. أظهرت أمثلة الحركات الاحتجاجية التي قادها الاتحاد العام التونسي للشغل (المعروف باسمه المختصر والجمعيات المهنية في الانتفاضات في تونس والسودان أهمية التنظيم النقابي الجماهيري في تعزيز النضال الشعبي الفعال.
إنّ الخطوة الأولى لتنشيط النقابات العمالية والجمعيات المهنية في سوريا هي المطالبة بانتخابات حرة وديمقراطية داخلها. على سبيل المثال، أطلق محامون سوريون عريضة تطالب بانتخابات نقابية حرّة بعد أن عيّنت السلطات الجديدة مجلسًا نقابيًا غير منتخب. يجب اتخاذ مثل هذه المبادرات في جميع النقابات العمالية والجمعيات المهنية وداخل الاتحادات.
وعلى نحو مماثل، تشكل الدعاية والأنشطة التي تشجّع وتروّج للتنظيم الذاتي للعمال في أماكن عملهم أهمية بالغة. ومن هذا المنظور، يشكّل الحق في التنظيم النقابي والتنظيم الجماعي للعمال في القطاعين الخاص والعام قضايا أساسية للسيطرة على أماكن عملهم وتنظيمها ديمقراطياً وتوسيع نطاق حقوقهم الديمقراطية والاجتماعية، مثل زيادة الرواتب، والمعاشات التقاعدية، والتأمين الصحي أو تحسين ظروف العمل. كما يسمح توسيع نطاق السيطرة الشعبية، والحقوق الديمقراطية للعمال والطبقات الشعبية، برفض السياسات الحكومية التي تتعارض مع مصالحهم. وينبغي للعمال في إداراتهم ومؤسساتهم، بقطاعيها العام والخاص، أن يتمكنوا أيضاً من التحكّم في اختيار الأشخاص استناداً إلى معايير فنية للمؤهّلات المهنية وللخبرة ولصالح العمال وليس على أساس الزبائنية والمحسوبية والفساد من الأعلى. على سبيل المثال، تمّ تنظيم العديد من الاحتجاجات خلال الأسابيع القليلة الماضية في العديد من المحافظات السورية، بما في ذلك طرطوس ودمشق ودرعا والسويداء، حول قضايا مثل معارضة بعض الترشيحات التي قدمتها السلطات الجديدة في إدارات معينة، أو فصل موظفي الدولة وإيقافهم مؤقتاً عن العمل، أو تأخير دفع الرواتب.
إنّ الحق في التنظيم الجماعي الحرّ يشكل في الواقع ضمانة لتوفير الأدوات اللازمة للحفاظ على المناخ والإطار الديمقراطي. وفي الواقع، يمكن في كثير من الأحيان خوض معركة الديمقراطية بفعالية أكبر في أماكن العمل، وفي المجتمعات، وفي المدارس، وفي الشوارع… إنّ المبادرات الديمقراطية التي تسعى إلى تطوير المشاركة من الأسفل هي دائما موضع ترحيب. على سبيل المثال، في غياب الوضوح بشأن المؤتمر الوطني المستقبلي الذي تنظمه هيئة تحرير الشام، فإن دعوة التجمع المدني في جرمانا لعقد مؤتمر حوار وطني على مستوى مدينة جرمانا بمشاركة الجهات الفاعلة والمجموعات المحلية ومحاكاة مثل هذه المبادرة في جميع أنحاء البلاد هي مبادرة جيدة وملهمة لتعزيز المناقشات والديمقراطية من الأسفل.
ما هي المطالب الاقتصادية العاجلة؟
إنّ إعادة تفعيل النقابات والجمعيات المهنية في المجتمع هي أداة لتعبئة العمال وتشجيعهم على تنظيم أنفسهم. وبالإضافة إلى ذلك، يمكن طرح بعض المطالب العاجلة لجذب مصالح قطاعات كبيرة من السكان من أجل تعبئتهم. وبناءً على المستوى المنخفض الحالي للتنظيم بين العمال والطبقات الشعبية، يجب أن تستهدف المطالب جميعَ التدابير المؤدية إلى المزيد من تدهور ظروف العمل والمعيشة وتقويض دور الدولة وخدماتها بشكل أكبر، فضلاً عن العمليات المرتبطة بشبكات الفساد وتبييض سمعة رجال الأعمال المرتبطين سابقًا بالقصر الجمهوري.
تدقيق في النفقات العامة للدولة وطريقة عملها
لا بدّ من تقييم أعداد الموظفين وتنظيم الوزارات للشركات التابعة للدولة وتأثيرها الاجتماعي والاقتصادي على المجتمع، وتقييم تكلفة الدعم ومزاياه وعيوبه الاجتماعية والاقتصادية، إلخ… وهذا أمر ضروري على ثلاثة مستويات رئيسية:
١- الدفاع عن الخدمات العامة للدولة وحقوق العمال وتجميد جميع عمليات الفصل أو الإيقاف المؤقت للعمال. فمثلا لم يشرح وزير المالية الحالي محمد أبازيد منهجيته أو مبرراته لتحديد مئات الآلاف من هؤلاء الموظفين الوهميين. وفي الوقت نفسه، تفتقر بعض الوزارات مثل التعليم والصحة إلى الموظفين وتحتاج إلى استثمارات.
2- وبالمثل، إلى أن يتم إنهاء التدقيق العام، يجب إيقاف جميع تدابير التقشف والعمليات الرامية إلى إنهاء الدعم، من أجل تقييم النفقات العامة للدولة وتأثيراتها الاجتماعية والاقتصادية، فإنهاء الدعم لا يمكن أن يقتصر على توفير المال العام، خاصة وأن التعويضات الاجتماعية لا تأخذ في الاعتبار العواقب البنيوية على الاقتصاد والمجتمع.
3- عدم خصخصة شركات الدولة وأصولها إلا بعد انتهاء عملية التدقيق وانتخاب حكومات ديمقراطية، فهذه القرارات لا تقتصر على العواقب الاقتصادية فقط بل تؤثر على سيادة الدولة وخاصة فيما يتعلق بالموانئ والمطارات والبنى التحتية الرئيسية، فضلاً عن الآثار الاجتماعية والاقتصادية من خلال زيادة تكلفة المعيشة أذا ما تمّت خصخصة الخدمات الاجتماعية اللازمة. بالإضافة إلى ذلك فإن خصخصة شركات الدولة تؤثر أيضاً على ظروف عمل العمال. وبشكل عام فإن قوانين العمل التي تنظم التوظيف العام للدولة (قانون العمل رقم 50 لسنة 2004) أكثر ملاءمة من قوانين العمل التي تنظم القطاع الخاص من حيث الرواتب والحوافز، بما في ذلك بدلات الوجبات والنقل المجاني والتأمين الصحي والاجتماعي والمعاشات التقاعدية ومعدات الحماية الشخصية.
تدقيق الدين العام، سواء الداخلي أو الخارجي. فقد أعلن وزير الخارجية السوري أسعد الشيباني أن الدولة تحمل 30 مليار دولاراً من الديون لحلفاء الأسد السابقين إيران وروسيا. إن تغيير النظام في سوريا لا ينفي المسؤولية القانونية للدولة السورية فيما يتعلق بديونها لإيران. كما أن الطبيعة الاستبدادية للنظام السابق لا تلغي مسؤوليته تجاه الديون الإيرانية. ومع ذلك، ينبغي تعليق أية مطالبات إيرانية محتملة لدمشق بسداد الدين إلى حين إنشاء لجنةٍ مسؤولة عن إجراء تدقيق كامل لديونها العامة، بما فيها ديونها الخارجية لإيران. إن جزءاً كبيراً من الديون المتراكمة على النظام السوري السابق لإيران كانت مرتبطة بالفعل بالحفاظ على السلطة، من خلال تعزيز قدراتها العسكرية والاقتصادية. وإذا كان التدقيق سيؤكد أو يقدم أدلة على مثل هذه النتائج، فإن جزءاً كبيراً من الدين العام للبلاد سيكون بالتالي غير شرعي أو غير قانوني. ومن هذا المنظور، يمكن وصف الدين، أو على الأقل جزء كبير منه، بأنه دين بغيض أو غير شرعي، وبالتالي لا ينبغي سداده. والواقع أنه وفقاً لمبدأ الدين البغيض، ينبغي استيفاء شرطين:
1) لابد أن يكون قد تم التعاقد عليه ضد مصالح الأمة، أو ضد مصالح الشعب، أو ضد مصالح الدولة.
2) لا يستطيع الدائنون إثبات جهلهم بكيفية استخدام الأموال المقترضة.
من الواضح أن جزءاً كبيراً من الديون المتراكمة لإيران تم القيام بها ضد مصالح الغالبية العظمى من السكان من خلال الحفاظ على القدرات العسكرية والاقتصادية للنظام لمواصلة قمعه وتدمير البنى التحتية في المناطق التي تسيطر عليها المعارضة. في الوقت نفسه، لا يمكن للدائن، إيران، أن ينكر أنه لم يكن على علم بغرض الأموال المقترضة حيث شارك في عمليات النظام ضد قطاعات كبيرة من السكان السوريين.
وبالإضافة إلى ذلك، لم تحصل هذه القروض على موافقة برلمانية كما يقتضي الدستور، أو موافقة رسمية من الحكومة.
تجميد عمليات خصخصة أصول الدولة وشركاتها والتدقيق في كل مخططات الخصخصة السابقة. وإذا ما تبين وجود مخالفات، فمن شأن ذلك أن يؤدي إلى تأميم هذه الشركات. إن العديد من عمليات خصخصة أصول الدولة وشركاتها استفاد منها بالفعل رجال أعمال تابعون للقصر الجمهوري السابق، مثل تلك المذكورة أعلاه على سبيل المثال، في حين حرمت الدولة من مداخيل كبيرة. على سبيل المثال، يجب تأميم الشركات الكبرى التي كانت تحت سيطرة رجال أعمال رئيسيين تابعين للقصر الجمهوري مثل شركتي الاتصالات سيريا تل وإم تي إن، وتعود عائداتها بالفائدة على الدولة.
وبالمثل، معارضة التسويات المحتملة من قبل السلطات الحاكمة الجديدة ورجال الأعمال المتورطين في جرائم حرب والمرتبطين مباشرة بالقصر الجمهوري السابق. وبدلاً من ذلك، يجب محاكمتهم وإذا ثبتت إدانتهم، فيجب نقل شركاتهم وأصولهم إلى الدولة. على سبيل المثال، يجب إدانة الشائعات حول تسوية محتملة بين رجل الأعمال محمد حمشو والسلطات الجديدة ونقل أصوله وشركاته إلى الدولة.
ومن الممكن ترويج أنواع أخرى من المطالب التي تخدم المصالح العامة، مثل دعم الإنتاج الوطني، وخاصة في القطاعين الزراعي والصناعي وتطوير شبكات النقل العام، بما في ذلك الحافلات والسكك الحديدية،[2] داخل المدن وفيما بينها، وبين الضواحي والمراكز الحضرية، ما من شأنه أن يقلل من رسوم النقل، وهو ما يؤثر بشكل خاص على الطلاب والعمال. وبشكل عام، ينبغي للمبادرات والمطالب والحلول أن تسعى إلى مساعدة مصالح 99٪ من سكان البلاد، ويمكن أن تتطور وفقًا للتعبئة الشعبية وتكون أكثر “هجومية”. إن معظم المطالب المذكورة أعلاه “دفاعية” بالفعل وتخدم احتياجات فورية.
الخاتمة
وفي الختام، ينبغي أن يرتكز بناء المجتمع الديمقراطي على احتياجات ومصالح الطبقات العاملة والشعبية والتي تمثل 99% من السكان. ومن أجل تحقيق هذه الغاية، فإن تعزيز التمكين الديمقراطي والاجتماعي للطبقات العاملة والشعبية لإدارة مجتمعاتها يشكل هدفاً بالغ الأهمية. والديمقراطية هنا عندما يشارك جميع السكان بحرية وعلى قدم المساواة وبشكل مباشر في وضع القرارات المتعلقة بالشؤون والسياسات الجماعية، بما في ذلك المجال الاجتماعي والاقتصادي.
إن التاريخ يثبت أن الديمقراطية مفهوم متغير لا شكل محدد له، وهو ما كان محل دائم للنضالات. إن أي توسيع للديمقراطية بحيث تشمل الحقوق الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والوطنية كان نتيجة لنضالات ناجحة من الأسفل شملت الحقوق الاقتصادية والمدنية، والتصويت، وتكوين النقابات، والحقوق المدنية، والمساواة بين الجنسين، إلخ.. ويتعين على التقدميين والديمقراطيين أن يشاركوا في بناء جبهات موحدة ضد الاستبداد والاستغلال والقمع، وفي الوقت نفسه بناء بديل سياسي بين الطبقات الشعبية.
في الواقع، في هذا المشروع للتغيير الديمقراطي والاجتماعي من الأسفل، يجب أن نفهم أن نضالات العمال وحدها لن تكون كافية لتوحيد العمال والجماهير الشعبية. علينا أن نناضل من أجل تحرير كل المضطهدين، ورفع المطالب بحقوق المرأة والأقليات الدينية والجماعات العرقية المضطهدة، إلخ.. على سبيل المثال، من المهم اليوم معارضة الحملات الأمنية العنيفة والاستبدادية التي تشنها هيئة تحرير الشام والتي تستهدف المدنيين، والخطابات والممارسات الطائفية والعنصرية المتصاعدة، والدفاع عن حقوق المرأة، والمطالبة بالعدالة الانتقالية، إلخ.. إن الفشل في القيام بذلك سيمنع توحيد الطبقة العاملة والشعبية من أجل التحول الجذري للمجتمع.
في منظور كارل ماركس وفريدريك إنجلز، كانت الاشتراكية والديمقراطية مرتبطتين ببعضهما بعضاً منذ النضالات الأولى التي شاركتا فيها في منتصف القرن التاسع عشر. فقد كتبا في البيان الشيوعيّ عام 1848: “الخطوة الأولى في الثورة التي تقوم بها الطبقة العاملة هي رفع البروليتاريا إلى مرتبة الطبقة الحاكمة، والفوز في معركة الديمقراطية”.
مراجع:
[1] وحتى قبل اندلاع الحرب في سوريا، كانت الحكومة تنظر إلى الشراكات بين القطاعين العام والخاص باعتبارها أداة رئيسية لتسريع تعبئة رأس المال الخاص، وخاصة في قطاع الطاقة. وكانت الاستثمارات في البنية الأساسية، للكهرباءعلى سبيل المثال، ضرورية لجذب الاستثمار الخاص وخفض تكاليف العمليات التجارية. وفي تقرير أعده البنك الدولي بالتعاون مع وزارة الكهرباء السورية في عام 2010، قُدِّر أن نحو 11 مليار دولاراً من الاستثمارات ستكون مطلوبة حتى عام 2020 لتوليد طاقة توليد جديدة (7000 ميغاواط) وتوسيع شبكات النقل والتوزيع في البلاد.
[2] من الممكن إشراك سائقي الحافلات غير الرسميين في تطوير شبكات النقل العام ومنحهم وضع الموظف العام، مما يوفر لهم بعض المزايا.
جوزيف ضاهر
ناشط سياسي، له منشورات بالعربية والفرنسية والانكليزية. يدوّن في SyriaFreedomForever (سوريا حرية للأبد). نال درجة الدكتوراة من كلية الدراسات الآسيوية والمشرقية (سواس) بلندن. ركزت رسالته على المادية التاريخية وحزب الله. يعيش د. ضاهر في سويسرا، حيث يدرس في جامعة لوزان.
حكاية ما انحكت
——————————-
بين العدالتين الانتقالية والانتقائية/ عبسي سميسم
09 فبراير 2025
سعت الإدارة السورية الجديدة للتحوّل من منطق الثورة إلى منطق الدولة الذي وعدت السوريين به، من خلال نشر ثقافة السلم الأهلي بين مكونات المجتمع وملاحقة المجرمين قضائياً، أو من خلال لجان لكشف الحقائق، وإعادة الحقوق لأصحابها، وإنصاف الضحايا وجبر الضرر الذي لحق بهم، عبر مفهوم العدالة الانتقالية الذي تحوّل بسبب بعض أداء الإدارة الجديدة إلى عدالة انتقائية في بعض الأحيان، وعدالة انتقامية في أحيان أخرى.
مما لا شك فيه أن الإدارة الحالية قادت عملية تحرير سورية من أكثر الأنظمة إجراماً في التاريخ الحديث، وأن النظام البائد قد خلّف ملايين الضحايا من قتلى ومعتقلين ومهجرين، كما دمر مدناً وقرى عن بكرة أبيها. إلا أن أداء الإدارة على المستوى الأمني، وتحت اسم ملاحقة فلول النظام في المناطق التي كانت تشكل حاضنة شعبية له، تخللته انتهاكات بحق مواطنين لأسباب لا علاقة لها بارتكاب جرائم لصالح النظام البائد، وإنما لأسباب منها طائفية أو مناطقية، وبعض الانتهاكات كان بدوافع ثأرية من خلال عناصر من خارج ملاك الأمن العام، الأمر الذي يمكن عدّه خرقاً أمنياً بالحد الأدنى إن لم يكن تواطؤاً مع مرتكبي تلك الانتهاكات.
أما على مستوى ضحايا النظام المخلوع ممن قُتل أبناؤهم أو اعتُقلوا أو سُلبت أملاكهم، فلم تقم الإدارة الجديدة بإعادة أي من الأملاك المسلوبة حتى الآن وإنما أجّلت الأمر لمحاكم مستقبلية، فيما معظم قضايا الأملاك المسلوبة يمكن إثباتها بسهولة من خلال لجان مختصة من دون حاجة لمحاكم ربما تطول سنوات.
ولكن الأخطر على مستوى حقوق الضحايا هو تعاطي الإدارة الجديدة مع كبار المجرمين باعتبارهم صيداً ثميناً يمكن التفاوض معه مادياً مقابل إجراء تسوية معه، من دون الأخذ بعين الاعتبار الضحايا الذين انتُهكت حقوقهم، إذ تتوارد معلومات عن اتفاقات تجريها الإدارة الجديدة مع كبار الاقتصاديين الذين كانوا يديرون اقتصاد آل الأسد، وأن الاتفاقات توصلت إلى عودة بعضهم إلى سورية مقابل جزية مالية معتبرة تُقدّم للإدارة الجديدة. ولم يقتصر الأمر على رجال الاقتصاد، بل تعداه إلى رجال الأمن والشبيحة الذين ارتكبوا مجازر بحق السوريين، وكان آخرهم رئيس “الدفاع الوطني” في دمشق فادي صقر المساهم في مجزرة التضامن (ارتُكبت في إبريل/ نيسان 2013) الذي ظهر برفقة قياديين في الإدارة الجديدة التي قيل إنها سوّت وضعه بمقابل مادي، ما دفع ذوي الضحايا للتظاهر ضد الإدارة الجديدة.
هذه العدالة الانتقائية التي تطبّقها الإدارة الجديدة بحق المجرمين من فلول النظام تسمح للمجرمين الكبار القادرين على دفع دية التسوية بالنجاة بفعلتهم، بينما يُلاحق المجرمون الصغار.
العربي الجديد
—————————————-
تظاهرات حي التضامن: اختبار جديد للعدالة في سوريا/ سميرة المسالمة
الأحد 2025/02/09
“بدنا نحكي عل المكشوف، شبيحة ما بدنا نشوف”. بهذا الهتاف الشعبي الغاضب، يمكن القول إن عودة الاحتجاجات الشعبية في سوريا، بعد فترة قصيرة من التحرير، تعكس تطلعات السوريين وإصرارهم على بناء دولة قائمة على أسس العدالة والمحاسبة، وترفض أي شكل من أشكال الفساد أو التهاون في تحقيق العدالة الانتقالية. فالمطالب التي يرفعها المحتجون اليوم ليست مجرد رد فعل عاطفي على بعض القرارات، بل هي جزء من وعي سياسي متنامٍ لدى السوريين، الذين يدركون أن مستقبل بلادهم لا يمكن أن يُبنى على المصالحة الشكلية، أو الاستثناءات الطائفية، أو دون محاسبة حقيقية لكل من أسهم في معاناتهم خلال السنوات الماضية.
يؤكد أهالي حي التضامن في حراكهم هذا، ضد فادي صقر أحد قياديي “الدفاع الوطني”، على حقهم في المشاركة في إدارة شؤون بلدهم، وفي إبداء الرأي حول آلية تعامل السلطة الحاكمة مع معايير التسامح والتغاضي عن المتهمين، وضرورة اتباع قواعد العدالة الانتقالية، وعزل شريحة المتهمين عن ممارسة أي عمل عام قبل خضوعهم لمحاكمات نزيهة وعادلة.
إن هذا الحراك يمثل أحد تحديات الحكومة الانتقالية التي قاربت على الرحيل، وكذلك الحكومة المزمع تشكيلها قريباً، ويضع السلطة أمام اختبار حقيقي في كيفية إدارة ملف العدالة والمحاسبة. فهل تتقيد بما تمليه عليها متطلبات العدالة، رغم ما يمكن أن تخسره خلال ذلك من بعض “المصالح”. فالشعب السوري الذي واجه سنوات من القمع والاضطهاد، لم يعد مستعدًا لقبول حلول وسطى تُبقي على شخصيات أثارت الجدل، أو متورطين في انتهاكات وجرائم سابقة، ويعاد تدويرهم داخل المنظومة الجديدة.
الرسالة التي تحملها التظاهرة اليوم من العاصمة دمشق، تؤكد على الوعي الكبير للشعب بدوره وقدرته على تمييز القرارات وفهم معانيها القريبة والبعيدة، وبالتالي امتلاكه حق قبولها أو رفضها، وأن على السلطات أن تدرك أن الشرعية الشعبية التي اكتسبتها بتحرير سوريا من نظام الأسد، مرهونة بمدى التزامها بمبادئ الشفافية والعدالة والجرأة على تنفيذها، على أي متورط، وإلى أي مكون ينتمي. فالمدانون ليسوا حكراً على طائفة دون سواها، والنظام السوري كان نظاماً “مافيوياً” متعدد الانتماءات الطائفية والقومية، ومتمدداً داخل الحدود وخارجها. والتظاهرة التي كان المتهم (صقر) هو المستهدف بها ليس بسبب طائفته، ولكن لتورطه بارتكابات جسيمة. وكان الأجدر لمن أعطاه حق العودة لأعماله أن ينتظر قول القضاء وحكمه فيه.
صحيح أن العدالة الانتقالية لا تعني الانتقام، لكنها أيضًا لا تعني التسامح، أو التساهل مع أولئك الذين لعبوا أدوارًا أساسية في القمع والاستبداد والقتل. فلا يمكن أن تكون هناك مصالحة حقيقية من دون كشف الحقيقة، وتحقيق المحاسبة، وضمان عدم تكرار الانتهاكات. ولتحقيق ذلك، يتعين على الحكومة العمل على إنشاء هيئة مستقلة تُعنى بمتابعة الملفات القضائية المتعلقة بانتهاكات الماضي، على أن تكون هذه الهيئة شفافة، ونزيهة، وتملك الأدوات التي تجعلها قادرة على إنصاف الضحايا.
بالإضافة إلى ذلك، فإن إعادة النظر في الأسماء المطروحة للمناصب الحكومية والإدارية يجب أن تكون جزءًا من عملية إعادة بناء شاملة للمؤسسات، تهدف إلى إعادة الثقة بين السلطة والشعب. فلا يمكن بناء دولة “ديمقراطية” حديثة بأدوات مدانة، أو عبر إعادة تدوير شخصيات فقدت مصداقيتها أمام الشعب. فالسوريون الذين دفعوا أثمانًا باهظة في سبيل حريتهم، لن يقبلوا أن تُدار بلادهم بأيدي من كانوا جزءًا من مأساتهم.
إن عودة التعبير عن الرأي بالتظاهرات، وإن كانت في نطاق ضيق، هو مؤشر على أن السوريين لا يزالون متمسكين بحريتهم وواجبهم في مراقبة أداء السلطة الجديدة، والتأكد من التزامها بتعهداتها. فالشعارات التي يرفعونها اليوم ليست مجرد كلمات، بل هي مطالب حقيقية تهدف إلى بناء دولة عادلة، تحترم حقوق مواطنيها، وتحقق لهم تطلعاتهم في الحرية والكرامة والمشاركة السياسية الفعالة. وهذا الحراك يجب أن يُقرأ من قبل صُنّاع القرار، لا كتهديد للأمن، بل كفرصة لتصحيح خطأ الاعتماد على أسماء مدانة شعبياً، والرغبة في نموذج حكم جديد قائم على العدالة والشفافية والمسؤولية، فهل يصبح شعار أهالي ضحايا حيّ التضامن المرفوع في التظاهرات، قابلاً للقياس والتداول؟
المدن
——————————
ملاحظات/ سميرة المسالمه
#اذا كان هذا #التقرير #حقيقيا فإن #الفصل بين #المتورطين #والشبيحة #والمخبرين والمغلوب على أمرهم صار ممكنا جداً، وحتى معرفة حقيقة أسباب انشقاق بعض المسؤولين وأدوارهم السابقة:
الحكومة السورية الجديدة حصلت على كامل #داتا #الأمن #القومي وهو جهاز امني تم تشكيله عام ٢٠١٣ يحتوي #ارشيف لكل #ملفات #الفروع #الأمنية
١ـ اسماء الضباط والعناصر في كل فرع أمن ومحاضر التحقيق مع المعتقلين
٢ـ اسماء المعتقلين وتاريخ وفاة كل معتقل وتاريخ نقله وصورته بعد استشهاده ومكان دفنه
٣ـ اسماء قادة المليشيات و عناصرها ودور كل مليشيا وحتى تقارير عملهم اليومية والمهمات الموكلة إليهم
٤ـ ملفات لكل المخبرين وتقاريرهم
٥ـ ملفات لحيتان الاقتصاد و المبالغ التي مولوا فيها المليشيات
انا دخلت الى وكاله الامن القومي في المزة وتم تفييشي فيها وظهرت حتى ملفات محكمة الإرهاب وملفات المحاكم المدنية
انتم تملكون الأدلة كاملة مؤرشفة و رقمية المطلوب منكم الآن كحكومة ثورية :
١ـ فتح موقع للاستعلام عن المختفين قسرياً وتحديد تاريخ وفاة كل معتقل وتسليم ذويهم الصور التي تؤكد استشهادهم ثم في مرحلة لاحقه وعند توفر الأدوات اللازمة تسليم رفاتهم لدفنهم بطريقة آدميه
٢ـ اعتقال كل قادة المليشيات الأسدية وضباط الأمن وكل
عنصر خدم في الفروع الأمنية
٣ـ اعتقال المخبرين الذين تسببوا باستشهاد مدنيين تحت التعذيب
٤ـ اعتقال ممولي المليشيات من رجال الأعمال وأصحاب رؤوس الأموال
الفيس بوك
—————————–
ملاحظات
Mohamad K. Alian
في وثائق القتلة ودفاتر الجلادين، في أرشيف المخابرات الجوية، كان رقمه: 9077.
رقم على جبينه، ورقم في سجلاتهم، ورقم في قوائم الموت التي لا تنتهي.
لكنه لم يكن مجرد رقم… لقد كان أبي، خالد عليان.
كان رجلاً بسيطاً، يحب الحياة، يحمل الخير في قلبه، والابتسامة دائماً في وجهه. لم يكن سياسياً، ولم يحمل سلاحاً، لكن مدينة “داريا” على الهوية كانت لوحدها تهمة.
كان في وطنٍ يحكمه مجرم، وفي بلدٍ صار فيه دينك ومدينتك يحددان مصيرك.
عام 2012، اعتقلوه للمرة الأولى. أخذوه من بيننا، بلا سبب، بلا محاكمة، بلا تفسير. ربما كان مجرد تقرير نال كاتبه بعض الليرات، وكان نصيب أبي منه الآهات.
ولما عاد بعد شهور، لم يكن نفس الرجل.
كان ينظر بعيداً، كأنه يرى شيئاً لا نستطيع رؤيته. كان يشرد ويفكر كثيراً، كأنما لم يخرج حقاً من هناك، كأنما بقيت روحه عالقة في جدران الزنازين. حاول أن يعود كما كان، حاول أن يضحك معنا، لكن شيئاً ما قد انكسر داخله، ولم نستطع إصلاحه.
قبل أن يتعافى جسده تماماً من ذاك الاعتقال، اعتقلوه بعدها بأشهر، مرة أخرى عام 2013، من أحد أسواق دمشق بعد نزوحنا من داريا، ناجين من المجازر، دون أن يسألوه سؤالاً، دون أن يتركوا لنا فرصة لنودّعه.
انتظرناه طويلاً… يوماً بعد يوم، شهراً بعد شهر، وسنتين كاملتين، ونحن نحلم بلحظة يعود فيها، يمشي من بعيد، يبتسم لنا، يفتح الباب، ويقول: تأخرتُ عليكم.
لكن الأبواب التي تأخذ الأحبة في سوريا لا تعيدهم أبداً.
خرج ولم يعد، وكأن الأرض ابتلعته. لم يكن لدينا يقين، لا موتٌ ننعاه، ولا حياةٌ ننتظرها، فقط فراغٌ قاتل، واحتمالاتٌ لا تنتهي.
انتظرناه عامين، لكنه لم يكن ينتظر… مات بعد خمسة عشر يوماً فقط، كما كُتب على جبينه.
مات هناك، بين الجدران الباردة، في الزنازين التي لا تعرف الشمس، تحت السياط التي لا تعرف الرحمة، تحت قبضاتهم التي لا تشبع من الدم. لم يمت ميتةً طبيعية، بل مات موتاً صنعته أيدٍ مجرمة، أيدٍ لا ترى في الإنسان سوى رقمٍ يُمحى بعد أن يؤدي دوره في دوّامة التعذيب ولعبة الموت.
مات في سجون الأسد، كعشرات أو مئات الآلاف المفقودين غيره الذين ما زلنا نكتشف مقابرهم الجماعية، على يد القتلة الذين حكموا سوريا بالنار والسجون.
وحين تسربت صور “قيصر” عام 2015، رأيته… رأيت أبي للمرة الأولى بعد تلك السنوات.
لكنه لم يكن كما عرفته، لم يعد بصوته، لم يعد بمشيته، لم يعد بضحكته.
كان جسداً مُلقى على التراب بين أكوام الجثث، بملابس مغبّرة، بوجهٍ وجسدٍ أنهكهما العذاب، برقمه على الجبين، ينتظر هو ومن حوله نقله للمقابر.
رأيته في الصورة، ولم أستطع أن أتركه هناك، لم أستطع أن أسمح لهم بأن يكون هذا المشهد هو خاتمته.
كنت بحاجةٍ لأن أراه في صورةٍ تليق به، في مكانٍ أكثر رحمة، في ضوء الشمس التي لم يرها قبل موته، على عشبٍ أخضر، بكفنٍ نظيف. أردت أن أعتذر له عن القسوة التي ذاقها.
لكني لم أفعل ذلك هروباً من الواقع، أو كي لا أتذكّر ألم تلك الصورة، بل لأنني أؤمن تماماً أن الله قد غيّر المشهد له وكل من قضى معه منذ اللحظة الأولى بما هو أجمل.
أكرمهم وأزال عنهم الألم عندما فارقت روحهم جسدهم.
في تلك اللحظة، كان جسده في عذاب الأرض، لكن روحه كانت ترتقي إلى حيث لا ألم، حيث لا سوط، حيث لا يد ظالمٍ تمتد. كان هو وكل من معه، ينالون شهادةً لا رياء فيها.
لستُ أحزن على أبي، لأنه اليوم في مكانٍ لا خوف فيه ولا تعذيب، وقد أبدله الله بما يرضيه بإذنه تعالى، في مكانٍ لن يصل إليه ظالم ولا جلاد.
أنا أبكي علينا… نحن الذين ما زلنا هنا، ننتظر العدالة التي تأخرت كثيراً.
وإلى الرجل الذي التقط الصورة… إلى من خاطر بحياته ليعطيني الحقيقة.
الملازم أول فريد المذهان “قيصر”، الرجل الذي لم يستطع إيقاف الموت، لكنه منع إخفاء الحقيقة.
لم يكن سهلاً عليه رؤية آلاف المعتقلين يذوقون الموت تحت التعذيب، لكنه رفض أن يكون شاهداً صامتاً.
لقد كنت هناك، بين الجثث المتراكمة، بين الأرقام التي لا تنتهي، بين الأجساد التي لم يُسمح لها حتى بقبلة الوداع الأخيرة.
كنت هناك، ولم تستطع أن توقف المجزرة، لكنك فعلت شيئاً لم يجرؤ عليه أحد: وثّقت الجريمة، وأريتنا ما أرادوا إخفاءه.
أنت آخر من رأى والدي قبل دفنه في المقابر الجماعية، أنت من جعلني أعرف مصير أبي بعد سنوات من الانتظار.
كنت أبحث عنه في الحياة، فوجدته في صورةٍ التقطتها يدك، صورةٌ أرادوا أن تُدفن معه، وشاء ربي لها أن تخرج لتشهد عليهم.
منحتني الحقيقة، رغم مرارتها، ومنحت آلاف العائلات إجابةً كانوا محرومين منها.
لن أنسى شجاعتك، ولن ينسى التاريخ تضحيتك. شكراً لك، من أعماق قلبي.
شكراً لأنك جعلت للعالم عيوناً ترى، وذاكرةً لا تُمحى.
من ابن الشهيد رقم 9077 (خالد عليان) .. شكراً قيصر!
الفيس بوك
————————————–
ملاحظات/ خلود التاجي
عودة قائد “فرق الموت” إلى سوريا عبر مطار دمشق..متهم بمجزرة “ساعة حمص” وبابا عمرو وقتل صحفية أمريكية
الحسين الشيشكلي – زمان الوصل
بعد فراره لشهر، عاد مجرم الحرب خالد الفارس من دبي إلى دمشق عبر المطار قبل أسبوع، مجددًا تهديداته لبعض العائلات التي طالبت بمحاكمته في مدينة حمص.
وعلى الرغم من تورطه في جرائم موثقة، لم يُعتقل الفارس مطلقًا، بل تشير التقارير إلى أنه أجرى “تسوية” غامضة.
عاد الفارس وأعاد افتتاح معرضه للسيارات على طريق حماة في حمص، حيث يتنقل حاليًا بين حمص ودمشق بحرية تامة، وفقًا لمصادر زمان الوصل.
تكشف وثائق وشهادات منشقين عن النظام السوري تفاصيل حول الدور الذي لعبه الفارس، وهو رئيس شبكة مخبرين ومقاتل وداعم لما يُعرف بـ”الدفاع الوطني” في مدينة حمص، في تعقب الصحفية الأمريكية ماري كولفين، التي قُتلت في قصف استهدف مقرها في 22 فبراير 2012. حيث كان الفارس، المعروف بتاريخه في تهريب المخدرات وقيادة شبكة مخبرين محليين، مسؤولًا عن نقل إحداثيات الصحفية إلى قوات النظام، مما أدى إلى استهدافها بشكل مباشر.
من هو خالد الفارس؟
يُوصف خالد الفارس بأنه قائد شبكة من المخبرين، وكان يُلقب بـ”مهرب مخدرات سيئ السمعة” قبل أن يصبح أداة في يد الأجهزة الأمنية السورية.
قاد مجموعة تُعرف باسم “فرقة الموت”، والتي تورطت في تنفيذ مجازر وانتهاكات خطيرة بحق المدنيين في حمص، من بينها ما يُعرف بـ مجزرة “ساعة حمص”، كما قاد هجومًا وحشيًا على بابا عمرو في حمص عام 2012.
كيف قاد النظام إلى ماري كولفين؟
وفقًا لتحقيقات ووثائق مسرّبة، تم تكليف الفارس بمهمة مراقبة الصحفيين الأجانب داخل أحياء حمص المحاصرة. وباستخدام شبكة المخبرين التي كان يديرها، تمكن من تتبع تحركات كولفين، التي كانت تعمل على تغطية القصف الوحشي الذي يتعرض له المدنيون في المدينة.
في مساء 21 فبراير 2012، تم تحديد موقعها في “مركز الإعلام” بحي بابا عمرو، وهو مبنى استخدمه الصحفيون والنشطاء لبث التقارير والصور حول الأوضاع في المدينة.
في اليوم التالي، استهدفت المدفعية السورية المبنى بشكل دقيق، مما أدى إلى مقتل ماري كولفين وزميلها المصور الفرنسي ريمي أوشليك.
تشير التقارير إلى أن القصف لم يكن عشوائيًا، بل كان نتيجة معلومات استخباراتية حصلت عليها القوات السورية من مصادر على الأرض، ومن بينها خالد الفارس.
مكافأة من ماهر الأسد
بعد تنفيذ المهمة، تلقى خالد الفارس مكافأة سخية من ماهر الأسد، قائد الفرقة الرابعة، حيث مُنح سيارة هيونداي جينيسيس تقديرًا لدوره في تصفية كولفين، التي كانت تُعد واحدة من أبرز الصحفيات الغربيات في تغطية الثورة السورية.
دور الفارس في انتهاكات أخرى
لم يقتصر تورط خالد الفارس على استهداف الصحفيين، بل كان قائدًا لمجموعة مسلحة مارست انتهاكات واسعة بحق المدنيين في حمص، تضمنت عمليات قتل وتعذيب واغتصاب، وفقًا لتقارير حقوقية.
وبالرغم من أن اسمه لم يكن معروفًا على نطاق واسع في الإعلام، فإن الدعاوى القضائية المرفوعة ضد النظام السوري، والتي تضمنت شهادات لجنود منشقين ومسؤولين سابقين، كشفت عن دوره المحوري في قمع المعارضة داخل المدينة في عدة ملفات قضائية دولية.
العدالة الغائبة
بينما يتنقل خالد الفارس اليوم بحرية بين دمشق وحمص ويدير أعماله التجارية، لا تزال العائلات التي فقدت أبناءها تطالب بمحاكمته. عودته الأخيرة إلى سوريا، وافتتاحه معرضًا للسيارات في حمص، يطرح تساؤلات حول مدى جدية محاسبة مجرمي الحرب، خاصة أن الفارس لم يُعتقل رغم كل التهم الموجهة إليه.
الفيس بوك
————————————–
روسيا وتركيا… التفاوض الإجباري/ فاطمة ياسين
09 فبراير 2025
يعتبر سقوط بشّار الأسد وهروبه السريع من سورية، ومسح نظامه بالكامل في فترة قصيرة، فشلاً روسياً ذريعاً، فقد بدت روسيا متفاجئة من الهجوم المباغت لفصائل المعارضة، والتهاوي السريع لقوات الأسد، وكانت المرارة واضحة على لهجة بوتين وهو يتحدث عن 350 مقاتلاً من المعارضة استطاعوا أن يجبروا ثلاثين ألفاً من جيش النظام على الفرار. لم تشلّ المفاجأة مسؤولي النظام فقط، بل امتدّت لتشمل قادة روسيا التي فشلت استخباراتها في التنبؤ بموعد الهجوم وقوته ناهيك عن أهدافه النهائية التي وصلت إلى قلب ساحة الأمويين بدمشق. تصرّفت روسيا في ساعات الهجوم الأولى بمنطق رد الفعل، فقامت، كعادتها عند أي هجوم٬ بطلعات جوية، بما توفر لديها من ذخيرة في سورية، وقد نفذت بالفعل هجمات في إدلب، وفي حلب بعد أن سقطت بيد المعارضة. وحين تخلت قوات النظام عن حماة، وبدأت بالتوجه نحو حمص، قام طيران بوتين بمحاولة قصف جسر الرستن الهام الذي يؤمن عبور القوات المهاجمة بسرعة نحو حمص، وخابت الضربات في تدمير الجسر، واستسلم بوتين للأمر الواقع في النهاية، بعد أن فهم أن كل شيء قد خرج عن السيطرة، وصار همّه تأمين خروج أزلامه، وفي مقدّمتهم الأسد من العاصمة.
ساعد النجاح المؤقت لروسيا خلال فترة العشر سنوات الأخيرة في تعزيز مكانتها، وساعدتها القواعد العسكرية الممنوحة لها في سورية على شاطئ البحر المتوسط في استكمال الجسر الموصل إلى أفريقيا، وكان لوجودها القوي أثر في تحسّن علاقاتها مع إيران، ومنحها موقفاً تفاوضياً قوياً مع تركيا. وبناء على هذه المكانة المعزّزة، شنت حرباً على أوكرانيا، ظنّت أنها قادرة على حسمها بسرعة، ولكن حسابات بوتين لم تكن صحيحة، فغرقت قواته هناك وبدأت طاقاته تخور، بفعل المساعدات الغربية السخية لأوكرانيا، وتهلهل الموقف الروسي كثيراً حتى وصل إلى توغل القوات الأوكرانية داخل الأراضي الروسية، واستعمالها أسلحة بعيدة المدى تهدّد العمق الروسي. ومع إدراك بوتين أن معركته الأساسية هي في أوكرانيا، حيث المواجهة الفعلية مع الغرب، ولا مجال لخسارة هناك، من شأنها تقويض السطوة التي بناها خلال العشرين سنة الماضية، ركّز قوته بشكل كبير لدعم موقفه في أوكرانيا.
خسر الروس سورية، وخسروا معها منصة هامة للإطلال على بقعة استراتيجية من العالم، وحاول بوتين من خلال مساعدة بشّار الأسد ورجاله على الهرب كسب نقطة ترضية، فلا تسقط عنه صفة الحامي لحلفائه. ولملمت روسيا قواتها المبعثرة في سورية، وحصرتها في نقطتين، حميميم وقاعدة طرطوس البحرية، حيث نجحت في بقاء محدود بتعامل “براغماتي” مع سلطات دمشق الجديدة، فقد حاولت استمالة العهد الجديد متناسيةً تاريخ الدم الطويل وجهدها في المحافظة على كرسي الأسد. وابتلع بوتين حنظل الواقع، وسلّم بفقدان دمشق، وهو يعرف أن انتصاراً على أوكرانيا يمكن أن يعوّض مادياً ومعنوياً ما خسره، مع اعتقاده أن العودة إلى سورية ما زالت ممكنة، رغم سيطرة المعارضة بشكل تام. وهو يعوّل على وجوده المسالم، وربما وساطة تركيا، أو حتى بافتعال مشكلات داخلية يصبح بعدها تدخله وارداً.
ما زال بوتين راغباً في الوجود على تخوم البحر المتوسط، ولديه فرصة في ليبيا، فهناك وجودٌ ملموس له في الجانب الذي تسيطر عليه قوات خليفة حفتر، وقد أخرج بالفعل قطعاً عسكرية كثيرة من سورية، توجه بها مباشرة إلى ليبيا، علماً أن الوجود النهائي هناك غير مضمون، فالوضع الأمني قلق جداً، ولتركيا مكان مهم ومؤثر مع الجهة المقابلة لحفتر. وهنا يجد بوتين نفسه مضطرّاً مرّة أخرى للتحدث مع تركيا بهذا الشأن. ولتركيا أيضاً نقاط سيطرة في مضيق الدردنيل، وهذه نقطة العبور الروسية الأساسية نحو المتوسط، ما سيدفع الروس أكثر إلى الحرص على إبقاء الخطوط مفتوحة قدر الإمكان مع الجانب التركي.
العربي الجديد
——————————-
رحلة الجولاني إلى الشرع/ رغيد عقلة
09 فبراير 2025
لم يكن أحمد الشرع، في رحلته بين محطتي “أبو محمد الجولاني” والرئيس السوري، قطعاً في عداد ركّاب الدرجة الأولى، ربما ولا السياحية، فالرجل الذي أثبت دوماً أنه مقاتلٌ عنيدٌ بإرادة صلبة وأعصاب فولاذية، لم يضره يوماً أن يحفر طريقه بنفسه في الصخر وبمنتهى التصميم. وفي وقتٍ كان الوريث الساقط يتفنّن في تحويل فرَصِه (وما أكثرها) إلى تحدّيات، عرف الجولاني كيف يجترح فرَصَهُ من التحدّيات التي واجهته، وما أكثرها أيضاً. ولستُ على الإطلاق في وارد إجراء أية مقارنة بين الشرع والمخلوع الهارب، فهي لا تجوز حتماً، وتنطوي على ظلم شديد، ولكن قراءة متأنّية وهادئة لشخصية رئيس المرحلة الحالية قد تكون ضرورية لمحاولة استشراف المستقبل الذي ينتظر سورية وشعبها.
في ظهوره الأول على قناة العربية، في 29 ديسمبر/ كانون الأول الماضي، قائداً لغرفة العمليات العسكرية وقتها، عبَّر الشرع عن مجموعة مواقف مهمة. وعلى عكس المخلوع الهارب الذي كان يلقي الكلام على عواهنه، وبكثير من التنظير والقليل النادر من المعاني الحقيقية، وبانفصال كامل عن الواقع والوعي والإدراك، يضع الشرع أفكاره بعباراتٍ مختصرةٍ ودقيقة ومباشرة، فالرجل يعني ما يقول، ويقول ما يعني، بعيداً عن التذاكي والاستظراف وخفة الدم الممجوجة التي عُرف بها الأسد الفارّ. وهنا ثلاث نقاط أعتقد أنها الأهم في حديثه: وقف مشروع تصدير الثورة الإيرانية وتدخّلها في الشأن الفلسطيني، أن الشعب في سورية تعب كثيراً من حالة الحروب والتجاذبات، تأكيده عدم السماح بأن تكون سورية محطة لإزعاج أيٍّ من دول الجوار.
وكانت هذه المحاور الأهم في حديث الشرع، لأنها بكل بساطة تشكل في مجموعها المعادلة الإقليمية المهمة التي فرضها واقع طوفان غزة ما بعد 7 أكتوبر (2023)، بمفاعيلها على المنطقة برمتها، والتي سمحت بإسقاط الأسد لعدم قدرته على الالتزام بها، وإذ يؤكّد الشرع هنا فهمه الواضح جداً لهذه المعادلة، فهو يؤكّد التزامه بها، وأي حديث آخر في الشأن السوري سيكون تفاصيل تأتي بعد ذلك.
تكمن النقلة الفارقة في رحلة الجولاني إلى الشرع في حاجته إلى إطلاق مسارَين متعارضين ومتناقضين بتزامن دقيق، يهدف الأول إلى تجميع قوى الفصائل كلها في يده، ليفرض من خلالها سلطته. ومن هنا كان طبيعياً أن ما اصطُلِحَ على تسميته مؤتمر النصر جاء سابقاً بيوم على إعلان رئاسته المرحلة الحالية، بالتوازي مع الحصول على شرعية عربية ودولية قد تساعده في إنهاء هذه الحالة الفصائلية مرةً وإلى الأبد، الأمران اللذان تحتاج مزامنتهما إلى قدر كبير من البراغماتية والحنكة التي لا أعتقد لحظة أنها تنقصه، ولكن السؤال ما إذا ستكون كافية.
سيكون طبيعياً أن يواجه الشرع تحدّياً حقيقياً في مدى استطاعته السيطرة على قرار مجموعة فصائل وجماعات ومنتسبين بعضهم ليس سورياً، لم يكن يجمع بينهم سوى هدف إسقاط النظام، وإذا كان إنهاء الحالة الفصائلية أمراً إيجابياً بالمطلق، ففي التفاصيل تكمن بعض الأسئلة المهمة، منها مثلاً أن قوى كثيرة فاعلة في الجيوبوليتيك السوري لم تكن موجودة في “مؤتمر النصر”، أو أن تمثيلها كان رمزياً بحتاً، ولا يلغي اختلافات لا تزال قائمة مع الإدارة الجديدة.
الأمر الآخر الذي سينطوي على تساؤلات مهمة هو عن منعكسات إدخال جماعات وفصائل غريبة عن المشهد السوري في بنية الجسم العسكري الجديد، وما قد يحمله هذا من تعقيدات مع دول عربية وغربية، الأمر الذي ربما كان أحد أسباب زيارة السفير السعودي في دمشق، فيصل بن سعود المجفل، وزير الدفاع السوري، مرهف أبو قصرة، أواخر الشهر الماضي (يناير/ كانون الثاني)، إضافةً إلى ما قد يحمله هذا الأمر أيضاً من تحفظات لدول غربية على أسماء بعينها. ولكن السؤال الأهم يبقى عن مدى صلابة هذا الاتفاق وقدرته على الصمود والاستمرار.
وفي ما يتعلق بموقف النظام الرسمي العربي من الشرع فسيكون محكوماً بثلاثة حدود مهمة: الأولى، حالة التوجس الدائم من تمكّن أيٍّ من ظواهر الإسلام السياسي من الوصول إلى الحكم في أي بلد عربي، بغض النظر عن قدرة النظام الذي تنتجه لاحقاً على الخروج من عباءته الدينية، وهذا التوجس غير مرشّح للتغير، ومردّه لأسباب خاصة بدول هذا النظام وطبيعة تركيبتها السياسية والاجتماعية.
الثاني، حرص هذه الدول على وجود شكل من أشكال الاستقرار في سورية حالياً، ولو في حدوده الدنيا، لعلمها أن أي فوضى قد تنتقل إلى أراضيها.
الثالث، حرص هذه الدول على عدم ترك الساحة السورية ملعباً مفتوحاً لتركيا، القوة الإقليمية المهمة التي لن يرضى النظام الرسمي العربي أن تستفيد من تراجع النفوذ الإيراني في سورية والمنطقة لصالحها.
في ظل هذه الحدود الثلاثة، اختارت الدول الفاعلة في النظام الرسمي العربي (وبدرجات مختلفة) الانخراط الإيجابي الحذر مع الوضع السوري الجديد، من دون التخلي عن تحفظاتها عليه، ولكن عيونها ستبقى على واشنطن لتراقب مدى تفاهمات الرئيسين، الأميركي ترامب والتركي أردوغان، والتي ستكون لها منعكساتها المهمة في الوضع السوري، الأمر الذي يدركه ترامب كفايةً بما سيسمح له بممارسة الدور الذي يتقنه تماماً بابتزاز الأطراف كافةً، فمن جهة ستسمح علاقته المريحة بأردوغان بأن يحد من الطموحات الكردية في شمال شرق سورية، ولكن ليس إلى حد تحييدها بالمطلق، الأمر الذي سيعارضه البنتاغون أيضاً. ومن جهة ثانية، سيحافظ على حاجة دول النظام الرسمي العربي لتدخله لضبط النفوذ التركي، الأمر الذي سيمكّنه من فرض تسويات كبرى في المنطقة، ستكون على حساب الفلسطينيين.
الجولاني مدعوماً بمطالب السوريين المحقة، ونضالهم الطويل ضد سلطة النظام البائد، وبدعم قوتين إقليمية وعربية، وضوء أخضر أميركي وإقليمي، عرف تماماً كيف يستفيد من لحظة نادرة سمحت له بدخول دمشق، ولكنه يعلم أن عليه هُوَ تحديداً صناعة لحظات وطنية عديدة سَتُمَكِّن لسورية الجديدة، الأمر الذي قد يكون أكثر تعقيداً من التعامل مع كل المعادلات الإقليمية التي استفاد منها النظام البائد، إلى أن أودت به.
العربي الجديد
——————————–
الحوار الوطني الحقيقي بين السوريين هو المطلوب/ عبد الباسط سيدا
تحديث 09 شباط 2025
من القواسم المشتركة بين القوى والشخصيات التي كانت معارضة لسلطة آل الأسد يتمثل في قلة معلوماتها، إن لم نقل انعدامها حول الرئيس أحمد الشرع، وأركان حكومته، والمسؤولين سواء من المدنيين أم العسكريين في إدارته، وبنية وتوجهات هيئة تحرير الشام. وذلك بفعل علامات الاستفهام التي كانت حول جبهة النصرة (أصبحت لاحقا جبهة نصرة أهل الشام أو جبهة فتح الشام، ومن ثم هيئة تحرير الشام التي أعلنت في ما بعد فك العلاقة بينها وبين القاعدة) من جهة علاقاتها مع «داعش»، و«القاعدة»، وخطها الإسلامي المتشدد، ووضع اسمها من قبل الولايات المتحدة ومجلس الأمن على لوائح الإرهاب.
فالعلاقات أثناء الثورة كانت مقطوعة، بل لم تكن هناك أي صيغ من صيغ التواصل، وكان ذلك بفعل التخوف من توجهات «جبهة النصرة» وتحالفاتها مع تنظيم «الدولة الإسلامية» الذي بات يعرف لاحقا باسم «داعش»؛ إلى جانب مبايعتها للقاعدة في عهد أيمن الظواهري. كما أن ماضي محمد الجولاني وهو الاسم المستعار الذي كان الرئيس أحمد الشرع قد تبناه في مرحلة السرية في العراق يثير الكثير من التساؤلات.
وقبل الثورة لم تكن هناك أي معرفة بين القوى السياسية السورية التقليدية وقيادات جبهة النصرة التي كانت بصورة عامة من الشباب. هذا رغم وجود دراسات وأبحاث تناولت موضوع الجهاديين السوريين في العراق، وموضوع السلفية الجهادية بصورة عامة التي كانت تتميز عن السلفية العامة بنزعتها العنفية، ولجوئها إلى استخدام السلاح.
ومع تأسيس المجلس الوطني السوري بتاريخ 2 تشرين الأول/أكتوبر عام 2012، كان التوجه العام ضمن المجلس هو الالتزام بالمشروع الوطني السوري الذي يدعو إلى الدولة المدنية التي تطمئن سائر مكوناتها عبر احترام الخصوصيات والحقوق، والمشاركة العادلة في الإدارة والموارد. دولة تقوم على فصل واضح بين السلطات، وتعتمد النظام الديمقراطي لاختيار ممثلي الشعب في السلطة التشريعية التي تكلف السلطة التنفيذية، وفق قواعد متفق عليها، بمهامها. سلطة تخضع للمساءلة والمحاسبة أمام السلطة التشريعية؛ هذا إلى جانب وجود سلطة قضائية مستقلة تتدخل لحل الإشكالات وضبط الخلافات في حال بروزها بين السلطتين التشريعية والتنفيذية.
وبطبيعة الحال كنا نرى أن هذا المشروع يتعارض مع مشروع جبهة النصرة والفصائل الأخرى المتشددة التي لم تكن تتقبّل فكرة الدولة المدنية والديمقراطية بصورة عامة، وتميل إلى اعتماد الشريعة الإسلامية لتكون هي المصدر الوحيد للدستور السوري والقوانين المنبثقة عنه، وقد تمثل ذلك في وجود شرعي لكل فصيل من تلك الفصائل كان هو الآمر الناهي في المسائل القضائية. ولكننا مع ذلك كنا نرى ضرورة الاستمرار في الحوارات مع فصائل إسلامية متعددة، أقل تشدداً، بغية المحافظة على وحدة الموقف بين السوريين المناهضين لسلطة آل الأسد بكل توجهاتهم.
وتجدر الإشارة في هذا المجال إلى المقارنات التي كنا نجريها أثناء اجتماعاتنا سواء في المكتب التنفيذي أم ضمن الأمانة العامة بين داعش، وجبهة النصرة في ذلك الحين. فقد كنا نرى، بناء على المعلومات التي كانت متوفرة لدينا، بأن قيادات وكوادر داعش معظمها من غير السوريين، إلى جانب المقاتلين في صفوف التنظيم المعني، هذا فضلا عن الاختراقات الأمنية للتنظيم من قبل أجهزة الدول، وعملياته الإرهابية في دول أوروبية مختلفة، وفي العراق خاصة في الموصل وضد الإيزيديين في سنجار، إلى جانب العمليات الإرهابية في الداخل السوري التي شملت السوريين وغير السوريين.
من جهة أخرى كنا نتوقف أمام حقيقة أن داعش لم يدخل معركة حقيقية ضد السلطة أو ضد القوات الإيرانية والميليشيات المرتبطة معها، هذا بينما كانت غالبية قيادات جبهة النصرة بالإضافة إلى مقاتليها من السوريين. هذا إلى جانب دخول الجبهة في معارك جدية طاحنة ضد قوات سلطة آل الأسد والميليشيات الداعمة لها. كما كانت هناك أنباء عن محاولات تبذل لإنجاز عملية فك الارتباط بينها وبين القاعدة.
وحينما قررت الولايات المتحدة ادراج اسم جبهة النصرة على لوائح الإرهاب إلى جانب داعش، تمّ إبلاغنا في المجلس بذلك. فحاولنا قدر المستطاع إقناع الأمريكان بضرورة التمهّل بخصوص إدراج الجبهة في اللوائح المشار إليها، وذلك بناء على المعطيات المذكورة، ولكن يبدو أنه كانت لهم حساباتهم، وتم وضع الجبهة على قوائم الحركات الإرهابية من قبل وزارة الخارجية الأمريكية في أواخر عام 2012، ثم اعتمد مجلس الأمن من جانبه في ربيع عام 2013 هذا التصنيف.
هذا رغم أن الولايات المتحدة حاربت في ما بعد داعش وتركت جبهة النصرة، بل تواصلت معها لاحقاّ عبر طرق شتى على مدار سنوات. ثم كانت عملية «ردع العدوان» التي أسفرت عن اسقاط سلطة آل الأسد، وهروب بشار بما خف وزنه وغلا ثمنه إلى روسيا؛ ووصول الشرع إلى قصر الشعب قائداً لإدارة العمليات العسكرية، ثم رئيساً مؤقتا للبلاد بيده الصلاحيات التشريعية والتنفيذية والقضائية. ومنذ دخوله إلى دمشق ليقود الإدارة الجديدة، التقى الشرع مرات عدة مع مسؤولين أمريكان من المدنيين والعسكريين، وإن بصورة غير رسمية، وهذا فحواه تعليق الحكم الخاص بالإرهاب الذي كان قد أدين به هو وتنظيمه من جانب الولايات المتحدة.
أما بالنسبة للقاءات مع القوى الشخصيات السياسية السورية فإنه حتى يومنا هذا، وفق المعلومات المتوفرة حتى الآن، لم يتم أي لقاء بينها وبين الشرع بصورة رسمية علنية؛ وهذا الأمر في حد ذاته حال دون حصول معرفة متبادلة بينه وبين القوى والشخصيات المعنية عن قرب وبصورة مباشرة. والمعني بذلك معرفة كل طرف بما يفكر فيه، ويصبو إليه، ويعمل عليه الطرف الآخر؛ هذا رغم أهمية ذلك من ناحية إسهامه في عملية تشكيل أرضية صلبة من التفاهمات التي تساعد على العمل المشترك، وتعزز الوحدة الوطنية السورية على قاعدة احترام التنوع والآخر المختلف.
ومما لا شك فيه هو أن تحقق مثل هذا الأمر سيكون موضع تقدير المنتقدين من موقع الحريص على تضحيات وتطلعات السوريين، وعلى ضمان مستقبل أفضل للشباب السوري والأجيال السورية المقبلة. كما أن مثل هذه الخطوة الضرورية ستقطع الطريق أمام من يريد الاصطياد في الماء العكر، ويحاول استغلال هواجس الناس ومشاعرهم وعواطفهم بغية الوصول إلى أهداف انتهازية، أو حزبية، أو حتى إقليمية تتجاوز الحدود الوطنية السورية.
فمن جهة الأهمية، الموضوع هو موضوع مصير السوريين بكل انتماءاتهم المجتمعية وتوجهاتهم السياسية ومصير وطنهم.
ومن جهة الغموض لا يكفي أن يُقال بأنه قد تم تكليف الرئيس بكل الملفات، ليعلن هو من ناحيته بأنه سيحولها إلى لجان بعد استشارة الخبراء القانونيين الذين لا يعرف الناس من هم، وما هي حدود كفاءاتهم؛ وسوريا كما نعلم جميعا زاخرة بأصحاب الاختصاصات والمؤهلات والخبرات القانونية القديرة لا على المستوى الوطني فحسب، بل على المستوى الدولي أيضاً.
كما أن الكثير من القرارات التي تتخذ بخصوص التعيينات، لا سيما ضمن إطار نقابات المحامين، تثير تساؤلات واستغراب السوريين الذين كانوا معارضين لسلطة آل الأسد، ودفعوا أثماناً باهظة لقاء ذلك.
هذه الملاحظات لا تقلل من شأن التحديات التي تواجهها الإدارة الجديدة التي أسقطت سلطة آل الأسد المستبدة الفاسدة المفسدة، وهذا بحد ذاته إنجاز تاريخي حقيقي يُسجل لها. كما أنها (الملاحظات المذكورة) لا تتنكّر للجهود الكبيرة التي يبذلها الرئيس أحمد الشرع نفسه في مختلف الميادين، ولكنها تندرج ضمن إطار ضرورة الاستماع إلى آراء المخلصين من السوريين الذين يريدون كل الخير لشعبهم ووطنهم. هؤلاء الذين لا يتطلعون إلى أي منصب، ولا يزاحمون الآخرين على أي موقع. وإنما يعز عليهم أن يختلف السوريون فيما بينهم حول الامتيازات والأدوار والمظلوميات، وينسون أن سلطة آل الأسد كانت حاقدة عليهم جميعا، وتعاملت مع الكل بوصفهم أعداء وخونة لمجرد مطالبتهم بالحرية والكرامة والعدالة. كلمات ثلاث تحولت إلى أيقونات كلفت السوريين مئات الآلاف من الشهداء؛ وما يفوقهم عدداً من الجرحى والمعتقلين والمغيّبين، وملايين المهجرين نازحين ولاجئين.
ولكن رغم كل الجروح والعذابات، وطول المعاناة، تحمّل الشعب السوري بكل انتماءاته وتوجهاته وصبر، وظل على إيمانه بالمبادئ التي ثار من أجلها إلى إن وصل النصر المبين بفضل الله وشجاعة شبابه. لذلك يستحق هذا الشعب العظيم كل التقدير والاعتزاز والوفاء، وهذا كله لن يتحقق من دون احترام وضمان الأهداف التي ثار من أجلها.
*كاتب وأكاديمي سوري
القدس العربي
————————–
الانتشار العسكري التركي بسوريا.. توسّع أم إعادة ترتيب أولويات؟/ فراس فحام
الأحد 2025/02/09
بالتوازي مع زيارة الرئيس السوري الجديد أحمد الشرع إلى أنقرة، مطلع شهر شباط/ فبراير الجاري، أفادت تسريبات نشرتها وكالة “رويترز”، بأن الشرع سيبحث مع نظيره التركي رجب طيب أردوغان، إبرام اتفاقية دفاعية لإنشاء قواعد تركية جديدة في مناطق جديدة بسوريا، في البادية ووسط البلاد، كما أن الاتفاقية قد تشمل نشر طائرات حربية ومسيرة قرب الحدود السورية مع إسرائيل، إضافة إلى مساهمة الجيش التركي في تقديم تدريبات للجيش السوري.
وردت وزارة الدفاع التركية بشكل فوري على هذه التقارير خلال إحاطة أسبوعية، مؤكدة أنه من المبكر الحديث عن مثل هذه القضايا، وأن أنقرة تركز على ضمان وحدة الأراضي السورية وسلامة أراضيها، ومنع نشاطات التنظيمات الإرهابية.
أسباب التركيز على البادية
يدور في دمشق من قبل زيارة الرئيس السوري إلى أنقرة، حديث عن احتمالية تأسيس الجيش التركي بالفعل لقاعدة عسكرية في منطقة البادية السورية التي تقع أيضاً على مقربة من الحدود العراقية، والهدف فيما يبدو تقديم تطمينات للدول الإقليمية والولايات المتحدة بخصوص عدم عودة تنظيم داعش للنشاط في المنطقة، وهذا يجعل من الجانب التركي بديلاً موثوقاً للتحالف الدولي يغنيه عن الاستمرار بدعم تنظيم قوات سوريا الديمقراطية (قسد) تحت ذريعة مكافحة الإرهاب.
الحراك التركي في هذا الخصوص، لا يقتصر على مسألة تأسيس قواعد عسكرية في البادية، بل تقود أنقرة حراكاً دبلوماسياً لتعزيز التنسيق بين العراق والحكومة السورية الجديدة، وبالتالي إبعاد قسد عن ملف مكافحة الإرهاب، حيث أسست الحكومة العراقية غرفة عمليات مع قسد بعيد سقوط بشار الأسد وبررت موقفها للجانب التركي بأنها مضطرة على هذه الخطوة من أجل ضمان أمن حدودها.
وعلى الأرجح فإن مضي تركيا قدماً في تأسيس قاعدة في البادية السورية، منوطاً بنتيجة المباحثات مع الجانب الأميركي الذي يمتلك قاعدة التنف في المنطقة، وقد ترى إدارة ترامب بالوجود العسكري التركي أيضاً ضمانة لضبط الحدود السورية العراقية ومنع تهريب السلاح إلى سوريا مرة أخرى.
إعادة انتشار
تمتلك تركيا العشرات من القواعد والنقاط العسكرية في سوريا، المنتشرة شمال غرب البلاد وشمال شرقها ومنذ ما قبل سقوط الأسد، وتفيد بالمعطيات بأن أي اتفاقية ستتم مع دمشق ستتضمن إعادة انتشار ضمن مناطق جغرافية تخدم مصلحة الطرفان، وبالتالي سنكون على الأرجح أمام عملية إعادة انتشار، بحيث يتم تقليص عدد القواعد التركية الموجودة في حلب وإدلب، والتركيز على البادية السورية والحدود السورية التركية، شمال سوريا.
من غير المتوقع أن تقيم تركيا قواعد عسكرية قرب الحدود الإسرائيلية، إلا إذا كانت قوات مراقبة يتم نشرها بديلاً عن النقاط العسكرية الروسية التي انسحبت من جنوب سوريا بعد سقوط الأسد، وفي هذه الحالة سيتم الأمر بالتنسيق مع الأمم المتحدة، ولضمان عدم حصول خروقات على الحدود التي شهدت توتراً خلال الشهرين الماضين نتيجة اقتحام الجيش الإسرائيلي للعديد من المواقع في محافظة القنيطرة.
مهام تدريبية
من الواضح أن دمشق تنظر إلى تركيا على أنها جهة مؤهلة لتقديم التدريبات للجيش السوري، وربما مستقبلاً مصدراً للسلاح الذي شهده تصنيعه محلياً في تركيا طفرة كبيرة خلال العقد الأخير.
ومن المحتمل أن تقيم تركيا لأجل هذا الغرض مقرات تدريبية في عدة مناطق من سوريا من أجل تقديم الاستشارات للجيش السوري الجديد، على غرار ما فعلته أنقرة في طرابلس الليبية في الأعوام الأخيرة، حيث احتفظت بقاعدتين غرب ليبيا من أجل هذه المهام، لكن مثل هذه الخطوة التركية في حال حصلت ستكون بعد امتلاك الحكومة السورية كامل القدرة القانونية على إبرام اتفاقيات دولية، وستتم بتنسيق مع الأطراف الإقليمية الفاعلة وعلى رأسها المملكة العربية السعودية ودولة قطر، حيث أن الرسائل التركية منذ سقوط الأسد تؤكد على عدم رغبة أنقرة العمل على الاستئثار بالنفوذ في سوريا.
المدن
———————————
الشرع وتركيا… رسائل بين السطور/ عالية منصور
09 فبراير 2025
منذ لحظة سقوط النظام السوري، وهروب بشار الأسد إلى موسكو، برز سؤال بين أوساط المتابعين والمهتمين بالشأن السوري، هل ستحل تركيا مكان إيران في سوريا؟ وهل سيتم استبدال النفوذ الإيراني والتبعية لطهران، بنفوذ تركي وتبعية لأنقرة؟
هذه الأسئلة والمخاوف المشروعة، حاول الرئيس السوري أحمد الشرع بدبلوماسية شديدة نفيها، فأرسل الرسائل في مختلف الاتجاهات، أن سوريا لن تكون تابعة لأحد، ولن تدخل في حروب مع أحد، وكانت زيارته الأولى للمملكة العربية السعودية تلتها زيارة لتركيا، فمصلحة سوريا تقتضي علاقات جيدة مع محيطها، وخصوصا مع تركيا التي دعمت الثورة السورية لسنين طويلة، ولكن محيط سوريا وحاضنتها هي الحاضنة العربية.
بحكم الجغرافيا، كان لتركيا الدور الأبرز في سوريا خلال سنوات الثورة، ولتركيا مجموعات سياسية وعسكرية وحتى مدنية، تدين بالولاء لأنقرة، ولكن “هيئة تحرير الشام” التي كان يتزعمها الشرع ليست إحدى هذه المجموعات، وإن كانت العلاقة بين الهيئة وأنقرة علاقة ودية، فإنها ليست علاقة تبعية، كما هي حال الكثير من فصائل “الجيش الوطني السوري” العاملة في الشمال السوري.
اليوم تبرز الكثير من الإشارات المتضاربة عن العلاقة بين الطرفين، دمشق وأنقرة، ففي الوقت الذي يسعى فيه الشرع لفرض سيطرته على كامل الأراضي السورية من خلال التفاوض والحوار، وقد أعلن أكثر من مرة، تفضيله للحل السلمي مع “قوات سوريا الديمقراطية” الموجودة في شمال شرقي سوريا، تجنح أنقرة أكثر نحو الحل العسكري، فهي تريد اجتثاث “حزب العمال الكردستاني” و”قوات سوريا الديمقراطية” بمعركة عسكرية تضمن حدودها وأمنها، فهل ينجح الشرع بتأجيل هذه المعركة وتفاديها، وصولا إلى تفاهم (سوري- سوري، وأميركي- تركي) يفتح آفاقه خطاب الزعيم الكردي عبدالله أوجلان؟ يبدو حتى الآن أن الشرع نجح في إقناع الأتراك خلال زيارته الأخيرة بأسباب تفضيله الحل السياسي.
تستعجل تركيا أيضا الحصول على الحصة الأكبر من مشاريع إعادة الإعمار في سوريا، وقد يكون الاستعجال التركي، وكثرة الزيارات هي إشارات على عدم وجود “ثقة” مطلقة بين الطرفين، والمطالبة بترسيم الحدود البحرية بعد أيام قليلة من سقوط الأسد أيضا، والرد السوري عليها أتى في السياق ذاته.
بعد ساعات من وصول الشرع إلى دمشق، صدر قرار من أنقرة بزيادة رواتب العاملين في مؤسسات المعارضة السورية الموالية لتركيا، وتحديدا الحكومة المؤقتة، لم يلتقط البعض هذه الإشارة، اليوم بعد نحو عشرة أيام على “مؤتمر النصر”، والذي أعلن فيه حل جميع الأجسام السياسة، يبدو أن الائتلاف والأجسام الملحقة به، ما زالت ترفض قرار حلها، وهذه الأجسام تركية الهوى والولاء. وإن لم تطمئن أنقرة للحكم في دمشق، قد تتحول هذه الأجسام إلى مشكلة ستواجه الإدارة الجديدة، لحظة البدء بتوجيه الدعوات إلى مؤتمر الحوار الوطني.
وما ينطبق على الأجسام السياسية، ينطبق على الجسم العسكري، وتحديدا الجيش الوطني، والذي يميل معظم قياداته إلى السياسة التركية، فصحيح أن فصائل الجيش الوطني كانت حاضرة في “مؤتمر النصر” في دمشق، حيث عين أحمد الشرع رئيسا للبلاد، إلا أن كيفية انضوائهم إلى الجيش السوري الجديد، لا تزال غامضة، وقد تُقرأ بعض تعيينات قيادات بالجيش الوطني السوري- عليها الكثير من إشارات الاستفهام- بمناصب عليا اليوم، كنوع من الرسائل التطمينية للأتراك، لا نريد علاقات سيئة معكم، ولا نريد إقصاء من قمتم بتعيينهم، ولكن لا للولاء المطلق.
ما سربه الجانب التركي إلى الإعلام قبيل زيارة الشرع إلى أنقرة، ولقائه الرئيس رجب طيب أردوغان من أن الجانبين بصدد توقيع اتفاق دفاعي مشترك، يتضمن إنشاء 4 قواعد جوية تركية في وسط سوريا وتدريب الجيش السوري الجديد، لم يحصل حتى اللحظة، وبقي الأمر محصورا في تسريبات إعلامية، هذه التسريبات لا يمكن اعتبارها مجرد تكهنات، بل هي رسائل ووسائل ضغط. موضوع الجمارك على السلع التركية، لدعم الصناعة المحلية، وقدرة المواطن الشرائية شبه المعدومة اليوم، كانا من المؤشرات الأخرى على العلاقة بين الطرفين.
يعتبر البعض أن تركيا كان لها الدور الأكبر في دعم عملية “ردع العدوان”، ولكن أيضا من المهم أن نذكر أن أردوغان كان متحمسا للتطبيع مع الأسد، وتؤكد المصادر أن التفاصيل تشي بأمر مختلف، ولهذا حديث آخر.
ليس المقصود القول إن العلاقة بين تركيا ودمشق سيئة، ولكن أنقرة تطالب دمشق بالكثير في وقت قصير، وهذا لا يدل على ثقة مطلقة بمن هم في دمشق اليوم، والردود السورية أيضا لا تدل على علاقة تابع ومتبوع. فالشرع بدوره لا يسعى إلى علاقة باردة مع أنقرة، ولكنه يدرك أن سوريا بحاجة إلى دعم الجميع، دون استفزاز أحد، مع ميل واضح لأن يكون العرب، وتحديدا المملكة العربية السعودية، الحاضن الأول لسوريا الجديدة، بعيدا عن الأجندات السياسية والخلافات الإقليمية.
تسعى تركيا لملء فراغ الانسحاب الإيراني والروسي من سوريا، وتحاول الإيحاء بأنها “الأب الشرعي” للمولود الجديد في دمشق، فيما يسعى الشرع إلى إبعاد سوريا قدر المستطاع عن سياسة المحاور، وتأكيد انتماء سوريا إلى المحيط العربي، العروبة بمفهومها الحداثي لا القومي، كما إلى محيطها الإسلامي المعتدل، هذه المعادلة تحتاج إلى الكثير من الحذر، ولكن تحتاج أيضا من جميع المعنيين بأمن سوريا وسيادتها أن يتلقفوا الرسائل والإشارات.
المجلة
—————————-
فريد المذهان “قيصر”.. الوجه الطيب حامل ذاكرة الشهداء/ علي حميدي
2025.02.09
سيقف فريد هذه المرة أمام الكاميرا، بعد أن تجنّبها طويلًا خوفًا على حياته ومشروعه. سيمر أمامنا بوجهه الطيب وصوته الهادئ، دون ضجيج أو حشود، لكنه محمّل بذلك الثقل الذي يسكن النفوس شوقًا لصورة لطالما حضرت قبل أن تُرى.
لمن حمل في قلبه ويديه آلاف الصور، آلاف الوجوه اليابسة التي فقدت أسماءها في أقبية الموت، لم يعد ظلًا ولا طيفًا أزرق، لم يعد مجرد قصة تروى في جلسات الاستماع، بل جسد ينبض، وعينان تحملان ذاكرة الأسى. لا حاجة للقناع بعد الآن… لقد انتصرنا يا فريد، وكنت من أوائل الفرسان.
الصورة 1 فريد المذهان “قيصر” مع مورغان المتحدثة باسم وزارة الخارجية الأميركية خلال فترة إدارة الرئيس دونالد ترامب الأولى. وتشغل حاليا نائب المبعوث الرئاسي الخاص إلى الشرق الأوسط.
فريد المذهان، مصوّر لم توثق عدسته الجمال، بل سجّلت كابوس القتل، هو الذي أوصل إلى العالم نظرات أولئك الذين صُوّروا موتى تحت التعذيب، وبالتجوع والترك، ليصبحوا شهداء في ذاكرة الإنسانية. عبر الحدود حاملًا ذاكرة من موت، صورًا لجثث أنهكها العذاب، ووجوهًا رسمت خطوط الدم اليابس تضاريسها، وأرقامًا لُصقت على الجباه لتُوثّق الجريمة وأصحابها. كان يعلم أن كل صورة التقطها كانت توقيعًا على موت، لكنه صيّر مهمته لتكون أسمى من أي خوف.
لماذا كنت تصوّر الجثث؟ سأُل، ولم يكن لديه جواب منطقي، قال: ليتأكد رأس النظام أن ضحاياه قد عُذّبوا بما يكفي وقتلوا، يتحدث بصوت هادئ مرتعش، يكاد صوت احتراق الحطب في المدفأة يطغى عليه، ارتجف غير مرة، حين تحدث عن فشله بالتعرف على صور أقاربه الذين قُتلوا، وكان يعلم أنه صورهم، وحين تحدث عن صوره التي كانت تكلمه في الليل، توصيه أن يحمل وجع أصحابها إلى العالم، وأن يجعل من صمتهم النهائي صرخة، فقرّر أن يفعل. وفعل.
كانت رحلة محفوفة بالخوف، حاملاً ذاكرة الموتى، مسافرًا عبر الجحيم، ليكشف للعالم حقيقة كان يخشى أن يصدّقها. تلك الرحلة جعلت منه “قيصر”، وجعلت صوره أساسًا لعقوبات هزّت نظام الأسد الذي قتل كل من التقطت عدسته صورا لملامحهم. وقتل غيرهم لم نعثر بعد على صورهم ولا حتى رفاتهم.
بدأت الرحلة من بيته في مدينة التل بريف دمشق، لكنها لم تنتهِ عند الحدود، بل استقرت في ضمائر الأحرار، حيث أصبح وجهه البسيط أيقونة، وصوته الدافئ تراتيل للحرية.
فريد المذهان، ابن محافظة درعا، عبر الحدود حاملًا مشروعًا يقطر دمًا، ومضى غير عابئ إلا بالعدل. حمل مشروعه سنوات طويلة، وغامر بأغلى ما يملك لأجل العيون المفقوءة، والأجساد اليابسة، والأطراف المحروقة. في رحلته التي امتدت إلى الولايات المتحدة، وغيرها ليستقر في فرنسا، وكان لمعاذ مصطفى، المدير التنفيذي للمنظمة السورية للطوارئ (SETF)، دورٌ بارز في مساندة “قيصر” منذ انشقاقه، وحتى تسريب الصور التي هزّت العالم، وصولًا إلى قانون العدالة والمساءلة، الذي وُلد من رحم هذه الشهادات.
في تلك الأروقة المظلمة حيث يُنسج الرعب، وبين أوراق الملفات السرية التي حملت صورًا دامية، عاش فريد كابوسه الأكبر. كان يعرف أن كل لقطة التقطها حكاية موت وحياة ورسالة، وكل صورة بمثابة صرخة لا تموت. كان العالم يتأمل صوره، لكنه لم يكن يتخيل حجم الألم الذي مرّ به ليحملها، حجم التهديد الذي كان يطارده، والموت الذي كان يتربص به عند كل زاوية.
اليوم، وقد ترك اسم “قيصر”، واللون الأزرق في الأروقة السياسية، وجلسات الكونغرس، وعاد إلينا فريدا، يقف أمام الكاميرا باسمه، بوجهه، بصوته، ليُخبر العالم أن العدالة قد تبدأ بصورة، لكنها لا تنتهي عندها.
في كلماته البسيطة، وفي ملامحه التي أنهكها التنكر، تتجلى ذكرى الشهداء الذين حمل ذكراهم، ليصدح برسالته ” الألم لا ينسى ولا ينبغي أن يفلت جلاد من العقاب”
تلفزيون سوريا
——————————-
هل يمهد بيان النصر لدولة الحق والقانون؟/ عبدالله تركماني
2025.02.09
بداية ثمة تغيير عميق حدث في سوريا بعد إعلان ” بيان النصر ” في 29 كانون الثاني/يناير 2025، إذ إنّ الناطق باسم الإدارة العسكرية، العقيد حسن عبد الغني، أعلن “حلّ جميع الفصائل العسكرية، وإعادة بناء الجيش السوري على أسس وطنية”. إضافة إلى “تولية السيد القائد أحمد الشرع رئاسة البلاد في المرحلة الانتقالية، وتفويضه بتشكيل مجلس تشريعي مؤقت للمرحلة الانتقالية يتولى مهامه إلى حين إقرار دستور دائم للبلاد ودخوله حيز التنفيذ “، بما ينطوي على ملء الفراغ الذي تركه هروب بشار الأسد إلى موسكو. وفي كلمة له في الاجتماع أكد الرئيس المؤقت على أنّ أولويات سوريا اليوم هي “ملء فراغ السلطة والحفاظ على السلم الأهلي وبناء مؤسسات الدولة والعمل على بناء بنية اقتصادية تنموية واستعادة سورية لمكانتها الدولية والإقليمية”.
وفي اليوم الثاني أعلن، في خطاب مكثّف موجّه إلى الشعب، إعادة تأسيس الدولة السورية باستلهام قيم “العدل والشورى”، انطلاقاً من أننا نعيش منذ سنوات حالة “اللادولة ” مع سلطة آل الأسد. ولا شكَّ أنّ المواطنين السوريين، الذين رحّبوا بوعود الرئيس بعد سنوات من غياب الأمن والاستقرار، ينتظرون مدى تطابق الممارسة مع روح الخطاب ومضامين مقابلتيه مع تلفزيون سوريا ومجلة ” الإيكونوميست ” البريطانية، والدخول الفعلي في “نفق” العملية السياسية التي تؤدي إلى دولة الحق والقانون، من خلال نواظم قانونية: المجلس التشريعي المؤقت والإعلان الدستوري ومؤتمر الحوار الوطني، للوصول إلى قوانين مرنة لتشكيل الأحزاب السياسية ومنظمات المجتمع المدني وضمان الحريات الفردية والجماعية، إضافة إلى هيئة مستقلة للعدالة الانتقالية وأخرى للانتخابات. ولعلنا بذلك نصل إلى دولة الحق والقانون في المقام الأول، بما يؤدي إلى مصالحة المجتمع مع دولة الجمهورية الثالثة، باعتبارها بيت لجميع مكوّنات الشعب السوري.
ولا شكَّ أنّ ما ذكرناه ينطوي على دلالات عديدة من أهمها: السير في مرحلة الانتقال من الثورة إلى الدولة، ومن شرعية الأمر الواقع “من يحرر يقرر” إلى الشرعية الدستورية. خاصة وأنّ الرئيس الشرع قال “إنّ هذه مرحلة انتقالية وهي جزء من عملية سياسية تتطلب مشاركة حقيقيه لكل السوريين والسوريات في الداخل والخارج لبناء مستقبلهم بحرية وكرامة من دون إقصاء أو تهميش. وسنعمل على تشكيل حكومة انتقالية شاملة تعبّر عن تنوّع سوريا برجالها ونسائها وشبابها. وتتولى العمل على بناء مؤسسات سورية الجديدة، حتى نصل إلى مرحله انتخابات حرة ونزيهة”. مع الأمل بأن يكون حل الفصائل العسكرية واندماجها في الجيش الوطني بداية حقيقية لتجاوز شرذمتها وصراعاتها السابقة، واحتمالات تعطيلها للتوجهات المعلنة.
وكي تكون هذه الإعلانات تمهيداً لدولة الحق والقانون، يجب التأكيد على المرجعية الدستورية من خلال بدء المجلس التشريعي بإعلان دستوري مؤقت، إضافة إلى مجالس استشارية مختصة إلى جانب الرئيس، من الكفاءات السورية التي تتميز بالنزاهة والاستقامة والوطنية، في المجالات القانونية والاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية، خلال سنوات المرحلة الانتقالية التي لم تحدد خريطة طريقها ولا مدتها الزمنية، مما يجعل السوريين يتخوفون من استمرارها لوقت غير متوقع. وفي هذا السياق، من المفترض أن يقدم رئيس الجمهورية خطة عمل واضحة المعالم، ذات سقوف زمنية محددة، وصولاً إلى الدستور الدائم الذي يُتوج بالانتخابات الرئاسية والبرلمانية والبلدية.
إنّ الأمر يتطلب الاجتهاد في المفاهيم المتداولة لدى الرئيس ومساعديه، لتأكيد التوافق بين الأطياف الفكرية والسياسية والمكوّنات الطائفية والقومية، لضمان السلم الأهلي والوحدة الوطنية على أساس المواطنة المتساوية. فمثلاً القول بـ “العدل والشورى” باعتبارهما مفهومين تراثيين، والسؤال هو: ألا يمكن عصرنة مضامينهما من خلال القول بـ “الديمقراطية” التي امتُحنت أدواتها ومعايرها ونتائجها في دول عديدة متقدمة، بما فيها دول ذات أغلبية مسلمة كما هو الحال في تركيا وماليزيا؟
إذ إنّ كلا الدولتين تقدمتا عبر الطريق الديمقراطي، من خلال حكم القانون الذي يسّر حماية الحريات الخاصة والعامة بما فيها حرية المعتقد، وضمن التعددية السياسية والفكرية وحق الاختلاف، والفصل بين السلطات الثلاث التنفيذية والتشريعية والقضائية، كي لا تطغى إحداها على الأخرى. ولم تُحوّلا الدين إلى أيديولوجية سياسية، بل استلهمتا مقاصده ضمن سياقات العصر ومتطلبات التقدم، التي تقتضي توظيف الموارد الاقتصادية والبشرية بشكل عقلاني ومنتج، انطلاقاً من القول بأنّ ” مدخلات العملية الانتقالية تحدد مخرجاتها”.
وهكذا، فإنّ ضمان الوصول إلى دولة الحق والقانون منوط بتحصين رئيس الجمهورية نفسه بمجالس استشارية من أهل الكفاءات، وبأكثرية سياسية وفكرية واسعة، والإقلاع عن الاعتقاد بالاكتفاء برجاله في إدلب. إذ إنّ التحديات الاقتصادية والاجتماعية، التي تواجه المرحلة الانتقالية، تتطلب تجاوز الاستقطابات الأيديولوجية في اتجاه توظيف كل الإمكانيات المتوفرة لإعادة بناء سوريا برجالها ونسائها وشبابها، إضافة إلى نسج شراكات استراتيجية عربية وإقليمية ودولية. وطمأنتها بأنّ الهدف الأساسي للسياسة الخارجية السورية هو المساهمة في خلق وضع إقليمي ودولي، يتمتّع بالتعاون المشترك، والاحترام المتبادل، والشراكات الاستراتيجية، ونبذ التطرف.
تلفزيون سوريا
———————–
الاحتضان والعناق في سوريا بين عامين 2024- 2025/ أحمد جاسم الحسين
2025.02.09
النقاقون والنقاقات
النقّ هو صوت الدجاجة والضفدع، تطلقه بشكل متتال من دون أن تترك فسحة لكي يتم الاستماع والتحليل والتفاهم والتواصل. بمعنى من المعاني هو صوت من جهة واحدة، وهذ حالة كثير من السوريين اليوم، ينق فقط، مهمته اليومية هي النق، لا ينتظر أن يستمع، بل المهم أن ينق!
يريد من الإدارة الجديدة في سوريا أن تحلّ كل مشكلات البلد المتراكمة منذ سنوات عديدة خلال شهرين!
لا يشارك حتى لو بفكرة، لا يقوم بأي عمل، يحصي ما يشاء من السلبيات ويعرضها على وسائل التواصل الاجتماعي، مستعملاً صيغة “ما قلتلكم؟ شفتوا؟”
كل العالم انتقل إلى مرحلة “بدلاً من أن تقل لها تت اكسر رجلها”، لكنه لا يشارك بأي شيء، هذا واجب الدولة، لا يقول “تت ولا يكسر رجلها” الدجاجة أعني!!
بين النق والنقد حرف واحد، لكن هناك فرق كبير في الدلالة، النقد حتى لو ركز على النقاط السلبية، خلفه فكرة ورؤيا وموقف ورأي، فيما النق هو الإرسال من طرف واحد، من دون لغة، من دون انتظار التوضيح أو التواصل، أو النظر إلى الظروف المحيطة. يمكنك أن تضيف إليهم الزنانون والزنانات والمستعجلون والمستعجلات واللجوجون واللجوجات.
لدى الهولنديين مثل يقول: لا يمكن للاستعجال والجودة أن يسكنا في بيت واحد، بمعنى أن أي عمل ناجح يحتاج إلى تخطيط، ولا يعني التخطيط غياب الإنجاز في الوقت المحدد أو البطء.
إنْ تعطلتْ حنفية منزلك “صنبور الماء” كم يكلفك ذلك من وقت وبحث حتى تستطيع استبدالها؟ ربما ستنق عليك سيدة البيت، غير مرة، حتى تستبدلها، هذا “نق إيجابي” لأنك من دونه ستؤجل الموضوع أسبوعاً!
الأوطان والبيوت لا تبنى بيوم وليلة، حاول أن تكون جزءاً من البناء ولو بشق تمرة، أو زراعة شتلة ياسمين أمام بيتك، أو على شرفتك!
37 عاماً كتابة صحفية
“القناعة كنز لا يفنى، دعوة إلى إعادة النظر في الأمثال الشعبية”.
هذا عنوان أول مقال نشرته في مثل هذه الأيام قبل 37 عاماً، في صفحة اسمها قضايا الجيل يشرف عليها الصحفي سمير صارم في جريدة تشرين، أرسلتها عبر البريد وكنت في السنة الجامعية الثانية.
حاولت قبل ذلك الدخول إلى جريدة تشرين، غير أن موظف الاستعلامات قال لي: إنْ لم يكن اسمك موجوداً لدي، وعندك زيارة إلى شخص محدد، نعتذر عن السماح لك بالدخول، تلك لغة مهذبة أستعيد من خلالها ما حدث، أذكر وجهه جيداً، قالها بلغة استهتار: “شو بدك؟” ولعند مين جاي؟”
معظم موظفي الاستقبال على الأبواب الخارجية في سوريا كانوا يحملون ذات الطباع ويتصفون بالفظاظة وقلة التهذيب. كثير منهم تمّ تعيينه لأسباب أمنية حتى يقدم تقريره عن زوار المدير العام إلى الجهة التي رشحته، وفي حالات انتظاري عندهم على أمل أن يمر أحدٌ أعرفه، أو يرق قلبه لكي أدخل، أرى منهم وجهاً آخر ناعماً حين تأتي صبية، أو موظف له قيمة إدارية ما. غير أن أفظع أنواع موظفي الاستقبال كانوا أولئك الموجودين في مبنى الإذاعة والتلفزيون، وهم جزء من أحد فروع المخابرات، وكل من عمل في التلفزيون السوري يعرفهم جيداً!
سبق هذا المقال، نشرَ خاطرة أقرب إلى القصة القصيرة في جريدة الفرات التي كانت تصدر في دير الزور، غير أن اسمي طار من الخاطرة، كيف أثبتُ لمن أراه أن تلك الخاطرة لي، راسلت الجريدة، انشروا اسمي أو تنويهاً أو أي شيء أريد أن أثبت لمن أراه أنني أنا الكاتب، غير أنهم لم يردوا علي، ولم يفدني أنني اشتريت يومها معظم الأعداد التي يوزعها موزع الجرائد الوحيد في بلدتنا أبو فارس.
ركضت نحو زملائي، “الأدق زميلاتي” في جامعة دمشق، أعلمهم عن نشر مقالتي في جريدة تشرين، وقد اشتريت أكثر من عدد من الجريدة، وزعتها عليهن مجاناً!
أخذتني الحياة يمنة ويسرة وأتيح لي أن أكتب وأشتغل في معظم أنواع الإعلام المسموع والمرئي وكتابة المسلسلات الإذاعية، إضافة إلى عملي الأساسي في التدريس الجامعي، آلاف من المقالات: عن كتاب، تغطية لحدث، تقرير، تحقيق، مقالة رأي، سرد صحفي، مقالات محكمة، أبحاث، كتب، برامج إذاعية وتلفزيونية… غير أن نكهة أول مقال حين رأيت اسمي في الجريدة لم تفارقني، وبقي طعمها في فمي حتى هذه اللحظة!
الاحتضان والعناق والقبلات
هناك مشهد لم يغب عن بالي، وهو معانقة ولي عهد السعودية الأمير محمد بن سلمان لرئيسنا السيد أحمد الشرع، قرأت فيه: أنا معك، نحن معك، أنا أخوك، كذلك قرأت فيه: شكراً لأنك قطعت أوصال ذلك المشروع، الذي لم يرد الخير للعرب وبلدانهم! ما لم يقله الاحتضان، قالته العيون!
ضمَّاتٌ طويلة اليوم، يتبادلها سوريون يلتقون بموعد أو من دونه، يتخللها التوقف فجأة والابتعاد قليلاً عن الآخر، ينظران في عيونهما: “فعلاً رجعنا ورجعت البلد” ثم تعاد الضمة، كأننا في فيلم سينمائي!
مفاهيم الإناث والرجال ضاعت في مقاه وحارات كثيرة، وغدت الأمومة والشوق والبعد الإنساني هو الناظم لها، حتى أنني شخصياً كل من رأيته في الشام ضممته، أو ضممتها، وقلت لكثيرين: اعذروا شوقي فهو لم يعد تحت سيطرة الحسابات الأرضية، صرت متصوفاً أتجاوز الماديات، كثيرون وكثيرات صدقوني!
وجدتُ شخصاً يقبّل شجرة، وحين ابتسمت له، قال لي: كنت أجلس تحتها ولي ذكريات جميلة هنا، كي أبين له أنني أفهم مشاعره، أخرجت له صورتي وأنا أقبّل أرض بلدي أول دخولي إليها، مازحته: الحالمون يقبلون التراب والشجر، والعقلاء يقبلون الحبيبات الجميلات!
أظنُّ أنَّ كمّ القبلات والعناقات والاحتضانات الذي شهدته دمشق خلال شهريْ الانتصار يعادل تاريخها الطويل في احتضان المشتاقين، لا أتحدث هنا عن هذه المشاعر الإنسانية في الأماكن المغلقة أو في البيوت. بل أتحدث عن تلك العناقات في الفضاء العام. لو أتيح لمصور أن يصور تلك القبلات والاحتضانات في دمشق ويصنع منها مادة وثائقية لحصل على كنز سوري يمكن أن نقدمه للعالم بصفتنا: أجمل المشتاقين في العالم!
في دمشق يومياً كمّ كبير من القبل والعناقات المرئية، غير أن تلك الاحتضانات والعناقات بعد فقدان الأمل، بعد الانتصار، بعد غياب طويييييل، لن تتكررر في تاريخ المدينة، لا يروي المتعانقون شوقهم فحسب، بل يريدون أن يقولوا: انتصرنا! عدنا، اشتقنا، هل من المعقول؟
يريد كل معانقٍ أن يطمئن الآخر أنهما في الشام، هذه حقيقة؟ نعم، حقاً! حقيقة؟
هل يصدق أحد منكم أننا عدنا إليها منتصرين، وأن لحظة العناق والاحتضان وتلك القبل هي في الشام؟ إن لم تصدقوا كرروها كل يوم حتى ترتوي القلوب المشتاقة!
تفاجأت بها، هربتُ من عينيها، لم أصدق أننا في الشام معاً، ركضتُ خلفها لأقول لها: لقد عدنا، اشتقت إليك، تعالي نرقص وندبك في ساحة الأمويين كما حلمنا ذات يوم، أو نلبس لباس العرس ونلتقط الصور، غير أنها غابت عن عيني كأنها لم تعرفني أو لا تعرفني!
تلفزيون سوريا
—————————-
الدولة ليست علمانية وليست دينية/ جمال الشوفي
2025.02.09
الدولة التي نريد، هي كثافة سؤال السوريين وحواراتهم اليوم وللمستقبل المنشود. وفي كل موقعة حوارية تبرز عديد الفرضيات التي ترصد صفات هذه الدولة ومضامينها كلٌ حسب ما يتصورها أو يعتقد أنها حقيقة واجبة التطبيق لخلاص الأمة من كوارثها التي أقامها نظام الاستبداد والإبادة الجماعية لحكم آل الأسد وعسكرهم. الدولة وسؤال الأحقية والاستحقاق في تعداد صفاتها: علمانية أو مدنية أو دينية إسلامية وقبلها المتفانية الماركسية أو القومية.. وجميعها صفات مسبقة تختزل مفهوم الدولة أمامها، طافية على سطح المشهد السياسي. فهل للدولة صفات بعينها أم أنها براء من هذا الاختلاط السياسي؟
الدولة والمصطلح:
حقيقة سؤال الدولة لا تكفيه مقالة بعينها بل دراسات وأبحاث وحوارات مجتمعية واسعة. فالدولة، الدولة الوطنية، تم تحديد مصطلحها ومفهومها الأساسي مشتقاً من الكلمة الألمانية “Staat” وتعني “الوقوف بحزم”، أو لاتينياً وباللغة الإنكليزية “State” وبالضرورة مفهوم “الوضع” القائم. وهذا الوضع القائم ليس قدري الصنع كما في الطبيعة وممالك الحيوان، بل يكتنف مفهوم الإرادة العامة للشعب. فالدولة هي السيادة مبدئياً، سيادة الأمة وقد التقت المصلحة العامة والقيم الوجودية للشعب بعمومه على التوافق وبإرادته العمومية على وضع قانوني وحيادي هي الدولة، تقوم بدورها الوظيفي، فهي:
أولاً تعمل على إدارة شؤون الناس اقتصادياً ومادياً وحياتياً واحترام قدراتهم وإمكانياتهم للمصلحة العامة.
وتدافع عن حقوقهم وفقاً للقانون الوضعي العام الذي يساوي بين الجميع بمرجعية الدستور ثانياً.
وتحمي حدود الإقليم أو الحدود الجغرافية ثالثاً.
ووفقاً لهذه الأدوار، فإن هذا الموقف الحازم أو الحالة الوضعية لهذا المصطلح وأساسه الإرادة الشعبية في تقرير مصيرها وتحقيق أمانها واستقرارها وعدالتها، فلا تفرق بين الأفراد من حيث الحقوق والواجبات، وتقوم على العدل والإنصاف والحياة الكريمة. وبالضرورة الدولة وضعياً هي مجموع المؤسسات التي تتعامل مع الشعب بمختلف أفراده ومكوناته بحيادية وبالتساوي من دون محاباة أو تمييز. فالمحكمة تفصل بين المتخاصمين حسب القانون العام لا حسب الانتماء الديني أو السياسي، والمستوصف الطبي والمشفى بقوم بالرعاية الصحية لكل فرد بالمجتمع وليس لعلماني من دون الديني أو العكس!
مصطلح الدولة لم يتوقف عند حد نظري بعينه، وتأخذ علوم الاجتماع والسياسة على تطويره وتحديثه. ورغم اختلاف مناهج بحثها العامة في التوصيف والتضمين والتحليل، لكنها جميعاً ترتكز على الأسس والدعامات الأولية في تحقيق مفهوم الدولة واقعياً وهي: السيادة، سيادة الشعب، الدستور كخلاصة نصية للعقد الاجتماعي والإرادة العامة للأمة وليس لجهة ما بعينها، أي ليس لحزب البعث القائد للدولة والمجتمع في العهد البائد أو لأي جهة أخرى بديلة عنه اليوم، والحدود الجغرافية التي تمتد عليها قوانين هذا المجموع البشري، والمؤسسات التي تدير شؤون الناس على أرضية هذه الثلاثية العامة. وبالضرورة منوط بالدولة تحقيق وترسيخ حقوق الناس من حيث الاستقرار والأمان وصون الحقوق من دون تمييز عرقي أو ديني أو ثقافي، ومن دون تغول سياسي أو جهوي من فرد أو جهة على آخرين. من هنا كان المصطلح النافذ في عالم السياسة العصري دولة الكل المجتمعي، دولة الحق والقانون، دولة المواطنة المتساوية، ليس مصطلحاً وحسب بل تعبير وتجسيد فعلي للسيادة والتعاقد الاجتماعي وتحقيق الأمن والأمان والحماية بآن.
في نقاش الفرضيات الراهنة:
في سياقنا السوري الحالي، أتساءل مع من يتساءلون حوارياً حول سؤال الدولة وما يجب أن تكون عليه بأي من صفاتها المفترضة وفق فرضيات عدة، والسؤال غرضه التفريق بالملامسة والتجربة والحوار العقلي الهادئ وصولاً لنتائج واقعية. ففي المبدأ وجد مفهوم الدولة حتى يقطع مع طاعة الإنسان أو المجموع البشري لفرد أو جهة بعينها. وبالضرورة لتكون الإرادة العامة متمثلة بحالة وضعية محايدة يقبل بها المجموع البشري نافية شرعية أية جهة تعيد أنماط إنتاج حكم الفرد أو الحزب أو الملّة.
فرضية أن الدولة يجب أن تكون دينية/إسلامية أو يعبر عنها بدين الدولة هو الإسلام، فالإسلام دين الإخاء والمساواة والتسامح والمحبة، دين العدالة حيث لا فرق لعربي على أعجمي الا بالتقوى.. وهذا الحديث حق في زمنه، ولكن ماذا عن الأديان والطوائف الأخرى؟ ماذا عن غير المتدينين؟ ما يطرح فرضية مقابلة هي الدولة العلمانية وذلك للفصل بين الدين والسلطة السياسية. وهذا أيضاً حق، لكن ضبابية الموقف في هذا الحق يتجلى في الخلط بين مفهومي السلطة والدولة. فيما الغائب عن المشهد أن العلمانية هي ثقافة مجتمعية لا تنكر حق الأديان والتدين بكافة تنوعاتها، ولا تقف بمواجهتها. وثقافة العلمانية لا تفترض أن هناك انقسام مجتمعي بين الديني أو اللاديني، وتخرج من هذه الثنائية الهدامة، لمفهوم الحقوق العامة والقانون الوضعي والعمل التشاركي لبناء المجتمع. وبالضرورة تصبح العَلمانية صفة مجتمعية ثقافية زمنية قابلة للحوار لا للإنكار أو فرض إرادة لجهة على الآخرين، وبالضرورة ليست من صفات الدولة أو تختزلها فيها. وبين هاتين الفرضيتين تبرز فرضية الدولة مدنية، ويعني تحييد حكم العسكر والسلطة عن رقاب الشعب، وهذه وضوحاً صفة السلطة السياسية كإحدى مؤسسات الدولة المحدودة زمنياً وليست صفة الدولة بعامها. فالسلطة ليست وكالة حصرية دائمة بل هي مجرد وكيل قصير العمر يوكل إليه صاحب السيادة، وهو الشعب، بتنفيذ أوامره وفق الدستور.
الخلط بين السلطة والدولة مشهد سياسي ضبابي، فماذا لو كانت الدولة ماركسية أو قومية.. وجميعها صفات سلطة وفقط، فلازلنا نعاني من كوارث إحلال الدولة ومؤسساتها في السلطة ذاتها. وسلطة البعث العسكري البائد شاهد لا تخطئه عين.
وحيث تبدو كل فرضية بذاتها مكتملة الأركان بمسلماتها وبديهياتها ونتائجها، وفق منطق صوري مكتمل الأركان فالنتيجة متضمنة بالمقدمات سلفاً، وما علينا سوى اتباع ذات المنطق للوصول للدولة التي تريد، وما على المواطن سوى أن يلتحق بإحدى هذه النماذج من الصفات وسنصل لجنة الفردوس! ولا ننسى في هذه الأثناء أن نلقي بالويل والثبور وعظائم الأمور على من ضيع حلم الدولة “الحق” دينية أو علمانية أو غيرها والبقية فرق ضالة، والضلال هنا كل خارج عن صفة ما دون الأخرى. ما يجعل التنافس العام على الصفات بعيداً عن كل البعد الدولة بقدر أنه تنافس على الوصول للسلطة بحجة الدولة، والدولة براء من هذا جميعاً.
القول الحق بالحكم المدني يعني أنه من حق أي جهة سياسية مدنية الوصول للسلطة على أرضية الدولة المحكومة بالدستور والقانون ذو السيادة العامة مبدئياً، فنقول سلطة البعث السياسي، سلطة مجلس السوفييت الأعلى، سلطة رجال الدين، سلطة وسلطة وسلط.. ولكنها ليست سلطة العسكر؛ وبالضرورة تحييد العسكر عن الحكم وإعطاؤها مهمة أساسية في بناء الدولة هو حماية الحدود والأرض. وبالمقابل لنذهب باتجاه الثقافة المجتمعية التي تحتاج لزمن من الحوارات المجتمعية ودور الثقافة والمثقفين والمجتمع المدني في تعزيز مفهوم الحرية بكل أطيافها الفكرية والسياسية والإيمانية والتعبيرية والأدبية، وهذه ليست سمة الدولة بل سمة المجتمع بتطور حلقاته الزمنية. ليصبح القول بأي صفة للدولة قول نافل عن الحقيقة والسياق الموضوعي لبناء المجتمعات. ويصلح هنا التكرار في القول بالدولة الحيادية تجاه الجميع والتي تعادل مقولة دولة الكل المجتمعي، وما السلطة والحكم سوى إحدى مؤسساتها الرئيسية وليست كل الدولة.
خلاصة القول، الدولة ليست دينية ولا عَلمانية، وهذه تطلب مقالات وحوارات أوسع، فيما سؤال السياق والصيرورة سيبقى محط نزاع بشري طبيعي، يحتاج زمنه للاستقرار والانتظام، وهذا ما عبر عنه توماس هوبز، قبل أن تصل إنكلترا وبعدها فرنسا ودول أوروبا عامة التي نناقش فرضياتنا بدلالتها، للاستقرار والأمان والعدالة والحرية أس الدولة وأساسها قبل صفات نظام حكمها!
تلفزيون سوريا
—————————–
حين امتلك السوريون صوتهم/ وفاء علوش
2025.02.09
طوال عقود بقي صوت السوريين مكبلاً بأغلال حبسته عن الفضاء السياسي، حتى اندلاع الثورة التي أعادت إليه الحياة فعاد معبراً عن رغبات السوريين وتطلعاتهم.
ربما كان ذلك قدر الشعوب على اختلاف تجربتها وجغرافياتها، إذ يبدو أن حرية التعبير تطورت بشكل مختلف في كل دولة بناءً على تاريخها السياسي والثقافي، ففي فرنسا على سبيل المثال تعود جذور حرية التعبير إلى الثورة الفرنسية (1789)، حيث أُعلن عنها في إعلان حقوق الإنسان والمواطن، في حين عرف القرن التاسع عشر رقابة متذبذبة، خاصة خلال حكم نابليون والملكيات اللاحقة، حتى القرن العشرين، حيث شهدت حرية الصحافة توسعاً.
من جهة أخرى ضمنت الولايات المتحدة حرية التعبير بموجب التعديل الأول للدستور الأميركي (1791) وعلى الرغم من ذلك، فقد شهدت فترة الخمسينات قيوداً شديدة على التعبير السياسي، على خلاف العصر الحديث حيث أصبحت حماية حرية التعبير واسعة، لكن ما يزال هناك جدل حول علاقة خطاب الكراهية والتضليل الإعلامي بحرية التعبير.
في بريطانيا كانت هناك رقابة صارمة على المطبوعات في العصور الوسطى، وبدأت الصحافة في الحصول على حريتها في القرن السابع عشر، وبقيت كذلك حتى عام 1952 حيث صدرت قوانين مثل قانون التشهير وقوانين تحد من خطاب الكراهية، حيث أسست لتوازن بين حرية التعبير وحماية الأفراد من الأخبار الزائفة والتشهير.
أما في شرقنا البائس فقد تأثرت حرية التعبير في كثير من الدول العربية بالاستعمار ثم بالأنظمة الحاكمة بعد الاستقلال، وفي بعض الدول توجد رقابة شديدة على الصحافة ووسائل التواصل الاجتماعي، بينما تشهد دول أخرى انفتاحاً جزئياً.
شهدت حرية التعبير في سوريا تحولات كبيرة عبر التاريخ، متأثرة بالأنظمة السياسية المختلفة والأوضاع الأمنية، في فترة الانتداب الفرنسي شهدت البلاد بعض الانفتاح الصحافي، لكن السلطات الفرنسية قيدت حرية التعبير، خاصة ضد المعارضين للاستعمار، أما بعد الاستقلال، فقد تمتعت سوريا بفترة من الانفتاح النسبي، حيث نشطت الأحزاب السياسية والصحافة المستقلة، وفي الخمسينيات، شهدت البلاد تعددية حزبية وحراكاً سياسياً، لكن الانقلابات العسكرية المتتالية أثرت على استقرار حرية التعبير، حتى وصول حزب البعث إلى السلطة عبر انقلاب عام 1963، الذي فرض قانون الطوارئ الذي قيد حرية التعبير والصحافة، وأصبح الإعلام موجّهاً بالكامل من الدولة، وحظرت الصحف المستقلة وكان أي انتقاد للحكومة يُعتبر جريمة سياسية، مما أدى إلى اعتقالات واسعة للصحفيين والناشطين.
فرضت الدولة رقابة مشددة على الصحافة منذ حكم الأسد الأب، ولم يُسمح بأي إعلام مستقل لم يكن مسموحاً بانتقاد الحكومة أو الحزب أو الجيش، وأي معارضة كانت تُعامل على أنها “خيانة وطنية” وكانت وسائل الإعلام مملوكة بالكامل للدولة وتروج للدعاية الرسمية.
مع وصول بشار الأسد إلى الحكم، ساد اعتقاد بأن الانفتاح السياسي قادم، وظهرت بعض المنتديات السياسية لفترة قصيرة، لكنها أُغلقت سريعاً ثم أصبح الفضاء الرقمي متنفساً للمعارضين، لكنه خضع لاحقاً للرقابة والمراقبة المشددة واستمر الوضع السياسي خانقاً حتى اندلاع الثورة السورية وما تبعها من قمع للحريات وأصوات الناشطين حيث اغتيل الفضاء السياسي تماماً، وأصبح الناشطون والصحافيون وكل من يتناول العمل أو الحديث بالشأن العام عرضة للاعتقال والإخفاء.
بعد سقوط النظام حدث في سوريا ما يشبه انفجارا هائلا في حرية التعبير، وباتت الساحة السورية أرضاً خصبة، ضمت فيها أصوات السوريين ممن عبروا بالرفض والرفض المبالغ فيه والاستنكار، أو التأييد والتأييد المبالغ فيه في بعض الأحيان أيضاً، وحطم السوريون جدار الصمت الذي بناه الاستبداد الأسدي، لكن المشكلة التي واجهناها كسوريين أننا لم نتمكن من التواصل بشكل جيد بعضنا مع البعض الآخر وهو جزء من التركة الثقيلة التي خلفها النظام، تلك التركة التي لم تسمح لنا بالحوار والتعارف بشكل جيد أو تقبل بعضنا البعض.
ظهرت نتائج القمع السياسي الذي مورس على السوريين لعقود مضت بتطرف الآراء السياسية وعدم واقعيتها، وهو أمر لا بد من تفهمه بسبب غياب الحياة السياسية في سوريا وعدم تمكن السوريين من مراكمة الوعي السياسي اللازم لإدارة حوار بنّاء بعد زوال سفاح دمشق.
من الواضح اليوم وجود جهود لإعادة بناء الحياة السياسية وتعزيز حرية التعبير في سوريا، لكن التحديات الأمنية والسياسية تشكل عقبات أمام تحقيق هذه الأهداف، ويبدو أن الجهد لا يكفي وحده بل يتطلب الأمر التزاماً حقيقياً من جميع الأطراف لضمان انتقال سلمي وبناء دولة تحترم حقوق مواطنيها.
يبدو المناخ اليوم مؤاتياً لخلق مناخ سياسي خالص، ربما قد تشوبه بعض المنغصات بحكم حداثة عهدنا السياسي وحداثة الظروف المحيطة، وقد يصبح أكثر فاعلية في حال توافق السوريون على دستور يضمن الحريات الأساسية ويكفلها للجميع، وحرص السوريون على إنشاء مؤسسات قضائية مستقلة تحمي حرية التعبير والصحافة، والعمل على وجود إعلام مستقل وصحافة غير خاضعة لرقابة الدولة.
ماذا يعني هذا للسوريين؟
يعني طوي صفحة الماضي الأسدية إلى غير رجعة، فإمكانية انتقاد الحكومة من دون خوف من الاعتقال أو التعذيب وإطلاق سراح المعتقلين السياسيين، وإلغاء القوانين القمعية وحرية تأسيس أحزاب سياسية وصحف وقنوات إعلامية مستقلة، ووجود انفتاح ثقافي وإعلامي سوف يخلق حالة سياسية جديدة ستضيف إلى صوت السوريين ميزة صناعة الرأي العام والتأثير به ومن خلاله، مع أهمية مراعاة وجود قوانين توازن بين حرية التعبير وحماية الأفراد من الأخبار الزائفة والتشهير.
لا يتوافق السوريون اليوم على صحة الإجراءات التي تتبعها الحكومة في كثير من الأمور والتفصيلات، وهو أمر غير مطلوب أصلاً، فمن الضروري وجود حالة الاختلاف في الآراء السياسية والتمتع بامتيازات الفضاء السياسي الحر.
قد يبدو ذلك على أنه أمر سلبي لكن ذلك مرده إلى أنه أمر جديد على الحالة السورية تماماً، علاوة على أن هذا الاختلاف صحي للغاية، وهو أمر ليس على السوريين القلق بخصوصه بل على العكس يجب ألا نساوم بشأنه، لأنه الفضاء الوحيد الذي ممكن أن يُعوّل عليه في تصحيح المسارات السياسية ومنع التجاوزات والشطط في بعض الإجراءات.
ولأن الأحوال لا تبدو أنها تسير بالسرعة التي يتمناها السوريون اليوم وهو أمر متوقع بالنظر إلى الواقع الذي تُركت فيه سوريا متهالكة ومتعبة للغاية، يبدو أن تطبيق خطة إصلاح تدريجي هو الأكثر واقعية، لكن ذلك لا يعني أن يقبل السوريون بأقل من بناء مؤسسات ديمقراطية، ومحاسبة المسؤولين عن القمع، مما يخلق بيئة سياسية جديدة، لتكون بداية تدريجية لحرية التعبير، وظهور إعلام مستقل، وبالتالي انتخابات حرة تدريجية تتيح تعددية سياسية مع مرور الوقت.
يبدو السوريون اليوم في ذروة القدرة على التعبير عن الأفكار والهواجس والمخاوف والأمنيات والرغبات، استطاعوا بمدة قياسية التحول من الصمت المطبق إلى الطرف النقيض تماماً، وتمكنوا اليوم من أن يكونوا مراقبين وناقدين للوضع الحالي وحراساً لما أنجزته الثورة وهي المهمة الأصعب في المرحلة القادمة، وإذا ما افترضنا في أسوأ الأحوال أن الأمور قد تذهب باتجاه مختلف عما ثاروا من أجل تحقيقه، فهم وحدهم القادرون على تصويب المسار وإعادة الأمور إلى نصابها، لأنهم لن يسمحوا لأحد بسرقة صوتهم الذي امتلكوه بعد عقود من كمّ الأفواه، فالسوريون اليوم لا يعوّلون على مجتمع دولي ولا على سلطة جديدة بقدر ما يعولون على صوتهم الحرّ، إنه المساحة الوحيدة التي لا يستطيع أحد أن يضيقها عليهم بعد اليوم.
تلفزيون سوريا
—————————-
ثلاثة سيناريوهات ترسم التفاوض بين دمشق و”قسد”
عنب بلدي – محمود العبد الله
تحديث 09 شباط 2025
المواقف المعلنة من جانب “قوات سوريا الديمقراطية” (قسد) والإدارة الجديدة في دمشق تشي بأن الطرفين لا يزالان يعولان على التفاوض والحوار، كوسيلة للوصول إلى نتائج ملموسة على أرض الواقع.
لكن ذلك لا يعني، بحسب باحثين تحدثوا لعنب بلدي، غياب أي تحديات من شأنها أن تقود العملية إلى الصدام والفشل.
ترتبط هذه التحديات بأكثر من مسار وتتعلق على وجه الخصوص بثلاثة سيناريوهات قد تصل إليها عملية التفاوض المتواصلة حتى الآن بين الجانبين، بحسب باحثين تحدثوا لعنب بلدي.
أول هذه السيناريوهات هو الوصول إلى تفاهمات تحافظ على الاستقرار في سوريا.
بينما يذهب السيناريو الثاني باتجاه الصدام العسكري، الذي قد يعيد رسم خريطة السيطرة من جديد.
وقد يظل الوضع الحالي بين “قسد” وإدارة دمشق دون أي مواجهة شاملة، ما يضمن استقرارًا نسبيًا لكل طرف، وهو السيناريو الثالث الذي قد ينعكس في المرحلة المقبلة.
وقال الرئيس السوري في المرحة الانتقالية، أحمد الشرع، في 3 من شباط الحالي، إن المفاوضات مع “قسد” لا تزال مستمرة، مشيرًا إلى تحفظه على ذكر التفاصيل، “نظرًا إلى وجود أطراف ليس من مصلحتها نجاح المفاوضات”.
وذكر الشرع أن “قسد” أبدت استعدادها لحصر السلاح بيد الدولة السورية، مع وجود بعض الاختلافات الجزئية بين الطرفين.
في المقابل، قال القائد العام لـ”قسد”، مظلوم عبدي، في أحدث تعليقاته على القضية، إن المفاوضات مع دمشق مستمرة، برعاية وسطاء من أعضاء في التحالف الدولي، مضيفًا أن رؤيته لسوريا بأنها “دولة لامركزية علمانية قائمة على الديمقراطية”.
كما أشار عبدي إلى أن “الكرد في شمال شرقي سوريا، يريدون إدارة شؤونهم المحلية في دولة لامركزية، دون الانفصال أو إنشاء حكومة أو برلمان مستقلين”، وفقًا لوكالة “أسوشيتد برس“.
سيناريو “أكثر ترجيحًا”
تطالب “قسد” بأن يكون هناك اعتراف دستوري بالكرد وبلغتهم وبثقافتهم، أو الحصول على نوع من الخصوصية الكردية في سوريا، الأمر الذي لا يشكل عائقًا كبيرًا، وفقًا للباحث في مركز “عمران للدراسات الاستراتيجية” أسامة شيخ علي.
ويرى شيخ علي، في حديث لعنب بلدي، أن أحد السيناريوهات المتوقعة الأكثر ترجيحًا من المفاوضات هو نجاحها والوصول إلى تفاهمات بين الطرفين، دون أن يستبعد الباحث السوري وجود تحديات.
وأوضح أن أهم هذه التحديات “إعادة هيكلة الجيش السوري الجديد، بالإضافة إلى مستقبل وشكل الإدارة الذاتية”.
وتعمل إدارة دمشق على وضع هيكلية لـ”الجيش السوري الجديد”، وتطالب بأن يكون الانضمام لوزارة الدفاع كأفراد، بعد حل الفصائل والكتل العسكرية.
في المقابل، تصر “قسد” على وجودها ضمن الجيش السوري ككتلة عسكرية، ما يشكل تحديًا أمام نجاح السيناريو الأول، وهو ما ترفضه دمشق، حتى لا تتشكل دولة داخل دولة، بحسب ما ذكره شيخ علي.
الباحث في الشؤون الكردية بدر ملا رشيد، قال إن دمج “قسد” ضمن وزارة الدفاع في “الجيش السوري الجديد”، يعتمد على عدة عوامل سياسية وميدانية وإقليمية.
وأضاف ملا رشيد، لعنب بلدي، أن نجاح عملية التفاوض بين “قسد” وإدارة دمشق تحتاج إلى توافق يعتمد على تفاهمات دقيقة، وثقة قوية، في ظل اختلاف الجهات الداعمة، والأهداف المتعلقة بالتصور حول صيغة الحكم في سوريا.
كما أشار الباحث في الشؤون الكردية إلى أن كلا الطرفين لديه وجهة نظر مختلفة، فيما يخص الموارد والثروات الطبيعية من نفط وغاز، ومحصول القمح بشكل رئيس، وهذه الموارد الخاصة بالدولة السورية تقع تحت سيطرة “قسد”.
وإلى جانب رفضها الانضمام على مستوى الأفراد، تعمل “قسد” على إبقاء الهياكل المدنية التابعة لها دون حلها، وهو ما اعتبره شيخ علي تحديًا ثانيًا أمام نجاح المفاوضات.
ويرى شيخ علي أنه يوجد توافق جزئي بين الطرفين، حول إعطاء صلاحيات أكبر للإدارة المحلية، لكن دمشق تصر على رفض أي صيغة قد تؤدي إلى نوع من المحاصصة العرقية أو الطائفية.
ماذا لو فشل التفاوض؟
السيناريو الثاني المتوقع من قبل الباحثين على صعيد التفاوض الحاصل بين دمشق و”قسد” هو فشل العملية المستمرة بينهما، وتحول مجريات الأمور باتجاه الصدام العسكري.
ورغم ترجيح دمشق للحل السلمي على أي صدام عسكري مع “قسد”، فإن احتمال عدم توافق الطرفين وحصول تصعيد عسكري ما زال قائمًا، وفقًا لبدر ملا رشيد.
ومن وجهة نظر الباحث أسامة شيخ، علي فإن فشل المفاوضات ووقوع أي صدام عسكري سيكون “أمرًا مكلفًا بطبيعة الحال”.
وذكر أن أهم معوق لهذا السيناريو هو الوجود الأمريكي، مستبعدًا سعي دمشق إلى حصول صدام واسع أو إطلاق معارك في مناطق شمال شرقي سوريا، قبل انسحاب واشنطن من هناك.
“تجميد الصراع”
تسيطر “قسد” على مناطق واسعة في شمال شرقي سوريا، وتتلقى دعمًا عسكريًا منذ سنوات من التحالف الدولي، الذي تقوده الولايات المتحدة الأمريكية.
وبعد سقوط نظام الأسد، تصدرت قضية هذه القوات المشهد السوري، خاصة أن حلها قد يعني إزالة أبرز العقبات أمام الإدارة الجديدة في دمشق، على صعيد الميدان والعسكرة وحتى الشق المتعلق بالسياسية.
وما بين التفاوض ونجاحه وفشله وذهاب “قسد” وإدارة دمشق باتجاه الصدام، يبرز سيناريو ثالث يتعلق باستمرار المفاوضات لفترة أطول، لكن الباحثين يعتبرونه “الأقل حظًا”.
وقال الباحث أسامة شيخ علي، إن من المتوقع استمرار مسار التفاوض لفترة أطول مع تحقيق بعض الاختراقات، من خلال تقديم “قسد” بعض التنازلات في بعض الملفات التي تتمسك بها، والمتمثلة في شكل الانضمام للجيش وقضايا أخرى تتعلق بالثروات وإدارتها.
وأشار إلى أن بقاء هياكل “الإدارة الذاتية” الجناح السياسي لـ”قسد” لفترة مقبلة سيناريو متوقع، من خلال التوافق مع دمشق على خروج “قسد” من المناطق ذات الغالبية العربية في دير الزور والرقة وبقائها في مثلث الحسكة أو في مناطق ذات غالبية كردية.
ويعتقد بدر ملا رشيد أن استمرار ما أسماها حالة اللاتوافق دون مواجهات شاملة هي الأقل حظوظًا بين الاحتمالات الأخرى، لما تفرضه الضرورات لإمكانية بقاء عمل “قسد” السياسي والعسكري دون أي اعتراف رسمي من الحكومة الجديدة أو المجتمع الدولي، ما يجعلها عرضة للتهميش ويضعف قدرتها على التفاوض أو تأمين دعم دولي مستدام.
وأضاف أن هذا السيناريو سيفرض استمرار حالة الصدام العسكري وغياب التنسيق بين الطرفين، ما يؤدي إلى أزمات اقتصادية وإنسانية وأمنية، مثل نقص الموارد والخدمات الأساسية.
ماذا تمسك “قسد” من أوراق؟
ووفقًا للباحث أسامة شيخ علي، فإن أبرز أوراق الضغط التي تمتلكها “قسد”، هي قوتها العسكرية وقدرتها على التأثير، بالإضافة إلى ملف معتقلي وعوائل “التنظيم” المحتجزين لديها.
وقال إن هذا الملف يعد من أقوى الأوراق التي تملكها “قسد” ولن تتنازل عنها بسهولة.
الدولة التي تحظى باعتراف دولي هي الوحيدة القادرة على إنشاء محاكم خاصة لمحاكمة المحتجزين من عناصر التنظيم، وربما ترحيلهم إلى دولهم، بحسب شيخ علي، مشيرًا إلى عدم قدرة “قسد” على إنهاء هذا الملف.
وذكر أن الوضع الحالي في مخيمات عوائل التنظيم ومقاتليه المحتجزين لا يمكن أن يستمر طويلًا.
وتعمل “قسد” على تحريك الرأي العام الكردي، من خلال ربط مصير القضية الكردية بمصيرها، بمعنى أن انهيار “قسد” أو نهايتها سيعني نهاية القضية الكردية في سوريا، وبالتالي زيادة الدعم الكردي لمشروعها، بحسب ما ذكره شيخ علي.
وعقدت القيادة العامة في سوريا مؤتمرًا لإعلان انتصار الثورة، في 29 من كانون الثاني الماضي، ضم قادة عسكريين من أغلب الفصائل العسكرية.
ومن أهم ما جاء في مخرجات “مؤتمر النصر“، تنصيب أحمد الشرع رئيسًا لسوريا في المرحلة الانتقالية، بالإضافة إلى حل جميع الفصائل العسكرية ضمن وزارة الدفاع، وإعادة بناء الجيش السوري على أسس وطنية.
وكانت “الإدارة الذاتية” انتقدت “مؤتمر النصر” معتبرة أنه غير قانوني، وجاء في بيانها، في 2 من شباط الحالي، أن القرارات الصادرة عن المؤتمر يجب أن تكون ضمن مؤتمر وطني تحضره جميع المكونات والطوائف والشرائح السورية، وليس القيادات العسكرية فقط.
وأضاف البيان أن السياقات التي تتم خارج إطار المؤتمر الوطني السوري ودون مشاركة القوى السياسية والثورية والشعبية تعتبر “منقوصة”، مشيرة إلى أن الحل الأمثل لإنهاء حالة عدم الاستقرار هي عقد حوار وطني دون إقصاء أحد.
بينما قال وزير الدفاع، مرهف أبو قصرة، في 7 من شباط الحالي، إن نحو 100 فصيل مسلح في سوريا وافقوا على الانضمام لوزارة الدفاع، مع حل وحداتهم الحالية.
وذكر أبو قصرة في وقت سابق أن وزارة الدفاع هي حالة مؤسساتية، والأولوية ترميم جيش هدفه الدفاع عن الوطن لا عن مصالح خاصة أو طائفة على حساب باقي المكونات السورية.
وذكر أنه تم تشكيل لجنة من كبار الضباط للعمل على هيكلة المؤسسة العسكرية الجديدة.
عنب بلدي
—————————
مديرية صحة إدلب.. من مؤسسة أهلية إلى حكومية/ منذر الخليل
تحديث 09 شباط 2025
نهاية عام 2024 شهدت إسدال الستار على واحدة من أفظع الحقب في تاريخ سوريا مع إسقاط نظام بشار الأسد وسيطرة قوى المعارضة على معظم الأراضي السورية.
في عام 2011، تم تشكيل المكتب الطبي لمجلس قيادة الثورة لتنسيق الخدمات المنقذة للحياة في أماكن الاحتجاجات، وفي عام 2012 تم تشكيل الهيئة الصحية لمحافظة إدلب. مع ازدياد رقعة المساحة الجغرافية التي سيطرت عليها القوى الثورية في عام 2013 وانضمام المزيد من الكوادر الطبية للعمل في هذه المناطق بدأنا مناقشة فكرة إنشاء مؤسسة شبه حكومية صحية جامعة، ووضعنا هدفين رئيسيين لهذه المؤسسة: الأول هو ملء الفراغ الحوكمي والخدمي الذي مثله انسحاب المؤسسات الحكومية الرسمية من هذه المناطق، والثاني نزع شرعية النظام السوري الذي استخدم مؤسسات الدولة كأداة حرب لتثبيت حكمه وخدمة المصالح الضيقة للطبقة الحاكمة.
كما وضعنا تصورين لمآلات النهاية لهذه المؤسسة: الأول وهو ماكنا نتمناه، انتصار الثورة السورية وأن تكون هذه المؤسسة لبنة في سوريا الجديدة، والثاني أن يسيطر النظام السوري من جديد وتنتهي التجربة بطريقة مأساوية. للتعامل مع السيناريو الأخير ركزنا على فكرة الأنموذج، بمعنى أردنا أن نقدم مثالًا حيًا للناس عن إمكانية أن تضع المؤسسات الحكومية مصلحة الناس في قلب اهتماماتها وأن تحترم كرامتهم وأن يشعر الناس بملكيتهم لهذه المؤسسات، وهو ما فشل النظام السوري بتقديمه خلال أكثر من خمسة عقود. ما أردناه لتحقيق ذلك هامش من الحرية وقليل من الموارد. أردنا لهذا النموذج أن يبقى في أذهان الناس حتى لو انتهت التجربة.
في شباط 2013 اجتمعنا في مدينة كفرنبل ستة أشخاص1 لمناقشة الفكرة، واتفقنا في تلك الجلسة المطولة على إنشاء مديرية صحة إدلب الحرة. الفكرة كانت غريبة وثورية ولعلها تتناسب مع طبيعة الظروف التي عشناها آنذاك، مؤسسة حكومية غير مرتبطة بحكومة ودون موارد ودون شرعية واضحة! لم يكن لدينا تصور كامل عن كيف يمكن إقناع المنشآت والكوادر الطبية الانضواء تحت مظلة هذه المؤسسة الوليدة، والأصعب من ذلك كيف يمكن إقناع المنظمات الطبية التي تشكلت في بلاد المهجر وبدأت بتنفيذ بعض المشاريع الطبية التنسيق معها.
“الاجتماع كان من أجل تنظيم العمل على مستوى محافظة إدلب بشقيه الإداري والنقابي، حيث توافقنا على تشكيل مديرية صحة إدلب الحرة ونقابة أطباء إدلب، وتم إقرار المؤسسات بعد التوافق مع مجموعة من أطباء الثورة…تجربة إدلب كان لها دور ملهم لبقية المحافظات بتشكيل مديريات صحة ونقابات طبية”.
د حسن جولاق اختصاصي الجراحة العظمية وأحد المشاركين في الاجتماع التأسيسي
نشأة المديرية كانت أقرب لمؤسسات المجتمع الأهلي منها للمؤسسات الحكومية. شرعية المديرية كانت نابعة من توافقنا نحن ككوادر طبية عاملين في هذه المنطقة والحالة الثورية. موارد المديرية كانت محدودة للغاية، فكادر انطلاق المديرية كان مدير الصحة وسائق قبل أن ينضم لهما شخص إداري بعد حوالي ثلاثة أشهر. من ثم ارتفع عدد الكوادر المتطوعة ليصبح حوالي 14 شخص في عام 22014.
“بالرغم من ضعف الموارد المالية واللوجستية عملت في المديرية منذ تأسيسها حتى عام 2020، لا زلت إلى اليوم فخور بهذه المؤسسة وبكل من عمل فيها، كانت تجربة ملهمة للكثير من المؤسسات الثورية والقطاعات الأخرى”.
د مصطفى العيدو معاون مدير صحة إدلب بين عامي 2015 و2020.
مكان العمل كان حكاية أخرى، لم نتمكن في ذلك الوقت من استخدام أي مبنى حكومي بسبب إيمان الناس الراسخ بأن النظام السوري سيستهدف المكان، فالموضوع لم يعد تقديم خدمات طبية هنا أو هناك وإنما مؤسسة حكومية بديلة معلنة، هذه المؤسسة لديها أدوات مختلفة عن الفصائل العسكرية والتي كان يصفها بالإرهابية، فهي تقوم على كوادر طبية معروفة وقادرة على بناء شرعيتها وعلى التواصل مع المؤسسات الدولية. باشرنا العمل في المبنى الذي كنت قد استأجرته كمنزل و عيادة خاصة واللتان تحولتا بحكم الأمر الواقع لمبنى المديرية قبل أن يتم استهدافهما عدة مرات من قبل الطيران الحربي.
مع تحرير كامل محافظة إدلب في عام 2015 أصبح تحد الشرعية والكفاءة أكثر وضوحًا. لبناء شرعية المديرية وبالتالي حمايتها من الأخطار الكثيرة المحيطة، تم تشكيل الهيئة العامة لمديرية صحة إدلب والتي شملت ممثلين عن كل المنشآت الصحية الموجودة في المحافظة، وتم عقد الاجتماع الأول في عام 2015.
في هذا الاجتماع الذي أسس لمرحلة تنظيم العمل الصحي في المحافظة تم انتخاب مجلس أمناء لمديرية الصحة3، مكون من 11 شخصًا وتم الاتفاق على عقد المؤتمر العام كل سنتين، واعتبر المؤتمر العام أعلى سلطة تشريعية لتنظيم العمل الطبي في المحافظة. كما تم وضع قواعد أساسية لحماية العمل الصحي من الاستحواذ والديكتاتورية والتسييس بما في ذلك عدم أحقية ترشح أي شخص لمجلس الأمناء وعدم إمكانية تعيين نفس الشخص كمدير صحة4 أكثر من دورتين متتاليتين اعتبارًا من تاريخه، وأيضًا توصيات بعدم الانخراط في المشاريع السياسية والعسكرية المطروحة مع التأكيد على تبني قيم وأهداف الثورة، والتأكيد على ملكية المجتمع في محافظة إدلب لهذه المؤسسة وحيادية تقديم الخدمة. تم عقد المؤتمرات العامة لاحقًا في أعوام 2017، 2020، 2022 و 2024. هذه التجربة التي استمدت شرعيتها التنظيمية مباشرة من الكوادر الطبية وعززتها من خلال الشراكات مع المجتمع المحلي وأصحاب المصلحة وأيضًا من خلال تقديم وتنسيق الخدمات الصحية شكلت نموذجًا ديمقراطيًا متفردًا لمؤسسة شبه حكومية تلعب كل أدوار الحكومة في مجال الصحة وتحظى بثقة المجتمع والشركاء حتى إسقاط النظام السوري.
“فكرة مجلس الأمناء نبعت من أهمية وجود آلية مسائلة للأجسام الحكومية الموجودة ريثما نصل إلى حكومة رشيدة، غايتنا كانت المسائلة وتمكين المديرية الناشئة، لا أحد يعيش بدون سلطة..أردنا خلق نظام هجين في آلية اتخاذ القرار بين المركز والمحيط، وتجاوز مركزية القرار والخدمة والسلطة لإن ذلك سيؤدي إلى تهميش المناطق النائية ويؤدي لاحقًا لخلق أسباب مشابهة لتلك التي أدت إلى قيام الثورة في المقام الأول…باعتقادي نجح القطاع الصحي (مديرية الصحة ضمنًا) بتجاوز ثلاث اختبارات كبرى متنوعة وهي الزلزال، الكورونا والتحرير الكامل لسورية، مع إدراكنا لجوانب القصور نتيجة نقص التمكين والسيطرة”.
د مهيب قدور، اختصاصي الجراحة التجميلية وأحد أعضاء مجلس أمناء مديرية صحة إدلب السابقين.
على الصعيد الداخلي عملت المديرية على تعزيز شعور الملكية لكوادرها وتعزيز ثقافة الحوار وخلق بيئة آمنة للعاملين فيها، ولعلى النقطة الأخيرة تجلت من خلال نسبة دوران موظفين قليلة جدًا بالرغم من وجود العديد من الفرص في المنظمات المحلية والدولية الموجودة في المنطقة ، وأيضًا من خلال احتفاظ معظم الكوادر بعلاقة طيبة مع المديرية حتى أولئك الذين غادروها منذ سنوات.
“فترة البدايات في المديرية بالرغم من أننا كنا نبذل مجهود إضافي وبدخل أقل مقارنة مع المنظمات ولكننا كنا سعداء لأننا نعمل للبلد، حصلت على فرص بضعف راتبي وبموقع أفضل في بعض المنظمات ولكن بالنسبة لي لم يكن هذا الخيار مطروح، كنت أريد الدفاع عن وطني، لم أكن قادرًا على حمل السلاح للقيام بذلك، لذلك العمل في المديرية كان يشعرني بأني في حالة رباط على الجبهة المدنية”.
المهندس وليد الحسن أحد كوادر المديرية السابقين.
من جهة ثانية بدأت المديرية تحالفات مع المنظمات الصحية السورية وشراكات مع المانحين الدوليين ومؤسسات الأمم المتحدة لرفع سوية الخدمات الصحية في المحافظة وتنظيم العمل الطبي. عمل تحت مظلة مديرية صحة إدلب خلال السنوات الماضية أكثر من مئتي منشأة صحية.
“كنا نفتقد جهة مركزية للتخطيط، كل منظمة كانت تدير شؤونها منفردة وتقرر أولوياتها ومشاريعها منفردة، المؤسسة التي كان من الممكن أن تلعب هذا الدور يجب أن يكون لها شكل الدولة، وهي مديرية صحة إدلب…التحدي كان أن تقبل المنظمات الكبيرة مثل اتحاد المنظمات الطبية الإغاثية والجمعية الطبية السورية الأمريكية الدور القيادي للمديرية على مشاريعها، وهذا ما توافقنا عليه مع الكثير من المنظمات السورية، لاحقًا أصبحت المديرية هي من تحدد الأولويات في مجموعة الصحة في غازي عنتاب. لماذا فعلنا ذلك؟ لأننا نريد الدولة، في النزاعات الضحية الكبرى هي الدولة”.
الدكتور زيدون الزعبي، خبير الحوكمة والمدير التنفيذي لاتحاد المنظمات الطبية الإغاثية بين عامي 2015 و 2019.
دعم مديريات الصحة كان مهم جدا للمانحين والمنظمات الدولية لتأطير أي دعم لقطاع الصحة من أجل الحد من تشظي النظام والخدمات الصحية وتقليل الهدر، هذا أدى إلى تحسين كفاءة الاستجابة وجودة الخدمات الصحية المقدمة… المديرية كانت جسمًا مجمعًا عليه من قبل معظم الكوادر الطبية”.
الدكتور أحمد مبيض، المدير القطري لمنظمة الشراكات الصحية العالمية (THET)، والمشرف على أحد برامج دعم المديريات سابقًا في الجمعية الألمانية للتعاون الدولي (GIZ).
ساهمت المديرية أيضًا في تعزيز المساحات المدنية من خلال المشاركة في إنشاء والعمل مع النقابات المختلفة والمبادرات المدنية وأيضًا ساهمت في الدفاع عن حقوق المنطقة من خلال جهود المناصرة على المستوى الدولي والتي شملت معظم القطاعات بما في ذلك الصحة والتعليم.
“ناصرنا لصالح مديرية صحة إدلب لأننا كنا على يقين بأن مرحلة التفاوض التقني قادمة، من غير المنطقي أن تجلس منظمات مجتمع مدني مقابل وزارة الصحة أو مديريات الصحة، اللغة، المقاربة، الذهنية الكلية والدور مختلف، لانريد أن نخسر على المستوى التقني… لعبت المديرية والأجسام المشابهة دور في تدريب الناس على كيفية بناء التحالفات وتحقيق المصالح العامة وإعادة مفهوم الدولة وأركانها..أخيرًا، المديرية تعتبر من التجارب الديمقراطية المهمة والوحيدة التي بقيت في محافظة إدلب”.
الدكتورة ندى الأسود، خبيرة واستشارية في العمل المدني والوساطة وبناء السلام.
شكلت مديرية صحة إدلب تحالفًا مع كل مديريات الصحة في المناطق الخارجة عن سيطرة النظام السوري بما في ذلك حلب، حماة، اللاذقية، حمص، الغوطة، درعا، والقنيطرة، والذي أدى لتشكيل الجسم التنسيقي الصحي في عام 2017، أخذ هذا الجسم على عاتقه توحيد السياسات و الإجراءات وتوحيد الهوية البصرية، قبل أن يتوقف عمله في عام 2019 مع اتساع سيطرة النظام السوري لتشمل وسط وجنوب سوريا.
إضافة لدور المديرية في تنسيق وتنظيم الخدمات الصحية في المحافظة وشغل الفراغ الحوكمي التنظيمي لعبت المديرية دورًا في ملء الفراغ الذي خلّفه غياب الوزارت المختلفة. قامت المديرية بإنشاء إدارة للطب الشرعي للتعامل مع الجثث مجهولة الهوية وتوثيق الإصابات في خطوة وصفت في ذلك الوقت أنها ستكون مهمة في مراحل العدالة الانتقالية، علمًا أن الطب الشرعي في سوريا كان يتبع وزارة العدل. عملت المديرية أيضًا على إنشاء إدارة للرقابة الدوائية والتي تتبع في سوريا عادة لوزارة الصحة.
من جهة أخرى، تبنت المديرية سياسة وصفت بالغريبة من قبل الكثير من الشركاء ولكنها تعبّر عن الطبيعة الثورية لهذه المؤسسة وهي سياسة التشظي المدروس. في الوقت الذي كانت فيه معظم الكيانات تسعى للمزيد من المركزية والسيطرة قررت المديرية وهي في أوج قوتها في عام 2016- 2017 توليد مؤسسات أخرى وإعطائها استقلالية شبه كاملة مادية وإدارية فيما عرف بالمشاريع المركزية. السبب في ذلك كثرة المخاطر في تلك المرحلة والخوف من تأثر العمل الصحي التنظيمي في حال انهارت المديرية لسبب ما. من الأمثلة على ذلك وحدة المعلومات الصحية ونظام الإحالة، إضافة للإدارات التي تم إنشاؤها سابقًا وهي الطب الشرعي والرقابة الدوائية.
أهم التحديات التي واجهت مديرية صحة إدلب هي الاستهداف الممنهج من قبل النظام لمبنى المديرية والمنشآت الصحية (التحدي الأهم)5، الاصطدام مع الحكومات المحلية تسميةً الحكومة السورية المؤقتة التي ظهرت في عام 2013 ولاحقًا حكومة الإنقاذ التي ظهرت في عام 2017 نتيجة استقلالية المديرية وعدم تبعيتها، تدخل بعض الفصائل العسكرية في العمل الطبي، وتغول بعض المنظمات غير الحكومية الغنية بالموارد والخبرات بما في ذلك تلك التي تحالفت مع المديرية، ونقص الموارد المادية والبشرية.
لم تكن مسيرة المديرية مثالية أو خالية من الأخطاء، ففي بيئة صراع معقدة مثل البيئة السورية كان على المؤسسة الوليدة أن تصارع ليكون لها دور، ومن ثم أن تصارع لتحمي هذا الدور من الانحراف أو الاستغلال لخدمة مشاريع ضيقة.
خلال عملي كمدير لصحة إدلب سألت ذات مرة كيف أقضي وقت العمل، فقلت 90% في إدارة التوازنات و10% في العمل الطبي التقني. هناك توازنات كان يجب مراعاتها بين الكوادر الطبية، بين المنظمات الطبية، بين المنشآت الطبية في الداخل والمنظمات الداعمة لها، بين المشاريع المركزية، بين الفصائل العسكرية، بين الحكومات المحلية، بين تعقيدات الداخل ومتطلبات المانحين، وغيرها الكثير.
اتهمت المديرية من قبل الحكومة السورية المؤقتة بأنها تضر بالمشروع الوطني المتمثل بقيادة الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة من خلال سلوكها الفرداني وعدم تعزيز شرعية ومركزية الحكومة، اتهمت أيضًا من قبل حكومة الإنقاذ بأنها لا تساعد على صمود الداخل أمام التدخلات الغربية بسبب طبيعة شراكاتها مع المنظمات الدولية، اتهمت من قبل بعض المنظمات السورية بأنها منحازة لبعض المنظمات الكبيرة على حساب منظمات أخرى، اتهمت من قبل بعض المانحين بأنها ليست حيادية تمامًا. بالنسبة لنا، كنا ندرك تمامًا مخاوف كل طرف من هذه الأطراف واخترنا موقعنا بشكل واع ومدروس.
“نأت مديرية صحة إدلب بنفسها عن جميع التجاذبات السياسية والعسكرية وكانت منصة تجمعنا جميعًا، قدمت عملًا طبيًا منظمًا مثمرًا ومتزايدًا لجميع السكان الموجودين ضمن هذه المنطقة”.
الدكتور حسن جولاق
مع سقوط نظام الأسد يمكن القول إن أهداف المديرية المعلنة تحققت ورؤية المديرية بأن تكون لبنة في الحكومة السورية الجديدة أصبحت أمرًا واقعًا. اليوم تتموضع المديرية في مكانها الطبيعي تحت مظلة وزارة الصحة وتغيّر شعارها وهويتها البصرية لتكون جزء من بناء سوريا المستقبل.
“لعبت مديرية صحة إدلب دور هام في تنظيم العمل الطبي وتأطيره وتسهيل عمل الشركاء من أجل تقديم الخدمات الطبية في الفترات السابقة ولكنها عانت كثيرًا نتيجة استقلاليتها، وجود سلطة مركزية شرعية اليوم وتبعيتنا لوزارة الصحة هو خطوة كبيرة نحو الأفضل وتسهيل العمل الطبي، نحن سعداء جدًا بهذا الانتقال”.
د زهير قراط، اختصاصي جراحة عامة، مدير التخطيط و التعاون الدولي في وزارة الصحة، وآخر مدير صحة قبل الاندماج مع الوزارة:
ومع هذh المآل الذي حلمنا به منذ البداية ينتهي مشروع مديرية صحة إدلب كمؤسسة أهلية شبه حكومية لها بنيتها وحوكمتها الفريدة، لتبدأ مرحلة المؤسسة الحكومية مستفيدة من أفضل الممارسات خلال السنوات الماضية وناقلة معها تجربة غنية لبقية مديريات الصحة وجسم الوزارة. أما بالنسبة لنا كأشخاص مؤسسين وعاملين ضمن هذه الجسم في فترات مختلفة سيبقى النموذج الذي طورناه حيًا في ذاكرتنا ودليلًا على قدرة المجتمع السوري على الصمود و الإبداع.
1 د منذر الخليل، د. حسن جولاق، د. محمد حمادة، د. محمد تناري، د. حسن حميدو ود. محمد الجسري.
2 كادر المديرية التطوعي في المرحلة التأسيسية في كنصفرة: أ. محمد هشوم، م. وليد الحسن، م. محمود العب لله، أ. عبد الرزاق الخليل، أ. عمار حاج إبراهيم، السيد نسيم الخليل، د. أنس دغيم، د. أيمن اليسوف، د. مصطفى العيدو، د. عبد الحكيم رمضان، د. محمد حمادة، د. أحمد الجرك، د. منذر الخليل.
3 مجلس الأمناء الدورة الأولى (2015- 2017): د. مهيب قدور، د. معد بدوي، د. حسين بازار، د. أنس نجيب، د. مازن السعود، د. أحمد غندور، د. سامي بيوش، د. جمعة أبو راس، د. نادر الرحمون، د. إبراهيم الأسعد، د. أحمد العلي.
مجلس الأمناء الدورة الثانية (2017- 2020): د. زاهر حناك، د. حسين بازار، د. أحمد الخطيب، د. إبراهيم الأسعد، د. معد بدوي، أ. مازن غزال، د. مهيب قدور، د. زياد السيد، د. بشار كيال، د. أحمد غندور، د. أحمد الجرك.
مجلس الأمناء الدورة الثالثة (2020- 2022): د. سعيد خليف، د. حسان ربيع، د. أحمد الأسعد، د. مصطفى ديب، د. يوسف سيد علي، د. بدر الدين صرمة، د. محمد حمرة، د. موفق عموري، د. زاهر حناك، د. محمد غريبي، د. واصل اليوسف.
مجلس الأمناء الدورة الرابعة (2022- 2024): د. وائل حبيب، د. أحمد غندورة، د. حسن القد، د. علاء برهوم، د. إبراهيم الخطيب، د. محمد حمرة، د. جهاد الأحمد، د. كرامة الجمعة، د. إكرام حبوش، د. خالد سلامة، د. فراس الجندي.
مجلس الأمناء الدورة الخامسة (2024): د. حسن قدور، أ. مازن غزال، د. علاء برهوم، د. حسن جولاق، د. خالد الحمود، د. جميل الدبل، أ. محمد رزوق، د. خليل آغا، د. حسام دبيس، د. فراس الجندي، د. مدين الطقش.
4 مدراء صحة إدلب: د. منذر الخليل (الدورة التأسيسية والدورة الأولى والثانية / 2013 – 2020)، د. سالم عبدان (الدورة الثالثة/ 2020 – 2022)، د. زهير قراط (الدورة الرابعة والخامسة / 2022 – 2025).
5 شهداء مديرية صحة إدلب: محمد هشوم، قاسم الخطيب، عمار بكور، أنور هرموش، ضرار ديوب.
عنب بلدي
—————————-
هل يصلح “الإسلام التّركيّ” لسوريا الشّرع؟/ هشام عليوان
2025-02-09
هل يمكن أن تكون التجربة السياسية لحزب العدالة والتنمية التركي نموذجاً صالحاً لتكراره في سوريا بقيادة الجهادي السابق أحمد الشرع؟ أم اختلفت الظروف ولا بدّ من تعديلات وتصويبات كي يتلاءم النموذج التركي بعموميّاته مع الحالة السوريّة الشديدة التعقيد من جهة، والأكثر سهولة من جانب آخر، بحكم التوازنات الشعبية بين المكوّنات الطائفية والأيديولوجية والبيئة المحافظة في المدن السورية، بخلاف الحال في الجمهورية التركية التي ما زالت فيها العلمانية متجذّرة في شرائح مدينية كبيرة؟
لا خيار أمام أحمد الشرع سوى تلمّس بعض جوانب الإسلام التركي الناجح عموماً، لإحداث سيولة أيديولوجيّة كافية للتخفيف من الصدام الفكري بين التيّارات المتصارعة داخل المجتمع السوري.
في البدء كانت مغامرة
يمكن اختصار الحياة العمليّة لأحمد الشرع بأنّها سلسلة من المغامرات المختلفة، والمتنوّعة، والمتناقضة بشدّة. وهذا ما يحمّله أعباء كلّ حقبة سابقة والتزاماتها الفكرية والتنظيمية، في كلّ مرحلة جديدة يفتتحها. وهو قد مرّ بعدّة مراحل، وراجع أفكاره في كلّ مرحلة، فبقي معه من بقي من رفاقه عند كلّ منعطف، ومنهم من تركه غاضباً، أو حاربه وحاول الانقلاب عليه، وتأليب الناس عليه بوصفه منحرفاً عن الثورة تارة أو عن المنهج السلفي تارة أخرى.
لم يحدث في تاريخ المجموعات المتمرّدة الحديثة أن انتقل قائد جماعة جهادية سلفيّة مطارَد ومطلوب من كلّ الجهات بقفزة كبرى من الخنادق إلى القصور وحتى من دون المرور بالفنادق، ومن شخص غامض ومنبوذ إلى محطّ الأنظار وتحت الأضواء الساطعة.
إذا كان إسقاط نظام بشار الأسد بعملية عسكرية خاطفة قد بدا نوعاً من العمليات العسكرية الاستثنائية، وبأقلّ قدر من الأضرار، فهو أقلّ صعوبة بكثير من بناء سوريا الجديدة أو إقامة نظام سياسي يوائم بدقّة بين الاتّجاهات الفكرية المتضاربة، سواء داخل تنظيمه السابق أو جملة الفصائل المسلّحة، أو في المجتمع السوري المتطلّع إلى حياة مختلفة.
قبل 13 عاماً
بدأت مسيرة “أبي محمّد الجولاني” قبل 13 عاماً قائداً لجماعة جهادية لا تؤمن بالديمقراطية ولا بصندوق الانتخابات، بل توازي في كثير من الأحيان بين الديمقراطية والخروج من الملّة، وانتهت إلى نظام سياسي جديد لا يمكن إلّا أن يكون قائماً على ديمقراطية وأحزاب وانتخابات وصناديق اقتراع. الديمقراطية في جوهرها اعتراف صريح بمكوّنات المجتمع كلّه وحقوقها السياسية، وإن كانت تعني في نهاية المطاف حكم الأكثرية التي تنتج عن انتخابات تساوي بين جميع السوريين، على قاعدة المواطنية لا الانتماء الديني.
فهل يملك الشرع تصوّراً واضحاً عن هذا النظام الجديد، كما كان يمتلك تصوّراً وافياً عن كيفية إسقاط النظام السابق عسكرياً؟ وهل صرف الوقت الكافي وهو يدير مؤسّسات حكومة إدلب على مراجعة الأفكار التي نهل منها في العراق، وفي السجون الأميركية هناك، بصحبة قادة التنظيمات السلفية؟ وهل هو قادر على تطبيقه والمضيّ فيه من دون التسبّب بتصدّعات داخل البنية الأيديولوجية والعسكرية الصلبة التي أوصلته إلى كرسي الحكم في دمشق؟
إذا حدثت تلك التصدّعات، ونجا منها، فلن يكون إلا شخصية جديدة تماماً لا تشبه شخصية أبي محمد الجولاني في شيء. أمّا إن تمكّن من استيعاب الصدمات، وأكمل المسيرة بمعظم الكتلة الشعبية والعسكرية التي رافقته من إدلب وحتى دمشق، فسيكون ذلك إنجازاً لا يقلّ شأناً عن إسقاط النظام السابق.
أسئلة كثيرة من دون إجابات
يبدو من مراقبة مواقف الشرع، وتصريحاته، ولقاءاته مع الوفود الرسمية والشعبية، الأجنبية والعربية، أنّ الرجل جادّ في مساره الجديد، وحذر إلى أقصى الحدود، فهو يمشي على خيط مشدود فوق هاوية سحيقة، وحوله ووراءه خصوم ورفاق يتربّصون به وينتظرون تعثّره للانقضاض عليه، والتخلّص منه. طوق النجاة أمامه هو افتقار الجميع بين موالين له ومعارضين، إلى بديل عن شخصه، وعمّا يملكه من قدرة فائقة على التواصل مع الآخرين، والتأثير فيهم، وإقناعهم. وهذا هو الرصيد الأساسي الذي يعتمد عليه لتدوير الزوايا، والسير فوق حقول الألغام.
لكنّه مع ذلك لا يمكنه التملّص من طرح الإجابات على الأسئلة المباشرة. يؤمن بالاقتصاد الحرّ لا الاشتراكي الموجّه، لكن ما رأيه الصريح بالليبرالية السياسية والاجتماعية؟ فهل هو مع التعدّدية الحزبية والتنافس الحرّ في الانتخابات بين أحزاب عابرة لطوائف المجتمع؟ وهل هو بصدد أسلمة القوانين والدفع بدستور يصرّح بمكانة الإسلام في الدولة، أي أن يكون دين الدولة الإسلام، أو أن يكون الرئيس مسلماً سنّياً، أو أن تكون الشريعة مصدراً أساسياً للقوانين أو أن تكون مبادئ الشريعة بشكل عامّ هي المصدر؟
ما موقفه من دور المرأة في العمل والإدارة والسياسة؟ هل تكون لها حصّة محجوزة في البرلمان (كوتا)، أم يُترك لها المجال الحرّ، أم توضع القيود عليها؟ ما مصير الفنّ السوريّ، لا سيما الإنتاج التلفزيوني الذي ازدهر كثيراً في زمن الأسدين، وبعض أبرز الفنّانين السوريين كانوا مع الثورة، وقضى بعضهم في السجون تحت التعذيب؟
حقوق الأقليات؟
كيف يضمن حقوق الأقليّات في الإدارة والحكم؟ وكيف يوازن بين اعتماد مبدأ الكفاية ومتطلّبات سياسة الاستيعاب الوطني دون تهميش أو إقصاء؟ هل يترشّح للرئاسة بعد انتهاء المرحلة الانتقالية بعد أربع سنوات مثالاً، أم يفسح المجال لشخصيّات أخرى حفاظاً على مبدأ تداول السلطة؟
هل يتحوّل إلى حاكم مستبدّ كشأن كلّ الثوار من قبله بعد إسقاط نظام جائر؟ وفي العلاقات الخارجية؟ كيف يحافظ على نقطة التوازن أو شعرة معاوية بين المصالح المتعارضة على طول الخطّ بين روسيا والغرب؟ وعلى التوجّهات المتقاطعة بين تركيا والعرب، وبين لوازم دعم القضية الفلسطينية وإرغامات التطبيع مع إسرائيل لو حان الوقت؟
استطراداً، ماذا بخصوص الجولان المحتلّ، وما هي استراتيجيّته لاسترداد الأرض المحتلّة؟ هل بالقوّة أم بالتفاوض؟ وكيف سيكون موقفه من المشروع الجنوني للرئيس الأميركي دونالد ترامب، والقاضي بتصفية القضية الفلسطينية باعتبار فلسطين عقاراً قابل للتطوير والاستثمار؟
لا يريد حرباً كما قال الشرع منذ أن بدأ الجيش الإسرائيلي يوسّع احتلاله للجولان إلى مشارف دمشق، لكنّ طبول الحرب تُدقّ من حوله، ولا يمكنه تجاهلها لوقت طويل. ما هي رؤيته للعلاقة مع لبنان على الرغم من إعلانه عدم التدخّل في شؤون الدولة الجارة، لا سيما مع تداخل المصالح والإشكاليات بين البلدين: الحدود وترسيمها، النازحين والمعتقلين السوريين في لبنان، ومصير الودائع السورية في المصارف اللبنانية؟
تفرض هذه الملفّات العالقة الاشتباك والتنازل بين البلدين عاجلاً أم آجلاً، مهما حسنت النيّات، أو فرضت الظروف تهدئة الأوضاع وتجميد الخلافات.
لا إجابات واضحة
كلّ هذه الأسئلة وغيرها تزدحم في الأذهان ولا إجابات واضحة عنها، بل يتعمّد الشرع إطلاق إجابات عامّة، ويؤجّل بعضها الآخر إلى حين انطلاق مؤسّسات المرحلة الانتقالية، أي انعقاد اللقاء الوطني للتحاور في مختلف الأمور، وبدء أعمال لجنة صياغة الدستور المؤقّت، ثمّ الاستفتاء عليه، وتنظيم أوّل انتخابات نيابية ورئاسية حقيقية، وتشكيل أوّل حكومة تمثيلية للإرادة الشعبية.
في الأثناء، يحاور، ويستمزج الآراء، وربّما يستصدر الفتاوى من علماء ومرجعيّات، كي يحصّن خياراته من الانتقادات وحملات التخوين والتكفير. وبين كلّ هذا وذاك، يناور كما اعتاد أن يفعل طوال مسيرته من البندقية إلى الدولة. لكن ما هي اعتبارات الأخذ أو الترك من النموذج التركي؟
نموذج العدالة والتّنمية
قبل تناول صلاحية النموذج الإردوغاني للحكم الجديد في سوريا، لا بدّ من الالتفات إلى أنّ تجربة إردوغان هي خلاصة العمل السياسي الإسلامي، الذي قام به معلّمه السابق نجم الدين أربكان في حقب مختلفة استمرّت لعقود، بين تعايش وتصادم مع العلمانيين والجيش التركي. فجاء إردوغان بصيغة حزبية جديدة تقلّل الصدام إلى أدنى حدّ بالحفاظ على النظام العلماني في تركيا، وتحويل الرئاسة إلى منصّة دعوية إسلامية، بغضّ النظر عن مدى تأثير ذلك في المجتمع التركي.
إلا أنّ البيئة السورية أكثر تديّناً ومحافظة، لا سيما في المدن السورية الكبرى، التي رعى النظام البعثي الأسديّ، في أيّام الأب والابن، الجماعات التقليدية التربوية والصوفيّة فيها، بديلاً من الإسلام السياسي الذي كان يمثّله الإخوان المسلمون. ومع انتصار الثورة السورية، على أيدي الجماعات الإسلامية السلفيّة النزعة، لا سيما هيئة تحرير الشام، كبرى تلك الجماعات، حظي الإسلام الثوري، إن صحّ التعبير، في سوريا، بشرعية ثورية كان مصطفى أتاتورك العلماني يحظى بها عقب الحرب العالمية الأولى، وانتصاره على الاحتلالين الفرنسي واليوناني خاصة، وهو ما أتاح له لاحقاً القضاء على نظام السلطنة والخلافة، وتأسيس نظام علماني صارم.
فروق كبيرة بين التركية والسورية
المقارنة تُظهر فروقاً كبيرة بين الحالتين التركية والسورية. ويبقى التشابه في التعدّدية الطائفية بين البلدين. ففي تركيا غالبية سنّية وأقلّية علوية كبيرة، لكنّ العلمانية عابرة بين الطرفين ولو بنسبة متفاوتة. والتوازن دقيق بين الإسلاميين والعلمانيين الأتراك بعد عقدين من حكم حزب العدالة والتنمية. فيما النسبة المئوية للغالبية السنّية في سوريا أكبر، والعلمانية ضعيفة الجانب ومقتصرة على النخب. وهو ما يثير أكثر قلق الأقلّيات.
بناء على ذلك، ليست مهمّة أحمد الشرع سهلة ولا مفروشة بالورود، على الرغم من اعتباره الفاتح الذي خلّص السوريين من أقبية الأسد. عزاؤه الوحيد أنّ إيران وروسيا تحظيان بنفوذ لدى الأقلّيات المتوجّسة، وبهذا تشكّلان تهديداً دائماً للاستقرار، وهو ما يمنح الشرع فرصة التعويل على الخطر الخارجي وتهديد فلول النظام في الداخل، لتجاوز عثرات التجربة الوليدة.
أساس ميديا
————————————-
هل آن أوانُ الكتابة؟/ سلوى زكزك
08 فبراير 2025
تلبس الحكايات زيّ أصحابها، تقفز أمامنا وكأنها تقول لنا، ها أنا ذا حاضرة، هلمُّ إليّ. ونحن ماذا نفعل في مواجهة هذا السيل المتدفق من الحكايات؟ باتت مسامعنا مثقلةً بوقع الحكايات، هل من متّسع للعزاء؟ أم أن توالي الحكايات يجعلها تفرّ سريعاً من بين أسماعنا لتلتحق بسردية عامة تخاف نسيان تفاصيلها، وتأبى الصمت. الأمر الأكثر وضوحاً هو تناغم الحكايا رغم بؤس تفاصيلها، رغم كل الحزن الغاشم الكامن فيها، تخيّلوا أن نعلن بأن كل القصص السورية عن الموت والخراب والتعذيب والرحيل متناغمة، وهل بات مقبولاً أن تتناغم حكايات الموت السوري ليكتمل المشهد ويحوز صفة البلاغة المُحكمة؟ لا سرديات مقابلة تنقض التفاصيل، بل امتداد موازٍ لتفاصيل غابت عن الحكايات في الجهة المقابلة! قلب يبكي يواجه فماً يروي، والنتيجة عصارة مختمرة من اللعنات ومن الغضب.
هل آنَ أوانُ الحكاية؟ الجميع ينتظر لحظة الإعلان، ليس فقط لمباشرة الكتابة وليس لطيّ صفحة الماضي، بل لإعادة صياغة الواقع عبر رُواته الحقيقيين، عبر الضحايا الذين تنوب صورهم عنهم الآن. إنه الوقت اللازم لتترجّل الصور وتَكتب. والحكاية هنا موجودة، تنتظر لحظة الإطلاق والإعلان، ثمّة فرق كبير بين إعلان الصور وبين إعلان ما ستقوله الصور، ما ستكتبه الصور وهي تترجل بعناد وإصرار؛ كي لا تتحوّل إلى مجرد أرشيف رقمي، وكي لا تخون الحكايات الصامتة أصحابَها.
تمتاز الحكاية السورية بأنها تجاوزت زمن البوح، وفي كلّ إفصاح عن الحكاية، تلوح قوة واضحة ترفض النسيان وتصوغ الحكاية كما يليق بزمن جديد.
بالأمس أفصح بطلٌ سوري هرّب آلاف الصور للشهداء المعتقلين عن حكايته، مع قرار اتخذه بالهروب مع كل هذا الإرث للمجزرة السورية. تخيّلوا أن تصير المجازر إرثاً ينبغي حفظه وصونه وتهريبه رغم كل المخاطر، لأن زمناً ما ينتظر إطلاقه. آن الأوانُ للإعلان الآن، ليس عن موت الضحايا ولا عن حزن البلاد ولا عن وحشية القتلة فحسب، بل آن أوانُ الحكاية لتكتمل أركانها، رواةً وشهوداً، زماناً ومكاناً، صوراً وتجهيزات وأنهاراً من العنف المعلن، الذي تزامنت لحظةُ توقّفه مع لحظة الإعلان عنه، عن فظاعاته، عن تفاصيله، وعن سؤال لا بدّ من طرحه الآن: وماذا بعد كلّ هذا الإفصاح؟
إنّه زمن الكتابة الذي لن يسامح كل من يخون النداء ولا يكتب.
تبدو الأنهار الممتدة من صور المجازر اعترافاً أولياً بما حصل، وهو قاعدة أساسية لتوثيق رحيل الضحايا ومواساة أهلهم. الموت هنا ليس حدثاً طبيعياً مُدراً للدموع والحسرات؛ الموت هنا جزء مفصلي من تاريخ البلد ومن حيوات أهله. لقد آن أوانُ الكتابة إذن! كل صورة هي كتاب يستحق تدوينه، كل صورة هي خيوط متشابكة بين التاريخ والجغرافيا والوجود الزماني والمكاني للضحايا وللقتلة أيضاً، آن أوان الحكاية كي لا نتعب من الحكْي، وكأنّ لكل حكاية وقتاً محدداً سينتهي عند رنة جرس الحكم.
تروي حكايات البلاد المستباحة بالاستبداد والمجازر تفاصيلَ المقتلة، لكنّ قوة الصورة تحضر بصمةً على كل ما حدث، الصمت هنا عدوّ المستقبل ومصادرة للحقيقة. تخيّلوا حقيقة واحدة روتها الصور بالأمس عبر البطل الذي هرّبها، لكلّ صورة أرقام ثلاثة؛ رقم الضحية بعد إغفال اسمه عمداً تمهيداً لإنكار وجوده، رقم الفرع الذي اعتقله، ورقم التقرير الطبي الذي أثبت رحيله!. ليست حربَ أرقام ولا هي أرقامٌ مجردة، فكلّ رقم هو حكاية متسلسلة، وكل رقم ينقل الحكاية إلى سياق أحدث، تخيّلوا فقط أن يكون أحدث سياق هو النهاية، أي الموت تحت التعذيب، تخيّلوا أننا نواجه كل هذه الأرقام ونقف عندها ولا نباشر فوراً بكتابة الحكايات.
لقد آنَ أوانُ الكتابة بعد أن انفجرت الحكايات وصارت بلداً، صارت وطناً.
العربي الجديد
——————————
الخطر الجاري الذي يهدّد مستقبل سورية/ راتب شعبو
10 فبراير 2025
رغم أن الحلّ السياسي في سورية كان الكلمة المشتركة لكل المشتغلين بالوضع السوري، فإن الحلّ العسكري هو ما تحقق، وبطريقة حذفت النظام السابق دفعة واحدة من المعادلة، وجعلت الفصائل الإسلامية صاحبة اليد العليا في كامل سورية، ما عدا مناطق سيطرة قوات سوريا الديموقراطية (قسد) التي تشكل اليوم القوة العسكرية الوحيدة في مواجهة إرادة الحاكمين الإسلاميين الجدد.
مَن يقول إن الحل السياسي في سورية لم يكن إلا ضرباً من الوهم، سوف يجد الكثير مما يدعم قوله. وأهمُّ هذا الكثير أن نظام بشّار الأسد لم يكن قابلاً للتلاؤم مع أي حل سياسي ينطوي على مشاركة جدّية في السلطة. وقد كان الكلام عن “الحلّ” السياسي مجرّد لغوٍ على ألسنة الفاعلين الدوليين، يشبه الكلام عن “حلّ الدولتين” في فلسطين مثلاً. في الحالتين، هو تغطية دبلوماسية على عجزٍ يسبّبه تعقيد الواقع أو غياب الإرادة السياسية في الحل لدى القوى ذات التأثير الفعال في الواقع.
الطريف في سورية أن الطرف الذي رفض، على طول الخط، الحل السياسي، ولم يتقدّم طوال سنوات الصراع بأي مبادرة سياسية مهما تكن، وتعامل بلا جدّيةٍ مع كل المبادرات السياسية التي طُرحت، من موقع المعرقِل والمماطل، هو النظام السابق الذي كان يثابر على مراكمة أسباب انهياره، فيما هو يعتقد أنه مقبلٌ على حسم عسكري في صالحه، بوصفه “الدولة”.
لو افترضنا أن القوى الخارجية المؤثرة اتفقت وأرادت فعلاً، في لحظة ما، دخول الأطراف السورية في عملية تفاوض من أجل حل سياسي، فالراجح أن الحل سيكون هشّاً، وأن السلطة ستكون معاقة ومعطَّلة بفعل تنافر القوى المجبَرة على التفاوض والتوصل إلى حل وسط. والراجح أن النظام السوري الذي سيكون حينها طرفاً رئيسياً في الحل، حسب قرار مجلس الأمن 2254، لن يكفّ عن السعي، عبر ما يمتلكه من قوة في أجهزة الدولة (الجيش والأمن)، إلى تهميش القوى الأخرى وتحويلها، في أحسن الأحوال، إلى أطرافٍ بلا تأثير في “جبهة وطنية” جديدة. على هذا، كان الصراع بين القوى الرئيسية الفاعلة على الأرض سينتقل من كونه بين مناطق سيطرة بحدود معينة إلى كونه صراعاً داخلياً ضمن الدولة. ومن الممكن، أو الراجح حتى، أن مثل هذا الواقع القلق يهيئ ويبرّر ظهور “رجل انقلابي قوي” يحسم الأمر داخل الدولة، ويريح الناس من استمرار الصراعات الداخلية ومن شلل الإدارة، وقد يلقى ترحيباً شعبياً غير قليل. الاحتمال الآخر أن يقود هذا الواقع إلى تفجّر الدولة، كما نشهد في ليبيا واليمن، والعودة إلى الصراعات المسلحة وسلطات الأمر الواقع المتفاصلة. هذا فضلاً عن أن المناطق التي سيطرت عليها سلطات الأمر الواقع سنوات سيكون اندماجها الوطني معاقاً بفعل صراعات “ممثليها” داخل الدولة الجديدة، وبفعل التأثيرات الثقافية والسياسية المتباينة فيما بينها زمناً طويلاً.
يعطي ما سبق الحسمَ العسكري الذي حصل في سورية أفضليةً من ناحية أن تحطيم الدولة السورية التي كانت مبنية على ما يلائم سيطرة طغمة الأسد، يعطي فرصة نادرة للبناء على أرضٍ جديدة، وبأقل قدر من القيود. وقد عزّز هذه الأفضلية واقعُ أن الشعب السوري، في غالبيته، كان مرحّباً بهذا الحسم، سيّما أنه كان بقدر محدود جداً من الضحايا، قياساً على ما كان يمكن تخيله من تكاليف الحسم العسكري. الواقع أن غالبية كاسحة من السوريين ارتاحت، ليس لأنها تخلّصت من القصف والعمليات العسكرية التي لم تتوقف بوتائر مختلفة خلال السنوات الماضية فحسب، بل لأنها تأمل أيضاً ببناء نظام سياسي جديد مغاير.
غير أن الخطر الأهم الذي يتهدّد سورية المستقبل يتم اليوم على يد الفصائل نفسها التي أنجزت الحسم العسكري. نعم الخطر الأكبر يأتي ممّن خلّص سوريا من البلاء الأكبر. فبدلاً من الاستفادة من تلاشي قوات النظام السابق من أجل بناء الدولة بناء وطنياً على أرض نظيفة، اختارت هذه القوى البناء المتحيّز أو حتى الحصريّ لصالح الإسلاميين، من خلال بناء الجيش من الفصائل أساساً، وهي فصائل ذات ولاءات فرعية وذات تعبئة إيديولوجية وسياسية لا تتناسب مع بناء جيش وطني بعيد عن الاستقطابات السياسية، فضلاً عن أنها لا تمثل التنوع السوري، القومي والديني. الأمر الذي يهدّد بأن يكون جيش سورية المستقبل مفكّكاً بسبب عدم تحرّره من الولاءات الفصائلية، أو غير مستقلٍّ عن السلطة الحاكمة، إذا تمكّن زعيم ما أن يدمج الفصائل فعلاً وينال ولاء الجيش، فننتهي تماماً إلى ما كان الحال في ظل الطغمة الأسدية التي كان لرأسها سيطرة تامة على قوى الجيش والأمن، إلى الحدّ الذي ترافق فيه فرار رأس النظام مع انهيار هذه القوى. ينطبق الكلام عن الاستئثار بعملية بناء الجيش على بناء قوى الأمن الداخلي، بطبيعة الحال.
يجعل هذا الحال الكلام عن التشاركية السياسية وعن كتابة الدستور وعن المؤتمر الوطني… إلخ، قليل المعنى والأثر. الواقع أن بناء الدولة الجديدة جارٍ على قدم وساق، وفق عصبية إسلامية لا تطابق الوطنية السورية، وهذا سيجعل السلطة الجديدة، بعد فترة، إذا نجحت في دمج الفصائل الإسلامية وكسب ولائها، في موقع لا يُنازع، وسيجعلها “أبدية” تجود أو تضنّ على الغير بما “تملك”. إذا نام السوريون على فراش الاطمئنان، وحققت السلطة الجديدة ما نعتقد أنها تسعى إليه من بناء أجهزة القوة في الدولة على هواها، فإنهم سيكتشفون لاحقاً غربتهم عن الدولة الجديدة أيضاً، وسيذكرون قيمة المثل العربي “عند الصباح يَحمَدُ القومُ السُّرى”.
ويبقى السؤال الثقيل: هل يمكن وقف هذه العملية الاستئثارية في بناء أجهزة القوة في الدولة؟ وهل يمكن بناء جيش جديد سوى من الفصائل التي حققت “النصر”؟ هذا ما ينبغي التفكير فيه اليوم، وهو سابقٌ على الانشغال في الخطوات المستقبلية، الانشغال الذي يوحي كأن ما يجري اليوم من تشكيل العمود الفقري للدولة، الجيش وقوات الأمن، أمر لا شأن للسوريين “غير المحرِّرين” به.
العربي الجديد
———————————–
العدالة… لا نريد سوى العدالة/ سمر يزبك
10 فبراير 2025
في أواخر عام 2013، بينما كان الجوع يحصد أرواح سكان المنطقة الجنوبية من دمشق، مخلّفاً يوميّاً ضحيتين أو ثلاثاً، كان مسلحو حاجز الدفاع الوطني عند مدخل مخيم اليرموك يقهقهون وهم يشاهدون جنازات ضحايا الحصار، وكانوا قد علقوا ربطة خبز على مدخل المخيم، تشفّياً بالمحاصرين. هؤلاء أنفسهم الذين كانوا ليلاً يساومون الأهالي على أثاث منازلهم المنهوبة مقابل ربطة خبز أو علبة حليب أطفال. وحين نجحت إحدى المنظمات الدولية في الضغط على النظام لإدخال أربع شاحنات مساعدات، وقف زعيمهم، واضعاً حذاءه العسكري على مقدمة الشاحنات، ثم صرخ متحدّياً وساخراً: “معكم موافقة من بشّار الأسد؟ طيّب، روحوا خلّوا بشّار الأسد يجي بذاته يدخل المساعدات إذا هيك”. كان هذا صوت فادي صقر، الرجل الذي عاد قبل يومين إلى مسرح جرائمه، لكن هذه المرّة برفقة من يُفترض أنهم يمثلون الثورة، لا المليشيات الدموية التي خدمها ذات يوم.
عندما زار فادي صقر حيّ التضامن، المكان الذي شهد المجزرة (أية مجزرة!… كل يوم كان هناك مجزرة وكل إسبوع كان هناك حفرة!)، عندما جاء قائد الدفاع الوطني السابق إلى هناك قبل يومين، انتفض الأهالي وخرجوا في مظاهرة تطالب بمحاسبته، فجاء رد السلطة الجديدة بارداً: “لقد قام المذكور بتسوية، ولم يتقدّم أحد من الضحايا بدعوى شخصية ضده لاعتقاله”. تبرير لا يحتاج إلى كثيرٍ من الجهد لتفنيده، فالرجل ظهر برفقة وزير، ودخل الحيَّ محاطاً بجهات أمنية كان يفترض بها، إن وُجدت عدالة، أن تعتقله لا أن تحميه! فهل يُترك القاتل حرّاً لأن الضحايا لم يتقدّموا بشكوى؟ وهل أصبح تحقيق العدالة مسؤولية الضحايا بدلاً من أن يكون واجب السلطة التي تدّعي تمثيله؟ وبعد كل هذه السنوات من الدماء والمعاناة؟ هل يستحقّ السوريون أن يشاهدوا جلاديهم يتجوّلون بينهم؟ هل يحتاجون للتظاهر من جديد كي يثبتوا أنهم ضحايا وهم يشاهدون قتلتهم أمامهم محميّين من السلطة الجديدة؟ وبينما ينتظر العالم نموذج العدالة الانتقالية الذي سيجترحه السوريون، وكيف سيحققون الإنصاف لضحاياهم ويحافظون على تماسك مجتمعهم، يخرج علينا من يحمّل الضحايا عبء المطالبة بحقوقهم، مبرّراً حماية المجرم بأن أحداً لم يتقدّم بادعاء شخصي ضده! هكذا ببساطة، يصبح قائد القتلة في مجزرة التضامن، الرجل الذي صدرت أوامره للجرّافات بدهس أجساد الضحايا، مجرّد متهم بريء حتى يجد من يدّعي عليه! ينتظر شكوى فردية كي يُحاسَب، بينما تمتلئ السجون بآلاف المجنّدين الذين رموا سلاحهم أمام الثوار وهم يستكملون معركة تحرير سورية.
هل يشعر القادة الجدد أنّ من حق شعبهم عليهم أن يعرف ماذا يجري؟ أم أنهم يرون، كما رأى من قبلهم، أن العدالة ترفٌ يمكن تجاوزه لصالح ضرورات “السياسة”؟ بعد الحروب الأهلية والثورات، تجد المجتمعات نفسها أمام اختبارٍ صعب: تحقيق العدالة الانتقالية من دون التفريط بالسلم الأهلي. لكن حين تعجز القيادة الجديدة عن محاكمة المجرمين أو تتواطأ معهم حفاظاً على تماسك سلطتها أو مكاسبها، فإنها لا تفعل سوى إعادة إنتاج المأساة في ثوب جديد، وتأسيس واقع سياسي مشوّه يُفرغ العدالة من مضمونها، ويزرع بذور انقسام أشدّ خطورة.
غياب المحاسبة لا يعني فقط حماية الجناة، بل يُعيد إنتاج النظام القديم بوجوه جديدة، حيث تُصاغ المصالح السياسية على أنقاض العدالة، ويتحوّل “السلم الأهلي” إلى ذريعةٍ لإدامة الإفلات من العقاب. تصبح العدالة مجرّد خطاب مهيمن يُستخدم لأغراض سياسية، تُطوّع وفق المصالح السلطوية لا كقيمة مستقلة تُعيد التوازن الأخلاقي والقانوني. في ظل هذا التواطؤ، تتحوّل الذاكرة الجمعية إلى ساحة صراع، يُفرض فيها “نسيان قسري” على الضحايا، وتُعاد صياغة السردية الرسمية لتبرير الجرائم أو التقليل من فداحتها تحت شعار “الاستقرار”. لكن التجارب أثبتت أن غياب العدالة الانتقالية لا يُفضي إلى استقرار حقيقي، بل يؤسّس لمجتمع مفخّخ بالتناقضات، حيث يظل الشعور بالظلم حاضراً، ويتحوّل العنف من صراع مسلح إلى قنبلة موقوتة قابلة للانفجار في أي لحظة. في مواجهة هذا الواقع، يصبح بناء مؤسّسات قضائية مستقلة وكشف الحقيقة عبر آليات واضحة أمراً لا يمكن التهاون فيه، وإلا فسيضطرّ الضحايا لمحاولة أخذ حقوقهم بأيديهم، وهذا إن لم نتخيّل سيناريوهات أخطر وأسوأ بكثير. لا يمكن بناء مستقبل قائم على المصالحة الحقيقية من دون مواجهة الماضي بشجاعة، من دون صفقاتٍ خفية، ومن دون تزييف للتاريخ، وإلا فلن يكون هناك سوى تأجيل لانهيار محتوم لنظام هشّ قائم على التواطؤ بدلاً من العدالة.
سلمى عبد الرزاق (فلسطينية سورية) طالبة هندسة من مخيم اليرموك، وصلت إلى الحاجز بحثاً عن أخيها الذي أصيب برصاص القناصة داخل المخيم، ثم اختفت هناك. جاهد أهلها وأصدقاؤها في البحث عنها، حتى وصلوا ذات مرة إلى أحد المسؤولين عن الحاجز، لكن جوابه كان قاطعاً ومهيناً: “فتاة، اختفت، أي واحدة منهن، لقد كنّ أكثر من واحدة!”.
سيدة من حيّ التضامن فقدت زوجها وابنها الطفل على الحاجز نفسه. روت قصتها، حين كان النظام في ذروة سطوته، قالت: “حمل زوجي ابننا على كتفيه وخرج ليُحضر الخبز من الفرن الآلي، كان صغيري يبكي كثيراً فأخذه والده ليهدّئه، شعرتُ برغبة في تقبيله، لكنهما كانا قد خرجا من الباب… ومنذ ذلك اليوم لم يعودا”. أخبرها أحد الجيران أن الجنود أخذوهما إلى المكتب الأمني خلف الفرن، ومنذ ذلك الحين انقطعت الأخبار. في كل مرّة كانت تروي هذه القصة، كانت تمسح راحة يدها على شفتيها ثم تبكي وتردّد: “شعرتُ برغبةٍ في تقبيل طفلي، لكنهم خرجوا من الباب”.
العدالة… لا نريد سوى العدالة.
العربي الجديد
——————————–
واحد، واحد.. الشعب السوري واحد/ ابتسام تريسي
10/2/2025
أجمل هتاف خرجت به الثورة السورية؛ كي تبتعد عن التغريب الممنهج الذي كرّسه آل الأسد وحزب البعث طوال ستة عقود من الزمن.
حتى عام 1958 كانت الحياة الديمقراطية في سوريا تسير بشكل معقول، قابل للتطور والتجذر مع وجود مجموعة من الأحزاب السياسية القادرة على الدفع إلى الأمام ولو ببطء، جاءت تجربة الوحدة مع مصر لتشكل ضربة قاصمة لهذه الحياة إذ تمّ حلّ كافة الأحزاب، وملاحقة المعترضين على ذلك، فكان أن تَوَّج حزب البعث في عام 1963 هذا المخطط ليستبد في السلطة، ومع انقلاب حافظ الأسد انتهى عصر الانقلابات العسكرية التي تعاقب فيها على رئاسة سوريا ضباط من الجيش السوري، وبدأ عصر الحكم العائلي متسترًا بحزب البعث وبقية الأحزاب المترهلة من كثرة الانشقاقات التي استطاع حافظ الأسد جمعها تحت ما يسمى بالجبهة الوطنية التقدمية.
بدءًا من هذه اللحظة، بدأت حركة تغريب وإهمال للأكثرية السنية في سوريا، خاصة وأن حافظ الأسد لم ينسَ حتى مماته الحذاء الذي صفعه به أبناء محافظة إدلب، ولم ينسَ احتجاج أبناء مدينة حماة في بداية حكمه عندما أدخل تعديلاتٍ دستورية تخدمه بشكل خاص، على الرغم من أنّه زجّ بمعارضيه في سجن المزة مباشرة مدى الحياة، ومعظمهم ماتوا في السجن ولم يخرج منهم سوى رغيد الططري الطيّار “الحموي” الذي قضى أربعة وأربعين عامًا من عمره في السجن لرفضه أمر حافظ الأسد بقصف حماة.
حكم العائلة
لم يكن في ذهن حافظ الأسد سوى تثبيت حكم العائلة إلى الأبد فكان لابدّ من تكاثر فروع الأمن، وإطلاق يد قادتها ليتحكّموا بالمصائر، وكان لابدّ من الاعتماد على حثالة الشعب من مختلف الطوائف؛ لأنّهم الأكثر وفاء لسيدهم، وأشدُّ الناس تمسكًا بمكتسباتهم. وبعد أن اطمأن للبنية التحتية (الأمنية) التي أنشأها بدأ في اللحظة الحاسمة عام “1980” سلسلة مجازر أولها في محافظة إدلب، طالت مدينتي جسر الشغور وأريحا، التي مكّنته من زراعة بذور الخوف في نفوس السوريين جميعًا. أذلّ حلب، ودمّر حي المشارقة فيها وكانت أبشع مجزرة في صباح العيد. ثمّ ختم المجازر بمجزرة حماة “1982” إذ جمع عشرات الآلاف في المعتقلات غير مقتصر على جماعة الإخوان المسلمين، بل زجَّ كلَّ الأحزاب السريّة آنذاك في المعتقلات ومن بينهم حزب العمل (الشيوعي) الذي تقف أيديولوجيته على النقيض من إيديولوجيا الإخوان.
في هذه الأثناء لم تكن التغيرات السياسية هي الوحيدة تحت بؤرة الضوء، فقد تمّ وبمنتهى الهدوء البدء بسياسة التجهيل التي اعتمدت على توجيه التعليم، وتوجيه الإعلام بطريقة خبيثة تعزل طوائف و إثنيات الشعب السوري عن بعضها البعض، وتُجبر الأكثرية السنية على الانزواء والتقوقع، وبمساعدة الكثير من المثقفين البعثيين واليساريين تمت أدلجة المجتمع على الصمت والنسيان، وبدأت الحرب صريحة على الجهل، وبات من المسلّم به أنّ المتدين جاهل ومتخلف، وانتشرت عبارات الاستهزاء -ليس فقط في أوساط المثقفين، بل حتى أحيانًا ضمن أوساط شعبية معينة- ولم يقتصر الأمر على الناحية الدينية بل تعداها إلى حالة عنصرية أحيانًا وصلت أقصاها بعد انتفاضة الأكراد في مدينة القامشلي عام 2004 وصارت كلمة (بويجي) شتيمة؛ لأن بعض فقرائهم يعملون في تلميع الأحذية، ووجدنا هذه الشتيمة تستمرُّ لغاية اليوم تقريبًا.
وكان من نتائج هذه السياسة القذرة -التي اتّبعها حافظ وتابعها ابنه بشار بشكلٍ أشدُّ تطرفًا أثناء الثورة- أن ابتعدت الطوائف السورية عن بعضها خلال 54 عامًا من الهراء البعثي، وتقوقعت كلّ طائفة داخل درعها الخاص، وأصبحت العيون تنظر إلى بعضها محملة بالريبة والشك، وهذا الوضع الخطير لا يمكن علاجه في بضعة شهور من المظاهرات التي نادى فيها الثوار الأوائل (واحد، واحد، الشعب السوري واحد).
خاصةً وأنّ الثورة السلمية لم تستمرّ، ودخلنا في مرحلة الخراب العظيم باستخدام بشار للقوة العسكرية، واستخدام فائض العنف مستعينًا بقوى الخراب الدولي (إيران وروسيا) إنما يتطلب الأمر الكثير من الوقت والكثير من الجهد من مختلف مكونات الشعب السوري كي يتعرّف أحدنا إلى الآخر.
لقد أنتج هذا الوضع حالة غربة باتت فيها الأكثرية السنية مبنية للمجهول، لا أحد يعرف عنها سوى كونها إسلامية يخافها العالم؛ لأنّ المسلمين حسب البروباغندا العالمية هم منتجون للإرهاب.
لهذا رأينا على سبيل المثال كثرة الانتقادات لما حصل في جامعة دمشق عندما قام الطلاب -بعد التحرير- بصلاة الغائب على شهداء سوريا، إذ لم يعتد الجمهور السوري سابقًا رؤية هذا المنظر. قد يكون اعتاد على حفلات رأس السنة وأعياد الميلاد، واعتاد على حفلات عيد الربيع في بلدة “شطحة” لكنّه لم يرَ منظر مسلمين يصلون داخل حرم الجامعة، رغم وجود أماكن مخصّصة للصلاة في كلّ كلية في الجامعات السورية.
آن الأوان لأن يتعرّف السوريون على بعضهم البعض. نظام الأسد انهار إلى غير رجعة، وانهارت معه سياسات التجهيل التي كان يعتمدها، ولأنّ آثارها ما زالت قائمة إذن يتوجب على الشعب السوري القيام بالكثير من المبادرات التي من شأنها أن تعزّز قيمة (قبول الآخر). صحيح أنّ مدينة إدلب لم تعد تلك المدينة المنسية المهمشة، وبقيت لسنوات عدة من عمر الثورة القلب الذي احتوى معظم مهجّري سوريا، لكنّ إدلب ومن سكن فيها من بقية المحافظات جميعهم من لون واحد، لون الأكثرية التي نسي الكثير من أبنائها وأبناء الأقليات الأخرى خصائصها وثقافتها وأحلامها.
رويدًا رويدًا أبناء سوريا فدولة المواطنة والقانون تعني بالدرجة الأولى احترام الآخر وقبوله للبحث عما يُغني وليس عما يُباعد.
المصدر : الجزبرة مباشر
كاتبة وأديبة سورية
صدر لها عشر روايات، وأربع مجموعات قصصية.. حائزة على الجائزة الأولى لمسابقة سعاد الصباح عن مجموعة “جذور ميتة”.. والجائزة الأولى لموقع لها أون لاين عن مجموعة “نساء بلا هديل”.. والجائزة الأولى لمسابقة المزرعة عن رواية “الخروج إلى التيه”. ودخلت رواية “عين الشمس” القائمة الطويلة لجائزة البوكر
الجزيرة
————————
البودكاست بوصفه إعلاماً بديلاً لنشر الوعي السياسي في سوريا/ فاطمة عبود
2025.02.10
مع تطوُّر وسائل الإعلام الرقمية، أصبح البودكاست أحد أهمِّ الأدوات التي تسهم في تشكيل الرأي العام، ونشر الوعي السياسي على نطاق واسع، إذ يوفِّر البودكاست منصة حرة ومرنة يستطيع من خلالها الناشطون التعبير عن آرائهم بعيداً عن الرقابة التقليدية التي قد تفرضها الأنظمة أو المؤسسات الإعلامية، كما أنَّ انتشاره المتزايد بين فئة الشباب، على وجه التحديد، يجعله وسيلة فعَّالة لنقل المعلومات، وتحليل الأحداث السياسية، بطريقة معمَّقة ومباشرة.
في سوريا، حيث تلعب وسائل الإعلام دوراً محورياً في رسم ملامح المشهد السياسي، ظهر البودكاست مؤخراً، ولا سيما بعد انتصار الثورة، بوصفه وسيلة متميزة لمناقشة القضايا السياسية والاجتماعية الطارئة، بعيداً عن الدعاية أو التوجهات الأيديولوجية الضيقة، فقد أسهمت منصات البودكاست في خلق فضاء حواري حرٍّ يمكن من خلاله تبادل الآراء حول القضايا الأساسية التي تهمُّ المجتمع السوري في المجالات كافة.
هذا الشكل من الإعلام البديل استطاع الوصول إلى فئات مختلفة من السوريين داخل البلاد وفي الشتات، حيث أصبح وسيلة للتواصل ونقل الأخبار بعيداً عن التشويه الإعلامي الذي يمكن أن يؤثِّر في تصوير الحقيقة ونقلها بحذافيرها.
فالحرية التي يوفِّرها البودكاست جعلت منه منبراً للنقاش السياسي المتعمِّق، إذ لم تعد القضايا السورية مقتصرة على وجهة النظر الرسمية أو الإعلام التقليدي، بل أصبح هناك مجال للمعارضين والسياسيين والمفكِّرين لمناقشة مختلف القضايا من زوايا متعددة.
فبدلاً من الاقتصار على وجهات النظر المعلَّبة، استطاع السوريون الاستماع إلى تحليلات وآراء متنوعة، ما عزَّز لديهم القدرة على التمييز بين الدعاية الإعلامية والمعلومات المستقلة.
ونتيجة لذلك، أصبح العديد من السوريين يعتمدون على البودكاست كمصدر رئيس للمعلومات، حيث يرون فيه وسيلة أكثر مصداقية، مقارنة ببعض القنوات الإخبارية التقليدية التي قد تكون منحازة وغير موضوعية.
من ناحية أخرى، لم يقتصر تأثير البودكاست في سوريا على الجمهور المستمع فقط، بل امتدَّ ليشمل صناع القرار والسياسيين الذين باتوا يدركون أهمية هذه الوسيلة في تشكيل الوعي العام، فمع صعوبة الوصول إلى وسائل الإعلام التقليدية بسبب القيود الحكومية، وجد المعارضون والسياسيون في البودكاست منصة بديلة تمكِّنهم من التواصل مع جمهورهم ونقل رسائلهم بوضوح، كما أنَّه أصبح وسيلة للحوار بين مختلف التيارات السياسية، ما ساعد في خلق مساحات مشتركة للنقاش، حتى بين الفئات التي تختلف في رؤاها السياسية.
إلى جانب دور البودكاست في نشر الوعي السياسي، أثبت فعاليته في نشر الحقيقة وتسليط الضوء على الانتهاكات الحقوقية التي شهدتها سوريا على مدار نحو نصف قرن، فقد أصبحت العديد من البرامج الصوتية منصَّة لسرد شهادات حيَّة من المعتقلين والمعتقلات السابقين الذين تعرَّضوا لانتهاكات جسيمة في السجون.
هذه المقابلات تسهم في توثيق معاناة المعتقلين، ونقل أصواتهم إلى المجتمع الدولي، ما يساعد في تعزيز الجهود الرامية إلى تحقيق العدالة والمساءلة، كما ظهرت شخصيات بارزة مثل سامي، صديق المصور العسكري السوري المعروف باسم قيصر، في برامج بودكاست لمشاركة تفاصيل توثيق الجرائم التي ارتكبها النظام السوري ضد المعتقلين.
إذ تتيح هذه المقابلات فرصة نادرة للجمهور للاستماع إلى روايات مباشرة عن الجرائم والانتهاكات، وهو ما يسهم في نشر الوعي حول القضية السورية خارج إطار الأخبار التقليدية، كما يمكن أن يكون البودكاست ذاكرة محمية تحفظ للسوريين كثيرا من الأحداث المهمة من خلال توثيق التجربة على لسان أصحابها الذين عانوا بأنفسهم عذابات إنسانية طالت الجسد والروح.
يمكن اعتبار البودكاست أيضاً أداة تثقيفية فعالة تساهم في رفع مستوى الوعي السياسي والقانوني لدى المواطنين، فعبر حلقات تناقش الدساتير، الأنظمة السياسية، حقوق الإنسان، ودور المجتمع المدني، مع شخصيات بارزة كان لها دور مهم في نجاح الثورة استطاع المستمعون السوريون اكتساب فهم أعمق للمواضيع التي تؤثِّر على مستقبلهم، وهذا الأمر لم يكن متاحاً بهذا الشكل من خلال الإعلام التقليدي الذي يركِّز في الغالب على تغطية الأخبار السريعة من دون تقديم سياقات تحليلية معمقة.
وقد شاهدنا في الفترة الأخيرة كيف لجأ العديد من السياسيين في العالم إلى البودكاست كأداة للوصول إلى الناخبين، وكان من أبرزهم الرئيس الأميركي السابق والحالي دونالد ترمب.
وجاءت فكرة استخدام هذه الوسيلة بناءً على اقتراح من ابنه بارون ترمب، الذي أدرك مدى تأثير البودكاست على وعي الشباب ودوره المتنامي في تشكيل آرائهم السياسية، إذ اعتمدت حملة ترمب على هذه منصات التواصل الاجتماعي لنقل الرسائل الانتخابية بطرق جديدة ومباشرة، حيث تمت استضافة شخصيات مؤثرة في برامج بودكاست معروفة لتعزيز الخطاب السياسي، وكسب تأييد مزيد من الناخبين الشباب، فشكَّلت هذه الاستراتيجية تحولاً مهماً في وسائل التواصل السياسي، حيث تجاوزت الحواجز التي قد تفرضها وسائل الإعلام التقليدية، ما سمح للحملة بالوصول إلى شرائح واسعة لم تكن تعتمد سابقاً على الإعلام التقليدي كمصدر رئيس للمعلومات.
إنَّ تجربة البودكاست في سوريا أثبتت أنَّ الإعلام البديل قادر على تجاوز العقبات التي تفرضها الأنظمة غير الديمقراطية، على الرغم من أن هذا النوع من الإعلام ما يزال يواجه تحديات مثل ضعف التمويل، وصعوبة الوصول إلى بعض الفئات، إلا أنه تمكن من تحقيق تأثير كبير في نشر الوعي السياسي لدى السوريين، لا سيما بين الشباب الذين يبحثون عن مصادر مستقلة للتحليل والمعلومات.
ومع تطور الأحداث السياسية بشكل متسارع، من المتوقَّع أن يستمر البودكاست في لعب دور رئيس في تشكيل وعي الأفراد والمجتمع، فمع تزايد أعداد السوريين الذين يعتمدون على الإنترنت كوسيلة رئيسية للحصول على الأخبار، خاصة فئة الشباب منهم، يمكن القول إنَّ المستقبل سيشهد نمواً أكبر في تأثير البودكاست، خاصة مع بروز منصات جديدة وتطور تقنيات الإنتاج الصوتي التي تجعل من السهل الوصول إلى المحتوى والاستماع إليه
تلفزيون سوريا
———————————-
عن فريد ندى المذهان ورياض جاكيش وصور المعتقلين/ مصطفى علوش
2025.02.10
ثمة وجوه تراها للمرة الأولى، لكن وبمجرد أن تراها تقول لنفسك أنا أعرف هذا الوجه منذ زمان، وهذه الـ”منذ زمان” تعني الدفء والأمان.
وجهه كان كذلك، فريد ندى المذهان، وجه خجول، حساس ومليء بالصدق، لا يحبّ الضوء والشهرة، يفكر بعمق، كم بكيتُ خلال مشاهدة الحلقة ولم أتمكن من متابعة كامل اللقاء، لأنّ الهواء من حولي كان لا يكفي، اختنقت بالدموع.
ذهبتُ معه وتخيلتُ آلاف الجثث، ثم تخيلتُ جثة ما لقتيل لا أعرفه شخصياً، أو لقتيلة ما لا أعرفها، لكن الجثة كانت تقاتل وتروي للعالم قصتها وتاريخها وما فعلته خلال حياتها.
أي قهر يصيب الكوكب عندما تتحول الجثة إلى وثيقة لإثبات أنها ماتت تحت التعذيب، أو أنها قُتلت بطلق ناري في الرأس أو.. الخ.
سوريا كلها كانت الجثة
سوريا كلها كانت “الجثة” وكان بشار الأسد يحاول جاهداً إخفاءها كلها، ليبقى متربعاً على كرسيه كحاكم أبدي لا منافس له.
قال المحترم الأنيق الشهم، المذهان: إن “نظام الأسد، نظام بيروقراطي إبادي وكانت الغاية من الثوثيق أن يشاهد الأسد بنفسه ويتأكد أن المعتقلين قتلوا أي لم يتم تهريبهم من السجن بسبب المحسوبيات أو الواسطات”.
رأي المذهان أراه حقيقة لتوصيف عصابة الأسد، كانوا يوثقون قتلهم للمعتقلين لكي يتأكد القاتل الكبير بأن كل شيء يسير على ما يرام.. إعلامياً كان الأسد بحاجة إلى رواية لتكذيب الجثث التي كان يقتلها، بدأت الرواية بالمندسين وتالياً صاروا الإرهابيين.
بوقاحة تعجز اللغات عن وصفها، كان شعار الأسد أو نحرق البلد قد رفعه الأسد فكُتب على كل حواجزه الأمنية والعسكرية، وأعتقد أنّ أغلبية الحواجز المشهورة يوجد حولها مقابر جماعية، والأخبار التي نتابعها يومياً حول اكتشاف مقبرة هنا ومقبرة هناك دليلنا الدامغ.
كنا طوال حكم الأسد نحتاج إلى إثبات دامغ أننا نموت قتلاً وتعذيباً وتهجيراً، لأن شبيحته كانوا يرافقوننا أحيانا في كل مكان.
رياض جاكيش هو قيصر آخر
الشرفاء موجودون في كل مكان، منذ أشهر التقيت مذهاناً آخر في برلين اسمه (رياض جاكيش)، كان يعمل مساعد أول في مخابرات أمن الدولة، وعندما سقط النظام وتمّ فتح سجن صيدنايا وتحرير السجناء، قال لي: أعرف كل هذه السجون.
جاكيش قدّم خدمة كبرى للسوريين فهرّب آلاف الوثائق، لقد هرّب وثائق أمن الدولة، وكان جهده الهائل أحد الإثباتات التي أكدت الحكم على الضابط السابق “أنور.ر”.
قبل أن يصبح جثة كانت ابتسامته في تلك الأيام تعبّر عن مدى قناعته بأن السوريين يستحقون الحياة، قبل أن يصبح جثة كان يعمل مع عدة قنوات إعلامية بأسماء مستعارة وكان يسكن في منطقة نهر عائشة بدمشق، وحين اكتشفت مخابرات الأسد حقيقته، دقّوا عليه باب بيته واغتالوه بعدة رصاصات، كان هو الصحفي مصعب العودة الله. كان صديقي وزميلي في صحيفة تشرين.
“كان الأسد يتذاكى ويضحك علينا”
كان الأسد يتذاكى علينا جميعاً ويضحك كلما أطل على الناس بخطاب، كان يعتقد أن آلاف الجثث ستختفي وسيكون قادراً على البقاء في السلطة للأبد، لكن المذهان وأمثاله تمكّنوا من رؤية روح الحياة والحرية فوثقوا بصمت وعزيمة نادرة كل هذه الجرائم وذهبوا بها إلى الولايات المتحدة ومعظم عواصم العالم الغربي ليحرجوا سياسييه بصور الجثث التي تحمل أرقاماً ثلاثية، الرقم الأول يدلّ على اسم الشخص المعتقل والرقم الثاني يدل على فرع المخابرات الذي اعتقله، والرقم الثالث هو رقم طبي.. أي رعب عاشه السوريون؟
كانوا يعتقدون أنهم سيحكمون للأبد، لذلك كانوا أعداء لفكرة الحرية، هذه الكلمة التي هزّت أركانهم كما غناها سميح شقير.
أرواح الضحايا وثائق مهاجرة
لكن الضحايا وأرواحهم كانت تنتقل عبر وثائق المذهان ومن خلال كل السوريين الذين عبروا بها نحو العالم وصرخوا عالياً في وجه كل الحكومات الغربية، تلك هي حقيقة الأسد ودليلنا هو موتنا تحت التعذيب.
نعم يجب أن نذكر الأسماء كلها، غير منقوصة فالسوريون ليسوا مجهولين إنهم معروفون مثل بقية البشر، لهم أحلامهم وكراماتهم وطموحاتهم ويجب توثيق كل ذلك كما فعلت مثلاً ألمانيا تجاه مرحلة النازية.
على الحكومة السورية المؤقتة الحالية أن تسعى إلى إنشاء متحف لصور قيصر، وهذه الفكرة أتت من الكاتب حسان محمود خاصة أنّ شقيقه الطبيب حيان محمود كان أحد شهداء التعذيب في صور قيصر.
توجزنا الدمعة، لكن تلخصنا الحرية أكثر وتجمعنا، يوجزنا الخوف، لكن الحياة والفرح من حقنا جميعاً.
والأمل كل الأمل أن تسير البلد على الطريق الصحيح، أي في درب العدالة الانتقالية وتأسيس الدولة السورية الجديدة، لا ينقصنا شيء ونستطيع بمساعدة العالم من حولنا أن نجعل بلدنا كبقية الدول المحترمة.
وكل الرجاء ألا تحتاج سوريا إلى قيصر جديد.
—————————
إخوان سوريا وفرصة إعادة التأسيس والتموضع التي لن تتكرر/ عمر مشوح
2025.02.10
كان يوم 8 من كانون الأول 2024 نقطة تحول كبيرة في المنطقة، فقد تحرّرت سوريا من ربقة نظام الأسد بعد ثورة استمرت 14 عاماً، قدّم خلالها الشعب السوري كثيرا من التضحيات من شهداء ومعتقلين ومهجرين وبنية تحتية مدمرة بشكل شبه كامل، وهذا التحرير سوف ينعكس بشكل كبير على المنطقة والتحالفات والتكتلات وحتى المشاريع الدولية والإقليمية.
لكن أكبر انعكاس لهذا التحرير سيكون داخل الشعب السوري، أفرادا وجماعات ومكونات، بالذات على مستوى المنظمات والجماعات والأحزاب، فما حدث قلب الرؤى التقليدية وأوقف الاستراتيجيات السابقة، وأحدث زلزالا في الخطط وطرق التفكير وآليات العمل التي كانت تسير عليها هذه الجماعات والأحزاب والتكتلات.
ففكرة المعارضة لنظام مستبد توقفت في صباح يوم 8 من كانون الأول، وآليات العمل المعارض لم تعد تجدي أو تنفع في واقع جديد ومختلف تماما، وخطط العمل المعارض ومواجهة النظام المستبد أصبحت فجأة غير صالحة للاستخدام والاستمرار، كل ذلك توقف مع لحظة دخول دمشق وإعلان الإدارة الجديدة السيطرة على البلاد وإسقاط النظام.
ماذا يعني يوم التحرير لإخوان سوريا؟
لعل أكثر مكون أو جماعة ستقف كثيرا لإعادة تموضعها وترتيب أولوياتها ومراجعة خططها وأوراقها هي جماعة الإخوان المسلمين في سوريا، فالجماعة الأكبر من حيث البناء التنظيمي والكتلة البشرية والممارسة السياسية والمجتمعية، أمضت أكثر من خمسين عاماً في المعارضة، داخل الوطن وخارجه، ما بين التقلب في التحالفات والاستراتيجيات والتموضع الجغرافي والعلاقات السياسية.
بل إنها تكاد أكثر جماعة إسلامية تشكّلت لديها أجيال جديدة تفكر وتجيد العمل كمعارضة أكثر من التفكير كمواطن طبيعي داخل وطنه، بسبب التهجير القسري والتقييد القانوني الذي مورس عليها وغيابها عن التلاحم المجتمعي طوال خمسين عاماً.
من هنا فإن يوم الثامن من كانون الأول لم يكن يوما عاديا في تاريخ الجماعة، فهو بداية مرحلة جديدة مختلفة تماما عن خمسين عاما مضت، وإذا كان هذا اليوم هو يوم تحرير سوريا ودخول دمشق العاصمة وإسقاط النظام، فهو في تاريخ الجماعة يجب أن يكون يوم تحرير الجماعة من فكرة الدور المعارض، وبداية التأسيس الثاني لها بعد التأسيس الأول على يد المؤسس الدكتور مصطفى السباعي رحمه الله، وإسقاط جميع القيود التي تعيق سيرها ونهضتها.
المراجعات ثم المراجعات
أول خطوة تحتاجها الجماعة هي عملية مراجعات شاملة وعميقة وعملية، وكل كلمة هنا مقصودة بذاتها، فلم تعد تجدي المراجعات المحدودة أو السطحية أو النظرية.
أثبتت الأحداث المستجدة والمآلات التي وصلنا لها، أن بعض الاستراتيجيات التي اعتمدتها الجماعة خلال سنوات الثورة ربما لم تكن ناجعة ومفيدة في جميع مراحل الثورة، وكان على الجماعة أن تكون عالية المرونة في التغيير والتعديل على هذه الاستراتيجيات بما يتناسب مع طبيعة المرحلة، بالذات استراتيجية “الصف الثاني” التي انتهجتها الجماعة سياسيا وعسكريا، خوفاً منها على الثورة وتأكيدا على إطارها الوطني والشعبي، لكن هذه الاستراتيجية آلت بالجماعة إلى دور هامشي نتيجة لعدم المرونة في مراجعتها ومراعاة تغير الظروف وواقع الثورة في مراحل مختلفة.
ومن ضمن ملفات المراجعات التي يجب أن تتم هو “المشروع السياسي لسورية المستقبل”، الذي أصدرته الجماعة عام 2004، والذي كان في وقته وإلى وقت قريب متقدما على جميع المشاريع السياسية التي أصدرتها الأحزاب والكيانات والتنظيمات، لكن يبدو أن الوقت قد حان لمراجعة هذا المشروع وطرحه بما يتناسب مع المرحلة التي تعيشها سوريا.
ولعل من أهم المراجعات التي يجب أن تقوم بها الجماعة هي مسألة رؤية الجماعة ودورها في المرحلة القادمة، فلم يعد من المجدي الاستمرار في مربع المعارضة كما كان سابقا، ولم يعد من المنطق التحدث بنفس الخطاب والأفكار، وحتى طبيعة الدور الذي يجب أن تقوم به الجماعة في المرحلة القادمة ما بين السياسي والدعوي والتربوي، أصبح من الضروري توضيح هذه المساحات والأدوار.
ما بين المعارضة والمساندة والمناصحة
ربما السؤال الأهم الذي يجب على الجماعة أن تجيب عنه وبصوت عال، هو أين يجب أن تقف الجماعة في سورية الجديدة؟ وما هو الدور الذي يجب أن تلعبه؟
ربما أجابت الجماعة في بعض التصريحات عن هذا السؤال بأنّها تقف داعمة ومساندة للإدارة الجديدة والمرحلة الانتقالية، لكنها إجابة تحتاج إلى تفاصيل كثيرة وآليات عملية لنقلها لحيز التطبيق والتفعيل.
لم تمارس الجماعة منذ تأسيسها عملاً سياسياً تشاركياً في السلطة إلا في السنوات الأولى من تأسيسها أيام الدكتور مصطفى السباعي رحمه الله، حين انتُخب نائباً عن دمشق في الجمعية التأسيسية عام 1949، ثم نائباً لرئيس المجلس، فعضوا في لجنة الدستور.
هذا الانقطاع عن الممارسة التشاركية في السلطة أو الدور الفاعل في الساحة السياسية والاجتماعية السورية، والذي كان نتيجة طبيعية للإقصاء الذي مارسه النظام البائد ضدها منذ سبعينيات القرن الماضي، جعل الجماعة تمارس دور المعارضة طوال هذه السنوات، وبالتالي تشكلت وتبلورت عقلية المعارضة أكثر من عقلية المشاركة أو المساندة للسلطة، وتم بناء على ذلك صياغة الاستراتيجيات والآليات في العمل والممارسة.
أما الآن فقد اختلف الوضع كثيرا، فالسلطة الجديدة قادمة من قلب الثورة التي شاركت فيها الجماعة، ولم يعد هناك مبررات للبقاء في مربع المعارضة كما كانت، وعلى الجماعة أن تفكر بطريقة مختلفة لتنتقل إلى مربع الداعم والمساند والناصح للسلطة الجديدة.
وهذا لن يكون إلا من خلال دعم الخطوط العريضة للمرحلة الانتقالية التي أقرتها السلطة الجديدة، والعمل على دعم أي قرار يخدم استقرار سوريا ووحدة أراضيها وتمرير المرحلة الانتقالية بكل هدوء، للحفاظ على مكتسبات الثورة والتحرير.
وهذا لا يعفي الجماعة من الدور الناصح والموجه -إن دعت الضرورة- للسلطة الجديدة، فالجميع على متن السفينة، ومصير هذه السفينة مشترك، كما أن على الجماعة أن تركز -في هذه المرحلة- على إعادة التأسيس تنظيميا وشعبيا، وإعادة تقديم خطاب وطني مختلف عن السابق ويراعي التغيرات التي حدثت، مع تفكيك التقوقع التنظيمي وتوسعة الإطار الوطني الذي يخدم إصلاح الوطن ونهضته ووحدته بجميع مكوناته.
————————-
مؤشرات إحصائية أولية عن سجناء صيدنايا الجهاديين/ حسام جزماتي
2025.02.10
ما زالت صورة المعتقلين الجهاديين في سجن صيدنايا، الذين يمكن أن نطلق عليهم وصف «مجتمع الاستعصاء» نسبة إلى تجربة التمرد التي خاضوها هناك في عام 2008، تبدو للكثيرين كتلة واحدة بألف من الرؤوس ذات الشعور الطويلة واللحى السوداء. ونحاول هنا تشريح هذا الجسم الضخم إلى مكوناته التنظيمية الرئيسية، وقراءة مؤشراته المناطقية والعمرية والتعليمية والاقتصادية والاجتماعية، بالاستناد إلى عدد كبير من الشهادات المنشورة وغير المنشورة، وإلى وثيقة داخلية أعدّها، في عام 2009، مكتب قائد الشرطة العسكرية المسؤولة عن السجن، خليل الخالد، ورفعها إلى رئيس مكتب الأمن القومي هشام الإختيار، بعنوان «رموز الشغب». وتضم أكثر من مائتي اسم، وذاتية، الفاعلين في «التمرد من الموقوفين الأمنيين الذين كان لهم دور أساسي في أحداث الشغب والعصيان داخل السجن العسكري الأول» أي سجن صيدنايا. وكان في نية النظام تقديمهم لمحاكمات جديدة لولا أن هذه العملية قُطعت بقيام الثورة، في آذار 2011، وتبدل سلم الأولويات.
كانت قضية «جند الشام» هي الأكبر في السجن، ليس فقط لأنها الأكبر خارجه بل أيضاً بسبب التوسع الشديد في الاعتقالات التي شنتها شعبة المخابرات العسكرية، في عهد آصف شوكت الذي أراد أن يثبت لنسيبه بشار الأسد أنه الأجدر بحماية النظام من شعبة الأمن السياسي التي كانت تتولى الملف في البداية. ولذلك وصل إلى سجن صيدنايا من أبناء هذه الدعوى ما يقرب من ثلاثمائة معتقل، أُفرِج عن أقل من ربعهم بعد قرابة السنة ونصف بسبب براءتهم التامة، بينما ظل الآخرون قيد المحاكمة رغم أن المنظمين منهم فعلياً لا يتجاوزون المائة، فيما دار الباقون بين التستر والشبهة نتيجة علاقاتهم الشخصية بالمتهمين الأساسيين.
وبناء على اجتماعها التأسيسي في عام 2004 قامت «جند الشام» على ثلاث مجموعات رئيسية؛ الأولى والأكبر في محافظة حماة، في بعض الأحياء الطرفية للمدينة وعدد من القرى، والثانية في محافظة الحسكة (القامشلي)، والثالثة في مضايا (وامتدت إلى سرغايا) بريف دمشق.
اشتهرت هذه الدعوى بأن أغلبية أعضائها أميون أو شبه أميين، دفعهم الحماس والعاطفة أكثر من المنهج الجهادي أو العلم الشرعي أو غير الشرعي. وقد جرت العادة على الإشارة هنا إلى شخصية أمير التنظيم محمد حيصية (أبو شاهر)، الذي يتحدر من بلدة صوران بريف حماة ويقطن في «مشاع الأربعين» على حافة المدينة حيث يعمل جزاراً للحم الجمل ومتعهد بناء في حيّ المخالفات هذا. وقد اشتهر بالإخلاص والصلابة لا بالعلم الشرعي الذي لم يحصّل منه سوى تميزه بالرقى الناجعة للمرضى التي شكلت سمعته المحلية التي أدخلت بعض معارفه الكثيرين إلى التنظيم ثم إلى السجن، أو إلى الثاني دون أن يمروا بالأول. وكان معظم هؤلاء من العمال والحرفيين البسطاء.
أما القضية الثانية عددياً، وضمت أكثر من خمسين معتقلاً، فكانت تلك التي عُرفت باسم «دروشا – الطبقة» نسبة إلى موقعَي كتلتيها؛ الأولى في ريف دمشق والثانية في المدينة المعروفة في محافظة الرقة. وتشكلت جماعة دروشا من نازحين من الجولان إلى بلدات شتى في المنطقة، غلب عليهم ضعف التعليم، فيما ضمت الثانية بعض صغار الموظفين المتحدرين من أرياف الرقة من ذوي التعليم الجامعي أو المتوسط. وتميزت الثانية على الأولى بميول تكفيرية ستتضح في الاستعصاء وستتبلور مع التحاق أكثريتها بداعش.
لكن التكفير الصريح كان من نصيب مجموعة واحدة في الحقيقة، جاءت من الزبداني بريف دمشق وأسمت نفسها «جماعة الأمة». وتكونت من قرابة 25 متهماً تصدرهم رجل يكنى أبا القاسم كان يعتقد بكفر جميع الناس، ولفت الأنظار إليه عندما رفض المشاركة في دفن والدته، وكان يؤم أتباعه لصلاة الجماعة في البساتين بعيداً عن المساجد.
وفي حين تركزت سنيّ ولادة سجناء صيدنايا الجهاديين في عقد الثمانينات من القرن الماضي، كما يدل الجدول المذكور أعلاه وسواه؛ فإن الأمر لم يخلُ من استثناءات أكثرها من مواليد السبعينات، ووصل بعضها إلى الستينات وربما إلى الخمسينات في أحيان نادرة. ومن هؤلاء خريجون في كلية الشريعة وأطباء درسوا العلوم الدينية إلى جانب اختصاصهم.
قد يكون الأكبر سناً شيوخاً أو موجهين وقد لا يكونون. لكن الأصغر بوضوح كانوا تلاميذ بطبيعة الحال. وهم الذين أعطوا السجن سمعته الملتبسة كأكاديمية للجهاديين. وانطبق هذا بصورة جلية خاصة على دعوى «الإذاعة» التي كان أغلب أفرادها من مواليد التسعينات، المتحدرين من عربين بريف دمشق، الذي أتت منه أيضاً دعوى «قطنا»، ودعوى «دوما» التي كان أكثرها من آل كعكة.
كما أنه من الملاحظ وجود عدد من الفلسطينيين السوريين، من المخيمات على أطراف دمشق، سواء من المتهمين بالتواصل مع تنظيم «القاعدة» كدعوى «اليرموك»، أو بالانتماء إلى جماعة «فتح الإسلام».
ومن حلب اعتقلت مجموعات اتهمت أكبرها، «دعوى زكريا عفش» بالتواصل مع «القاعدة» عبر فرعها الزرقاوي العراقي. وقد تشكلت من أبناء مهاجرين من الريف إلى أحياء شعبية وامتدادهم في قراهم الأصلية. فيما كانت الريفية سمة التجمعات المماثلة في محافظة إدلب، ولا سيما في بنّش ومعرة النعمان.
لا يخلو مجتمع السلفية الجهادية في صيدنايا من أفراد قليلين من أبناء المدن الكبرى كدمشق وحلب الذين انضموا إلى، أو أسسوا، هذه المجموعة أو تلك، لكن الدعاوى المدينية الخالصة اقتصرت على ثلاثة؛ واحدة حموية ضمت بعض خطباء الجوامع الذين كانوا يتداولون أدبيات جهادية محظورة في ما بينهم، وحمصيتان عندما أقدم بعض اليافعين من أحياء المدينة القديمة على قتل مساعد أول في المخابرات العسكرية بسبب إهانته للقرآن في المسجد، وعندما خططت مجموعة أخرى، بقيادة هادي الدروبي (أبو إسلام)، لحفر نفق يوصل إلى قصر المؤتمرات قرب العاصمة، وتفجيره عندما ستنعقد القمة العربية في عام 2008.
تحتاج الصورة الكاملة إلى استبيان بات إجراؤه صعباً. لكن رغم غياب المعطيات التامة يمكن القول إن أكثر أفراد «مجتمع الاستعصاء» كانوا شباناً عازبين في العقد الثالث، بمستوى تعليمي متوسط أو أقل، بدأت علاقتهم بالجهادية بعد أحداث 11 أيلول 2011 وتعززت عند الغزو الأميركي للعراق في 2003. من الطبقة الوسطى الدنيا من بيئات عربية سنّية ريفية أو مهاجرة إلى المدن. لا يندر أن يكون بينهم بعض الإخوة أو أبناء العمومة. من عوائل محافظة ربما قضى بعض أقاربها من الدرجة الثانية، أو سجنوا، إبان صدام الثمانينات بين السلطة وبين أجنحة الإخوان المسلمين.
تلفزيون سوريا
—————————
المذهان السوري وغارانس الفرنسية: سردية الجحيم/ صبحي حديدي
تحديث 10 شباط 2025
على قناة «الجزيرة»، خلال برنامج «للقصة بقية»، كشف المواطن السوري فريد ندى المذهان، المساعد أوّل والرئيس الأسبق لقسم الأدلة القضائية في الشرطة العسكرية التابعة لجيش النظام السوري البائد؛ بأنه «قيصر»، الاسم السرّي الذي اشتُهر به الرجل مهرّب آلاف الصور الفوتوغرافية لجثث السوريات والسوريين، الأطفال والنساء والرجال، الذين قضوا تحت التعذيب في أقبية وسجون أجهزة آل الأسد الأمنية المختلفة. وهؤلاء، كما أكّد المذهان، تمّ توثيق مقتلهم فوتوغرافياً في مشرحتَي مستشفى تشرين ومستشفى حرستا، وطُمست أسماؤهم وهوياتهم واستُبدلت بأرقام مجردة؛ كما صُنّف الموت، تعذيباً أو إعداماً أو تجويعاً وتصفية جسدية، تحت ذريعة واحدة هي «توقف القلب والتنفس».
التفاصيل التي سردها المذهان، حول طرائقه في مخادعة حواجز التفتيش وتهريب بطاقات الذاكرة حيث خزّن نُسَخ الصور الفوتوغرافية، تنطوي في ذاتها على مزيج رفيع من الغيرة الوطنية والشجاعة الفائقة والمجازفة المفتوحة والتضامن الإنساني، في آن معاً. ولم يكن مستغرباً أن يُقابل من أبناء سوريا عموماً، ومن مواطنيه في مسقط رأسه محافظة درعا خصوصاً، بترحاب استثنائي مفعم بالامتنان؛ فارتفعت أصوت تطالب بوضع صورته على الفئات العليا من أوراق العملة الوطنية السورية.
الهيكلية السردية للحكاية تنهض على سلسلة من عناصر التشويق والتكتم والمغامرة والبسالة، ابتداءً من قرار المذهان نسخ الصور وتخزينها إلكترونياً ثمّ تهريبها تباعاً، مروراً بوضعها تحت تصرّف فريق قانوني متخصص برعاية من دولة قطر، وتوظيفها على صعيد حقوقي دولي تبلور في «قانون قيصر» الأمريكي الشهير وسواه، وتهريب المذهان نفسه خارج سوريا عن طريق الأردن، واقتناع الرجل أنّ الواجب بفرض عليه التحدّث إلى وسائل إعلام ملتزمة وجادّة تكفلت بإيصال الملفات الرهيبة إلى الرأي العام العالمي؛ وانتهاءً بانهيار نظام «الحركة التصحيحية» ومجرمي الحرب، حين بات الكشف عن هوية «قيصر» تحصيل حاصل مطلوباً وطنياً، ومن باب وفاء سوريا لأحد أخلص أبنائها.
هذا الجانب الأخير، أي الانفتاح على وسائل إعلام عالمية، تضمن الكثير من التفاصيل فتنوعت طرائق التعامل مع آلاف الصور الرهيبة المخيفة تلك؛ حيث لم يغب عن التنويعات رأي، في صفوف أصدقاء النظام وأوساط ما يُسمى بـ»الممانعة» خصوصاً، ساجل بأنّ الحكاية كاذبة، ومؤامرة إمبريالية، وتلفيق أقرب إلى الرواية البوليسية. رأس النظام الأسد نفسه لم يتخلف عن الركب، فتشاطر خلال حديث مع موقع «ياهو» بالتساؤل عما إذا كانت نتاج تلاعب بواسطة الفوتوشوب. وهذه السطور لا تخفي انحيازها، والامتنان العالي والعرفان بالجميل، لجهود الصحافية الفرنسية غارانس لوكين Garance Le Caisne، وكتابها الرائد «عملية قيصر: في قلب آلة الموت السورية، الذي صدر بالفرنسية سنة 2015 في باريس، ضمن منشورات Stock، وتُرجم إلى لغات عديدة بينها الإنكليزية والألمانية والإيطالية؛ وكذلك الشريط التسجيلي «نفوس مضيّعة»، وأنجزته بالاشتراك مع ستيفان مالتير، 2022.
انخراط لو كين في تتبّع ملفات «قيصر» حكاية مثيرة في ذاتها، تشدد أيضاً على أخلاقية انحيازٍ ملتزم يدأب على اقتفاء خيوط الحقائق المتشابكة، المريعة الفظيعة والوحشية الهمجية؛ وهو خيار سوف يقودها إلى انخراط أوسع في الشؤون السورية مع كتابها الثاني «إنسَ اسمك: مذكرات المفقود مازن الحمادة»، الذي تناول تصفية المعارض السوري عن طريق استغلال هشاشته العاطفية تجاه أهله وبلده، وإغوائه بالعودة إلى سوريا. وبعض أبرز أنساق التكريم السوري الذي تلقته لوكين، اعترافاً بجهود فاعلة وكاشفة ونبيلة في آن معاً، كان منحها جائزة سميرة الخليل ــ دورة 2024، مناصفة مع الشاعرة الفلسطينية الغزاوية نعمة حسن.
وثمة بُعد خاصّ، تأليفي الطابع ومهنيّ التميّز ونزيه في الإلحاح على وظيفة الصحافة والصحافيّ، يتمثل في خيار لوكين تقسيم الكتاب إلى فصول ينتظمها في المقام الأوّل ما يمكن توفيره من تماسك وتناسق وانسجام، وبعض التطابق حين تتيح الحال، بين ما يسرده «قيصر» لمحاورته الصحافية، من جهة أولى؛ وبين وقائع ومعطيات وإفادات توثيقية تصدر عن ضحايا النظام، وبينهم الفتى حمزة الخطيب مثلاً، تؤكد أقول «قيصر» نفسه، من جهة ثانية. كما أنها لا تغفل الاستعانة بالمخيّلة الأدبية السورية، وكتابات السجون المقترنة بالطابع التوثيقي، كما في اقتباس مصطفى خليفة وروايته «القوقعة»؛ وتلتقي بعائلات المفقودين، أو المرجّح اكتشاف تصفيتهم جسدياً من خلال الصور، ليس في باريس وحدها، بل في مدن سورية عديدة، وفي إسطنبول التركية وجدّة السعودية.
وليس من دون قصدية ذكية، وهادفة إلى إحداث الصدمات الأبكر لدى قارئ قد يباشر القراءة مرتاباً متشككاً، أنّ لوكين تفتتح الكتاب بواقعة شهدتها وزارة الخارجية الفرنسية، يوم 12 كانون الثاني (يناير) 2014؛ على هامش اجتماع عدد من وزراء خارجية التجمّع الذي عُرف يومذاك باسم «أصدقاء سوريا»؛ حين عُرض عليهم شريط فيديو من 8 دقائق، بمثابة عيّنة على صور «قيصر». وكأنّ الشراكة بين المذهان السوري وغارانس الفرنسية تتقصد الاستهلال بهذا التفصيل كي تقول إنّ سردية اختراق جحيم آل الأسد يمكن أن يبقى مجرّد عرض، فلا يعيق النظام السوري عن ارتكاب فظائع أشدّ دموية؛ على غرار القصف الكيميائي لغوطة دمشق الشرقية، وأضاليل «الخط الأحمر» الأمريكي/ الأوروبي… مثلاً!
القدس العربي
—————————-
سوريا وغزة: جدل الوعي والمقاومة/ عبدالحفيظ بن جلولي
تحديث 10 شباط 2025
واجه الغرب الشعبي وحتى الرسمي منه مرغما حدثان مهمان ذكراه بما كان قد نسيه أو تناساه كحكاية قديمة تخلى عنها لتبنيه قيم الحداثة التي جعلت الإنسان مركز الكون والعقل، معيار الحكم على الأشياء في معزل عن الروح والمشاعر.
المبادرة السورية: من الكابس إلى وعي المرحلة
يتمثل الحدث الأول في تحرير سوريا من الاستبداد، قادة التحرير حاولوا منذ اللحظة الأولى الإفصاح عن نية الانخراط في المنتظم الدولي، وأن ما تكرس في وعي الغرب من أن أيديولوجية بعينها، لا يمكن أن تتجاوب مع ما يحدث في العالم كان وهما، ويبقى مع ذلك التحدي الأكبر في كيفيات حل الأزمات الداخلية التي يعاني منها المواطن السوري، الأهم في هذه الحالة تخييب أفق تلقي الوعي الغربي للتجربة الإنسانية في تحولاتها عبر الزمن.
لا يمكن أن نقول إن كل شيء على ما يرام لأن تحديات عدة تواجه سوريا والنظام الجديد، ليس أقلها موضوع الطائفية، إعادة الإعمار، طبيعة النظام السياسي، وغيرها من الموضوعات التي تنتظر الحسم. الحالة السورية جعلت النظام الدولي يقف متخوفا من نموذجها الذي ربما يكون القادة فيه يخفون غير ما يظهرون، أي يمارسون التقية السياسية بالتعبير الشيعي، وأحمد الشرع في حواره مع «بي بي سي» كان قد أشار إلى هذه الإشكالية، وكانت إجابته أننا إذا استطعنا خداع النظام الدولي إلى هذه الدرجة، فإما نحن أذكياء جدا، أو النظام الدولي على درجة من الغباء لم تمكنه من كشفنا.
الحالة السورية بعد تجاوزها مرحلة الاستبداد، وضعت نموذج الإنسان الذي يتعامل مع الواقع وفق تاريخية ذات خصوصية عميقة الجذور في الممارسة الوجودية الثقافية والفنية والسياسية والاقتصادية، وهي تعي ذلك بعد استعادتها لمبادرتها، فما كان يعيق السير نحو المهام الأساسية في اليومي هَدَمَهُ رمزيا وواقعيا ما تجلى في اليوم الأول من تحرير السجين، الذي لم يكن يعرف لماذا صودرت حريته، وأصبح أداة للتعذيب والتنكيل وإرضاء رغبات سادية، هذا النموذج للنظام المتوحش الآكل للإنسان والمعيق لمبادراته الخلاقة، جعل من «الوطن» مجموعة من المجالات الوظيفية التي لا تحقق سوى أغراضه وأهدافه، والكارثة الكبرى أن السوري أصبح أيضا وظيفة لا يمكن أن تُعَرف خارج الرعب من السلطة، وبالتالي يصبح «الكائن الخائف» وسيلة من وسائل المتحكمين في الوضع المجتمعي بشكليه السياسي والاقتصادي لرسم «وطن» خارج معايير الوطن بالمفهوم المنتج لـ»المواطن»، لأن المواطنة علاقة قائمة على الحق والواجب، أو التبادلية السياسية في إطار احترام الحق في العيش والكينونة الحرة، هذا البعد كان غائبا للأسف في هرمية النظام السوري.
تنتج الصيغة الاستبدادية فردا لا مواطنا، مكبلا بكل ما يمكن للخوف إنتاجه في عمق النفس الإنسانية، لكن السوري كان يحمل خلفه تاريخا حافلا، سندا وجوديا يدعم ضعفه ويرفد كيانه المتحرك، في بؤرة أمنية بامتياز تخضع للحكم الهمجي الذي يلغي ما هو إنساني لينتج معاييره الخاصة بإنسان مَقُود مطيع يؤدي دلالة «القطيع»، وليس «الجماعة الوطنية» بالمفهوم السياسي والاجتماعي، ولهذا كان الغرب ينتظر انغلاقا تاما للسياسي السوري، خصوصا أن المخيال الغربي كرس صورة نمطية للأيديولوجيا الدينية، خصوصا إذا تسلمت دواليب الحكم، لكن ما حدث على المستوى الرمزي هو استفاقة العمق الإنساني، النفسي والثقافي للسوري الذي أماتته رحى الاستبداد الدموي المُحْتمي بـ»الكابس» الذي يضغط على الجسم فيهشم العظم ويعصر الدم حتى لا تتبقى سوى كتلة أو «مضغة» استنفدت حيويتها. كبس الجسد تعبير ملموس عن إعدام مفهوم «المبادرة» لدى السوري بإزاحة وجوده من الحضور الموضوعي الفاعل، الذي يمثل انبثقاته «الجسد» باعتباره الجمالية المترجِمة للمبادرة الإنسانية في الكشف عن تفاعلاتها مع الواقع والعالم، فَفَرح العمق يبدو جليا على تقاسيم الوجه. هذه العودة المميزة بالرغبة في الانفتاح على العالم والآخر، مع الاعتراف بكل أعطابها ومطباتها التاريخية، تضع وعي السوري ضامنا لمواجهة أي انحراف عن مسار ما اصطلح عليه بـ»سوريا الجديدة» أو على الأقل ذلك المأمول.
المقاوم الغزاوي بين استراتيجية التسليم ومفاعيل الإرادة:
الحدث الثاني هو الانتصار التاريخي لغزة ووقف إطلاق النار، رغم أنف نتنياهو، دون تحقيق أي من أهدافه المعلنة من العدوان على غزة ومبانيها وجمالها، لكن ما تلا وقف إطلاق النار كان استراتيجية تنظيمية، حركية وأخلاقية أغاضت الغرب وجعلته يستفيق على فقدانه إنسانيته بكل بساطة. إن المشاهد الحركية والتنظيمية التي واكبت تسليم الأسرى، ربما كانت مقصودة ومخططا لها، إذ الانتصار ليس لحظة اعتراف العدو بهزيمته، بل باستعراض الخصم المقومات الأساس التي حققت النصر ومنها، استراتيجيات التنظيم والحركة والأخلاق الكاشفة لعنصر الإرادة، ولعل الأخلاق كانت أهمها في مشهدية التسليم، إذ حافظ المقاتلون والمقاومون على الأسرى، ليس لأن هؤلاء طيبين، ولكن لأن القيم الدينية تمنعهم من المساس بالمأسور. فإصرار المقاومة على تسليم الأسرى ضمن خريطة الهدم والخرائب وبتلك المشهدية الحركية، التي تنم عن تنظيم صارم، كل هذا يحيل إلى أن الغزاوي والفلسطيني على العموم يمتلك سلاح «الإرادة»، التي بها استمر في المقاومة، رغم شدائد مسار الدفاع عن النفس وعن الأرض، وأن مظاهر الهدم سوف تنتفض من بين رمادها، كما «الفينيق» لأنها بُنيت بإرادة وسيعاد بناؤها بالإرادة ذاتها، فالمقاوم بدا في مشهدية التسليم غير عابئ بالهدم، وفي كثير من تسجيلات المقاومة، كان التركيز على عناصر القسام والخلفية كانت صوتية نابعة من حناجر الغزاويين، أي الظهير المقاوم المساند للمقاتل، ومن أهم أدوات المساندة الصبر على شدائد تلك المرحلة.
تتالت لحظات تسليم الأسرى وتشابهت، وفي كل مرة كان يبدو المقاتل هو «البطل الأخلاقي» الذي يدافع عن أرضه، والذي سيحل في المخيال الغربي المدجن محل «الإرهابي»، بل الأكثر من ذلك أنه سيكون موضوع مقارنة مع نموذج الجندي الغربي، أو «البطل اللاأخلاقي»، ذلك الذي يدخل معارك لإزاحة الشرعيات الجغرافية والبشرية واللغوية والتاريخية والدينية، لصالح شرعيات بديلة وغريبة تستنزف مقدرات الشعوب وتلغي كياناتها وتصادر حاضرها ومستقبلها. صورة المقاوم الغزاوي على تلك الشاكلة هي المصداق الأقوى الذي راهن عليه كي يهزم فعلا صورة الإسرائيلي المجند، أو «البطل الوهمي» بكل ما أوتي من قوة ليقهر إرادة شعب لا يقهر، شعب أعزل كل ما لديه هو الإرادة في الحياة وإيمانه بأن «على هذه الأرض ما يستحق الحياة» بتعبير درويش.
مفهوم الهدية يختلف حسب المجتمعات وقيمها، فهو في المنظور الإسلامي عربون محبة «تهادوا تحابوا»، كما ورد في حديث الرسول الأكرم (صلى الله عليه وسلم)، والمقاتل الذي يحمل المحبة، ليس كما ذلك الذي يحمل الكره الناتج عن «جهل مركب»، لأنه فقط تلقى أن هناك أمما متوحشة خارج إطار التاريخ، وعلى الغربي المتحضر إعادتها إلى نصاب التاريخ والحضارة، هذا الجندي هو فعلا آلة كسولة عاجزة عن فك شيفرات التاريخ والتجربة الإنسانية والاستفادة منهما، وهو ما برع فيه المقاوم الغزاوي والفلسطيني على العموم وكل مقاوم عبر التاريخ لعنجهية الغرب والقوى الاستعمارية الغاشمة.
إن الخرائب أو مفهوم الطلل في الوعي العربي هو العودة النفسية الجمالية إلى مراتع الكينونة الأولى، هي الحنين إلى الماضي والتعبير عنه بالبكائية، ليس ذما للمشهد، أو الحالة، وإنما تزكية للموقف الذي سوف يغادر فيه الإنسان المكان حاملا إياه معه مخيالا وواقعا عاشه، وهذه المقاربة قد تفسر حركة الناس وعودتهم إلى هدم بيوتهم التي هجروا منها قسرا، فما الذي يعودون إليه، التراب أم بقايا هياكل بيوت؟ كل فلسطيني يحمل معه «مفتاح» بيته الذي هُجر منه، «المفتاح التاريخي» العابر للأجيال إبداع فلسطيني، ذاكرة المكان الذي يعود إلى وحدته الأولى المتمثلة في البناء، والبيت من البناء، والبناء دون مفتاح كيان طارد، والمفتاح بصورته المادية التي تقابل الباب، أي المدخل الذي لن يتوه عنه صاحب البيت لأنه عارف به، والمفتاح عنوان المدخل، أما على المستوى الرمزي فالمفتاح يشكل أفق العودة لأن «الغريب» لا مفاتيح له، والهدم معيارية أنطولوجية تحدد المعرفة بالمكان، ولو فقد ملامحة لأن الرابط الوجداني أو «الحنين التاريخي» لا يمتلكه سوى من عاد ليقف على الطلل الذي يعني له الكثير.
كاتب جزائري
القدس العربي
———————–
حساب الأسدية/ بشير البكر
الإثنين 2025/02/10
طال الزمن أم قصر، ستطاول العدالة كافة أركان حكم عائلة حافظ الأسد، حتى فئة الذين هربوا إلى الخارج، أو اختبأوا في الداخل. لن يبقى أحد بمنأى عن المحاسبة. قد يتأخر الموعد، لكن ستأتي اللحظة التي تطرق فيها العدالة أبواب الجميع، كي ينال كل ذي حق حقه. لن ينفد الذين تلطخت أيديهم بالدماء، ومن نهبوا المال العام، أو استغلوا السلطة من أجل تحقيق مكاسب شخصية، وإلحاق أذى بالآخرين.
هذا حق عام لن يتنازل عنه الشعب السوري. وحتى تبرهن الحكومة مصداقيتها واحترامها لنفسها، عليها أن تطبق قانون العدالة الانتقالية من دون مواربة. وهذا يعني أن الحساب لن يقتصر على عائلة الأسد فقط، بل سيشمل كل الدوائر في محيطيها المدني والعسكري، وما يتجاوزهما إلى بقية الميادين، وعلى هذا سوف تتعدد اللوائح، لتضم إلى رجال الأمن والعسكر وأصحاب رؤوس الأموال، شخصيات دينية، وفنانين، وكتاب، وصحافيين، وشيوخ عشائر.
والملاحظ أن القسم الأكبر من هذه الفئات، التي تمتعت بامتيازات على مدى نصف قرن، وكوّنت ثروات بطرق غير قانونية، واعتدت على الآخرين، وسرقت من المال العام والخاص، تحاول أن تقلب صفحات ماضيها بوسائل مختلفة. لكن ذاكرة السوريين مثقلة بقدر هائل من الانتهاكات الفردية والجمعية. كما أن الكثير من الأدلة موثقة، سواء في وثائق تم العثور عليها في خزائن النظام البائد، أو من خلال وسائل الإعلام والتواصل. ومثال ذلك الدكتورة الجامعية في كلية الإعلام بجامعة دمشق نهلة عيسى، التي أُوقفت عن العمل، بعد احتجاج طلابي، نادى بإقالتها على خلفية تاريخها المرتبط بالنظام السابق. وليس هناك دليل على إدانتها أقوى مما هو منشور منذ أعوام في صفحتها، تتفاخر فيه بتسليم طالبات وطلاب للأمن من داخل قاعة الامتحان.
ظاهرة ما بات متعارفاً عليه بـ”التكويع”، تبدو نافرة في وسط الفنانين والكتاب والصحافيين، اكثر مما هي ملحوظة في ميادين السياسة والاقتصاد. وفي الأسابيع الماضية، قام بعض المعروفين بولائهم للنظام السابق ونفاقهم له، بإطلاق تصريحات أو الكتابة في وسائل التواصل، محاولين تمويه السجلات القذرة، من خلال تأييد الثورة، والتعبير عن الفرح بسقوط النظام. لكن معظم هؤلاء من المعروفين بأن أفعالهم تجاوزت منافقة النظام السابق، إلى محاربة زملاء لهم في داخل سوريا وخارجها، ومنهم من مارس نفوذه في الداخل للتأثير في المهرجانات والجوائز لحرمان كتاب وفنانين معارضين منها، وهناك حكايات كثيرة سيتم سردها في حينه.
صحيح أن منطق الثأر غير مقبول، ولا يعبر عن توجه لدفن الماضي الأسود، وفتح صفحة جديدة، لكن مبادئ العدالة الانتقالية يجب أن تُطبق من دون استنسابية أو مزاجية، وهذا يعني أن المحاسبة يجب أن تكون الخطوة الأولى، وبموجبها يخضع كل أصحاب الجرائم والانتهاكات واللصوص والشبيحة للقانون، ومن بعد ذلك يصبح لكل حادث حديث تحت هذا السقف.
إذن لا بد من هذا الممر الاجباري. ولا يعني ذلك أن الفارين من وجه العدالة، أو الذين هربوا الأموال إلى الخارج، سيكونون بمنأى عن المحاكمة، بل سوف ينطبق عليهم ما يسري على غيرهم في الداخل، وهذه أمر يكفله القانون الدولي. وستبقى العدالة منقوصة إن لم تُطبق على الذين فروا أو هربوا الأموال، وهناك عدد كبير من هؤلاء الذين غادروا البلد فجر الثامن من كانون الأول وقبله، وبعضهم لديه استثمارات ماليه كبيرة في العالم العربي وخارجه، تعود في أصولها إلى أموال منهوبة من الشعب السوري الذي يواجه أزمات حادة من جراء ذلك.
السجلات السوداء لا تضم أسماء سوريين فقط، بل هناك عدد كبير من جنسيات أخرى، استفادوا من النظام، وأدوا له خدمات كثيرة، واستقووا به على آخرين، وهذا ينطبق على تمدّد نموذج الأسدية إلى بلدان مثل لبنان، الذي لا يقل الخراب الذي لحق به عن الذي حل بسوريا وأهلها، فطرق العمل التي اتبعها النظام في سوريا طبقها حرفيا في لبنان، وخلق شرائح واسعة مستفيدة منه سياسيا، واقتصاديا، وأمنيا، وإعلامياً.
وقد يبدو غريباً للبعض أن النظام تمدد خارج سوريا، وبنى شبكات تدعمه وتدافع عنه من الصحافيين والسياسيين العرب والأجانب، وبعض هؤلاء شكلوا لوبيات سياسية وإعلامية ودينية للدفاع عن جرائمه، وكتبوا مقالات وكتباً تلمع صورته، وتقدمه على أنه علماني حامي الأقليات، ومن هؤلاء على سبيل المثال في فرنسا شخصيات تنتمي إلى اليمين المتطرف وأوساط دينية، كانت تمول بعض ميليشيات الدفاع الوطني. ولم يكن ذلك من دون مقابل مالي، كان يتم عن طريق بعض رجال الأعمال مثل رامي مخلوف، أو من موازنة السفارات. وفي الأحوال كافة، لا يوجد موانع قانونية، من أن تطاول العدالة كل من ألحق أذى بالسوريين، لأسباب سياسية، داخل سوريا أو خارجها.
————————-
نصف الكأس الملآن في سوريا.. فرص إلى جانب التحديات/ إياد الجعفري
الإثنين 2025/02/10
لا نستطيع إلا أن نتفق مع الفكرة الرئيسية التي قام عليها تقرير صحيفة “واشنطن بوست”، حول إلحاح وتعقيد الأزمة الاقتصادية في سوريا، وكونها تشكّل تحدّياً عصيباً لإدارة الرئيس الجديد، أحمد الشرع، وصولاً إلى التهديد بتقويض حكمه.
لكن في التفاصيل، تبدو الصحيفة الأميركية مُغرقة في النظر إلى نصف الكأس الفارغ، وقد بنت استنتاجاتها التي أتت متشائمة، على فكرة استمرار قيود العقوبات الغربية وخنقها لفرص النهوض باقتصاد سوريا. إذ، وبعيداً عن الرفع الجزئي للعقوبات من جانب الولايات المتحدة الأميركية، تبدو الاندفاعة الأوروبية الجلية نحو التواصل مع الإدارة السورية الجديدة، ومنذ الأيام الأولى لوصولها إلى السلطة، مؤشراً على رغبة الطرف الأوروبي، بصورة خاصة، في الانخراط بإعادة إعمار سوريا، وعدم إضاعة هذه الفرصة الاستثمارية المُغرية.
ويعد مؤتمر باريس المزمع عقده يوم الخميس المقبل، أبرز مؤشر على هذه الرغبة الأوروبية. فالمؤتمر الذي سيحظى بحضور إقليمي ودولي واسع، سيناقش قضايا المرحلة الانتقالية في سوريا، وكذلك، ملف إعادة الإعمار. وستشارك فيه مؤسسات مالية إقليمية ودولية، إلى جانب مشاركة ممثلي “مجموعة الدول الصناعية السبع”، وست دول أوروبية. ويحظى المؤتمر بزخم فرنسي جلّي، إذ من المزمع أن تكون كلمة الختام، للرئيس إيمانويل ماكرون. والملفت، في المعلومات المتوافرة حول تفاصيل المؤتمر، أن وزير الخارجية، أسعد الشيباني، سيُمثّل سوريا في المؤتمر. ولن يكون هناك أي تمثيل لأي مجموعة سياسية سورية أخرى، مع حضور لنشطاء في المجتمع المدني. وذلك رغم القلق الفرنسي على مصير “قوات سورية الديمقراطية”، ومستقبل التمثيل الكردي في الحكم الجديد لسوريا. إلا إن فرنسا لم تذهب باتجاه إتاحة المجال لتمثيل قوى سياسية سورية أخرى داخل المؤتمر، مما يشي بحرص باريس، على غرار دول أوروبية أخرى، على مبدأ وحدة الدولة السورية، ووحدة تمثيلها. وهو مؤشر إيجابي للغاية، يمكن البناء عليه مستقبلاً.
وقبل يومين، أشارت وكالة “بلومبيرغ” إلى تفاصيل الجوانب التقنية التي يتم مناقشتها داخل الأروقة الأوروبية، بخصوص تنفيذ القرار المتفق عليه برفع جزئي للعقوبات عن سوريا. ووفق المعلومات، سيتم رفع العقوبات بصورة شبه كاملة عن قطاع الطاقة. إذ سيُتاح لسوريا استيراد النفط، من دون قيود، كما سيكون متاحاً للمستثمرين الإقليميين والدوليين المساهمة في بناء محطات جديدة لتوليد الطاقة. وسيتم أيضاً، رفع بعض البنوك السورية من قائمة العقوبات، وإزالة بعض القيود عن البنك المركزي السوري. وإن لم تتضح بعد، التفاصيل الدقيقة للقطاعات التي ستُرفع عنها العقوبات الأوروبية، إلا أن المؤشرات الأولية تشي بمساحة واسعة متاحة لعمل المستثمرين الدوليين، من دون خوف، خلافاً لما ذهبت إليه “واشنطن بوست”. وهذا الاندفاع الأوروبي، لا بد أنه يتماشى مع غياب أي “فيتو” أميركي على إعادة الإعمار بسوريا. وذلك رغم عدم وضوح الخطوط العريضة للسياسة الخارجية الأميركية الجديدة تجاه سوريا، في ظل إدارة دونالد ترامب.
تتلاقى الاندفاعة الأوروبية مع اندفاعة تركية وخليجية، تراهن على الإفادة من “كعكة” إعادة الإعمار في سوريا. ومع الفرص الكبيرة التي تتيحها هذه “الاندفاعات”، تأتي الكثير من التحديات التي يتوجب على الإدارة السورية بدمشق، التصدي لها، ومعالجتها بأسرع وأفضل السبل المتاحة.
أولى تلك التحديات، هو تحقيق الاستقرار الأمني. وهو التحدي الذي توليه إدارة الشرع، أولوية جلية، كا يبدو من أدائها. وهو أمر إيجابي. لكن برفقة المساعي نحو تجاوز هذا التحدي، يمكن تسجيل جملة مشكلات لا يجب تركها لاحتمالية التفاقم، وإلا فإنها ستكون المقتل الأبرز لإمكانية قدوم الاستثمارات الخارجية. أبرز هذه المشكلات، غياب حالة القوننة في ممارسات الأجهزة الأمنية السورية. إذ تم تسجيل حالات محدودة، لكن لا يمكن تجاهلها، لعمليات تصفية واعتقال تعسفي وانتهاكات بحق أبناء البيئات الاجتماعية الموالية للنظام السابق. كما وتم تسجيل انتهاكات بحق فئات مستضعفة، كالمتحولين جنسياً، بصورة شعبوية من الواضح أنها تستهدف تحصيل مكاسب شعبية، جراء تأييد جانب كبير من الجمهور السوري لممارسات من هذا النوع. هذه المشكلات، وشبيهاتها، إن لم يتم تطويقها، وإخضاع مفتعليها من عناصر القوى الأمنية للضبط والمساءلة، فإن الأمر سيُقرأ خارجياً، على أنه ضوء أخضر من جانب القيادة. وهو ما سيكون أكبر عامل تهديم، للاندفاعة الخارجية الإيجابية نحو الإدارة الجديدة. مع الإشارة إلى خطر حصر الرهانات الخارجية على طرف إقليمي أو عربي، أو الوقوع في “المطب الغبي”، الذي قام عليه مبدأ وزير خارجية النظام الأسبق، وليد المعلم، القائل بـ”مسح أوروبا” من الخريطة. فالانفتاح والتعاون مع الغرب له أهمية كبيرة للغاية في مسار التعافي بسوريا. ومن دونه، سنعود للدوران في الحلقة المفرغة ذاتها التي أدخلنا فيها النظام المخلوع.
في الختام، دعونا نقرّ بأن الإدارة السورية الجديدة أظهرت تجاوباً مقبولاً مع كثير من الانتقادات التي وُجهت لها. من قبيل، تلك التي طالت الفتح المطلق للأسواق السورية أمام البضائع التركية، فتم فرض رسوم جمركية أزعجت الأتراك. ومن الجلّي أن دمشق تتعرّض لضغوط من جانب أنقرة بخصوصها، لا يجب الخضوع لها، بل يجب البحث عن حلول وسط، تخدم مصالح الطرفين. كذلك، يبدو إقرار وزير الاقتصاد، قبل يومين، بوهمية تحسّن سعر صرف الليرة السورية في الأيام الأخيرة، مؤشراً إيجابياً، مع الحديث عن تدخّل مرتقب للبنك المركزي لإنهاء حالة التذبذب المضرّة في سعر الصرف. ووفق المعلومات المتوافرة، فإن شخصيات محسوبة على الإدارة الجديدة، وجّهت دعوات لخبراء اقتصاديين سوريين مغتربين على مستوى إقليمي ودولي، لزيارة سوريا، بغية لقاء الرئيس الشرع، للتشاور حول سبل النهوض بالاقتصاد.
وهكذا، لا يبدو الكأس فارغاً بالمطلق في سوريا، كما أوحى به تقرير “واشنطن بوست”. وبجوار التحديات العصيبة، تتموضع فرص، إن أحسنت الإدارة السورية الجديدة، انتهازها، فإن مسار سوريا نحو التعافي، سينطلق قريباً، وسيكون أكثر سلاسة من التخوّفات المحيطة به.
————————-
ثقافة التمجّد والنفاق/ سلام الكواكبي
الإثنين 2025/02/10
سنة 1924، قامت الجهورية الفرنسية بتعيين مفوض سامي جديد على سوريا ولبنان، ووقع اختيارها على أحد أبطال الجيش الفرنسي في الحرب العالمية الأولى (1914 ـ 1918) الجنرال موريس ساراي (1859 ـ 1926). ولكي يلتحق بمقر عمله، كان يتوجب عليه ركوب باخرة مدنية تنقله ومساعديه من مرسيليا إلى بيروت. وبمجرد أن علم بعض أصحاب المال والمصالح التجارية في بلاد الشام بصدور قرار التعيين، أسرعوا بالسفر إلى مرسيليا والمكوث في فنادقها بانتظار موعد انطلاق باخرة المفوض السامي. وقد استأجروا خدمات بعض موظفي المرفأ لكي يخبروهم بموعد خروج باخرة الجنرال، ليقوموا بحجز قمراتهم فيها ومرافقة ساراي أثناء الرحلة التي تمتد لأيام عدة.
وقد أصدر أحد الضباط الفرنسيين متوسطي الرتبة، وكان يرافق المفوض السامي في رحلته إلى بيروت، كتابًا طريفًا لوصف مجريات الرحلة والتعليق على تصرفات بعض السوريين، القادمين من دمشق وبيروت وطرابلس وحلب، كما أورد، والمنتمين إلى مختلف الديانات والطوائف، كما أكّد. ولقد تنوّعت هذه التصرفات خلال أيام الرحلة البطيئة بمعايير اليوم. فقد اجتهد أهل الشام هؤلاء في اجتراح الفرص في الأماكن المشتركة محاولين التقرّب من الضابط السامي في سعي دؤوب لبناء علاقة ما معه. جهدهم كان ينصبّ على أن تكون هذه العلاقة مفتاحًا يساعدهم على تيسير أمورهم العملية في البلاد من خلال علاقة خاصة مع صاحب القرار فيها. وقد قاموا بذلك بناءً على تجربتهم السابقة قريبة التاريخ مع ممثلي الإمبراطورية العثمانية من ولاة ومبعوثين.
وإن دلّ هذا التصرّف على شيء، فهو يدلّ على ظاهرة اجتماعية تتجاوز المعايير الوطنية من مقارعة الاحتلال -أو الانتداب كما يحلو للفرنسيين تسميته- أو حتى مقاطعته على أقل تقدير، وذلك بهدف المحافظة على المكاسب الذاتية وتعزيزها كمًّا ونوعًا. ولقد غاب عن بعض أهل الشام الساعين إلى “طبخ” -كما يقول الفرنجة- المفوض السامي حتى قبل تسلمه لمنصبه، أن الجنرال ساراي، وعلى عكس الميل التقليدي للعسكريين الفرنسيين إلى أحزاب اليمين، كان هو من نوادر الضباط في الجيش الفرنسي المنتمين إلى اليسار حينذاك، وهو يعتبر أن أهل المال هم من ألدّ خصومه. بالتالي، فقد فشل استثمارهم في هذه الرحلة. بل على العكس، فقد أدى تصرفهم هذا إلى تعزيز موقفه اللافظ لهذه الفئة، وانعكس لاحقًا على علاقته بها.
امتدّت هذه الممارسات التي مزجت بين النفاق والتمجّد والتملّق، وصولًا إلى أن تجسّدت أيما تجسّد بعد وصول حافظ الأسد إلى حكم سوريا بانقلابه العسكري سنة 1970. فقد وجدنا أن بعض التجّار العاصمة وسواها قد سعوا فورًا للتقرّب من السلطة الجديدة، كما ورد في مذكرات بدر الدين الشلاّح (1905-1994)، كبير تجّار دمشق. كما قام بعض رجال الدين بتعليق لافتات على بعض المساجد، ومنها الجامع الأموي الكبير العبارة التالية: “طلبنا من الله المدد، فأرسل لنا حافظ الأسد”، كما ورد في كتاب “فلاحو سوريا” لحنا بطاطو.
وتجددت تمارين التمجّد والنفاق حينما أُورِث بشار الأسد الحكم خلفًا لأبيه، واجتهدت فئات تسعى لصالحها بعيدًا عن أي مسؤولية اجتماعية أو وطنية، للوصول إلى بطانة حكمه أو حتى التعيّش على فتات موائده. وتبارى البعض في إظهار مشاعر الوفاء والحب للقيادة “الشابة والواعدة” قبل أن يدفعوا أثمانًا باهظة لهذا الرهان قصير النظر.
اليوم، وبعد سقوط الديكتاتور، سارعت هذه الفئة المستدامة من المتلونين وأصحاب المصالح الذاتية العابرة للمنطق وللأخلاق، إلى تعزيز أساليبهم في التملّق محاولين التقرّب من القيادة السياسية الجديدة. معتمدين في ذلك أساسًا على أن ذاكرة السمك هي المهيمنة، وعلى أن تاريخهم “النفاقي” قد يُنسى، وعلى أنه يمكن لهم فتح صفحة جديدة ناصعة البياض في مسار سعيهم لتحقيق مصالحهم بعيدًا عن أي هدف مجتمعي مشترك. إنها ثقافة غارقة في القدم. والتنبيه إلى “عراقتها” قد يُساعد على تحفيز الوعي لدى سلطة الأمر الواقع، ويدفع بها إلى الاعتماد على من “لم تتلوّث أيديهم وذممهم” بالفساد وبطاعة أصحاب السلطة القائمة مهما كانت. هؤلاء، هم أسرع المتحولين والمنقلبين. مصلحتهم تسمو على كل ما عداها.
في عام 1902، وإثر وفاة صديقه الإمام عبد الرحمن الكواكبي (1855 ـ 1902)، وفي معرض رثائه من خلال استرجاع نقاشاتهما، كتب الإمام محمد رشيد رضا ((1865-1935: “قلت مرة لعبد الرحمن أفندي الكواكبي رحمه الله، لو تيسر لنا أن نجعل بعض مُحبي الإصلاح المعتصمين بالكتاب والسنة شيوخاً للطريق لأمكن لنا بذلك هداية العامة بسهـولة. ولكن هـؤلاء المصلحون قليلون، ولا يكاد أحد منهم يرضى بأن يكون شيخاً لطريقة من الطرق”. فأجابه حينها عبد الرحمن الكواكبي قائلًا: “إننا قد جربنا ما ذكرت، فأقنعنا رجلاً مـن الصالحين المستنيرين فـي حلب بأن يكون مـن شيـوخ الطـريق، فيُرجع العامة عـن بدعهم وخرافاتهم ويهديهم إلى طريق الدين السوي، فقَبِلَ بعـد إباء ونفور. فلما رأى إقبال العامة عليه واعتقادهم صلاحه وبركته، فُتِنَ بذلك وجاراهم في اعتقادهم. فكانوا سبباً لضلاله بدلاً من أن يكونَ سبباً لهدايتهم وخسرناه خسارة لا مطمع فـي رجوعها”.
————————
“سجن صيدنايا”: “ثينك تانك” إسلامي ومفارقة أصل الثورة السورية!/ عمّار المأمون
10.02.2025
ربما هذا التنويع والتأمّل في حكاية صيدنايا ضروري الآن، كي لا تُحتكَر الحكاية الوطنية من قِبل أحد، حتى لو كان أساسها “المسلخ البشري”، الذي حسب أبو محمد، أحد الحراس السابقين في السجن: “يمثّل نهاية الحياة، ونهاية الإنسانية”.
حجّ كثيرون وكثيرات نحو صيدنايا، لا الدير، بل السجن العسكري المتربّع في الأعلى، أمهات وآباء، أخوة وأخوات، صعدوا درباً نحو “ما وراء الشمس” أملاً بزيارة معتقليهم في “المسلخ البشري“، درب لا يقاس التعب فيه بالخطوات أو المسافة أو زمن الوصول، بل بأطياف الأمل واحتمالات أن يُشفق حديد السجن وسجّانوه على المُتعبين، علّهم يسمحون بزيارة سريعة لأحد المعتقلين هناك، والمفارقة المرعبة “غرفة الإعدام تقع في قبو المبنى الأبيض، أسفل غرفة الزيارات العائلية…”.
نكتب عن سجن صيدنايا اليوم، بوصفه مولّداً للحكايات والمفاهيم (جذموراً ربما بالتعبير الدولوزي) متجاوزاً دوره كصرح مادي يدلّ على وحشية نظام الأسد، نحو فاعل في تكوين الحكاية الوطنية السورية الجديدة، التي تُخاض صراعات خطابية حول الفاعلين فيها ورموزها، تأسيساً لـ”الجمهورية الثالثة”.
أول اللغط
عادت سوريا إلى التاريخ لحظة تحرير سجن صيدنايا، عودة بصرية، تلقيناها فيديوهات وتسجيلات بُثّت من السجن سيئ السمعة متفرقة، بلا ترتيب أو وصف واضح، تشبه “فيديوهات الثورة”، مُرتجلة، مفعمة هذه المرة بنشوة “الانتصار” لا الخوف، مقاطع مجتزأة تغذّي وسائل التواصل الاجتماعي، وهنا الفخّ.
امتلأت ساعات التحرير باللغط، وهُرع الناس، “كل” الناس نحو صيدنايا وكأنم ا”مسهم السحر”، يبحثون بالمعاول والأزاميل والمطارق عن أبواب سرية، إلى حدّ أن صديقاً لي، وهو معتقل سابق في سجن صيدنايا، لم يصدّق بداية أن “ردع العدوان” اقتحموا السجن، مردداً، هذا ليس المدخل الذي أعرفه!.
أول فيديو أثار الجدل هو الذي صُوّر في 8 كانون الأول/ ديسمبر 2024، داخل غرفة المراقبة في السجن، يظهر فيه طفل صغير لم يُعرف سبب وجوده، وفُسّر الأمر لاحقاً، بأن من دخل بداية إلى السجن هم من سكان المنطقة، لتتوالى بعدها الأخبار عن وجود أنفاق سرية وزنازين خفية، بينما دياب سرية، مُعتقل سابق في صيدنايا، أحد مؤسسي “رابطة معتقلي صيدنايا”، يكتب عبر وسائل التواصل الاجتماعي ويظهر على وسائل الإعلام، مؤكّداً أن خريطة السجن وما فيه معروفة ولا أماكن سرية!.
“المكبس”: الرغبة في الرعب وأزمة اللايقين!
استثنائية لحظة اقتحام سجن صيدنايا، وهول الحكايات المحيطة به، ترافقت مع مبالغات وحشية، ولا نُنكر وحشية الأسد، لكنها حكايات لا تتفّق مع الشهادات السابقة، لنصل إلى مرحلة من اللا يقين، ونتحدث هنا بالضبط عن “المكبس”، الذي نفى دياب سرية أنه يُستخدم لهرس المعتقلين، بل كان جزءاً من ورشة خشب في السجن، مؤكّداً أنه “يُستخدم لضغط ألواح خشب “إم دي إف” (MDF) خلال عمليات صيانة أثاث غرف الإدارة والضباط في السجن”.
بدأت القصة بفيديو انتشر في اليوم التالي لتحرير السجن، يظهر فيه “المكبس” وبثّته الجزيرة لاحقاً، ثم فيديو آخر بعد يومين، نشاهد فيه أمام رجل الدفاع المدني السوري، رجلاً آخر يشرح بدقة كيف يعمل “المكبس”، وكيف يتم التخلّص من الجثث، علماً أن كمية الغبار وخيطان العناكب الموجودة عليه تشي بمرور فترة طويلة من دون أن يُستخدَم!.
على رغم تكذيب “قصة المكبس” عدة مرات، بقيت سرديتها موجودة، حتى إن المعتقل السابق في صيدنايا الأردني إبراهيم حسن الصقور، تحدث في 28 كانون الأول/ ديسمبر 2024، في مقابلة تلفزيونية مع “الجزيرة” عن “المكبس” وآلية عمله.
يتوسّع الصقور في الحديث عن استخدام “المكبس”، مقسّماً من يُقتل به إلى 3 أصناف من المعتقلين: “صنف يُجوّع ويُضعف ويُقطع رأسه ويُكبس”، ليصغر حجمه ثم “يُرمى في الأفران”، وصنف ممن يُطبّق عليهم عقاب مختلف كونهم قتلوا عنصراً من عناصر النظام، إذ يُوضع المتّهم “أجزاء أجزاء على المكبس” ليُهرس وهو حّي من “القدمين ثم الركبتين ثم الحوض…”، والصنف الثالث هم من قاموا بتفجير سيارة أو قتل عناصر، أولئك يتم كبسهم أحياء لـ”ينفجر الدماغ”، ويقول الصقور إن هذه الروايات مصدرها عنصر كان يخدم في صيدنايا، ثم سُجن فيه لتجارته بـ”العملة”.
استمرّ تكذيب “قصة المكبس”، مع ذلك بقيت الحكاية تُتداول وتزداد درجة الجدية في التعامل معها، ففي لقائه الأول مع صحيفة “الشرق الأوسط” في 1 كانون الثاني/ يناير 2025، يشير أسامة عثمان، الشاهد الملك في ملف “قيصر” إلى “المكبس” الذي “لم يخطر على باله” أنه موجود!.
قام أيضاً وزير خارجية فرنسا جان نويل بارو، بكتابة سلسلة تغريدات في 3 كانون الثاني/ يناير 2025 بعد زيارته سوريا، أفرد فيها تغريدة منفصلة وصف فيها “المكبس” بـ”آلة الموت”.
هذا التسلسل السريع للمعلومات والأخبار الخاصة بـ”المكبس” وتصاعد قيمتها حتى تُقتَبس من قِبل وزير خارجية بلد أوروبي، يقابله جهد إعلامي يسعى للحفاظ على استثنائية المقتلة السورية، وضبط “الحقيقة” السردية عن سجن صيدنايا عبر شهادات المعتقلين، بوصفها مأساة ما زالت مستمرّة، لا مساحة للجدل والاختلاف، وصلت حدّ مطالب بتجريم “إنكار الإبادة السورية”.
وهنا المفارقة، تعلّمنا من تجربة الهولوكوست ومنكريه، أن هكذا تفاصيل، تتطوّر لاحقاً إلى نظريات مؤامرة، وصلت حد إنكار غرف الغاز، لكن ربما هي حماسة الناجين و”سحر” التحرير، ما خلق أزمة مكبس الخشب، غواية الخلاص هدفها ترسيخ أن النظام السوري “أصل الشرّ” ولا شرّ يفوقه!.
مسرح الجريمة/ مسرح اللعب
تحوّل سجن صيدنايا بسرعة مُريبة إلى وجهة سياحية- استكشافية (السجن بقي لأيام من دون حراسة من السلطات السورية الجديدة) وجد فيها المؤثرون وصنّاع المحتوى ضالّتهم المنشودة، كحالة وارف كاتبي صاحب قناة “وارف وديالا” الذي نشر في قناته على “يوتيوب” فيديو لرحلة استكشافية داخل السجن، بتاريخ 14 كانون الأول/ ديسمبر 2024، بعد 6 أيام من سقوط النظام.
نشاهد في الفيديو كيف يدخل وارف المكان مع معتقل محرر من صيدنايا، ليشرح له طبيعة “الحياة/ الموت” التي يعانيها المعتقلون، لنختبر خلال نحو 40 دقيقة، قشعريرة مستمرة ، لا بسبب أهوال سجن صيدنايا، ولا بسبب محاكاة السجين السابق لما كان يختبره، بل بسبب الصيغة الاستكشافية التي يتحدث فيها “المؤثر”، مخاطباً الجمهور في بعض الأحيان بالنبرة ذاتها، التي كان يخاطبهم فيها قبل سقوط النظام، هو الذي سارع إلى تغيير كوفرات فيديوهاته السابقة على “يوتيوب” لتحوي علم الثورة بعد أن هرب الأسد!.
يظهر “صانع المحتوى” وكأنه دليل سياحي من نوع ما، والسجن مكان للاستكشاف الذي يقوده أحد “المقيمين الأصليين”، الذي لا نعلم ما هو الدعم النفسي الذي تلقّاه، ليعود إلى مكان اعتقاله بعد أيام من تحريره، لكن نعلم في النهاية أن وارف دعاه إلى سندويشة شاورما في نهاية الفيديو!.
يتصارع هنا موقفان، بين حق السوريين في التحديق بسجن صيدنايا، واكتشاف كل زوايا بلادهم وزواريبها ومعتقلاتها وجحيمها، وبين هول المكان، وضرورة الحفاظ عليه، لا لأسباب قانونية وقضائية فقط، بل أيضاً، كوننا أمام مسرح جريمة لم تنتهِ بعد، إذ ما زالت حتى أغراض المعتقلين في أماكنها، مسرح الجريمة مازال صرفاً!، لكن عدد المشتركين والمشاهدات هو الأهم، مهما كانت النيّة حسنة!.
مفهوم مسرح الجريمة وما يملكه من “قدسية” وهالة وأهمية قانونية، لم يهدد “الإنتاج” عالي الجودة، كما في حالة حلقة اليوتيوبر جو حطاب من داخل السجن، إذ تحوّل المكان إلى فضاء لإنتاج “المحتوى” ذي الصور الواضحة للتأمل في وحشية نظام الأسد، هنا يأتي الرهان على توق لدى السوريين لمعرفة أدقّ التفاصيل حول “المسلخ البشري”، الذي كان مصمماً لتصفيتهم، لكن، شكل المحتوى “الشخصي” الذي أُنتج من السجن، يساهم (وبسرعة) في تحويله إلى محتوى تنتهي قيمته بمجرد تبادله، والمفارقة، أن أهالي الكثير من المعتقلين كانوا أثناء تصوير حلقة وارف أمام السجن، في حين في حلقة جو حطاب، المكان فارغ لا نحيب ولا أمل، “خشبة” مجهّزة للتصوير عالي الدقة.
يُضاف أيضاً، أخبار عن “نشاط” عصابات لـ”تعفيش” حديد السجن، كذلك أفراد قاموا بسرقة ملفات وهاردات منه، بصورة ما حتى الدليل على المقتلة، وسبيل إدانة المجرمين، مُجزّء، موزّع، مبعثر بين الإنترنت واللصوص والفضوليين.
المشكلة الأكبر هي في الإنتاج التلفزيوني، ونتحدث هنا عن مسلسل “الخروج من البئر” تأليف سامر رضوان، الذي من المفترض أن يبدأ تصويره قريباً، من إنتاج شركة “ميتافورا” القطرية، وتم تداول أنباء عن احتمال تصوير بعض المشاهد داخل السجن.
في حال تم التصوير داخل السجن، سيتدخل “الإنتاج” ليُعيد ترتيب الفضاء، وإنتاج حكايات من داخل مسرح الجريمة، العمليات الإنتاجية نفسها (إضاءة، كاميرات…إلخ) ستحوّل المكان إلى فضاء للعب، خصوصاً أننا أمام مسلسل لا وثائقي، وفي كلا الحالين، الجريمة المرتكبة في المكان لم تنتهِ بعد، الأدلة عليها والقرائن موجودة ، وتحويل السجن إلى “مساحة للعب”، يهدد مصداقيتها، والأهم يهدد الحكاية الوطنية، تلك التي لا يمكن أن تُختزَل بـ”محتوى” يوتيوب أو مسلسل، بل سنجد أنفسنا أمام نسخة متخيّلة تفوق في شعبيتها وانتشارها شهادات المعتقلين والوثائق، التي أًنتجت عن المُعتقل.
بث “بودكاست أثير” التابع لـ “الجزيرة 360” حلقة طويلة مع أحد قادة “استعصاء صيدنايا” في 2008، القائد السابق لحركة “أحرار الشام” محافظ اللاذقية الحالي حسن صوفان، أو كما يصف نفسه على تويتر”من جنود الدولة السورية الجديدة”.
أربع ساعات نسمع فيها شهادة مرعبة عن الاستعصاء وما حصل خلاله، لنرى أنفسنا أمام سردية تختصر بقول صوفان: “سجن صيدنايا هو أول ثورة سورية ضد نظام الأسد، وكانت ركيزة لإسقاطه”، ويضيف: “أول بقعة تحررت من النظام السوري، هي سجن صيدنايا، المبنى الأحمر بأكمله، ومبنى الإدارة”، يقول لاحقاً: “نحن أول تحرير صار في سوريا، وأول ثورة صارت في سوريا، هي ثورة سجن صيدنايا”.
المثير للاهتمام أيضاً أثناء حديث صوفان، أننا نتلمّس كيف كان صيدنايا أقرب إلى “ثينك تانك إسلامي”، تتحاور وتتناقش فيه التيارات الإسلامية، أو حسب كلام صوفان بدقة “حالة الاحتكاك الشديد في السجن في تلك الفترة… وإتاحة الفرصة لمناقشة الأفكار والمناهج بين التيارات الإسلامية، التي حصلت داخل سجن صيدنايا، بالأخير تبلورت في إطار فكري… صار نقاشات أحياناً حادة بين المناهج، بين منهج القاعدة، منهج الإخوان، منهج حسب التحرير… السلفية الجهادية… الميزة بسجن صيدنايا أن كل هذه المواضيع فُتحت على الطاولة”.
الواضح أن هناك سردية يتم العمل على صناعتها بخصوص الثورة في سوريا (أو مخاضها الأول) التي انتهت بتزعم “صيدناويين” قيادة بعض الفصائل، ثم إسقاط النظام، سردية تسعى لتفكيك ما أشاعه النظام عن الاستعصاء والاتهامات التي طالت المشاركين به، فالنظام الذي كان يواجه استعصاء أعلنه في 5/7/2008، كان في الوقت ذاته يحتفل بدمشق عاصمة الثقافة العربية، بعدها بأيام بدأت فعاليات “ليالي موسيقى العالم”.
لكن مخاض ثورة 2011 في سوريا، له سردية أخرى، إذ تُنسب إرهاصاتها إلى ربيع دمشق و”العقد الضائع” والمنتديات السياسية والحوارات، والتشديد على المجتمع المدني ونشاطه شبه العلني، أولئك “الآخرون” اللا إسلاميون، يقول ميشيل كيلو إن بشار الأسد وصفهم بـ”الأقزام” و”سيسحقهم”.
بصورة ما، لثورة 2011 والدان (أو والدتان) لا يتفقان فكرياً، وكلاهما كان له “الثينك تانك” الخاص به، الأول سري اختمر تحت التعذيب والقتل والرعب في صيدنايا، وهي السردية التي انتصرت، والتي يُستثمر في ترسيخها حالياً. وسردية مدنية، شبه علنية، كانت مفتوحة أمام الجميع، تتمثّل بالمنتديات، هذه السردية تراجعت تدريجياً مع عسكرة الثورة، ويمكن القول إنها تلاشت أمام الأمر الواقع، فـ”هيئة تحرير الشام” هي التي “أسقطت” النظام (البعض له الكثير من الملاحظات على دور قسد).
حالياً، تتصارع هذه السرديات أمام مصطلحات كــ”ثوار الـ2011″ الذين شاركوا في التظاهرات وهُجّروا وقُتلوا، و”ثوار الـ2024″ الذين يطرحون سؤال “من هو قيصر؟”، هذا الصراع تُغذّيه رغبة السوريين في الكلام وتقديم شهاداتهم، كل يوم حكايات جديدة عن فظائع المعتقلات السورية، ولا بد من وقت لرصد الاختلافات بين هذه السرديات ومعانيها، خصوصاً أننا في لحظة تأسيس، لا لسردية الثورة فقط، بل لسردية سوريا ومستقبلها، بل حتى في سجن صيدنايا نتلمّس نوعاً من الاختلاف في تفاصيل السرديتين الدقيقة، أي سردية الإسلاميين وسردية “الآخرين”، حين نستمع إلى نسخة رغيد الططري وتوصيفه لاستعصاء صيدنايا.
إذاً، تشهد سوريا اليوم، علاقة جديدة بين السجين السياسي والممارسة السياسية التي كان السجناء السياسيين بغالبيتهم محرومين منها، خصوصاً “خريجي صيدنايا” الإسلاميين، الذين تزعّموا شرعية لها خصومها، وتُستدَعى حالياً ضمن الخريطة السياسية الجديدة، فهيثم مناع المعارض السوري، وفي معرض ردّه على الانتقادات التي وُجهت إلى الاجتماع الوطني الذي دعا إليه، ذكر أن “2 من المسجلين مثلاً عندهم 5 سنوات سجن في صيدنايا”!.
الصيدناويون على اختلاف تياراتهم، ضحايا عنف الأسد، وهذا لا شكّ فيه، لكن تجربة الاعتقال أيضاً جعلتهم أصحاب شرعية سياسية، تُثقل مشاركتهم في الحياة العامة والسياسية، لا بناءً على التوجه السياسي، بل على الاعتقال نفسه كمصادرة للحرية يتم استعادتها الآن بعد سقوط النظام، مما يتركنا أمام سؤال قد يكون ساذجاً، هل كل معتقل سياسي سابق يصلح لأن يكون تكنوقراط؟.
“الصراع “على تمثيل الضحايا
تستمرّ الحكايات حول صيدنايا بالتناسل، لكن أبرز ما يُثار الحديث حوله، هو حقوق الضحايا والمخفيين قسراً، وضرورة العمل في سبيل تحديد مصائرهم لفتح باب الحداد أمام أحبائهم، الجهد الذي أخذته على عاتقها عدة مؤسسات ومنظمات يُديرها معتقلون سابقون، أبرزهم دياب سرية، أحد مؤسسي”رابطة معتقلي صيدنايا”، والمُساهم في إنشاء عدد من الملفات التي تشرح هندسة السجن والعمل ضمنه، الذي عمل منذ لحظة فتح السجن على تكذيب حكاية “المكبس”، وأيضاً جمع الأسماء والبيانات الخاصة بالمعتقلين لحسم مصائر الكثيرين.
هذا الجهد المؤسساتي شكل من أشكال التنظيم لضمان حقوق الضحايا، وخلق قدرة على الضغط على أي جهة مسؤولة في سبيل دفع الملف، لكن المفاجأة، بداية، أن السلطة الجديدة لم تلتقِ ممثلي أهالي المعتقلين والمخفيين قسراً إلا في 5/2/ 2025، أي بعد أكثر من شهرين من سقوط النظام، في حين أن والدة الصحافي الأميركي أوستن تايس، التقى بها الشرع بعد ساعات من وصولها إلى سوريا!.
المثير أيضاً، أن دياب سرية وجد فجأة نفسه أمام ما وصفه بالتالي: “استغل زملاؤنا السابقون، ممن تقاسمنا معهم مرارة التجربة، انشغالنا وتعبنا والفوضى التي عمّت البلاد عقب سقوط النظام، وقاموا بتسجيل الرابطة في دمشق من دون علمنا، مستخدمين الاسم اللوغو نفسيهما، سعياً وراء الدعم وفرض أمر واقع”.
لم نسأل سرية عن التفاصيل، وليس هذا الغرض، لكن الواضح أننا أمام صراع على تمثيل الضحايا رسمياً، أولئك الذين ما زال الكثيرون منهم مجهولي المصير، هذا الصراع على ما يحويه من أبعاد سياسية و”دعم” و”فرض أمر واقع”، تحول إلى شأن مؤسساتي، وسعي لاحتكار التمثيل إن صح التعبير، ونفي الآخر، الضحية أيضاً.
نطرح هذه التساؤلات حول حق تمثيل الضحايا، كوننا الآن أمام نوعين من الشهداء، الأول كان منفياً، ممنوعاً من الحداد، ولا يمتلك حقوق “الشهيد” المادية والرمزية، والمقصود هنا القتلى من المحسوبين على “الثورة”، أولئك الذين منعت أسماء الأسد الحداد عليهم واحتكرت مفهوم الشهادة.
والنوع الثاني منحتهم أسماء الأسد اللقب والوضعية القانونية، والمقصود قتلى الجيش السوري سابقاً، وهنا السؤال، كيف ستتعامل مؤسسات العدالة الانتقالية مع ازدواجية الشهادة هذه؟ وهل تُنزع صفة الشهيد عن أحدهم بشقيها المادي والمعنوي من قبل السلطة الجديدة؟ وماذا عن التعويضات؟
جريدة الأخبار اللبنانية أفادت عن مصدر في وزارة المالية اقتباساً غير مباشر جاء بالشكل التالي: “ولا يُنكر المصدر سعي الإدارة الجديدة لإنهاء عقود جميع الموظفين المرتبطين بالنظام السابق، مثل موظفي وزارة الدفاع وذوي الشهداء وجرحى الحرب والمسرّحين وغيرهم”.
الحق بالسخرية؟
الكثير من التسجيلات التي خرجت من سجن صيدنايا أثناء التحرير كانت خارج السياق، صور النساء المحررات تبين أنها من غير مكان (صيدنايا سجن للرجال فقط) صور الأطفال أيضاً ليست من السجن العسكري سيئ السمعة، أغلب ما انتشر كمحتوى فردي، من دون كادر يؤطر ما يحصل، وتُرك للمعلّقين والناشطين والخائفين أيضاً حرية تفسير الفيديوهات.
تجزئة لحظة التحرير بسبب شرط العصر نفسه، ورغبة “الجميع” في المشاهدة ضمن اقتصاد الانتباه، وإثبات الانتصار، تركنا أمام نُتف من حكايات بصرية، وترك للمخيّلة حريّة تغذية هالة الرعب، بناء على صور ووثائق تحاول الإمعان في التهويل.
أحد هذه “الهبدات” الفيديو الذي تم تداوله بعد 4 أيام من سقوط النظام، والذي يحوي مخططات الكاميرات في السجن، هذه الصور، مع تسجيلات كاميرات المراقبة، تحوّلت إلى تهمة جديدة تُضاف إلى “المسلخ البشري”، بوصفها مخططات لبث فيديوهات تعذيب المعتقلين عبر “الدارك ويب”.
هكذا ممارسة ليست غريبة عن منتديات “الدارك الويب”، ولطالما تكررت الفضائح حول هذا الموضوع في مختلف أنحاء العالم، لكن نحن أمام فرضية لا هدف منها سوى محاولة تفسير وثيقة (الواضح أن من قرأها لم يفهم ما هي) أو محاولة للإمعان في كشف شرّ النظام السوري، الذي هيمن على مُخيلة السوريين، ودفع بحدود الرعب إلى الأقصى، وكأنه شرّ صرف، كالمخرز في العين الدامية، لا يستحي من شرّه، مع ذلك، لحظة سقوط صيدنايا بالذات، تأسيسية وتتعرّض حالياً لإعادة السرد والتكوين.
لكن وفي خضمّ كل هذا، المبالغة في تقديس سجن صيدنايا، قد تحوّله إلى أداة سياسية (لا مأساة إنسانية -سورية) ذات أبعاد أديولوجية قائمة على مركزية الضحية الصيدناوية، والسخرية هنا ضرورية، خصوصاً أمام عبارات كـ”أين النسويات من المجاهدين الذين حرروا النساء من السجون”، أو “لم تستطع منظمات المجتمع المدني الدولية أن تُخرج معتقلاً واحداً”، هكذا عبارات تشي بنوع من الرغبة بحكم سوريا ضمن سردية “التحرير”، تقابلها السخرية التي يظن البعض أن الوقت ما زال باكراً عليها.
هذه الحساسية اتّضحت في ردود الفعل على منشور ساخر من أحمد الشرع، نشرته “شبكة الحدود”، وتحوّل إلى محط جدل نتيجة سوء قراءة النكتة (الشأن المباح للجميع طبعاً) التي تستهدف مماطلة السلطة القائمة في دمشق بخصوص قضية المعتقلين والعدالة الانتقالية، التي لم نشهد منها شيئاً إلى الآن، مماطلة لا بدّ من مواجهتها بالصراخ، الشتم، السخرية، وكل أشكال تجاوز عقلية “من يحرر يقرر”.
المثير للاستغراب، أن سجن صيدنايا، ومع التسارع المرعب وصل حد “الكيتش”، بوصفه اختزالاً رمزياً للسردية الوطنية بصورة تُفقدها قيمتها، “كيتش” نراه بوضوح، ومن دون مواربة، في أغنية “صيدنايا” لعدنان الجبوري، التي نُشرت في 23 كانون الثاني/ يناير 2025، أي بعد أقل من شهرين من سقوط النظام.
لا يمكن التعليق على الأغنية كونها تهدد التماسك العقلي لمن يستمع إليها ويشاهد الفيديو كليب، تضرب الملكات اللغوية والنقدية، لا بسبب تكرار حكاية “المكبس”، بل لأن سجن صيدنايا، تحوّل إلى Green screen خلفية رقمية يمكن وضع أي شيء أمامها، وفي هذه الحالة، الجبوري بشعره المصفف بإتقان، ووراءه صور للزنازين، متأملاً ما خطّته أصابع المعتقلين، كولاج غير متقن، تختلف فيه أبعاد الجدران وحجمها، عن حجم الجبوري صاحب أغنية “حرامي وعلى المستوى، أسرق لك روح الدوا”، ناهيك بأنه أحياناً لا يتطابق الغناء مع حركة شفاهه.
ربما هذا التنويع والتأمّل في حكاية صيدنايا ضروري الآن، كي لا تُحتكَر الحكاية الوطنية من قِبل أحد، حتى لو كان أساسها “المسلخ البشري”، الذي حسب أبو محمد، أحد الحراس السابقين في السجن: “يمثّل نهاية الحياة، ونهاية الإنسانية”.
درج
—————————–
سوريا… تخفيف العقوبات وحده لن يُنعش الاقتصاد/ ليا عيد
دعم عربي تقوده دول الخليج وحاجة لمساهمة المنظمات الدولية والجهات المانحة والقطاع الخاص
09 فبراير 2025
إن تعليق بعض العقوبات المفروضة على سوريا هو خطوة نحو تحقيق الاستقرار الاقتصادي، لكنه ليس كافيا على الإطلاق لدفع عجلة التعافي في البلاد. فلا بد من تقديم دعم دولي منسق لعملية إعادة الإعمار. ولدول الخليج مصلحة في القيام بدور رئيس في تشكيل مستقبل سوريا الاقتصادي لضمان الاستقرار والأمن في بلاد الشام.
أعلن الاتحاد الأوروبي في 27 يناير/كانون الثاني تعليق بعض العقوبات المفروضة على سوريا، لا سيما في قطاعات الطاقة والنقل والتصدير والمصارف. ويهدف القرار إلى تحقيق الاستقرار في اقتصاد البلاد وتسهيل تقديم المساعدات الإنسانية. غير أن تخفيف العقوبات مشروط بالتزام السلطات السورية عملية الانتقال الديمقراطي وتفكيك برنامج الأسلحة الكيميائية لنظام الأسد.
أدى ما يزيد على عشر سنوات من الحرب الأهلية والعقوبات الدولية، إلى شل الاقتصاد السوري. إذ انكمش الناتج المحلي الإجمالي بنسبة 64 في المئة منذ عام 2011، وانهار الاستثمار الأجنبي المباشر وفقا للجنة الأمم المتحدة الاقتصادية والاجتماعية لغرب آسيا (إسكوا).
وخلال فترة النزاع، لجأ نظام الأسد بشكل متزايد إلى نشاطات غير مشروعة، مثل الاتجار بالمخدرات – ولا سيما الكبتاغون – لتوفير العملة الأجنبية التي يحتاج إليها بشدة. ويتعين الآن على الحكومة السورية الجديدة إيجاد طرق قانونية لتأمين الأموال. لكن بما أن الصادرات الشرعية تحقق جزءا يسيرا فقط من الإيرادات غير المشروعة في زمن الحرب، يبقى السؤال المطروح: من أين ستأتي الأموال؟
تخفيف العقوبات ليس كافيا
على الرغم من أن المبادرة الأوروبية توفر متنفسا للحكومة السورية لتهدئة الأزمة الاقتصادية والإنسانية، فإن التدابير المؤقتة ليست كافية لبدء عملية التعافي. أولا، العقوبات الأميركية الأوسع نطاقا والأقسى من تلك التي فرضها الاتحاد الأوروبي، لا تزال تشكل عقبة رئيسة. ومع أن واشنطن خففت مؤقتا بعض القيود لتسهيل تقديم المساعدات الإنسانية، فإن “قانون قيصر” لا يزال يستهدف الأطراف الثالثة التي تتعامل مع سوريا، بالإضافة إلى المسؤولين السوريين والجهات الحكومية السورية. وإذا لم يبذل جهد دولي منسق لرفع العقوبات، فستواجه سوريا صعوبة في تأمين الاستثمار الأجنبي والتدفقات المالية.
ثانيا، تحتاج إعادة بناء البنية التحتية واستعادة الخدمات العامة وتنشيط الصناعات إلى موارد مالية أكثر بكثير مما يمكن أن يوفره تخفيف العقوبات وحده. وتشير التقديرات إلى أن تكلفة إعادة بناء سوريا تتراوح بين 250 مليار و400 مليار دولار. وفي حين يصعب تقدير قيمة الدعم الذي يمكن أن يجلبه الرفع الكامل للعقوبات، فإن الفوائد الاقتصادية المتأتية لن تكون كافية لسد الفجوة التمويلية الكبيرة. وثمة حاجة إلى مساهمات وازنة من المنظمات الدولية والجهات المانحة الثنائية، ولا بد من مشاركة القطاع الخاص.
استثمارات القطاع الخاص تستغرق وقتا حتى تتحقق
سيكون الاقتصاد السوري منفتحا وسيتيح فرصا للاستثمار الدولي – تلك على الأقل رسالة وزير الخارجية السوري أسعد الشيباني في المنتدى الاقتصادي العالمي 2025. غير أن الوزير لم يقدم تفاصيل أو خريطة طريق في شأن كيفية تحقيق ذلك.
وهناك كثير من العقبات الكبرى التي تعيق مشاركة القطاع الخاص في إعادة الإعمار. فقد انهارت مؤسسات الدولة، ودُمرت بنيتها التحتية. أما القطاعات الإستراتيجية، مثل النفط، فإنها تخضع للاحتكار، ولا تزال البيئة التشريعية غير مواتية للوافدين الجدد إلى السوق – وذلك من الآثار المتبقية لاقتصاد كان يسيطر عليه النظام بإحكام.
كما أن سوريا تفتقر إلى بيانات اقتصادية موثوق بها. فلم تزر أي بعثة لصندوق النقد الدولي أو البنك الدولي سوريا منذ 15 عاما، مما يعني أن المستثمرين لا يستطيعون الوصول إلى المؤشرات الرئيسة لتقييم الأخطار، مثل نمو الناتج المحلي الإجمالي وأسعار الفائدة وأسعار الصرف.
ولكي تتحقق استثمارات القطاع الخاص، على الحكومات أن تبدي التزاما قويا لإعادة إعمار سوريا وتواصل العمل لتخفيف العقوبات بهدف تسهيل التجارة والاستثمار الدوليين. وعليها أيضا تقديم مساعدات مالية لإعادة بناء الخدمات العامة والبنية التحتية الأساسية. وتشمل الخطوات المهمة الأخرى دعم الشراكات بين القطاعين العام والخاص لإعادة بناء القطاعات الاقتصادية الرئيسة مثل الطاقة والنقل ودعم الإصلاحات السياسية وإصلاحات الحوكمة. ومن دون مشاركة سياسية حقيقية وضمانات من الدول الفاعلة، ستواصل الشركات اعتبار البلاد عالية الأخطار.
الاستثمار الخليجي استراتيجي لتحقيق الاستقرار
تتمتع دول مجلس التعاون الخليجي بموقف مؤات لقيادة الجهود الدولية لإعادة بناء سوريا. ولديها أيضا مصلحة إستراتيجية في القيام بذلك. فتولي المسؤولية عن إعادة إعمار سوريا من شأنه أن يعزز المصالح الأمنية لدول مجلس التعاون الخليجي، كما أنه يوفر فرصة لإعادة تأكيد نفوذ الخليج في بلاد الشام.
إن الحفاظ على الاستقرار وتعزيزه في سوريا أمر بالغ الأهمية لا لسوريا فحسب وإنما لأمن المنطقة بأكملها واقتصادها، بما في ذلك الخليج العربي. فسوريا الآمنة والقادرة على النجاح اقتصاديا يمكن أن تساعد في احتواء تدفق اللاجئين من لبنان والأردن، مما يساهم في استقرار هذين البلدين. كما يمكن أن يحد من الإرهاب العابر للحدود، بإضعاف جاذبية الجماعات المتطرفة مثل “داعش” والحؤول دون عودتها إلى الظهور، وأن يوقف شبكات تهريب المخدرات التي تستهدف أسواق الخليج إلى حد كبير.
إضافة إلى ذلك، تراجع نفوذ طهران في العام المنصرم نتيجة للضربات التي شنتها إسرائيل على محور المقاومة وإطاحة بشار الأسد المدعوم من إيران، بعدما هيمنت على سوريا طويلا. وقد هيأ هذا التحول فرصة لكي تُدخل دول الخليج سوريا في مجال نفوذها. وثمة فرصة أيضا لموازنة النفوذ التركي في سوريا، الذي توسع نتيجة دعم أنقرة لـ”هيئة تحرير الشام”، قادة سوريا الجدد.
بدأ قادة دول مجلس التعاون الخليجي التواصل الدبلوماسي مع دمشق بعيد سقوط نظام الأسد – وذلك مؤشر مبكر الى استعدادها للقيام بدور فاعل. فزارت سوريا وفود من المملكة العربية السعودية والبحرين وقطر لإجراء مناقشات في شأن التعاون والتنمية الاقتصادية وإعادة الإعمار والأمن. وأعلن الأمين العام لمجلس التعاون الخليجي جاسم محمد البديوي لاحقا أن دول مجلس التعاون ستقدم الإغاثة والدعم الإنمائي لتسهيل التعافي الاقتصادي.
كما أعرب الرئيس السوري المؤقت، أحمد الشرع، عن أمله في الحصول على دعم خليجي، لا سيما من المملكة العربية السعودية. وفي مقابلة مع قناة “العربية”، قال الشرع إن المملكة العربية السعودية “سيكون لها بالتأكيد دور كبير في مستقبل سوريا”. وكانت أول زيارة رسمية له إلى الخارج إلى المملكة العربية السعودية، وذلك يؤكد حماسته لتوثيق العلاقات مع الرياض. والمملكة العربية السعودية تبادله الاهتمام. ففي 12 يناير/كانون الثاني، استضافت المملكة أول اجتماع للمساعدات الدولية، وتجرى مناقشات لعقد مؤتمر رفيع المستوى للمانحين لحشد مزيد من الدعم المالي، بدعوة من المملكة العربية السعودية.
الخطوات التالية نحو الاستقرارا والإعمار
تتجه سوريا نحو إعادة الإعمار، لكن الطريق إلى الاستقرار الاقتصادي لا يزال غير واضح المعالم. ومع أن تعليق الاتحاد الأوروبي الجزئي للعقوبات مهم، فإنه غير كاف لمعالجة التحديات الهيكلية العميقة التي تواجه البلاد. كما أن استثمار القطاع الخاص أمر بالغ الأهمية لتحقيق الازدهار على المدى الطويل، لكنه لن يتحقق إلا إذا قادت الحكومات جهود إعادة الإعمار.
وفي هذا الصدد، ثمة فرصة أمام دول الخليج لتوسيع نفوذها في بلاد الشام، بالإضافة إلى تعزيز الأمن الإقليمي من طريق كبح الإرهاب، وإدارة تدفق اللاجئين، وتفكيك شبكات التجارة غير المشروعة. لكن على الرغم من التصريحات الإيجابية للمسؤولين، فإن مقدار المشاركة الخليجية في التعافي الاقتصادي لسوريا يتوقف على مسار الانتقال السياسي وإنشاء مؤسسات قوية لدعم النمو الاقتصادي.
—————————-
سوريا ولبنان… الحدود والأدوار/ إبراهيم حميدي
الخطورة أن يكون ما يحصل هذه الأيام بدايات لمعارك أكبر
10 فبراير 2025
التغيير الكبير في لبنان، ما كان ليتم لولا الانقلاب في سوريا، فثبتت مرة ثانية عبارة باتت مستهلكة إلى حد كبير، عن “وحدة المصير” بين البلدين المتجاورين. واستطرادا، ثبتت فرضية ثانية، ان الحدود السورية – اللبنانية، لها علاقة بالحدود والأدوار.
بعد مرور نحو شهرين، تأكد أن أحد الأسباب الرئيسة لسقوط نظام الأسد، كان الهزيمة الكبيرة التي لحقت بـ”حزب الله” في لبنان والضربات الإسرائيلية التي تلقتها ميليشيات إيران في سوريا. بمعنى آخر، كان يمكن للأسد أن يسقط في 2012 لولا تدخل إيران وميليشياتها، وفي 2015 لولا تدخل الجيش الروسي ومجموعة “فاغنر”. في 2024، سقط الأسد وتلاشى نظامه وجيشه وأجهزته عندما نُزع الغطاءان الروسي والإيراني عن الأسد.
وعليه، كان طبيعيا أن يكون الزعيم الدرزي وليد جنبلاط، ورئيس الحكومة السابق نجيب ميقاتي، بين أوائل زوار “قصر الشعب”، ليس للقاء الأسد الأب، أو الأسد الابن، كما جرت عادة السائرين على طريق دمشق-بيروت، بل للقاء قائد سوري جديد يجلس في كرسي الرئاسة، هو أحمد الشرع، لديه مفهوم مختلف لـ”وحدة المصير”، وهو أن تكون دمشق على “مسافة واحدة” من جميع اللبنانيين.
عبارة أن تكون سوريا على “مسافة واحدة” كما تبلّغها ميقاتي من الشرع، لا تحمل المعنى ذاته الذي كان يسمعه هو وغيره سابقا من القادة اللبنانيين لدى حكم الأسدين، عندما كان النظام السوري يشتغل على تعميق الخلافات اللبنانية وإشعال الحرائق لجعل تسوية جروحها أو إطفائها لا يتم إلا بـ”المرهم السوري”. بل هي بالفعل تحمل معناها، أي تخلي دمشق عن عادتها بـتقديم “كلمة السر” لاختيار رئيس لبنان ورئيس حكومته ووزرائه ونوابه ورؤساء بلدياته، كما جرت العادة في العقود السابقة.
ولعل الترجمة اللبنانية لحجم التغيير في “قصر الشعب” السوري والنكسات في “الهلال الإيراني”، كانت في سرعة التفاهم اللبناني على الجنرال جوزيف عون رئيسا، ونواف سلام رئيسا للوزراء، وتشكيل حكومة أبرز ما فيها هو غياب نفوذ “حزب الله” بعد الضربات الهائلة التي تعرض لها. انتخاب عون وتكليف سلام وتعيين الوزراء تم دون استعراضات وتهديدات في شوارع بيروت أو لقاءات في قصور دمشق أو “نصائح” من مسؤولي طهران.
الترجمة السياسية لحجم التغيير، كانت في اتصال عون بالشرع، متمهلا غير مستعجل، مهنئا إياه بالرئاسة، وحديثهما ليس عن إحياء “المجلس السوري-اللبناني”، وهو من إرث العلاقات القديمة، بل ضرورة تعزيز التعاون الثنائي و”العلاقات الدبلوماسية”، تلك العلاقات التي دفع لبنانيون ثمنا كبيرا لإقناع الأسد الابن بتجرعها، قبل عقدين من الزمن، غداة نسف سيارة رئيس الوزراء اللبناني رفيق الحريري الذي تصادف ذكرى اغتياله العشرين، بعد أيام.
أما الترجمة الميدانية، فكانت في التنسيق بين الجيشين لضبط الحدود المشتركة وقيام القوات السورية بحملة لسد طرق التهريب، باعتبار أن هذه أولوية للإدارة الجديدة في دمشق لأسباب محلية تخص بسط سيادة الدولة على جميع الأراضي السورية، وأسباب جيوسياسية إقليمية، أي ترجمة انتقال دمشق من ضفة إلى آخرى، من “الهلال الإيراني” ودورها في تسهيل تهريب السلاح من طهران عبر سوريا إلى “حزب الله” من جهة، والمخدرات اللبنانية والسورية إلى الأسواق العربية عبر الأردن من جهة ثانية، إلى “حلف عربي” تلجم به الإدارة السورية الجديدة، تهديدات الإرهاب وقوافل “الكبتاغون” الآتية من الجار الغربي إلى الدول العربية.
كشفت الأيام الماضية أن هذا الانتقال من محور إلى آخر، لن يكون سهلا، فالمعارك في الجانب السوري على الحدود اللبنانية ليست نزهة، بل تضمنت هجمات وضربات من الطرف اللبناني على المقاتلين السوريين. ولا شك أن هذا لا يتعلق فقط بأن الضربات تستهدف بنية التهريب القديمة والعميقة على الحدود، بل لأنه يمس التموضع الجيوسياسي لسوريا، الذي جعل الحدود مع لبنان تتعلق بأسئلة كبرى تخص مستقبل “حزب الله” وتسليحه والدور الإيراني والوضع في جنوب لبنان وتطبيق اتفاق وقف النار بين بيروت وتل أبيب والقرار 1701 وامتداداته.
بالفعل، أصبحت الحدود السورية-اللبنانية مكانا لأسئلة كبيرة لاتخص البلدين وحسب، بل الأدوار في الإقليم من جنوب لبنان إلى شرق سوريا و”الممر الإيراني”، وإلى جنوبها على حدود الأردن.
الخطورة أن يكون ما يحصل هذه الأيام بدايات لمعارك أكبر و”حرب إشغال” إيرانية للإدارتين الجديدتين في بيروت ودمشق… ضمن “وحدة المصير” المشترك، وتحميلهما أكثر مما تحتملان بعد الخراب الكبير فيهما.
المجلة
———————————-
أي حلول وسط بين المحاصصة وتجاهل دوافعها في سوريا؟: خيارات السوريين السياسية للتعامل مع تنوعهم الإثني والطائفي/ وسيم نابلسي
10-02-2025
كَثُرت النقاشات حول مستقبل سوريا عقب السقوط المفاجئ لنظام بشار الأسد، أما غير المفاجئ فهو تركيز هذه النقاشات على موضوع العلاقات بين المكونات الإثنية والطائفية في البلد. فالمسألة الطائفية والإثنية كانت دائماً حاضرةً منذ وصول البعث إلى السلطة في الستينيات، وإن كان التداول العام العلني بشأنها شبه غائب، ولم يتردد الأسدان في استخدامها لصالحهما. كذلك فإن اللاعبين الإقليميين والدوليين وجدوا في هذا الخطاب الهوياتي الوسيلة الأسهل للتدخل في مجريات الأحداث بعد 2011، وترافقَ ذلك كله مع تغطية إعلامية غربية واسعة ذات منظور استشراقي، يختزل كل ديناميات المنطقة الاجتماعية والسياسية في هذه المسألة. وفي هذا السياق، تمحورت المناظرات السياسية حول شكل الحكم المستقبلي بين فريق يدعو للمُحاصصة الهوياتية حفاظاً على حقوق الأقليات، وبين من يرفض هذه المُحاصصة مُستشهِداً بالعواقب الوخيمة للتجربتين اللبنانية والعراقية. وهذه المواقف تجد منبعها، بطبيعة الحال، في مصالح الفرقاء أكثر مما تجده في دراسة كلا المُقاربتين واختيار الأصوب بينهما.
تتزايد هذه النقاشات في المجال السوري العام اليوم، بينما يُنبئنا استقراءُ تجارب المجتمعات التي مرّت بما يشبه ما تمرُّ به سوريا اليوم بمشكلة جوهرية في هذه النقاشات، وهي طبيعتها الاستقطابية المحكومة بعقلية كل شيء أو لا شيء، وذلك رغم وجود طيف واسع من الخيارات الوسطية، التي تُقدِّمُ بدائل عن تكريس المحاصصة بصيغها المتطرفة كالعراقية واللبنانية، وعن رفضها بالمطلق لصالح نظام أكثري يحاول أن يتجاوز الهويات ما دون الوطنية عبر إغفالها وتَجاهُل فاعليتها. وبالفعل، فالأدب الأكاديمي ومنذ عقود بدأ يُبشّر بمقاربة هجينة تجمع المدرستين معاً.
يتم انتقاد اتجاه المُحاصصة لكونه يُكرِّسُ ويُمأسِسُ الانقسام الهوياتي، ما يؤدي إلى إعادة إنتاجه وجعله أكثر تأثيراً في المجتمع والحياة السياسية، وهو ما يُعيق تَطوُّرَ هوية وطنية جامعة ويؤدي عادة إلى خلق نزاعات جديدة في كل مرة يحصل فيها تغيّرٌ في موازين القوى بين الفئات المختلفة. ويُشكِّلُ المثالان العراقي واللبناني نموذجاً مرعباً لفشل هكذا مقاربة. بالمقابل، يُنتقَدُ التوجه الثاني لكونه يُغلِّبُ مصالح الأكثرية ويُشرعِنها باعتبارها ناتجاً طبيعياً للعملية الديمقراطية. وهناك انتقادٌ ثانٍ يتعلق بغياب الأدلة التجريبية التي تُثبت صحة ما يَعِدُ به أنصار هذا التيار، لجهة أن هذا النهج يؤدي إلى سلام أكثر استدامة في المجتمعات المنقسمة هوياتياً. كذلك، فإن بعض التجارب تُشير إلى أنّ الاتفاق على مسار إدماجي ليس مضموناً عندما نصلُ إلى التطبيق، لأن الفئات الحاكمة أو المسيطرة غالباً ما تجد أنّ مصالحها قصيرةَ المدى يمكن أن تتحقق بشكل أسهل عبر الارتداد إلى نظام مُحاصصة يسمح لها بإعادة إنتاج علاقات زبائنية مع المواطنين. المثال الأوضح هنا هو أفغانستان، حيث تَحوَّلَ الخيار الإدماجي إلى خيار مُحاصصة بحكم الأمر الواقع، ورغم النصوص والاتفاقات السابقة. أخيراً، هناك انتقادٌ يُوجَّه للإنتاج الأكاديمي لكلا المدرستين، وهو انطلاقهُما من تسليم ضمني بفهم للدولة يُطابِقُ الفهم الغربي الفيبري (Max Weber)، من حيث افتراض وجود مؤسسات دولة فاعلة ومستقلة ومجتمع مدني متطور واحتكار الدولة للعنف الشرعي. غير أن أياً من هذا قد لا يكون موجوداً بالضرورة في الدول غير الغربية الخارجة من نزاعات مسلحة، أو حتى الغربية المستقرة كما هو حال الولايات المتحدة مُؤخَّراً مع ترامب. من هنا نشأ تيار ثالث خلال العقدين الأخيرين، يدعو كما أسلفنا إلى خيار هجين (Hybrid) يجمع بين المقاربتين.
فليس من الضروري نبذُ المحاصصة في الوظائف العامة إذا اعتُمِدَت آليات رقابة مؤسساتية صارمة، تضمن كفاءة شاغلي المناصب بحيث لا تنزلق تلك المُحاصصة إلى شكلٍ من الزبائنية على الطريقة اللبنانية. وهناك العديد من التجارب التي يمكن الاستلهام منها، كالتجربة الهندية مع لجنة الخدمة العامة المنصوص عنها في الدستور، والمولجة بإجراء الاختبارات والتعيينات للوظائف العامة بطرق تضمن النزاهة والشفافية، 1 أو التجربة البريطانية مع لجنة المساواة وحقوق الإنسان التي تعمل على ضمان النزاهة وتساوي الفرص ومكافحة التمييز. 2 ليس ثمة مانع من تأسيس لجنة أو لجان شبيهة في سوريا تحظى بالاستقلالية عن باقي السلطات، ويتأسَّسُ عملها على الشفافية والكفاءة ويكون إطلاعُ الجمهورِ على تقاريرها جزءاً من مهامها. كذلك بالإمكان إخضاع هذه اللجنة لرقابة دولية دورية، بحيث يُتَّفَقُ على جهات دولية تتمتع بموافقة وثًقة المكونات السورية، لتشرف على عمل هذه المؤسسات كما تشرف اللجان الدولية على نزاهة الانتخابات مثلاً.
وبالمقابل، ليس من الضروري إقرار المحاصصة في الانتخابات النيابية إذا جرى اعتمادُ نظام انتخابي برلماني يشجع التعاون بين الجماعات المختلفة. فمن ناحية، قد لا يكون خياراً جيداً أن تُترَكَ كل فئة لانتخاب ممثليها بالاستقلال عن باقي الأطياف، كما لا يجوز السماح للأكثرية بتقرير مُمثِّلي الأقليات. هنا يمكن الحديث عن الـ«Vote Pooling»، فيصار الى اختيار الدوائر الانتخابية بعناية بشكل يشجع المكونات المختلفة على التواصل فيما بينها للتفاوض وعقد التحالفات. المطلوب هنا دوائر انتخابية لا تشتت أصوات الأقليات، وتعطيهم حصة وازنة في منطقتهم تشجع الأحزاب المختلفة على أخذ مصالحهم وتَطلُّعاتهم ومُرشَّحيهم بعين الاعتبار. وفي الوقت نفسه، يتم اتّباعُ نظام انتخابي يسمح للناخبين بتحديد تفضيلاتهم، كنظام الصوت البديل «Alternative Vote» الذي اعتُمِدَ في فيجي، أو الصوت القابل للتجيير «single transferable vote» الذي اعتُمِدَ في إيرلندا الشمالية واسكتلندا ومالطا، وهي أنظمة صُمِّمَت خصيصاً لتشجيع التواصل والتعاون بين المكونات المختلفة.
لنأخذ نظام الصوت القابل للتجيير كمثال؛ في هذا النظام تُطبَّق النسبية الانتخابية ويُقسَم عدد الأصوات على عدد المقاعد للوصول إلى رقم الكوتا المطلوبة للفوز بمقعد من مقاعد الدائرة. مثلاً إذا أنتجت صناديق الاقتراع عشرة آلاف صوت صحيح بعد طرح الأصوات المُلغاة، وكان عدد مقاعد الدائرة خمسة، تكون الكوتا ألفَي صوت، فإذا حصل مُرشَّح ما على ثلاثة آلاف صوت، فإنه يفوز بمقعد ويُصار الى إعادة توزيع الألف صوت الفائضة على المُرشَّحين الآخرين نسبياً بحسب تفضيلاتهم. يصبح المرشحون مضطرين مع هكذا نظام إلى مدِّ أياديهم لفئات ناخبة من خارج كُتلهم الصلبة. فالمُرشَّح ليس فقط بحاجة لأصوات أولئك المخلصين له لأسباب طائفية أو غيرها، ولكنه أيضاً بحاجة أولئك الذين يُفضِّلون ابن أو بنتَ طائفتهم أو منطقتهم كخيار أول، لكنهم مستعدون لأن يعطوه خيارهم الثاني أو الثالث لأن خطابه كان أكثر اعتدالاً من منافسيه. وعليه، فهذا النظام الانتخابي لا يضمنُ فقط إيصال أصوات مُختلَف الفئات، بل هو يُشجّعُ أيضاً على إنتاج خطاب وبرامج أكثر اعتدالاً، بما ينزع فتيل الاحتقان في الفترة الحرجة التي تسبق الانتخابات. وبدلاً من أن تكون الخطابات الشعبوية المُزايِدة في تطرُّفها هي السبيل لكسب الأصوات، يصبح الخطاب المعتدل هو المطلوب.
وطبعاً يتوجب هنا الاستفادة من الدرس اللبناني الذي دمج النسبية مع المحاصصة الطائفية، وأوصل إلى نتائج كاريكاتورية عندما فاز عدد من المرشحين بمقاعدهم ببضعة عشرات من الأصوات، وخسر منافسون لهم حازوا آلاف الأصوات، فقط بسبب التوزيع الطائفي للمقاعد. كذلك كان تقسيم الدوائر الانتخابية مُصمَّماً لخدمة مصالح النُخَب والأحزاب الطائفية، وأَوصلَ إلى عكس المُتوخَّى منه لجهة نشوء تحالفات عابرة للطوائف.
المشكلة في هذه الأنظمة الانتخابية أنها معقدة نسبياً، وقد تجعل من الصعب على المواطن أن يفهم تأثير صوته، ولكن يمكن حَلُّ هذا بحملات تدريب. ومن الضروري الاستطراد هنا قليلاً لتبيان مشكلة أخرى جانبية في النقاشات الدائرة حالياً، فالمقصود هنا هو حملات تدريب على النظام الانتخابي وليس حملات توعية أو تدريب على الديمقراطية، كتلك التي يطرحها بعض فاعلي المجتمع المدني بشكل لا يخلو من نزعة استشراق ذاتي أو وصاية على الشعب السوري، تتماهى بقصد أو من دون قصد مع خطاب النظام السابق عن ضرورة تنوير السوريين لكونهم، على حدِّ زعم بعض مثقفي هذا النظام وبعض صناع الدراما المرتبطين به، غير جاهزين للديمقراطية بعد.
وحتى رئيس الجمهورية أو رئيس الحكومة يمكن أن يكونا مَحطَّ رضى مُختلَف الفئات دون الحاجة إلى مُحاصصة على الطريقتين اللبنانية والعراقية. فيمكن مثلاً الاستفادة من النموذج النيجيري، حيث لا يكفي لنجاح المُرشَّح للرئاسة أن يحصل على غالبية أصوات «الشعب»، بل يشترط أيضاً حصوله على حد مُعيَّن أدنى من الأصوات في ثُلثي محافظات البلاد.
يمكن أيضاً بطبيعة الحال اعتمادُ البرلمان ثنائي الغُرَف، المُتكوِّن من مجلس للنواب مُنتخَب على أساس غير هوياتي، ومجلس للشيوخ تتمثل فيه الهويات الطائفية والإثنية المختلفة. كما يمكن تدعيم هذا الخيار بإنشاء مجلس اقتصادي اجتماعي يتمثل فيه المواطنون بناء على مصالحهم الاقتصادية الاجتماعية بدلاً من هوياتهم. من فوائد هكذا مجلس أنه يُعيد فتح المجال العام لنقاش المصالح الاقتصادية والاجتماعية للناس في سوريا، بعدما أغلقه حافظ الأسد بداية الثمانينات عندما أَحكمَ قبضته على النقابات والاتحادات وسائر مساحات المجتمع المدني السوري، وأَفرغها من محتواها. وفي السياق نفسه فإن الكثير من الباحثين يُصرّون على ضرورة عدم التركيز على المستوى السياسي أو البرلماني إلى درجة تجاهل الفعاليات الأكثر محلية كالبلديات، والتي يُوصَى بإعطائها صلاحيات واسعة لتشجيع مفاهيم المواطنة وإشراك المواطنين في اتخاذ القرارات على مستوى الإدارة المحلية.
هذه كلها بضعة أمثلة من بين نماذج أخرى كثيرة. وبطبيعة الحال فليست أي منها وصفة سحرية، وهي غالباً بحاجة للتعديل لتتناسب مع السياق السوري، لكنّ المهم هو أنها تُظهِرُ كيف أن بالإمكان تجاوز حالة الاستقطاب السائدة والوصول إلى حلول وسط، من شأنها نزع فتيل التوتر وجعل النقاش العام بشأن الهويات أقل حِدَّة وأقلَّ إلحاحاً، والأهم، أقلَّ قابلية للاستغلال من الفرقاء المحليين والخارجيين.
المشكلة الثانية، ولعلّها الأهم، في النقاشات السائدة حالياً على الساحة السورية تكمن في أن التركيز على الخلافات الهوياتية يخدم مصالح فاعلين بعينهم، ويؤدي إلى تجاهل انقسامات مجتمعية أخرى ليست فقط أكثر أهمية وإلحاحاً، بل قد تتقاطع مع الانقسامات الهوياتية لتشكل الأساس المادي لهذه الانقسامات. فبينما انشغلَ الكثيرون بمشاكل العلويين والكُرد والدروز والمسيحيين، جرى تجاهل النزاعات الريفية المدينية التي يُقرِّ كبار الباحثين بالشأن السوري كحنا بطاطو أنها كانت أكثر أهمية من المشكل الطائفي خلال الستينيات. ورغم ظَنِّ كثيرين أن هذا البُعد من الانقسام قد تراجع على مرِّ العقود لصالح البُعد الطائفي، فقد جاءت ثورة 2011 لتعيد التأكيد على أهميته. طبعاً لا يعني ذلك التسليمَ بالفهم التبسيطي السائد في الأكاديميا الغربية، كما في خطاب النظام السابق، بشأن كونها انتفاضة ريفية ضد المكتسبات التي حققتها المدن الكبرى نتيجة اللبرلة الاقتصادية تحت حكم بشار الأسد، ولكن هذا لا ينفي أن العلاقات الريفية المدينية شكلت محوراً أساسياً من مَحاور الثورة. وقد استمرَّ النظام في التلاعُب بهذا المحور حتى لحظة سقوطه. لم يتوقف الموضوع عند قرار التمسُّك بسوريا المفيدة أو بعمليات الهندسة الديموغرافية، بل تكاملَ ذلك مع تَلاعُب النظام بالخطاب العام بشكل يسمح له بتقرير من هو الريفي ومن هو المديني في سوريا. وبالمختصر، حَوَّلت عقودُ الحكم الأسدي علاقة الريف والمدينة الى علاقة تنافس وعدائية، في حين أن جُلَّ اهتمام صُنّاع القرار والأكاديميين وفاعلي المجتمع المدني في العالم هو إيجاد السُبُل لتحسين العلاقة بين المدن والأرياف، وجعلها علاقة تكاملية من خلال تطوير القطاعات الإنتاجية الأنسب لتمكين كل طرف من رفد الآخر، كما بتكريس خطاب عام وثقافة يُركِّزان على هذا التكامل بدل الاستثمار في التحقير والتخوين المُتبادَلين.
هناك أيضاً المشاكل المناطقية المتعددة، والتي لم يوفر النظام الأسبق الاستثمار فيها كما كل الانقسامات. فمحافظات الجزيرة السورية تعاني من تجاهل مزمن في التنمية، ومن خطاب عام مُعادٍ يزيد من مرارة أبناء هذه المحافظات. وحلب متروكة اليوم لقدرها في مواجهة الاجتياح التجاري التركي المُتوقَّع والذي، لن تقدر صناعات المدينة المدمرة على الوقوف في وجهه. كذلك تُعاني دمشق من تَهالُك بُناها التحتية، وعدم قدرتها على تلبية احتياجات السكان المتزايدة، وهذه فقط ثلاثة أمثلة من بين أخرى كثيرة.
يقودُ الحديث عن حلب وصِناعاتها إلى الحديث عن الانقسامات بين قطاعات الاقتصاد المختلفة. فالحكام الحاليون للبلاد لم يتوانوا في تأكيد أنهم مصرون على الاستمرار بنهج النظام السابق لجهة تفضيل القطاع الثالث (الخدمات) على الصناعة والزراعة. فما الحكمة من إهمال هذه القطاعات؟ وما هي المخططات لتعويض العمّال وأصحاب العمل في هذه القطاعات؟
هناك أيضاً الفيل الذي في الغرفة، وهو الانقسام الطبقي بين أغنياء وفقراء، وبين من يعتمدون في مداخيلهم على الشغل ومن يعتمدون على الريع. الموضوع مُطمئن أكثر هنا، حيث تعالت بعض الأصوات في وجه الحديث الراهن عن الخصخصة واللَّبرلة ووقف الدعم. لكنه يظل من المفيد التشديدُ على هذا البُعد الطبقي، وضَمُّهُ إلى الأبعاد السابقة للتأكيد على أن الانقسامات الهوياتية ليست كل شيء في سوريا، لا بل هي أقل أهمية من غيرها لمن يريد العمل فعلاً على مستقبلٍ أفضل للبلاد، بدلاً من الاستثمار في الهويات الطائفية والإثنية إما للحفاظ على البقاء في الحُكْم ،أو في للحصول على حصة في الحُكْم، أو حتى لدعم «طموحات انفصالية» من نوعٍ ما، قد تكون مشروعة لكنها غير واقعية في ظل المُعطَى الدولي الراهن.
1. The Union Public Service Commission (UPSC).
2. Equality and Human Rights Commission.
موقع الجمهورية
——————————
هل يمكن للعملة الرقمية إنقاذ الليرة السورية؟/ ماهر الوكاع
2025.02.10
من الواضح أن هناك أزمة سيولة في سوريا، ونقصد بها أزمة في توفير الليرة السورية وليس الدولار على الأرجح، وقد أثرت هذه الأزمة على قضية الرواتب التي تحيلها الحكومة المؤقتة إلى حين الانتهاء من مسألة البطالة المقنعة المرتبطة بفساد النظام البائد.
ولتفسير المشكلة، نلجأ إلى التكهن والترجيح والاستدلال بدلًا من المعلومات الدقيقة التي مُنعنا منها، حتى عندما زرت المصرف المركزي والتقيت بالناطق الإعلامي، وقدمت له أسئلة منذ شهر تقريبًا ولم أحصل على أجوبة حتى الآن. ويبدو بعد الضغط المتزايد من الصحفيين لفهم ما الذي يحصل، خرجت في منتصف الشهر الأول حاكمة مصرف سوريا المركزي، ميساء صابرين، بتصريح مقتضب لوكالة “رويترز”، رفضت فيه التعليق على حجم احتياطيات سوريا الحالية من النقد الأجنبي والذهب، مشيرة إلى أن “مراجعة الميزانية العمومية ما تزال جارية”. وأكدت أن المصرف المركزي يمتلك أموالًا كافية في خزائنه لدفع رواتب الموظفين الحكوميين، حتى بعد الزيادة البالغة 400% التي وعدت بها الإدارة الجديدة.
تتناقض تصريحات صابرين مع ما قاله قبلها بنحو شهر رئيس الحكومة المؤقتة، البشير، حين أكد أن خزائن البنك فارغة، ومن غير المعلوم كيف تم ملؤها خلال هذه المدة القصيرة أو كيف تم توفير ما يكفي لدفع الرواتب، التي لم تُدفع بشكل شامل حتى الآن، حيث تم منح بعض الفئات، مثل المتقاعدين غير العسكريين، رواتبهم دون الزيادة الموعودة.
يقول البعض إن راتبًا يعادل 20 دولارًا لا يغني ولا يسمن من جوع. لكن ضخامة كتلة مالية كبيرة في السوق دفعة واحدة، تعادل نحو 120 مليون دولار (تشمل زيادة 400%)، وفقًا لتقدير وزير المالية محمد أبازيد، وتوزَّع على أكثر من 1.25 مليون عامل على جدول رواتب القطاع العام، سيترك حبسها أثرًا كبيرًا في السوق وسيؤثر على التجار والمزارعين والعمال والقطاع الخاص كاملا.
لم يتوقف الضرر عند هذا الحد، بل وصل إلى الفئة التي نجت من كوارث النظام المالية وكانت سببًا في صمود فئات أخرى مرتبطة بها، وهي الأسر التي تتلقى حوالات مالية من الخارج. بدأ المضاربون باستهدافهم مطلع شباط، وهو الموعد المفترض لتلقي الحوالات بداية كل شهر، حيث وصل سعر الصرف إلى 7900 ليرة مقابل الدولار في دمشق، وهو فرق يصل إلى النصف مقارنة بسعر المصرف المركزي البالغ 13 ألف ليرة للدولار، مما يعني سرقة نصف قيمة الحوالة من قبل المضاربين بالمعنى الحرفي.
نبقى في دائرة الاستدلال والتكهن مع حبس المعلومة والسيولة في آنٍ معًا، ونرجح صدق تصريح رئيس الوزراء الذي قال إن الخزائن فارغة، ونفترض أنه يقصد الليرة السورية فقط، مع وجود رصيد جيد من الذهب والدولار. ومع تحول المشكلة إلى قضية رأي عام ظهرت منذ يومين إشاعات عن هبوط طائرات شحن محملة بالعملة السورية قادمة من روسيا.
لماذا روسيا؟
مع بداية الثورة وفرض عقوبات أوروبية على النظام، توقفت شركة نمساوية عن طباعة العملة، فلجأ النظام إلى الاتفاق مع شركة “جوزناك”، وهي المطبعة الحكومية المسؤولة عن سك العملة في روسيا. وفي صيف 2012، طبعت الشركة للنظام 240 طنًا من الأوراق النقدية السورية. استخدم النظام شركتين وهميتين في قبرص لتسهيل المدفوعات، وهما شركتان واجهتان قانونيتان، يديرهما رجل الأعمال عيسى الزيدي، وهو سوري يحمل الجنسية الروسية ومُدرج على قائمة العقوبات الأميركية منذ 2014.
ويبدو أن روسيا تولت مهمة الطباعة منذ ذلك الوقت وحتى اليوم. وبعد سقوط النظام وتولي الإدارة الجديدة شؤون البلاد، جرت مفاوضات مباشرة بين الشرع ومبعوث بوتين- لا نعرف إذا ما طرحت القضية- ، ومن الواضح أن روسيا لن تسلم هذه الأوراق الثمينة الآن بالمجان، بل لديها شروطها. وفي حال عدم الموافقة على الشروط أو تأجيلها، يبقى البحث عن شركة بديلة، وهو ما يصطدم بعامل الوقت والعقوبات.
نجزم بصحة الفرضية رغم غياب الشفافية، الذي قد يكون له ضرر، نظرًا لارتباط المعلومة بالمال، لكن بالتأكيد نفع الشفافية أكبر، فهي التي تسمح للعقل الجمعي بابتكار الحلول والمشاركة في صناعتها. ونتفهم أن “حبس” المعلومة في سياق عسكري ضروري، إذ قد تؤدي كلمة أو رقم إلى إفشال خطة وبالتالي إزهاق أرواح، لكن عند الانتقال إلى إدارة دولة، قد تختلف الرؤية.
بعد سقوط النظام، أثار تعميم بضرورة تنزيل الموظفين لتطبيق يُدعى شام كاش لدفع الرواتب لهم الريبة، وتحول إلى “ترند”. وشكك “المختصون” في أمانه، لأنه غير متوفر على “بلاي ستور”، بل يجب تنزيله من موقعه مباشرة. أثار هذا التطبيق فضولي، فسألت عنه أحد الأصدقاء في إدلب، فقال إنه يتبع لبنك الشام الذي افتتحته الهيئة. قدّم لي الإجابات ساخرًا من التشكيك، ثم فتح التطبيق على هاتفه، وعرض رصيده بالدولار، وسدد فاتورة الكهرباء أمامي، مؤكدًا أنه يستطيع إجراء التحويلات الداخلية والدفع مباشرة من خلاله، وأن الثقة فيه ليست محل نقاش.
تحت ضغط “الترند” أو “الخبراء”، اختفى الحديث عن التطبيق، ويبدو أن استخدامه اقتصر على من يثقون به من سكان إدلب. كما يبدو أن الرواتب دُفعت لكوادر الهيئة، أو حتى الحكومة، عبر التطبيق، إذ شاهدت كُوَّةً مخصصة له في المصرف المركزي.
لم يُدرَج التطبيق في متجر “آبل” أو “غوغل” بسبب العقوبات المفروضة على سوريا، ولا أعلم مدى كفاءته الأمنية عندما يُستخدم على مستوى الدولة، خاصة في مواجهة قوى مثل روسيا، التي اخترق قراصنتها أنظمة أميركية وأوروبية. لكن يمكن فحصه من قبل مختصين في الأمن السيبراني المعروفين باسم “الهاكرز البيض” والتأكد من أمانه، أو التوجه إلى دولة صديقة لتقديم تطبيق مرخص وآمن يشكل بديلًا مؤقتًا ريثما تُحَل مشكلة السيولة.
ما العلاقة بين شام كاش والسيولة؟
يوفر التطبيق إمكانية ضخ عملة رقمية عبر المصرف المركزي (CBDCs) كبديل عن السيولة النقدية. وإذا لم يكن بالإمكان ربطها بمقابل في الليرة، فمن الممكن أن يكون المقابل بالدولار. هذا المقترح ليس خيالًا علميًا، فهناك تجارب رائدة ليست حكرًا على الدول المتقدمة تقنيًا.
في نيجيريا، أُطلقت eNaira عام 2021 كعملة رقمية صادرة عن البنك المركزي.
في الصين، وُسِّع استخدام اليوان الرقمي (e-CNY) ليكون بديلاً محتملاً للنقد، بعد اختباره في عدة مدن واستخدامه رسميًا في أولمبياد 2022.
جزر البهاما كانت سبّاقة في هذا المجال، حيث أطلقت Sand Dollar عام 2020 لتوفير الخدمات المصرفية في الجزر النائية.
تبعتها جامايكا بإصدار JAM-DEX عام 2022 بهدف إدماج غير المتعاملين مع البنوك في النظام المالي.
في الهند، بدأت تجارب الروبية الرقمية (e₹) عام 2022 لتعزيز الاقتصاد الرقمي.
أما البرازيل، فهي تعمل على تطوير Drex كنسخة رقمية من الريال البرازيلي
سيقول “الخبراء” إن هذا الطرح غير ممكن أو مستحيل بسبب عدم جاهزية البنية التحتية، وعدم ثقة الشعب به، فضلًا عن عشرات العقبات الأخرى. لكن، لو عدنا إلى رأي الخبراء، لكانت عملية “ردع العدوان” ضربًا من الجنون، وطائرة “شاهين” مثارًا للسخرية.
الانتقال إلى هذا الخيار لا يتطلب أكثر من هاتف متصل بالإنترنت، وهو متوفر في سوريا. أما عن ثقة السوريين، فسيكون الفارق بين سعر الصرف في السوق السوداء والمصرف المركزي هائلًا، مما قد يدفع المتعاملين إلى تجربة هذا النظام بمبالغ صغيرة، إذا ما رُبطت مدفوعات الحكومة جميعها به.
——————————
الإعلام الأكاديمي في سوريا.. ساحة صراع بين القمع والتغيير
حنان عزام
10-فبراير-2025
يتشابك مشهد التعليم الإعلامي في سوريا مع القمع السياسي والسيطرة الاجتماعية، ضمن سياق أوسع من القمع الممنهج للحريات الذي يميز المناخ السياسي والاجتماعي في البلاد.
وفي هذا السياق، غالبًا ما يجد أساتذة كليات الإعلام في سوريا أنفسهم عالقين في توازن هش بين أدوارهم كمعلمين والقيود الصارمة التي تفرضها الدولة.
يستكشف هذا المقال تجاوزات أساتذة كليات الإعلام في سوريا، ويفحص كيف تعكس أفعالهم قمع الحريات الإعلامية داخل الإطار التقييدي للنظام، أو تقاومه أو تدعمه عن غير قصد. من خلال تحليل الأدوار المزدوجة لهؤلاء المعلمين باعتبارهم مؤثرين ومنفذين محتملين لأيديولوجيات الدولة، يمكننا أن نفهم بشكل أفضل التعقيدات المحيطة بالحريات الإعلامية في بيئة قمعية.
لم تكن مناهج وآليات التدريب في كلية الإعلام كافية لمواكبة المتغيرات المحلية. فعلى الرغم من إطلاق قسم “الإعلام الإلكتروني”، كانت هناك دعوات غير مباشرة لتقييد الحرية وتوجيه الولاء.
لم تتمكن الكلية الجديدة من التخلص من عبء الالتزام بخطاب النظام، مما أدى إلى عدم التركيز على الجوانب العلمية لتفادي التداخل بين الإعلام والنظام. على الجانب الآخر، انخرط آلاف الشبان والشابات السوريين في العمل الإعلامي استجابة لاحتياجات الثورة. اعتمدوا على خبرات بسيطة تفتقر إلى الأسس العلمية أو المهنية، ومع مرور الوقت، أصبحوا صحفيين ينتمون إلى مدارس العمل الميداني أو ورشات التدريب التي قدمتها منظمات المجتمع المدني المحلية والدولية لتلبية طاقة الشباب الثائر.
نتيجة لذلك، نشأت في سوريا مدرستان إعلاميتان غير متكاملتين. الأولى تركزت على الجانب النظري والتجييش السياسي في دمشق، بينما الثانية اعتمدت على الخبرة الذاتية والانخراط في الجوانب العملية المجردة في مناطق المعارضة. حاولت المدرستان معالجة الفجوات الموجودة من خلال دورات التأهيل الإعلامي في مناطق سيطرة النظام، أو عبر إنشاء معاهد إعلامية في مناطق نفوذ فصائل المعارضة.
ومع ذلك، لم يطرأ تغيير ملحوظ على واقع التعليم الإعلامي خلال السنوات السبع الماضية. فما زالت التحديات مستمرة في توفير بيئة تعليمية توازن بين الحرية الأكاديمية والتأهيل المهني المتكامل.
تجاوزات الأساتذة في كلية الاعلام مشهد معقد
تتجلى تجاوزات أساتذة كليات الإعلام في سوريا في عدة أشكال: أساليب التدريس، ومحتوى مناهجهم، والأعمال الفردية المعارضة التي قد ينخرط فيها بعض أعضاء هيئة التدريس.
على سبيل المثال، يتحدى بعض الأساتذة الخطاب الرسمي من خلال تشجيع التفكير النقدي واستكشاف السرديات البديلة، حتى أنه يمكن أن تعمل هذه الثورة الفكرية على إلهام الطلاب للتساؤل حول الوضع الراهن، والنظر في وجهات نظر أوسع حول قضايا مثل حرية التعبير وحقوق الإنسان. لكن مثل هذه الإجراءات محفوفة بالمخاطر، خاصة في بيئة تحافظ الدولة فيها على مراقبة يقظة للأنشطة الأكاديمية.
كُثر الأساتذة الذين انتهجوا هذا النهج الأكاديمي المحفوف بالمخاطر، ولعل أهم شاهد تجلى في محاضرات الدكاترة عطالله الرمحين وكمال الحاج ويحيى العريضي، فقد كانوا يقومون بتخصيص جزء من المنهج لمناقشة القضايا الجدلية والمثيرة للجدل مثل حقوق الإنسان، الحرية الشخصية، والعدالة الاجتماعية.
واذا ما ذكرنا، لا بد أن نذكر الدكتورة سميرة شيخاني في مادة مصادر المعلومات والتوثيق الإعلامي وإعطائها مساحة للطالب في التحليل والنقد للقنوات والبرامج، بعيدًا عن التحيزات المحتملة أو السرديات المختلفة.
وعلى الجانب الآخر، هناك حالات حيث يصبح الأساتذة مركبات غير متعمدة لأجندة النظام. وتحت شبح الرقابة، قد يقوم العديد من أعضاء هيئة التدريس بتكييف تعاليمهم لتتماشى بشكل وثيق مع عقائد الدولة، إما خوفًا من القمع أو اعتقادًا مضللًا بضرورة الروايات التي ترعاها الدولة. وغالبًا ما يؤدي هذا التكيف إلى إضعاف النزاهة الأكاديمية وخنق الخطاب الحيوي الذي يدعم التعليم الإعلامي الجيد. وقد يقوم الأساتذة عن غير قصد بقمع الأفكار الجديدة والمنهجيات النقدية، وبالتالي المساهمة في ثقافة الترهيب التي تُسكت الأصوات المعارضة.
إن التأثيرات الأوسع لهذه الثنائية في التجاوزات تمتد إلى ما هو أبعد من حدود الأفعال الفردية أو المناهج الدراسية. إن الجهود المستمرة التي تبذلها الدولة لقمع حريات وسائل الإعلام تنعكس في القيود المفروضة على المؤسسات التعليمية. يعمل أساتذة الإعلام السوريون في مناخ من الخوف وعدم اليقين، حيث يمكن أن يؤدي الانحراف عن السرديات المقبولة إلى عواقب وخيمة، بما في ذلك فقدان الوظيفة، أو التدخل القانوني، أو حتى السجن. تخلق ثقافة الخوف هذه في الأساس تأثيرًا مخيفًا يحد من الحرية الأكاديمية، ويمنع التبادلات الفكرية القوية التي تعد ضرورية لنظام بيئي إعلامي مزدهر.
بالإضافة إلى ذلك، تلعب ظاهرة الرقابة الذاتية دورًا حاسمًا في هذه الديناميكية. في بيئة تتميز بالمراقبة الشاملة والقمع التاريخي، يختار العديد من الأساتذة تخفيف حدة مناقشاتهم بشكل استباقي أو تعديل مخرجاتهم الأكاديمية لتتماشى مع توقعات الدولة. تعمل هذه الرقابة الذاتية على إدامة دورة من الامتثال التي تخنق في نهاية المطاف الإبداع وتطوير الكفاءات الإعلامية النقدية بين الطلاب.
على الرغم من هذه التحديات الهائلة، هناك حالات من المقاومة توضح مرونة وفعالية أساتذة الجامعات الإعلامية السورية. وقد سعى بعض المعلمين إلى منصات بديلة للتعبير، باستخدام شبكات سرية وتجمعات غير رسمية لتعزيز الحوار النقدي حول حريات الإعلام والمساءلة. وقد تحدث هذه الأعمال الثورية خارج المؤسسات التعليمية الرسمية، في أماكن آمنة حيث يمكن مناقشة الأفكار دون التهديد المباشر بتدخل الدولة.
وعلاوة على ذلك، فتح ظهور التقنيات الرقمية آفاقًا جديدة للمشاركة الإعلامية، مما يسمح للأساتذة بالاستفادة من وسائل التواصل الاجتماعي والمنصات عبر الإنترنت كأدوات للمناصرة ونشر المعرفة. لقد برز الإنترنت كسلاح ذو حدين؛ ففي حين يوفر مساحة للمعارضة، فإنه يعرض الأفراد أيضًا لخطر أكبر من التعرض لمراقبة الدولة. وبالتالي، يجب أن يتم التعامل مع تصرفات المعلمين الإعلاميين مع مراعاة دقيقة لكل من الفرص والتهديدات التي تفرضها مثل هذه التقنيات.
نهلة عيسى أحد أهم أسباب الاعتقالات التعسفية في كلية الإعلام
يعزو العديد من الطلاب هذا الأمر إلى التشديد الأمني المفروض على الكلية. يشير الكثيرون إلى دور النائب العلمي لعمادة الكلية، نهلة عيسى، في تسليم عشرات الطلاب لأفرع الأمن، مما ساهم بشكل كبير في تفاقم هذه الأزمة.
منذ افتتاح الكلية وحتى اليوم، لعبت عيسى دورًا محوريًا كضابط أمن متحكم في الكلية. احتفظت بمنصب إداري ساعدها على ممارسة سلطتها دون الظهور في الواجهة، حيث شغلت منصب نائب العمداء المتعاقبين، مما أتاح لها القدرة على التأثير دون التصادم المباشر.
لم يتوقف الأمر عند هذا الحد، بل انخرط قسم من الطلاب في التعاون مع عيسى، حيث قاموا بكتابة التقارير وتسليم زملائهم لأفرع الأمن. هذا التعاون زاد من حالة التوتر والانقسام داخل الكلية، وأدى إلى تفاقم المشاكل الطلابية بشكل أكبر.
وفي تاريخ الرابع من شباط/فبراير 2025 بعد سقوط نظام الأسد، قام عدد من طلاب كلية الإعلام بوقفة داخل الكلية مطالبين بإعفاء عيسى من مهامها وإحالتها إلى القضاء بتهم عديدة، أبرزها التسبب باعتقال عدد من الطلاب وفقدانهم في أفرع النظام البائد.
كما تقدم عماد خورشيد، والذي يشغل منصب “segment producer” في تلفزيون قطر، بالشكوى إلى رئيس لجنة تسيير الأعمال، الدكتور زياد عبود، بحق عيسى، مفادها الأعمال التشبيحية والإجرامية التي قامت بها الأخيرة ضد طلاب كلية الإعلام.
وقد تعاونت عيسى مع محمد العمر في عام 2018 في كتابة تقرير موجه إلى إدارة المخابرات العامة “الفرع 251” بحق زميلهم الدكتور أحمد شعراوي، وتوجيه تهمة عدم التزامه بالدوام الرسمي، وذلك لانشغاله بإعطاء دورة صحافة في اتحاد الصحفيين السوريين في محافظة السويداء، رغم أنه كان باستطاعتهم أن يطالبوا بعقوبة إدارية ومسلكية بحقه.
وثائق
يذكر أن الدكتور محمد العمر كان قد صدر مرسوم رئاسي بإعفائه من مهامه وإيقافه عن التدريس في كليات جامعة دمشق في عام 2008، لكنه عاد إلى لتدريس في كلية الإعلام وتسلم منصب عميد الكلية عند بدء الثورة في عام 2011.
الدكتور محمد الرفاعي ومبادلة الترفّع في مواده على أفعال لا أخلاقية
هزّت فضيحة أخلاقية كلية الإعلام في جامعة دمشق إثر تورط الدكتور، محمد الرفاعي، في ممارسات غير أخلاقية. أحالت رئاسة الجامعة الرفاعي إلى مجلس التأديب وأوقفته عن التعليم، وذلك لأسباب تتعلق بالآداب العامة وممارسات تسيء بسمعة الجامعة وكادرها التدريسي.
أثارت القضية ضجة كبيرة على مواقع التواصل الاجتماعي، حيث انتشرت مقاطع فيديو تدين الرفاعي، ما حول القضية إلى قضية رأي عام. قامت رئاسة الجامعة بإحالته للتحقيق، وتولى مهمة التحقيق لجنة مكلفة من كلية الحقوق.
أثناء التحقيق، اعترف الدكتور الرفاعي بالمخالفات التي ارتكبها بحق إحدى الطالبات، حيث طلب منها مبادلة نجاحها في المادة التي يُدرسها مقابل تحرشه بها. كانت الطالبة قد نشرت محادثات بينها وبين الرفاعي تؤكد تحرشه بها، خاصة بعد فشلها في ترفيع المادة في الدورات السابقة ورفضها الرضوخ لممارساته اللا أخلاقية. انتشار هذه المحادثات على مواقع التواصل الاجتماعي أدى إلى إحالته إلى التحقيق وإيقافه عن التعليم.
لم تكن هذه الحادثة الأولى من نوعها، حيث تكررت الممارسات اللا أخلاقية في جامعات النظام منذ بداية العام الماضي وحتى اليوم. وصلت تلك الممارسات إلى إحالة 17 عضوًا من الهيئة التعليمية إلى مجلس التأديب، كما تم تحويل إداريين إلى محكمة مسلكية خلال الأشهر الماضية.
تجاوزات أساتذة كليات الإعلام في سوريا تجسد التفاعل المعقد بين الأدوار التعليمية وقمع الحريات الإعلامية داخل نظام قمعي. ففي حين يتنقل بعض المعلمين عبر القيود المفروضة عليهم لتعزيز الاستقصاء النقدي ومقاومة السرديات السائدة، قد يعزز آخرون عن غير قصد أيديولوجيات الدولة من خلال الامتثال والرقابة الذاتية. وتمتد آثار هذه التجاوزات إلى ما هو أبعد من الفصول الدراسية، حيث تشكل مشهد التعليم الإعلامي وحرية التعبير في سوريا.
وفي نهاية المطاف، فإن الفهم الدقيق لهذه الديناميكيات أمر ضروري لفهم التحديات الأوسع التي يواجهها المهنيون الإعلاميون في مجتمع حيث تظل الحرية والتعبير والنزاهة تحت الحصار. ومن خلال الاعتراف بهذه التعقيدات يمكننا أن نبدأ في تصور مسارات نحو بيئة إعلامية أكثر تحررًا، حيث يمكن للقوة التحويلية للتعليم أن تزدهر دون قيود من قوى القمع.
———————————–
دليل الناقد السوري البائس بعد سقوط الأسد/ تيما شريط
متطوّعة وكاتبة في رصيف22
رأي نحن وحرية التعبير سوريا
الاثنين 10 فبراير 2025
في سوريا ما بعد الأسد، كان الحلم بسيطاً: حرية، كرامة ودولة قانون. لكن سرعان ما تحول هذا الحلم إلى كابوس أكثر تعقيداً، إذ إنك بمجرد أن تنتقد الوضع الراهن تجد نفسك محاصراً بين مطرقة “الاستحمار السياسي” وسندان التشبيح الجديد.
في البداية، كانت الآمال كبيرة. ظنّ الجميع أن الانتصار على الديكتاتورية يعني بداية عهد جديد من المحاسبة والشفافية، لكن ما حدث في الواقع كان استبدال قمع النظام بفوضى أصوات تدافع عن كل أخطائها بشراسة، وأي محاولة للنقد تُعتبر خيانة للوطن، أو عمالة للغرب، أو تمهيداً لانقلاب جديد.
ما هو الاستحمار السياسي؟
الاستحمار السياسي هو مصطلح ساخر يعبر عن تلك العقلية التي ترى النقد جريمة، والتعبير عن الرأي فتنة، والحرية مفهوماً “أوروبياً” لا يصلح لشعوبنا. أبطاله من الأشخاص الذين وجدوا في مواقع التواصل الاجتماعي مسرحاً مفتوحاً لإطلاق شعاراتهم واتهاماتهم لكل من تسوّل له نفسه أن يقول: هذا خطأ
مهام أبطال الاستحمار السياسي:
الدفاع الأعمى عن كل تصرف فوضوي أو كارثي في سوريا الجديدة.
تحوير النقاشات لتبدو كأنها هجوم شخصي على الوطن أو الدين.
توزيع الاتهامات الجاهزة بالخيانة والجبن والعمالة، غالباً دون أدنى معرفة بالموضوع المطروح.
والمثير للسخرية أنهم لا يعملون مقابل أجر، بل تدفعهم عقيدة غريبة مفادها أن “النقد هو مؤامرة”
المعزوفات المكرّرة في عصر الفوضى
ع زمان الأسد وين كنتوا؟
هل جرّبت يوماً التعبير عن استيائك من غياب الأمن أو انتشار الجريمة؟ ربما كتبت تعليقاً بسيطاً مثل: “هل يعقل أن تُسرق سيارة في وضح النهار دون أن يتحرك أحد؟”. حسنًا، استعد للرد الأيقوني: “ع زمان الأسد كنت تفتح تمك؟”
الإجابة المنطقية هي: لا، لم أكن أفتح فمي وقتها لأنني كنت أخاف أن ينتهي بي الأمر في زنزانة مظلمة، “وماحدا يقلي منان هنت”.
لكن دعونا لا ننسى، نحن الآن في عصر من يحرّر يقرّر، ومن الواضح أن ما قرّره مناصرو المحرّرين الجدد هو استبدال قمع الأصوات بقمع الأفكار.
من الغريب أن المدافعين عن الوضع الراهن لا يرون أن المشكلة في المقارنة نفسها، فهم يعتبرون أن القمع السابق كان معياراً جيداً للصمت الحالي. الفكرة هنا ليست تحسين الوضع، بل إسكات الأصوات لأننا كنا صامتين في الماضي.
بدنا دولة إسلامية
في المشهد الجديد، تجد من يرفعون شعاراً مثيراً للجدل: “بدنا دولة إسلامية”. ليس لأنهم بالضرورة يدركون معنى هذا الشعار، بل لأنه بالنسبة لهم مجرد رد على كل من يطالب بدولة مدنية.
تخيل أنك تتحدث عن أهمية فصل الدين عن السياسة في بناء دولة متماسكة، فيأتيك الرد: “إنت علماني كافر، والبلد لازم تمشي على الشريعة”.
الأكثر إثارة هو أن هذه الشعارات لا تُرفع لمناقشة قضايا فعلية، بل كأداة لإقصاء الآخرين. حتى النقد الهادئ يُعتبر في نظرهم “محاربة لله ورسوله”.
أو مثلاً تخيل أنك شاهدت مقطع فيديو لداعية يتجول في حي مليء بمسيحيي سوريا، يدعوهم علناً لاعتناق الإسلام ويصفهم بالكفار.
أنت، كمواطن يرفض هذه الفوضى، قرّرت التعليق على الفيديو لتقول إن هذا السلوك غير مقبول. الرد: “أنت كافر، جاييك الدور”.
هل حقاً انتهت مشاكل سوريا لدرجة أن حملات التكفير باتت هي الحل؟ يبدو أن هؤلاء يظنون أن كل من يختلف معهم يستحق المحاكمة أو الطرد من البلاد.
هلق صرتو تحكو؟
هذا الرد يُعتبر العلامة المسجلة للاستحمار السياسي. إذ إنه يستخدم كوسيلة للتذكير بأن الجميع كانوا صامتين في الماضي، وبالتالي لا يحق لأحد أن يتحدث الآن.
لكن دعونا نسأل: إذا كنا قد صمتنا في زمن الأسد خوفاً من الزنازين والتعذيب، أو حتى خوفاً من أيّ استجواب يتمّ في أي فرع من أفرع الأمن، فلماذا يُطلب منا الآن أن نصمت خوفاً من الشتائم والتهديدات؟ هل حقاً الحرية التي دفعنا أثماناً باهظة للحصول عليها تعني صمتاً جديداً؟
الردود الجاهزة أسلحة السخرية
لتكتمل الصورة، إليك مجموعة من الردود “الجاهزة” التي يمكنك توقعها إذا قررت يوماً الدخول في نقاش عام:
الحرية خربت البلد
نعم، الحرية، تلك الكلمة التي ظلت حلماً لشعب بأكمله، والتّي دفع ثمنها شهداء بلادي وشبابها ونساؤها، وكل من تهجّر منها، وكل من ترك منزله وعاش في خيمة لسنوات طويلة، أصبحت الآن متهمة بأنها أصل كل المصائب. لا كهرباء؟ السبب الحرية. انعدام الأمن؟ أيضاً الحرية.
الغريب أن المدافعين عن هذه الفكرة لا يدركون أن غياب القوانين والمؤسسات هو السبب الحقيقي، وليس الحرية بحد ذاتها، لكن، من يهتم بالمنطق عندما يكون الهجوم أسهل؟
“إنت من وين مفكر حالك؟”
إذا كنت خارج سوريا وقررت أن تعبر عن رأيك، فاستعد لهذه العبارة. لأنك، بالنسبة لهم، فقدت حقك في التعبير بمجرد مغادرتك البلاد.
“الديمقراطية ما بتلبقلنا”
هذا الرد يحمل نغمة من السخرية اللاذعة، حيث يتم تصوير الديمقراطية على أنها فكرة غربية لا يمكن تطبيقها في مجتمعاتنا، وكأن شعوبنا محكومة إلى الأبد بالعيش في ظل الاستبداد، لأننا “لا نفهم الحرية”.
هل المشكلة في الشعب أم النظام؟
المفارقة الكبرى أن هؤلاء الموظفين في قطاع الاستحمار السياسي ليسوا مجرد أفراد عشوائيين، بل هم انعكاس لواقع عام. في سوريا الجديدة، تغيرت أسماء المذنبين فقط، لكن العقليات القمعية ما زالت تسكن كل زاوية من المشهد.
إذا طالبت بالقانون، فأنت “عميل.”
إذا دافعت عن الحريات، فأنت “ضد الدين”
وإذا قرّرت الصمت، فأنت “جبان”
تريد الحديث عن القانون؟ لا وجود له
تريد المطالبة بتحسين الخدمات؟ “ع زمان الأسد كان في خدمات؟”
تبحث عن المحاسبة؟ لا تسأل، لأن هذا السؤال وحده قد يدخلك في صراع لا نهاية له.
ما يجعل هذا الواقع أكثر ألماً هو أن السخرية أصبحت الطريقة الوحيدة لفهم ما يجري، فكل نقاش يتحول إلى مهرجان من الشتائم، وكل محاولة للنقد تُقابل باتهامات عبثية.
حتى من يحاول الإصلاح يواجه عراقيل لا نهاية لها، لأن المشكلة ليست في الأفكار فقط، بل في وجود ثقافة عامة تعتبر النقد هجوماً، والحرية خطراً، والمحاسبة حلماً مستحيلاً.
سوريا في الوقت الحالي ليست دولة، بل فوضى يبدو أنها تسير بلا اتجاه. إذا أردت النجاة، عزيزي القارئ، تعلم أن تنتقد بحذر، أو ببساطة اصمت، لأن الصمت كما يبدو هو اللغة الوحيدة التي لا تستفز أحداً في سوريا اليوم.
ما زال الماضي يطاردنا، والحاضر يعاقبنا، والمستقبل يبدو مجرد حلم بعيد، وبينما تستمر معزوفة “من يحرّر يقرّر” في العزف، يبقى المواطن السوري هو الخاسر الأكبر.
لذلك، إذا أردت أن تبقى سالماً، تعلم فن الصمت، أو كن مستعداً لتلقي السخرية والشتائم، لأن الحقيقة البسيطة هي: في سوريا اليوم، الجميع ينتقد الجميع، لكن لا أحد مستعد لسماع أي نقد.
رصيف 22
—————————————
“أخيراً أستطيع الكلام عن أخي”… عمّا فعله النظام الساقط بأطباء سوريا/ عزام اليوسف
الاثنين 10 فبراير 2025
بينما ينبغي أن تُعامَل مهن مثل الطب والتمريض، على نحوٍ أكثر تقديراً في أوقات الأزمات والحروب، لما يبذله ممتهنوها من أدوار في حماية الأرواح وحقن الدماء وتخفيف الآلام، يصل الأمر ببعض أنظمة الحكم الشموليّ، الذي يحاول الإمساك بكل مظاهر الحياة وإجبار الناس على السير خلفه- إلى تجريمها والمعاقبة عليها.
يمكن عدّ نظام الأسد في سوريا، أحد أبرز الأمثلة على ذلك، حيث تفنّن على مدى أزيد من خمسة عقود في تعذيب الأطباء وطلاب الطب السوريين واعتقالهم وقتلهم.
اشتدّت هذه الجرائم مع اندلاع الثورة السورية التي استحالت حرباً أهليةً دامت حتى انهيار حكم بشار الأسد، في الثامن من كانون الأول/ ديسمبر 2024، حيث أفادت الشبكة السورية لحقوق الإنسان، في تقرير نُشر في حزيران/ يونيو 2014، بأنه مع دخول الثورة السورية عامها الرابع، لم يتوقّف نظام الأسد عن “استهداف الكوادر الطبية بالقتل المباشر أو التعذيب حتى الموت في السجون والاعتقال والخطف والتضييق، بتهمة تقديمهم الخدمات الطبية لأشخاص أو جهات تعارض الحكومة السورية”. ووثّق التقرير مقتل 18 طبيباً، على أيدي قوات النظام، مقابل مقتل طبيبَين آخرين أحدهما برصاص تنظيم داعش، والآخر برصاص المعارضة المسلّحة، وذلك خلال شهر أيار/ مايو 2014 فقط.
في هذا التقرير، يروي عدد من الناجين وشهود العيان، لرصيف22، حكايات مريرةً عن جرائم نظام الأسد، بحق المنتسبين إلى مهنة الطب، والتي نوثّقها كي لا تضيع.
اعتقال المريض وملاحقة الطبيب
يروي الدكتور محمد أمجد الشايب (62 عاماً)، من إدلب، وهو أخصائي في الجراحة العامة يعمل حالياً في السعودية، لرصيف22، ما حدث معه خلال مظاهرات داريا، مطلع عام 2012، حين أسعف متظاهرون شابّاً من بيت الدباس “مصاباً بطلق ناري في الصدر”، إلى مستشفى داريا الوطني حيث كان يعمل آنذاك.
يقول الشايب، إنّه أدخل المصاب غرفة عمليات في قسم الإسعاف، لإجراء “تفجير صدر”، وهو إجراء طبي يتضمّن إدخال أنبوب نزح بين الضلوع إلى داخل الرئة بغرض تصريف السوائل أو الدم أو الهواء المتراكم حول الرئة، لإنقاذ حياته إلى حين استكمال الإجراءات الجراحية الضرورية.
في الوقت نفسه، كان رئيس مفرزة الأمن العسكري، يجول في داريا برفقة سيارة عليها رشاش “بي كي سي”، وقد دخل المسؤول العسكري إلى غرفة العمليات وحاول أخذ المريض بالقوة إلى مشفى 601 سيئ الصيت قبل أن يعارضه الدكتور الشايب، انطلاقاً من مسؤوليته المهنية والإنسانية تجاه المريض.
يقول الشايب، إنّ رئيس مفرزة الأمن العسكري، “كال لي الشتائم والتهديدات، فخرجت غاضباً من الغرفة بعد إنهاء عملي. علمتُ لاحقاً أنهم أخذوا المريض إلى 601، بعد إجراء العملية الجراحية في مشفى داريا”.
يُعرف مشفى 601، أيضاً، بـ”مستشفى يوسف العظمة العسكري”، أو “مشفى المزّة العسكري”، وهو مشفى تابع لوزارة الدفاع السورية يقع في المزّة جنوبي غرب العاصمة دمشق. وقد ارتبط المشفى منذ بداية الثورة السورية، وتحديداً تحت إدارة العميد غسان حداد، بجرائم فظيعة بحق معارضي النظام، ووثِّق استخدامه كمكان للتعذيب والقتل. وأكد تقرير لمنظمة “هيومن رايتس ووتش”، بعنوان “لو تكلّم الموتى… الوفيات الجماعية والتعذيب في المعتقلات السورية”، أنّ المئات من صور قيصر التُقطت في مشفى 601 العسكري.
كانت زوجة المصاب تبكي بحرقة عند الباب، وتريد الدخول، لكن الطبيب الشايب، منعها خوفاً عليها. يقول: “طلبت منها الصمت، كي لا يعلم الأمن أنها زوجته فيعتقلوها هي أيضاً، خاصةً أنّ الشاب كان صهر الشهيد غيّاث مطر، المعروف بـ’أيقونة المعارضة السلمية في داريا’، أي أنّ تلك المرأة التي تبكي هي شقيقة غياث… كانت منكسرةً ولبّت طلبي”.
واشتُهر غياث مطر (1986-2011)، أيضاً، بلقب “غاندي الصغير”، بسبب أسلوبه السلمي في الاحتجاج، إذ كان يقدّم الماء والورود لعناصر أمن النظام للتأكيد على سلمية الثورة، وقد اعتُقل في 6 أيلول/ سبتمبر 2011، وتعرّض للتعذيب حتى الموت بعد أربعة أيام.
ما زلنا في عين العاصفة، والمعركة في أوجها
كيف تقاس العدالة في المجتمعات؟ أبقدرة الأفراد على التعبير عن أنفسهم/ نّ، وعيش حياتهم/ نّ بحريّةٍ مطلقة، والتماس السلامة والأمن من طيف الأذى والعقاب المجحف؟
للأسف، أوضاع حقوق الإنسان اليوم لا تزال متردّيةً في منطقتنا، إذ تُكرّس على مزاج من يعتلي سدّة الحكم. إلّا أنّ الأمر متروك لنا لإحداث فارق، ومراكمة وعينا لحقوقنا.
ادعمونا
إلى ذلك، بقي رئيس المفرزة، يهدّد الشايب، “عَ الطالع والنازل”، بأنه لم ينسَ ما حدث لصديقه الملازم في الأمن العسكري، الذي كان قد أُسعف إلى مشفى داريا لكنه وصل متوفياً إثر طلقات نارية اخترقت جسده في يومٍ سابق. يتابع الطبيب السوري: “حاولت بالتعاون مع كادر الأطباء المقيمين والتمريض الموجودين حينها، إنعاشه بكل جهدنا، لأكثر من نصف ساعة، لكن دون جدوى، حتى وصلنا مصاب آخر، ولم يتقبّل رئيس المفرزة ذاك قرارنا، وأمر بأن نرسله إلى المشفى العسكري تحت تهديد السلاح، فما كان أمامنا من خيار آخر، وهناك أُعلنت وفاته، وقيل لصاحبنا إنه وصل متوفياً، فظنّ أنّه مات بعد خروجه من مشفى داريا، واتهمنا بقتله دون أن يستطيع إثبات ذلك، وبقي حاقداً عليّ منذ تلك الحادثة”.
طبيب راحل… ومعاناة مستمرة لأهله
نجا الشايب، بعد تهديدات عديدة، وتمكّن من مغادرة البلاد. لكنّ غيره من الأطباء، وحتى طلاب الطب، لم تسنح لهم فرصة “رفاهية التهديد”، إن صح التعبير، إذ اعتُقلوا و/ أو قُتلوا، ولم يتسنَّ لذويهم معرفة أي خبر عنهم.
يحكي سليم أصلان (30 عاماً)، وهو طبيب في اختصاص الجراحة العصبية من حلب، ويعمل في المشفى الجامعي فيها، لرصيف22، عن الشعور بالعجز والسكوت لسنوات: “هذه هي المرة الأولى التي أستطيع فيها الكلام عن أخي باسل، لكل العالم يلي كانت تقلّي أخوك باسل وينو وشو عم يتشتغل وكنت أقلّن بتركيا، ولكل حدا كذّبت عليه، ولأول مرة بتنزل الدمعة من عيني بعد 13 عاماً”.
ويتابع سليم: “أخي باسل أصلان، طالب طبّ بشري في جامعة حلب، ومن الدفعة رقم 43، كان في السنة الثالثة، وقد بدأ بإسعاف المتظاهرين في 2012… ما حدا كان حامل سلاح بحلب هاي الفترة. اعتقلته المخابرات الجوية قبل أيام من امتحان الشهادة الثانوية الذي كنت أُحضّر له”.
بعد شهر من البحث عن أخيه بين الأفرع الأمنية، تلقّى أهل باسل، اتصالاً من “الطبابة” لإكمال إجراءات “الدفن”. يكمل سليم بأسى: “بتعرفوا شلون طريقة القتل كانت؟ الحرق مع الرصاص… والتهمة كانت إسعاف متظاهرين. أعطونا أخوي ورفقاته التلاتة لونهم أسود… متفحمين. تعرّفنا على أخي من فكّه السفلي الحاد، ثم دفنّاه وكتبنا على قبره ‘الطبيب الراحل باسل أصلان’، كما أوصانا قبل استشهاده”.
لم تنتهِ معاناة العائلة عند مقتل نجلها، بل استمرت معاناتها حتى إسقاط النظام. يقول سليم، إنّ والده حاول استصدار جواز سفر، لكنه فشل في ذلك وقيل له: “عليك منع سفر”، فضلاً عن أنه طُرد من وظيفته الحكومية بسبب “مواقف أبنائه”، حيث أنّ الأخ التوأم لباسل اعتُقل هو الآخر من المنزل بعد فترة قصيرة من مقتل باسل. يضيف سليم: “دفعنا اللي فوقنا واللي تحتنا لحتى نعرف وين هوي، كلو ياخد مصاري ويكذّب علينا”. خرج الشقيق المعتقل بعد 68 يوماً من الاعتقال: “رجع أقلّ من 40 كيلو… جلد على عضم”.
ويردف سليم، أنهم عاشوا “القهر والتفتيش كل مرة، واعتقال لإخوتي… حتى أنهم رفضوا أن يعطونا الشهادات الجامعية التي تخوّلنا العمل في الخارج برغم تخرّجنا، ودُمّر بيتنا بقصف من الطيران، ولكن الحمد لله نحنا ولا شي قدام باقي الناس”.
قصة عائلة سليم، ودفعها مبالغ باهظةً مقابل معلومة واحدة عن نجلها الطبيب المعتقل، شهادة أخرى على استغلال النظام الساقط السجون والمعتقلات كوسيلة للانتفاع وجني الأموال، متغذّياً على خوف الناس على أبنائهم المعتقلين، وتوقهم إلى سماع خبر واحد عنهم. وقد قدّرت رابطة معتقلي ومفقودي سجن صيدنايا، أنّ ذوي المعتقلين دفعوا ما يقارب المليار دولار أمريكي، لقاء خبر أو معلومة أو زيارة أو وعد بإطلاق سراح أبنائهم، وذلك بعد مئات المقابلات مع أهالي المعتقلين.
الجرائم تتكشّف تباعاً
ومنذ انهيار النظام، تشجّع الكثير من الأطباء ضحايا ملاحقة النظام وتنكيله وذووهم، على رفع الصوت والجهر بما تعرّضوا له على مدار عقود. وفي مقدمة هؤلاء الدكتور منير شحود، الطبيب وأستاذ مادة التشريح ورئيس القسم في كلية الطب البشري في جامعة تشرين سابقاً، والذي اضطر إلى العمل في الزراعة وتربية الحيوانات لكسب قوته بعد منعه من العمل في المدارس الحكومية، عام 2006، ولاحقاً في الجامعات الخاصة عام 2010، لأسباب أمنية.
الإكراه على مخالفة مبادئ وأخلاقيات مهنتهم، كان أمراً أُجبر الأطباء على فعله بشكل متكرّر. تقول رولا (35 عاماً)، اسم مستعار لطبيبة متخصصة في طب الأطفال وحديثي الولادة، فضّلت عدم الكشف عن هويتها، لرصيف22: “أتذكّر حين كنت في فترة التدريب على الاختصاص، وكنت أناوب وحدي في قسم يضمّ نحو ثلاثين طفلاً مريضاً بين الحواضن والغرف بسبب قلّة الأطباء، وذلك في مشفى القطيفة الوطني، ليأتيني اتصال في منتصف الليل، بأنني يجب أن ‘أُشرف’ على إعطاء حقنة ديكسون (من مشتقات الكورتيزون تُعطى في حالات التحسّس، ولا تحتاج إلى مراقبة طبية عادةً)، لحفيد لواء، مع أفضل ممرضة في القسم وسيارة إسعاف، وأن نترك القسم خالياً من الأطباء، وذلك بعلم مدير المشفى ورئيس الأطباء، تاركين وراءنا العمليات القيصرية الإسعافية دون طبيب أطفال”.
وذلك علماً بأنه لا يجوز إجراء أي ولادة دون وجود طبيب/ ة أطفال، لأنّ تلك الدقائق الخمس التي تلي الولادة مهمة لحياة الطفل، وإن لم تتوفّر له العناية الطبية التي لن يستطيع تقديمها ممرض/ ة أو طبيب/ ة التوليد، فستترك عليه تبعات صحيةً قد تلازمه طوال حياته.
حتّى قبل الثورة، تعرّض الأطباء وطلاب الطب لانتهاكات مروّعة. يحكي محمد سالم عتّال (64 عاماً)، وهو طبيب تخدير من حماة، قصّة اعتقاله حين كان طالباً في السنة الخامسة في كلية الطب البشري في جامعة دمشق عام 1984. يقول لرصيف22: “عند بوابة كلية الطب، اعتقلتني سيارة ‘بيجو بوكس’، يقودها سائق ومعه عنصران في المقعد الخلفي. أجلساني بينهما، وزجراني لوضع رأسي بين ركبتيّ، دون أن أرفعه أبداً”.
من فرع الخطيب، إلى فرع الأمن العسكري في حماة، تعرّض عتّال، لجولات من التعذيب “بكل وحشية، ودون أن أشعر طوَوا جسدي المتعب داخل إطار سيارة، ليصبح جبيني بين ركبتيّ، وربطوا ساقيّ بحبل قوي، وبدأ جلد باطن قدميّ بسياط سميكة قاسية من جلد المجنزرات”.
يضيف: “كان الألم شديداً لا يُحتمل، وشيئاً فشيئاً، بدأ الخدر والنمل يسريان في قدميّ بعد أن أصبحتا ثخينتين كاللبّاد، وبعدها تشقق جلديهما تحت لسع السياط، بدأت أشعر بدمي الحارّ يبكي من الألم وينسكب على أطراف قدميّ”.
وعلى “الكرسي الألماني”، يردف عتّال: “طووا جسدي على كرسي حديدي إلى عكس الوضعية التي كنت عليها في الدولاب، حتى أصبح قفا رأسي يلامس مقدمة قدميّ، وسمعت طقطقة فقرات ظهري تفرقع كالحصى في أذنيّ”. ما يؤلم الطبيب أنّ أهله لم يعرفوا أي خبر عنه، وتفاجأوا بخروجه بعد ثماني سنوات من سجن تدمر الصحراوي.
كُتب مصطفى طلاس بدلاً من المراجع الطبية
هذه الأشكال المتعدّدة من الطغيان العنفيّ على الأطباء وطلاب الطب، رافقها طغيان معرفي وثقافي وعلميّ، إذ حتى في المراجع والمجلات الطبية ذات الطابع العلمي البحث، يحضر الاستبداد ويُصرّ على حشر أنفه بطريقة فظّة، كما يتّضح من تجربة الدكتور حسين نديم حيدر، في ثمانينيات القرن الماضي، حين كان الطبيب المتخصّص في الأطفال وحديثي الولادة “في فترة الإقامة التدريبية، وكانت المصادر شحيحةً جداً على نقيض هذه الأيام، وقد كانت مكتبة مشفى الأطفال الجامعي في دمشق تحتوي على بعض المراجع والمجلات العلمية، وكنتُ أستعير المفتاح من أمينة المكتبة -على مسؤوليتها- لأقرأ بعد انتهاء الدوام”.
يضيف في حديثه إلى رصيف22، أنه بعد تخرّجه بقي يتردد دورياً على المكتبة للسؤال عن مراجع جديدة، لكنّ الإجابة كانت بالنفي دائماً، إلى أن أتى مرةً وتبسّمت أمينة المكتبة له، لتخبره بأنّ الكثير من الكتب قد وصل، ولكنه تفاجأ بأنّ “الكتب كانت كلها عن الشعر والطبخ والورود لمؤلف يُدعى مصطفى طلاس!”، فكانت تلك “آخر مرة أزور فيها المكتبة”، يضيف.
ومصطفى طلاس، هو وزير الدفاع السوري لنحو 32 عاماً (1972-2004)، وكان يُعرف بـ”الوجه السُنّي الضاحك للنظام” السوري الساقط، ويقال إنه جمع ثروته عبر سرقة مخصّصات الجيش من الطعام، وارتبط اسمه بالفساد، وله الكثير من المؤلّفات والكتب التي يُعتقد أنّ آخرين كتبوها له، وقد توفي في باريس عام 2017، عن عمر يناهز 85 عاماً.
بعد فقدان الأمل من مكتبة المشفى، طلب حيدر من صهره في بريطانيا الاشتراك في دورية “Pediatric Clinics of North America” الطبية، ففعل وانتظر شهوراً دون أن يصله شيء. وبعد التواصل مع مدير البريد الذي ذهب للتفتيش عن المجلة، في قسم رقابة المطبوعات في مبنى البريد العام في دمشق، كانت المفاجأة بأن “عاد صاحبي، وهو يحمل بعض الأعداد المخزّقة وقال لي هامساً: ‘دكتور أي شي من برّا مراقب وممكن تتعرّض لمشاكل. أفضل ألا تعود وتشترك بهذه الطريقة’. وفعلاً، أخبرت صهري بأن يرسل المجلة إلى عنوانه في بريطانيا، وكان يجلب المجلات معه خلال عطلته الصيفية”.
أطباء مجرمون
وعلى النقيض تماماً من أولئك الأطباء الذين دفعوا حياتهم وعملهم مقابل الالتزام بمبادئ مهنة الطب ودون أي ذنب، تورّط العديد من الأطباء مع النظام في إجرامه ووحشيته، بل كانوا بمثابة “المشرط” الذي ساهم في تقطيع معتقلين.
فضلاً عن غسان حداد، يُعدّ الطبيب علاء موسى (37 عاماً)، أحد الأطباء السوريين المتهمين بارتكاب جرائم ضد الإنسانية، إذ يُحاكم في ألمانيا منذ عام 2022، في تهم تتعلّق بالتعذيب والقتل في أثناء عمله في مستشفيات عسكرية في سوريا (في حمص ودمشق)، بين عامي 2011 و2012. ومن بين أشكال التعذيب المتهم بارتكابها في حقّ المعتقلين المرضى، إلحاق أضرار جسدية ونفسية خطيرة بهم، بما في ذلك الضرب على الأعضاء الحساسة ورشّ الكحول على الجروح ثم إحراقها.
وهناك تلك الحادثة الأكثر تراجيديةً للطبيب يونس علي، المعروف بين السجناء بـ”الجلّاد”، والذي تتردّد شهادات من معتقلين سابقين بأنه كان يُشرف على تعذيب زميل سابق له في كلية الطب البشري في جامعة حلب، يُدعى الدكتور محمد زاهد، داخل سجن تدمر (حيث كان هو طبيب السجن)، انتقاماً منه لزواجه من زميلتهما في الكلية التي رفضت الزواج به. شهادات أخرى تقول إنه أشرف على تعذيب العديد من زملاء دفعته من الأطباء الذين كان حاقداً عليهم حتى الموت.
إلى ذلك، لم يكن مشفى المزّة وحيداً في تحويله إلى مسرح للجرائم المروعة في حق المعتقلين، بل هناك العديد من المشافي العسكرية الأخرى سيئة السمعة، وفي مقدمتها مشفى تشرين العسكري، الذي تناول تقرير لـ”رابطة معتقلي ومفقودي سجن صيدنايا” بعنوان: “دفنوهم بصمت… آليات القتل والإخفاء في مشفى تشرين العسكري 2011 و2020″، إلى الدور الذي تلعبه المخابرات والشرطة العسكرية والطواقم الطبية والإدارية في مشفى تشرين العسكري، في عمليات التصفية والإخفاء القسري للمعتقلين فضلاً عن وجود غرف مخصصة للاعتقال والتعذيب. كما كشف التقرير عن تفاصيل المسارات التي تسلكها جثث المعتقلين الذين قضوا تحت التعذيب، والتلاعب بشهادات الوفاة وإعطاء الأوامر بنقل الجثث ودفنها في المقابر الجماعية.
رصيف 22
——————————–
جرائمُ وأدٍ لا شرف تطال النساء في سوريا… على من يقع اللوم؟/ هدى سليم المحيثاوي
الجمعة 7 فبراير 2025
في زمن بات الحديث عن حقوق الإنسان كقول “صباح الخير”، بديهياً، لازماً وضرورياً، نشهد جرائم خارجة عن السياق في القيم والمنطق المؤدي لجريمة ما، جرائم لا يمكن أن تسمّى إلا بالوأد، تستهدف النساء حصراً، على يد فرد من أفراد العائلة، تسوّغ بقانون ينطوي تحت بند “جرائم شرف”.
شرف يقرن مع هكذا جرائم، ليس سوى وصمة عار على كل من يؤمن بالشرف وضرورته، فارتباطه بجريمة قتل ينزع عنه أي قيمة إنسانية. هذه الجرائم تحمل وأداً للحق في الحياة، للمستقبل، للحق في تقرير المصير وفي اختيار الشريك كذلك، ما يجعل مصير بعض الفتيات وكأننا أمام امتداد لجريمة الوأد الجاهلية، وإن اختُلف على زمن حدوثها ووقت وقوعها. ذلك كله يحدث بتواطؤ النصوص القانونية، التي تسوّغ للفاعل العذر للإفلات من العقاب، ليساهم في تكرار الجريمة واستمرار وقوعها، فتتكرّر خسارة فتاة لحياتها، واحدةً تلو الأخرى.
قبل أيام خلتْ، قتلت (ليليان. س) ذات التسعة عشر عاماً على يد والدها، في محافظة السويداء السورية، وأصيبت والدتها، بعد محاولة الدفاع عنها، بإصابات دخلت إثرها المستشفى في حالة خطرة.
مسوّغات هذه الجرائم لا يصعب استدعاؤها، وهناك دائماً إمكانية لاستدعاء مبرّر لهكذا جريمة وغيرها من الجرائم المماثلة، فالشرف قد يستدعى، والوصاية يمكن أن تستدعى، والأخلاق والحماية والحالة النفسية، وإلى ما هنالك من مسوّغات يمكن الدفع بها لارتكاب الجرائم والإفلات من العقاب، فللقانون في عموم دول انتشار هذه الجرائم، نوافذ كثيرة يمكن الدخول منها.
جرائم الشرف في سوريا تطال الفتيات اللاتي تتزوجن من خارج دينهن أو طائفتهن أو قبيلتهن، أو حتى عائلاتهن في أوساط معينة. رغم الإجراءات القانونية التي تتم للزواج، إلا أن العائلة لا تعترف به ولا تتقبّله في غالب الأحيان، ولابد من الإشارة إلى أن الفكر المتحكّم بهذا السلوك وما ينجم عنه، ليس حكراً على طائفة أو دين أو منطقة بعينها، بل هو جهل لا يمكن محاربته إلا بالعقل والفكر.
المجتمع الدرزي واحد من بيئات كثيرة يمنع الزواج من خارج طائفته الدرزية، وهو يتدرّج في تشدّده حسب أماكن التواجد حيال هذه القضية وقضايا أخرى، فهناك اختلاف بين الدروز في لبنان، وبين مناطق جرمانا وصحنايا، وكذلك بين المتواجدين سابقاً في جبل السماق في معرة النعمان في إدلب (ربما بقي منهم القليل هناك بعد الثورة السورية)، وبين السويداء مدينةً أو ريفاً، وتعتبر الأرياف أكثر تشدّداً في العموم، مع وجود فوارق فردية طبعاً.
“جرائم الشرف”، هو المسوّغ القانوني المعروف، ليس فقط في سوريا، بل وفي عالمنا العربي، وفي دول أخرى حيث تنتشر هذه الجرائم. البند الذي يعطي الحق لفرد من أفراد العائلة بإنهاء حياة فتاة ما، وأحياناً ليس بالضرورة أن يكون فرداً حتى من أفرادها، فالسلطة على الفتيات في مجتمعاتنا الشرقية هي سلطة مجتمع وليست فقط سلطة عائلة، إذ تعطي العادات والتقاليد الحق للمجتمع في التدخّل في شؤون الفتيات وأمورهن دون أي رادع يقف في وجهها، فكم من امرأة يتم الغدر بها على يد من يفترض بهم حمايتها، كم من فتاة ينتزع منها حق الحياة، حق التعليم، حق تقرير مصيرها، فقط بحجة أنها أنثى!
جريمة قتل جماعية
لابد وأن نلوم المجتمع الذي يجعل أولوية الأب هي حماية أعرافه وليس حماية أبنائه، أن نلوم القانون الذي يفتح نوافذه لمسوّغات تبرّر بدل أن تمنع القتل، لابد أن نلوم الأفكار القبلية التي تمجّد العادات وتلغي العقل والفكر.
هناك دائماً أداة مباشرة في الجريمة، يكون الأب، أو الأخ، أو الزوج، أو أحد الأقارب، لكن في مثل هذه الجرائم هناك أيضاً أياد ليست خفية، إن أردنا وضع حد لها، لابد من كفّها. فالمجتمع قاتل غير مباشر، والقانون قاتل صامت، والأقارب محرّضون، ووسائل الإعلام التي ترفض الحديث أحياناً في قضايا كهذه على أساس أنها قضايا تخص الجندر أو قضايا نسوية أو قضايا تخص الطائفة، إلى ما هنالك من التوصيفات المبرّرة، تشكل جميعها بيئةً تعزّز العنف وتجعل من العادات غطاءً للقمع والقتل.
يتقنّع المجتمع كصامت خلف أداة الجريمة، لكنه في حقيقة الأمر يعدّ المحرّض الأول لهكذا جرائم، إذ وفي أحيان كثيرة في بعض الأوساط، يتم ازدراء الذكر الذي لا يتبنى العنف تجاه النساء من أفراد عائلته، حال حدوث أمر مخالف للعادات والأعراف، وفي الحديث الذي طرحناه عن زواج الفتيات من خارج طوائفهن، ينظر في بعض المناطق والأوساط للعائلة التي تتزوج ابنتها، أو تقرّر الزواج من خارج الطائفة، نظرةً دونية، ويتم عزلها وتجنبها وقتلها معنوياً من المحيط، وحتى لو وجد منه من يمتلكون القناعة بظلمهم وعدم ارتكاب الخطيئة بالزواج من شاب يختلف بطائفته أو دينه، فإنهم لا يجرؤون على التقرب منهم أو الاختلاط بهم، لأن النبذ والتجنب يطالهم كذلك.
جرائم تستهدف النساء فقط
ما يتم استدعاؤه من مسوّغات لجرائم ضد النساء، هي مسوّغات تنصبّ فقط عليهن، حتى اجتماعياً، فلا يطال الرجل ما يطال المرأة حال أي من المسوغات التي ذكرناها، حتى في حالة زواجه من خارج الدين أو الطائفة، تتقبّله العائلة ذاتها إن كان الابن الرجل هو الذي قام بذات الأمر، وكأنهم يقولون إن الرجل يعجز عن حمل لواء الشرف، فتحمله المرأة وحدها وتحاسب عليه، أو أن يقنعونا بأن الخالق قد صبغها بوصفها كائناً من الدرجة الثانية.
ثورتنا على الموروث القديم
الإعلام التقليديّ محكومٌ بالعادات الرثّة والأعراف الاجتماعيّة القامعة للحريّات، لكنّ اطمئنّ/ ي، فنحن في رصيف22 نقف مع كلّ إنسانٍ حتى يتمتع بحقوقه كاملةً.
اطمئن/ ي!
إن الخلل في السوري تحديداً، موضع حديثنا، والمجتمع العربي عموماً، هو خلل يطال الإنسان عموماً في حقوقه، فلا أحد ينالها، وفي غالب الأحيان يكون العامل المادي أو امتلاك السلطة هما الحاكمان الأكثر سطوةً في تقرير المصير، إذ يمكن استثناء الأغنياء وأصحاب السلطة من قوانين أو أعراف وتقاليد كثيرة في مجتمعاتنا، ليبقى الضعيف وحده في الغالب هو الضحية، أما القوي يمكن أن يكون المجتمع، الرجل أو حتى المرأة تمتلك ما تمتلك من قوة وسطوة، تسلطه في الغالب على من هن أضعف منها من النساء، ويمكن أن تشترك في بعض الأحيان في الجرائم موضع حديثنا.
تشير التقارير التي تتناول قضايا المرأة، أن “جرائم الشرف” في سوريا، وفي بلدان كثيرة، مثل باكستان، أفغانستان، الهند، إيطاليا، الأردن، اليمن، تركيا، العراق، المغرب ومصر، أصبحت معركةً دموية، الأمر الذي يدفع المنظمات الحقوقية والدولية للمطالبة بوضع العقوبات على هذا النوع من الجرائم كجريمة قتل، وليس بعذر مخفف.
(ليليان. س) لن تكون الضحية الأخيرة، فضحايا المجتمع الذي يسود فيه فكر الوصاية بدلاً من وصاية الفكر، هم ضحايا قوانين وعادات وأعراف صُمّمت على قياس استبداده ورغباته في التحكم. رغبات تحكم أنيابها على الطرف الأضعف، وغالباً ما يكون النساء. تطبق على يد الرجال غالباً، وحيناً على يد نسوة يمتلكن من السطوة ما يمكنهن من استضعاف أخريات، وبتشجيع القانون الذي يقف شاهداً لا يرى شيئاً، وكأن ما سال من دماء، لا يكفي لوضع قانون يحمي المجتمع من نفسه أولاً، ومن تغوله في حياة الفرد كيفما يشاء.
رصيف 22
————————————
=========================