مقالات سينمائية

“باولو سورينتينو” يتأمل مدينته وذاته والوجود الإنساني/ أحمد عزت

3/2/2025

في فيلمه الأيقوني الجمال العظيم، تتباطأ كاميرا الإيطالي “باولو سورنتينو” ويخفت صوت الاحتفال الصاخب حول بطله “جيب غامبارديلا” ليخبرنا بما يشبه الاعتراف أنه منذ كان طفلا كانت إجابته عن سؤال ما هو أكثر ما تفضله في الحياة هي “رائحة بيوت العجائز”. يجيب “سورنتينو” نفسه في حوار قديم معه عن منحه أدوار البطولة في أفلامه لمسنين على شفا الذبول “أنا مفتون بالعجائز، عندما أشيخ، آمل أن أفتتن بالشباب”.

في فيلمه السابق “يد الله” 2021، وفي أحدث أعماله “بارتونوبي”، يمنح “سورنتينو” قلب حكايتيه لشخصيتين في مقتبل العمر على التوالي هما “فابيتو” و”بارتونوبي”. و”فابيتو” هو الأنا الأخرى لـ”سورنتينو”، وأما “بارتونوبي” فهي امرأة مدهشة تحمل مجاز مدينته نابولي.

يا ترى، هل يشعر النابولوتاني البالغ من العمر الآن 54 عاما حقا بتقدمه في العمر؟ ربما، لكن الأكيد أن فيلمه الأحدث والذي عرض للمرة الأولى ضمن المسابقة الرسمية لمهرجان “كان” الماضي هو بمعنى ما تأمل في مرور الزمن، علاقتنا به، وكيف يغيرنا.

إنه فيلم أيضا ذو طموح ملحمي يرغب أن يحكي حياة امرأة من الميلاد حتى الكهولة. إنه يحمل ما يسميه “جيمس جويس” بالحيوية الجامحة للملحمة.

“بارتونوبي”.. رحلة في تقاطعات الذات والمدينة

إذا كان فيلم “يد الله” أقرب لسيرة ذاتية لـ”سورنتينو”، فإن “بارتونوبي” لا يقل ذاتية عنه، فما هو ذاتي لا ينبغي أن يكون فقط سيريا. فـ”بارتونوبي” فيلم عن هواجس “سورنتينو” وأحلامه.

مرة أخرى، يلتفت إلى الوراء دون ندم أو حنين ويعود إلى نابولي. يحاول أن يمنح مدينته ما منحه “فيليني” روما أو “ريميني”. هنا يحاول استعادة صلاته العاطفية بمدينته عبر حياة متخيلة لامرأة هي المدينة.

نابولي حاضرة كمدينة في عمق الصورة وفي مجاز “بارتونوبي” التي تستحضر روحها، وحين تعرف من هي “بارتونوبي” ستعرف نابولي.

يبدأ الفيلم بضباب يملأ الكادر مثل شاشة سينمائية تتهيأ للصور التي ستستقبلها، ويظهر عجوز يرتدي بزة بيضاء هو عراب “بارتونوبي” الذي يأتي مصحوبا بعربة ذهبية كمهد مهدى للطفلة التي ستولد في البحر عما قليل فيما يشبه الطقس.

يتداخل الأسطوري بالعادي منذ البداية وبالطبع يسمي العراب الطفلة “بارتونوبي” على اسم حورية البحر التي حين عجزت عن إغواء “أوديسيوس” تسلم روحها للموج ويسلم البحر جسدها للمكان الذي سيصير نابولي.

هذا فيلم يشبه “سورنتينو” تماما، فـ”بارتونوبي” (سيليست دالا بورتا) تشبه سينما “سورنتينو”، تعرف كيف تغوى وكيف تستحوذ عليك تماما، ويصير جمالها مرآة للذكور المتحلقين حول فتنتها.

ففي مرآتها تتجلى أوهام وأحلام المفتونين بها، كهوس أخيها وهشاشته تجاه الجمال. وأما كاردينال كاتدرائية “سان جيناروي” -الذي شرح لها كيف تتم استعادة معجزة “سان جينارو” كل عام- فيراها “كمادونا” مثيرة بسلاسل مرصعة بالصلبان والجواهر يمكنه إغواؤها. وأما خطيبها “ساندرينو” فيراها مثل “ديفا” ينبغي أن تضيء شاشة السينما.

جزء من رحلة “بارتونوبي” هو كيف تكون نفسها في ظل كل هذه الانعكاسات التي يسقطها الآخرون عليها. تتجلى العلاقة الحقيقية الوحيدة مع أستاذها الجامعي الذي يرى فيها ما هو أبعد من جمالها. تحاول “بارتونوبي” أن تكون نفسها، فتأخذها الحياة بعيدا في بعض الطرق الجانبية قبل أن تمنح قلبها في النهاية لدراسة الأنثروبولوجيا. إذ مقدر للإنسان أن يتوه، لأن “الحياة هائلة”، كما يقول “فرديناند سيلين” الذي يعاود “سورنتينو” الاقتباس منه.

“بارتونوبي”.. قدر الخسارة في الحب

تبدو حكاية “بارتونوبي-سورنتينو” مثل حياة ثانية لحورية البحر التي أسست مدينته وكانت حياتها موسومة بالحب والخسارة. “لقد تم التنبؤ بكل شيء مسبقا”.. وهذه المقولة يتردد صداها عبر فيلم “سورنتينو” من خلال الأغنية ” كان كل شيء مخططا له مسبقا” (Era già tutto previsto) لـ”ريكاردو كوسيانتي”، والتي اختارها لترافق مشهدياته، وكأنها تتنبأ بحياة بطلة الفيلم كما هو الحال في الأساطير اليونانية حيث يتم التنبؤ بمصير الأبطال.

تعكس الأغنية من عنوانها الشعور بمصير لا مفر منه.  ويحمل أبطال “سورنتينو” الحس المأساوي بهذا القدر. حيث يردد “جيب غامبارديلا” بطل الجميل العظيم “مقدر لي أن أكون كاتبا، مقدر لي أن أكون جيب غامبارديلا”. وتحمل “بارتونوبي” القدر الحزين للجمال الفائق وقدر المأساة التي يحمّلها بها امتداد الاسم وتشعر به دون وعي وكأنه مخطوط في جيناتها.

تلتقي “بارتونوبي” حين تجول في مدينة هي ذاتها بكاردينال شيطاني يخبرها أن سؤال الحياة بعد مرحلة ما من اختبارها يصبح: “هل يجب أن نحب أكثر أم أقل”؟

وهذا سؤال يتردد في جوف “بارتونوبي” منذ ألقت بنفسها للموج أول مرة، لذلك فان “بارتونوبي-سورينتينو” تغوى دون أن تمنح نفسها لأحد، فتبقى وحيدة وحرة ومحصنة بعزلتها لأنها حين تحررت لمرة من ثقل هذا الإرث حدثت مأساة جديدة.

يخبر “ريموندو” الأخ الأكبر لـ”بارتونوبي” عرابها أن أقصى ما يتمناه أن يكون على سفينة تبحر به نحو البعيد لأنه ليس مقدرا له أن يكون سعيدا هنا في أجمل مكان في العالم. ما يعنيه “ريموندو” كيف يكون سعيدا قرب أجمل امرأة في العالم وهو يعرف انه مقدّر لها ألا تكون له. وينتهي به الحال وقد ألقى بجسده للموج الذي أتت منه، ثم على نحو ما، يتحد بها على بشكل نهائي.

“هل يجب أن نحب أكثر أم أقل”؟ سؤال لا يتردد داخل داخل برتونوبي فقط بل في قلب كل أبطاله.

“بارتونوبي”.. الحياة في ظل الصدمة

“الصدمة هي الحياة” كما يقول “سورينتينو”، وأما جون شيفر (غاري أولدمان) -الشاعر الأمريكي الذي لا يفيق من سكره في “بارتونوبي”- فيقول “الحياة مليئة بالنوائب”.

تضع شخصيات “سورنتينو” دائما مسافة بينها وبين الواقع. فهناك حدث ما، صادم بلا شك جعلهم يخافون العالم ويخشون من مشاعرهم الحقيقية وأن يكتفوا بدور المتفرج. ففي أفلامه الأولى ظل هذا الحدث بعيدا عن الشاشة خفيا في ماضي شخصياته كشبح.

أما في فيلمي “في يد الله” و”بارتونوبي”، فيدفع “سورنتينو” الحدث الصادم نحو الضوء لنشهد على تلك اللحظة التي تدخل فيها شخصياته إلى عزلتها. ففي النصف الأول من الفيلم، تتزامن مرحلة مراهقة وشباب “بارتونوبي” الحرة، والمنطلقة والخالية من الهموم مع نظرة مغرية وساحرة لنابولي. أما في النصف الثاني، فكلما كانت أكثر إحباطا وحزنا تحول السرد إلى نظرة ناقدة للمدينة.

بين النصفين يقع حدث صادم، هو انتحار “ريموندو”، شقيقها الأكبر. وبعد هذا الحادث تتبدل “بارتونوبي”، فتضيع قليلا في مسارات الحياة قبل أن تمنح نفسها لمسار أكاديمي يناسب دورها كمتفرج وهو دراسة الأنثروبولوجيا.. لقد أفسح موسم الشباب الطريق لموسم الأشباح والحنين.

سرديات “سورنتينو” والرغبة في الفهم

يدور هذا الحوار بين “بارتونوبي” وأستاذها الجامعي:

– إذن ما هي الأنثروبولوجيا؟

– ستصيرين أستاذة فيها، ولا تعرفين ما هي الأنثروبولوجيا؟

– أريد أن أسمع تعريفك.

– الأنثروبولوجيا هي رؤية،

– حقا! أكانت هذه الإجابة من البداية؟

– الرؤية صعبة جدا، لأنها تأتي في النهاية، بعد اختبار كل الأشياء، السعادة، المتعة، الرغبة، الألم.

إن اختيار الأنثروبولوجيا كمهنة لبطلة الفيلم يسمح للمخرج بالتعمق أكثر في الطبقات الأبعد لمدينته، مقتربا من ذلك السحر الذي لا تعرفه إلا نابولي بناسها وأماكنها، فيما يزيد قليلا عن ساعتين، يخلد “سورينتينو” عالما بأكمله ويجعله غير قابل للنسيان.

وحين يجيب “بارتونوبي” -أستاذها- أخيرا عن سؤالها المتكرر عن معنى الأنثروبولوجيا يخبرها بأنها رؤية، لكنها ليست رؤية المشاهدة بل رؤية الخبرة المعاشة. رؤية لا تتشكل الا بعد أن تعبرك الحياة بحلوها ومرها.

الإخراج أيضا رؤية وعبر هذه الرؤية، حين يحاول “سورنتينو” فهم بطلته ووصال مدينته. وبشكل عام، يفتقر أبطال “سورنتينو” دائما إلى معرفة الذات، ومن ثم، فهُم واقعون في فخاخ المراقبة والرؤية بحثا عن وضوح متعذر.

تفضي الحياة دائما بشخصيات “سورنتينو” إلى نوع من المفارقة الساخرة، مفارقة وجودية. على لسان الأستاذ الجامعي “ديفوتو ماروتا” يخبرنا “سورنتينو” لا شيء يبقى في النهاية سوى المفارقة الساخرة”.

ينطوي هوس “سورينتينو” بالعجائز في سينماه على مفارقة أساسية قاسية ومضحكة: أنك لا تدرك كيف تعيش الحياة إلا قرب نهايتها. ولذلك حين يمنح قلب أفلامه لشباب في مقتبل العمر فانه يؤكد على ضرورة العيش رغم الحيرة وانعدام الفهم. وحين تسأل “بارتونوبي” المسنّ “جون شيفر” أن ترافقه في هيامه الليلي في “كابري” فإنه يرفض “لا أريد أن أضيع أي دقيقة من شبابك”.

لغز “بارتونوبي” أم لغز الوجود

يحافظ “سورنتينو” على غموض “بارتونوبي” حتى النهاية، ليبقيها لغزا مراوغا. ويكرر اقتراب كاميراته من بطلته مع إلحاح صوت الراوي المتسائل عما تفكر فيه “بارتونوبي” والذي يظل بلا إجابة حتى النهاية. يصورها كثيرا من الخلف، ربما هذا اختيار جمالي، فعلى لسان الكاردينال يقول إن “أجمل ما في المرأة ظهرها، الباقي بورنوغرافيا”، لكن بعيدا عن التفضيل الجمالي فهذه “موتيفة” (موقف أو حدث قصصي) أخرى تبقى بطلته غامضة.

لا يلتزم “سورنتينو” في سينماه على مخططات الحبكة التقليدية محملا سرده سمات التشظي والتكرار، والاقتباس والإحالات الشعرية والفلسفية وهو ما يواصله في فيلمه الأحدث. ويغمرنا بالجمال والسحر عبر إيقاع كاميراته وتشكيل لقطاته واختياراته الموسيقية التي تتشابك مع طبقات المشاعر الأعمق لحكايته.

وتنبض أعمال “سورينتينو” بشعرية متأصلة، حيث يتم استبدال الحوار التقليدي أحيانا بمنولوغات شعرية، بالصور والأحاسيس. ويمتلك أحدث أفلامه طموح شعريا يحاول أن يمسك أكثر بذلك البعد الملحمي للوجود من خلال حياة “بارتونوبي”، حياة كاملة بين قوسي البداية والنهاية، حياة من الرغبات، والحيرة وغموض المعنى. الحياة فوضى مراوغة تفلت منك وتضيع فيها.  لسنا أمام منطق سردي يحكم السرد والشخصيات بل منطق أقرب للحلم أو مجاز الشعر، كقصيدة لا تريد أن تنتهي، حتى مع نزول التترات يظل الصوت الهامس الذي يرافق صور “سورنتينو” يخبرنا.. تذكر أن الرب لا يحب البحر.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى