خلية الأزمة – الجزء الأول
![](https://www.alsafahat.net/wp-content/uploads/2025/02/maxresdefault-780x470.jpg)
ما لم يُكشف من قبل.. “تلفزيون سوريا” يعرض مشاهد حصرية عن تفجير “خلية الأزمة“
2025.02.10
انفجارٌ غامض هزّ قلب دمشق منتصف عام 2012، حيث اجتمع كبار قادة الأمن لدى نظام الأسد في مقر مغلق، ثم أُعلن فجأة عن مقتلهم في عملية لا تزال تفاصيلها محاطة بالغموض، من دبّر هذا الهجوم؟ وكيف اخترقت العملية أحد أكثر المواقع تحصيناً في العاصمة السورية؟ في سلسلة وثائقية خاصة، يكشف “تلفزيون سوريا” عن مشاهد وأسرار تُعرض لأول مرة حول تفجير مكتب الأمن القومي، المعروف إعلامياً باسم تفجير “خلية الأزمة”، كما يعرض شهادات حصرية، ووثائق مسرّبة، وتحليلاً معمّقاً لأحداث غيّرت موازين القوى داخل النظام.
تُسلّط سلسلة “خلية الأزمة” الضوء على الأحداث التي سبقت تفجير مكتب الأمن القومي في دمشق، والذي أدى إلى مقتل شخصيات بارزة في نظام بشار الأسد، مثل هشام بختيار، رئيس مكتب الأمن القومي، وآصف شوكت، نائب وزير الدفاع وصهر الأسد، إضافة إلى حسن تركماني، نائب الرئيس ورئيس خلية الأزمة، وداود راجحة، وزير الدفاع، كما أسفر التفجير عن إصابة وزير الداخلية محمد الشعار، واللواء صلاح الدين النعيمي.
وقع التفجير في منطقة الروضة بدمشق، وهي منطقة معروفة بتمركز الأجهزة الأمنية والاستخبارية، وبعد ساعات من الحادث، أعلن التلفزيون الرسمي السوري أن مبنى الأمن القومي تعرّض لهجوم خلال اجتماع روتيني لكبار القادة العسكريين والأمنيين. ظلّ منفذ التفجير مجهولاً، ولم يكشف النظام عن تفاصيل الاجتماع المستهدف أو هوية المسؤول عن العملية، ما أثار تساؤلات عديدة حول طبيعة الهجوم وأبعاده السياسية.
في هذه السلسلة الوثائقية، يقدم “تلفزيون سوريا” مشاهد ووثائق تُعرض لأول مرة عن “خلية الأزمة”، تتناول الحلقات طبيعة هذه الخلية، ودورها في الأحداث التي شهدتها سوريا في تلك الفترة، ومدى ارتباطها بالنظام السوري. كما تبحث في تداعيات استهدافها وتأثير ذلك على النظام، في ظل تصاعد الاحتجاجات الشعبية التي بدأت عام 2011.
مع اندلاع الثورة السورية، شهد الشارع حراكاً سلمياً تصاعد تدريجياً، بدءاً من اعتصامات تضامنية مع ثورات الربيع العربي، وصولاً إلى مطالبات داخلية بالتغيير السياسي. أحد أبرز المشاهد المبكرة كان الاعتصام العفوي في ساحة الحريقة بدمشق، حيث هتف المتظاهرون بشعارات مناهضة للنظام، ما دفع الأجهزة الأمنية إلى شنّ حملة قمعية، تخللتها اعتقالات واعتداءات على المشاركين.
واجه النظام هذا الحراك بالقوة، فردّ المحتجون بأساليب جديدة، مثل كتابة الشعارات المناهضة له على الجدران، ورمي المنشورات الورقية، وصبغ مياه النوافير العامة باللون الأحمر رمزاً للدماء، إلى جانب تنظيم إضرابات عامة.
الباحث محمد منير الفقير، أحد قيادات الحراك السلمي في دمشق، يؤكد أن السلمية كانت النهج الأساسي للثورة، إذ كان المجتمع السوري، بمختلف فئاته، مقتنعاً بأن التظاهر السلمي هو الخيار الوحيد المتاح للتغيير.
مع استمرار القمع، تحوّلت الاحتجاجات إلى حركة أوسع امتدت إلى مختلف المحافظات السورية، مما دفع النظام إلى استخدام العنف المفرط لقمعها. لعبت “خلية الأزمة” دوراً رئيسياً في إدارة المواجهة مع المتظاهرين، لكن استهدافها لاحقاً شكّل ضربة موجعة للنظام، وطرح تساؤلات حول مدى تماسكه الداخلي، خاصة في ظل انشقاقات متزايدة داخل المؤسسات الأمنية والعسكرية.
تسعى السلسلة الوثائقية إلى تقديم تحليل شامل لتلك الفترة الحرجة، من خلال شهادات حصرية ووثائق مسرّبة، تكشف خفايا الاجتماعات الأمنية وآليات اتخاذ القرار في دوائر النظام المغلقة.
التصعيد الشعبي وقمع النظام
مع تصاعد الاحتجاجات الشعبية في سوريا، برزت دعوات لعدم اللجوء إلى السلاح خلال الأشهر الأولى، حيث قدّم المتظاهرون نماذج فريدة للنضال السلمي، خصوصاً في المدن التي تخضع لرقابة أمنية مشددة، مثل دمشق. في شهر آذار من عام 2011، شنّت قوات الأمن حملة اعتقالات واسعة بحق الناشطين المشاركين في حملة “شعارات الجدران”، التي بدأت قبل أسابيع، لكنها لم تفلح في كبح الحراك الشعبي.
جاءت أولى المظاهرات العلنية من قلب العاصمة دمشق، حيث خرج المتظاهرون في سوق الحميدية، فيما اعتُبر إعلاناً رسمياً عن انطلاق الثورة السورية. في اليوم التالي، شهدت ساحة وزارة الداخلية اعتصاماً، قبل أن تندلع شرارة الاحتجاج الأكبر في مدينة درعا، التي ردّت عليها قوات النظام بأسلوبها القمعي المعتاد. وسرعان ما انتشرت المظاهرات في مختلف المدن السورية، حيث خرجت الاحتجاجات تضامناً مع درعا، رغم القمع العنيف الذي واجهته.
في 16 من آذار، لم يكن المعتصمون أمام وزارة الداخلية سوى بضع عشرات، رفعوا صور المعتقلين وهتفوا للحرية، قبل أن تهاجمهم قوات الأمن وتدفع بمسيرة مؤيدة للنظام لمواجهتهم. هتف المعتصمون بشعارات مطالبة بالحرية، بينما ردّت المجموعات الموالية للنظام بشعارات تأييد لبشار الأسد. وبسرعة، تحولت الساحة إلى ساحة مواجهة، حيث تعرّض المتظاهرون للضرب والاعتقالات العشوائية.
في الأيام التي تلت الحادثة، بدأت سلطات النظام باتخاذ تدابير أكثر قسوة للسيطرة على المظاهرات. الناشطون الذين تم اعتقالهم تعرّضوا للاستجواب والتعذيب، حيث استُجوب بعضهم على يد مسؤولين أمنيين بارزين، مثل رستم غزالة، الذي أظهر موقفاً متصلّباً تجاه أي احتمال لنجاح الثورة في سوريا. أدرك النظام حينها أنه أمام تهديد حقيقي، ما دفعه إلى اتخاذ إجراءات استثنائية للحفاظ على قبضته الأمنية.
تشكيل “خلية الأزمة”
مع توسع رقعة الاحتجاجات في مختلف المحافظات السورية، شعر النظام بالخطر المتزايد، فقام بتشكيل مجموعة عمل خاصة ضمّت كبار القادة الأمنيين والعسكريين، حملت اسم “الخلية المركزية لإدارة الأزمات”، وعُرفت لاحقاً باسم “خلية الأزمة”. كان الهدف الأساسي من تشكيلها هو التعامل مع التصعيد الشعبي واتخاذ قرارات حاسمة لمواجهته.
أحد موظفي مركز الدراسات الاستراتيجية التابع للقيادة القُطرية لحزب البعث كشف أن النظام لم يكن يتوقع أي تحرّك شعبي في سوريا، ولم يكن يأخذ موجة الثورات العربية على محمل الجد. إلا أن المظاهرة التي اندلعت في ساحة الحريقة بدمشق عام 2011 قلبت الحسابات، ودفعت النظام إلى التحرّك سريعاً.
أول إشارة رسمية إلى “خلية إدارة الأزمة” ظهرت خلال اجتماع للقيادة القُطرية للحزب في أوائل آذار، أي قبل اندلاع مظاهرات 15 آذار، حيث بدأ العمل على تجهيز الخلية، وكان المخطّط الأولي أن تكون لجنة سياسية بحتة.
رغم القبضة الأمنية الحديدية، تصاعدت مطالب المحتجين من إصلاحات سياسية واقتصادية إلى مطلب رئيسي، وهو إسقاط النظام ورحيل بشار الأسد. هذا التحوّل دفع النظام إلى تشديد قبضته الأمنية بشكل أكبر، في حين تولّت “خلية الأزمة” مسؤولية إدارة العمليات الأمنية، والتعامل مع الحراك الشعبي بأساليب ممنهجة.
عبد المجيد بركات، الذي كان يشغل منصب مدير مكتب البيانات والمعلومات في “خلية الأزمة” قبل انشقاقه عن النظام في مطلع عام 2012، كشف عن كيفية عمل الخلية.
وأوضح بركات أن عملها كان يرتكز على تحليل المعلومات الواردة من مختلف المحافظات عبر أجهزة الأمن والجيش وحزب البعث، ثم اتخاذ القرارات بناءً على هذه البيانات. كانت الاجتماعات تُعقد بشكل يومي لاستعراض آخر المستجدات، حيث تُرفع التقارير إلى كبار القادة ليتم اتخاذ الإجراءات الأمنية المناسبة.
من جهته، تحدث اللواء الراحل محمود العلي، الذي انشق عن النظام السوري في عام 2013، في لقاء مسجل سابقاً، عن طريقة جمع المعلومات داخل الخلية، مؤكّداً أن النظام اعتمد على شبكة واسعة من المصادر الأمنية لرصد التحركات الشعبية وقمعها، ومع تصاعد المواجهات، بات واضحاً أن النظام كان مستعداً لاستخدام كافة الوسائل للبقاء في السلطة، حتى لو كلّف ذلك البلاد حرباً طويلة الأمد.
خلية الأزمة.. استراتيجية القمع وتحويل الثورة إلى ملف أمني
اعتمد النظام السوري منذ بداية الاحتجاجات على هيكل أمني محكم، حيث كانت لكل محافظة لجنة أمنية فرعية مكوّنة من المحافظ، وقائد الشرطة، ورؤساء فروع الأمن المختلفة، مثل الأمن السياسي، وأمن الدولة، والأمن العسكري، والمخابرات الجوية. كانت هذه اللجان مسؤولة عن جمع المعلومات بشكل يومي على مدار الساعة، وإرسالها إلى إداراتها المركزية في دمشق، حيث يتم تحليلها واتخاذ الإجراءات المناسبة لقمع التظاهرات.
العميد إبراهيم جباوي، الذي خدم في مدينة حمص قبل انشقاقه عام 2012، كشف عن آلية تجميع المعلومات داخل وزارة الداخلية، التي كانت تزوّد خلية الأزمة بتقارير يومية مفصّلة. تضمنت هذه التقارير عدد نقاط التظاهر، وأعداد المعتقلين، وحتى الخسائر المادية التي لحقت بالمحتجين، مثل الأعلام أو العصي، حيث كان يتم تسجيل أي ضرر بسيط على أنه دليل على “الشغب”. كان ضباط الشرطة يرسلون هذه التقارير إلى الضابط المناوب، الذي يرفعها بدوره إلى وزير الداخلية، بصفته عضواً في خلية الأزمة.
انقسام داخل خلية الأزمة.. بين الحلول السياسية والمقاربة الأمنية
مع تصاعد الاحتجاجات، انقسمت خلية الأزمة إلى فريقين: الأول اقترح تهدئة الشارع عبر الحوار مع الوجهاء، وإيجاد فرص عمل للشباب في المناطق الساخنة، بينما فضّل الفريق الثاني النهج الأمني والعسكري الصارم.
الوثائق المسربة تكشف أن بعض الشخصيات، مثل حسن تركماني، كانت تميل إلى الحلول السياسية، إلا أن هذا التوجه لم يكن مؤثراً أمام السطوة الأمنية للفريق المتشدّد.
كانت اجتماعات خلية الأزمة تُعقد في مبنى القيادة القُطرية لحزب البعث، قرب وزارة الدفاع في ساحة الأمويين بدمشق، وكان محمد سعيد بخيتان يرأسها، بعضوية قادة بارزين مثل داوود راجحة، ومحمد الشعار، وآصف شوكت، وصلاح الدين النعيمي، وجميل حسن، وعلي مملوك، ومحمد ديب زيتون، وعبد الفتاح قدسية، ومصطفى الشرع.
تبني “النموذج الجزائري”.. استراتيجية شيطنة الثورة
رئيس الوزراء السابق رياض حجاب، الذي انشق عن النظام عام 2012، كشف أن النظام اعتمد على ما سمّاه “النموذج الجزائري”، في إشارة إلى الأحداث الدموية التي شهدتها الجزائر خلال التسعينيات. وفقاً لحجاب، كان الهدف هو شيطنة الثورة السورية، عبر تثبيت تهمة الإرهاب على المحتجين، وإيجاد مبرر للقمع العسكري.
هذه السياسة لم تكن جديدة، إذ كشف الصحفي خالد خليل، الذي عمل في التلفزيون السوري حتى عام 2012، أن الإعلام الرسمي تحوّل بالكامل إلى أداة دعائية للنظام.
ومع مرور الوقت، استبدل النظام مصطلح “مندسين” بـ”إرهابيين”، وفرض رواية موحّدة تتحدث عن “مؤامرة كونية”. كان المراسلون يتعاونون مع قوات الجيش لتصوير مشاهد زائفة في مناطق المظاهرات، لإظهار أن الأمور تحت السيطرة.
التلاعب بالأحداث.. دفع الاحتجاجات نحو العسكرة
الوثائق المسرّبة من اجتماعات خلية الأزمة أكدت أن النظام عمل على تحويل الحراك السلمي إلى مواجهة مسلحة، عبر إدخال عناصر عنيفة ضمن الاحتجاجات، لتبرير القمع.
إحدى الشهادات تكشف عن حادثة في درعا، حيث تُركت سيارة عسكرية مليئة بالسلاح عمداً في الشارع، في محاولة لدفع المحتجين إلى حمل السلاح، وبالتالي إسقاط الشرعية عن المظاهرات السلمية.
عبد المجيد بركات، الذي كان مسؤولاً عن مكتب البيانات في خلية الأزمة قبل انشقاقه، سرّب وثائق تؤكد أن القيادة القُطرية لحزب البعث أوصت في تموز 2011 باستخدام الإعلام كسلاح، وربط الاحتجاجات بالإرهاب.
النظام يستغل التطرف لمصلحته
في إطار تعزيز الرواية الأمنية، اعتمد النظام على استراتيجية التحريض الطائفي واستفزاز المشاعر الدينية، من خلال بثّ مقاطع تُظهر عناصر الأمن وهم يطالبون المعتقلين بتمجيد بشار الأسد. هذه الأساليب دفعت بعض الجماعات المتشددة إلى دخول المشهد، مما منح النظام ذريعة إضافية لتشديد حملته العسكرية.
تُختتم الحلقة الأولى بمشاهد تمثيلية مثيرة، تلمّح إلى احتمال أن “التسميم كان السلاح الخفي” وراء تصفية أعضاء “خلية الأزمة”، تاركةً المشاهد في حالة من الترقب لمعرفة خفايا الحادثة في الأجزاء القادمة من السلسلة.
تلفزيون سوريا