سوريا.. كيف نربط بين القضايا الديمقراطية والاجتماعية والاقتصادية لخدمة 99% من الشعب؟/ جوزيف ضاهر
![](https://www.alsafahat.net/wp-content/uploads/2025/02/website-cover-2_jpg-780x470.jpg)
10 شباط 2025
كان النظام السوري بعيداً جداً عن الاشتراكية، أو يفتقر إلى أيّة هوية اقتصادية، بل إنه في الواقع اتبع المسار النيوليبرالي بنجاح مع عواقب كارثية على الغالبية العظمى من السكان. واليوم يبدو أنّ هيئة تحرير الشام على استعدادٍ لاتباع المسار النيوليبرالي نفسه، ما سوف يعمّق التفاوتات الاجتماعية والاقتصادية الحاليّة، ويُؤهّب لاستمرار الإفقار وانعدام التنمية الإنتاجية، وهذه كانت بعض الأسباب الرئيسية لانتفاضة عام 2011، ما يعني أن الهيئة لا تمثل قطيعة مع النظام السابق بل استمرارٌ له.
الجزء الأول: الليبرالية الجديدة، في ظلّ نظام الأسد أو هيئة تحرير الشام، هي وصفةٌ لعدم المساواة الاجتماعية والاقتصادية.
بعد سقوط نظام الأسد، شهدت دمشق ديناميكيةً كبيرة من حيث زيارات العائدين والناشطين المنفيين والسوريين من مناطق أخرى، وخاصة من المناطق الشمالية الغربية، فضلاً عن المؤتمرات والاجتماعات التي نظمتها مختلف الجهات السياسية والاجتماعية والمنظمات غير الحكومية والناشطين والمثقفين. ومن المؤسف أن بقية البلاد لم تشهد المستوى نفسه من الديناميكية، سواءٌ أكان بسبب العزلة السياسية والاقتصادية المتزايدة ووقوعها في محيط البلاد، أم بسبب انعدام الأمن والسلم الأهلي. ومع ذلك، يتم تنظيم مبادراتٍ ومؤتمرات محلية بشكلٍ متزايد في مناطق خارج دمشق، وفقاً للقدرات المحلية وظروف كلّ منطقة.
لقد حظيتُ بشرف مشاهدة هذه الديناميكية في بداية العام، وخاصة في دمشق، أثناء زيارتي للسويداء وحلب، ومروري السريع بحمص. أتيحت لي فرصة المشاركة في اجتماعاتٍ عديدة، والمناقشة والتبادل مع كثيرٍ من الناشطين السياسيين والإعلاميين والنسويين والفاعلين السياسيين والسجناء السياسيين السابقين والطلاب والأفراد المشاركين في الجمعيات المحلية والعاملين في المنظمات غير الحكومية والمنظمات الدولية غير الحكومية، إلخ… القادمين من مناطق مختلفة من الجغرافيا السوريّة، بما فيها دمشق.
وقد أفادتني جميع هذه المناقشات والتبادلات. كان هدفي الرئيسي خلال هذه الفترة في سوريا هو الاستماع والرؤية والتعلّم من أجل فهمٍ أفضل لتعقيد الديناميكيات المختلفة داخل البلاد، دون التظاهر بامتلاك المعرفة الكاملة.
تركّزت المناقشات والحوارات على قضية المواطنة والديمقراطية والحوار الوطني أو المؤتمر الوطني وصيغته وحقوق المرأة والوضع الأمني في حمص والمناطق الساحلية وقضية السلم الأهلي والقضية الكردية والطائفية والسجناء والمختفين السياسيين، إلخ.. وبالمثل، ناقشنا الحكومة الجديدة لهيئة تحرير الشام وسياساتها وكيفية التعامل معها. وبغضّ النظر عن تنوّع الآراء حول كلّ هذه القضايا وحكومة هيئة تحرير الشام، فقد اتفقت الغالبية العظمى على ضرورة ضمان وتعزيز قدرة المجتمع المدني (ليس فقط المنظمات غير الحكومية ولكن في تعريفه الأوسع) على تنظيم نفسه وصياغة أحد أشكال القوّة المضادة داخل البلاد لمعارضة أيّة حكومة استبدادية محتملة في المستقبل. وتُظهر الإعلانات الأخيرة عن تعيين أحمد الشرع رئيساً مؤقتاً، ومسؤوليته عن تشكيل “مجلس تشريعي مؤقت”، بعد حلّ البرلمان وتجميد الدستور، رغبة هيئة تحرير الشام في الهيمنة السياسية على الانتقال السياسي السوري.
ومع ذلك، ظلّت القدرة والأدوات اللازمة لتعزيز هذه المشاركة من الأسفل في كثير من الأحيان سؤالاً مفتوحًا، خاصة في بلد عانى من دمار هائل ويعيش 90٪ من سكانه تحت خط الفقر. وهذا يقودني إلى القضية الرئيسية التي غابت إلى حدٍّ كبير عن المناقشات والمناظرات في سوريا: الاقتصاد والتوجّه الذي يجب اتباعه من أجل معالجة قضايا كالفقر والتفاوت الاجتماعي والاقتصادي والتنمية الإنتاجية للاقتصاد، وما إلى ذلك.. وبشكل عام، فإنّ التوجّه الاقتصادي للحكومة الحاكمة الجديدة لا تتمّ مناقشته أو مناقشته كثيراً، باستثناء مسألة شرعيتها لاتخاذ مثل هذه القرارات.
إنّ القدرة على تحسين الظروف الاجتماعية والاقتصادية في مستقبل البلاد أمرٌ بالغ الأهمية لتوسيع المشاركة بين الطبقات الشعبية والعمالية المحلية في المناقشات والنضالات من أجل الحقوق الديمقراطية في البلاد والقضايا المذكورة أعلاه. إنّ عدم قدرة قطاعات كبيرة من السكان على رؤية كيف سيتعاملون مع حياتهم اليومية، وتغطية احتياجاتهم الأساسية، وإيجاراتهم، والكهرباء، ورسوم المدارس، وما إلى ذلك.. يمنع إدماجهم ومشاركتهم في القضايا والنضالات الديمقراطية، التي تقتضي مصالحهم الشخصية أن ينجحوا فيها. تكمن خطورة هذا الوضع في أن تظل القضايا الديمقراطية محلّ مناقشة بين شرائح صغيرة من المجتمع، أي نخبوية.
في هذا الإطار، سأحاول في هذا المقال إظهار ضرورة ربط القضايا الديمقراطية والاجتماعية والاقتصادية لزيادة مشاركة قطاعات كبيرة من السكان من الأسفل. في القسم الأول، سأعود بإيجاز إلى التوجّه الاقتصادي النيوليبرالي لهيئة تحرير الشام في السلطة، وكيف أنه لا يمثّل قطيعة مع السياسات الاقتصادية للنظام السابق، بل هو استمرارٌ لها أو حتى تسريع. وسوف أعرض بعد ذلك المشروع السياسي والاقتصادي التاريخي لليبرالية الجديدة في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، وأحلّل التجارب الإقليمية المختلفة للسياسات النيوليبرالية في فترة ما بعد الحرب، لبنان والعراق كمثال، وعواقبها على الاقتصاد والسكان. وسوف يتناول القسم الأخير الحاجة إلى إعادة تنشيط النقابات العمالية والجمعيات المهنية، ودورها في تعزيز المطالب الديمقراطية والاجتماعية والاقتصادية، ولكن الأهمّ من ذلك هو نوع المطالب الفورية التي يمكن طرحها لمحاولة تحسين الاقتصاد وظروف المعيشة في الأمد القريب.
هيئة تحرير الشام، أو الليبرالية الجديدة الإسلامية
منذ وصول هيئة تحرير الشام إلى السلطة، أصدرت الحكومة الحالية عدّة تصريحات وقرارات تجاه السوق الحرة وإجراءات التقشف. وفي مناسباتٍ عديدة، وصف وزير الاقتصاد الجديد، التابع لهيئة تحرير الشام، التوجّه الاقتصادي النيوليبرالي للحكومة الجديدة، قائلاً على سبيل المثال “سننتقل من اقتصاد اشتراكي… إلى اقتصاد سوق حر يحترم الشريعة الإسلامية”. وبصرف النظر عن الخطأ الكامل في وصف النظام السابق بالاشتراكي، كما سنرى في النص، فإنّ التوجه الطبقي للوزير انعكس بوضوح في التأكيد على أنّ “القطاع الخاص… سيكون شريكاً ومساهماً فعالاً في بناء الاقتصاد السوري”. كما عقد زعيم هيئة تحرير الشام أحمد الشرع ووزير اقتصاده عدّة اجتماعات مع ممثلي هذه الغرف الاقتصادية ورجال الأعمال من مناطق مختلفة، لشرح رؤاهم الاقتصادية والاستماع إلى مظالمهم من أجل إرضاء مصالحهم. ولا تزال الغالبية العظمى من ممثلي الغرف الاقتصادية المختلفة للنظام القديم تشغل مناصبها.
وعلى النقيض من ذلك، لم تُنظّم السلطات الجديدة لقاءاتٍ مع العمال والفلاحين وموظفي الدولة، ولا مع النقابات أو الجمعيات المهنية، بشأن اقتصاد البلاد المستقبليّ، ولم تأتِ على ذِكره.
فضلاً عن ذلك، هناك علاماتٌ ملموسة على تسريع عملية الخصخصة وإجراءات التقشف في البلاد. قبل زيارته للمنتدى الاقتصادي العالمي في دافوس، الأشبه بمؤتمرٍ للمصالح المشتركة بين النخب الغربية والعالمية في ديناميكيات الرأسمالية الليبرالية الجديدة، قال وزير الخارجية السوري أسعد الشيباني لصحيفة فاينانشال تايمز إنّ الحكام الجدد يخططون لخصخصة الموانئ والمصانع المملوكة للدولة، بما في ذلك مصانع الزيوت والقطن والأثاث، ولدعوة الاستثمار الأجنبي وتعزيز التجارة الدولية. وأضاف أنّ الحكومة “ستستكشف الشراكات بين القطاعين العام والخاص لتشجيع الاستثمار في المطارات والسكك الحديدية والطرق”.
وعلى صعيد الإجراءات التقشفية، تم اتخاذ عدّة قرارات، بدءاً من زيادة سعر الخبز المدعوم من 400 ليرة سورية (وزن 1100 غرام) إلى 4000 ليرة سورية (وزن 1500 غرام)، والإعلان عن وقف دعم الخبز خلال شهر إلى شهرين تماشياً مع تحرير السوق وتقليص عدد موظفي الدولة في مختلف الوزارات عبر حملات الفصل. وأعلن وزير الاقتصاد والتجارة عن تسريح ربع القوى العاملة في الدولة، أيّ الموظفين الذين يتقاضون راتباً ولا يعملون، بحسب الحكومة الجديدة. ومنذ ذلك الحين، لا توجد تقديرات لعدد الموظفين المفصولين، بعضهم حالياً في إجازة مدفوعة الأجر لمدّة ثلاثة أشهر، للبتّ في وضعهم، سواء أكانوا يعملون أم لا. وعلى إثر هذا القرار، اندلعت احتجاجات العمال المفصولين أو الموقوفين مؤقتاً في مختلف أنحاء البلاد، ولا تزال مستمرة حتى اليوم.
ورغم الإعلان عن رفع أجور العمال بنسبة 400% لشهر شباط 2025، ليصبح الحدّ الأدنى للأجور 1,123,560 ليرة سورية (حوالي 86 دولاراً)، وهي خطوة في الاتجاه الصحيح، إلا أنها لا تزال غير كافية لتغطية احتياجات الناس خلال أزمة غلاء المعيشة المستمرة، وبحسب تقديرات صحيفة قاسيون، بلغ الحد الأدنى لتكاليف المعيشة لأسرة سورية مكونة من خمسة أفراد تعيش في دمشق 9 ملايين ليرة سورية (حوالي 692 دولاراً ).
إلى جانب التدابير والقرارات الأخرى للسيطرة على مؤسسات الدولة، وخاصة الجيش والأجهزة الأمنية، فإنّ السياسات الاقتصادية لهيئة تحرير الشام هي جزءٌ من خطة أوسع لتعزيز قوتها. وفي هذا الإطار، تحاول هيئة تحرير الشام أيضًا تهدئة المخاوف الأجنبية، وإقامة اتصالات مع القوى الإقليمية والدولية، والاعتراف بها كقوّة شرعية يمكن التفاوض معها. إنّ تغيير العواصم الإقليمية والدولية لسلوكها تجاه هيئة تحرير الشام واضحٌ بالفعل، ولا سيما من خلال رفع العقوبات أو تعليقها مؤقتًا من قبل الدول الغربية. من الواضح أن أنقرة هي الفاعل السياسي والعسكري الرئيسي في سوريا الجديدة. من خلال تقديم دعمها لهيئة تحرير الشام، تعمل أنقرة على تعزيز سلطتها على سوريا. إلى جانب الأهداف السياسية الأخرى، كتنفيذ عمليات العودة القسرية للاجئين السوريين، وإنكار التطلعات الكردية للحكم الذاتي، وبشكل أكثر تحديداً تقويض الإدارة الذاتية لشمال وشرق سوريا، تريد تركيا الاستفادة من الفرص الاقتصادية المستقبلية خلال مرحلة إعادة الإعمار في سوريا، لتجعلها بعد ذلك سوقَ تصديرٍ رئيسية للمنتجات التركية.
كما قامت وفود رجال الأعمال الأتراك بالفعل بزيارات إلى غرف التجارة والصناعة المختلفة في سوريا للاطلاع على فرص الاستثمار المحتملة. وفي نهاية يناير/ كانون الثاني 2025، خفضت دمشق الرسوم الجمركية على أكثر من 260 منتجاً تركياً، بعد أن رفعت الحكومة السورية الرسوم الجمركية على الواردات التركية بنسبة تصل إلى 300 في المئة، بهدف توحيد الأسعار عبر حدودها. وبشكل عام، اكتسبت التجارة بين تركيا وسوريا زخماً كبيراً في بداية عام 2025، حيث زادت الصادرات التركية إلى سوريا بنسبة 35.5 في المئة على أساس سنوي، لتصل إلى 219 مليون دولاراً اعتباراً من 25 يناير/ كانون الثاني، وفقًا لوزير التجارة التركي عمر بولات. وبالإضافة إلى ذلك، اتفق المسؤولون السوريون والأتراك على بدء مفاوضاتٍ لإحياء اتفاقية التجارة الحرة بين تركيا وسوريا، الموقّعة في عام 2005، والتي تمّ تعليقها في عام 2011، مع فهم أوسع للشراكة الاقتصادية. وهذا من شأنه أن يؤثر على الإنتاج الوطني السوري الذي لا يستطيع منافسة المنتجات التركية. وللتذكير، فإنّ اتفاقية التجارة الحرة بين تركيا وسوريا في عام 2005 وما نتج عنها من استيراد هائل للمنتجات التركية لعبت دوراً سلبياً في تهجير الموارد الإنتاجية وإغلاق العديد من مصانع التصنيع المحلية، وخاصة تلك الواقعة في ضواحي المدن الرئيسية.
وعلى نحوٍ مماثل، من المرجح أن تلعب قطر دوراً رئيسياً كركيزة اقتصادية. ففي نهاية يناير/كانون الثاني 2025، كان أمير قطر تميم بن حمد آل ثاني أول رئيس دولة يزور سوريا بعد سقوط الأسد. وأعلن رئيس الوزراء القطري محمد بن عبد الرحمن آل ثاني، الذي زار دمشق في منتصف يناير/كانون الثاني، أن بلاده ستزوّد سوريا بـ 200 ميغاواط من الكهرباء وتزيد الإنتاج تدريجياً. ولا يزال هذا الأمر ينتظر التنفيذ. وعلاوة على ذلك، كانت هناك شائعات بأن الدوحة قد تموّل أيضاً زيادة أجور القطاع العام التي تقرّرها السلطة السورية الجديدة.
وبالتالي، يحاول الطرفان الفاعلان، تركيا وقطر، بالفعل تقديم أشكال مختلفة من المساعدة (السياسية والعسكرية والاقتصادية) للحكومة الجديدة في دمشق.
وفي الوقت نفسه، يعمل الشرع على بناء علاقات مع دول عربية أخرى. على سبيل المثال، أشادت هيئة تحرير الشام بخطط التنمية الطموحة للمملكة العربية السعودية، في إشارة إلى مشروعها رؤية 2030، وأعربت عن تفاؤلها بالتعاون المستقبلي بين دمشق والرياض. بالإضافة إلى ذلك، تم مؤخراً إبرام عقد بين شركة أسمنت الجوف ومقرها السعودية وشركة محمد شاهي الرويلي للمقاولات لتصدير الأسمنت والكلنكر إلى سوريا بقيمة حوالي 10.1 مليون دولار.
وعلى رغم أنّ مسؤولي هيئة تحرير الشام روّجوا لهذه السياسات التحريرية وتدابير التقشف مع “العصر الاشتراكي” لنظام الأسد، إلا أنّ هذا الأمر في الواقع يشكل استمراريةً للسياسات الاقتصادية للنظام السابق وتسريعاً لبعض عملياته.
وكما أوضحنا في مقالات سابقة، ففي حين أنهى حافظ الأسد السياسات الاجتماعية الجذرية التي انتهجها حزب البعث في نهاية الستينيات، شهدت سوريا تحت حكم بشار الأسد تسارعاً في السياسات النيوليبرالية. ولم يؤدِ اندلاع الثورة إلا إلى تكثيف السياسات والتوجّهات النيوليبرالية التي تبناها النظام السوري قبل الحرب، إلى جانب تعميق إجراءات التقشف، وتعزيز الجوانب الاستبدادية والوصائية للنظام. وقد ساهمت هذه السياسات في توسيع ديناميكيات وممارسات الفساد في البلاد.
وقد تجسّد هذا التوجّه والأولوية للقطاع الخاص في فبراير/شباط 2016 بإعلان الحكومة السورية عن “الشراكة الوطنية”، وهي استراتيجية اقتصادية سياسية جديدة حلّتْ محل “اقتصاد السوق الاجتماعي” السابق الذي تأسّس في عام 2005. ومن الجوانب الأساسية للاستراتيجية الجديدة قانون “الشراكات بين القطاعين العام والخاص” الذي صدر في يناير/كانون الثاني 2016، بعد ست سنوات من صياغته، والذي يخوّل القطاع الخاص بإدارة وتطوير أصول الدولة في جميع قطاعات الاقتصاد كمساهم/مالك أغلبية، باستثناء استخراج قطاع النفط.[1] وأعلن وزير الاقتصاد والتجارة الخارجية السابق همام الجزائري أنّ القانون أنشأ “إطاراً قانونياً لتنظيم العلاقات بين القطاعين العام والخاص ويلبي الاحتياجات الاقتصادية والاجتماعية المتزايدة في سوريا، وخاصة في مجال إعادة الإعمار”، مع توفير الفرصة للقطاع الخاص “للمساهمة في التنمية الاقتصادية كشريك رئيسي وفعال، والمساعدة أيضاً في تطوير القطاع العام من خلال العلاقات التعاقدية المحدودة زمنياً مع القطاع الخاص”.
ولقد اتبعت الحكومات السورية المتعاقبة سياسات التحرير والخصخصة، بما في ذلك شركات الدولة التي تراكم الأرباح مثل تحرير تجارة التبغ الذي أعلن عنه في مايو/أيار 2024 أو التعاقد مع شركة خاصة لإدارة الخطوط الجوية السورية في يوليو/تموز 2024. وبالإضافة إلى ذلك، أعلنت دمشق في أكتوبر/تشرين الأول 2024 عن اتفاق لخصخصة إنتاج لوحات السيارات قبل بدء حملة لإجبار أصحاب المركبات على تحديث لوحات سياراتهم بلوحات مصمّمة حديثًا. كما تم إبرام مشاريع شراكة أخرى بين القطاعين العام والخاص، وخاصة في صناعة الأسمنت والجرارات والبطاريات والأدوية.
تؤدّي عملية الخصخصة هذه إلى تعزيز نفوذ رجال الأعمال التابعين للنظام وسيطرتهم على السلع العامة، على حساب مصالح الدولة والعامة. وبالتالي، تعمل هذه السياسات الاقتصادية على تجديد استراتيجيات تراكم رأس المال الخاص التي تعود إلى ما قبل عام 2011، وفي الوقت نفسه تجديد وتعزيز استبداد النظام وسلطته الأبوية.
في نوفمبر/ تشرين الثاني 2024، قال وزير الصناعة في النظام السابق، محمد سامر الخليل: إنّ هناك خسائر ضخمةً في عدد كبير من الشركات والمؤسسات والمصانع التابعة للوزارة، مما يثقل كاهل خزينة الدولة. ولإيجاد حل لهذه المشكلة، دعا إلى بيع هذه الشركات للقطاع الخاص. كذلك شجع رئيس الوزراء محمد غازي الجلالي في الواقع عملية سياسة الخصخصة المستمرة لأصول الدولة.
وقد شمل استعداد النظام السابق لخصخصة الاقتصاد بشكل أكبر أيضًا قطاعاتٍ اجتماعية رئيسية، كنظام الصحة والتعليم، وفي قطاع الطاقة، حيث اتُّخذتْ خطواتٌ فعلية مماثلة لمزيدٍ من الخصخصة.
في هذا الإطار، ولترسيخ هذه الديناميكيات، عمدت الحكومة أيضًا إلى تعميق إجراءات التقشف وخفض سياسات الدعم، من خلال زيادة أسعار النفط والديزل والكهرباء والخبز بشكل مستمر في السنوات القليلة الماضية، مع تقليص الكمية المدعومة المقدمة. وعلاوة على ذلك، استبعدت دمشق أيضًا حوالي 600 ألف أسرة من برنامج الدعم الخاص بها في فبراير/شباط 2022. لذلك كان النظام السوري بعيداً جداً عن الاشتراكية، أو يفتقر إلى أيّة هوية اقتصادية، بل إنه في الواقع اتبع المسار النيوليبرالي بنجاح مع عواقب كارثية على الغالبية العظمى من السكان. في نهاية المطاف، تشترك هيئة تحرير الشام في هذا التحليل وهي على استعداد لاتباع المسار النيوليبرالي، ما سوف يعمّق التفاوتات الاجتماعية والاقتصادية الحاليّة، ويُؤهّب لاستمرار الإفقار وانعدام التنمية الإنتاجية، وهذه كانت بعض الأسباب الرئيسية لانتفاضة عام 2011. في هذا الإطار، لا تمثل هيئة تحرير الشام قطيعةً مع النظام السابق بل هي استمرارٌ له.
الليبرالية الجديدة في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا
من بين جميع المناطق التي يطلق عليها “الجنوب العالمي”، فإنّ منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا هي أكثرها معاناةً من أزمة التنمية الأكثر حدة. فبعد ستينيات القرن العشرين، حيث كانت أغلب اقتصادات المنطقة خاضعة لسيطرة القطاع العام من منظور تنمية الدولة، شهدت السبعينيات تدشيناً وتوسيعاً تدريجيّاً لما يسمّى بسياسات “الانفتاح”. وبالتالي، كانت بعض البلدان في المنطقة، ومصر على وجه الخصوص، رائدةً في “برامج التكيّف الهيكلي” التي فرضت في جميع أنحاء العالم، منذ ثمانينيات القرن العشرين فصاعداً، كجزءٍ من التحرير النيوليبرالي. ومنذ ثمانينيات القرن العشرين، تبنّتْ غالبيةٌ من دول منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا نموذجاً نيوليبرالياً يركّز على الاستثمار المضاربي بحثاً عن أرباح قصيرة الأجل في القطاعات غير المنتجة في الاقتصاد، وخصوصاً في العقارات والتمويل والتجارة.
إنّ الليبرالية الجديدة تنظيمٌ خاص للرأسمالية لضمان الظروف لإعادة إنتاج الرأسمالية على نطاق عالمي، وكجزءٍ من هجوم الطبقة الحاكمة، الذي مرّ بفترات ركودٍ في السبعينيات والثمانينيات، وأدى إلى إعادة هيكلة وتوليد أشكال جديدة وموسّعة من التراكم الرأسمالي.
لقد أصبحت هذه السّماتُ إقليمية بشكل تدريجي في أعقاب أزمة الأنظمة القومية العربية منذ السبعينيات، التي دفعتها إلى التخلّي عن سياساتها الاجتماعية السابقة، (كالسيطرة المحلية على الصناعة، ودعم التعليم، ودعم السلع الأساسية، وسيطرة الدولة على الأراضي والموارد الأخرى)، وعملت بشكل متزايد على تغيير سياساتها الخارجية لسببين رئيسيين: الأول أنها عانت من الهزيمة على يد إسرائيل، والثاني أنها بدأت أساليبها الرأسمالية في التنمية في الركود. ونتيجة لذلك، اختارت التقارب مع الدول الغربية وحلفائها في الخليج وتبنت الليبرالية الجديدة، وتراجعت عن العديد من الإصلاحات الاجتماعية التي أكسبتْها شعبيةً بين العمال والفلاحين.
وعلى مساراتٍ مختلفة، بدأت خصخصة السلع العامة في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا مع السياسات النيوليبرالية في أوائل التسعينيات، وخاصة في القطاعات الصناعية والعقارية والمالية. كما بدأت المؤسسات المالية الدولية في الترويج للشراكات بين القطاعين العام والخاص في الدول الإقليمية، واتّبعت الطريقة نفسها في مختلف أنحاء العالم كأداة جديدة للخصخصة وإدارة السلع العامة من قِبَل كيانات خاصة. وقد تبنت دولٌ عديدة في الشرق الأوسط بالفعل تشريعات الشراكة بين القطاعين العام والخاص من أجل مضاعفة خصخصة الخدمات العامة والبنية الأساسية للدولة. وفي المملكة العربية السعودية، أصبحت الشراكات بين القطاعين العام والخاص عنصراً أساسيا في الاستراتيجية الاقتصادية والسياسية لرؤية 2030 التي روّج لها الأمير محمد بن سلمان. ويوضح برنامج التحوّل الوطني 2020، الذي قدّم بعد رؤية 2030، السياسات الاقتصادية لفريق القيادة السعودي الجديد، ويضع رأس المال الخاص في مركز الاقتصاد السعودي المستقبلي. وقد أعلنت الحكومة السعودية عن خططها لتنظيم الشراكات بين القطاعين العام والخاص للعديد من الخدمات الحكومية، بما في ذلك قطاعاتٌ مثل التعليم والإسكان والصحة. ووصفت صحيفة “فاينانشيال تايمز” الخطط بأنها “ثاتشرية سعودية”، وهي الخطة الاقتصادية التي أشاد بها مسؤولون في هيئة تحرير الشام، ومنهم أحمد الشرع.
وفي الوقت نفسه، أبقت الدول الضرائب المفروضة على الشركات الأجنبية والمحلية منخفضة، وضمنت لها العمالة الرخيصة. لقد عملت أجهزة القمع التابعة للأنظمة كـ “عملاء أمن” يحمون مصالح هذه الشركات ويتخذون إجراءات صارمة ضد العمال والفلاحين والفقراء. لقد خفضت الدول الخدمات العامة، وألغت الدعم عن الضروريات الأساسية مثل الغذاء، وخصخصت الصناعة الحكومية التي تبيعها غالبًا لرجال الأعمال المرتبطين بمراكز السلطة السياسية. ونتيجة لذلك، تتميّز جميع بلدان المنطقة بعدم المساواة الطبقية الشديد، ومعدلات الفقر المرتفعة، والعمالة غير الرسمية المرتفعة (المجرّدة من حقوق الحماية التي يمنحها العمل، حتى المحدودة منها) والبطالة المرتفعة، وخاصة بين الشباب. لذلك يغادر المتعلّمون وذوو المهارات القيّمة بلدانهم بحثًا عن فرص عملٍ في أماكن أخرى. وفي حالة ممالك الخليج، تعتمد اقتصاداتها على العمال المهاجرين المؤقتين الذين يشكلون غالبية السكان العاملين وهم محرومون من الحقوق السياسية والعمالية والمدنية. تُعدّ نسبة العمال المهاجرين في ممالك الخليج من بين أعلى النسب في العالم بمتوسط 70.4 في المئة، وتتراوح من 56 إلى 93 في المئة للدول.
إن عملية الإصلاحات النيوليبرالية المصحوبة بالخصخصة وتدابير التقشف لم تعنِ تراجع الدولة، بل إعادة نشرها بطرق تعدّل الحكم الاستبدادي. لقد أدت هذه السياسات النيوليبرالية في الواقع إلى مرحلة جديدة من “الاستبداد المتطور”.
ولذلك فإنّ اندلاع الانتفاضات الشعبية في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في عام 2011 لم يكن نتيجة للأزمة الاقتصادية العالمية في عام 2008. لا شك أنّ الركود العظيم ساعد في إشعال فتيلها، لكن المنطقة تعاني من مشاكل هيكليّةٍ أعمق مقارنة ببقية النظام العالمي. يركز هذا النمط من الإنتاج الرأسمالي على استخراج النفط والغاز الطبيعي، وتخلف القطاعات الإنتاجية، والإفراط في تطوير الخدمات، وتغذية أشكال مختلفة من الاستثمار المضاربي وخاصة في العقارات.
إن منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا اليوم هي المنطقة الأكثر تفاوتاً في العالم. فقد وجدت دراسة قامت بقياس مدى وتطوّر تركيز الدخل في المنطقة بين عامي 1990 و2016 أنّ 64% من إجمالي الدخل ذهب إلى أعلى 10% من أصحاب الدخل، مقارنة بـ 37% في أوروبا الغربية، و47% في الولايات المتحدة، و55% في البرازيل. وفي الوقت نفسه، لم يتلقَّ أدنى 50% من سكان المنطقة سوى 9% من إجمالي الدخل، مقارنة بـ 18% في أوروبا.
علاوة على ذلك، دعونا نرى كيف أثرت السياسات النيوليبرالية في مختلف البلدان الإقليمية التي مرّت بفترة ما بعد الصراع على اقتصاداتها وسكانها المحليين، وعمّقت في كثير من الأحيان ديناميكيات ما قبل الحرب كما حدث في سوريا.
إنّ جذور الأزمة المالية التي شهدها لبنان في عام 2019، على سبيل المثال، تكمن في الاقتصاد السياسي للبلاد والطريقة التي تطوّر بها منذ نهاية الحرب الأهلية اللبنانية، حيث كان هناك تركيز ثابت على التكامل الأعمق في الاقتصاد العالمي، وبما يماثله على نمو القطاع الخاص. وقد عزّزت هذه السياسات النيوليبرالية بعض السمات التاريخية للاقتصاد اللبناني: نموذج التنمية الذي يركز على النظام المالي والعقارات والخدمات، حيث أصبحت التفاوتات الاجتماعية والفوارق الإقليمية واضحة. وقد أدّت هذه السياسات إلى تفاقم التفاوتات المكانية والاجتماعية في لبنان وترتبط ارتباطًا وثيقًا بالطبيعة المالية الشديدة للاقتصاد السياسي في البلاد، وتهميش قطاعات مهمة مثل الزراعة والصناعة. وقد استفادت النخب الاقتصادية والسياسية الطائفية أكثر من غيرها من هذه السياسات، من خلال مخطّطات الخصخصة المختلفة ومن خلال التخصيص الزبائني للعقود الحكومية أيضًا.
في العراق، وبعد احتلال القوات الأميركية والبريطانية للبلاد، قامت هذه التحالفات بخصخصة الجزء الأعظم من اقتصاد البلاد وتسليمه إلى الشركات الأجنبية باسم إعادة الإعمار. وخلال الأشهر الثلاثة عشر التي قضاها في السلطة، أصدر بول بريمر، المدير المدني لسلطة التحالف المؤقتة التي عيّنتها إدارة بوش، نحو مئة أمر من أوامر سلطة التحالف، بما في ذلك الأمر رقم 394، الذي تعامل مع الاستثمارات الأجنبية. ولعب هذا الأمر دوراً رئيسياً في المسيرة القسرية للعراق نحو اقتصاد ليبرالي جديد، حيث سمح للمستثمرين الأجانب بالتمتّع بذات الحقوق التي يتمتّع بها العراقيون في تطوير السوق الوطنية، في حين خصخص القطاع العام العراقي بأكمله. وعلى هذا فقد تأثرت نحو 200 شركة وطنية: السكك الحديدية، والكهرباء، وإمدادات المياه والصرف الصحي (البنية الأساسية التي دمرها التحالف البريطاني الأميركي في معظمها)، والتلفزيون والإذاعة، والمستشفيات (التي كانت مجانية في السابق)، وخدمة الهاتف، والمطارات، إلخ.. كما تسمح الإصلاحات بملكية أجنبية تصل إلى 100% من الشركات العراقية، باستثناء صناعة النفط والبنوك التعدينية وشركات التأمين. وتضمنت هذه الإصلاحات الحفاظ على ضريبة الشركات بمعدل منخفض يبلغ 15%، وخصخصة المرافق المملوكة للدولة العراقية ومنح المقاولين الأجانب الحصانة من التشريعات العراقية، بما في ذلك شركات الأمن الخاصة. وقد اتبعت الطبقة الحاكمة العراقية هذه السياسات بعد ذلك. كما كانت الزراعة في العراق واحدة من القطاعات التي تأثرت عميقاً بالإصلاحات التي أعقبت الغزو، فقبل عام 2003، كان العراق مكتفياً ذاتياً زراعياً. وحتى عام 2002 ظل مكتفياً ذاتياً بالفاكهة والخضروات. وقد طوّر المزارعون في العراق صناعة بذور ذاتية التشغيل خاضعة لسيطرة مركزية عبر تقاسم البذور من خلال المزارعين. بعد غزو العراق عام 2003، تم تدمير النظام الزراعي ولم يعد هناك بنكٌ للبذور الوطنية. وبحلول عام 2005، لم يكن سوى 4% من الزراعة في العراق تُزرع من بذورها الخاصة. وبعد ذلك، سعت الحكومات العراقية المتعاقبة إلى تنفيذ مشروع التحوّل النيوليبرالي للبلاد. وكانت السياسات النيوليبرالية، المصحوبة بالفساد المستشري والمحسوبية، بكل ما للمحسوبية من آثار مدمرة على المجتمع العراقي.
وبشكل عام، وكما هو الحال في سوريا، اغتنم عددٌ من البلدان الخارجة من الحروب، و/أو الأزمات الشديدة، الفرصة لمواصلة و/أو تعميق التحرير الاقتصادي، غالباً بمساعدة المؤسسات المالية الدولية. ولا ينبغي اعتبار هذه السياسات مجرّد سياسات “تكنوقراطية”، بل إنها محاولات لإعادة الهيكلة ودفع التغييرات إلى الأمام بطرق كانت مغلقة في السابق، وتوسيع نطاق السوق بشكلٍ كبير في مجموعة من القطاعات الاقتصادية التي كانت حتى الآن خاضعة لسيطرة الدولة إلى حد كبير.
لقد أهمل العديد من الاقتصاديين، والسياسيين ومنافذ المنظمات غير الحكومية والتقارير ذات التوجّه الليبرالي، تأثيرات الديناميكيات الاقتصادية النيوليبرالية في سوريا ومنطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا على نطاق أوسع، وركزوا على النفوذ المتزايد المستمر لرأسماليي المحسوبية والمستويات العالية من الفساد لتفسير أوجه القصور الاقتصادية و/أو الأزمة والتوزيع غير المتكافئ للثروة. وفي الوقت نفسه، يجب تحدّي مفهوم “عملية للديمقراطية” الذي تدعمه المؤسسات النقدية الدولية في إطار “الإصلاحات” و”سياسات الحكم الرشيد” من أجل تعزيز السياسات النيوليبرالية. وكما سنرى، فإنّ هذه الإصلاحات الليبرالية الجديدة أدّت، من ناحية أخرى، إلى تعزيز الاستبداد والطابع الميراثي لدول المنطقة.
وعلى رغم أنّ المساءلة والشفافية الاقتصادية تشكلان ضرورة، فإن فشل الهياكل والسياسات الاقتصادية للأنظمة الإقليمية في توليد النمو المستدام والطويل الأجل، إلى جانب انخفاض مستويات الاستثمار العام في القطاعات الإنتاجية للاقتصاد، هي السبب الرئيسي وراء الوضع الاقتصادي في المنطقة. ويشمل هذا سوريا إلى جانب عناصر أخرى مثل العقوبات وآثار الحرب. وبعبارة أخرى، كانت التنمية الاقتصادية الإقليمية، ولا تزال، معوقة في كثير من النواحي، بسبب نمط الإنتاج: الرأسمالية المضاربية والتجارية التي تتميّز بالسعي إلى الربح في الأمد القريب.
الجزء الثاني: التعبئة من الأسفل والمطالب الاقتصادية الفورية
لقد جلب سقوط نظام الأسد تغييراتٍ على مستوى النخب السياسية الحاكمة والمؤسسات العسكرية الرئيسية (الجيش والأجهزة الأمنية)، لكنه لم يغيّر كما شرحنا أعلاه النظام النيوليبرالي لتراكم رأس المال ونمط الإنتاج نفسه. وفي حين أنّ نهاية سلالة الأسد هي انتصار كبير، فإن المشاكل في سوريا لم تقتصر أبدًا على النظام السياسي الاستبدادي، بل على شكله الخاص من الرأسمالية مما أدى إلى عدم المساواة الاجتماعية والاقتصادية والإفقار وغياب التنمية الإنتاجية.
في هذا الإطار، تشكّل القضية الاجتماعية والاقتصادية مفتاحاً لمستقبل سوريا الديمقراطي. ومع ذلك، فإنّ التوجه الاقتصادي لهيئة تحرير الشام يعيد إنتاج ديناميكيات اقتصادية نيوليبرالية، كما يعيد إنتاج أشكال الاستبداد والقمع بالفعل، وإن كان على مستوى أدنى، حيث لا تزال تعزّز حكمها على المجتمع. كيف يمكن تحدي هذا على المدى القصير؟
أولاً، علينا رؤيةُ الأدوات التي يجب استخدامها، ثم ما هي المطالب الفورية التي يجب تعزيزها بناءً على المستوى الحالي من التعبئة.
دور النقابات العمالية والجمعيات المهنية في بناء قوة مضادة للنخب الحاكمة
من أجل تعزيز المشاركة الديمقراطية من الأسفل وتعزيز القضايا الاجتماعية والاقتصادية في طليعة المناقشات الوطنية بين الطبقات العاملة والشعبية في البلاد، فإنّ إعادة تنشيط دور النقابات العمالية والجمعيات المهنية يعد أداة حاسمة لتحقيق هذا الهدف.
إن القمع التاريخي الذي مارسه النظام السوري في العقود الماضية على النقابيين العماليين المناضلين والجهات السياسية اليسارية التي تروّج لمصالح الطبقة العاملة، إلى جانب السياسات التي تسيطر على الاتحاد العام لنقابات العمال والجمعيات المهنية وتستغلها، أعاق بشدة أيّة تعبئة عمالية محتملة وأيّ عملٍ جماعي، وخاصة بعد اندلاع الانتفاضة في مارس/ أذار 2011. لقد عمل الاتحاد العام لنقابات العمال كأداة للسيطرة والقمع في يد النظام، ودافع عن سياساته على حساب مصالح قطاعات كبيرة من الطبقات العاملة.
إنّ بناء منظمات عمالية جماهيرية مستقلة وديمقراطية في المستقبل في سوريا أمرٌ ضروري لتحسين ظروف معيشة وعمل السكان والنضال من أجل الحقوق الديمقراطية بشكلٍ عام. كانت الإضرابات والعمل الجماعي من قبل العمال والعاطلين عن العمل عوامل رئيسية في الإطاحة برؤساء الدول في تونس ومصر في عام 2011 وعلى نحو مماثل في السودان في عام 2019. أظهرت أمثلة الحركات الاحتجاجية التي قادها الاتحاد العام التونسي للشغل (المعروف باسمه المختصر والجمعيات المهنية في الانتفاضات في تونس والسودان أهمية التنظيم النقابي الجماهيري في تعزيز النضال الشعبي الفعال.
إنّ الخطوة الأولى لتنشيط النقابات العمالية والجمعيات المهنية في سوريا هي المطالبة بانتخابات حرة وديمقراطية داخلها. على سبيل المثال، أطلق محامون سوريون عريضة تطالب بانتخابات نقابية حرّة بعد أن عيّنت السلطات الجديدة مجلسًا نقابيًا غير منتخب. يجب اتخاذ مثل هذه المبادرات في جميع النقابات العمالية والجمعيات المهنية وداخل الاتحادات.
وعلى نحو مماثل، تشكل الدعاية والأنشطة التي تشجّع وتروّج للتنظيم الذاتي للعمال في أماكن عملهم أهمية بالغة. ومن هذا المنظور، يشكّل الحق في التنظيم النقابي والتنظيم الجماعي للعمال في القطاعين الخاص والعام قضايا أساسية للسيطرة على أماكن عملهم وتنظيمها ديمقراطياً وتوسيع نطاق حقوقهم الديمقراطية والاجتماعية، مثل زيادة الرواتب، والمعاشات التقاعدية، والتأمين الصحي أو تحسين ظروف العمل. كما يسمح توسيع نطاق السيطرة الشعبية، والحقوق الديمقراطية للعمال والطبقات الشعبية، برفض السياسات الحكومية التي تتعارض مع مصالحهم. وينبغي للعمال في إداراتهم ومؤسساتهم، بقطاعيها العام والخاص، أن يتمكنوا أيضاً من التحكّم في اختيار الأشخاص استناداً إلى معايير فنية للمؤهّلات المهنية وللخبرة ولصالح العمال وليس على أساس الزبائنية والمحسوبية والفساد من الأعلى. على سبيل المثال، تمّ تنظيم العديد من الاحتجاجات خلال الأسابيع القليلة الماضية في العديد من المحافظات السورية، بما في ذلك طرطوس ودمشق ودرعا والسويداء، حول قضايا مثل معارضة بعض الترشيحات التي قدمتها السلطات الجديدة في إدارات معينة، أو فصل موظفي الدولة وإيقافهم مؤقتاً عن العمل، أو تأخير دفع الرواتب.
إنّ الحق في التنظيم الجماعي الحرّ يشكل في الواقع ضمانة لتوفير الأدوات اللازمة للحفاظ على المناخ والإطار الديمقراطي. وفي الواقع، يمكن في كثير من الأحيان خوض معركة الديمقراطية بفعالية أكبر في أماكن العمل، وفي المجتمعات، وفي المدارس، وفي الشوارع… إنّ المبادرات الديمقراطية التي تسعى إلى تطوير المشاركة من الأسفل هي دائما موضع ترحيب. على سبيل المثال، في غياب الوضوح بشأن المؤتمر الوطني المستقبلي الذي تنظمه هيئة تحرير الشام، فإن دعوة التجمع المدني في جرمانا لعقد مؤتمر حوار وطني على مستوى مدينة جرمانا بمشاركة الجهات الفاعلة والمجموعات المحلية ومحاكاة مثل هذه المبادرة في جميع أنحاء البلاد هي مبادرة جيدة وملهمة لتعزيز المناقشات والديمقراطية من الأسفل.
ما هي المطالب الاقتصادية العاجلة؟
إنّ إعادة تفعيل النقابات والجمعيات المهنية في المجتمع هي أداة لتعبئة العمال وتشجيعهم على تنظيم أنفسهم. وبالإضافة إلى ذلك، يمكن طرح بعض المطالب العاجلة لجذب مصالح قطاعات كبيرة من السكان من أجل تعبئتهم. وبناءً على المستوى المنخفض الحالي للتنظيم بين العمال والطبقات الشعبية، يجب أن تستهدف المطالب جميعَ التدابير المؤدية إلى المزيد من تدهور ظروف العمل والمعيشة وتقويض دور الدولة وخدماتها بشكل أكبر، فضلاً عن العمليات المرتبطة بشبكات الفساد وتبييض سمعة رجال الأعمال المرتبطين سابقًا بالقصر الجمهوري.
تدقيق في النفقات العامة للدولة وطريقة عملها
لا بدّ من تقييم أعداد الموظفين وتنظيم الوزارات للشركات التابعة للدولة وتأثيرها الاجتماعي والاقتصادي على المجتمع، وتقييم تكلفة الدعم ومزاياه وعيوبه الاجتماعية والاقتصادية، إلخ… وهذا أمر ضروري على ثلاثة مستويات رئيسية:
١- الدفاع عن الخدمات العامة للدولة وحقوق العمال وتجميد جميع عمليات الفصل أو الإيقاف المؤقت للعمال. فمثلا لم يشرح وزير المالية الحالي محمد أبازيد منهجيته أو مبرراته لتحديد مئات الآلاف من هؤلاء الموظفين الوهميين. وفي الوقت نفسه، تفتقر بعض الوزارات مثل التعليم والصحة إلى الموظفين وتحتاج إلى استثمارات.
2- وبالمثل، إلى أن يتم إنهاء التدقيق العام، يجب إيقاف جميع تدابير التقشف والعمليات الرامية إلى إنهاء الدعم، من أجل تقييم النفقات العامة للدولة وتأثيراتها الاجتماعية والاقتصادية، فإنهاء الدعم لا يمكن أن يقتصر على توفير المال العام، خاصة وأن التعويضات الاجتماعية لا تأخذ في الاعتبار العواقب البنيوية على الاقتصاد والمجتمع.
3- عدم خصخصة شركات الدولة وأصولها إلا بعد انتهاء عملية التدقيق وانتخاب حكومات ديمقراطية، فهذه القرارات لا تقتصر على العواقب الاقتصادية فقط بل تؤثر على سيادة الدولة وخاصة فيما يتعلق بالموانئ والمطارات والبنى التحتية الرئيسية، فضلاً عن الآثار الاجتماعية والاقتصادية من خلال زيادة تكلفة المعيشة أذا ما تمّت خصخصة الخدمات الاجتماعية اللازمة. بالإضافة إلى ذلك فإن خصخصة شركات الدولة تؤثر أيضاً على ظروف عمل العمال. وبشكل عام فإن قوانين العمل التي تنظم التوظيف العام للدولة (قانون العمل رقم 50 لسنة 2004) أكثر ملاءمة من قوانين العمل التي تنظم القطاع الخاص من حيث الرواتب والحوافز، بما في ذلك بدلات الوجبات والنقل المجاني والتأمين الصحي والاجتماعي والمعاشات التقاعدية ومعدات الحماية الشخصية.
تدقيق الدين العام، سواء الداخلي أو الخارجي. فقد أعلن وزير الخارجية السوري أسعد الشيباني أن الدولة تحمل 30 مليار دولاراً من الديون لحلفاء الأسد السابقين إيران وروسيا. إن تغيير النظام في سوريا لا ينفي المسؤولية القانونية للدولة السورية فيما يتعلق بديونها لإيران. كما أن الطبيعة الاستبدادية للنظام السابق لا تلغي مسؤوليته تجاه الديون الإيرانية. ومع ذلك، ينبغي تعليق أية مطالبات إيرانية محتملة لدمشق بسداد الدين إلى حين إنشاء لجنةٍ مسؤولة عن إجراء تدقيق كامل لديونها العامة، بما فيها ديونها الخارجية لإيران. إن جزءاً كبيراً من الديون المتراكمة على النظام السوري السابق لإيران كانت مرتبطة بالفعل بالحفاظ على السلطة، من خلال تعزيز قدراتها العسكرية والاقتصادية. وإذا كان التدقيق سيؤكد أو يقدم أدلة على مثل هذه النتائج، فإن جزءاً كبيراً من الدين العام للبلاد سيكون بالتالي غير شرعي أو غير قانوني. ومن هذا المنظور، يمكن وصف الدين، أو على الأقل جزء كبير منه، بأنه دين بغيض أو غير شرعي، وبالتالي لا ينبغي سداده. والواقع أنه وفقاً لمبدأ الدين البغيض، ينبغي استيفاء شرطين:
1) لابد أن يكون قد تم التعاقد عليه ضد مصالح الأمة، أو ضد مصالح الشعب، أو ضد مصالح الدولة.
2) لا يستطيع الدائنون إثبات جهلهم بكيفية استخدام الأموال المقترضة.
من الواضح أن جزءاً كبيراً من الديون المتراكمة لإيران تم القيام بها ضد مصالح الغالبية العظمى من السكان من خلال الحفاظ على القدرات العسكرية والاقتصادية للنظام لمواصلة قمعه وتدمير البنى التحتية في المناطق التي تسيطر عليها المعارضة. في الوقت نفسه، لا يمكن للدائن، إيران، أن ينكر أنه لم يكن على علم بغرض الأموال المقترضة حيث شارك في عمليات النظام ضد قطاعات كبيرة من السكان السوريين.
وبالإضافة إلى ذلك، لم تحصل هذه القروض على موافقة برلمانية كما يقتضي الدستور، أو موافقة رسمية من الحكومة.
تجميد عمليات خصخصة أصول الدولة وشركاتها والتدقيق في كل مخططات الخصخصة السابقة. وإذا ما تبين وجود مخالفات، فمن شأن ذلك أن يؤدي إلى تأميم هذه الشركات. إن العديد من عمليات خصخصة أصول الدولة وشركاتها استفاد منها بالفعل رجال أعمال تابعون للقصر الجمهوري السابق، مثل تلك المذكورة أعلاه على سبيل المثال، في حين حرمت الدولة من مداخيل كبيرة. على سبيل المثال، يجب تأميم الشركات الكبرى التي كانت تحت سيطرة رجال أعمال رئيسيين تابعين للقصر الجمهوري مثل شركتي الاتصالات سيريا تل وإم تي إن، وتعود عائداتها بالفائدة على الدولة.
وبالمثل، معارضة التسويات المحتملة من قبل السلطات الحاكمة الجديدة ورجال الأعمال المتورطين في جرائم حرب والمرتبطين مباشرة بالقصر الجمهوري السابق. وبدلاً من ذلك، يجب محاكمتهم وإذا ثبتت إدانتهم، فيجب نقل شركاتهم وأصولهم إلى الدولة. على سبيل المثال، يجب إدانة الشائعات حول تسوية محتملة بين رجل الأعمال محمد حمشو والسلطات الجديدة ونقل أصوله وشركاته إلى الدولة.
ومن الممكن ترويج أنواع أخرى من المطالب التي تخدم المصالح العامة، مثل دعم الإنتاج الوطني، وخاصة في القطاعين الزراعي والصناعي وتطوير شبكات النقل العام، بما في ذلك الحافلات والسكك الحديدية،[2] داخل المدن وفيما بينها، وبين الضواحي والمراكز الحضرية، ما من شأنه أن يقلل من رسوم النقل، وهو ما يؤثر بشكل خاص على الطلاب والعمال. وبشكل عام، ينبغي للمبادرات والمطالب والحلول أن تسعى إلى مساعدة مصالح 99٪ من سكان البلاد، ويمكن أن تتطور وفقًا للتعبئة الشعبية وتكون أكثر “هجومية”. إن معظم المطالب المذكورة أعلاه “دفاعية” بالفعل وتخدم احتياجات فورية.
الخاتمة
وفي الختام، ينبغي أن يرتكز بناء المجتمع الديمقراطي على احتياجات ومصالح الطبقات العاملة والشعبية والتي تمثل 99% من السكان. ومن أجل تحقيق هذه الغاية، فإن تعزيز التمكين الديمقراطي والاجتماعي للطبقات العاملة والشعبية لإدارة مجتمعاتها يشكل هدفاً بالغ الأهمية. والديمقراطية هنا عندما يشارك جميع السكان بحرية وعلى قدم المساواة وبشكل مباشر في وضع القرارات المتعلقة بالشؤون والسياسات الجماعية، بما في ذلك المجال الاجتماعي والاقتصادي.
إن التاريخ يثبت أن الديمقراطية مفهوم متغير لا شكل محدد له، وهو ما كان محل دائم للنضالات. إن أي توسيع للديمقراطية بحيث تشمل الحقوق الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والوطنية كان نتيجة لنضالات ناجحة من الأسفل شملت الحقوق الاقتصادية والمدنية، والتصويت، وتكوين النقابات، والحقوق المدنية، والمساواة بين الجنسين، إلخ.. ويتعين على التقدميين والديمقراطيين أن يشاركوا في بناء جبهات موحدة ضد الاستبداد والاستغلال والقمع، وفي الوقت نفسه بناء بديل سياسي بين الطبقات الشعبية.
في الواقع، في هذا المشروع للتغيير الديمقراطي والاجتماعي من الأسفل، يجب أن نفهم أن نضالات العمال وحدها لن تكون كافية لتوحيد العمال والجماهير الشعبية. علينا أن نناضل من أجل تحرير كل المضطهدين، ورفع المطالب بحقوق المرأة والأقليات الدينية والجماعات العرقية المضطهدة، إلخ.. على سبيل المثال، من المهم اليوم معارضة الحملات الأمنية العنيفة والاستبدادية التي تشنها هيئة تحرير الشام والتي تستهدف المدنيين، والخطابات والممارسات الطائفية والعنصرية المتصاعدة، والدفاع عن حقوق المرأة، والمطالبة بالعدالة الانتقالية، إلخ.. إن الفشل في القيام بذلك سيمنع توحيد الطبقة العاملة والشعبية من أجل التحول الجذري للمجتمع.
في منظور كارل ماركس وفريدريك إنجلز، كانت الاشتراكية والديمقراطية مرتبطتين ببعضهما بعضاً منذ النضالات الأولى التي شاركتا فيها في منتصف القرن التاسع عشر. فقد كتبا في البيان الشيوعيّ عام 1848: “الخطوة الأولى في الثورة التي تقوم بها الطبقة العاملة هي رفع البروليتاريا إلى مرتبة الطبقة الحاكمة، والفوز في معركة الديمقراطية”.
مراجع:
[1] وحتى قبل اندلاع الحرب في سوريا، كانت الحكومة تنظر إلى الشراكات بين القطاعين العام والخاص باعتبارها أداة رئيسية لتسريع تعبئة رأس المال الخاص، وخاصة في قطاع الطاقة. وكانت الاستثمارات في البنية الأساسية، للكهرباءعلى سبيل المثال، ضرورية لجذب الاستثمار الخاص وخفض تكاليف العمليات التجارية. وفي تقرير أعده البنك الدولي بالتعاون مع وزارة الكهرباء السورية في عام 2010، قُدِّر أن نحو 11 مليار دولاراً من الاستثمارات ستكون مطلوبة حتى عام 2020 لتوليد طاقة توليد جديدة (7000 ميغاواط) وتوسيع شبكات النقل والتوزيع في البلاد.
[2] من الممكن إشراك سائقي الحافلات غير الرسميين في تطوير شبكات النقل العام ومنحهم وضع الموظف العام، مما يوفر لهم بعض المزايا.
جوزيف ضاهر
ناشط سياسي، له منشورات بالعربية والفرنسية والانكليزية. يدوّن في SyriaFreedomForever (سوريا حرية للأبد). نال درجة الدكتوراة من كلية الدراسات الآسيوية والمشرقية (سواس) بلندن. ركزت رسالته على المادية التاريخية وحزب الله. يعيش د. ضاهر في سويسرا، حيث يدرس في جامعة لوزان.
حكاية ما انحكت