سقوط بشار الأسد، الرئيس الفار والمخلوعنقد ومقالات

الممثل السوري والسلطة… تاريخ من الصراع والمراوغة!/ علاء الدين العالم

11.02.2025

كون سقوط النظام كان سريعاً وخاطفاً، اقتادَ الإعلام الممثلين النجوم لسؤالهم عن آرائهم بعد هذا السقوط. أستخدم الفعل (اقتاد) هنا لأن المقابلات الحاصلة بعد السقوط كانت أشبه بجلسات تحقيق مع الممثلين أكثر مما هي محاورة مفتوحة مع فنان ورأيه الشخصي، وليس مع سياسي ورأيه العام.

في واحد من الفيديوهات التي صُورت في فيلا/ مقرّ ماهر الأسد، شقيق الرئيس المخلوع بشار الأسد وذراعه العسكري، يلحظ المشاهد مدى اهتمام قائد الفرقة الرابعة بالفن والفنانين السوريين، إذ عُلقت على جدران أحد مكاتبه صور للممثلين والمغنين السوريين، ما يوحي باهتمام السلطة بالفن السوري وفنانيه، علاقة يتداخل فيها الفني والسياسي والدعائي، إلى حد تحول الممثل السوري إلى ناطق باسم السلطة أحياناً، وحتى بعد الثورة، تحول الممثلون إلى أوجه ثوريّة بعضهم قرر ممارسة العمل السياسي إلى جانب النشاط الفنّي، ما يتركنا أمام سؤال: ما هي العلاقة التي بُنيت بين النظام والممثلين السوريين؟ ولماذا هذا الاهتمام الأسدي بالممثلين دون غيرهم من الفنانين والمتميزين السوريين؟

المشخصاتي المنفي ورحلة الصراع مع التقاليد والسلطة

خلف قشرة العلاقة بين الممثل السوري والسلطة الأسدية، وهي القشرة التي ينشغل بها الجمهور اليوم بعد السقوط، تكمن علاقة طويلة ومتخبّطة بين الممثلين والسلطة في سوريا. بدأت هذه العلاقة مع الظهور الأول في سوريا لفن التمثيل بمعناه المعاصر على يد أبي خليل القباني، أبو المسرح السوري الذي دفعه الجور الحميدي في العصر العثماني إلى مغادرة البلاد الشامية، تحديداً بعد الحرب التي شنّها عليه بعض شيوخ دمشق وانتهت بحرق مسرحه وتشتّت شمل جوقته/فرقته التي كانت حققت شهرة واسعة في المجتمع الدمشقي.

آنذاك، لعب الدين الدور الرئيسي في إشعال الخلاف بين الممثل والسلطة، وغذّته حداثة مفهوم التمثيل على المجتمع الشامي، المفهوم الذي حرّمه الشيوخ المعادين للقباني على أساس أنه تشخيص، والتشخيص في الإسلام حرام حسب فتاويهم، ومن هنا جاءت مفردة ((المشخصاتي)) التي اعتمدت في الشامية الدارجة دلالة على الممثل.

بعد المرحلة المؤسِّسة مع القباني، عاد مفهوم الممثل إلى دمشق مع بداية القرن العشرين، بعدما جُبل هذا المفهوم وازدهر في بيروت ومصر التي استقرت فيها الأجواق المسرحية الهاربة من الشام. وبسبب الطبيعة السياسية المتحركة بسرعة إبان سقوط الإمبراطورية العثمانية، والتحولات الانتدابية في بلاد الشام، وصولاً إلى الاستقلال، لم تكن هناك صيغة واضحة وواحدة لعلاقة الممثل بالسلطة، وتحديداً بالنظر إلى عدم شعبية فن التمثيل آنذاك، الذي بدأ يصل إلى الجمهور عبر المسرح والسينما. لكن بقيت نجومية الممثل محدودة قياساً بالشعر والغناء والصحافة الناشئة.

بعد ذلك، وتحديداً مع انطلاق بث التلفزيون السوري عام 1960 وبدء ظهور التلفزيون بجانب المسرح المزدهر والسينما الحاضرة بقوة في المجتمع، بدأ تأسيس صورة الممثل السوري، ورسم تاريخ جديد ومختلف له، وبدأت رحلة الممثل ونظام البعث.

الممثل/ النجم بما هو النجم الوحيد في المجتمع السوري

على امتداد مرحلة الستينات، والتي ازدهرت فيها السينما السورية على يد أسماء مثل نهاد قلعي، دريد لحام، رفيق سبيعي، هالة شوكت ونجاح حفيظ، ونشط فيها المسرح السوري على يد فنانين مثل عبد اللطيف فتحي وفهد كعيكاتي ولينا باتع وآخرين، بدأ الممثل السوري يشعّ في المجتمع، ويلحظ حضوره وأثره على الجماهير، وبدأ يسطع اسم بعض الممثلين كنجوم في المجتمع، الى جانب نجوم آخرين من حقول أخرى، كالسياسة والشعر والصحافة. إلا أن الممثلين كانوا مقبلين على عهد سيبقون فيه النجوم الوحيدين في المجتمع، إن وافقوا السلطة الأسدية أو صمتوا عن ممارساتها على أقل تقدير.

يُعتبر دريد لحام الممثل الوحيد الباقي من ذاك الجيل، والشاهد على هذا التحول في دور الممثل السوري، لا بل هو رمز لهذا التحول وأيقونة له. فمع وصول البعث بداية الستينات، ازدهرت الدراما التلفزيونية التي قدمها لحام بكتابة ومشروع نهاد قلعي الفني وإنتاج التلفزيون السوري وإخراج فيصل الياسري وخلدون المالح. نجحت أعمال “مقالب غوار وحمام الهنا” في الوصول إلى الجمهور السوري، وانتقل قلعي ولحام من النجاح في السينما إلى النجاح في التلفزيون.

 مع وصول حافظ الأسد في السبعينات، أكمل الثنائي عملهما، وحققا نجاحاً باهراً في مسلسل “صح النوم” 1972، والذي كان المسلسل الأخير الذي جمعهما. وفي كل ذلك، كان يُكرّس النجم التلفزيوني، كنجم مؤثر في الشارع السوري، ليس على المستوى الفني فقط، بل على المستوى السياسي أيضاً، إذ إن أعمال قلعي ولحام المسرحية، والتي كانت من تأليف محمد الماغوط، كانت بمثابة مانيفستو سياسي يصب في الأفكار القومية والاشتراكية التي يتبناها البعث ويروج لها. وفي الوقت ذاته، كان هناك نقد ماغوطي قاسٍ وشديد للسلطة. لكن مع نهاية السبعينات، تم احتواء هذه التجربة الفنية. ويقال إن قلعي أصيب في رأسه بعد عراك مع ضابط من سرايا الدفاع في أحد المقاهي، وأبعدته السلطة والمرض عن الساحة الفنية.

 أُبعد الماغوط عن المشهد المسرحي أيضاً، وبقي لحام كنجم أول ويكاد يكون الوحيد. وفي عام 1977، تأسس المعهد العالي للفنون المسرحية، ليكون في ما بعد عماد النجاح في الدراما التلفزيونية، ويخرّج نجوم تلفزيون كثراً، سيتبعون طريقين في حالة الشهرة والنجومية: إما طريق دريد لحام، مهادنة السلطة وأحياناً تمرير مطالبها عبر الفن وأثر الفنان، أو طريق نهاد قلعي، مع مخاطر هذا الطريق في ظل نظام دكتاتوري بقبضة أمنية حديدية.

وكأي نظام شمولي، فرض نظام حافظ الأسد سيطرته على كل قطاعات الثقافة والفن والرياضة والحياة. وشملت هذه السيطرة إطفاء نجوم في حقول مختلفة.

انحسرت السينما السورية، وأُغلق الباب على أي نجومية لمخرج أو منتج (مثل فيلم “نجوم النهار” لأسامة محمد)، أو حتى رياضي أيضاً كحادثة عدنان قصار، الفارس السوري الذي اعتقله النظام 24 عاماً لأنه سبق باسل الأسد. وفي الشعر، الأمر نفسه أيضاً وإن لم يكن بقبضة الأمن فجراء القهر والخوف (ولنا في نجومية الشاعر الراحل رياض صالح الحسين اللاحقة مع الثورة مثال).

هكذا، ومع مرور عقدي الثمانينات والتسعينات، بقي الممثلون في التلفزيون حصراً، نجوم سوريا الوحيدين. ولأن أي مجتمع بحاجة إلى نجوم ومؤثرين، استقبلهم الجمهور السوري جميعهم، مثقفين ومفكرين وفنانين ايضاً. ودفعهم النظام ليتكلموا كساسة لا كممثلين، وحمّلهم مسؤولية، وبعضهم اختار الظهور في الإعلام كممثلين عن المجتمع لا كممثلين عن المسرح والفن.   

مع نهاية التسعينات وبداية الألفية، استمرت الدراما التلفزيونية السورية بالصعود، وتوسعت نجومية الممثلين من أسماء محدودة في التسعينات، إلى عشرات الممثلات والممثلين الذين سطع نجمهم مع سطوع الدراما في بداية الألفية الثالثة. من جهة أخرى، تخرَّج عشرات الممثلين في معهد الفنون المسرحية خلال عقدي التسعينات والعشرية الأولى من الألفية.

 وحمّل الكثير من الممثلين مشاريع فكرية وأكاديمية، وبعضهم اتجه إلى المسرح وعمل على تطوير المسرح السوري. وبذلك، كُسرت صورة الممثل/ النجم مع كثرة النجوم واختلاف آرائهم وأفكارهم، ورفض بعضهم دور مثقف السلطة. وفي الوقت ذاته، تضخمت صورة الممثل النجم، المفكر، والمثقف السياسي، وبعضهم لعبها حتى النهاية.

ضمن هذا السياق، وهذه الخلفية التاريخية، وصل الممثل/النجم السوري إلى اللحظة الأكثر مصيرية في مسيرته، وهي انفجار الثورة السورية عام 2011. دفعت الثورة الأمور إلى أقصاها، والنجم الذي كانت نقاشاته السياسية تقتصر سابقاً على دعم فلسطين أو انتقاد الحالة المعيشية والفساد، أصبح مطالباً بالخروج للإعلام والتعبير عن رأيه، سواء من جهة النظام الذي اعتبر هؤلاء الممثلين النجوم أبناءه (وليس أبناء سوريا) وبالتالي فإن ولاءهم هو حصراً له، أو من جهة الشعب الذي أتى منه هؤلاء النجوم.

وعادت ثنائية قلعي – لحام للظهور في أكثر أشكالها راديكالية، فإذا كان بيان كسر الحصار عن درعا (بيان الحليب) 2011 قد جمع الممثلين السوريين للمرة الأخيرة، ضمن رأي إنساني واحد، فإن عنف النظام المفرط مع الموقعين على البيان، وتصاعد الأحداث وانفجارها، وتقسيم المجتمع إلى مؤيد ومعارض، سيقسم النجوم السوريين لأربعة عشر عاماً. فوقف بعض النجوم مع ثورة الشعب والمعارضة، والبعض الآخر وقف في صف النظام، بينما البقية اختارت الصمت ثمناً لبقائها في سوريا، ومن دون أن تتورط في تأييد النظام بشكل مباشر.

هذه الصورة المعقدة لعلاقة الممثل/ النجم السوري بالسلطة، سدت على الممثلين أي مَخرَج يعيدهم ليكونوا ممثلين وحسب، أي أن يكون رأيهم السياسي رأياً شخصياً وليس عاماً. ولم تكسر الثورة هذه الصورة أو هذا الدور للممثل، على العكس تماماً، فالممثلون الذين انضموا الى الثورة، كانوا متحدثين رسميين وسياسيين فيها، وهو دور لم يختاروه وحسب، بل دفعتهم إليه الجماهير الثائرة التي تَكرَّست في رأسها صورة الممثل/ النجم السياسي. هذا الممثل الذي قد ينغمس في العمل السياسي حد الترشح إلى الرئاسة (الفنان جمال سليمان مثالاً) أو الدخول إلى الحقل القانوني والعدلي بعد سقوط النظام، والحديث في العدالة الانتقالية، برأس مال رمزي ثوري، كما هو حال الفنان مكسيم خليل الذي شارك كمتحدث في جلسة عن العدالة الانتقالية أقيمت منذ أيام في حمص تحت عنوان “العدالة الانتقالية بين الذاكرة والمحاسبة والمستقبل”!

على الضفة الأخرى، كانت حاضنة النظام تضغط هي الأخرى وتنتظر وتتربص بالممثل، ولا أقصد هنا الممثلين الذين لعبوا دور المؤيد للنظام، المتكلم باسمه، والمدافع عنه (باسم ياخور، مصطفى الخاني، سلاف فواخرجي.. وغيرهم)، بل أقصد الممثلين الذين رفضوا هذا الدور السياسي المباشر، وآثروا الصمت أو المراوغة إلى حين ورّط النظام بعضهم في صورة جمعت الكثيرين منهم مع بشار الأسد قبل سقوطه.

الممثل السوري ما بعد الأسد

 كذلك، لعب الإعلام العربي، بمختلف أجنداته وسياساته، دور الضاغط الأكبر على الممثل/ النجم. ففي سنين النار والقتال، تكاد لا تخلو مقابلة مع ممثل، نجماً كان أم لا، من السؤال التفصيلي عن رأيه السياسي، وما إذا كان يدعم النظام أم الثورة.

وكون سقوط النظام كان سريعاً وخاطفاً، اقتادَ الإعلام الممثلين النجوم لسؤالهم عن آرائهم بعد هذا السقوط. أستخدم الفعل (اقتاد) هنا لأن المقابلات الحاصلة بعد السقوط كانت أشبه بجلسات تحقيق مع الممثلين أكثر مما هي محاورة مفتوحة مع فنان ورأيه الشخصي، وليس مع سياسي ورأيه العام. الغريب في الأمر، أن الممثل/ النجم لم يتنازل عن الدور الثقيل الذي حمله في عصر النظام، وكأنه لم يعد قادراً على الفكاك منه، مع استثناءات قليلة جداً، آثرت الصمت أو تقديم رأي من باب المواطن السوري أكثر من باب السياسي والمثقف.

أخيراً، يبدو أن الفائدة الوحيدة من هذا الدور للممثل/النجم السوري هي قدرته على التأثير على شرائح واسعة من المجتمع السوري، لذلك يمكنه أن يلعب دوراً مهماً في صناعة السلم الأهلي في سوريا اليوم (وليس العدالة الانتقالية فذلك شأن قانوني)، ومحاولة رأب الصدع الاجتماعي الحاصل بعد 14 سنة من الثوران والاقتتال، وخروج الممثلين من هذا الدور البروباغندي الذي وضعهم فيه نظام الأسد.

أما أولئك الذين ما برحوا رأيهم السياسي الداعم للنظام بعد سقوطه وانكشاف أهواله، فربما الفائدة الوحيدة منهم أنهم يكسرون عند الجمهور صورة الممثل العارف والمتحدث في كل مجال. وعن كونهم كانوا مهرجين للسلطة الأسدية، فذلك فيه إجحاف كبير بحق المهرج. فمهرجو الملك؛ على الأقل، يتحلون بالحكمة والجنون وليس بالعبودية والإذعان، ولنا في بهلول الملك لير خير مثال. 

 – كاتب ومسرحي فلسطيني سوري

درج

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى