خوليو كورتاثر يتلاعب بقواعد السرد/ ساري موسى
![](https://www.alsafahat.net/wp-content/uploads/2025/02/2_jp22345g2-780x470.jpg)
السبت 8 شباط 2025
في عالم كرة القدم، هناك اتِّفاقٌ على أنَّ اللاعب المتمكِّن فنِّيَّاً تظهر إمكاناته في ملاعب الصالات الصغيرة المساحة، أكثر ممَّا تظهر في إستادات العشب الأخضر الكبيرة.
هكذا كان دييغو مارادونا، ورونالدو نازاريو ورونالدينيو غاوتشو أيضاً. في الأدب، يمكن إسقاط المعادلة الفنِّيَّة السابقة على الأنواع السرديَّة تبعاً لحجمها، من دون أنْ يعني ذلك أنَّ هذا الإسقاط مقياسٌ مُعتمَد، فنقول إنَّ من يكتب القصَّة القصيرة بشكلٍ جيِّد لن يكتبَ روايةً أقلَّ جودة.
هذه هي حال الكاتب الأرجنتيني خوليو كورتاثر (1914 ـ 1984)، الذي يظلُّ قادراً على إدهاشنا عند كلِّ قراءةٍ جديدةٍ لكتاباته، كما هي الحال عند مشاهدة مواطنه مارادونا.
إحدى قصص كورتاثر، continuidad de los parques ذات الصفحتين، تُرجمت إلى اللغة العربية أربع مرَّات، من قِبَل أربعة مترجمين مختلفين. وهذا ليس غريباً على كاتب «الحجلة»، الرواية الضخمة التي يمكن العثور على ثلاث ترجماتٍ لها باللغة العربية.
بالنسبة إلى القصَّة المُشار إليها أعلاه، التي صدرت أخيراً إلى جانب 13 قصة أخرى تُشكِّل مجموعة كورتاثر القصصيَّة الأخيرة «كلُّ النيران… » (1966) عن دار «هُنّ» المصرية (ترجمة محمد أبو العطا)، هناك نقاشٌ حول دقَّة ترجمتها يُفسِّر تعدُّد ترجماتها، بدءاً من العنوان الذي تُرجِم إلى «اتِّصال الحدائق»، و«استمرار الحدائق»، و«تخطيط الحدائق».
لا يعود ذلك إلى التكثيف الشديد الذي يكتب به كورتاثر فقط، بل يرجع بشكل أساسي إلى انعدام أيِّ نوعٍ من أنواع الحدود التي تفصل عادةً بين عناصر السرد؛ فالعوالم المختلفة التي تسير متوازيةً عند غيره تختلط عنده، والأصوات المتعدِّدة للرواة تسهم في تشكيل الجملة الواحدة في قصصه، والأماكن والأزمان ليست إلا عالماً واحداً بزمنٍ متَّصل. في «اتِّصال الحدائق»، باعتبارها المثال الأوضح على ما سلف، يتفاجأ قارئ رواية الإثارة والجريمة بأنَّه يعيش أحداثها، إذ ما إن تتمّ قراءة الجملة الأخيرة عن ضحيَّة عملية القتل حتى يحسَّ بالنصل البارد على عنقه.
وإذا كان اسم خوليو كورتاثر، والجيل الأميركي اللاتيني الذي ينتمي إليه، وكذلك القصَّة المشار إليها أعلاه، والقصة الأولى التي تفتتح قصص هذه المجموعة، «رسالة إلى آنسة في باريس»، تحيلنا كلُّها إلى الواقعيَّة السحريَّة، فإنَّ هذا ليس إلا بداية الخداع واللعب الذي يبرع كورتاثار في ممارسته على القارئ.
جرعات الواقعيَّة السحريَّة تقلُّ في القصص التالية، بل تنعدم في معظمها. في القصة الأولى من المجموعة، نحن أمام الشكل النموذجي للواقعيَّة السحريَّة، التي غزت العالم في النصف الثاني من القرن الماضي، وما زالت أصداؤها تتردَّد في مختلف بقاعه حتى اليوم. يبدأ الأمر بوقوع حدثٍ غير واقعيٍّ إطلاقاً، هو في هذه القصة حالة الشاب الذي يتقيَّأ أرانب بشكل دوري متكرِّر، ثم يتمُّ التعامل مع هذا الحدث بعد ذلك بواقعيَّةٍ شديدةٍ، كأنَّه حدثٌ عاديٌّ وطبيعيٌّ جداً.
يخال القارئ للوهلة الأولى أنَّه أمام مختارات قصصيَّة للكاتب الأرجنتيني، لا مجموعة واحدة كاملة، نظراً إلى تفاوت قصصها في عدد من النواحي: هي لناحية الحجم تراوح بين صفحتين وحوالى 35 صفحة، ولناحية الأجواء المكانيَّة تتنقَّل بين الشقق المدينيَّة الهادئة، الواقعة في أرقى أحياء باريس وجنيف وبوينس أيرس، والإنزال البريّ على الشواطئ المستنقعيَّة لكوبا دعماً للثورة في الجبال على نظام باتيستا العسكري. أما زمنيَّاً، فنقرأ في القصة التي أعطت عنوانها للمجموعة عن نِزال يدور بين مصارعَيْن رومانيَّيْن في إحدى الحلبات الواقعة ضمن مقاطعة في أطراف الإمبراطوريَّة، إلى جانب الحاضر الذي يسيطر على بقيَّة القصص، ويتزامن مع هذا الصراع في القصة نفسها من دون حدود فاصلة بينهما، كما أسلفنا.
هذا التداخل الذي يُجمِّل السرد ولا يُعيق سلاسته أو يُثقله، رغم أنَّه يفتل الرأس عند قراءة الجملة الأولى التي تحتويه، قبل أن يعتاده القارئ سريعاً، يُطالعنا مثلاً في قصَّة «الآنسة كورا» التي يتغيَّر فيها الرواة وتتغيَّر وجهات النظر ضمن السطر الواحد، ما يُجسِّم نظرة القارئ ويمنحه رؤيةً أوضح وفهماً أعمق لحالة المراهق المُحتضر، الحائر بين كونه شاباً يُعجب بالممرضة التي لا تكبره إلا بسنوات قليلة، وبين أمِّه التي زاد مرضه من حنانها عليه ومعاملتها له كطفلٍ يحتاج الحد الأقصى من الرعاية والحماية.
وهو ما نقرأه بشكل آخر في قصة «وأنتِ استلقيتِ إلى جانبكَ» التي يتَّضح من عنوانها أنَّها تعتمد في السرد على ضمير المخاطَب، الذي يتوجَّه إلى الأمِّ وابنها بشكل متناوب. أمَّا التداخل الأبرز، فهو على صعيد «مستوى الواقع»، وتحديداً بين الحدث الواقعي والذكريات في قصَّتَي «الصديقان» و«لقاء»، وبين الحدث الواقعي والهذيان بسبب الحُمَّى، الذي يتضمَّن أحداثاً وحواراتٍ غير واقعيَّة، في قصَّتَي «لقاء» و«الآنسة كورا»، وبين الواقع والخيال الأدبي في «اتصال الحدائق» كما أسلفنا، وبين الواقع والحلم الذي يعود فيه إلى الحياة الصديق المتوفَّى قبل 31 عاماً، في قصة «هناك لكن أين، كيف؟».
تضيء القصة الأخيرة على تناقض إضافي في قصص مجموعة كورتاثر هذه، التي لا يبدو أنَّ هناك ما يجمعها سوى أنَّها كُتِبَت في المدة التي تلت صدور مجموعته السابقة لها «الأسلحة السريَّة» في عام 1958 (منقولة إلى اللغة العربية في ترجمتين)، فهي تُكتب لدافعٍ ذاتيٍّ محض لا لغايةٍ عامَّة، لتفريغ المشاعر وأخذ مسافةٍ تفصل الكاتب عن موضوع كتابته، أي لتُخرِج الموضوع من صدر الكاتب، أو تُخرج الرؤيا من رأسه في هذه الحالة.
الراوي فيها هو الكاتب نفسه، الذي يقول في آخرها متوجِّهاً إلى القارئ، معترفاً بأنَّ خصوصية الحدث الذي يكتب عنه يمكن أن تكون قد أعاقت إيصاله: «قد أكون أخفقت في أن أجعلك تعيش هذا، فأنا أكتبه من أجلك أنت الذي تقرؤني، لأنها طريقتي لفك الحصار». تتقاطع هذه القصة مع القصة الأخيرة في المجموعة، التي حملت عنوان «يوميات لكتابة قصة». لا تتوخَّى اليوميات كتابة قصة، بل على العكس من ذلك تؤرِّخ للفشل في الكتابة والعجز عنها عبر أوراق المسودة والقُصاصات. وبما أنَّها تفعل ذلك، فإن موضوعها الفعليَّ هو محاولة الكتابة، الكتابة عما قبل الكتابة، عن التعب والسأم من هذا الفعل المضني، من «إطلاق الكلمات ككلابٍ تبحث» عن موضوعها وتحاول تسجيله كما حدث، أي الكتابة عن لاجدوى الكتابة.
الاخبار