سقوط بشار الأسد، الرئيس الفار والمخلوعسياسة

سوريا حرة إلى الأبد: مقالات وتحليلات 11 شباط 2025

حرية إلى الأبد: كل المقالات والتحليلات والحوارات التي تناولت انتصار الثورة السورية اعتبارا من 08 كانون الأول 2024، ملاحقة يومية دون توقف تجدها في الرابط التالي:

سقوط بشار الأسد، الرئيس الفار والمخلوع

————————————–

هذه الشعارات في سورية/ عبير نصر

11 فبراير 2025

انطلاقاً من استحضار السياقات السورية الراهنة في تناول مخرجات “مملكة الأسد” البائدة، وأهمّها سياسة التمجيد التي بدأت بـ”قائدنا إلى الأبد.. الأمين حافظ الأسد” ولم تنتهِ بـ”الله… سورية… بشّار وبس”، بات واضحاً اليوم أنّ بعض السوريين أعادوا تدوير الهتافين السابقين “بالروح.. بالدم.. نفديك يا جولاني”. الشعارات الثلاثة شبه متطابقة، فالهيكل “التقديسي” حافظ على الجوهر وإنْ تغيرت نهايته لزوم التوافق مع الاسم الجديد، ليشكّل أداة ضغط نفسي هائلٍ تقوّض حرية الآخرين في نقد “التخندق الشعاراتي” الذي تجاوز هموم الواقع المأزوم وأولوياته. عموماً، يبدو “الكرسي المقدّس” بؤرة خصبة “للمطبّلين” يدورون في فلكه ويتفاعلون إيجاباً مع أهوائه السلطوية، وهو ما يصنع من أيّ قائد، مهما حسنت نياته، طاغوتاً كامل الدسم. لذا على السوريين، اليوم وأكثر من أيّ وقت مضى، أن يتجنّبوا أسطرة الأفراد وإعادة إنتاج المواقف والهتافات، أيضاً تلمّظ سموم الترسانة الشعاراتية الموروثة. فالتأسيس لعبادة الفرد/ القائد يتكرّر في كلّ زمان ومكان، على اعتبار أنّ “القطيع الطيّع” هو من يخلق راعيه ذا العصا الغليظة غير “السحرية”، ما يطرح السؤال الملحّ: إذا كان للوعي الجمعي قدرةً على استنباط أصلٍ صريح لفكرة المواطنة فمن أين تُستنبط في الحالة السورية الغاصة بمظلومياتٍ محمومة وأحقاد ملتهبة؟

بالتساوق مع ما تقدّم ولفهم العلاقة غير المباشرة بين شعاري “الشرع… منحبّك بالله” و”شبّيحة للأبد.. لأجل عيونك يا أسد”، يتطلب ذلك فهمَ ما يسمى “الخضوع الطوعي” المكتسب من عهد الأبد البائد وعلاقته البديهية بحالة التمجيد المستجدّة، وهذا لن يكون متاحاً إلّا من خلال دراسات نقدية شاملة، تتناول ذهنية نظام الأسد الاستبدادي الذي أراد جعلَ السوريين عبيداً بقدر جهلهم بحرّيتهم، مثل كائنات مُدَجّنة بلا كينونة أو ماهية، تُصبح وتُمسي على التحلّق حوله. وعند البحث عن تفسيرات وتأويلات للأسباب التي تدفع السوري اليوم إلى تبنّي لغة التقديس التي ستمزّق، حكماً، ما تبقى من النسيج الاجتماعي السوري وتعزّز عدم الثقة، فإنَّنا سنقف عند دوافع كثيرة، أهمها مشاعر الغضب والقهر والاحتقان التي تبرّر سياسة الكيل بمكيالين، فالشعارات التي رفعتها شريحة معينة من السوريين احتفالاً بتنصيب أحمد الشرع رئيساً للمرحلة الانتقالية، وأبرزها “جولاني للأبد.. غصباً عنك يا أسد”، تبدو سلوكاً استفزازياً يعكس رغبة صريحة في ردّ الاعتبار والانتقام من إجرام النظام السابق ومواليه.

واضح أنّ الواقع السوري الحالي، بكلّ معطياته ومؤشراته، بدأ يدور ضمن حلقة التقديس إياها، التي تتجمّع فيها روابط متجذّرة تبدأ بالعبودية الطوعية وتنتهي بالتعريج على التاريخ الكامل لاستبداد نظام الأسد. فخلال خمسة عقود، هتف السوريون للأب والابن، وسوّقوا “طوعاً” شعاراتٍ تخفي كلّ خفايا قبح الديكتاتورية الأسدية. لذا يبدأ الخلاص بفكّ الارتباط مع هذه الثقافة السامة حتى تُنزع صفة القداسة عن كلّ قائد مهما كان عظيماً، فالشرع الذي قدّم نفسه خادماً للشعب، كيف للشعب أن يحوّله إلى طاغوت جديد؟ ولعل أدلّ مثال الفيديو الذي شغلَ وسائل التواصل الاجتماعي، وفيه معلمة تُظهر صورة أحمد الشرع على جهازها الخلوي، ليسارع التلاميذ “الأطفال” لتقديم التحية العسكرية له، في وقتٍ صادرت قوى “الأمن العام” أعلاماً حملت شعارات تمجيدية للرئيس الجديد، مطلقين تحذيرات للبائعين والأكشاك، لمنع انتشار هذه الظاهرة تحت طائلة المسؤولية. والسؤال الثاني في السياق: هل السوري، الذي تشرّب ثقافة الخوف والخضوع في عهد الأسد فبات لا يملك مثقال ذرّة من حريته، يتّعظ من تجربته المريرة التي أثبتت فشلها الإنساني والأخلاقي المريع؟

وبرصد سيكولوجيا المواطن السوري المستقر، أو بتعبير أدقّ “العبد الطائع”، واختياره الشعارات المتماثلة، (من أفيش الرعب الأشهر خلال حكم الأسد: “الأسد أو نحرق البلد” يأتي الشعار الجديد: “الشرع أو نحرق الزرع” ولو على سبيل الدعابة)، لا يسعنا إلا أن نتناول تمثلات السوري الذهنية ونسقه الإدراكي والسلوكي الذي لم يشفَ بعد من صدمة سقوط الأسد، لنجد أنه يبدو راضياً وسعيداً بتبعيته لأيّ قائد يتوهم أنه متماهٍ معه ويشاركه سلطانه، ما يطرح إشكالاً فلسفياً عميقاً عن بواطن “المطبّلين” المستندة إلى غريزة اللهاث ومنطق التملّق، بما ينطويان عليه من شهوات نفسية منحطّة تحوّل الأهداف النبيلة دائماً إلى النقيض تماماً.

وفي ضوء ما سبق، لم تكن سلطة الأسد سياسية وأمنية فقط، بل كانت دوماً منظومة عنفية تعتاش من الشعارات الرنّانة، وبلغ منها الانتفاخ حداً أنْ انفجرت في النهاية. أما المفارقة الأشدّ سخرية في السياق أنّ شعار “القائد الخالد” ولد من رحم القهر السوري. شعار بسيط لكنه فرّخ جهازاً قمعياً كامل الأوصاف، من الجيش العقائدي وليس انتهاء بالمليشيات الطائفية، جميعها أفرزت نوعاً فائضاً من سيولة الخضوع، لم تفقد جاذبيتها، تسبّح بحمد الحاكم وطول عمره، محوّلة الشعب السوري إلى جمهور أداتي وظيفته “التطبيل” عزّز سلطة نظام الأسد، ورسّخ أيديولوجيته. في المقابل، إنه عجزٌ عن النظر والتدبّر، لا يمكن فهمه أنّ الثورة السورية التي بدأت رحلتها بشعار “الشعب السوري ما بينذل” لن تكون أولوياتها الراهنة على ما يبدو إسقاط “الأبدية” و”دولة الفرد”، أو العمل على منع تغوّل أيّ دولة سلطانية متعالية على شعبها، ما سيدفع إلى انتكاسة جديدة تحصر السوريين في فضاءاتٍ من التيه والعماء، تستنطق الأحقاد المعلّقة ما ظَهر منها وما بَطُن، ومن الكارثي أن لا عودة منها، خاصة إذا ما تمّ التورّط في نموذج قمعي وفق مقتضيات الشعار الاستبدادي الأكثر براغماتية “من يحرّر.. يقرر”.

ومهما يكن من أمر ما سبق، كثيرٌ من التفاصيل اليومية تعكس رغبة بعض السوريين في إعادة إيجاد طاغية، لكن بنكهة طائفية مغايرة. رغبة لم تأتِ من فراغ، بالطبع، بل إنها وليد ثقافة موروثة بدأت تدغدغ القلوب المكلومة كغطاء شرعي لتمجيد الشرع/ القائد، متجاوزين هتافات الثورة التي كانت تنادي “حرية للأبد.. غصباً عنك يا أسد”. واليوم تتفتّح قريحة أولئك على التفوه بالشعارات نفسها، وإنْ من شأنها إحداث قطيعة نهائية مع “مملكة الصمت والموت” وإعلان هوية جديدة. لكن، للأسف، يبدو أنها لم تخرج على النظام الأبويّ التسلطي. إذ وبعد قتل نظام الأسد، رمزياً ومعنوياً، من المفترض أن تتفتّح فرديّة السوري وتأملاته على ما يريد حقاً، وأن تكون رؤيته منطلق تغييرٍ قطعي في طرائق التفكير والأداء، ووسيلة لإعادة بناء سورية التي اختُزلت ذات يوم لـ”مزرعة الأسد”، ومن الفظاعة اختزالها مجدّداً إلى مسمّى آخر.

يؤكد توفيق الحكيم في مسرحيته “شهرزاد”، أنّ العبدَ يُقتل بتحريره. وعليه، من الضرورة بمكان أن يتحرّر السوريون من لعنة شعارات “حكم الأبد” التي اتخذت، بما لا يدع مجالاً للشك، بُعداً شخصياً أكثر منه سياسياً، وأن يتناولوا حالة عبوديتهم بما يتجاوز حالة “اللامنتمي المخدّر”، حتى يصحّوا سريعاً من أعراض اضطراب جنون ما بعد الأسد، أو ما سماه الباحث الفرنسي غوستاف لوبون “الوحدة العقلية للجماهير”، فعندما تتلاشى هيمنة الشخصية الواعية يتأثّر الشعب بلغة التحريض وتتقاذفه مشاعر الغضب ولذّة الأفكار الانتقامية، فينساق قطعاناً خلف من يستطيع أن يقوده ليعطيه شعوراً وهمياً بالأمان، أياً تكن أهدافه ونياته.

العربي الجديد

—————————————-

المؤامرة حين تجد لها بيئة مناسبة/ رشا عمران

2025.02.11

منذ فرار الأسد وإعلان التحرير، حصلت ما يشبه الصدمة لدي الكثير من السوريين، لم يكن الأمر فقط يتعلق باستيعاب ما يحدث بعد سنوات من الاستعصاء وفقدان الأمل بأن الوضع السوري باق كما هو عليه للأبد، مع يقين شعبي شبه تام بأن آل الأسد سوف يتناوبون علي حكم سوريا واحدا بعد الآخر، ولكن أيضا الكثير من الموالين وجدوا أنفسهم فجأة أمام الحقيقة العارية: فرار الأسد وعائلته وبطانته المقربة جدا بكل ما سلبوه وخزنوه من أموال السوريين عبر عقود، وتركهم وحدهم يواجهون مصيرا مجهولا وتهديدات مفترضة لطالما تم ترسيخها في أذهانهم ( لا سيما لدى العلويين) من أن رحيل الأسد يعني شيئا واحدا: إبادة تامة للعلويين وانتقامات مريعة لكل من أيد الأسد. والحقيقة فإن كثيراً جداً من السوريين كانوا مقتنعين تماما بأن اللحظة التي يرحل فيها الأسد عن سوريا هي لحظة بدء أنهار الدم السوري التي لن تتوقف؛ ذلك أن ما حصل في الأربعة عشر عاما الماضية بكل تفاصيله لا يمكنه الإنذار بغير ذلك، مجازر مهولة، ضحايا بالملايين، خراب معمم، طائفية ومذهبية في أقصى درجاتها، فساد إداري وأخلاقي وسياسي واقتصادي، انحيازات إقصائية لا تمت للوطنية بأية صلة، تجريف كامل لكل الخدمات علي كامل الأرض السورية، انهيار مريع بالاقتصاد طال الجميع؛ نشوء طبقة أثرياء الحرب من أصحاب المصلحة الكبرى في الخراب الحاصل، تجارة الكبتاغون الداخلية والخارجية وتشكل طبقة لا يستهان بها من العاملين في هذه التجارة والمستفيدين منها بالكامل. المشكلات المجتمعية المروعة التي قلما انتبه لها أحد من العنوسة وفرق العدد بين النساء والرجال، الفروقات الكبيرة بين سوريي الخارج والداخل وبين سوريي مناطق النظام والمناطق الخارجة عنه أو ما كان يسمى وقتها (المحرر)، هجرة الأدمغة والكوادر السورية، الإحساس بالغبن والقهر لدى من تبقوا في سوريا وعانوا من شظف العيش، حرفيا. فقدان مقومات الحياة في الداخل السوري، التغيير الديموغرافي الذي كان يحدث على قدم وساق. كل هذا كان يهيئ لفكرة رحيل الأسد عن سوريا بأية طريقة كانت سوف تحول سوريا إلى بحر من الدماء والفوضى لن يكون لها زمن محدد لتنتهي.

ما حدث فاجأ الجميع وأصابنا جميعا بالذهول، فر الأسد واستلمت هيئة تحرير الشام (النصرة سابقا) السلطة في سوريا، وللنصرة تاريخ غير مجيد مع الوعي الجمعي السوري، منها نتيجة بروباغندا كبيرة اشتغل عليها النظام السابق مع حلفائه، ومنها نتيجة ارتكابات وانتهاكات ليست قليلة أبدا ارتكبتها النصرة ووضعتها على قوائم الإرهاب الدولية، ومنها أيضا، وهو الأهم، سمعة (الجولاني) المحلية والدولية والاختلافات حول نشأته وتاريخه، وحول تجربته في مدينة إدلب التي انقسم حولها سكان إدلب وريفها بين مؤيدين ومعارضين جذريين له، وبين من يعتبره ابن الثورة السورية ومن يعتبره ثورة مضادة هدفها القضاء على مدنية الثورة وعلى ناشطيها المدنيين في إدلب. كل تلك المعطيات أصابت السوريين بالذهول وهم يرون أن فرار الأسد ودخول الهيئة إلى دمشق واستلامها للسلطة تم بأقل الخسائر الممكنة مبددا المخاوف والرهاب المستقر في الوعي الجمعي السوري حول تلك اللحظة. لكن هذا لم يكن مناسبا لكثير من المستفيدين من الوضع السابق، سواء في الداخل السوري أو في دول الإقليم، أو في الدول والقوى التي لها مصلحة في ألا تقوم لسوريا قائمة.

لم تمر أيام قليلة جدا على التحرير حتى بدأنا نسمع عن مجازر مرتكبة وعن انتهاكات وخطف وجثث يتم العثور عليها. خصوصا في أماكن احتقان طائفي سابقة، وعن قتل لـ(علماء) لم يسمع بهم أحد سابقا. وتبين لاحقا أن معظم تلك الأخبار كانت أخبارا مزيفة، أسهم في انتشارها تداولها من قبل أعداد كبيرة جدا من المثقفين العرب ممن كانوا يعتقدون أن نظام الأسد نظام وطني عروبي، رافضين كل ما أثبته السوريون عن جرائمه.

لكن أيضا، فإن فوضى السلاح الذي كان مرميا في الشوارع إثر انهيار نظام الأسد، وانتشار الفصائل الجهادية وانتقالها بعد التحرير من إدلب إلي كل المحافظات السورية، وعدم التزام الكثير من عناصر الهيئة بتعليمات قياداتهم بضرورة التعامل باحترام مع جميع السوريين، ووجود عناصر جهادية ليست سورية ضمن الهيئة، عناصر قدمت إلى سوريا بقصد الجهاد وما ينتج عنه من مكتسبات في الدنيا والآخرة، وعدم قدرة الكثير من العناصر على انتظار العدالة الانتقالية، إضافة إلى قرارت التسريح العشوائية التي اعتمدتها الهيئة ، وطالت أكثر ما طالت العلويين (لأسباب يطول شرحها) هذا كله أدى إلى حالة من الفوضى والتوتر والتحفز بين السوريين، كان مترافقا مع خوف، يمكن فهم أسبابه، لدى العلويين تحديدا، هذا الخوف، الذي أعرفه جيدا بحكم انتمائي البيولوجي وسماعي عنه من أقارب وأهل لي في سوريا، لا يمكن الاستهانة به، ويجب التعامل معه بحذر شديد وبروية عالية وبقدرة على ضبط إيقاع الحياة السورية بالابتعاد عن الانتقامات الطائفية في القرارات الرسمية، لأن تراكمه سوف يؤدي إلى عواقب وخيمة تدخل سوريا في مجاهل جديدة من مجاهل الدم والفوضى وربما التقسيم الذي لا تخفي بعض القوى الإقليمية رغبتها في حدوثه.

وليس مفاجئا أن تنتشر على وسائل التواصل الاجتماعي كلها، حسابات لا تحصى معظمها حسابات مزيفة تحت أسماء متعددة، وكلها تصب في خانة واحدة: التحريض اليومي على العنف الطائفي، وبث أخبار يومية، أغلبها مزيف، عن مجازر ترتكب بحق العلويين، وتضخيم الحقيقي منها واعتباره نهجا تعتمده الهيئة ثم الحكومة الجديدة في سلوكها تجاه العلويين؛ دون أي حديث، إلا ما ندر، عن حوادث أمنية يومية في باقي المحافظات السورية من خطف وقتل وسرقات وانتهاكات، ما يزيد الشك والريبة في توجه تلك الحسابات وارتباطاتها بمشاريع خارجية تهدف إلى تثبيت الفوضى في سوريا ومنع الاستقرار، وهي محاولات لا يمكن الإنكار أنها تؤتي نتائج باتت معلنة، حيث نسمع يوميا عن مطالبات بالحماية الدولية خصوصا لمناطق العلويين والدروز والأكراد، مثلما نسمع تصريحات إسرائيلية بوقوفها إلي جانب الأقليات السورية (المضطهدة) ووجوب حمايتها لهم. ومن تتبع لمصادر تلك الحسابات المؤججة للعنف الطائفي، سواء الوهمية منها أو الحقيقية، وسواء التي تدعو لإبادة العلويين أو تلك التي تدعي الحرص والخوف عليهم فإنه ليس من المفاجئ الاكتشاف أنها كلها، تقريبا، مرتبطة بإسرائيل بشكل من الأشكال، وهو ما استطاع ناشطون سوريون إثباته خلال هذه الفترة وتوضيحه للسوريين ولكن في حالة الاستقطاب الحاصلة فإن أصوات هؤلاء الناشطين سوف تضيع وسط الصراخ الطائفى المحموم الذي يساهم فيه، عن جهل أو عن سابق قصد، بعض ممن يدعون أنهم إعلاميون يرافقون السلطة الحالية بكل خطواتها، ويقال إن بعضهم يكاد لا يفارق قصر الشعب.

سنكون واهمين جدا إن ظننا، ولو لحظة، أن إسرائيل تريد الاستقرار لسوريا، هذا أمر يخالف ليس فقط طبيعتها الاستعمارية، بل يخالف أيضا كل ما قامت بها عبر تاريخها من تكريس وتأييد للخراب في الدول المحيطة بها، لن تتوقف إسرائيل عن دعم الأصوات المخربة في سوريا، ولن تتوقف عن محاولاتها بث الرعب وتكريس الفوضى، ولن تتوقف أياديها عن العبث بالأمن السوري، هذا بالنسبة لي، لا جدال فيه، حتى لو اعتبره البعض انحيازا لنظرية المؤامرة. لكن أيضا المؤامرات الخارجية تحتاج بيئة مناسبة لها كي تتحقق، وسوريا حاليا، للأسف، هي بيئة مناسبة جدا بكل ما يحدث فيها، وإن استمر الوضع على ما هو عليه فليس بعيدا جدا أن يحصل ما لا يريده وطنيو سوريا من عملية تقسيم تقضي على آخر حلم بسوريا حرة وعادلة وموحدة.

الكرة الآن في ملعب السلطة الجديدة وفي ملعب السيد أحمد الشرع رئيس المرحلة الانتقالية الذي يقدم في مقابلاته كلاما بالغ الأهمية والوطنية، لكننا لا نرى له على أرض الواقع وجودا. فالسيد الرئيس حاليا مطالب بالبدء بأعمار سوريا والتخلص من عقلية الفصيل إلى عقلية الدولة، كما قال هو، وعقلية الدولة تلزمه بالعدل في كل شيء، العدل في المناصب والعدل في العقوبات والعدل في المحاكمات والعدل في الوظائف والعدل في الأمان والعدل في التنمية. وتلزمه التعامل مع كل السوريين، على اختلاف طوائفهم ومذاهبهم ومشاربهم، بوصفهم مواطنين سوريين متساوين في الحقوق والواجبات. تلزمه بإنشاء جيش وطني مؤلف من كل السوريين، وبإنشاء شرطة وطنية تحفظ أمن جميع السوريين، تلزمه أولا بالقضاء على ظاهرة الملثمين الذين يدخلون المنازل والقرى ويقتلون ويسرقون باسم الهيئة، وتلزمه بالقضاء على ظاهرة الجهاديين غير السوريين الذين يتدخلون في نمط عيش السوريين هنا وهناك، وتلزمه بالتوقف عن إجراء تسويات مع كبار المجرمين والمرتكبين والتنكيل بالبسطاء ممن اضطروا لخدمة العلم وتنفيذ الأوامر، وتلزمه بالعدل في التسريحات والتعيينات بعيدا عن المحصصات والعقاب كما صرح هو في غير مقابلة معه. وتلزمه أولا وأخيرا بالاستماع إلى كل السوريين، كلهم من دون استثناء، بوصفهم مواطنين لا رعايا طوائف يمثلهم رجال دين أفاكون ودجالون، يلزمه الاستماع إلى رجال ونساء سوريا من المثقفين والمفكرين والفنانين والموسيقيين، ممن لا يشبهون توجهه ولا يشبهون نمطه. يلزمه الاعتماد على كفاءات وطنية من كل سوريا في الداخل والخارج، متنوعون ومختلفون لا أبناء محافظة واحدة ومذهب واحد وإيديولوجية واحدة.

العدل أيها السيد الرئيس هو ما يحقق لسوريا الأمان، العدل والقانون لا الشريعة التي يطبقها شيوخ دين بينما يترك المختصون وأصحاب الكفاءات القانونية والقضائية والعسكرية خارجا. العدل أيها السيد الرئيس هو ما يحمي سوريا من المؤامرات والتصيد والتحريض ويحمي مواطنيها من الخوف المدمر. وباستثناء المستفيدين من العهد السابق لا يوجد سوري واحد يريد الخراب لسوريا، والمستفيدون من العهد السابق هم قلة قليلة تنتمي لكل الطوائف والمذاهب والقوميات عليك أن تحمي سوريا والسوريين منهم ومن من يدعمهم من قوى خارجية لن تهدأ محاولاتها عن بث الخراب في سوريا إلا برؤية كل السوريين على قلب رجل واحد، وهذا الأمر بيدك حاليا أيها السيد الرئيس.

تلفزوين سوريا

———————————-

عن خوفنا الذي يصنع الطاغية/ حسام أبو حامد

11 فبراير 2025

في عصور بلاد فارس القديمة، وبعد موت الإمبراطور، يُترك الناس خمسة أيام من دون حاكم ومن غير قانون، فلا ينجو من الفوضى إلا أصحاب الولاء الصادق للإمبراطور الجديد، بعد أن أدركوا مخاطر غياب السلطة وانهيار النظام. ولا تزال صناعة الفوضى أو استغلالها استراتيجيةً كلاسيكيةً، بها يصوّر الطغاة أنفسهم “منقذين” وحيدين، قادرين على استعادة النظام، وقد يحظون بشعبية كبيرة رغم توسيع سلطاتهم على حساب حقوق المواطنين وحرياتهم.

الناس، الذين أصيبوا بصدمة بسبب الفوضى والخوف من المجهول، أكثر استعداداً للخضوع، ولاستبدال طاغية بآخر. ليست تلك ديناميكيةً فريدةً، فعلى مرّ التاريخ، استغلّ الطاغيةُ الخوفَ من الفوضى لتبرير صعوده إلى السلطة، ففي أوقات الأزمات، يُعطي الناس الأولوية للاستقرار على حساب الحرية. والخوف، مبرّراً كان أو مُصنّعاً، هو آلية نفسية سياسية تدفع الأفراد إلى التضحية بحرّياتهم وحقوقهم في مقابل وعود الأمن والاستقرار، فـ”الهروب من الحرية” سمة مميّزة للمجتمعات التي تُنتج الطغاة، بحسب إيريك فروم. ليست هذه الطاعة عمياء دائماً، إنها نتيجة حساب عقلاني مفاده أن البديل (الفوضى) أسوأ. ولا يبقى الخوف عاطفةً فرديةً، بل يصبح عقيدةً جماعيةً تتحكّم في المجتمع، والحفاظ على النظام القائم هدفاً مقدّساً.

مهّد الكساد العظيم في ثلاثينيات القرن العشرين لصعود الأنظمة الفاشية في أوروبا، وعلى نحو مماثل، في العصر الحديث، غذّى التفاوت الاقتصادي، والبطالة، الحركاتِ الشعبويةَ، واليمين المتطرّف. في الولايات المتحدة، وظّفت المكارثية الخوف من التجسّس السوفييتي والتهديدات النووية وأجواء الحربين، الباردة والكورية، فقُمِعت المعارضة بتهمة الشيوعية، واستغلّت الترامبية (وعادت لتستغلّ) انعدام الأمن الاقتصادي، والمشاعر المناهضة للهجرة، وردّات الفعل ضدّ العولمة والتعددية الثقافية، والصوابية السياسية، باعتبارها تهديدات وجودية للأميركيين “الحقيقيين”.

يميل الناس أكثر إلى دعم القادة الذين يعدونهم بحلولٍ سريعة، رغم تدابيرهم الاستبدادية. في فوضى حرب الشيشان الثانية (1999-2000)، قدّم فلاديمير بوتين نفسه قائداً قوياً قادراً على استعادة النظام والأمن، وأمجاد الروس القومية، موسّعاً صلاحياته على حساب الحرّيات المدنية. الرئيس الفيليبيني السابق، رودريغو دوتيرتي، شنّ حرباً على تجارة المخدّرات، وخفّض الجريمة بقتل الآلاف خارج نطاق القضاء، منتهكاً بشعبيته الواسعة حقوق الإنسان.

وبحكم تاريخ من الاستعمار والعسكرة، أصبحت ثقافةَ الخوف جزءاً من هُويَّة مجتمعاتنا العربية، فتحوّل الخوفُ آليةً لصناعة الطاغية، ما أعطى الاستبداد شرعيةً غير مباشرة. دافع عراقيون (وعرب) عن نظام صدّام حسين رغم جرائمه، خوفاً من فراغ السلطة والفوضى الطائفية، التي تحقّقت بعد سقوط النظام. وفي مصر، روَّج نظام حسني مبارك خطر الفوضى في حال سقوطه. وبعد إطاحة محمّد مرسي، وموجة العنف، بعد مجزرتي ميداني رابعة العدوية والنهضة، صوّر الجيش المصري بقيادة عبد الفتاح السيسي الإخوان المسلمين تهديداً للأمن القومي، وقدّم السيسي نفسه ضامناً وحيداً للاستقرار، فحظيت سياساته القمعية بقبول شعبي.

لا يكتفي الطغاة باستغلال الخوف، بل يصنعون الفوضى تبريراً للقمع، وعبر “استراتيجية الصدمة” يفجّرون الصراعات والأزمات، لإجبار الناس على قبول الطاغية خياراً أوحد. صمد نظام بشّار الأسد في وجه الشارع المنتفض بتعزيز الانقسامات الطائفية والعرقية، وروَّج أن سقوطه يعني انتقاماً سنيّاً من الأقلّيات (الأقلية العلوية خصوصاً). حوّل الخوفُ جزءاً من المجتمع درعاً بشرية للنظام، حتى بعد التكلفة البشرية العالية، وعزِل الآخرين بوصفهم تهديداً. بهذه الاستراتيجية تحوّلت الثورةَ حرباً أهلية ثبّتت الطاغية، وأصبح نموذج سورية فزّاعة يخوّف بها طغاة آخرين شعوبهم. وثّمة خوف يعيشه السوريون بعد سقوط نظام الأسد، خوف من انتقام مضادّ، ومن مزيد من الفوضى، استغلال الخوف قد يتسبّب في إعادة إنتاج الاستبداد السياسي، والاجتماعي أيضاً.

من دون مواجهة الخوف، وفهم كيفية استغلاله، سيستمرّ ذريعةَ الطاغية لإعادة إنتاج نظامه. تجعل التنمية الاقتصادية الطاغية أقلَّ جاذبيةً، وتمنع المؤسّسات الديمقراطية القوية تركيز السلطة، بينما ينشر التعليم المدني وعياً بالديمقراطية، وبالتفكير النقدي، ويمنع التلاعب السياسي. أمّا التضامن والشعور بالمسؤولية المشتركة، فيحرّران المجتمع من خوف قابل للتوظيف السياسي.

العربي الجديد

———————————

سوريا تراهن على اقتصاد بلا قيود.. لماذا تتجه الحكومة نحو نموذج السوق الحر؟/ عبد العظيم المغربل

2025.02.11

في أعقاب سقوط نظام الأسد في 8 كانون الأول 2024، أعلنت حكومة تصريف الأعمال في سوريا عن توجهها نحو تبني نموذج “اقتصاد السوق الحر”، في تحول جذري عن السياسات الاقتصادية التي اعتمدها نظام الأسد البائد على مدى عقود. فقد قام نظام الأسد الأب بتطبيق اقتصاد اشتراكي موجه، ثم بدأ الأسد الابن بالتدرج نحو نموذج “اقتصاد السوق الاجتماعي”، الذي لم يُطبق فعلياً، وأحياناً نحو رأسمالية جديدة محصورة بشخصيات النظام المقربة فقط.

حالياً، وفي ضوء الواقع الراهن والضرورات التي تفرضها المرحلة، قررت الحكومة الجديدة سلوك اتجاه جديد كلياً يعتمد على اقتصاد السوق الحر، وهو ما يفرض تحديات كبيرة على الإدارة الجديدة، ويتطلب إصلاحات عميقة ومراحل تحول تدريجية لضمان نجاح تطبيق هذا النموذج بما يتناسب مع سوريا الجديدة.

نموذج اقتصاد السوق الحر

اقتصاد السوق الحر هو نظام اقتصادي يعتمد على حرية العرض والطلب في تحديد أسعار السلع والخدمات، دون تدخل حكومي مباشر، حيث تُترك قوى السوق لتنظم الأنشطة الاقتصادية. ويرتكز هذا النظام على مبادئ مثل حرية التبادل، والملكية الخاصة، والمنافسة بين الشركات، فيما تُحدد الأسعار بناءً على التفاعل بين العرض والطلب، وتُعتبر الأرباح دافعاً رئيسياً للابتكار وزيادة الإنتاجية. في المقابل، يكون دور الحكومة محدوداً في حماية حقوق الملكية، وضمان العدالة، ومنع الاحتكار.

من أبرز مزايا اقتصاد السوق الحر أنه يعزز الكفاءة الاقتصادية من خلال المنافسة، ويشجع الابتكار الذي يسهم في تنويع السلع والخدمات، كما يتمتع بمرونة عالية، وبيروقراطية يُفترض أن تكون معتدلة، مما يجذب الاستثمارات ويحفز النشاط الاقتصادي.

على الجانب الآخر، فإن من أبرز العيوب المحتملة لاقتصاد السوق الحر حدوث تفاوت كبير في الدخل والثروة بين مختلف فئات الشعب، بالإضافة إلى احتمال فشل السوق في توفير بعض الخدمات الأساسية مثل الصحة والتعليم إذا تم التخلي عنهما وخصخصتهما بالكامل. كما قد تنشأ احتكارات لبعض المنتجات المهمة، مما يؤدي إلى ضعف المنافسة، وقد تتعرض السوق لتقلبات اقتصادية مثل التضخم أو ارتفاع معدلات البطالة في حال عدم وجود قوانين منظمة لهذا القطاع.

تمثل دول مثل الولايات المتحدة الأميركية وهونغ كونغ أمثلة بارزة على تطبيق السوق الحرة، حيث تتمتع أسواقها بدرجة عالية من الحرية مع تدخل حكومي محدود يهدف إلى تعزيز الابتكار والتنافسية. ويُعد هذا النموذج وسيلة لتحقيق الكفاءة الاقتصادية من خلال قوى العرض والطلب، دون قيود بيروقراطية تعيق النشاط التجاري، مما يسهم في تعزيز النمو الاقتصادي وخلق فرص العمل.

ورغم أن السوق الحرة تهدف إلى تقليل التدخل الحكومي، فإن الدولة قد تظل تلعب دوراً مهماً في تنظيم السوق لضمان استقرارها وعدالتها، من خلال حماية المستهلكين من الممارسات التجارية غير العادلة، وضمان حقوق الملكية الفكرية، ومنع الاحتكار الذي قد يخل بالتوازن الاقتصادي ويقوض مبادئ التنافسية.

أسباب التوجه نحو الاقتصاد الحر

أولاً، يُعد اعتماد نموذج الاقتصاد الحر تطوراً مهماً للواقع السوري، الذي كان يتسم بتدخلات حكومية واسعة خلال العقود الماضية. ويعتبر هذا النموذج أكثر توافقاً مع القيم التي نادى بها الشعب السوري خلال الثورة السورية، كما أنه يمثل خطوة نحو الانفتاح على الاقتصاد العالمي والاندماج فيه، مما يعزز قدرة سوريا على الانضمام إلى الأسواق الدولية، ويسهل عمليات الاستيراد والتصدير، ويجذب الاستثمارات الأجنبية، وهو أمر حاسم لإعادة بناء الاقتصاد الوطني في مرحلة ما بعد سقوط نظام الأسد.

وفي هذا الإطار، يقول الدكتور في الاقتصاد مخلص الناظر: “تطبيق نظام السوق الحرة في سوريا يعد خطوة ضرورية لإعادة بناء الاقتصاد المدمر بسبب الحرب، كما أن هذا النظام يسهم في تحقيق الاستقرار الاقتصادي من خلال تحرير الأسعار وربطها بالعرض والطلب، ويشجع الاستثمارات الأجنبية التي تُعد محورية لإعادة إعمار القطاعات الحيوية”.

علاوة على ذلك، يعزز الاقتصاد الحر التنافسية في الأسواق، مما يساعد على تخفيض الأسعار وتحسين جودة السلع والخدمات، وهو ما يتماشى مع الحاجة الملحة لضبط التضخم في ظل الظروف الاقتصادية الصعبة التي تمر بها البلاد، خصوصاً في هذه المرحلة الانتقالية. كما أن هذا النموذج سيسهم في زيادة أرباح التجار عبر تحفيز العرض والطلب، مما يعزز تدفق الأموال إلى الاقتصاد السوري، سواء من الداخل أو الخارج. وبطبيعة الحال، ستزداد فرص التوظيف، وتنخفض معدلات البطالة تدريجياً، مما يسهم في تنشيط العجلة الاقتصادية.

كما أشار الناظر في حديث مع موقع تلفزيون سوريا إلى أن “السوق الحرة تعزز ريادة الأعمال، وتخلق فرص عمل، وتحسن مستوى المعيشة، فضلاً عن تعزيز التكامل مع الاقتصاد العالمي والانفتاح على التجارة الدولية بشروط أفضل”.

التحديات أمام تطبيق النموذج

رغم الفوائد المحتملة لنموذج الاقتصاد الحر وأهمية تطبيقه في المرحلة القادمة، فإن الحكومة الانتقالية ستواجه تحديات كبيرة في تنفيذه.

أولاً، يُعد الإرث الاشتراكي الذي خلفه نظام الأسد عائقاً كبيراً، إذ سيطرت الحكومة لعقود طويلة على معظم الأنشطة الاقتصادية، مما أدى إلى غياب التنافسية في الأسواق، وضعف مرونة البنية الاقتصادية، إضافة إلى نقص الوعي لدى المواطنين والمسؤولين بفوائد وآليات الاقتصاد الحر، وافتقار عامة الناس إلى المعلومات الكافية حول هذا النموذج.

وفي هذا السياق، يقول الدكتور مخلص الناظر: “تطبيق نظام السوق الحرة في سوريا يواجه تحديات كبيرة، أبرزها الإرث الاقتصادي القائم على تدخل الدولة، وضعف البنية التحتية المدمرة”.

ثانيًا، يفتقر النظام الاقتصادي السوري إلى قوانين واضحة تحكم السوق الحرة، مما يؤدي إلى قلة الشفافية ويجعل السوق عرضة للممارسات الاحتكارية والفساد المستمر منذ عقود. وبالتالي، فإن غياب تشريعات تواكب هذا التحول قد يؤدي إلى تفاقم الأزمات الاقتصادية، ويزيد من التفاوت في توزيع السلع والخدمات، ويعزز مخاوف المواطنين من استمرار الفساد والمحسوبية.

في هذا الإطار، يشير الناظر إلى أن “الفساد المستشري وغياب الأطر القانونية والتنظيمية يمثلان عقبات رئيسية أمام تحقيق الشفافية والعدالة”، مؤكداً أن التفاوت الاقتصادي بين الفئات السكانية واستمرار حالة عدم الاستقرار السياسي والأمني يزيدان من صعوبة التحول، مشدداً على أهمية تحقيق التوازن بين تحرير السوق وحماية الفئات الضعيفة لضمان نجاح التطبيق.

كذلك، يُتوقع أن يشهد السوق السوري المزيد من الاحتكارات، خاصة في ظل ضعف الرقابة وغياب القدرة على التحكم في القطاع الخاص خلال المرحلة الانتقالية الحالية، وذلك بسبب قلة الكوادر الاقتصادية المختصة، مما قد يؤدي إلى تركز الثروة في أيدٍ قليلة. كما أن البيئة الاقتصادية المنهارة، وغياب الاستقرار الأمني والسياسي، واستمرار فرض العقوبات، كلها عوامل تعيق جذب الاستثمارات، مما قد يُضعف قدرة الحكومة على تحقيق استقرار اقتصادي مستدام.

الرسائل الموجهة للداخل والخارج من هذا النموذج

لا يمكن تجاهل الرسائل السياسية التي يحملها هذا التوجه نحو اقتصاد السوق الحر. فمن جهة، تمثل دعوة الحكومة إلى اعتماد هذا النموذج محاولةً لطمأنة المجتمع الدولي، خصوصاً الدول الغربية، بأنها على استعداد للتحرك نحو نموذج اقتصادي يتوافق مع قيم السوق المفتوح، وهو ما يعزز فرص جذب الدعم العربي والدولي، سواء عبر استثمارات مباشرة أو مساعدات لإعادة الإعمار.

ومن جهة أخرى، تهدف الحكومة إلى التأكيد للداخل السوري بأن عهد المركزية الاقتصادية قد انتهى مع سقوط النظام السابق، مما قد يُخفف من مخاوف البعض بشأن تركيز السلطة الاقتصادية في يد أقلية جشعة. كما يسعى هذا التوجه إلى توجيه رسالة طمأنة للفئات المهمشة، مفادها أن التحول لن يكون على حساب حقوقهم، وأنه سيتم اتخاذ إجراءات لحماية الطبقات الأكثر تضرراً من التغيرات الاقتصادية، بما يضمن توزيعاً عادلاً للموارد والثروات على جميع أفراد المجتمع.

الخلاصة

يمثل التوجه نحو اقتصاد السوق الحر بعد إسقاط نظام الأسد خطوة أساسية ومهمة نحو بناء نظام اقتصادي جديد يعكس التغيرات السياسية في البلاد خلال مرحلة ما بعد سقوط الأسد، ويساعد على تحقيق نهضة اقتصادية متسارعة. ومع ذلك، فإن تطبيق هذا النموذج سيواجه تحديات هائلة وحقيقية، تتراوح بين الإرث الاشتراكي، وغياب القوانين المناسبة، وانتشار المحسوبية، بالإضافة إلى الحاجة الملحة لإعادة بناء البنية التحتية الاقتصادية المتهالكة منذ عقود.

وبالتالي، يتطلب هذا التحول وقتاً طويلاً ودعماً دولياً لتخطي هذه الصعوبات، إلى جانب وضع خطط شاملة تسهم في عملية الانتقال. وسيكون لنجاح هذه الخطوة تأثير عميق على مستقبل سوريا الاقتصادي وشعبها، شريطة أن تتمكن الحكومة من التغلب على هذه التحديات، وتوفير بيئة قانونية وآمنة تعزز التنافسية والمساواة.

تلفزيون سوريا

———————————

خمس وزارات أو هيئات يمكن أن يكون لها دور جوهري في سوريا الانتقالية/ عبد الناصر القادري

2025.02.11

مرّ أكثر من شهرين على سقوط نظام الأسد وطي صفحة هذه العائلة إلى الأبد، في الوقت الذي تستعد فيه سوريا لبناء دولة جديدة وإعلان حكومة انتقالية، مطلع آذار المقبل.

كان الشهران الماضيان مليئان بالتحديات الأمنية والمعيشية داخلياً والدولية والإقليمية خارجياً لضبط أوضاع البلاد بعد سقوط منظومة الفساد وملاحقة رؤوس الإجرام فيها.

وفي متابعة موقع تلفزيون سوريا لمطالب الشارع السوري، تختلف الآراء وتتباين المطالب وسط ترحيب واسع بالتغيير وانتظار لمس ذلك على أرض الواقع بما يتعلق بالخدمات الأساسية والظروف المعيشية لدى شريحة من السوريين.

وتتركز مطالب البعض على الجوانب الأمنية ومحاسبة القتلة، تزامناً مع مطالبة ذوي المعتقلين والمختفين قسرياً بالكشف عن مصير أبنائهم الذين غيّبهم النظام تحت الأرض أو قتلهم تحت التعذيب، وغير ذلك من المطالب التي ينادي بها سوريون عبر موقع تلفزيون سوريا.

ومن خلال جمع الآراء، دعا سوريون استطلعنا آراءهم في شوارع دمشق وريفها، بأن يكون هناك وزارات أو هيئات أو لجان حكومية تلبّي أبرز هذه المطالب وتعمل على تنفيذها ضمن خطط استراتيجية تهدف إلى ضمان تحقيق العدالة الانتقالية والاجتماعية وصولاً إلى السلم الأهلي وبناء سوريا الجديدة.

وبحسب من استطلعنا آراءهم من ذوي الضحايا والمعتقلين والمفقودين والمغيبين قسرياً ولاجئين ونازحين في الخيام، أكّد معظمهم أنه لا بد من تشكيل 5 أجسام حكومية وطنية على صلة مباشرة بالرئاسة ومجلس الوزراء ولها شكل قانوني ودستوري في المرحلة الانتقالية وهي:

1- “وزارة شؤون الشهداء وذويهم”

عمل النظام السوري منذ الأيام الأولى للمظاهرات السلمية على استهداف المتظاهرين بشكل متعمّد، متسبباً في مقتل عشرات آلاف السوريين في العام الأول من الثورة.

ومع تسلّح الثورة وبدء انشقاق العسكريين الرافضين لاستهداف السوريين بدأ النظام باستخدام الحصار والتجويع والقصف بكل أنواع الأسلحة وتدمير المدن على رؤوس ساكنيها مع استهداف المشافي والمخابز والمدارس والجوامع والأسواق لقتل أكبر من السوريين في المناطق الخارجة عن سيطرته.

ووثقت الشبكة السورية لحقوق الإنسان، مقتل أكثر من 202 ألف مدني على يد قوات نظام الأسد المخلوع وحلفائه من الإيرانيين والروس، بين عامي 2011-2024، بينهم 23,058 طفلاً و12,010 سيدات.

يضاف إليهم عشرات آلاف السوريين الذين تطوعوا للقتال ضد النظام وقُتلوا في المعارك ضده خلال معارك التحرير في الجبهات على اتساع الخريطة السورية.

تتولى هذه الوزارة مسؤولية رعاية أسر “الشهداء” وتوفير الدعم المادي والمعنوي لهم، ومن المهم أن تكون هذه الوزارة مسؤولة عن تقديم تعويضات، وتوثيق الشهادات والقصص، وتنسيق أنشطة تكريم الشهداء لحفظ التضحيات وتقديم العدالة إلى ذويهم، ممّا يعزز النسيج الاجتماعي ويسهم في عملية السلم الأهلي.

2- وزارة التحقيق في المغيبين والمختفين قسرياً

مارس النظام السوري سياسة الاعتقال منذ بدايات الثورة السورية، حيث اعتقل مئات آلاف السوريين وزجهم في غياهب معتقلاته وسجونه من دون أي محاكمات عادلة أو حقوق مدنية، وتسبب في مقتل عشرات الآلاف منهم تحت التعذيب كما ظهر في تسريبات صور قيصر.

ووثقت الشبكة السورية لحقوق الإنسان ما لا يقل عن 96,321 حالة اختفاء قسري على يد قوات النظام السوري، بينهم 2,329 طفلاً و5,742 سيدة، معظمهم لم يعودوا مع فتح السجون والمعتقلات في أثناء عملية “ردع العدوان” التي أدت إلى إسقاط النظام.

وتتولى هذه الوزارة أو الهيئة، مسؤولية التحقيق في قضايا المختفين قسرياً وإيجاد حلول قانونية ومنهجية لتوثيق هؤلاء المفقودين، مع متابعة القضايا لدى المحاكم المحلية والدولية لملاحقة كبار المجرمين المسؤولين عن هذه الجرائم.

مشروع خطة العبور إلى الدولة المرحلة الانتقالية في سورية الجديدة

مشروع خطة العبور إلى الدولة: المرحلة الانتقالية في سوريا الجديدة

ويمكن لهذه الواردة أن تسهم في توفير العدالة لأسر المفقودين، وضمان محاسبة المسؤولين عن عمليات الاختفاء القسري، وهو جزء أساسي من عملية العدالة الانتقالية.

3- “وزارة إعادة اللاجئين والمهجرين”:

يقدر عدد اللاجئين خارجياً والنازحين المهجرين داخلياً بأكثر من 12 مليوناً، اقتلعوا من بيوتهم ومدنهم وهُجّر قرابة ربعهم في اتفاقيات تهجير قسري ضمن مشروع إيراني روسي للتغيير الديموغرافي في سوريا.

ويوجد في شمال غربي سوريا (ومناطق أخرى) مئات مخيمات النازحين الذين يعانون أشد المعاناة في برد الشتاء ولهيب الصيف، وسط تسرّب مئات آلاف الأطفال من المدارس وعدم تسجيل كثير من الولادات الجديدة في السجل المدني السوري.

الكثير من اللاجئين والمهجرين والنازحين فقدوا بيوتهم بفعل التدمير الممنهج ولذلك فعودتهم يجب أن تتم وفق ظروف مواتية، فقد تسبّب التحرير في تحسن الوضع الأمني، حيث لم يعد هناك اعتقالات أو قصف أو تهجير أو تجنيد إجباري ولكن ليس هناك بيوت لكثير من الناس، كما أنه هناك أشخاص خسروا محالهم أو مصانعهم أو عياداتهم أو مشاغلهم وغير ذلك ولهم الحق بالتعويض أو تأمين الظروف لإعادة بنائها.

تعمل هذه الوزارة أو الهيئة على التنسيق مع المنظمات الدولية والدول المجاورة لإعادة اللاجئين والمهجرين إلى وطنهم، وتوفير الدعم اللازم لإعادة توطينهم في بيوت لائقة مؤقتة أو دائمة.

تعتبر هذه الوزارة بالتعاون مع وزارة الخارجية السورية حيوية لإعادة الاستقرار الاجتماعي والاقتصادي لسوريا والدول التي تعاني من عدم حل ملف اللاجئين، كما ستلعب دوراً جوهرياً في توثيق أعداد اللاجئين والمهجرين والتواصل معهم وتسجيل مشكلاتهم والتعاون مع الدول المستضيفة لحل مشكلاتهم بالتنسيق مع وزارة الخارجية.

4- “وزارة إعادة الإعمار”:

أشرنا إلى أنّ مدناً كاملة تعرّضت للتدمير وتهجير السكان في سوريا بشكل ممنهج، استخدم فيه النظام والميليشيات الإيرانية كل أنواع الأسلحة، كما جرّبت روسيا مئات الأسلحة والقذائف من أجل بيعها في سوق السلاح العالمي، الأمر الذي أدّى إلى تدمير أجزاء كاملة من محافظات ريف دمشق ودرعا والقنيطرة وحمص وحماة وحلب وإدلب والرقة ودير الزور واللاذقية.

وتسبّب الفساد الذي كان يستشري في كل مؤسسات الدولة بفشل البنية التحتية وتراجعها عشرات السنوات إلى الوراء، وسط غياب مؤهلات العيش من كهرباء وماء واتصالات ووسائل نقل وطرق وبيئة نظيفة.

وتُعنى وزارة إعادة الإعمار بإعادة بناء البنية التحتية للبلاد، من خلال مشاريع تنموية تشمل الإسكان، الكهرباء، المياه، الطرق، والمستشفيات والمدارس.

ومن أجل ضمان عودة الحياة إلى طبيعتها في سوريا، يجب أن تكون هناك خطة شاملة لإعادة إعمار المدن والقرى التي دمرها النظام، والاستفادة من وضع خطط استراتيجية وقوانين لجذب المستثمرين العرب والأجانب بالتعاون مع وزارتي الاقتصاد والخارجية.

كذلك، ستُعنى الوزارة بمد يد التعاون وتأسيس بيئة لاستقطاب الخبراء السوريين الموجودين في أرجاء العالم، بهدف نقل تجارب الدول التي تعلموا وعملوا فيها خلال الـ14 سنة الماضية.

5- “وزارة السلم الأهلي”:

عمل النظام السوري منذ تأسيسه قبل 54 عاماً على تطييف المجتمع السوري وبناء حواجز بين مكوناته مع حرمان كامل من الحريات السياسية والثقافية والاجتماعية والاقتصادية، وسط احتكار القلة الأمنية والعسكرية لكل موارد الدولة بقيادة حافظ الأسد ومن بعده نجله بشار الأسد الذي ورث جمهورية ملكية عن أبيه زادت من الشروخ المجتمعية وانقسامات السوريين.

وكانت الثورة السورية فرصة كبيرة لاستعادة السوريين لأنفسهم وقدراتهم وبلدهم، إلا أن النظام ورئيسه فضّلا أن يضربا السوريين ببعضهم في حرب ضروس خسرت فيها البلد الكثير من شبابها ورجالها ونسائها وأطفالها ما بين قتيل وجريح ومعتقل.

ورغم الجرح الكبير في قلوب السوريين بسبب ظلم النظام وجرائمه بحقهم، إلا أن معركة “ردع العدوان” كانت بداية رسم معالم السلم الأهلي من خلال التسويات العسكرية لكل من يلقي السلاح ويسلم نفسه، والتعامل وفق القوانين والأعراف الدولية مع جميع المكونات السورية بما فيها المساندة للنظام.

هذا التعامل المدروس فتح الباب أمام إمكانية عدم اندلاع أي حرب أهلية إثر سقوط النظام، مع التأكيد على أهمية المحاسبة وملاحقة المجرمين الذين تسببوا في حرمان السوريين من ذويهم.

تأسيس وزارة أو هيئة للسلم الأهلي تهدف إلى تعزيز المصالحة الوطنية بين مختلف الطوائف والشرائح الاجتماعية، والعمل على تحقيق التعايش السلمي بعد سنوات طويلة من الحرب التي قادها النظام.

كذلك، يمكن لهذا الجسم أن يُسهم في بناء الثقة بين السوريين، وتأسيس مجتمع مدني قائم على العدالة والمساواة، عبر الاستفادة من تجارب الدول الأخرى التي مرّت في ظروف شبيهة بالحوادث التي مرّت بها سوريا، وتعمل على تنظيم جلسات حوارية ومساحات مفتوحة لتوعية السوريين وتعريفهم على أهمية المواطنة وتطبيق القانون في نهضة سوريا الجديدة.

تلفزوين سوريا

—————————–

في التخلص من الأسد المخلوع بوصفه كاذباً/ عمر قدور

الثلاثاء 2025/02/11

قبل عشرين عاماً، في جلسة خاصة مع دبلوماسية غربية، سألتُ: ما هي مشكلتكم مع الأسد؟ إذا كانت المشكلة أنه قتل الحريري، فلدى السوريين عشرات آلاف القتلى في ذمة هذه السلطة، وهناك أضعاف الرقم من المعتقلين. المفاجأة أن المسؤولة تجاوزت في جوابها اللياقات الدبلوماسية المعتادة، وكانت أول كلمة تنطق بها: إنه كاذب.

في التفاصيل، أن المخلوع كان قد وعد بتعزيز الحماية للرئيس رفيق الحريري، وفعل العكس تماماً، وقبل ذلك أفشل مقررات مؤتمر باريس لدعم لبنان بعد التعهد بتيسيرها. وكذب عندما وعد بالسعي لإطلاق سراح صحافيين فرنسيين مختطفين في العراق بعد سقوط صدام، بينما كان يطلب من الخاطفين الاحتفاظ بهما. وكذب عندما وعد بإجراء إصلاح سياسي، ثمّ تذرّع بأن الأولوية يجب أن تكون للإصلاح الإداري. ورغم المساعدات الغربية التي حصل عليها، لم يشرع إطلاقاً في الإصلاح الإداري. هذه فقط نماذج من الأكاذيب التي ذكرتها المسؤولة، ومن المتوقع أنها لم تقل كل ما في جعبتها.

يوم الخميس المقبل تستضيف باريس مؤتمراً خاصاً لدعم سوريا، وللمؤتمر (في باريس) رمزية خاصة لدى الكثير من السوريين، لأن باريس كانت العرّابة الدولية لبشار الأسد؛ أولاً باستقباله من قبل الرئيس الأسبق جاك شيراك استقبالَ الرؤساء قبل توريثه رسمياً، ثم بتعويمه من قبل ساركوزي بعد الاتهامات التي وُجهت إليه بالوقوف وراء اغتيال الحريري. يعزز من رمزية باريس ما دأب عليها معارضون للأسد من اتهام لها بتفضيل الأقليات على الأكثرية السنية، وبأنها فخخت استقلال البلد بجيش الشرق الذي صار جيش سوريا، والذي أنشأته فرنسا من الأقليات… ولائحة الاتهام تطول لدى بعض الإسلاميين حتى تصل إلى ثأر معركة بواتييه!

الخميس المقبل ستستضيف باريس في مؤتمرها أسعد الشيباني، بصفته وزير الخارجية السوري لحُكم لا يُحتسب بالتأكيد على الأقليات. وكان لباريس دور رئيسي ضمن الاتحاد الأوروبي في النظر بإيجابية إلى السلطة الجديدة في دمشق، منذ الساعات الأولى لإسقاط بشار الأسد، مثلما كان لها دور أساسي في الأيام الأخيرة بإيقاف العقوبات الأوروبية لمدة سنة، على قطاعات أساسية مثل البنوك والطاقة والطيران المدني. والإشارة إلى الديناميكية الفرنسية الراهنة لا تهدف إلى امتداح السياسة الخارجية الفرنسية، فالأمر يتعلق بالتعامل الواقعي الفرنسي مع السلطة الجديدة، وبرغبة فرنسا في إحلال الاستقرار في سوريا. وبهذا تشترك مع معظم القوى الإقليمية والدولية المعنية بالمنطقة.

ولا يخفى أن الديناميكية الخاصة بسوريا كانت نشطة منذ الأيام الأولى لسقوط الأسد، فالوفود ذهبت بكثافة لتقابل السيد أحمد الشرع بصفته أولاً قائداً للإدارة الجديدة، ثم بصفته الرئيس المؤقت. وبصفته رئيساً استقبل الشرع أميرَ قطر، ثم غادر في أول رحلة خارجية إلى المملكة العربية السعودية، وبعدها إلى تركيا. وتلقى اتصالاً من الرئيس ماكرون، ودعوةً غير محددة التوقيت بعد لزيارة فرنسا.

السوريون، بنسبة كبيرة منهم، مرتاحون إلى الديناميكية الجديدة، بصرف النظر عن تدرّج مواقفهم من الحكومة الجديدة. فالمأمول من قبلهم أن تُفكّ العزلة عن سوريا، فيتخلّصون من آثارها الاقتصادية الخانقة على معيشتهم اليومية. أما على المدى الأبعد من اليومي فيطمحون إلى رفع نهائي للعقوبات الدولية، يؤذن ببدء مرحلة إعادة الإعمار، وما تنطوي عليه من انتعاش في سوق العمل والاستثمارات.

لا يفكّر السوريون فيما هو مطلوب لقاء الاحتضان والدعم المأمولين عربياً ودولياً، والدعم المالي الخليجي على نحو خاص يُنظر إليه كأنه من طبائع الأمور، أي كهبة خالصة. والحديث هنا ليس عن السلطة التي نفترض، حتى يثبت العكس، أن تدرك ما يرتّبه عليها الخروج من حالة الانعزال.

الثقافة السورية الشائعة لا يزال معظمها متأثّراً بالحقبة الأسدية لجهة رؤية العلاقة مع العالم، وموقع سوريا من العالم. وإلى اليوم لم يُطرح نقاش عام جاد حول معنى أن تكون سوريا جزءاً طبيعياً من الإقليم ومن العالم، مع التنويه بأن هذا إذا حدث سيكون بعد عقود من العزلة الطوعية في معظم الأوقات، العزلة التي فرضها انقلاب البعث، وأمعن فيها حافظ الأسد الذي احتكر شخصياً العلاقة بالخارج، ووظّفها في مزيد من الاستقواء على الداخل.

وما أشرنا إليه في الاستهلال من سلوكٍ للمخلوع لا يتوقف عند الكذب، فهو كان نوعاً من التشاطر والتذاكي على العالم المضطر للتعاطي معه بحكم وجوده في السلطة. ومن الجذر ذاته، أي التشاطر والتذاكي، لا تزال الثقافة الرائجة تراهن على الحصول على هبات خليجية وغربية، من دون التزامات حقيقية تجاه الجهات المانحة. الحصيلة تعود إلى السلوك الأسدي، فنحن بالشطارة والفهلوة نأخذ ما نحتاج، وبهما نتملص من الوعود، ونحافظ عملياً على العزلة “الناعمة” بقدر ما ينجح هذا الأسلوب، أو على العزلة الخانقة عندما يفشل.

إذا تذرّع السوريون، في الحكم وخارجه، بالخصوصية السورية  للتملّص مما يترتّب عليه فك العزلة فهذه وصفة مجرَّبة من قبل، وساهمت في إيصال سوريا إلى ما هي عليه الآن. قد تختلف الذرائع من حيث الشكل، إلا أن المؤدَّى ذاته والمنطلق كذلك. فهذا الزعم استُخدم من قبل، ويُخشى من استخدامه حالياً ضد الحريات العامة في الداخل، قبل أن يكون على تضاد مع بعض السياسات الخارجية الغربية. بل، كما نعلم، استثمر العهد البائد السياسات الغربية الخاصة بالصراع مع إسرائيل من أجل النيل من قيَم الحداثة ككل، ومن أجل النيل من الحريات العامة وحقوق الإنسان، واستكمل إسلاميون الاستثمار ذاته بالترويج للحريات وحقوق الإنسان بوصفها قيَماً غربية، لا كمنجزات للتراكم الحضاري الإنساني بأكمله.

سيكون مؤتمر باريس الخاص بسوريا الثالث من نوعه خلال شهرين، فقد انعقد أولاً مؤتمر العقبة في 14 كانون الأول/ديسمبر، ثم مؤتمر الرياض في 12 من الشهر الفائت. في المؤتمرين السابقين كان هناك ما هو مطلوب من الحكم الجديد، وحسبما رشح عن باريس فهو لن يكون مؤتمر مانحين فحسب، وإنما هناك قائمة بنود يودّ المؤتمرون تحقيقها. منها رؤية انتقال سياسي ديموقراطي، وقيام سوريا موحدة بلا إقصاء، وتحقيق العدالة والمصالحة، فضلاً عن أن لا تكون مصدراً لعدم الاستقرار في المنطقة كما كانت أيام الأسد.

إجمالاً، يمكن القول أن العالم غير متطلّب من الحكم الجديد، وما يريده يتقاطع مع يريده سوريون كثر وقفوا مع الثورة للمطالبة بالحريات والديموقراطية. أي أن تحقيق العديد من المطالب الدولية والإقليمية الراهنة لن يكون على سبيل محاباة الخارج أو الإذعان له، بل هو على المدى القريب والبعيد مصدر قوة لسوريا، ومصدر قوة إزاء الخارج إذا طلب حقاً ما يتعارض مع المصلحة الوطنية. أيضاً، التشاطر ببذل الوعود، ثم التنصل من تنفيذها، لن يخدم علاقة سوريا الجديدة بالعالم، ولن يخدم تحوّلها إلى بلد طبيعي بعد عقود من الاستثناء الأسدي.

فيما هو دون المطلوب، يستطيع الحكم أن يلعب فقط دور ضامن الاستقرار، وأن يحصل في المقابل على بعض المساعدات من الحكومات والمنظمات الدولية. هذا ما تستبعده تصريحات المسؤولين السوريين حتى الآن، خصوصاً تلك التي تضمنت طموحات اجتذاب الاستثمارات الخارجية وعودة الرأسمال السوري المهاجر. وربما يستطيع الوزير الشيباني في مؤتمر باريس استغلال المناخ الإيجابي لتوريط المؤتمرين في هذه الطموحات، ما يستدعي منه الخوض أبعد من العموميات التي تحدّث عنها في مؤتمر دافوس، والقبول بشراكة حقيقية، داخلياً وخارجياً.

المدن

—————————

سوريا.. 7 تطورات اقتصادية متوقعة في ظل رئاسة الشرع/ حسن الشاغل

11/2/2025

يمهد ملء الفراغ السياسي في سوريا على مستوى رئاسة الجمهورية والتشريع والعمل الدستوري لكسب الإدارة الجديدة للشرعية الدولية، مما قد يولد انعكاسات إيجابية على مؤشرات اقتصاد البلاد.

1- اعتراف دولي

تحظى الحكومات المعترف بها رسميًّا بفرص لإبرام الاتفاقيات التجارية والاستثمارية، والوصول إلى الأسواق العالمية، وتعزيز الثقة في التعامل مع المؤسسات الاقتصادية الدولية والدول، كما تحظى بفرص لزيادة الاستثمارات وتحفيز النمو الاقتصادي.

وفي هذا السياق، يشير الدكتور يحيى السيد عمر الخبير الاقتصادي إلى أن زيارة الشيخ تميم بن حمد آل ثاني أمير دولة قطر إلى سوريا عززت من قيمة الليرة السورية أمام الدولار.

فقد ارتفع سعر صرف الليرة من 11 ألفا مقابل الدولار الواحد إلى 10 آلاف وأقل من ذلك، وأرجع السيد عمر ذلك إلى أن هذه الزيارة للشيخ تميم كانت بمنزلة اعتراف بأحمد الشرع رئيسا للمرحلة الانتقالية في سوريا.

ويربط السيد عمر تحسن مؤشرات اقتصاد سوريا بالاعتراف الدولي بالشرع والحكومة الانتقالية القادمة، لكنه يؤكد أهمية اقتران ذلك بتطوير البنية التحتية ودعم الإنتاج والتصدير.

2- زيارات خارجية

يقول الخبير الاقتصادي السوري يونس الكريم للجزيرة نت إن قدرة الرئيس أحمد الشرع على القيام بزيارات خارجية رسمية للدول ستفتح المجال لتحقيق مكاسب اقتصادية.

ويضيف الكريم أن زيارة الشرع إلى السعودية تندرج في سياق البحث غن تحقيق مكاسب تتعلق بدعم عملية إعادة الإعمار، وتشجيع الاستثمار في سوريا، والحصول على قروض أو منح مالية، بما يحقق عوائد إيجابية على اقتصاد البلاد.

وفي 2 فبراير/شباط الحالي استقبل ولي العهد السعودي محمد بن سلمان في العاصمة الرياض أحمد الشرع. وتناول اللقاء، بحسب الشرع، خططا مستقبلية موسعة، في مجالات الطاقة والتقنية، والتعليم والصحة. وبحث اللقاء مستجدات الأحداث في سوريا والسبل الرامية إلى دعم أمن سوريا الشقيقة واستقرارها.

كذلك زار أحمد الشرع تركيا بتاريخ 4 فبراير/شباط 2025، والتقى خلال الزيارة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان الذي أكد أن العقوبات الدولية على سوريا تعوق نمو البلاد موضحا أن أنقرة تبذل جهودا لرفعها، في حين أكد الشرع تحويل العلاقة مع تركيا إلى شراكة إستراتيجية عميقة في المجالات كافة.

ويشير الكريم إلى احتمال توسع زيارات الرئيس الشرع لتشمل دولًا متوجسة من التطورات التي حدثت في سوريا، لتشجيع تلك الدول على التعاون مع سوريا في جميع المجالات وخاصة المتعلقة بالاقتصاد، لا سيما بعد تخفيف الولايات المتحدة الأميركية والاتحاد الأوروبي للعقوبات المفروضة على سوريا.

وفي هذا الصدد، توقع الباحث الاقتصادي السوري إياد الحجي ارتفاع قيمة التبادل التجاري مع تركيا بعد زيارة الشرع، وقال إن هذه الزيارة ستعزز من مستوى التنسيق التجاري والأمني بين البلدين.

من جانبه، يؤكد الخبير الاقتصادي يونس الكريم أن تحرك الرئيس الشرع دوليا قد يسهم بتدفق المساعدات الدولية الإنسانية للبلاد، لبناء البنية التحتية ودعم الاقتصاد.

3- تحسين بيئة الاستثمار

بملء الفراغ السياسي والتشريعي والقانوني في سوريا تستطيع الحكومة سنّ القوانين والإجراءات والإصلاحات التي تشجع الاستثمارات الأجنبية والمحلية في قطاعات مثل البنية التحتية، والزراعة، والطاقة والصناعات التحويلية.

ويقول مناف كومان الباحث الاقتصادي في مركز عمران للدراسات للجزيرة نت “يمكن أن تعمل الحكومة بعد ملء الفراغ التشريعي في سوريا على سنّ الإجراءات والقوانين التي تشجع على الاستثمار وجذب المستثمرين السوريين والأجانب”.

ويتحدث كومان عن أهمية الاستثمار في القطاعات الصناعية التحويلية، مثل صناعة النسيج والبناء والكيماويات والصناعات الورقية والخشبية وغيرها.

ويشير إلى أهمية تحفيز القطاع الخاص من خلال تمكين الشركات الصغيرة والمتوسطة وريادة الأعمال لدعم الاقتصاد الوطني وتوطين الصناعات وتنويع الاقتصاد وخلق فرص عمل.

وبحسب تقرير منشور على موقع الجزيرة نت، من المحتمل أن تكون دول الخليج العربي أبرز الدول المساهمة في الاستثمار بسوريا لا سيما دولة قطر والسعودية والكويت، وقد تحدث الرئيس السوري الشرع سابقًا عن أولوية دول الخليج العربي بالاستثمار في سوريا.

4- تخفيف العقوبات

من العوامل الحاسمة في تحسن مؤشرات اقتصاد سوريا موقف الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي من الحكومة الجديدة، وتعليق أو رفع العقوبات، وهو ما قد ينعكس إيجابًا على تحسن الاقتصاد تدريجيا.

وفي هذا السياق، يقول الخبير يونس الكريم إن تسلّم الشرع لرئاسة البلاد يمنحه القدرة على التحرك خارجيا، ويسمح له بعقد لقاءات دولية لإقناع بعض الأطراف لدفع الولايات المتحدة الأميركية ودول الاتحاد الأوروبي إلى تعليق العقوبات بشكل أوسع ولفترة طويلة.

وفي وقت سابق أكّد وزير الخارجية السعودي الأمير فيصل بن فرحان من دمشق وقوف بلاده إلى جانب الإدارة السورية الجديدة ودعمها في مسألة رفع العقوبات الغربية، بحسب ما نشرته الجزيرة نت.

5- إبرام اتفاقيات اقتصادية

إن التحركات الدبلوماسية التي من المحتمل أن ينفذها الرئيس الشرع سوف تمنحه القدرة على إبرام اتفاقيات اقتصادية مع عدد من الدول.

وفي هذا الصدد، يقول الباحث الاقتصادي إياد الحجي للجزيرة نت إن الشرع قد يكثف زياراته الخارجية لإبرام اتفاقيات في قطاعات تدعم الخدمات التي تسهم في توفير البنية اللازمة لدعم عملية الإنتاج والتصنيع في البلاد.

ويؤكد الحجي أن ملء فراغ منصب رئاسة الجمهورية وتفويض الرئيس أحمد الشرع يؤدي إلى انفراج وارتياح من جانب زعماء والرؤساء في الدول العربية والإقليمية والمجتمع الدولي أيضًا.

وبحسب المتحدث، فإن هذا سيسرع بشكل مباشر من إمكانية إبرام اتفاقيات اقتصادية مع دول وشركات، وخاصة في الملفات العاجلة التي تحتاجها سورية اليوم كمشاريع ترميم قطاع الطاقة والاتصالات والبنى التحتية.

ويشير الحجي إلى إمكانية توقيع اتفاقيات شراكة إستراتيجية اقتصادية مع تركيا ودول الخليج العربي بما يفيد سوريا الجديدة.

من جهته، يشير الاقتصادي يونس الكريم إلى أن الرئيس الشرع قادر على عقد اتفاقيات في مجال إنتاج الطاقة المتجددة الشمسية التي لا تشملها العقوبات المفروضة على سوريا، لأن قطاع الكهرباء هو قطاع خدمي وغير مشمول بالعقوبات.

ويؤكد الكريم قدرة الرئيس الشرع قانونيا على إبرام عقود لبناء محطات توليد الطاقة الكهربائية، مشيرا إلى أن تحرك الشرع نحو الدول الحليفة قد يسهل استيراد مشتقات النفط كالديزل والبنزين.

6- تعزيز التبادل التجاري

يؤكد إياد الحجي أن ملء الفراغ الرئاسي والرسمي في سوريا يخلق مناخًا ملائمًا لدول الجوار لتأمين خطوط التبادل التجاري وتأمين طريق للمنتجات الزراعية والصناعية من لبنان وتركيا نحو الأردن ودول الخليج، ويفسح المجال أمام المنتجات السورية نحو التصدير.

ويشير الباحث كومان إلى أن سوريا أمام فرصة كبيرة لتعزيز صادراتها مع الدول العربية والإقليمية والدولية، والتي ستسهم في تقليل العجز التجاري ورفع قيمة الصادرات، وزيادة الإنتاجية وضمان الأمن الغذائي وتوفير القطع الأجنبي.

7- الانضمام إلى التكتلات الاقتصادية

يؤكد إياد الحجي أن الوضع القانوني والشرعية الحالية التي اكتسبها الشرع والحكومة يمنح الإدارة الجديدة القدرة على الانضمام إلى التكتلات الاقتصادية.

ويشير إلى المزايا التي قد تجنيها سوريا من الانضمام لمجموعة اقتصادية، مثل تخفيض الرسوم الجمركية، والاستفادة من خبرات الدول الأعضاء، وجذب الاستثمار، واستجرار القروض المالية المنخفضة الفوائد، ورفع قيمة التبادل التجاري مع دول المجموعة، ولكل هذه الأمور انعكاسات إيجابية على البلاد.

المصدر : الجزيرة

—————————

بالخبز وحده يدوم حكم الشرع ويستقر/ خلدون الشريف

الثلاثاء 2025/02/11

في الثامن من كانون الأول الماضي، سقط نظام الرئيس السوري، بشار الأسد، بعد أقلّ من أسبوعين على انطلاق هجوم شنّه تنظيم هيئة تحرير الشام باتجاه حلب حتى بلغ دمشق، رافقه شبه تسليم من قبل الجيش والفرقة الرابعة وتسليم أكيد للحرس الجمهوري في دمشق. تزامن هذا التراجع مع ضغوط عربية ودولية لفك ارتباطات الأسد بإيران، ازدادت بعد حرب إسرائيل في غزة وبعد اغتيال أمين عام “حزب الله”، السيد حسن نصر الله، إلى جانب قيادات عديدة ورفيعة وضرب البنى العسكرية له بشكل كبير.

عاش السوريون أسوأ كوابيسهم تحت حكم الأسد، فلم يكن هناك تمييز بين موالٍ ومعارض عندما انهارت العملة وتوقفت الخدمات الأساسية، وبات السوري يبحث عن لقمة العيش وسط انقطاع الكهرباء والماء، بينما كانت الدولة مشغولة في تجارة المخدرات وفرض الإتاوات على الناس عبر ميليشياتها الأمنية. لم يكن سقوط الأسد مجرّد حدث داخلي، بل مثّل نقطة تحول إقليمية. إيران، التي استثمرت مالاً ودماءً ونفوذاً في سوريا، وجدت نفسها في أصعب موقف، فخرجت في ظل حماية روسية عبر قاعدة حميميم. وروسيا، التي راهنت على الأسد لعقود بدأت في البحث عن صيغة تضمن استمرار نفوذها في المنطقة من دون مواجهة مع الغرب.

تحديات كبرى أمام القيادة السورية الجديدة

تولّى أحمد الشرع الحكم بصفته المنتصر الواقعي والأكثر تنظيماً بين مختلف تكاوين المعارضة السورية محاولاً الحصول على أكبر توافقات داخلية ورضى عربي وإقليمي ودولي، خاصة وأنّ الرغبات الدولية كانت تدعو إلى إنهاء الفوضى والانهيار. منذ اللحظة الأولى، أدرك الشرع أنّ نجاحه لن يكون مجرد نتيجة لإسقاط الأسد، بل هو مرهون بقدرته على تقديم رؤية جديدة تخرج سوريا من عزلتها المتفاقمة. فانطلق نحو إعادة التواصل مع الدول العربية، واضعاً على طاولته ملف إعادة الإعمار، لكنه كان يعلم أنّ تحقيق الاستقرار يتطلّب أكثر من مجرد ضخ الأموال، فهو يستوجب إصلاحاً سياسياً حقيقياً يشمل كلّ القطاعات في سوريا ويعمل على احتواء مختلف مكوّنات المجتمع السوري السياسي والعرقي والطائفي.

يحاول الشرع تأمين احتياجات السوريين الأساسية، ولذا يجد في عدم إثارة العداوات حتى مع إسرائيل وإيران سبيلاً لتحقيق هذا الهدف. وإذا كانت تركيا مطمئنة للعلاقة البنيوية التي بنتها وتبنيها مع القيادة السورية الجديدة، فقد تكون هي من دفعت باتجاه أن تكون المملكة العربية السعودية وجهة أولى للشرع قبل أي عاصمة أخرى في العالم والإقليم. فلا تريد أنقرة تحمّل مسؤولية توفير اللازم من متطلبات الحياة للشعب السوري، كما أنّها تعمل على التخفيف من ثقل اللجوء السوري، وتسعى إلى حماية الأناضول عبر ضمان استقرار سوري وإدارة تمنع “قوات سوريا الديمقراطية” وحزب “العمال الكردي” من التشويش الأمني عليها.

أمام هذا الواقع المعقّد، تبدو التحديات الداخلية أمام الشرع لا تعد ولا تحصى، إلاّ أنّ بعضها يشكّل مصدر قلق كبير للقيادة السورية الجديدة، وعلى رأسها:

١- الأمن: سوريا تعيش تحديات أمنية داخلية كبيرة، فالأكراد ولو أنّهم لا يريدون حرباً مع الشرع أو السلطة المركزية الحالية، غير أنّهم يخشون اليد العليا التركية ويتمنّعون عن تسليم سلاحهم للسلطة المركزية. وكذلك يفعل الدروز في السويداء الذين يريدون معرفة دورهم في السلطة المقبلة، أمّا العلويون في الساحل فيقفون على أهبة الاستعداد للدفاع عن وجودهم ومصالحهم في الوقت المناسب. ويبقى أنّ المجموعات المسلّحة المتطرفة قد لا تعجب بتحولات الشرع الواقعية، وقد ترغب في العودة إلى الأصولية ولو عبر الجهاد. كلّ تلك الفئات تشكّل تحديات كبرى ويمكن أن تمهّد لتأسيس لصراع جديد أو مستجد. وعند الحديث عن الأمن، لا يمكن إغفال ملف المفقودين في السجون السورية والذي يناهز عددهم ١٢٠ ألفاً ولا يعرف عنهم شيئاً منذ سقوط الأسد؛ علماً أنّه قد تمّ تلف الكثير من الملفات في السجون والدوائر الأمنية، وهذا مما يجعل متابعتها أمراً بالغ الصعوبة والتعقيد. 

٢- الإدارة: كلّ مؤسسات الدولة السورية من إدارية وعسكرية تعيش فراغاً كبيراً، إذ يُتوقّع أن يلامس عدد المسرّحين من الخدمة العسكرية والمدنية السبعمائة ألف، وهذا ما يجعل هؤلاء من دون دخل وبالتالي في وضع هش قد ينعكس على الأمن الداخلي والاجتماعي في آن. في ما يتعلّق بالقضاء الذي ارتكز على جسم من ١٢٠٠ قاض، فقد غادر معظمهم واستهدف بعضهم ولم يعد هناك أكثر من ٣٠٠ قاض في سوريا اليوم. أمام هذا الواقع، تجد القيادة السورية نفسها في مواجهة تحد جديد، وهو تعيين قضاة جدد، وتأهيلهم، واستعادة استقلالية القضاء بعد عقود من التدخلات الأمنية والسياسية.

٣-الاقتصاد: بعد أن كانت بلداً زراعياً بالدرجة الأولى وصناعياً بالدرجة الثانية، فقدت سوريا اليوم قواعدها الزراعية والصناعية بعد سنوات الحرب المدمّرة والعزلة العميقة، ناهيك عن العقوبات الغربية القاسية التي فاقمت الأوضاع سوءاً. والزراعة والصناعة يحتاجان إلى ماء وكهرباء، واليوم يعاني قطاع الكهرباء من تدمير في بنيته التحتية، كما تعيق العقوبات استيراد القطع اللازمة للصيانة. أمّا الوصول إلى الماء، فبات أصعب نتيجة اهتراء البنى التحتية والشح الحاصل بسبب السدود والظروف البيئية الصعبة. في حين أنّ فئة واحدة من الشعب السوري، متمثّلة بالأكراد، تتحكّم بمنابع النفط برعاية أميركية مباشرة، وهذا ما يحرم الشعب السوري من موارده الأساسية، أضف إلى ذلك غياب فاعلية القطاع المصرفي لشح السيولة والعقوبات. يكفي القول إنّ موظفي القطاع العام في سوريا لم يتقاضوا أجورهم لأشهر ثلاث متتالية. وفي ظل هذه التحديات الاقتصادية المتعاظمة ومتعددة المستويات، قد يكون التحدي الأكبر والأخطر أمام الشرع إطعام الشعب السوري.

٤- إعادة الإعمار: إعادة الإعمار تشكّل حجراً أساسياً لقضايا أساسية شتى، أوّلها عودة النازحين، وثانيها إيجاد فرص عمل للسوريين وثالثها ضرورة تأهيل البنى التحتية للقطاعات الحياتية والإنتاجية كافة. لكن دون إعادة الإعمار عقبات كبيرة وقد يكون حلّها بالغ الصعوبة. فالمال غير متوفر، وإذا توفّر، تقف العقوبات حائلاً أمام الاستثمار إلى وقت غير معلوم، إذ لا يلوح في الأفق القريب احتمال رفع العقوبات الأميركية. ولو أنّ الرئيس الأميركي دونالد ترامب يستطيع رفعها عن قطاعات معينة، وفي أوقات معينة، غير أنّ أحداً لا يعرف شروط حصول ذلك، وبالانتظار يبقى سلاح العقوبات سيفاً مسلّطاً على دمشق حتى إشعار آخر. ومن هنا، تبدو عودة النازحين متعثّرة، وتفعيل الاقتصاد متعثّر وإصلاح البنى التحتية الأساسية متأخرة.

٥- الإصلاحات والانتخابات: الإصلاحات في سوريا تبدو مساراً طويلاً وشديد التعرّج، فتولّي الشرع الرئاسة جاء من دون إجماع وطني، ولكن بفرض واقع الأرض والتوازنات. وفي مقابلة مع وزير الخارجية السوري أسعد الشيباني في المنتدى الاقتصادي العالمي في دافوس، ركّز طوني بلير محاوره على نقاط تبدو أقلّ أهمية لمعيشة السوريين منها للمجتمع الغربي، كحضور الأقليات والمرأة في الحياة السياسية. لكن المسار الذي وضعه الشرع هو دستور جديد بعد ثلاث سنوات وانتخابات يقرّر فيها الشعب بعد أربع سنوات، ويأتي السؤال البديهي: كيف سيتعامل الغرب مع الإدارة السورية الجديدة خلال هذه الفترة الزمنية؟ وكيف سيستجيب الخليج لطلبات الشرع؟ التحدي الأكبر أمام الشرع سيكون حكماً كيفية إشراك جميع الأطراف، بما في ذلك المعارضة في الداخل والخارج، لضمان مصداقية العملية السياسية.

الشرع في مواجهة الترامبية السياسية

يتضح مما سبق أنّ سوريا تواجه تحديات هائلة على مختلف المستويات، والحل يتطلّب مزيجاً من الإصلاحات الداخلية، والسياسات المرنة، والانفتاح على الحلول السياسية والدبلوماسية مع التنبه الدائم إلى الأجندة الغربية التي لا تتطابق أغلب الاحيان مع الأجندات المحلية.

بذل آخر رؤساء الاتحاد السوفياتي، ميخائيل غورباتشوف، كلّ ما بوسعه لإقناع الغرب بأنّه يجري إصلاحات مناسبة للاندماج مع الواقع العالمي الجديد. غير أنّه اضطرّ في العام ١٩٩١ إلى التنحي وحلّ الاتحاد السوفياتي، ما أدى إلى اندثار الكتلة الاشتراكية. لم يثق الغرب يوماً بالاتحاد السوفياتي ولا بالحكم فيه، وقد أعطى غورباتشوف الغرب أكثر مما طلبوا، إلاّ أنّه لم ينل إلاّ حل الإمبراطورية السوفياتية وتحويل بعض من دولها إلى حلفاء في الناتو اليوم. قد تكون السياسة فن الممكن لكنّها في عهد ترامب خصوصاً تبدو وكأنّها سلطة القوي على الضعيف، والغني على الفقير والقدير على الضعيف، وهذا ما يضع الشرع أمام مستوى آخر من الضغوط الخارجية.

المدن

————————–

التقليص السريع للبيروقراطية في سوريا يهدد الاستقرار/ حايد حايد

نحو 400 ألف “موظف وهمي” يتقاضون رواتب دون أداء أي مهام

11 فبراير 2025

في ظل أزمة مالية خانقة، سارعت الحكومة السورية المؤقتة إلى اتخاذ تدابير جذرية لإصلاح الاقتصاد المتعثر. تأتي في صميم هذه الجهود خطة عاجلة لتقليص القطاع العام المتضخم، الذي يعد إرثا لعقود من المحسوبية السياسية في ظل حكم نظام الأسد. وقد ناقش المسؤولون علنا خفض عدد موظفي الخدمة المدنية بنسبة لا تقل عن الثلث، مما قد يؤثر على نحو 400 ألف موظف، حيث اعتبر المسؤولون أن تقليص الهدر وإعادة تخصيص الموارد ضروريان لتحقيق تعافٍ اقتصادي طويل الأمد.

ورغم عدم وضوح الجدول الزمني وآلية التنفيذ، بدأت الخطوات الأولى بالفعل. فقد أُعلن عن عمليات تسريح بعد أسابيع فقط من إطاحة الثوار بالأسد في 8 ديسمبر/كانون الأول. والأكثر أهمية أن عشرات الآلاف من موظفي الحكومة وُضعوا في إجازة مدفوعة لمدة ثلاثة أشهر، اعتبارا من ديسمبر، وهي خطوة يُنظر إليها على نطاق واسع باعتبارها تمهيدا لموجة تسريحات جماعية.

وأدى تسارع وتيرة هذه الإجراءات إلى حالة من القلق الواسع واندلاع احتجاجات متكررة، ليس فقط من قبل الذين فقدوا وظائفهم بالفعل، ولكن أيضا من قبل أولئك الذين يخشون التسريح الوشيك. ورغم أن إصلاح القطاع العام ضرورة ملحة، فإن الفشل في توفير بدائل وظيفية مناسبة للعمال المسرّحين قد يفاقم حالة عدم الاستقرار في لحظة حرجة من المرحلة الانتقالية الهشة التي تمر بها سوريا.

إرث من المحسوبية وعدم الكفاءة

لم يكن تضخم القطاع العام مجرد نتيجة لسوء الإدارة الاقتصادية، بل كان استراتيجية متعمدة لكبح المعارضة. فعلى مدار عقود، استخدم نظام الأسد التوظيف الحكومي كأداة للمحسوبية السياسية، حيث عيّن أعدادا تفوق بكثير الحاجة الفعلية لتعزيز السيطرة. ومن خلال توفير رواتب حكومية مستقرة لجزء كبير من السكان، خصوصا أولئك المرتبطين سياسيا بالنخبة الحاكمة، تمكن النظام من ترسيخ الولاء وضمان قدر من الاستقرار.

ونتيجة لذلك، شهدت المؤسسات الحكومية تضخما هائلا في أعداد الموظفين، حيث تقاضى الكثير رواتب رغم محدودية مهامهم أو غيابها تماما. وتشير التقارير إلى أن الوزارات توظف، في المتوسط، ضعف العدد الفعلي المطلوب، مما أسهم في الركود الاقتصادي واستنزاف موارد الدولة وجعل هذا النموذج غير مستدام. فقد عجزت الإيرادات الحكومية عن تغطية فاتورة الأجور الضخمة، مما حال دون تعديل الرواتب لمواكبة التضخم، وأدى بالتالي إلى تفاقم الأوضاع المعيشية.

التسريحات الجماعية و”الموظفين الوهميين”

أدركت الحكومة المؤقتة سريعا حجم المشكلة. فوفقا لمراجعة أولية أجرتها السلطات الانتقالية، فإن 900 ألف فقط من بين 1.3 مليون موظف حكومي يباشرون عملهم فعليا، مما يكشف عن وجود نحو 400 ألف “موظف وهمي” يتقاضون رواتب دون أداء أي مهام. وحتى بين الذين يباشرون عملهم، فإن نسبة كبيرة منهم تصنف ضمن ما يعرف بـ”البطالة المقنّعة”، حيث تُقدَّر الحاجة الفعلية للعمالة بنحو 600 ألف موظف أو أقل، أي ما يعادل ثلثي القوة العاملة النشطة حاليا.

وفي محاولة لمعالجة هذه الاختلالات، بدأت الحكومة المؤقتة تنفيذ عمليات تسريح، استهدفت في المقام الأول الموظفين الوهميين، إلا أن آلاف الموظفين الفعليين وُضعوا أيضا في إجازة مدفوعة لمدة ثلاثة أشهر، دون أي وضوح بشأن مصيرهم بعد انتهاء هذه المدة. وأكدت الحكومة المؤقتة أن هذه الخطوة تأتي في إطار جهود أوسع لإعادة تقييم الاحتياجات الوظيفية، مشيرة إلى أن من يُعتبرون فائضين عن الحاجة سيجري إدراجهم ضمن قوائم الباحثين عن عمل لدى وزارة الشؤون الاجتماعية. ومع ذلك، لا يزال من غير الواضح ما إذا كانت رواتبهم ستستمر إلى حين إيجاد وظائف بديلة، مما أثار مخاوف من أن الإجازة المدفوعة ليست سوى مقدمة لعمليات تسريح جماعية واسعة النطاق.

تصاعد السخط الشعبي

رغم أن تقليص الوظائف الزائدة في القطاع العام يُعد ضروريا لإنعاش الاقتصاد، فإن الفشل في معالجة تداعياته قد يزعزع استقرار سوريا قبل أن تتاح لها فرصة لإعادة البناء. فلا القطاع العام ولا القطاع الخاص قادران على استيعاب هذا العدد الكبير من العمال المسرّحين، خاصة مع وجود عشرات الآلاف من أفراد الجيش والأجهزة الأمنية السابقين الذين فقدوا وظائفهم أو يواجهون خطر فقدانها. إن تسريح مئات الآلاف من العمال دون توفير بدائل اقتصادية قد يؤدي إلى خلق كتلة من الأفراد المحبطين، مما يزيد من هشاشة المرحلة الانتقالية في البلاد.

وقد أدى نطاق وسرعة هذه العملية لإعادة الهيكلة إلى اندلاع احتجاجات متكررة في مدن مثل دمشق ودرعا واللاذقية وطرطوس. وخرج المتظاهرون، ومعظمهم من موظفي القطاعات الصحية والمصرفية والدفاعية، إلى الشوارع للمطالبة بضمانات وظيفية والتنديد بما يعتبرونه عمليات فصل تعسفية. وتعكس هذه الاحتجاجات تصاعد مشاعر الإحباط بين العمال الذين يخشون أن يجدوا أنفسهم بلا مصدر رزق. فمن الناحية التاريخية، كان اليأس الاقتصادي عاملا رئيسا في زعزعة الاستقرار السياسي في سوريا، وقد تشكل موجة الاضطرابات الحالية خطرا أمنيا كبيرا.

علاوة على ذلك، في بعض المناطق، اكتسبت الاحتجاجات بعدا طائفيا، إذ وُجهت اتهامات بأن بعض المجتمعات مستهدفة بشكل غير متناسب في عمليات التسريح. وقد نفت الحكومة المؤقتة هذه المزاعم، مؤكدة أن الإصلاحات مدفوعة باعتبارات اقتصادية بحتة وليست ذات دوافع سياسية. ومع ذلك، فإن مجرد الإحساس بوجود تحيز- سواء كان حقيقيا أم لا- يمكن أن يزيد من حدة التوترات في مجتمع يعاني بالفعل من انقسامات عميقة.

تجنب زعزعة الاستقرار 

يتعين على الحكومة المؤقتة التعامل مع هذه القضية بحذر، مع ضمان إتاحة الفرص للعمال المسرّحين لإعادة الاندماج في الاقتصاد. فمن شأن اتباع نهج تدريجي في تقليص الوظائف، بدلا من عمليات التسريح الجماعي المفاجئة، أن يساعد في التخفيف من الصدمة الاقتصادية. كما أن تنويع الاقتصاد يعد ضرورة ملحة، إذ يجب على الحكومة مواصلة تحفيز نمو القطاع الخاص، لا سيما في القطاعات القادرة على استيعاب أعداد كبيرة من العمال، مثل الزراعة والصناعات التحويلية والبناء.

وسيكون من الضروري تنفيذ برامج تدريبية لإكساب العمال مهارات جديدة تتماشى مع احتياجات الاقتصاد المعاد هيكلته. كما أن إنشاء شبكات أمان اجتماعي سيكون عاملا أساسيا في منع تدهور الأوضاع المعيشية لمن لا يجدون وظائف بديلة على الفور.

ورغم أن سعي الحكومة المؤقتة إلى إنشاء إدارة أكثر كفاءة وأقل تضخما أمر مفهوم، فإن إصلاح القطاع العام دون معالجة الأوضاع الاقتصادية الأوسع قد يحوّل هذه التعديلات الضرورية إلى أزمة. لذا، يتعين على السلطات الانتقالية المضي بحذر، وضمان تحقيق توازن بين الإصلاحات والاستقرار الاجتماعي، وإلا فقد تواجه موجة جديدة من الاضطرابات تهدد قبضتها الهشة على السلطة.

المجلة

—————————-

لا طريق إلى المنزل!: الألغام والدمار يعيقان عودة سكان ريف اللاذقية من المخيمات/ جهان حاج بكري

11-02-2025

        «بتمنى أرجع على الضيعة اليوم قبل بكرا، بس شايفة الوضع بيخوّف كتير. والله عيشة المخيم ما هي عيشة بس ما في حل، قلبي عم يحترق وقت العالم ترجع ع ضِيَعا ونحنا ما عم نحسن، بس بتفْرَج انشالله». غادرت مريم اسماعيل قريتها عرافيت في ريف اللاذقية الشمالي منذ عشر سنوات، وسكنت في أحد مخيمات ريف إدلب الغربي. على الرغم من سقوط النظام، لا تستطيع مريم العودة إلى قريتها المزروعة بالألغام، وحالها في ذلك حال كثيرين.

        بلغ عدد ضحايا الألغام في ريف اللاذقية الشمالي، منذ سقوط النظام السابق وحتى الآن، أكثر من عشرين شخصاً بين قتيل ومصاب، ويشكّل هذا الوضع عائقاً حقيقياً أمام عودة الأسر من مخيمات النزوح في ريف إدلب الغربي، التي يقيمون فيها منذ عام 2015؛ عقب نجاح قوات النظام بالسيطرة على قرى ريف اللاذقية الشمالي وتهجير سكانها بدعم من القوات الجوية الروسية، إضافة إلى الدمار الكبير فيها، إذ كانت على خط الاشتباك بين النظام وفصائل المعارضة على مدار السنوات الماضية، وبقيت خالية من السكان كل تلك السنوات، متحولة إلى مساحة مهجورة وموْحشة، وغير قابلة للسكن.

        على الرغم من خضوعها لسيطرة النظام سنوات طويلة، لم يُسمَح لمن نزح من سكانها نحو مناطق سيطرته بالعودة إليها وإعادة إحياء الحياة فيها، لذلك وصلت إلى هذا الحال الذي ساهمت فيه طبيعتها الجغرافية كمناطق جبلية وَعِرة، مما كان عاملاً معيقاً لإزالة الألغام وإعادة الإعمار على نحوٍ سريع. تشكل كل هذه عوامل قلق متزايد لدى سكّانها، وتُنذِر بخطر بقائهم لسنواتٍ قادمة ضمن المخيمات، ومنهم من جَرَّبَ العودة لتفقُّد الأوضاع في مناطقه، خصوصاً أنَّهم يعتمدون في معيشتهم على العمل الزراعي في المرتبة الأولى، وقد باتت الأراضي نفسها مصدر خطر على حياتهم.

        ريف اللاذقية الشمالي في الثورة

        انضمّت قرى وبلدات ريف اللاذقية الشمالي إلى الحراك الثوري مع بدايته في العام 2011، وشارك سكانها في المظاهرات السلمية في كل يوم جمعة، لتتحول بعدها إلى مكان يحتمي به المنشقون عن النظام والشبّان الفارّون من قبضته من مناطق الساحل السوري.

        يروي المقدَّم محمد حمادو المنشق عن النظام، وهو قيادي سابق في الجيش الحر ومؤسس لأوائل تشكيلاته في ريف اللاذقية، تفاصيلَ حول البدايات مع تشكيل تجمع أحرار الساحل الذي كان يقوده، وكيف أدّى اقتحام قوات النظام للأحياء الثائرة في اللاذقية، وتحديداً حي الرمل الجنوبي، إلى انسحاب الثوار منه: «تَوجّه قسمٌ منهم نحو تركيا وقسمٌ إلى مناطق الريف، تزامناً مع هذا الوضع كان قد تم الإعلان عن تشكيل الجيش السوري الحر. ولأن معظم هؤلاء الشباب لديهم أهل وأقارب في قرى الريف في جَبَلي الأكراد والتركمان، وبسبب انحيازهم لصف الثورة، وبسبب طبيعة المنطقة الجغرافية التي تساعد على العمل العسكري حيث الجبال والوديان، فقد بدأ في آواخر عام 2011 تشكيل الكتائب المسلحة فيها لحماية الأهالي هناك من بطش النظام».

        بعد هذه المرحلة، بحسب حمادو، بدأ النظام بمحاولة اقتحام هذه القرى والتضييق على الناس فيها، وشنّ حملات اعتقال وبرزت ضرورة القيام بعملٍ عسكري هجومي، لتوسيع نطاق حركة الكتائب وتأمين المدنيين، ومن هنا بدأت سلسلة تحرير بلدات سلمى وربيعة ومناطق محاذية للريف جغرافياً في ريف إدلب وصولاً إلى الزعينية عام 2012. ونتيجة فشل النظام في اقتحامها، مع صمود المقاتلين فيها وسيطرتهم على المرتفعات والتلال، لجأ النظام إلى أساليب القصف بالراجمات والبراميل المتفجرة والغارات اليومية للطيران الحربي، وانتقم من المدنيين أشد انتقام وتسبَّبَ بوقوع عدد كبير من الشهداء والجرحى، ونزوح عدد آخر، وارتكب عدّة مجازر خلال هذه السنوات.

        «نجح النظام في السيطرة على المناطق وتهجير سكانها بشكل كامل عام 2015، عقب التدخل الروسي وإقصاء الجيش الحر وتدويل المسألة السورية»، يُكمل حمادو: «حصلت حينها الانسحابات، وبعدها عُقدت اتفاقيات أستانا وسوتشي وخطط خفض التصعيد، وبقي وضع هذه المناطق على حاله عسكرياً حتى انطلاق عملية رد العدوان عام 2024، والتي أعقبها سقط النظام السوري الذي أوغل في تدمير مناطقنا مُخلِّفاً مئات الألاف من الألغام والمساحات المدمرة كلياً، ومهجِّراً كلَّ سكان القرى. وبعد انتصار الثورة، من حق الأهالي الذين شُرِّدوا وفقدوا أبناءهم أن يُجبَر ضررهم وأن يتم تعويضهم».

        التهديد الصامت، ألغام برية مزروعة في الأرض

        هناك أسباب كثيرة وراء انتشار الألغام في قرى ريف اللاذقية بهذه الكثافة والخطورة، كما أن لها أنواعاً مختلفة تستوجب التعامل معها بحسب نوعها، وبحسب اختصاصات فرق إزالة الألغام.

        تقول مريم: «زُرت قريتي مرة واحدة بعد التحرير، شعرتُ بخوفٍ شديد، لا يوجد حجر على حجر، كما أنّها موحشة للغاية. انفجر أحد الألغام بالقرب منا أثناء ركوبنا الدراجة النارية في هذه الزيارة، كذلك تعرَّضت القرية لأعمال انتقامية كقطع الشجر وحرقه في الأراضي الزراعية. لا أريدُ الذهاب مجدداً حتى يعود الأمان إليها، لقد تحملنا كل هذه السنوات ضمن الخيم بسبب الخوف، ولدي أمل بما أن المشكلة الأكبر قد حُلّت، وهي وجود النظام السابق، فإنه سيتم حل كل المسائل الأخرى».

        يوضح يحيى بريمو، وهو قائد عسكري سابق في ريف اللاذقية وقائد لواء حالي ضمن الفرقة 77،  تفاصيلَ عسكرية عن وضع الألغام: «استخدامها أمرٌ شائعٌ في الحروب، وخصوصاً في الجبال، لأن الغطاء الجبلي كثيف والأراضي وَعِرة مما يسهل إخفاءها، وتساعدُ خاصية الغطاء الحراجي بشكل كبير على تأمين طرق للاقتراب من قوات العدو بشكل آمن، مما يعطي الألغام أهمية إضافية، إذ من الممكن زرعها في أقرب نقطة عند قوات العدو دون أن يشعروا بذلك، وهو أمر يتم بين القوات المسلحة المتنازعة في الحروب لحماية نفسها، وبغية نزع زمام المبادرة من الطرف الآخر».

        يضيفُ أنَّ النظام اعتمد عليها في مناطقنا بشكل خاص بسبب العمليات النوعية المتكررة التي نجحت فصائل المعارضة بتنفيذها في ريف اللاذقية، حيث كانت تتسلل إلى محارس النظام وتقوم بقتل العناصر، لا سيّما خلال الخمس سنوات الأخيرة، ما استنزفه على هذه الجبهة وتسبب بنقص كوادره. ومع انخفاض الدعم البشري واستنزاف طاقته في هذا الصدد، عَمِد إلى تكثيف زراعة الألغام بشكل مبالغ فيه. وبعد خضوع المنطقة لاتفاقات خفض التصعيد، عمل النظام على زراعة حقول ألغام كبيرة: «تكمن خطورتها في أنها غير محددة بعلامات، ومجهولة ومخالفة لما تَنصُّ عليه الاتفاقيات الدولية لزرع ونزع الألغام من قبل أطراف النزاع، بقصد إزالتها والتخلُّص منها بشكل آمن، من خلال الإخبار عن مكانها ووجود خرائط تدل عليها».

        أضاف بريمو أنَّ الدمار فيها كثيفٌ أيضاً كونها كانت خط الدفاع الأول عن مناطق الساحل حيث مناطق سيطرة النظام التامة التي فيها غالبية مؤيدة له، وكونها محاذية لإدلب معقل فصائل الثورة والمعارضة، ما دفع النظام للاستماتة في قصفها بجميع أنواع الأسلحة. وقد أُجبِرت الفصائل أمام هذا القصف على استخدام المباني لحماية نفسها، وهذا تسبَّب بتكثيف القصف عليها، لنصل في النهاية إلى الوضع الراهن الذي يحتاج سنوات من العمل للتخلُّص من الدمار وإعادة الإعمار وعودة العائلات.

        شرح كذلك عن دور العسكريين في المرحلة القادمة في عملية إزالة الألغام، فهم يملكون ضُباطاً وفرقاً هندسية مختصّة في هذا العمل، أي في الزرع والإزالة، سواء كانت ألغاماً فردية أو حتى مضادة للدروع على حد سواء، لكنهم يواجهون مشكلة حقيقة في تحديد أماكنها مع عدم تواجد خرائط، وتَفكُّك الجيش السوري السابق والفرق الهندسية فيه. كلّ ذلك أدى إلى عدم وجود مرجعية وجهة مسؤولة يمكن التنسيق معها، مُنوِّهاً أنهم يعملون أيضاً بالتنسيق مع فرق الدفاع المدني السوري في هذا السياق.

        مساعي تطويق المشكلة

        تسعى عدة جهات رسمية ومنظمات للمساعدة على تحسين الوضع، وتأمين بعض الحلول السريعة لمساعدة الأهالي على زيارة قراهم على الأقل بين الحين والآخر، ريثما يتم تحقيق العودة بشكل نهائي.

        في هذا السياق تمنَّت مريم أن يتم التركيز على الوضع الأمني في البداية والمساعدة في إعادة إعمار المنازل، فضلاً عن استمرار تقديم الدعم لهم ضمن المخيمات ريثما يعودون إلى حياتهم السابقة وإلى أعمالهم، وينجحون في تأمين مصادر دخل جيدة، مؤكدة أنهم حالياً يعانون جرّاء ترك معظم المنظمات لعملها ضمن المخيمات والانتقال نحو المدن الكبيرة التي تحررت حديثاً، شارحة أن مشروع المياه توقف عنهم أيضاً وأصبحوا أمام تحدٍ حقيقي بهذا الخصوص. وعند سؤالنا عن الجهود الرسمية للإدارة الجديدة، قالت إنها سمعت أن المحافظ قد زار كل من بلدتَي سلمى وربيعة، والتقى عدداً من الأهالي هناك، لكنها لم تسمع أنه وصل إلى المخيمات.

        في هذا السياق، وحول جهود الدفاع المدني، أوضح حسام ظليطو، وهو قائد ميداني في الدفاع المدني السوري في ريف اللاذقية، أنّ مناطق الريف التي تحررت عقب سقوط النظام غير صالحة للسكن لأسباب كثيرة أبرزها الدمار، وغياب الخدمات الأساسية ومقومات الحياة والبنية التحتية، وغياب المرافق العامة. ومع انتشار الألغام، وفي ظلِّ هذا الوضع الصعب، تقوم فرق الدفاع المدني بالسعي لإعادة الحياة نوعاً ما إليها، من خلال فتح الطرقات وإزالة السواتر الترابية، ووضع إشارات تحذيرية حول مخلفات الحرب والمناطق الخطرة.

        أضاف أنهم يسعون أيضاً إلى مساعدة الأهالي بكل الوسائل المتاحة بين أيديهم: «الهدف الأساسي هو عودتهم إلى قراهم وبلداتهم التي تهجّروا منها عقب القصف والمجازر التي ارتكبها النظام»، مُنوِّهاً إلى أن المنزل الذي لم يتضرر بفعل القصف بشكل كامل تعرض للهدم بهدف سرقة الحديد منه من قبل عناصر النظام، مضيفاً أنهم أطلقوا حملة تحت عنوان أمل العائدين بهدف المساعدة في عودة النازحين من المخيمات إلى قراهم، شارحاً أنّ الظروف تختلف من منطقة إلى أخرى، لكن مناطق ريف اللاذقية تعاني بشكل إضافي بسبب الألغام التي زرعها النظام في كل مكان، في الغابات والأراضي الزراعية وحول المنازل، وهي تشكل خطراً حقيقياً على السكان.

        توجهنا للحديث مع محافظ مدينة اللاذقية محمد عثمان وسؤاله عن خطط الإدارة الجديدة لحلّ هذا الوضع، ومساعدة أهالي قرى وبلدات الريف الشمالي. أوضح عثمان لموقع الجمهورية.نت أنّ البداية تضمنت جولةً على القرى المنكوبة في جبل التركمان وجبل الأكراد: «تفقدنا من خلاها أوضاع المنطقة، وعقدنا لقاءات مع بعض الأهالي في القرى. بعدها تم استكمال الزيارة إلى المخيمات الحدودية التي يقطنها أهالي الريف». وتابع أنهم يسعون في المرحلة الأولى إلى تفكيك جميع الألغام التي زرعها النظام السابق في الأراضي الزراعية ومنازل الأهالي: «وضعنا خطة إعادة إعمار مناطق التماس بين النظام البائد وخطوط الجبهات بعد رفع العقوبات عن سوريا، كذلك قمنا بالترتيب مع وزارة الدفاع من أجل إزالة الألغام عبر الفرق الهندسية ووضعنا ذلك في أولوياتنا».

        تابع عثمان أنه وبسبب اعتماد الناس على الزراعة كمصدر دخل رئيسي، ولأن هذا القطاع تضرَّرَ بشكل كبير خلال هذه السنوات، «زار السيد وزير الزراعة والريّ، د.محمد طه الأحمد، محافظة اللاذقية وقام بعدة جولات على الوحدات الزراعية ومديرية الزراعة، وتفقَّدَ أحوال المزارعين والزراعات الموجودة في المحافظة وسبل تطويرها، كما قمتُ برفقة السيد وزير الزراعة بافتتاح محطة ري ‘ديفة’ في ريف اللاذقية».

        أضاف أنَّهم عملوا على إحياء البنية التحتية والواقع الخدمي منذ بداية التحرير حتى اللحظة، تجهيزاً لتكون بوابة لدخول الاستثمارات، وأنه عَقَد عدة جلسات مع الصناعيين والتجار لدعم عمليات الاستثمار في المنطقة، والتركيز على السياحة والزراعة وتقديم التسهيلات للتجار لدعم المنتج المحلي وفرص العمل وإعادة الثقة للمنتج السوري.

        بخصوص وضع الأهالي في المخيمات، تحدّثَ المحافظ عن وجود تركيز واضح من وزارة التنمية والشؤون الاجتماعية على بقاء المشاريع السابقة في المخيمات، حتى يتسنّى لوزارة العمل نقل أهالي المخيمات إلى بيوت آمنة تحفظ كرامتهم، أو إعادتهم إلى قراهم بعد تأمينها، مشيراً إلى أنَّ عودة السكان مرهونة برفع العقوبات، وذلك تذليلاً للصعاب التي تواجه وتعرقل إعادة الإعمار، إضافة إلى العمل على تأمين الاحتياجات والخدمات الأساسية للقرى التي لم تتضرر كثيراً من النظام، ليعيش المواطن بكرامة وأمان، مشيراً إلى تنسيق يجري بين المديريات المختلفة لوضع خطة عمل تضمن إعادة إحياء تلك المناطق عبر تقديم الخدمات لها.

        يُذكَر أنّ عدد القرى والبلدات والمزارع في جبل الأكراد يبلغ 67 قرية، ويُقدَّر عدد السكان بحوالي 150 ألف نسمة، بينما يصل العدد في جبل التركمان إلى 54 بلدة وقرية، ويبلغ كامل عدد سكانه مع منطقة كسب وبرج إسلام حوالي 250 ألف نسمة. أما المناطق التي خرجت عن سيطرة النظام لعدة سنوات في ريف اللاذقية الشمالي، فيبلغُ عدد سكانها 65 ألف نسمة بحسب مصادر من المجلس المحلي السابق، الذي كان يعمل في مناطق ريف اللاذقية الشمالي خلال سنوات خروجها عن سيطرة قوات النظام.

موقع الجمهورية

———————————–

سوريا الجديدة بين البوابة العربية والإسلامية/ أحمد مظهر سعدو

2025.02.11

ضمن انشغالات الإدارة الجديدة في سوريا، برئاسة السيد أحمد الشرع الرئيس السوري، كان الولوج الجدي عبر بوابتين إقليميتين مهمتين نحو الخارج، ولعل البوابة العربية من مدخل الرياض، كانت الأولى من منطلق أن إعادة الاعتبار لدور سوريا العربي مسألة غاية في الأهمية، وتدفع بالضرورة نحو إعادة تأسيس الموقع الاستراتيجي الأهم لسوريا المستقبل.

وهو ما حلم به الشعب السوري، بعد أن سبق وعمل نظام الفاشيست الأسدي ومنذ بداية خطفه للوطن السوري في  16 تشرين ثاني/ نوفمبر عام 1970، على الخروج من المحور العربي تكويعاً آخر كان تتويجه أواخر سبعينيات القرن الفائت نحو إيران ومحورها، بعد سيطرة آية الله الخميني على جغرافية إيران السياسية، إيران الأكثر خطورة على العرب والمحيط الإقليمي.

لكن اليوم وبعد أن تم كنس الاحتلال الإيراني والأسدي، من الجغرافيا السورية، كان لا بد من إعادة القطار السوري إلى سكته الحقيقية والتاريخية، أي انتماء السوريين إلى مشروع عربي جامع يُفترض أن يبني نفسه، في مواجهة الخطرين الكبيرين على الأمة، وهما المشروع الفارسي الإيراني الطائفي المتمدد، وكذلك المشروع الصهيوني الاحتلالي الذي يماثل الأول في خطورته، على وجود العرب والمسلمين بكليتهم في المنطقة.

ولعل توجه الشرع اليوم نحو المملكة العربية السعودية كبوابة أساسية ومدخلاً مهماً نحو العرب والجامعة العربية، سوف يؤسس لعلاقات قوية تساعد في انتشال سوريا من مستنقع الدولة الفاشلة، التي وضعها به نظام بشار الأسد المخلوع، ويسهم من ثم في قيامة جديدة لسوريا وعلى أسس مختلفة.

كل ذلك يأتي متسارعاً بعد إزاحة نظام الاستبداد الأسدي عن كاهل دمشق، ومن ثم كنس الوجود الاحتلالي الإيراني من الجغرافيا السورية، ثم كل هذا الترحيب الذي حظيت به سوريا الجديدة من بعض دول الخليج العربي، خاصة المملكة العربية السعودية، وأيضاً دولة قطر، كان لا بد من أن يتم فتح الباب العربي أمام الرئيس السوري الجديد أحمد الشرع من بوابة الرياض، أولاً استناداً إلى عدة محددات وأبعاد يمكن أن يتم الولوج منها وعبرها إلى الساحات العربية. نذكر منها:

    المملكة العربية السعودية تعتبر أن ماجرى في دمشق في 8 ديسمبر 2024 كان هزيمة نكراء للمحور الإيراني وإعادة تموضع جديدة للدولة السورية انتقالاً من محور إيران نحو المحور العربي المناهض للأطماع الإيرانية في المنطقة العربية.

    الدور الإقليمي والعالمي الذي تلعبه المملكة العربية السعودية يمكن أن يفيد سوريا الجديدة واقعياً، في العمل على رفع العقوبات المفروضة على سوريا منذ أيام بشار الأسد، وبالتالي فإن العمل على التقليل منها أو إنهائها، لا بد أن يكون من خلال دولة إقليمية عربية بحجم المملكة العربية السعودية.

    الملاذ الحقيقي لدمشق كان ومازال تاريخياً هو العرب والعروبة وليس أي محور آخر، ومن ثم فإن العودة السورية إلى العرب وجامعة الدول العربية باتت ضرورة عاجلة لإعادة الدور الحقيقي لسوريا، كما كان قبل استلام آل الأسد الحكم في سوريا عام 1970.

    من الأبعاد الأخرى التي حملتها زيارة الشرع للسعودية هو الحاجة الكبرى إلى مساعدات للسوريين على كل المستويات حيث لن يكون بإمكان أحد تلبيتها كما يمكن أن تفعل إمكانات السعودية بعد أن ترك نظام بشار الأسد سوريا بلا اقتصاد ولا خزينة ولا تنمية، حتى قيل إن سوريا قد وصلت إلى حالة الدولة الفاشلة واقعًا ملموساً وليس تنظيراً.

    لابد من القول أيضاً أن العودة السورية إلى العالم العربي برحابته ومشاريعه المندمجة عربياً لايمكن أن تكون بعيداً عن المدخل السعودي لما للمملكة العربية السعودية من أدوار غاية في الأهمية تسهم في أن تضع سوريا في سكة القطار العربي وليس خارج مسار القطار والتنمية العربية.

    لا ننسى الدور السعودي عبر العلاقة القوية مع الأميركان التي يمكنها أن تضغط باتجاه خروج إسرائيل من الأراضي السورية التي أعادت احتلالها دولة الكيان الصهيوني في الجولان السوري والمنطقة العازلة وفقاً لاتفاق فض الاشتباك الموقع بين سوريا وإسرائيل عام 1974.

أما الولوج الثاني والمهم أيضاً فكان عبر البوابة الإقليمية والإسلامية المهمة نحو العالم الإسلامي، وعبر الاتكاء على دولة تركيا، والانجدال ضمن مصالح غاية في الأهمية تسهم كذلك في نقل سوريا من حالة الفوضى إلى حالة الدولة المدنية المتطورة، ويمكن إدراح العلاقة /الضرورة مع تركيا بالنسبة للسوريين وفق الآتي:

    أهمية بناء الاقتصاد السوري والتبادل التجاري بين الدولتين حيث يطمح الجانبان إلى الوصول إلى حافة الـ 10 مليارات دولار خلال عام 2025.

    إعادة البناء للدولة السورية ضمن خاصية التقانة والتكنولوجيا التي تحتاجها سوريا اليوم وعبر الاعتماد على التقنيات الحديثة المتطورة التي وصلت إليها الدولة التركية اليوم.

    الأمن والعسكرتاريا التي باتت ضرورة لبناء الجيش السوري الجديد، بعد انهيار مؤسسة الجيش السوري، إبان حالة فرار نظام بشار الأسد، ولعل الدولة التركية ستكون الأقدر جغرافياً على تلبية الاحتياجات العسكرية السورية الضرورية.

    كذلك المساعدة في كنس بقايا الإرهاب في البادية السورية، وأيضاً ضمن وبين ظهراني تنظيم “قسد” وأعني بذلك تنظيم الـ(PKK/ ب ك ك) الإرهابي، والضغط على “قسد” نحو إعادة تموضعها وطنياً ضمن المؤسسة العسكرية السورية.

    أهمية التوافق على آليات جديدة لإعادة الإعمار والمساهمة التركية في ذلك في مستقبل الأيام، إلى جانب المساعدة في حماية سوريا من الخطر الصهيوني والتمدد الإسرائيلي في الجولان السوري والمنطقة العازلة، باعتبار أن تركيا تعتبر من الأعضاء المهمين في حلف الناتو.

يمكن القول: إنّ السياسات الخارجية للرئاسة الجديدة في سوريا، وعبر تشبيك العلاقة التي تقوم على الاحترام المتبادل مع الإقليم، وخاصة المملكة العربية السعودية ودولة قطر وكذلك تركيا، من الممكن أن يسهم جداً في أن تقف الدولة السورية على أرجلها، وتنتج حالة جديدة من حالات بناء الدولة الوطنية السورية.

تلفزيون سوريا

——————————–

تركيا ومهمة ملء الفراغ العسكري الإيراني في سوريا/ باسل المحمد

11/2/2025

لم يقتصر تأثير سقوط النظام السوري على الوضع الداخلي في البلاد، وإنما امتد تأثيره ليشمل منطقة الشرق الأوسط عامة، ولا سيما الدول التي دعمت الثورة السورية على المستوى الإنساني والعسكري والسياسي كتركيا، التي من المتوقع أن تتمتع بنفوذ اقتصادي وعسكري خاص في عملية تحقيق الاستقرار وإعادة الإعمار في سوريا.

وبالمقابل، شكل سقوط نظام الأسد ضربة قاسية للمصالح الإستراتيجية للدول التي ساندت النظام وقدمت له مختلف أنواع الدعم الذي أخَّر سقوطه كل هذه السنوات مثل روسيا وإيران، والتي كانت قواعدها العسكرية تنتشر في المناطق السورية، إلى جانب وجود عشرات المليشيات المسلحة التابعة لها.

ومع انحسار الدور الإيراني بعد سقوط نظام بشار الأسد في سوريا وانهيار حزب الله في لبنان، يبدو واضحا اليوم تصاعد المنافسة الإقليمية لملء الفراغ في الساحة السورية، مما يفتح الباب واسعا للسؤال بشأن من سيملأ هذا الفراغ عسكريا بين الدول الإقليمية، في الوقت الذي يشير فيه مراقبون إلى أن تركيا قد تكون أهم رابح جيوإستراتيجي مباشر في سوريا بعد الأسد.

الدور العسكري التركي

إلى جانب تقديم الدعم السياسي والعسكري لفصائل المعارضة السورية منذ بداية العمل العسكري ضد قوات النظام المخلوع، شنت القوات التركية بين عامي 2016-2020 أربع عمليات عسكرية في الأراضي السورية وهي: درع الفرات، وغصن الزيتون، ونبع السلام، ودرع الربيع. وقد استطاعت من خلال تلك العمليات بالتعاون مع قوات المعارضة السيطرة على عدة مناطق في الشمال السوري، كانت خاضعة لـ”تنظيم الدولة الإسلامية” ووحدات حماية الشعب (قسد) الكردية.

وإلى جانب القواعد العسكرية المنتشرة في أعزاز وعفرين وجرابلس في ريف حلب، ورأس العين وتل أبيض في الرقة، أقامت تركيا بدءا من عام 2017 عددا من نقاط المراقبة العسكرية (بلغ عددها 81 نقطة بحسب بعض الأرقام المتداولة) داخل محافظات إدلب وحماة وحلب في المناطق التي كانت تفصل بين قوات النظام والمعارضة، وذلك بالاتفاق مع الجانب الروسي والإيراني، بهدف تطبيق ما يعرف باتفاق خفض التصعيد.

هذا التدخل العسكري التركي المباشر في الحرب السورية أوجد -بحسب خبراء عسكريين- وضعًا جعل من الصعب على النظام وحلفائه في تلك الفترة تحقيق انتصار حاسم في الحرب والقضاء على ما تبقى من المعارضة في شمالي غربي البلاد.

وفي معركة “ردع العدوان” التي أدت لسقوط النظام السوري، شارك عدد من فصائل الجيش الوطني المدعوم من تركيا في هذه العملية، إلى جانب تشكيل غرفة عمليات “فجر الحرية” التي نجحت بدعم تركي في السيطرة على مدينة تل رفعت وعدد من القرى التابعة لها، إضافة إلى مدينة منبج بعد انسحاب قوات “قسد” من تلك المناطق.

وفي مقابلة مباشرة عرضتها قناة “إن تي في” التركية، أكد وزير الخارجية التركي هاكان فيدان يوم 13 ديسمبر/كانون الأول الماضي أن بلاده أقنعت روسيا وإيران بعدم التدخل عسكريا في سوريا خلال هجوم فصائل المعارضة السورية، الذي أفضى إلى إسقاط بشار الأسد. وقال فيدان إن “الأمر الأكثر أهمية قضى بالتحدث إلى الروس والإيرانيين والتأكد من أنهم لن يتدخلوا عسكريا في المعادلة”.

توسيع الحضور العسكري

على الرغم من نفي مصدر مسؤول في وزارة الدفاع التركية ما أوردته وكالة رويترز قبيل زيارة الرئيس أحمد الشرع إلى أنقرة الثلاثاء الماضي من أن الجانبين سيناقشان تشكيل تحالف عسكري يشمل إنشاء قواعد جوية تركية وسط سوريا، وتدريب الجيش السوري، فإن الكثير من المصادر ما زالت تؤكد أن أنقرة ماضية في هذا السياق لاعتبارات جيوسياسية تتعلق بأمن تركيا ومصالحها الإستراتيجية.

وكالة بلومبيرغ للأنباء ذكرت الخميس الماضي، نقلاً عن مسؤولين أتراك، أن أنقرة تدرس بناء قواعد عسكرية في سوريا في إطار خطة تشمل أيضا توفير أسلحة وتدريب عسكري للجيش السوري.

وتواترت تقارير في الأيام القليلة الماضية، قبل زيارة الشرع إلى أنقرة، عن عزم تركيا إنشاء قاعدتين عسكريتين في سوريا ونشر 50 مقاتلة “إف-16” ضمن اتفاقية تعاون دفاعي، قد تبرم قريبا، تعمل بوصفها قوة جوية مؤقتة لسوريا إلى حين إعادة بناء أسطولها الجوي.

وتعليقا على هذا الموضوع، يرى الباحث المختص بالعلاقات العسكرية بمركز عمران للدراسات محسن المصطفى أن هذه التقارير ليست مجرد تكهنات، بل خطوات عملية قيد التنفيذ، مما يجعل مسألة التوسع العسكري التركي في سوريا مسألة وقت لا أكثر.

ويتوقع المصطفى، في حديثه للجزيرة نت، أنه مع تنامي الحضور العسكري التركي من المرجح أن نشهد تمدد القواعد العسكرية التركية ووجود ضباط أتراك في بعض مراكز التدريب، إضافة إلى عمليات تسليح جديدة للجيش السوري الجديد بما يتناسب مع احتياجات القطاع الدفاعي.

ورغم الدوافع القوية لتركيا لتعزيز وجودها العسكري في سوريا، فإن نجاحها في ذلك يعتمد على مدى تقبل القوى الإقليمية والدولية لهذا الدور، إضافة إلى إمكانية التوصل إلى تفاهمات مع روسيا والولايات المتحدة، كما قد تواجه أنقرة تحديات من داخل سوريا، بحسب الباحث المصطفى.

الشرع أكد خلال لقائه بأردوغان سعي سوريا لتحويل العلاقات مع تركيا إلى شراكة إستراتيجية (الفرنسية)

من الدعم إلى الشراكة

أكد الرئيس السوري في المرحلة الانتقالية أحمد الشرع أن سوريا تسعى لتحويل العلاقات مع تركيا إلى شراكة إستراتيجية عميقة في كل المجالات، مشددا على أن الشعب السوري “لن ينسى وقفة تركيا معه”.

وخلال المؤتمر الصحفي الذي جمعه مع الرئيس أردوغان في أنقرة، قال الشرع “بدأنا العمل ضمن هذا الإطار على التعاون المشترك في كافة الملفات الإنسانية والاقتصادية والثقافية والاجتماعية”، مضيفا “نعمل معا على بقية الملفات الإستراتيجية الكبرى، وعلى رأسها بناء إستراتيجية مشتركة لمواجهة التهديدات الأمنية في المنطقة، وبما يضمن أمنًا واستقرارا مستدامين لسوريا وتركيا”.

وكان الرئيس أردوغان قد وصف زيارة الشرع لتركيا بالتاريخية، وأضاف أنها بداية مرحلة صداقة وتعاون دائمين بين البلدين، مشيرا إلى أنه أبلغ الشرع باستعداد أنقرة لتقديم الدعم اللازم لسوريا في “مكافحة كل أشكال الإرهاب”.

وعن العلاقات المستقبلية بين البلدين، يرى الباحث المختص بالشؤون التركية محمود علوش أن الوضع الجديد في سوريا يعيد تشكيل العلاقات مع تركيا بشكل مختلف عن العقود الماضية، لافتا إلى أن هذا التحول يفتح الباب أمام بناء شراكات إستراتيجية متعددة الأوجه. واعتبر علوش، في حديثه للجزيرة نت، أن استقرار سوريا يمثل مصلحة أمن قومي لتركيا التي تسعى جاهدة لتحقيق هذا الاستقرار وإنجاح عملية التحول السياسي.

لكن ما يدعم بناء هذه الشراكة هو دعم أنقرة لمختلف الفصائل المعارضة المسلحة سياسيا وعسكريا منذ سنوات من جهة، وتمكنها من بناء شبكة واسعة من العلاقات داخل الإدارة السورية الجديدة من جهة أخرى؛ لأن العديد من السوريين الذين عاشوا في تركيا لسنوات طويلة أصبحوا الآن يشغلون مناصب مؤثرة في البيروقراطية الناشئة وأجهزة الاستخبارات والمشهد السياسي في سوريا، بحسب الباحث والأكاديمي التركي حمد الله بايكار.

ويوضح بايكار أن “هذه الروابط العميقة سيكون لها دور في تسهيل قدرة تركيا على التعامل بفعالية مع الإدارة الجديدة في العديد من الملفات، وعلى رأسها إعادة الإعمار ورفع العقوبات ومكافحة التنظيمات الإرهابية مثل حزب الاتحاد الديمقراطي الذي يقود “قسد” وتنظيم الدولة”.

هواجس إسرائيلية

هذه التحركات التركية تثير قلق إسرائيل التي عملت منذ اليوم الأول من سقوط النظام على التوسع في الأراضي السورية واحتلال قمة جبل الشيخ الإستراتيجية، إلى جانب قصف عشرات المواقع العسكرية التابعة للجيش السوري.

وفي هذا السياق، قالت صحيفة “معاريف” الإسرائيلية إن سقوط نظام بشار الأسد في سوريا سيغير خريطة علاقات القوة في الشرق الأوسط، مع عودة تركيا كقوة إقليمية قد تدخل في صراع مباشر مع إسرائيل.

ونقلت الصحيفة عن أحد الخبراء الإسرائيليين تعليقه على الدور التركي “بعد أن نجحوا في إخراج إيران وروسيا بسرعة، فإنهم يسعون لملء الفراغ الذي خلقه في سوريا”.

إلى جانب ذلك، ذكرت صحيفة “جيروزاليم بوست” يوم 11 يناير/كانون الثاني الماضي أن لجنة حكومية إسرائيلية قدمت تقريرا إلى رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو يحذر من نشوب “صراع” مع تركيا، وأضافت الصحيفة أن اللجنة حذرت “من خطر التحالف الجديد بين دمشق وأنقرة”.

وعلى الرغم من أن إسرائيل لا تبدي أي موقف رسمي من ازدياد النفوذ التركي في سوريا، فإنها في المقابل كانت لعبت على “وتر حساس” بالنسبة لأنقرة، مبدية دعمها للأكراد في شمالي وشرقي سوريا، وقالت أيضا إنها “تريد معرفة ما يريدون”، في إشارة إلى “قسد”.

وعن احتمال نشوب صراع بين تركيا وإسرائيل في سوريا، يستبعد الباحث المختص بالشأن التركي طه عودة أوغلو حصول مواجهة بين الطرفين، بسبب وجود إدارة أميركية جديدة داعمة لإسرائيل ونتنياهو، وأكبر دليل على ذلك موضوع غزة.

لذا، يرى عودة أوغلو، في حديثه للجزيرة نت، أن تركيا لا تريد أن تفتح جبهة مع الإدارة الأميركية الجديدة، بل بالعكس هي تريد أن تفتح قنوات من التعاون والتنسيق وخاصة في الملف السوري خصوصا للتفاهم حول موضوع “قسد”.

وبالمقابل، يشير الباحث محسن المصطفى إلى أن إسرائيل -ورغم ذلك- تبقى قلقة من أي تحرك عسكري تركي قد يؤدي إلى فرض حماية جوية للأجواء السورية، مما قد يحد من حرية عملياتها العسكرية سواء الجوية أو البرية.

وبالتالي، يضيف المصطفى، فإن توسع النفوذ التركي في سوريا قد يفرض على إسرائيل إعادة حساباتها بشأن إستراتيجيتها في المنطقة، خاصة في ظل احتمال حدوث تنسيق تركي روسي يفرض معادلات جديدة على الأرض.

يذكر أن قضية التوسع الإسرائيلي كانت ضمن الملفات التي ناقشها الشرع خلال لقائه بأردوغان في أنقرة، حيث عبّر عن ذلك بالقول خلال المؤتمر الصحفي “ناقشنا ضرورة الضغط الدولي على إسرائيل للانسحاب من المنطقة العازلة”، مشددا على “التزام سوريا باتفاقية فض الاشتباك الموقعة في العام 1974”.

ملء الفراغ بطريقة مختلفة

وبشأن الدور التركي القادم في سوريا، يوضح الباحث التركي عودة أوغلو أن أنقرة لن تكون بديلا لإيران التي استخدمت سوريا قاعدة لمشروعها التوسعي في المنطقة وجندت عشرات المليشيات من السوريين لهذا الغرض، إذ ستتعامل تركيا بمبدأ احترام المصالح المتبادلة بين الدول.

لذا، فإن الجهود التركية في سوريا تتم -بحسب عودة أوغلو- بالتنسيق مع الدول العربية كالسعودية وقطر ودول الجوار كالأردن والعراق، وهذا كان دليلا واضحا على أن تركيا لا تريد أن تغضب هذه الدول في موضوع تدخلها في سوريا.

ولا يقتصر الهدف التركي من التدخل في سوريا على الجانب الأمني فقط، بل يمتد إلى تعزيز النفوذ الإقليمي لتركيا، مما يجعلها البديل الطبيعي لإيران في سوريا، لكن بأسلوب مختلف يعتمد على الحماية والبناء بدلًا من العنف والتدمير، مما يؤكد أن طهران خسرت دمشق بشكل نهائي، وفق الباحث محسن المصطفى.

وكان وزير الخارجية التركي فيدان قد أكد في أكثر من مناسبة أن بلده يعمل مع الحكومة السورية الجديدة لضمان وحدة البلاد وأمنها، وتوفير الدعم الاقتصادي والتجاري اللازم لإعادة الإعمار، مؤكدا استعداد تركيا لتقديم المساعدة لكل الأطراف في سوريا.

المصدر : الجزيرة

——————————

لماذا الإصرار على تقسيم السوريين أكثريّة وأقليّة؟/ إيناس حقي

11.02.2025

أفكر بمبدأ التقسيم إلى مجموعات، وأشعر أنه قاصر عن وصف وضعنا كشعب كان مضغوطاً بطغمة استبداد، كان يفضل كنس كل الخلافات تحت سجادة “الفسيفساء الوطنية المنسجمة”، رفعت عنه كل الضغوط فجأة ودفعة واحدة، فأصبح يغلي باختلافاته وألوانه.

منذ اللحظة الأولى لاندلاع الثورة السورية، أصرّ العالم الغربي على تقسيمنا فوراً إلى أكثرية وأقلية، وركز الإعلام الغربي على طائفة الرئيس المخلوع، وشرح وأسهب في الفروق بين الطوائف والأعراق ونسبها وتوزّعها على الجغرافية السورية. وكنا كلما حاولنا مواجهة هذه النظرة، اضطررنا إلى الخوض في التفاصيل الطائفية، ما جعل الكثيرين منا يعزف عن المناقشة ويفضّل ترك الغربيين في جهلهم.

منذ خروجي من سوريا وأنا أتعرض لمواقف تدهشني، يشرح لي فيها أحد المحاورين الذين لم يزوروا سوريا، سوء فهمي لتركيبة بلدي أو خطأ تحليلي لطبيعة الثورة التي أدافع عنها. وقد تصل الجرأة ببعضهم الى إخباري بأنني ربما أجهل واقع سوريا، أو لا أعلم عما أتحدث.

نواجه سيلاً من الخطابات التي ترفض النظر إلينا كوحدة متكاملة، والنظر في الأسباب الطبقية التي لعبت برأيي دوراً أعمق بكثير في الثورة من الأسباب الطائفية والعرقية، كما تتجاهل الضغط الدولي ودور الإعلام العالمي في تقسيمنا إلى فئات ومجموعات. وفي خضم ذلك كله، لم أكن أستطيع أن أرى حقيقة ما كان يتحدث عنه المجتمع الغربي، وكنت أفضل تقسيمنا سياسياً إلى منحازين الى الثورة ومنحازين الى النظام وغالبية صامتة.

انقسامات داخل الثورة

داخل الأوساط الثورية، التي أظهرت تنوّع سوريا وتلوّنها بمجرد أن تخففنا من عبء القمع، انقسمنا أيديولوجياً إلى كل الأطياف السياسية، كما انقسم الشارع الثوري بحدة عندما اتخذت الثورة خيار حمل السلاح، إذ رأت الفئة السلمية أن التفوق الأخلاقي للثورة سيخسر الكثير بمجرد الدخول في معارك في مواجهة النظام، بالإضافة إلى وجهة النظر التي اعتبرت أن تفوق سلاح النظام وامتلاكه الطيران سيسحقان الثورة، فيما دافعت الفئة التي اختارت الانحياز إلى السلاح عن شرعية مقاومة النظام وإجرامه بكل الوسائل، وعدم إمكانية إسقاطه سلمياً.

 شهدت السنوات المتأخرة من الثورة، ولا سيما تلك التي تبعت استرجاع النظام مدينة حلب، انقسامنا إلى فئتين، فئة مُتشائمة، اعتبرت أن خسارة حلب هي نهاية الثورة واختارت إما الانشغال بنعي الثورة والندب على مصيرها، أو الانسحاب من الشأن العام والتفرغ لحياتها الخاصة، لاسيما في حالة اللاجئين في الدول المتقدمة، والتي أغرقت لاجئيها بالأعمال البيروقراطية.

أما الفئة الثانية فهي المتفائلة، وهي التي كانت ترى ألا حياة للسوري من دون المتابعة في طريق إسقاط الأسد مهما طال الطريق أو قصر، وأزعم أني كنت من هذه الفئة، على رغم أن الشك في شهود لحظة سقوط النظام كان يغزو قلبي.

بعد سقوط النظام، عدنا للانقسام الحاد إلى مجموعات عابرة للطوائف والأعراق، توزعت على فئات أربع. الفئة الأولى هي فئة المنتصرين، فئة ارتد إليها الحق وشعرت بأنها حققت كل ما كانت تتمناه بالقوة، ويغلب عليها جانب غضّ النظر عن التجاوزات أو الخلافات.

أما الثانية فهي فئة المذعورين الذين يخشون من انجرار البلد إلى حرب طائفية أو من انزلاقها إلى التشدّد الإسلامي أو من نفق أسود طويل ندخل فيه ولا نخرج منه إلا بفنائنا.  وثالثاً فئة المتشككين التي لا تثق بمسار ولا بأحد ولكنها ليست مذعورة كفاية للانضمام إلى المجموعة المتشائمة، وتمتاز هذه الفئة بأنها الفاعلة في الحوار وهي التي تضيء من دون توقف على كل النقاط المقلقة وتحاول البحث في أسبابها واقتراح الحلول.

 أما الفئة الأخيرة فهي فئة تفضّل العمل والانخراط في الشأن العام بغض النظر عن موقفها منه، وقد تضم أفراداً برؤية من كل الفئات السابقة، لكنها قررت تنحية كل المخاوف والقلق والتشاؤم ونشوة الانتصار لصالح الحلول التي يحتاجها المجتمع اليوم كي ينهض.

هل يكفي أن نكون “الشعب السوري” فقط!

أعيد النظر في تقسيماتي السابقة، فأكتشف أنني وقعت في مطب المجتمع الغربي نفسه، إذ لا ينفصل تقسيمنا إلى فئات ومجموعات عن السقوط في فخ التعميم وجمع الأفراد المختلفين الملونين، والذين يمتاز كل منهم عن الآخر في حزمة واحدة موحدة.

وأتساءل عن تلك الصفة التي تدفعنا إلى جمع الشعب ثم إعادة تقسيمه، هل يسهل ذلك علينا النظر إليه؟ هل يساعدنا أن ننظر إلى كل مجموعة على حدة بدل النظر إلى كتلة الشعب السوري الهائلة المتنوعة؟ أم أننا نحتاج إلى مجموعة نستطيع الانتماء إليها؟ لعل رفضي القاطع للتقسيمات الغربية سببه أنني لا أجد نفسي أنتمي إلى مجموعة بناء على دين أو عرق.

يشغلني أيضاً أن الخلافات الأيديولوجية لم تحضر بعد سوى في الانقسام إسلاميين/علمانيين، إلا أن الاختلاف بين ليبراليين واشتراكيين أو بين ديمقراطيين ومحافظين وغيرها من التقسيمات لم تظهر بعد، لا سيما أن قانون تشكيل الأحزاب لن يعلن قبل القيام بخطوات عدة، منها الحوار الوطني وإعلان الدستور.

أفكر بمبدأ التقسيم إلى مجموعات، وأشعر أنه قاصر عن وصف وضعنا كشعب كان مضغوطاً بطغمة استبداد، كان يفضل كنس كل الخلافات تحت سجادة “الفسيفساء الوطنية المنسجمة”، رفعت عنه كل الضغوط فجأة ودفعة واحدة، فأصبح يغلي باختلافاته وألوانه. وأسأل نفسي: هل من الضروري أن ننقسم؟ ألا يمكننا أن نجد ما يوحّدنا اليوم؟ لعل الإجابة الوحيدة والتي لا تخلو من ابتذال، هي كوننا بمجموعنا نشكل الشعب السوري، فقط، وبهذه البساطة.

درج

———————————-

الممثل السوري والسلطة… تاريخ من الصراع والمراوغة!/ علاء الدين العالم

11.02.2025

كون سقوط النظام كان سريعاً وخاطفاً، اقتادَ الإعلام الممثلين النجوم لسؤالهم عن آرائهم بعد هذا السقوط. أستخدم الفعل (اقتاد) هنا لأن المقابلات الحاصلة بعد السقوط كانت أشبه بجلسات تحقيق مع الممثلين أكثر مما هي محاورة مفتوحة مع فنان ورأيه الشخصي، وليس مع سياسي ورأيه العام.

في واحد من الفيديوهات التي صُورت في فيلا/ مقرّ ماهر الأسد، شقيق الرئيس المخلوع بشار الأسد وذراعه العسكري، يلحظ المشاهد مدى اهتمام قائد الفرقة الرابعة بالفن والفنانين السوريين، إذ عُلقت على جدران أحد مكاتبه صور للممثلين والمغنين السوريين، ما يوحي باهتمام السلطة بالفن السوري وفنانيه، علاقة يتداخل فيها الفني والسياسي والدعائي، إلى حد تحول الممثل السوري إلى ناطق باسم السلطة أحياناً، وحتى بعد الثورة، تحول الممثلون إلى أوجه ثوريّة بعضهم قرر ممارسة العمل السياسي إلى جانب النشاط الفنّي، ما يتركنا أمام سؤال: ما هي العلاقة التي بُنيت بين النظام والممثلين السوريين؟ ولماذا هذا الاهتمام الأسدي بالممثلين دون غيرهم من الفنانين والمتميزين السوريين؟

المشخصاتي المنفي ورحلة الصراع مع التقاليد والسلطة

خلف قشرة العلاقة بين الممثل السوري والسلطة الأسدية، وهي القشرة التي ينشغل بها الجمهور اليوم بعد السقوط، تكمن علاقة طويلة ومتخبّطة بين الممثلين والسلطة في سوريا. بدأت هذه العلاقة مع الظهور الأول في سوريا لفن التمثيل بمعناه المعاصر على يد أبي خليل القباني، أبو المسرح السوري الذي دفعه الجور الحميدي في العصر العثماني إلى مغادرة البلاد الشامية، تحديداً بعد الحرب التي شنّها عليه بعض شيوخ دمشق وانتهت بحرق مسرحه وتشتّت شمل جوقته/فرقته التي كانت حققت شهرة واسعة في المجتمع الدمشقي.

آنذاك، لعب الدين الدور الرئيسي في إشعال الخلاف بين الممثل والسلطة، وغذّته حداثة مفهوم التمثيل على المجتمع الشامي، المفهوم الذي حرّمه الشيوخ المعادين للقباني على أساس أنه تشخيص، والتشخيص في الإسلام حرام حسب فتاويهم، ومن هنا جاءت مفردة ((المشخصاتي)) التي اعتمدت في الشامية الدارجة دلالة على الممثل.

بعد المرحلة المؤسِّسة مع القباني، عاد مفهوم الممثل إلى دمشق مع بداية القرن العشرين، بعدما جُبل هذا المفهوم وازدهر في بيروت ومصر التي استقرت فيها الأجواق المسرحية الهاربة من الشام. وبسبب الطبيعة السياسية المتحركة بسرعة إبان سقوط الإمبراطورية العثمانية، والتحولات الانتدابية في بلاد الشام، وصولاً إلى الاستقلال، لم تكن هناك صيغة واضحة وواحدة لعلاقة الممثل بالسلطة، وتحديداً بالنظر إلى عدم شعبية فن التمثيل آنذاك، الذي بدأ يصل إلى الجمهور عبر المسرح والسينما. لكن بقيت نجومية الممثل محدودة قياساً بالشعر والغناء والصحافة الناشئة.

بعد ذلك، وتحديداً مع انطلاق بث التلفزيون السوري عام 1960 وبدء ظهور التلفزيون بجانب المسرح المزدهر والسينما الحاضرة بقوة في المجتمع، بدأ تأسيس صورة الممثل السوري، ورسم تاريخ جديد ومختلف له، وبدأت رحلة الممثل ونظام البعث.

الممثل/ النجم بما هو النجم الوحيد في المجتمع السوري

على امتداد مرحلة الستينات، والتي ازدهرت فيها السينما السورية على يد أسماء مثل نهاد قلعي، دريد لحام، رفيق سبيعي، هالة شوكت ونجاح حفيظ، ونشط فيها المسرح السوري على يد فنانين مثل عبد اللطيف فتحي وفهد كعيكاتي ولينا باتع وآخرين، بدأ الممثل السوري يشعّ في المجتمع، ويلحظ حضوره وأثره على الجماهير، وبدأ يسطع اسم بعض الممثلين كنجوم في المجتمع، الى جانب نجوم آخرين من حقول أخرى، كالسياسة والشعر والصحافة. إلا أن الممثلين كانوا مقبلين على عهد سيبقون فيه النجوم الوحيدين في المجتمع، إن وافقوا السلطة الأسدية أو صمتوا عن ممارساتها على أقل تقدير.

يُعتبر دريد لحام الممثل الوحيد الباقي من ذاك الجيل، والشاهد على هذا التحول في دور الممثل السوري، لا بل هو رمز لهذا التحول وأيقونة له. فمع وصول البعث بداية الستينات، ازدهرت الدراما التلفزيونية التي قدمها لحام بكتابة ومشروع نهاد قلعي الفني وإنتاج التلفزيون السوري وإخراج فيصل الياسري وخلدون المالح. نجحت أعمال “مقالب غوار وحمام الهنا” في الوصول إلى الجمهور السوري، وانتقل قلعي ولحام من النجاح في السينما إلى النجاح في التلفزيون.

 مع وصول حافظ الأسد في السبعينات، أكمل الثنائي عملهما، وحققا نجاحاً باهراً في مسلسل “صح النوم” 1972، والذي كان المسلسل الأخير الذي جمعهما. وفي كل ذلك، كان يُكرّس النجم التلفزيوني، كنجم مؤثر في الشارع السوري، ليس على المستوى الفني فقط، بل على المستوى السياسي أيضاً، إذ إن أعمال قلعي ولحام المسرحية، والتي كانت من تأليف محمد الماغوط، كانت بمثابة مانيفستو سياسي يصب في الأفكار القومية والاشتراكية التي يتبناها البعث ويروج لها. وفي الوقت ذاته، كان هناك نقد ماغوطي قاسٍ وشديد للسلطة. لكن مع نهاية السبعينات، تم احتواء هذه التجربة الفنية. ويقال إن قلعي أصيب في رأسه بعد عراك مع ضابط من سرايا الدفاع في أحد المقاهي، وأبعدته السلطة والمرض عن الساحة الفنية.

 أُبعد الماغوط عن المشهد المسرحي أيضاً، وبقي لحام كنجم أول ويكاد يكون الوحيد. وفي عام 1977، تأسس المعهد العالي للفنون المسرحية، ليكون في ما بعد عماد النجاح في الدراما التلفزيونية، ويخرّج نجوم تلفزيون كثراً، سيتبعون طريقين في حالة الشهرة والنجومية: إما طريق دريد لحام، مهادنة السلطة وأحياناً تمرير مطالبها عبر الفن وأثر الفنان، أو طريق نهاد قلعي، مع مخاطر هذا الطريق في ظل نظام دكتاتوري بقبضة أمنية حديدية.

وكأي نظام شمولي، فرض نظام حافظ الأسد سيطرته على كل قطاعات الثقافة والفن والرياضة والحياة. وشملت هذه السيطرة إطفاء نجوم في حقول مختلفة.

انحسرت السينما السورية، وأُغلق الباب على أي نجومية لمخرج أو منتج (مثل فيلم “نجوم النهار” لأسامة محمد)، أو حتى رياضي أيضاً كحادثة عدنان قصار، الفارس السوري الذي اعتقله النظام 24 عاماً لأنه سبق باسل الأسد. وفي الشعر، الأمر نفسه أيضاً وإن لم يكن بقبضة الأمن فجراء القهر والخوف (ولنا في نجومية الشاعر الراحل رياض صالح الحسين اللاحقة مع الثورة مثال).

هكذا، ومع مرور عقدي الثمانينات والتسعينات، بقي الممثلون في التلفزيون حصراً، نجوم سوريا الوحيدين. ولأن أي مجتمع بحاجة إلى نجوم ومؤثرين، استقبلهم الجمهور السوري جميعهم، مثقفين ومفكرين وفنانين ايضاً. ودفعهم النظام ليتكلموا كساسة لا كممثلين، وحمّلهم مسؤولية، وبعضهم اختار الظهور في الإعلام كممثلين عن المجتمع لا كممثلين عن المسرح والفن.   

مع نهاية التسعينات وبداية الألفية، استمرت الدراما التلفزيونية السورية بالصعود، وتوسعت نجومية الممثلين من أسماء محدودة في التسعينات، إلى عشرات الممثلات والممثلين الذين سطع نجمهم مع سطوع الدراما في بداية الألفية الثالثة. من جهة أخرى، تخرَّج عشرات الممثلين في معهد الفنون المسرحية خلال عقدي التسعينات والعشرية الأولى من الألفية.

 وحمّل الكثير من الممثلين مشاريع فكرية وأكاديمية، وبعضهم اتجه إلى المسرح وعمل على تطوير المسرح السوري. وبذلك، كُسرت صورة الممثل/ النجم مع كثرة النجوم واختلاف آرائهم وأفكارهم، ورفض بعضهم دور مثقف السلطة. وفي الوقت ذاته، تضخمت صورة الممثل النجم، المفكر، والمثقف السياسي، وبعضهم لعبها حتى النهاية.

ضمن هذا السياق، وهذه الخلفية التاريخية، وصل الممثل/النجم السوري إلى اللحظة الأكثر مصيرية في مسيرته، وهي انفجار الثورة السورية عام 2011. دفعت الثورة الأمور إلى أقصاها، والنجم الذي كانت نقاشاته السياسية تقتصر سابقاً على دعم فلسطين أو انتقاد الحالة المعيشية والفساد، أصبح مطالباً بالخروج للإعلام والتعبير عن رأيه، سواء من جهة النظام الذي اعتبر هؤلاء الممثلين النجوم أبناءه (وليس أبناء سوريا) وبالتالي فإن ولاءهم هو حصراً له، أو من جهة الشعب الذي أتى منه هؤلاء النجوم.

وعادت ثنائية قلعي – لحام للظهور في أكثر أشكالها راديكالية، فإذا كان بيان كسر الحصار عن درعا (بيان الحليب) 2011 قد جمع الممثلين السوريين للمرة الأخيرة، ضمن رأي إنساني واحد، فإن عنف النظام المفرط مع الموقعين على البيان، وتصاعد الأحداث وانفجارها، وتقسيم المجتمع إلى مؤيد ومعارض، سيقسم النجوم السوريين لأربعة عشر عاماً. فوقف بعض النجوم مع ثورة الشعب والمعارضة، والبعض الآخر وقف في صف النظام، بينما البقية اختارت الصمت ثمناً لبقائها في سوريا، ومن دون أن تتورط في تأييد النظام بشكل مباشر.

هذه الصورة المعقدة لعلاقة الممثل/ النجم السوري بالسلطة، سدت على الممثلين أي مَخرَج يعيدهم ليكونوا ممثلين وحسب، أي أن يكون رأيهم السياسي رأياً شخصياً وليس عاماً. ولم تكسر الثورة هذه الصورة أو هذا الدور للممثل، على العكس تماماً، فالممثلون الذين انضموا الى الثورة، كانوا متحدثين رسميين وسياسيين فيها، وهو دور لم يختاروه وحسب، بل دفعتهم إليه الجماهير الثائرة التي تَكرَّست في رأسها صورة الممثل/ النجم السياسي. هذا الممثل الذي قد ينغمس في العمل السياسي حد الترشح إلى الرئاسة (الفنان جمال سليمان مثالاً) أو الدخول إلى الحقل القانوني والعدلي بعد سقوط النظام، والحديث في العدالة الانتقالية، برأس مال رمزي ثوري، كما هو حال الفنان مكسيم خليل الذي شارك كمتحدث في جلسة عن العدالة الانتقالية أقيمت منذ أيام في حمص تحت عنوان “العدالة الانتقالية بين الذاكرة والمحاسبة والمستقبل”!

على الضفة الأخرى، كانت حاضنة النظام تضغط هي الأخرى وتنتظر وتتربص بالممثل، ولا أقصد هنا الممثلين الذين لعبوا دور المؤيد للنظام، المتكلم باسمه، والمدافع عنه (باسم ياخور، مصطفى الخاني، سلاف فواخرجي.. وغيرهم)، بل أقصد الممثلين الذين رفضوا هذا الدور السياسي المباشر، وآثروا الصمت أو المراوغة إلى حين ورّط النظام بعضهم في صورة جمعت الكثيرين منهم مع بشار الأسد قبل سقوطه.

الممثل السوري ما بعد الأسد

 كذلك، لعب الإعلام العربي، بمختلف أجنداته وسياساته، دور الضاغط الأكبر على الممثل/ النجم. ففي سنين النار والقتال، تكاد لا تخلو مقابلة مع ممثل، نجماً كان أم لا، من السؤال التفصيلي عن رأيه السياسي، وما إذا كان يدعم النظام أم الثورة.

وكون سقوط النظام كان سريعاً وخاطفاً، اقتادَ الإعلام الممثلين النجوم لسؤالهم عن آرائهم بعد هذا السقوط. أستخدم الفعل (اقتاد) هنا لأن المقابلات الحاصلة بعد السقوط كانت أشبه بجلسات تحقيق مع الممثلين أكثر مما هي محاورة مفتوحة مع فنان ورأيه الشخصي، وليس مع سياسي ورأيه العام. الغريب في الأمر، أن الممثل/ النجم لم يتنازل عن الدور الثقيل الذي حمله في عصر النظام، وكأنه لم يعد قادراً على الفكاك منه، مع استثناءات قليلة جداً، آثرت الصمت أو تقديم رأي من باب المواطن السوري أكثر من باب السياسي والمثقف.

أخيراً، يبدو أن الفائدة الوحيدة من هذا الدور للممثل/النجم السوري هي قدرته على التأثير على شرائح واسعة من المجتمع السوري، لذلك يمكنه أن يلعب دوراً مهماً في صناعة السلم الأهلي في سوريا اليوم (وليس العدالة الانتقالية فذلك شأن قانوني)، ومحاولة رأب الصدع الاجتماعي الحاصل بعد 14 سنة من الثوران والاقتتال، وخروج الممثلين من هذا الدور البروباغندي الذي وضعهم فيه نظام الأسد.

أما أولئك الذين ما برحوا رأيهم السياسي الداعم للنظام بعد سقوطه وانكشاف أهواله، فربما الفائدة الوحيدة منهم أنهم يكسرون عند الجمهور صورة الممثل العارف والمتحدث في كل مجال. وعن كونهم كانوا مهرجين للسلطة الأسدية، فذلك فيه إجحاف كبير بحق المهرج. فمهرجو الملك؛ على الأقل، يتحلون بالحكمة والجنون وليس بالعبودية والإذعان، ولنا في بهلول الملك لير خير مثال. 

 – كاتب ومسرحي فلسطيني سوري

درج

———————————-

الاشتباكات بين العشائر والإدارة السورية: استحضار الماضي لتبرير القتل/ طارق الحجيري

الإثنين 2025/02/10

لليوم الخامس على التوالي تستمر الاشتباكات العنيفة على الحدود الشرقيَّة، في منطقة القصر وجوارها، أصوات القذائف والمدافع تُسمع في المناطق القريبة. كل محاولات التهدئة لم تنفع حتّى الآن، رغم الاتصال الذي أجراه رئيس الجمهوريّة العماد جوزاف عون بالرئيس السوري أحمد الشرع. لكن على الأرض الرصاص والقذائف هي التي تتكلم. هذا وقد نقل الصليب الأحمر اللبناني عددًا من القتلى والمصابين إلى مستشفيات الهرمل وجوارها، فيما الجيش اللبناني يحاول قدر استطاعته ضبط الأمور، سواء عبر محاولات منع إطلاق النار من الجانب اللبناني أو عبر الرد على مصادر النيران السورية. ما أدّى إلى تعرُض بعض عناصره للإصابات.

السلاح النوعي العشائري

المعارك تدور رحاها على منطقة جغرافيا واسعة تشمل قرى وبلدات كثيرة، زيتا جرماش، مطربا، حاويك، السمائيات، بلوزة، الصفصافة، الجنطليّة، سقرجا، الفاضلّية المصريّة العقربية. هي بلدات سورية تسكنها عائلات وعشائر شيعية مقربة من حزب الله، وتُشكّل امتدادًا له إلى الداخل السوري. فيما بلدة أكوم ذات الأغلبية السنية تغيب عنها المعارك وأهلها لم يغادروها.

 تاريخيًا علاقة العشائر بالسلاح متينة ومادة للتباهي والتفاخر تحت شعار “السلاح زينة الرجال”. لكن ما يثير الاستغراب هو كميَّة ونوعيَّة السلاح المتواجدة لدى “جيوش العشائر”، بعضها غير موجود لدى الجيش اللبناني نفسه. وهذا ما ظهر من خلال إسقاط مُسَيَّرتين للأمن السوري بالمضادات الجويَّة، وظهور صواريخ الكورنيت، والرشاشات الثقيلة على الاليات إضافة لمدافع الميدان. وهذه الأسلحة ليست فرديّة، وغير متوفرة لدى تجّار السلاح، ولا تدخل في نوع السلاح المسموح ترخيصه قانوناً. وهنا يُطرح السؤال عن الرابط بين الاشتباكات المُستجدّة وتجدد الغارات الاسرائيلية على الحدود اللبنانية السورية. فهل فتح الحزب مخازنه السريَّة في تلك القرى والبلدات لتسليح العشائر فاستهدفها العدو؟

أخطاء الجغرافيا

حسب البيانات العقاريّة فإن البلدات التي تدور فيها المعارك هي أراضٍ سورية بالكامل، لكن قاطنيها أغلبهم من اللبنانيين الشيعة، من عائلات جعفر وزعيتر وناصر الدين ونون والجمل وعلاو وحمادة وغيرهم.

عدم ترسيم وتحديد الحدود الممتدة على طول 330 كلم، بنقاط رسميّة ظاهرة وثابتة، مسَجّلة في محاضر اللجان المشتركة للترسيم، خلقت بحسب الأكاديمي الدكتور عصام خليفة إشكالات حدوديّة كبيرة، بعضها مُعقّد في السلسلة الشرقيّة، بسبب تداخل الجبال وتعرجها. لكن في منطقة الهرمل وحوض العاصي الترسيم والتحديد بمتناول اليد نظرًا لطبيعة الجغرافيا السهليَّة الواضحة والمكشوفة. وعزا خليفة عدم بت الخلافات الحدودية سابقاً وإهمال ترسيمها إلى غياب الإرادة الجديَّة عند النظام السوري السابق، وكذلك التناغم السياسي بينه وبين حزب الله صاحب الوصاية السياسية والدينيّة على أغلب أبناء الهرمل وجواره. وهذا ما كرّس أمرًا واقعًا هو الحلول الرضائية بين الطرفين.

أحقاد التاريخ

ظاهر الموضوع ضبط الحدود ومحاربة التهريب ومنع التسلل. لكنّ في حقيقته هو خلاف تاريخي مذهبي بين غلاة السنة والشيعة، ظهر ذلك في حملات مناصري الطرفين على وسائل التواصل الاجتماعي وفي أحاديثهم المباشرة واستحضار التاريخ. فحجم الشتائم والشّعارات المقيتة مفزع، كذلك الشعارات المذهبيّة والدعوات للثأر والانتقام وإراقة الدم.

في المعارك الحالية يسترجع المتقاتلون أي شواهد سابقة لتبرير القتال. من ناحية يسترشد البعض بكلام المرشد الإيراني السيد علي خامنئي “أن المعركة هي بين الجبهة الحسينيّة والجبهة اليزيديّة” في استرجاع للخلاف على حُكْم المسلمين بين علي بن أبي طالب ومعاوية بن أبي سفيان. ومن ناحية ثانية سبق وأقدمت الإدارة السورية الجديدة على تغيير اسم مسجد الخميني إلى مسجد السيدة عائشة في منطقة الست زينب في دمشق. ويستذكرون الحرب السورية مؤكدين على عدم مسامحة “حزب الله” على مشاركته في معارك ذبح السوريين وهتك أعراضهم، ووأد ثورتهم في مهدها عام 2011 يجاهرون علانية أن سوريا عادت للحكم الأموي العربي ويبثون المشاهد والفيديوهات الاستفزازية مذهبيًا.

ما بعد سقوط الأسد

غير خَفي على أحد، أنّ السبب الأساسي لكل ما يحصل هو سقوط حكم آل الأسد في سوريا، النظام الذي شَكّل العمود الفقري للمحور الإيراني في المنطقة العربيّة، وخط الإمداد البري الوحيد لتَزَوّد حزب الله بالسلاح والعتاد حتى المال.

منذ سقوط نظام البعث في سوريا، وما له من انعكاسات في الداخل اللبناني، لا يترك الشيخ ياسين علي حمد جعفر (أحد مشايخ عشائر الهرمل) مناسبة إلا ويؤكد فيها على ضرورة الهدوء وحل كل المشاكل بلغة المنطق والعقل وحُسنِ الجوار. دعا في حديث لـ”المدن” إلى صمت كل أبواق الفتن والغرائز وترك الأمور للعقلاء كي يجدوا الحل.

وأكّد جعفر أنّ سوريا هي بوابة لبنان إلى العالم العربي والغربي، متسائلا عن جدوى دعوات الجهاد ضدها وما شاكل، وداعيًا إلى ترك الأمور للدولّة والوقوف خلف رئيس الجمهورية والجيش اللبناني. وقال: “نحن مواطنون في دولة وهي من تقرر الحل وحدها. نحن والسوريون تربطنا الجغرافيا والتاريخ والعلاقات الأخوية ويجب ان نبقى كذلك”.

من جهتها مصادر داخل الإدارة السورية في منطقة القصير السورية أكّدت لـ”المدن” أن زمن “تشبيح” الفرقة الرابعة ولّى إلى غير رجعة. فمن كان يقوم بالتهريب وتشكيل عصابات السلاح والمخدرات وسرقة السيارات ولا يقيم للحدود وزنًا، لم يعد بإمكانه التصّرف بهذه الذهنية.

وأضافت المصادر أن هناك حدوداً رسمية ومعابر شرعية هي المدخل إلى سوريا. أما المعابر غير الشرعية فنعمل على اقفالها بشكلٍ نهائي. فيما أمر ترسيم الحدود وتنظيم آلية العبور عبر المعابر الشرعيّة هي صلاحيات السلطات الرسميّة في البلدين وأهل لبنان أهلنا.

علاقات القربى

علاقات أبناء الهرمل وقرى الجوار من الجانبين السوري واللبناني هي بحسب أبو محمد عامر (يحمل الجنسيتين) علاقات عمرها مئات السنين، ليست وليدة اليوم أو الأمس. تربطهم الجغرافيا والعادات والتقاليد والمصاهرات، فنجد أفراد العائلة الواحدة منقسمين في السكن والإقامة بين لبنان وسوريا. عشرات العائلات اللبنانيّة لديها ملكيات أراضي بآلاف الدونمات في سوريا. وآلاف اللبنانيين يعتمدون في معيشتهم على التبادل التجاري عبر الحدود سواء التهريب أو عبر المعابر الشرعيّة. والكثير من المنتجات اللبنانية يتم تصريفها في السوق السورية والعكس أيضًا. وهذا يجب أن يُشَكّل حافزا لإيجاد الحلول الحاسمة التي تحفظ هيبة القانون ومصائر الناس وأرزاقهم.

المدن

————————————–

حزب الله بين الليطاني والعاصي: الانسحاب القسري إلى الداخل/ منير الربيع

الإثنين 2025/02/10

حزب الله إلى ما بين النهرين: الليطاني، والعاصي. ذلك ما يُرسم بإرادة دولية وإقليمية، مع مسعى لتكريس هذه الحدود الجغرافية في المعادلة السياسية الداخلية. لم يعد بالإمكان النظر إلى كل التطورات الحاصلة على مستوى المنطقة، إلا في سياق إعادة تركيبها وخلط الأوراق فيها وتغيير توازناتها وجغرافياتها. وهو ما عبّر عنه الرئيس الأميركي دونالد ترامب بشكل صريح، عندما جدد تمسكّه بمشروع الترانسفير في قطاع غزة، وأسبغ عليه وصف “الصفقة العقارية”.

السيطرة والإشراف

كانت الحرب واغتيال أمين عام حزب الله السيد حسن نصرالله، وما تلاهما، ذات هدف واضح ومحدد: إنهاء حقبة زمنية وسياسية، تفوّقت فيها إيران واتسع معها نفوذ الحزب، الذي أصبح يُطلق على نفسه “قوة ذات تأثير إقليمي”. والمُراد اليوم هو إعادة هذه القوة إلى داخل الحدود اللبنانية وإضعافها إلى الحدود القصوى. وهو ما عبّرت عنه الموفدة الأميركية مورغان أورتاغوس.

فلم تكن زيارة أورتاغوس إلى جنوب لبنان بالأمر التفصيلي أو العابر، ولا سيما وصولها إلى بلدة طير حرفا. وما سُرّب عن طلبها إزالة كل الرموز أو الصور التي تهاجم بلادها، يندرج في سياق الرمزية التي تريد أن تعمل بموجبها. كما أن الزيارة تتصل بالإشراف على التلال التي يتمسك الإسرائيليون بالبقاء فيها، حتى ما بعد “الانسحاب” من مختلف المناطق والقرى الجنوبية. فهم يريدون البقاء في بعض النقاط فوق هذه التلال المشرفة والكاشفة، وسط أفكار تشير إلى احتمال نشر مراقبين أميركيين أو دوليين على هذه التلال، بدلاً من بقاء الجيش الإسرائيلي فيها. وذلك في إطار استكمال آلية عمل لجنة المراقبة التي يترأسها الجنرال الأميركي.

وجود حزب الله

الهدف الأكيد دولياً وإقليمياً، هو نزع قوة حزب الله ومخالبه، وإبعاده عن جنوب نهر الليطاني، في مقابل تشديد مسؤولي الحزب، وعلى رأسهم الأمين العام الشيخ نعيم قاسم، على أن الاتفاق ينحصر تطبيقه فقط في جنوب النهر وليس في شماله. علماً أن نص الاتفاق، والموقف الدولي، العربي، وجزء أساسي من القوى السياسية اللبنانية، يؤكد على أن المعادلة كلها اختلفت، وعلى حزب الله الاقتناع بإلقاء السلاح والاتجاه إلى العمل السياسي فقط. وذلك ما استدعى تصريحاً أميركياً عنيفاً وشديد اللهجة حول عدم مشاركة الحزب في الحكومة، وإضعاف قوته السياسية وتأثيره. وهذا ما سيتحداه الحزب في إعادة إثبات نفسه وحضوره على المستوى السياسي. وهو ما يراهن الحزب على إثباته من خلال الحشد الكبير الذي سيسعى إلى تأمينه في موعد تشييع أمينه العام في بيروت، ليثبت شعبيته، بهدف إعادة تجديد انبعاثه السياسي وقوته في الميزان الداخلي، وربما يُراد للتشييع أن يتحول إلى تظاهرة مشابهة لتظاهرة 8 آذار 2005.

الحدود السورية

لم يعد بالإمكان فصل تطورات الجنوب ومنع حزب الله من إعادة بناء قدراته العسكرية، عن ما يجري على الحدود مع سوريا، لا سيما أن إسرائيل كانت قد أكدت على لسان مسؤوليها أكثر من مرّة، منع حزب الله من إعادة التسلح عبر سوريا. وقد استخدم رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو أكثر من مرة عبارة قطع “اوكسيجين الحزب” عبر سوريا.

وفي الآونة الأخيرة، استهدفت القوات الإسرائيلية المزيد من شحنات الأسلحة التي كان يعمل الحزب على نقلها من سوريا إلى لبنان، وسط معلومات تفيد بأن الحزب تمّكن بعد سقوط نظام الأسد، وبالتعاون مع مجموعات متعددة في سوريا خارجة عن سيطرة “هيئة تحرير الشام”، من تمرير شحنات أسلحة إلى لبنان، وبعضها لم يتمكن الإسرائيليون من كشفه.

للمفارقة أيضاً، جاءت الاشتباكات التي شهدتها الحدود اللبنانية السورية بين العشائر من جهة وقوات الأمن السورية من جهة أخرى، بالتزامن مع غارات إسرائيلية شنها الإسرائيليون على مناطق بقاعية قريبة من الحدود مع سوريا. فيما العملية التي نفذتها قوات الأمن السورية ضد مجموعات من العشائر، كانت بهدف منع حصول عمليات تهريب أسلحة إلى لبنان، بالإضافة إلى ضرب كل خطوط التهريب الناشطة في تلك المنطقة.

الاشتباكات لا تنفصل عن صراع أساسي يتعلق بالنزاع على الحدود والمناطق هناك، خصوصاً أنه مع بداية الثورة السورية وبعد انخراط حزب الله إلى جانب النظام السوري، دخلت مجموعات لبنانية كثيرة إلى بعض القرى السورية في ريف حمص والقصير، وقد مكث هؤلاء في حاويك أو غيرها من القرى، وما زالوا فيها إلى اليوم. هذه الاشتباكات، تفرض على لبنان وسوريا العمل في سبيل تفادي المزيد من التصعيد، وفق القواعد التي تتحكم بمسار الأمور على المستوى الإقليمي والدولي، مع فتح مسار لترسيم الحدود بين البلدين، ولعودة حزب الله إلى داخل لبنان بالمعنى الملموس، بالإضافة إلى عودته بالمعنى السياسي والعسكري، إلى ما وراء نهر العاصي غرباً.

المدن

————————–

التوتر على الحدود اللبنانية- السورية: إنهاء مرحلة حزب الله/ ندى أندراوس

الإثنين 2025/02/10

منذ سقوط نظام الاسد، استشعر الجيش اللبناني خطورة الاوضاع على الحدود مع سوريا، التي لطالما كانت مسرحا لشتى عمليات التهريب والاشكالات بين عصاباته على جانبي الحدود.

تحسبا لأي سيناريو قد يخرج الامور عن السيطرة، عزز الجيش انتشار وحداته على طول ال370 كلم، كما نصب راجمات صواريخ في مواقع تعتبر حساسة.

ما يجري منذ أيام بين العشائر وعائلات لبنانية شيعية تعيش منذ عقود في قرى وبلدات سورية في أراضيها ومنازلها ومزارعها، وبين مجموعات الادارة السورية المسلحة، ترجم مخاوف الجيش.

جبهة مشتعلة

كان يفترض أن تكون الامور قد هدأت بعد جولة من الاشتباكات بين الطرفين، دخل على خطها الجيش اللبناني بعدما أصيب مركزه في قنافز اللبنانية الواقعة مقابل حاويك السورية، بصاروخ أطلق من الجانب السوري، وبعدما رد على مصادر النيران محققا اصابات مباشرة.

لكن صباح أمس الاحد لم يكن هادئا. اذ سقطت عشرات القذائف في قنافز، والجيش اللبناني رد مجددا على مصادر النيران من ريف القصير.

في بلدة قنافز ينتشر المسلحون من العشائر اللبنانية، كما في غيرها من المواقع الحدودية. وعلى الرغم من اعلانهم أنهم يتركون الامر للجيش بعدما دخل على خط المواجهة، إلا أنهم لم يلتزموا حتى الان بالتهدئة من جانبهم، لاسيما وأن الالاف من اللبنانيين الشيعة من أبناء العشائر الذين يعيشون في ما يقارب 33 قرية وبلدة سورية، معظمهم من أصحاب الاملاك هناك، نزحوا باتجاه الهرمل، البعض الى منازل أقاربهم، والبعض الاخر استقبلوا في صالات ومراكز عامة وحسينيات.

الاستهدافات للمناطق الحدودية استمرت على محاور عديدة في ساعات ما بعد الظهر من القصر الى سهلات الماء المشرفة وتلال قنافز. رد الجيش مستهدفا مصادر النيران،

التطورات الامنية استمرت في ساعات ليل الاحد والقصف السوري استهدف أكثر من موقع وطريق ومعبر. دفع  ذلك الجيش الى الانتشار في نقاط ومعابر حدودية عدة واستحداث مراكز ثابتة لفوج الحدود البري الثاني لاسيما في تلال قنافز ونشر تعزيزات في المشرفة وصولا الى جوسي.

في الظاهر، ما يجري على الحدود مع سوريا ولاسيما في المناطق الممتدة من القصر وقنافز ووادي فيسان وصولا الى أكوم، هو مواجهات بين عصابات تهريب من الجانبين. تهريب بضائع، محروقات، بشر، والاخطر تهريب السلاح.

جزء من هذا السلاح هو ما خلفته الفرقة الرابعة عندما انهار النظام وأخلى عناصرها مراكزهم الحدودية.

لكن هذا جزء ثانوي من مشكلة أكبر.

إنهاء وجود حزب الله في سوريا

في معلومات لـ”المدن”، فان تحريك الجبهة الحدودية اللبنانية السورية، ولاسيما من الجانب السوري، له أبعاد عدة في مقدمها، “تنظيف” المنطقة من المهربين وعصابات تهريب المخدرات والسلاح.

تحريك تلك الجبهة أتى متزامنا مع زيارة الرئيس السوري أحمد الشرع الى المملكة العربية السعودية، التي تعاني منذ سنوات من تهريب الكبتاغون الذي يصنع في جزء من تلك المناطق داخل الحدود السورية ويهرب الى أراضيها. وبالتالي، تركز العمليات على القضاء على تلك المعامل وعصابات المخدرات تحديدا في جرماش وأكوم حيث لا تزال تعمل بعض معامل الكبتاغون.

البعد الثاني يتعلق بقطع ما تبقى من خطوط الامداد لحزب الله بالسلاح، واستباق أي محاولة من الحزب لاعادة استنهاض قوته في الداخل السوري. وقد سيطر السوريون على مخازن أسلحة في خلال عمليات الدهم.

أما البعد الثالث فهو بسط نفوذ الادارة الجديدة على المنطقة وإخراج حزب الله والعائلات التي أدخلها للسكن في تلك المنطقة.

فبعدما تمدد نفوذ حزب الله في محافظة حمص ولاسيما في القصير وريفها، يبدو أن الادارة الجديدة في سوريا تريد تغيير هذا الواقع. وبموازاة الاشتباكات الدائرة بين مجموعاتها والعشائر اللبنانية، شنت الادارة السورية حملة مداهمات في القرى والبلدات التي سكنتها عائلات من الطائفة الشيعية داخل سوريا، واعتقلت عدداً من الاشخاص من اللبنانيين وحتى من السوريين السنة الذين كانوا من عناصر الفرقة الرابعة المنتشرة في المناطق الحدودية في نظام الاسد، وتم اخراج العائلات من منازلهم وأملاكهم وقد أصبح معظمهم في لبنان.

في المنطقة التي تقع في حوض العاصي السوري المعروفة بريف القصير، تقع القرى والبلدات الشيعية الـ33 مع مزارعها.

بين العامين 2011 و2012، عند اندلاع الثورة السورية، نزح أبناء الطائفة السنية من السوريين من ريف القصير من هذه البلدات وغيرها من البلدات ولجأوا الى عرسال ومناطق لبنانية أخرى. حل محلهم المزيد من اللبنانيين الذين انتقلوا للعيش في القصير ومحيطها الى جانب عشائر معظمها مع آل زعيتر، علوه، ناصر الدين، دندش، وجعفر، عندما أرسل حزب الله مقاتليه للدفاع عن النظام السوري، وانتقلت مع بعضهم عائلاتهم للعيش في سوريا. مذاك الوقت تعزز نفوذ حزب الله وجمهوره في الداخل السوري، وجيش النظام استفاد من ذلك الوضع أمنيا وسياسيا وحتى اجتماعيا.

ما لسوريا لسوريا

على الرغم من تواصل رئيس الجمهورية العماد جوزاف عون مع الرئيس أحمد الشرع لتهدئة الاوضاع من الجانبين، والتأكيد أن ما لسوريا لسوريا وما للبنان للبنان، إلا أن الواضح أن هناك تصميما على تثبيت واقع جديد في المنطقة الحدودية، خصوصا في مواقع حيوية في بلدات حاويك، بلوزة، جرماش، وأكوم.

في الداخل السوري، يتولى ادارة العمليات العسكرية ضد العشائر اللبنانية والمواطنين القاطنين في القرى والبلدات هناك، لواء معروف باللواء علي أبي طالب. وهو ينفذ مهمة السيطرة على المنطقة وانهاء الوجود الشيعي فيها وما تبقى من نفوذ لحزب الله.

فمنطقة القصير وريفها وصولا الى حاويك، وهي تبعد عن الحدود اللبنانية خمسة كيلومترات شمال الهرمل، تعتبر منطقة حيوية على مستوى التهريب، نظرا لطبيعتها الجغرافية السهلة من جهة مشاريع القاع والهرمل. وهي تاريخيا تعتاش من التهريب المتبادل، على الرغم من كل الاجراءات والامكانات المتوفرة للجيش والتي يتخذها على طول الحدود.

في سوريا الجديدة، كما في لبنان، الذي ينتقل الى مرحلة جدية تواكب متغيرات المنطقة وما هو مطلوب منه أميركيا ودوليا، لا يمكن لعقارب الساعة أن تعود الى الوراء، الى نفوذ حزب الله العسكري والاجتماعي. ما يجري على الحدود لن ينتهي إلا بعد ضمان عدم تجدد أي نشاط مشبوه أو أن تشكل بيئة حاضنة، أكان لعصابات المخدرات أو لحزب الله وسلاحه.

ما يريده الخارج من لبنان بالدرجة الاولى ينفذ بموجب القرار 1701 جنوب لبنان في نزع سلاح حزب الله. ويفترض أن يستكمله على الاراضي اللبنانية كافة في مرحلة لاحقة.

ما يريده الخارج من سوريا، ينفذه الشرع بضرب أي خطوط امداد قديمة أو جديدة، تستخدم الاراضي السورية كممر من ايران الى حزب الله في لبنان. بموازاة القضاء على مصنعي المخدرات ومهربيها الى المملكة العربية السعودية، التي بزيارته الخارجية الاولى اليها، أكد الشرع أن سوريا وعلى الرغم من رعاية تركيا المباشرة لادارتها الجديدة، لا يمكن أن تخاطر بأن تكون أراضيها مقرا أو منطلقا لاي نشاط يسيء لمصالحتها ومصالحها مع محيطها وعمقها.

ما تشهده الحدود الشمالية وكأنه يلاقي ما جرى على الحدود الجنوبية، في تحجيم حزب الله ونزع سلاحه ومنعه من اعادة بناء ترسانته الحربية. كل هذا يحصل بأساليب مختلفة ولكن تحت غطاء دولي واحد ضمن مشروع للمنطقة بدأت ترتسم ملامحه بل بدأت تتجسد اكثر فأكثر.

—————————–

ميني” حرب على الحدود اللبنانيّة – السورية… شهود يروون حكايات التهريب والمعابر غير الشرعيّة/ باسكال صوما

11.02.2025

بعد سقوط نظام الأسد وبحسب شهود التقينا بهم لإنجاز هذا التحقيق، لم يتوقف التهريب على رغم التضييق الذي حاولت الإدارة السورية الجديدة فرضه، لكنّ التهريب اتّخذ أشكالاً مختلفة، وهو ما أكّده لنا مهرّبون وأشخاص عاشوا تجربة العبور غير الشرعي، بعد سقوط النظام، أي في الأسابيع الأخيرة.

جبال ووديان وسهول، مساحات شاسعة تمتدّ على طول الحدود اللبنانية – السورية المتعرّجة والمعقّدة، والتي تبدو مراقبتها صعبة المنال، على رغم كل التجاوزات التي تشهدها منذ عشرات السنوات. إنها الحدود التي غيّرت قواعد الحرب السورية، عبر تهريب السلاح والممنوعات، والحدود التي لم تقفل معابرها غير الشرعية أبداً في وجه تهريب البشر والسلع والمحروقات، في السلم والحرب.

هذه الحدود تشهد في أجزاء منها ما يشبه “ميني” حرب بين القوات التابعة للإدارة السورية الجديدة (الجيش السوري) وعشائر ومجموعات مسلّحة قريبة من “حزب الله” في البقاع.

وفيما تسعى الإدارة السورية إلى إنهاء سطوة هؤلاء على الحدود، يسعى “أمراء” المعابر غير الشرعية إلى الحفاظ على مكانتهم وغنائم اكتسبوها على مدى سنوات من التهريب والفلتان الأمني.

بعد سقوط نظام الأسد وبحسب شهود التقينا بهم لإنجاز هذا التحقيق، لم يتوقف التهريب على رغم التضييق الذي حاولت الإدارة السورية الجديدة فرضه، لكنّ التهريب اتّخذ أشكالاً مختلفة، وهو ما أكّده لنا مهرّبون وأشخاص عاشوا تجربة العبور غير الشرعي، بعد سقوط النظام، أي في الأسابيع الأخيرة.

وادي خالد… وادي التهريب

“كم عدد المعابر غير الشرعية في وادي خالد على الحدود السورية؟”، كان هذا سؤالاً طرحناه على أحد المهربين، فضحك كثيراً قبل أن يسأل: “شو عم تعملي تقرير؟”.

حاولنا تغيير وجهة الحديث قبل أن نعود إلى السؤال ذاته، ليتبيّن أن معظم أصحاب الأراضي الحدودية في وادي خالد، شمال لبنان، هم في الواقع أصحاب معابر غير شرعية، يتقاضون أموالاً مقابل تمرير البشر والسلع والمحروقات وغير ذلك.

 بعد سقوط النظام السوري عادت عمليات التهريب لتنشط، على رغم محاولات ضبطها على الجانبين السوري واللبناني. وهو ما يؤكده أبو عامر، أحد المهربين الذين التقينا بهم، إذ كرر مراراً خلال المحادثة أن كل شيء تحت السيطرة ولا مشاكل.

بطبيعة الحال، لم نخبر أبا عامر أننا نجري المحادثة في سبيل كتابة تحقيق استقصائي، وكان علينا إيهامه بأن أحد الأصدقاء من الجنسية السورية يريد الذهاب إلى بلاده لزيارة أهله، لكنه لا يملك أي وثيقة قانونية تعرّف عنه سوى إخراج قيد منتهي الصلاحية، فما كان من أبي عامر إلا أن دعانا لعدم القلق، فبحسب قوله إنه عن طريقه يستطيع أي شخص الذهاب إلى سوريا وهو مطمئن، مهما كانت ظروفه.

معظم إجابات الرجل عن الأسئلة التي طرحناها كانت “اللي بصير عليه بصير عليي”، “مع أبو عامر ما في خوف”، وكأنه متأكد من أن الرحلة لن يعترضها أي خطر أو تهديد، بخاصة أن أبا عامر يمتهن تهريب البشر والسلع منذ وقت طويل وأصبح ضليعاً في كل خفاياه.

تعود ظاهرة التهريب التي تنشط بين لبنان وسوريا إلى أكثر من خمسين سنة، وهي تمتد على طول الحدود بين البلدين والتي تتجاوز الـ330 كيلومتراً.

وتحظى بعض المناطق التي تغيب عنها سلطة الدولة، وتسيطر عليها الأحزاب السياسية مثل الهرمل وعكار، بغطاء واسع يسمح للمهربين بتهريب كل ما يريدون تهريبه من البشر والمواد الغذائية والمحروقات، وصولاً إلى المخدرات والأسلحة وغير ذلك. وبين هذه المناطق، قرى سورية يعيش فيها لبنانيون، وهي تشهد حالياً الاشتباكات العنيفة بين المجموعات المسلحة والقوات التابعة للإدارة السورية. وهؤلاء يعيشون في الجانب السوري منذ الاستقلال، وأبرز تلك القرى الحاويك والجاماش والفاضلية، والتي كانت رأس حربة في تاريخ التهريب الطويل، وتتركز فيها حالياً الاشتباكات. ووفق بعض المعلومات المتوافرة، فقد أُخليت هذه المناطق كلياً من السكان، الذين هربوا إلى مناطق مجاورة، خوفاً من التصعيد المستمر.

المعابر على طول الحدود “السائبة”

في البحث في مسألة التهريب والمعابر غير الشرعية، الذي بدأنا به قبل اندلاع الاشتباكات على الحدود في منطقة البقاع، يبدو لافتاً أن أرقاماً عدة تُرمى في وسائل الإعلام حول عدد هذه المعابر، تبيّن عدم دقتها نظراً إلى التفاوت الكبير بين مصدر وآخر.

بحسب تقرير سابق للحكومة اللبنانية، قُدِّر العدد بـ 136 معبراً، فيما تتناقل بعض وسائل الإعلام أنها نحو 16 معبراً أساسياً، لكنّ المؤكد حتى الآن، أن الحدود واسعة وغير مراقَبة بشكل فعّال، وبالتالي أي مساحة فيها يمكن أن تشكّل مَنْفذاً للعبور إلى المقلب الآخَر.

بعد سقوط النظام السوري في 8 كانون الأول/ ديسمبر 2024، استطاع آلاف السوريين العودة إلى الديار، إماً للزيارة أو للاستقرار، بعد زوال الأخطار الأمنية التي كانت تشكلها العودة. إلا أن ما لم يكن في الحسبان هو أن عدداً كبيراً من السوريين الموجودين على الأراضي اللبنانية لا يملكون أوراقاً ثبوتية أو إقامات تسمح لهم بزيارة سوريا ثم العودة إلى لبنان. وإذ لم يكن بمقدور كثيرين العيش في الوقت الحالي في سوريا بسبب الدمار وغياب الخدمات وفرص العمل، لم يكن أمام هؤلاء سوى سلوك طريق التهريب للذهاب إلى سوريا وتفقّد الديار والعودة بعدها إلى لبنان.

ووفق مراقبتنا، فإن عمليات التهريب المستمرة لا سيما على الحدود الشمالية أي في عكار ووادي خالد بشكل أساسي، تُنفَّذ إما عبر دراجات نارية، أو مشياً على الأقدام، بخاصة أن المسافة من شمال لبنان إلى سوريا لا تتجاوز الساعتين.

التكلفة و”البقشيش”

يعمل أبو عامر في التهريب منذ سنوات طويلة، يروي لنا بأريحية كبيرة تفاصيل عمله مغرياً إيانا بالتعامل معه ومقدّماً التسهيلات وأفضل الأسعار.

يقول: “كلفة الذهاب إلى سوريا من عكار إلى حمص تبلغ 40 دولاراً، هذا في حال كان لدى الشخص ملف “أمم” (مسجل لدى المفوضية السامية لشؤون اللاجئين) وهوية تعرف عنه، أما في حال لم يكن الشخص يملك أياً من هاتين الوثيقتين، فترتفع التكلفة لتبلغ 70 دولاراً، وفي حال أراد الشخص أن يأخذ معه أغراضاً ومواد غذائية فطبعاً يصبح المبلغ أكبر”.

المبلغ الذي أشار إليه أبو عامر، هو تقريباً ما دفعه أحمد الذي يعيش في شمال لبنان والذي لا يملك إقامة قانونية، وحتى لا يخسر عمله ويُمنع من العودة إلى لبنان، لجأ إلى أحد المهربين ليساعده.

يقول، “طلعنا من المنية على وادي خالد، وفتنا على سوريا عن طريق معبر غير شرعي وأخذوا منا هونيك 50 دولاراً وخلونا نمرق”.

منطقة وادي خالد والتي تحظى بغطاء سياسي، في نشاطها بالتهريب، تحوي بحسب أحد سكان المنطقة، مئات المعابر غير الشرعية، لأن معظم مالكي الأراضي حوّلوا أراضيهم إلى معابر للتهريب، بمن فيهم أحد أقارب مصدرنا.

أما تكلفة العودة من سوريا، فبحسب أبي عامر تبلغ نحو 110 دولارات، وهي تتطلب المشي بعض الوقت في الجبال الوعرة، وهو ما أكده لنا معين، الذي سلك طريق التهريب قبل أسابيع، “تكلفة الذهاب والعودة إلى سوريا عبر مهرب تبلغ 150 دولاراً، وتسير الأمور وفق اتفاق مسبق بين الزبون والمهرب على موعد الرحلة وطريقة الدفع”.

ويضيف معين: “المهرب الذي ذهبت معه طلب مني مبلغاً إضافياً، لأن الطريق كانت آمنة ولم يتعرض لي أحد، وعندما رفضت إعطاءه أي مبلغ إضافي بدأ بالصراخ، فخفت ولم يكن أمامي سوى منحه ما يريد”. 

التهريب عبر الدراجات الناريّة ومشياً على الأقدام

بحسب المعلومات التي استطعنا الحصول عليها، فإن رحلة الذهاب إلى سوريا عبر مهرب بشر، أو في سيارة خاصة عن طريق سلوك معبر غير شرعي، تتراوح تكلفتها ما بين 40 و70 دولاراً، وهو مبلغ مرهق للكثير من السوريين الموجودين في لبنان، لذلك يفضل كثيرون بخاصة سكان منطقة عكار القريبة من سوريا، استقلال دراجاتهم النارية عن طريق المعابر غير الشرعية، مقابل 25 دولاراً، ويُدفع المبلغ نفسه في حال قرروا العبور مشياً على الأقدام، لكن في هذه الحالة سيضطر الشخص إلى أن يسبح في النهر كي يصل إلى الجهة الأخرى، وهو ما رفضه أبو أيهم الرجل السبعيني خلال رحلته لزيارة مدينته حماة بعد سقوط النظام.

“قلتلن ما بمرق بالماي، رح إرجع فحملوني تنين ومرقوني”، ويشير أبو أيهم إلى أن هذه التكلفة قد انخفضت منذ فترة لتصبح راهناً عشرة دولارات فقط، وفق ما أخبره بعض الأصدقاء.

تهريب السلع والمحروقات عبر الشاحنات لا يتوقف

بحسب أحد سكان وادي خالد والذي يطل منزله على أحد المعابر غير الشرعية، فإن مئات الشاحنات المحمّلة بالمواد الغذائية والمحروقات تمر يومياً من هذه المعابر نحو سوريا، وتختلف التكلفة التي تدفعها الشاحنات لصاحب المعبر لكي تمر بحسب المواد المحملة، ويتراوح المبلغ بين 200 و400 دولار.

“عمليات التهريب تكون نشطة أكثر خلال النهار، ففي الليل تكثر الحوادث الأمنية وقطاع الطرق”.

وفي الأسابيع الماضية، وُثِّقت بالفعل عمليات التهريب عبر مقاطع فيديو مصورة، تُبين اصطفاف مئات الشاحنات المحملة بالإسمنت ومواد البناء، متوجهة من حاجز شدرا في وادي خالد إلى الداخل السوري.

وقد نشطت في الآونة الأخيرة عمليات تهريب المحروقات من لبنان إلى سوريا، حيث يباع الليتر في السوق السوداء بـ1.66 دولار، بينما يباع بالسعر الرسمي بـ 1.2 دولار مقارنة مع سعره في لبنان، أي نحو 0.82 دولار.

وفي هذا السياق، سألنا المهرب أبا عامر عن إمكانية اصطحاب عدد من غالونات المازوت “إلى أقاربنا في سوريا”، فقال “بالطبع بس هاي حسابها لحاله”.

للسلاح والممنوعات حصة أيضاً…

تنشط المعابر غير الشرعية في تجارة الأسلحة، وبعد سقوط النظام كانت هذه المعابر أسهل الطرق لدخول عناصر النظام مع أسلحتهم إلى لبنان، والتي بيعت بأسعار بخسة جداً تراوح ثمنها بين الـ 20 إلى 30 دولاراً كحد أقصى.

في هذا السياق، ضبطت مخابرات الجيش اللبناني آلاف قطع الأسلحة التي كانت مهربة من سوريا إلى لبنان، خلال مداهمة في منطقة جبل محسن بطرابلس، وتم توقيف عدد من الأشخاص المتورطين بتجارة الأسلحة المهربة من سوريا بعد سقوط النظام.

من جهة أخرى، كانت وزارة الداخلية السورية، أعلنت أن الإدارة العامة لأمن الحدود ضبطت شحنة من الأسلحة المتجهة إلى حزب الله عبر طرقات التهريب على الحدود.

جاء ذلك بعد أسبوع من إعلان الداخلية أيضاً، إحباط محاولة تهريب أسلحة إلى لبنان، إذ قالت يوم الجمعة (17 كانون الثاني/ يناير الماضي)، إن مديرية الأمن العام في طرطوس منعت عملية تهريب أسلحة وصواريخ كانت متوّجهة إلى لبنان.

يعني ذلك أن تهريب الأسلحة بين لبنان وسوريا ما زال مستمراً أسوة بعمليات التهريب الأخرى.

كان ذلك قبل أن تبدأ الاشتباكات في الأيام الأخيرة، علماً أن مساعي التهدئة تسير بمحاذاة استمرار التوتر، ودخول الجيش اللبناني على الخط مرسلاً تعزيزات أمنية إلى الحدود. وكان الرئيس اللبناني جوزيف عون أكد مع نظيره السوري ضرورة التنسيق وحماية المدنيين.

التهريب بين لبنان وسوريا لن يتوقف…

يؤكد رامي عبد الرحمن مدير المرصد السوري لحقوق الإنسان، لـ”درج” أن عمليات التهريب بقيت نشطة حتى بعد سقوط النظام، فالمهربون لا يزالون يعملون على جانبي الحدود اللبنانية – السورية، سواء لتهريب البشر، السلع، أو الممنوعات.

ويرى عبد الرحمن أن ضبط الحدود بشكل كامل هو أمر غير ممكن ومستحيل، بخاصة أن المهربين في كثير من الأحيان يتواطأون مع الأشخاص الموكلة إليهم حماية الحدود، إذ يدفعون إليهم أموالاً طائلة مقابل تغاضيهم عما يحصل. يقول: “هذه العمليات ستستمر إلى ما لا نهاية”.

ويشير عبد الرحمن الى أن تجارة السلاح بين البلدين تكون لصالح تجار السلاح، وكذلك الأمر بالنسبة الى تجارة المخدرات.

أما عن إمكانية أن تكون الإدارة الجديدة تحمي المهربين، فيقول عبد الرحمن إنه لا يستطيع تأكيد ذلك، لكن وفق ما أشار ربما هناك أفراد من الإدارة يتعاملون مع المهربين.

وفي هذا السياق كانت الإدارة الجديدة في سوريا أعلن يوم الثلاثاء 4 شباط/ فبراير أنها ستقوم بإغلاق جميع المعابر الغير شرعية مع لبنان.

في هذا السياق، تستمر الاشتباكات على الحدود بقاعاً، وقد تعرّضت بلدات في محافظة الهرمل الحدودية مع سوريا في أقصى شمال شرقي لبنان، لإطلاق نار من الجانب السوري.

عشيرة “آل جعفر” كانت أصدرت بياناً حول آخر التطورات، أكدت فيه على العلاقات الأخوية بين الشعبين اللبناني والسوري، مشددة على أنها سحبت عائلاتها من منازلها تاركين للدولة والجيش أمر معالجة الأمور. وهي خطوة لا بد من التوقف عندها، لما لآل جعفر من مكانة على خط المعابر غير الشرعية من جهة، وارتباطه بحزب الله من جهة أخرى.

درج

——————————–

العلاقة الشائكة بين سوريا والعراق.. الطائفية والميليشيات وأمل المصالحة/ عدي محمد الضاهر

2025.02.11

اتسمت العلاقة بين سوريا والعراق بأنها من أكثر العلاقات تعقيداً في الشرق الأوسط، وذلك للتداخل الجغرافي التاريخي والاجتماعي، فقد شهدت العلاقة مراحل من التعاون وأخرى من الصراع وتأثرت بتحولات سياسيّة رسمت طرق وعرة للعلاقات وكأنها حقل ألغام يتطلب متمرساً كي يتخطاه.

كان للصراع بين قيادات حزب البعث في كل من سوريا إبان حقبة حافظ الأسد وفي العراق خلال فترة حكم صدام حسين أثر كبيراً أسهم في توسيع الشرخ السياسي الذي تعمّق إلى شرخ طائفي شعبي بصورة واضحة بعد انطلاق الثورة السورية العظيمة، فقد دخلت العلاقة في مرحلة جديدة اتسمت بالتوتر على الصعيد الشعبي أيضاً نتيجة لتدخل الميليشيات الطائفية العراقية في سوريا لدعم نظام بشار الأسد الديكتاتوري، وهذا ما دفع العداوة أن تمتد إلى شعبي البلدين بدوافع طائفية بالية أضرت في العلاقات الثنائية على كل الأصعدة.

الخلفية التاريخية

لم تكن العلاقات بين سوريا والعراق مربوطة في السياسة والاقتصاد فقط، فقد تشارك الشعبان الأرض والماء منذ الأزل، فقد ارتبطت الدولتان بروابط سياسية وثقافية واقتصادية وجغرافية بعد الاستقلال عن الاستعمار، وربطت البلاد علاقات ودية لفترات طويلة بدأت بالتآكل مع بلوغ حزب البعث السلطة في كلا البلدين.

ظهر تنافس بين النظامين رغم تبنيهما أيديولوجية واحدة إلى حد ما، مما أسهم في تأجيج الخلافات ولكن سقوط نظام صدام حسين، عام 2003، غيّر المشهد في العراق، وأصبحت إيران لاعباً رئيسياً في السياسة العراقية.

في الوقت ذاته، بقيت الجمهورية العربية السورية في قبضة بشار الأسد الأوليغارشية حليف إيران حتى اندلاع الثورة السورية عام 2011، هذه التطورات أثرت بشكل كبير على العلاقات بين البلدين وزادت من تعقيدها.

الثورة السورية والميليشيات العراقية

مع انطلاق الثورة السورية، اتخذت إيران موقفاً بصفتها داعماً أساسياً للنظام السوري، مما دفع الحكومة العراقية بدورها الحليف الأقوى لإيران للتدخل في الصراع السوري لصالح نظام الأسد أيضاً.

هذا التدخل كان سياسياً عبر التصريحات السياسية والدعم الحكومي الأمني واللوجستي وعسكرياً عبر الميليشيات التي شملت كتائب عدة مثل “حزب الله” و”عصائب أهل الحق” و”منظمة بدر” و”حركة النجباء” وغيرها، التي عملت بشكل مباشر ضمن صفوف الحرس الثوري الإيراني، ورفعت شعارات دينية مثل “الدفاع عن المقدسات”، لكنها في الواقع عملت على تنفيذ أجندات سياسية تهدف إلى دعم الهيمنة الإيرانية في سوريا لصالح نظام الأسد على حساب مصلحة الشعب السوري مثل:

    المشاركة في معارك  ضد فصائل الثورة السورية: كان  للميليشيات العراقية دوراً رئيسياً في معارك مثل معركة القصير والغوطة الشرقية، حيث ساعدت النظام السوري في استعادة السيطرة على مناطق استراتيجية عديدة.

    التهجير القسري للشعب السوري: شاركت الميليشيات في عمليات تهجير للسكان، خصوصاً في المناطق ذات الأغلبية السنية، مما أسهم في تعميق الانقسام الطائفي ضمن كثير من المناطق السورية.

    تعزيز النفوذ الإيراني: حيث استخدمت الميليشيات وجودها في سوريا لتحقيق مصالح إيرانية مثل ضمان استمرار الممر البري الذي يصل طهران بدمشق وبيروت.

الآثار السلبية للتدخل الطائفي

أدى تدخل الميليشيات العراقية إلى تعميق الانقسام الطائفي بين السنة والشيعة في سوريا والعراق وحتى بين مدن عديدة في الداخل العراقي والسوري، فقد كان يسهم هذا التدخل في إعادة تموضع القوى والمعارك وفقاً لمزاج طائفي بحت، ما أدّى بدوره إلى زعزعة الاستقرار الإقليمي وأسهم في إطالة أمد معاناة السوريين وإلى انتشار الإرهاب بصور جديدة وسمح بتعميق الأزمات الإنسانية وزيادة في توتر العلاقة بين الشعبين، فقد شعر السوريون بأن الميليشيات الطائفية العراقية شريك في القمع الذي تعرضوا له.

أشقاء وفق ضوابط  والتزامات

على الرغم من هذه الصعوبات التي عصفت بكلا البلدين يبقى هناك آمال كبيرة في تجاوز هذه المرحلة السوداء من تاريخ البلدين بأنّ الشعبين السوري والعراقي يتشاركان تاريخاً طويلاً من الروابط الثقافية والاجتماعية، كما يواجهان تحديات مشتركة تتطلب تعاوناً لبناء مستقبل أفضل ولكن وفق شروط وضوابط عملية مثل:

    احترام السيادة الوطنية: فمن الضروري أن تحترم كل دولة سيادة الأخرى وألا تتدخل في شؤونها الداخلية، تدخل الميليشيات أو الحكومات في الشؤون الداخلية يقوض فرص السلام ويزيد من حدة الصراعات والأزمات.

    نبذ الطائفية: يجب أن يدرك الشعبان أن الطائفية ليست سوى أداة تستخدمها القوى الخارجية لتفريقهم.. تاريخياً، عاش السنة والشيعة معاً في العراق وسوريا بسلام، ويجب أن يستعيدوا هذا التعايش من دون الغوص في أمور تاريخية لم يكن لأي من الشعبين دور بها.

    تعزيز العلاقات الشعبية: العلاقات بين الشعبين السوري والعراقي يجب أن تُبنى على الاحترام المتبادل والتعاون، ويمكن تحقيق ذلك من خلال مبادرات ثقافية وتعليمية واجتماعية تعزز من قيم الوحدة والتفاهم.

    رفض الأجندات الخارجية: من المهم أن يدرك السوريون والعراقيون أن التدخلات الأجنبية، سواء من إيران أو غيرها، تستهدف استغلال بلدانهم لتحقيق مصالح خاصة، ويجب أن تكون الأولوية لمصالح الشعبين .

 بناء الثقة وفق خطوات مهمة

يجب أن تبدأ الحكومتان السورية والعراقية بحوار صادق يهدف إلى معالجة القضايا العالقة بينهما، يمكن أن يشمل هذا الحوار اتفاقيات لضبط الحدود ومنع تسلل العناصر المسلحة، ويمكن أن تلعب المنظمات المدنية دوراً مهماً في تعزيز المصالحة بين المجتمعات المتضررة من التدخلات الطائفية، وأن التعاون في مشروعات تنموية مشتركة يمكن أن يساعد في إعادة بناء الثقة بين البلدين.

يمكن أن تشمل هذه المشاريع تطوير البنية التحتية والتجارة والزراعة من دون أن نغفل عن دور الإعلام، فيجب أن يتحلى الإعلام في البلدين بالمسؤولية ويعمل على تعزيز الخطاب الوحدوي بدلاً من نشر الكراهية والتحريض الطائفي.

المستقبل

رغم كل التحديات التي مرت بها العلاقة بين سوريا والعراق، يبقى الأمل موجوداً في بناء مستقبل مشترك.. الشعبان السوري والعراقي أشقاء، ولا يمكن أن تمحو الطائفية والأجندات الخارجية الروابط التاريخية والثقافية التي تجمعهما.

يجب أن يدرك الجميع أن الاستقرار في أحد البلدين ينعكس إيجاباً على الآخر، وأن التعاون هو السبيل الوحيد للتغلب على الأزمات التي تعصف بالمنطقة.

ختاماً، العلاقة بين سوريا والعراق مرت بفترات صعبة، خاصة بعد انطلاقة الثورة السورية العظيمة ودخول الميليشيات الطائفية العراقية على خط الصراع، لكن الأمل في المصالحة يبقى ممكناً إذا ما اختار الشعبان طريق الوحدة والاحترام المتبادل على النعرات الطائفية التي لا تولد سوى الحروب والخراب ويجب أن تكون الأولوية لإعادة بناء جسور الثقة والتعاون بين البلدين بعيداً عن الأجندات الطائفية والخارجية، وإنّ تحقيق السلام والاستقرار في سوريا والعراق ليس فقط مصلحة للبلدين، بل هو أيضاً عامل أساسي لاستقرار المنطقة بأكملها.

تلفزيون سوريا

——————————-

الإعلام السوري يستأنف تكميم الأفواه/ راشد عيسى

تحديث 11 شباط 2025

أصدرت وزارة الإعلام السورية تعميماً يطالب وسائل الإعلام في سوريا بـ «ضرورة الامتناع عن إجراء مقابلات أو نشر تصريحات منسوبة لشخصيات ورموز مرتبطة بالنظام السابق، التزامًا بالتوجيهات الوطنية لحفظ المصلحة العامة ووحدة الصف»، مُحذرةً من أن «أي مخالفة ستُخضِع القناة والجهة للمساءلة القانونية الفورية.» آملة التعاون والالتزام «بأخلاق المهنة وعدم الترويج للمجرمين والمتورطين بدم شعبنا ومعاناته».

وعلى ما يبدو، فإن التعميم جاء في ضوء مقابلة تلفزيونية مع وزير داخلية النظام السابق محمد الشعار على قناة تلفزيونية، من داخل مقر للسلطات السورية بعد تسليم نفسه للسلطات الجديدة.

كان مثيراً للاشمئزاز بالفعل أن يظهر أحد أقطاب النظام، الذي خدم المافيا الأسدية في أكثر المواقع حساسية، وبراءة الأطفال في عينيه، لكن يا وزارة الإعلام، هل تظنون أن الشعب، بما فيه أولئك الذين كانوا مع النظام حتى اللحظة الأخيرة، من السذاجة بحيث ينطلي عليهم هذا الإنكار! لكن المشكلة ليست هنا تماماً، بل في محاوريه، الذين اكتفوا بتركه يتكلم، من دون سجال أو دحض لما يقول، وما أسهل ذلك لو أرادوا.

بلا معايير واضحة

لكن تعميم الوزارة لم يقتصر على مشتبه فيه قيد التحقيق، بل تعدّاه لمنع كل «شخصيات ورموز النظام السابق»، والتعميم لا يعني المجرمين المدانين قانونياً، وأساساً لم يلحق القضاء السوري الجديد أن يحاكِم ويدين، وحين ذاك ستكون لهؤلاء قواعد أخرى، واضح أن التعميم يتحدث عن شريحة واسعة من مناصري النظام، قد تبدأ بجميل الحسن، رئيس فرع المخابرات الجوية سيىء الصيت، ولا تنتهي بنائب في برلمان النظام، أو ممثل تلفزيوني، وعلى هذا المنوال، قد يطال المنع آلاف الناس، وستكون القواعد مطاطة، بلا حدود ولا ضوابط، إذ يصعب أن يكون هناك فصل كامل بين المجرم والمتورط وغير المتورط.

إن كان المرء مجرماً فمكانه أروقة المحاكم والسجون، وبالتالي سيتعاطى الإعلام معه وفقاً لذلك، أما إذا كان طليقاً، من دون اتهام رسمي، فليس لأحد أن يحرم الإعلام من حق الوصول إليه، وإذا كانت النتيجة الإعلامية شكلاً من التبييض فحينها سيكون الإعلامي ووسيلته هما المسؤولان. وإذا عدنا لمقابلة الشعار فإن المسؤولية مهنية، إذ إن محاوره تركه من دون تدخّل أو محاججة.

ومع ذلك، هل كنا نتوقع أن يعترف الشعار، ومنذ إطلالته الأولى، حتى قبل بدء تحقيق جديّ، بأنه مجرم! من البديهي أن ينكر، ويدّعي ما ادّعاه، وسيأتي يوم، حين تكون الحقائق دامغة، يزعم فيه أنه مجرد عبد مأمور. ما من مجرم في العالم، وعلى رأسهم المخلوع بشار الأسد، إلا وسيتكئ على نظرية محبوكة لتبرير جريمته.

هذا المنع ليس من حق وزارة الإعلام، فهو يتعارض أولاً بوضوح مع مبدأ حرية الصحافة، وأساساً ليست مهمة وزارة الإعلام المنع والسماح وفرض قيود على المحتوى، فصلاحيات وزارة الإعلام تنحصر بتنظيم قطاع الإعلام، ولذلك نجد من يطالب بإلغاء وزارة الإعلام من أساسها، كما في دول كبرى.

هناك مخاطر بالفعل أن ظهور تلك الشخصيات قد يسهم في تشويه الحقائق التاريخية، أو محاولة تبييض الجرائم، والتأثير على توثيق الانتهاكات، إلى جانب إيذاء مشاعر الضحايا وعائلاتهم، وإثارة الانقسامات المجتمعية، أو تعميم خطاب الكراهية، فإن كان هناك ما يستحق العقوبة، فالوجهة هي القضاء، أو أن المواجهة المهنية والتوثيق الدقيق والمحاججة هي الحل.

توثيق الرواية

التحدث إلى شخصيات مرتبطة بالنظام السوري في هذه الأيام جزء هام جداً من التوثيق، لا يقل أهمية عن الشهادات التي وثقت من جانب الضحايا. هي النصف الآخر للحكاية، وفي كل مقابلة من المقابلات التي شاهدنا في الشهرين الماضيين كان هناك حقاً ما يملأ فراغاً ما في الصورة التي عرفناها عبر سنوات طويلة، ولا شك أن عدداً كبيراً من السوريين، وغير السوريين، لا يعرفها، ولا أحد بإمكانه إنكار أن بعض الشهادات من جانب مناصري النظام، أو موظفيه الأساسيين، قد يكون أكثر إقناعاً لبطانة النظام الباقية، لنتخيل مثلاً شهادة حيدرة سليمان، نجل رجل المخابرات السوري بهجت سليمان، الذي اعتُبر (الأب) عراباً لبشار الأسد، وهو يتهم بشار بقتل والده، أو يعترف بمساهمته بتأسيس «الجيش الإلكتروني السوري» الذي أنشئ لشيطنة الضحايا ورواياتهم، لنتخيل أثرها وأهميتها كوثيقة.

صحيح أننا أحياناً ندفع الثمن بالمشاهدة والاستماع إلى الشخصيات الأكثر إجراماً في العالم، كما نضطر أحياناً إلى تحمّل غلظة وثقل دم فطريين عندهم، لكن هناك تفاصيل يصعب معرفتها من دونهم. نتذكر مقابلة مدير المكتب الإعلامي لبشار حتى اللحظات الأخيرة وهو يروي ساعات ما قبل الهروب، وبعض انطباعاته عن بشار، في حلقة شوهدت أكثر من مليونين ونصف مشاهدة، ما يؤكد تعطّش الجمهور لمعرفة ما يدور على ضفة المجرمين تلك.

ثم إن هناك شخصيات أثارت جدلاً إثر ظهورها في مقابلات، وعلى سبيل المثال هذا جهاد مقدسي، المتحدث باسم خارجية النظام قبل أن يستقيل ويتحول إلى المعارضة، ليغادرها أيضاً ملتفتاً إلى شؤونه الخاصة، يثير جدلاً بتصريحات اعتبرها البعض تبييضاً لصورته، مع أنها شهادة استثنائية (اعتبِرْها اعترافاً منه) على الكيفية التي كان يلفق فيها النظام بياناته ومؤتمراته الصحفية، عند حديثه كيف خرج لدحض الاتهام بارتكاب مجزرة الحولة.

ومفلح الزعبي، نجل رئيس وزراء النظام الأسبق محمود الزعبي، أين سيحسب؟ ألن تكون مفيدة روايته لقتل والده على يد بشار، وإعلانه للناس منتحراً؟

بيئة اقتصادية آمنة

هناك مثال ساطع آخر، كيف ينظر الإعلام السوري إلى بشار الجعفري، السفير السوري المستمر من عهد النظام المخلوع في موسكو؟ هل هناك شك بأن الرجل كان أحد صقور نظام الأسد؟ كيف ينبغي للإعلام السوري التعامل مع تصريحاته؟ بل إن وزارة الإعلام نفسها قد تضطر لنقل تصريحات له.

ثورة السوريين قامت من أجل الحرية أولاً، فهل أقل من تكريس حرية التعبير والإعلام وحمايتها بمواثيق وقوانين ومواد دستورية؟

لقد ظل أحد المدافعين عن تعميم وزارة الإعلام يكرر، في حوار تلفزيوني، جملة واحدة حول أن الدافع وراء ذلك التعميم عدم إيذاء شعور الضحايا، فيما الضحايا أنفسهم يشاهدونها بالملايين.

مشكلة حقاً أن نبدأ من الصفر، أن نبدأ من شرح معنى أن يكون الإعلام وحرية القول بلا قيود، في وقت يجب إرساء، إلى حد المبالغة ربما، وبالذات بسبب قهر وقمع ستين عاماً، قوانين تكفل الحريات قبل أي شيء.

في واحدة من مقابلاته، تحدث الرئيس السوري الانتقالي أحمد الشرع عن إطلاق قضاء عادل ونزيه للمساهمة في بيئة اقتصادية آمنة، فهل يمكن الحديث عن هذه البيئة الآمنة من دون إعلام حر، من دون صحافة، سلطة رابعة تسند القضاء والسلطة التنفيذية في مهماتها؟

القدس العربي

——————————-

===================

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى