الناسسقوط بشار الأسد، الرئيس الفار والمخلوع

لا طريق إلى المنزل!: الألغام والدمار يعيقان عودة سكان ريف اللاذقية من المخيمات/ جهان حاج بكري

11-02-2025

        «بتمنى أرجع على الضيعة اليوم قبل بكرا، بس شايفة الوضع بيخوّف كتير. والله عيشة المخيم ما هي عيشة بس ما في حل، قلبي عم يحترق وقت العالم ترجع ع ضِيَعا ونحنا ما عم نحسن، بس بتفْرَج انشالله». غادرت مريم اسماعيل قريتها عرافيت في ريف اللاذقية الشمالي منذ عشر سنوات، وسكنت في أحد مخيمات ريف إدلب الغربي. على الرغم من سقوط النظام، لا تستطيع مريم العودة إلى قريتها المزروعة بالألغام، وحالها في ذلك حال كثيرين.

        بلغ عدد ضحايا الألغام في ريف اللاذقية الشمالي، منذ سقوط النظام السابق وحتى الآن، أكثر من عشرين شخصاً بين قتيل ومصاب، ويشكّل هذا الوضع عائقاً حقيقياً أمام عودة الأسر من مخيمات النزوح في ريف إدلب الغربي، التي يقيمون فيها منذ عام 2015؛ عقب نجاح قوات النظام بالسيطرة على قرى ريف اللاذقية الشمالي وتهجير سكانها بدعم من القوات الجوية الروسية، إضافة إلى الدمار الكبير فيها، إذ كانت على خط الاشتباك بين النظام وفصائل المعارضة على مدار السنوات الماضية، وبقيت خالية من السكان كل تلك السنوات، متحولة إلى مساحة مهجورة وموْحشة، وغير قابلة للسكن.

        على الرغم من خضوعها لسيطرة النظام سنوات طويلة، لم يُسمَح لمن نزح من سكانها نحو مناطق سيطرته بالعودة إليها وإعادة إحياء الحياة فيها، لذلك وصلت إلى هذا الحال الذي ساهمت فيه طبيعتها الجغرافية كمناطق جبلية وَعِرة، مما كان عاملاً معيقاً لإزالة الألغام وإعادة الإعمار على نحوٍ سريع. تشكل كل هذه عوامل قلق متزايد لدى سكّانها، وتُنذِر بخطر بقائهم لسنواتٍ قادمة ضمن المخيمات، ومنهم من جَرَّبَ العودة لتفقُّد الأوضاع في مناطقه، خصوصاً أنَّهم يعتمدون في معيشتهم على العمل الزراعي في المرتبة الأولى، وقد باتت الأراضي نفسها مصدر خطر على حياتهم.

        ريف اللاذقية الشمالي في الثورة

        انضمّت قرى وبلدات ريف اللاذقية الشمالي إلى الحراك الثوري مع بدايته في العام 2011، وشارك سكانها في المظاهرات السلمية في كل يوم جمعة، لتتحول بعدها إلى مكان يحتمي به المنشقون عن النظام والشبّان الفارّون من قبضته من مناطق الساحل السوري.

        يروي المقدَّم محمد حمادو المنشق عن النظام، وهو قيادي سابق في الجيش الحر ومؤسس لأوائل تشكيلاته في ريف اللاذقية، تفاصيلَ حول البدايات مع تشكيل تجمع أحرار الساحل الذي كان يقوده، وكيف أدّى اقتحام قوات النظام للأحياء الثائرة في اللاذقية، وتحديداً حي الرمل الجنوبي، إلى انسحاب الثوار منه: «تَوجّه قسمٌ منهم نحو تركيا وقسمٌ إلى مناطق الريف، تزامناً مع هذا الوضع كان قد تم الإعلان عن تشكيل الجيش السوري الحر. ولأن معظم هؤلاء الشباب لديهم أهل وأقارب في قرى الريف في جَبَلي الأكراد والتركمان، وبسبب انحيازهم لصف الثورة، وبسبب طبيعة المنطقة الجغرافية التي تساعد على العمل العسكري حيث الجبال والوديان، فقد بدأ في آواخر عام 2011 تشكيل الكتائب المسلحة فيها لحماية الأهالي هناك من بطش النظام».

        بعد هذه المرحلة، بحسب حمادو، بدأ النظام بمحاولة اقتحام هذه القرى والتضييق على الناس فيها، وشنّ حملات اعتقال وبرزت ضرورة القيام بعملٍ عسكري هجومي، لتوسيع نطاق حركة الكتائب وتأمين المدنيين، ومن هنا بدأت سلسلة تحرير بلدات سلمى وربيعة ومناطق محاذية للريف جغرافياً في ريف إدلب وصولاً إلى الزعينية عام 2012. ونتيجة فشل النظام في اقتحامها، مع صمود المقاتلين فيها وسيطرتهم على المرتفعات والتلال، لجأ النظام إلى أساليب القصف بالراجمات والبراميل المتفجرة والغارات اليومية للطيران الحربي، وانتقم من المدنيين أشد انتقام وتسبَّبَ بوقوع عدد كبير من الشهداء والجرحى، ونزوح عدد آخر، وارتكب عدّة مجازر خلال هذه السنوات.

        «نجح النظام في السيطرة على المناطق وتهجير سكانها بشكل كامل عام 2015، عقب التدخل الروسي وإقصاء الجيش الحر وتدويل المسألة السورية»، يُكمل حمادو: «حصلت حينها الانسحابات، وبعدها عُقدت اتفاقيات أستانا وسوتشي وخطط خفض التصعيد، وبقي وضع هذه المناطق على حاله عسكرياً حتى انطلاق عملية رد العدوان عام 2024، والتي أعقبها سقط النظام السوري الذي أوغل في تدمير مناطقنا مُخلِّفاً مئات الألاف من الألغام والمساحات المدمرة كلياً، ومهجِّراً كلَّ سكان القرى. وبعد انتصار الثورة، من حق الأهالي الذين شُرِّدوا وفقدوا أبناءهم أن يُجبَر ضررهم وأن يتم تعويضهم».

        التهديد الصامت، ألغام برية مزروعة في الأرض

        هناك أسباب كثيرة وراء انتشار الألغام في قرى ريف اللاذقية بهذه الكثافة والخطورة، كما أن لها أنواعاً مختلفة تستوجب التعامل معها بحسب نوعها، وبحسب اختصاصات فرق إزالة الألغام.

        تقول مريم: «زُرت قريتي مرة واحدة بعد التحرير، شعرتُ بخوفٍ شديد، لا يوجد حجر على حجر، كما أنّها موحشة للغاية. انفجر أحد الألغام بالقرب منا أثناء ركوبنا الدراجة النارية في هذه الزيارة، كذلك تعرَّضت القرية لأعمال انتقامية كقطع الشجر وحرقه في الأراضي الزراعية. لا أريدُ الذهاب مجدداً حتى يعود الأمان إليها، لقد تحملنا كل هذه السنوات ضمن الخيم بسبب الخوف، ولدي أمل بما أن المشكلة الأكبر قد حُلّت، وهي وجود النظام السابق، فإنه سيتم حل كل المسائل الأخرى».

        يوضح يحيى بريمو، وهو قائد عسكري سابق في ريف اللاذقية وقائد لواء حالي ضمن الفرقة 77،  تفاصيلَ عسكرية عن وضع الألغام: «استخدامها أمرٌ شائعٌ في الحروب، وخصوصاً في الجبال، لأن الغطاء الجبلي كثيف والأراضي وَعِرة مما يسهل إخفاءها، وتساعدُ خاصية الغطاء الحراجي بشكل كبير على تأمين طرق للاقتراب من قوات العدو بشكل آمن، مما يعطي الألغام أهمية إضافية، إذ من الممكن زرعها في أقرب نقطة عند قوات العدو دون أن يشعروا بذلك، وهو أمر يتم بين القوات المسلحة المتنازعة في الحروب لحماية نفسها، وبغية نزع زمام المبادرة من الطرف الآخر».

        يضيفُ أنَّ النظام اعتمد عليها في مناطقنا بشكل خاص بسبب العمليات النوعية المتكررة التي نجحت فصائل المعارضة بتنفيذها في ريف اللاذقية، حيث كانت تتسلل إلى محارس النظام وتقوم بقتل العناصر، لا سيّما خلال الخمس سنوات الأخيرة، ما استنزفه على هذه الجبهة وتسبب بنقص كوادره. ومع انخفاض الدعم البشري واستنزاف طاقته في هذا الصدد، عَمِد إلى تكثيف زراعة الألغام بشكل مبالغ فيه. وبعد خضوع المنطقة لاتفاقات خفض التصعيد، عمل النظام على زراعة حقول ألغام كبيرة: «تكمن خطورتها في أنها غير محددة بعلامات، ومجهولة ومخالفة لما تَنصُّ عليه الاتفاقيات الدولية لزرع ونزع الألغام من قبل أطراف النزاع، بقصد إزالتها والتخلُّص منها بشكل آمن، من خلال الإخبار عن مكانها ووجود خرائط تدل عليها».

        أضاف بريمو أنَّ الدمار فيها كثيفٌ أيضاً كونها كانت خط الدفاع الأول عن مناطق الساحل حيث مناطق سيطرة النظام التامة التي فيها غالبية مؤيدة له، وكونها محاذية لإدلب معقل فصائل الثورة والمعارضة، ما دفع النظام للاستماتة في قصفها بجميع أنواع الأسلحة. وقد أُجبِرت الفصائل أمام هذا القصف على استخدام المباني لحماية نفسها، وهذا تسبَّب بتكثيف القصف عليها، لنصل في النهاية إلى الوضع الراهن الذي يحتاج سنوات من العمل للتخلُّص من الدمار وإعادة الإعمار وعودة العائلات.

        شرح كذلك عن دور العسكريين في المرحلة القادمة في عملية إزالة الألغام، فهم يملكون ضُباطاً وفرقاً هندسية مختصّة في هذا العمل، أي في الزرع والإزالة، سواء كانت ألغاماً فردية أو حتى مضادة للدروع على حد سواء، لكنهم يواجهون مشكلة حقيقة في تحديد أماكنها مع عدم تواجد خرائط، وتَفكُّك الجيش السوري السابق والفرق الهندسية فيه. كلّ ذلك أدى إلى عدم وجود مرجعية وجهة مسؤولة يمكن التنسيق معها، مُنوِّهاً أنهم يعملون أيضاً بالتنسيق مع فرق الدفاع المدني السوري في هذا السياق.

        مساعي تطويق المشكلة

        تسعى عدة جهات رسمية ومنظمات للمساعدة على تحسين الوضع، وتأمين بعض الحلول السريعة لمساعدة الأهالي على زيارة قراهم على الأقل بين الحين والآخر، ريثما يتم تحقيق العودة بشكل نهائي.

        في هذا السياق تمنَّت مريم أن يتم التركيز على الوضع الأمني في البداية والمساعدة في إعادة إعمار المنازل، فضلاً عن استمرار تقديم الدعم لهم ضمن المخيمات ريثما يعودون إلى حياتهم السابقة وإلى أعمالهم، وينجحون في تأمين مصادر دخل جيدة، مؤكدة أنهم حالياً يعانون جرّاء ترك معظم المنظمات لعملها ضمن المخيمات والانتقال نحو المدن الكبيرة التي تحررت حديثاً، شارحة أن مشروع المياه توقف عنهم أيضاً وأصبحوا أمام تحدٍ حقيقي بهذا الخصوص. وعند سؤالنا عن الجهود الرسمية للإدارة الجديدة، قالت إنها سمعت أن المحافظ قد زار كل من بلدتَي سلمى وربيعة، والتقى عدداً من الأهالي هناك، لكنها لم تسمع أنه وصل إلى المخيمات.

        في هذا السياق، وحول جهود الدفاع المدني، أوضح حسام ظليطو، وهو قائد ميداني في الدفاع المدني السوري في ريف اللاذقية، أنّ مناطق الريف التي تحررت عقب سقوط النظام غير صالحة للسكن لأسباب كثيرة أبرزها الدمار، وغياب الخدمات الأساسية ومقومات الحياة والبنية التحتية، وغياب المرافق العامة. ومع انتشار الألغام، وفي ظلِّ هذا الوضع الصعب، تقوم فرق الدفاع المدني بالسعي لإعادة الحياة نوعاً ما إليها، من خلال فتح الطرقات وإزالة السواتر الترابية، ووضع إشارات تحذيرية حول مخلفات الحرب والمناطق الخطرة.

        أضاف أنهم يسعون أيضاً إلى مساعدة الأهالي بكل الوسائل المتاحة بين أيديهم: «الهدف الأساسي هو عودتهم إلى قراهم وبلداتهم التي تهجّروا منها عقب القصف والمجازر التي ارتكبها النظام»، مُنوِّهاً إلى أن المنزل الذي لم يتضرر بفعل القصف بشكل كامل تعرض للهدم بهدف سرقة الحديد منه من قبل عناصر النظام، مضيفاً أنهم أطلقوا حملة تحت عنوان أمل العائدين بهدف المساعدة في عودة النازحين من المخيمات إلى قراهم، شارحاً أنّ الظروف تختلف من منطقة إلى أخرى، لكن مناطق ريف اللاذقية تعاني بشكل إضافي بسبب الألغام التي زرعها النظام في كل مكان، في الغابات والأراضي الزراعية وحول المنازل، وهي تشكل خطراً حقيقياً على السكان.

        توجهنا للحديث مع محافظ مدينة اللاذقية محمد عثمان وسؤاله عن خطط الإدارة الجديدة لحلّ هذا الوضع، ومساعدة أهالي قرى وبلدات الريف الشمالي. أوضح عثمان لموقع الجمهورية.نت أنّ البداية تضمنت جولةً على القرى المنكوبة في جبل التركمان وجبل الأكراد: «تفقدنا من خلاها أوضاع المنطقة، وعقدنا لقاءات مع بعض الأهالي في القرى. بعدها تم استكمال الزيارة إلى المخيمات الحدودية التي يقطنها أهالي الريف». وتابع أنهم يسعون في المرحلة الأولى إلى تفكيك جميع الألغام التي زرعها النظام السابق في الأراضي الزراعية ومنازل الأهالي: «وضعنا خطة إعادة إعمار مناطق التماس بين النظام البائد وخطوط الجبهات بعد رفع العقوبات عن سوريا، كذلك قمنا بالترتيب مع وزارة الدفاع من أجل إزالة الألغام عبر الفرق الهندسية ووضعنا ذلك في أولوياتنا».

        تابع عثمان أنه وبسبب اعتماد الناس على الزراعة كمصدر دخل رئيسي، ولأن هذا القطاع تضرَّرَ بشكل كبير خلال هذه السنوات، «زار السيد وزير الزراعة والريّ، د.محمد طه الأحمد، محافظة اللاذقية وقام بعدة جولات على الوحدات الزراعية ومديرية الزراعة، وتفقَّدَ أحوال المزارعين والزراعات الموجودة في المحافظة وسبل تطويرها، كما قمتُ برفقة السيد وزير الزراعة بافتتاح محطة ري ‘ديفة’ في ريف اللاذقية».

        أضاف أنَّهم عملوا على إحياء البنية التحتية والواقع الخدمي منذ بداية التحرير حتى اللحظة، تجهيزاً لتكون بوابة لدخول الاستثمارات، وأنه عَقَد عدة جلسات مع الصناعيين والتجار لدعم عمليات الاستثمار في المنطقة، والتركيز على السياحة والزراعة وتقديم التسهيلات للتجار لدعم المنتج المحلي وفرص العمل وإعادة الثقة للمنتج السوري.

        بخصوص وضع الأهالي في المخيمات، تحدّثَ المحافظ عن وجود تركيز واضح من وزارة التنمية والشؤون الاجتماعية على بقاء المشاريع السابقة في المخيمات، حتى يتسنّى لوزارة العمل نقل أهالي المخيمات إلى بيوت آمنة تحفظ كرامتهم، أو إعادتهم إلى قراهم بعد تأمينها، مشيراً إلى أنَّ عودة السكان مرهونة برفع العقوبات، وذلك تذليلاً للصعاب التي تواجه وتعرقل إعادة الإعمار، إضافة إلى العمل على تأمين الاحتياجات والخدمات الأساسية للقرى التي لم تتضرر كثيراً من النظام، ليعيش المواطن بكرامة وأمان، مشيراً إلى تنسيق يجري بين المديريات المختلفة لوضع خطة عمل تضمن إعادة إحياء تلك المناطق عبر تقديم الخدمات لها.

        يُذكَر أنّ عدد القرى والبلدات والمزارع في جبل الأكراد يبلغ 67 قرية، ويُقدَّر عدد السكان بحوالي 150 ألف نسمة، بينما يصل العدد في جبل التركمان إلى 54 بلدة وقرية، ويبلغ كامل عدد سكانه مع منطقة كسب وبرج إسلام حوالي 250 ألف نسمة. أما المناطق التي خرجت عن سيطرة النظام لعدة سنوات في ريف اللاذقية الشمالي، فيبلغُ عدد سكانها 65 ألف نسمة بحسب مصادر من المجلس المحلي السابق، الذي كان يعمل في مناطق ريف اللاذقية الشمالي خلال سنوات خروجها عن سيطرة قوات النظام.

موقع الجمهورية

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى