سوريا “الجديدة”: إعادة النظر في توازنات الشرق الأوسط/ نجيب جورج عوض
![](https://www.alsafahat.net/wp-content/uploads/2025/02/1-9-2_jpg-780x470.jpg)
12.02.2025
السلطة الجديدة في سوريا وصلت بأيسر السيناريوهات وأكثرها سلاسة لتبادل السلطة، يمكن أن يتخيله سيناريو أي فيلم هوليوودي، وهي الآن تطبّق أجندة استلام سلطة محسوبة، المثير في الأمر جيواسترتيجياً هو أن من يرعى الإدارة الانتقالية ورئيسها الحالي اليوم في سوريا، ويقدّم له مظلة حماية، قد يُضحي بها أو يُعدِّل في السلطة يوماً ما، في حال تغيرت لعبة توازن القوى والمصالح
يتّفق كل المراقبين الذين يقرأون المشهد السوري، من زاوية علاقته بالسياق الجيوسياسي في المنطقة، بأن وصول “هيئة تحرير الشام” إلى السلطة في سوريا، وتبوّء رئيسها مؤخراً موقع رئاسة المرحلة الانتقالية، هو تطبيق يبدو مبرمجاً ومحسوباً جداً، لسيناريو مُعَدّ مسبقاً، يُشرف التركي على تنفيذه وإدارته على أرض الواقع.
والقراءة الجيوسياسية تفيدنا بأن وصول هذا الطيف الجهادي، دون سواه من أطياف الثورة والمعارضة السورية، التي عرفناها في السنوات المنصرمة إلى سدة السلطة، جاء بتنسيق إسرائيلي- أميركي- أوروبي، ولتنفيذ مصالح تلك القوى الثلاثة وأجنداتها. أما ما هي مصلحة كل من تلك الأطراف الثلاثة بوصول “هيئة التحرير” وقائدها إلى حكم سوريا، فيمكن النظر فيها تالياً.
موقف اليمين الإسرائيلي
من الواضح أن اليمين الإسرائيلي يريد منذ عقود، أن يكون الحاكم الأول والمدير الفعّال والوحيد لملفات الشرق الأوسط برمّتها. وهو قد نجح مؤخراً في تحقيق هدفه هذا، بإزاحة إيران من ساحة التنافس على تلك الإدارة. العقل الإسرائيلي السياسي يرى أن دور نظام الملالي في إيران قد انتهى، بعد أن حقّق هذا الأخير الهدف الذي تم خلقه في المنطقة لتحقيقه: تشكيل تهديد وجودي على الفضاء السني العربي، ودفع هذا الفضاء للارتماء في الحضن الإسرائيلي، وتفريغ القضية الفلسطينية من تهديدها الوجودي لإسرائيل.
تحقّق هذا الهدف جيوسياسياً في الفترة الأخيرة، وما عاد من ضرورة لوجود إيراني في دول الطوق المحيطة بإسرائيل. كما أن إسرائيل تريد في سوريا بديل سلطة، يحوّل سوريا إلى جمهورية من جمهوريات الموز: غارقة في فوضاها وصراعاتها الداخلية الضيقة، وعُرضة دوماً للتفتّت وخطر التشظّي (دون التقسيم) انطلاقاً من التهاء السوريين بالصراعات، التي يمكن أن تنتج عن انهماكهم بالسؤال حول ماهية الدولة السورية المقبلة وهويتها: جمهورية مركزية رئاسية، جمهورية اتحادية برلمانية، أم فدرالية صريحة؟ ليس أفضل من سلطة جديدة دوغمائية وعسكريتارية كي تحقق هذا الهدف.
الإشراف الأميركي
أما من جهة الأميركي، فهو يريد حتماً أن يطبّق في المشرق، كل ما يُرضي إسرائيل ويخدم أمنها القومي ودورها الإداري للمنطقة برمّتها. كما أن الإدارة الأميركية اليمينية التي تحكم البيت الأبيض، تشجّع حكم اليمين في بقاع الأرض كافة، لأنه سيكون حليفها وخادمها الأمين أينما حكم. ولهذا، يُسعدها أن يحكم يمين متطرف إسلامي أيضاً أينما أرادت له أن يحكم، ولا يعيب هذا، أن الحاكم اليميني الإسلاموي المذكور قد كان على لائحة الإرهاب السوداء في أميركا (حدث هذا قبل ذلك مع أفغانستان، بحيث يتحوّل المتهم المذكور من إرهابي إلى ثائر ومقاوم).
كما أن أميركا، التي ساهمت مع بريطانيا تاريخياً في خلق نموذج النظام الحاكم في إيران، لا تمانع، بل تؤيد، خلق نسخة سنية معادلة للنظام في إيران داخل أكبر دولة من دول الطوق المشرقية، سوريا. ففي العقل الأميركي، هذا يخلق توازناً سنياً- شيعياً استراتيجياً، ونوعاً من حالة الصراع البارد الذي يمكن تأجيجه عند الحاجة.
أوروبا والبراغماتية الصرفة
الجانب الأوروبي يعمل لخدمة مصلحته الآنية البراغماتية الصرفة. لدينا معطيات حصلنا عليها من أوروبيين في مواقع تمثيلية دولتية، بأن الدول العميقة في أوروبا تواصلت مع “هيئة تحرير الشام” وقائدها، وبشكل ممنهج ومستمر منذ العام 2018، حين كانت “الهيئة” المذكورة تستقرّ في محافظة إدلب داخل سوريا.
المعطيات تقول إن تلك الجهات المذكورة، عملت على مساعدة “الهيئة” على خلق نوع من الإدارة والعجلة الاقتصادية داخل إدلب، وإنها قامت أيضاً بتدريب مقاتليها وتهيئتهم للتحوّل إلى جيش نظامي محترف. أي أن أوروبا العميقة رأت في هذا التيار اليميني، البديل المناسب في سوريا في ضوء مشاوراتها مع الإسرائيلي والأميركي.
وهناك هدفان براغماتيان مصلحيان صرفان يريدهما الأوروبي في مقابل دعمه. الأول: هو عمل السلطة الحالية على مساعدة أوروبا على إعادة أكبر قدر من النازحين السوريين إلى بلدهم، وتخليصها مما بات يشكل عند الأوروبيين كابوساً وعبئاً لا يطاق على كافة الأصعدة.
أما الهدف الثاني فهو أن الإدارة الحالية وعدت بمنع عودة المجاهدين؛ الذئاب المنفردة الداعشية، من ذوي الأصول أو الجنسيات الأجنبية إلى بلدانهم التي جاؤوا منها للجهاد في سوريا، إذ ستقوم تلك الإدارة بتوطين أولئك المجاهدين الأجانب وتجنيسهم لاحقاً (بدأت عملية التوطين وهي على السكة) بحيث تتم إذابتهم في المجتمع السوري (برغم ما يرتكبونه اليوم من أعمال عنفية وتهديدية وأصولية ترهيبية ضد السوريين المحليين حالياً).
هل نشهد مفاوضات إسرائيلية- إيرانية؟
السلطة الجديدة في سوريا وصلت بأيسر السيناريوهات وأكثرها سلاسة لتبادل السلطة، يمكن أن يتخيله سيناريو أي فيلم هوليوودي، وهي الآن تطبّق أجندة استلام سلطة محسوبة، ويُشرف عليها التركي برعاية مباشرة من تلك القوى الثلاث ومراقبتها. المثير في الأمر جيواسترتيجياً هو أن من يرعى الإدارة الانتقالية ورئيسها الحالي اليوم في سوريا، ويقدّم له مظلة حماية، قد يُضحي به أو يُعدِّل في السلطة يوماً ما، في حال تغيرت لعبة توازن القوى والمصالح.
لن يكون مستغرباً أن تعمل أميركا العميقة، على إجلاس الإسرائيلي والإيراني إلى طاولة تفاوض وتقسيم أدوار في لحظة ما مقبلة. أي نظام إيراني سيجلس حول الطاولة المذكورة: نظام الملالي الحالي أو نظام بديل؟ أياً تكن الإجابة، فإن أي نظام إيراني سيجلس، سيكون منزوع المخالب والأنياب، ويعمل على ترضية المعسكر السني الخليجي والعربي. في أية حال، مجرد جلوس الإيراني إلى الطاولة مع الإسرائيلي، سوف يعني تغيير الأدوات وتعديلها، وتعديل أدوارها داخل سوريا (وفي المنطقة) وقد يعني إما تحجيم وتعديل اللاعبين في السلطة الحاكمة في سوريا (مثـل الصوت الراديكالي الداعشي) وإما حتى التخلّص من لاعبيها، واستبدالهم أو تطعيمهم بآخرين من شرائح أخرى، بل قد يعني عودة روسيا للعب دور تركيا (أو معها) في إدارة المشهد اليومي.
– باحث سوري
درج