سوريا حرة إلى الأبد: مقالات وتحليلات 12 شباط 2025
![](https://www.alsafahat.net/wp-content/uploads/2025/02/5351-780x470.jpg)
حرية إلى الأبد: كل المقالات والتحليلات والحوارات التي تناولت انتصار الثورة السورية اعتبارا من 08 كانون الأول 2024، ملاحقة يومية دون توقف تجدها في الرابط التالي:
سقوط بشار الأسد، الرئيس الفار والمخلوع
———————————–
ملفات سورية راهنة وتحدّيات المرحلة المقبلة/ عمار ديوب
12 فبراير 2025
يشكّل تاريخ 8 ديسمبر/ كانون الأول 2024 تاريخاً جديداً في سورية. إنّه لحظة تلاشي النظام القديم وأدواته السياسية، الأمنية والعسكرية، وتوقف مؤسسات الدولة بشكلٍ كامل. هي لحظة دخول إدارة العمليات السياسية والعسكرية دمشق، بقيادة أحمد الشرع، الإدارة المُشكّلة من هيئة تحرير الشام.
انهار النظام الذي أسّسه الجنرال حافظ الأسد في 1970، وأعيد تشكيله بتوريث ابنه بشار في عام 2000، ولكنه دخل بأزمة عميقة مع بداية الثورة الشعبية 2011، التي هشّمته بشكلٍ كبير، وكاد يسقط مرّات عدّة، وآخرها في 2015، وصاراً تابعاً تبعية كاملة لكلّ من إيران وروسيا، ولم تعد أدواته السياسية قادرة على حمايته من دون التدخل المستمر للدول المذكورة. ومع دخول كلّ روسيا في حرب أوكرانيا، ومع الحرب الصهيونية ضدّ غزّة وحزب الله تراجعت القوة الإيرانية كثيراً، ورُفع الغطاء الأميركي والصهيوني عن النظام السوري، وعن هيمنة إيران على سورية ولبنان بصفة خاصة، فكان السقوط السريع.
الاهتراء والثورة
شكّلت حالة الاهتراء والتعفّن العامة لنظام دمشق، التي بدأت منذ 2011، سبباً مركزياً للسقوط، ولكن هذا لم تقرأه كلّ الفصائل المسلحة وتضع خططاً مشتركة وطنية منذ حينه، التي أصبحت سلطات أمر واقع لاحقاً، وتابعة للخارج، ونشاطاتها مرتبطة بالخارج وسياساته، فتأخّر إسقاط النظام. والأسوأ أنّ التطبيع معه كان السياسة العامة للدول في الأعوام الأخيرة. لم تكن هيئة تحرير الشام تعتقد أنها ستصل إلى دمشق، وكان أقصى طموحها أن تردّ العدوان عن العمليات العسكرية للنظام التي ازدادت مع بدء الحرب على لبنان، جواً وبراً، وأن تستعيد بعض البلدات التي سيطر عليها النظام في 2021، كسراقب ومعرة النعمان مثلاً، وبغضّ النظر عن خططٍ لدى الهيئة عن إسقاط النظام، ولكنها مؤجّلة لزمنٍ لاحق.
تعاظمت حالة الاهتراء، بعد 2018، حيث تقسّمت سورية إلى أربع سوريات حينها، منطقة قوات سوريا الديمقراطية (قسد)، النظام، هيئة تحرير الشام، الفصائل. في ذلك الوقت، تفسّخ النظام ذاته ليصبح أداة نهب لصالح العائلة، بشّار، أسماء، ماهر، ومن يدور في فلكهم. شعرت حينها قيادة الجيش بأنها أصبحت مهمّشة، ولم تتحسّن أحوالها الاقتصادية والمعيشية، بينما العائلة “المقدّسة” تكدّس مليارات الدولارات من نهب الدولة والمجتمع ومن تجارة الكبتاغون.
الجيش لم يقاتل
لم تكن قوى الأمر الواقع، ومنها هيئة تحرير الشام، تعي مستوى الاهتراء الذي وصل إليه النظام. ولهذا لم تخطّط الهيئة لأكثر من استعادة بعض البلدات وردّ العدوان. كذلك فإنّ الأمر الذي يجب التركيز عليه ما قبل السقوط، أنّ قيادة الجيش رفضت المواجهة العسكرية، فقد شعرت بأنها غير محميّة من إيران وروسيا، وهي في حالة مهلهلة بشكل كبير، وبالتالي، ستكون نتائج المواجهة هزيمة كاملة ومقتلة كبيرة للسوريين، وكذلك لم تجد أهدافاً أو مبرّرات للمواجهة، ففضلت الانسحاب، وهذا بالضبط ما ساعد هيئة تحرير الشام على الاستيلاء على مدينة حلب الكبيرة خلال ساعات.
رفض الجيش، بما فيه حتى الفرقة الرابعة والحرس الجمهوري المواجهة، وأعطى الأوامر للقطعات العسكرية بالتراجع وحلّ نفسها. لم تشهد دمشق أيّة معارك على الإطلاق، مع أن المدينة محصّنة عسكرياً بشكل كبير، لحماية النظام أو منعاً لتقدّم جيش الدولة الصهيونية. ويوضّح هذا الجانب عدم حدوث معارك حقيقية، وبدءاً من حلب، وفي حماة، القوة العسكرية الوحيدة التي قاتلت هي قوات النمر، وشبيحة بلدة قمحانة وفي جبل زين العابدين، وما عداها، مناوشات هامشية انتهت بسرعة، والأمر نفسه تكرّر في حمص، وهناك تكتيك عسكري سليم، اتبعته إدارة العمليات العسكرية، بفرض الحصار، وترك المجال مفتوحاً لقوات النظام للهروب والتسليم، وهذا ما ساعد على إطالة أمد المعارك إلى 11 يوماً لسقوط دمشق وبأقل الخسائر، ولولا ذلك لتمَّ الاستيلاء عليها بوقت أقصر. الجدير ذكره أنّ العاصمة سقطت قبل وصول قوات الإدارة العسكرية بأكثر من 12 ساعة، وبلا أيّ معارك.
وجد الشرع نفسه في قصر الشعب زعيماً لسورية، ونال التفافاً جماهيرياً عارماً، من أغلبية السوريين؛ فهو المخلّص من نظام الأسد، نظام التوحش والإفقار والتطييف، ونالت الهيئة والإدارة الجديدة الكثير من الاحترام والرضى، بل والثقة بها، فهي لم تذهب نحو الثأر ولم ترتكب المجازر، ولا سيما بحقّ السوريين العلويين، الذين قَدّمَ نظام الأسد نفسه حامياً لهم، بينما كان يحتمي بهم وبسواهم.
من يحرّر يقرّر
لم تتعامل الإدارة الجديدة بمهنية وبمسؤولية كبيرة منذ لحظة دخولها دمشق، أي كإدارة لكلّ الدولة السورية ولكلّ المدن وتتقدّم بسياساتٍ وطنية وجامعة، تعزّز الاحترام والرضى والثقة، لتمكين نفسها، فجاءت بحكومة هيئة تحرير الشام في إدلب إلى دمشق، وأعلنت تشكيل جهاز الاستخبارات والبدء بتشكيل الجيش. لم تنطلق سياسة الحكومة المؤقتة، في كل المجالات، من أهداف الثورة في 2011، ولم تأخذ بالاعتبار وضع الخطط الوطنية لمواجهة أوجه الاهتراء والتعفن الكاملين الذي ورثته عن نظام الرئيس الهارب ودولته، وهي شاملة ومعقدة، والأسوأ أنها لم تشرعن نفسها دستورياً، أو تتجه إلى أن تكون شرعية وعبر إعلان دستوري مؤقت، أو الدعوة إلى عقد مؤتمر وطني عام، أو تشكيل هيئة انتقالية للتغيير السياسي وبقيادة الشرع نفسه. لم يحدُث شيء من هذا كله، وبالترافق معه، اتجهت إلى تعزيز مواقع المجموعة الأساسية، أمنياً وعسكرياً وسياسياً واقتصادياً، التي حكمت إدلب ولتتحكّم بسورية، وأقامت صلات مع جماعات كانت تدور في فلك النظام القديم، اقتصادية وإسلامية، وفتحت باب العلاقات الخارجية، على حساب العلاقات مع الداخل (مطالب الشعب). وقد بدأ هذا يثير الشك والحذر الشديد تجاه كلّ سياسات الإدارة الجديدة، ويعزّز من مقولاتٍ جديدة على ألسنة الشعب والكثير من الفعاليات، وهي أقرب لما كان يقوله النظام السابق، الأسد أو نحرق البلد، بعبارة جديدة من يحرّر يقرّر.
سياسات خاطئة للحكومة المؤقتة
انتصر الشرع لأن ثورة شعبية حدثت في 2011، واستمرّت مفاعليها حتى لحظة انهيار النظام القديم وأسّست لها. هنا كان على الشرع الاعتماد على سياسات تتلاقى مع أهداف الثورة في العدالة الاجتماعية وفي التحوّل الديمقراطي، وفي رفض الاحتلال الصهيوني، وقد وصلت قوات الأخير إلى مشارف دمشق. تجاهل الشرع أيّ كلام عن المسائل أعلاه.
إذاً، بتجاهله الإعلان الدستوري المؤقت، وبتأخّر الإعلان عن المؤتمر الوطني، الجامع وليس المعيّن منه، وتشير بعض وسائل الإعلام إلى أنه سيكون للإدارة الدور الأكبر في اختيار أسماء المؤتمِرين، حينما ينعقد، وبإقرار سياسات خاطئة من الحكومة المؤقتة، يكون التجاهل قد أصبح أقرب إلى أن يكون سياسية ممنهجة ضدّ الحقوق العامة للشعب، والأنكى أنّ هذه الإدارة الجديدة والحكومة تتخذ قرارات سيادية وتشريعية، وهذا ليس من صلاحياتها، كإعلان تأسيس الجيش من جديد، أو إعطاء رتبٍ عسكرية لمدنيين، أو طرد العمال من العمل أو تعطيل أعمال القضاء، وتشريعات تخصّ الاقتصاد والتعليم وسواه.
لم يعد القول مستساغاً، أن أعطوه الوقت الكافي، أو أن ثلاثة أشهر ليس شيئاً بعمر الأزمة التي بدأت منذ 1970، ومنذ 2011، هذا قول خاطئ جملة وتفصيلاً، ومثله ما تقوله أوساط الإدارة، بأنّ الحريات لم تُنتهك ولم يعتقل أحد، وسواه. ما يدفع إلى ما ورد أعلاه هي السياسات التي يتبعها أحمد الشرع وحكومته، ولكن ما يُبقي لهم بعض المكانة سعيهم لمنع الفوضى الأمنية، ومحاولة ضبط المجموعات الخارجة عن سيطرة الإدارة، وترتكب السرقة والخطف والقتل والتطييف، وهذا ممّا يدعمه أغلبية السوريين ويؤكدون ضرورته بأسرع وقت، وإن كانوا يختلفون في كيفية تحقّق الأمر، ففي مدينة حمص كان يجب تعزيز السلم الأهلي.
الدولة الجامعة
ما يريده السوريون هو الانتقال إلى الدولة الجامعة، الممثلة لكلّ السوريين، غير المهمِشة لفصيل أو طائفة أو قومية أو قوى مجتمعية متضرّرة، ولكن دون تسيّسها أو الانطلاق منها للتمثّل بالدولة أو أي عمل سياسي، كالدعوة إلى المؤتمر الوطني مثلاً؛ سياسات الحكومة المؤقتة لا تراعي هذا المأمول؟ ولكن ماذا كان على الحكومة أن تفعل ولم تقم به؟
كان يجب الاكتفاء بتسيير شؤون الدولة كما من قبل، والقيام بدراسة دقيقة لكامل ملفات النظام ومؤسّسات الدولة، وفي الوقت نفسه، تشكيل هيئة انتقالية وطنية وعامة، وبقيادة الشرع ذاته، وإشهار إعلان دستوري مؤقت، تنطلق منه في إعادة قراءة الدستور القديم، وحذف كلّ البنود الخاصة ببشار الأسد فقط، وتجميد القوانين والمحاكم الاستثنائية. وبتشكيل هذه الهيئة، كانت إدارة الشرع ستتعرّف بالفعل إلى مشكلات سورية، وستستند إلى مرجعية دولية، هي قرار مجلس الأمن 2254، وتغلق أبواب الضغط عليها من الخارج، لأنها بدأت بالعمل من أجل إدارة المرحلة الانتقالية. هذا لم يحدُث، وظلَّ الكلام عن كلّ ما يخص هذه المسائل عموميّاً، وغير محدّد بتواريخ، وراح الشرع يتصرّف كرئيسٍ للبلاد، وحكومته كحكومة شرعية.
ملفّ المعتقلين والمغيبين قسرياً
تجاهلَت الحكومة المؤقتة أخطر ملف إنساني، وهو ملف المعتقلين والمغيبين قسرياً، فلم تضم وزيراً أو تشكّل مؤسّسة لإدارة هذا الملف، وضمناً ملف المقابر الجماعية، والسجون السرية والأفرع الأمنية، وكانت هذه الأماكن عرضة للنهب والدخول الفوضوي والحرق وسُرقت ملفاتٌ كثيرة، ونُبشت وحُفرت بعض المقابر، بل وصل الأمر ببعض المستهزئين بآلام الأهالي وبالضحايا إلى تبييض (دهان) بعض الأفرع الأمنية، وبموافقة أمنية من شخصيات أمنية تابعة للإدارة الجديدة! أدى ذلك إلى وقفاتٍ احتجاجية في ساحة الحجاز في دمشق، وساحة الأمويين وأمام فرع الخطيب في دمشق، ووقفات كثيرة وفي أكثر من مدينة، وكانت أصوات المحتجين تطالب الإدارة الجديدة بحماية الأدلة والشواهد وبإيلاء هذا الملفّ الأهمية القصوى، وأنّ التعامل السلبي أعاد تعذيب المعتقلين والمغيبين قسرياً، وهدفه تضييع حقوقهم. هنا، يشكّل التأخر في متابعة هذا الملف تقدّماً للعدالة الانتقامية، فقتلت بالفعل مجموعات في مدينة حمص أو اللاذقية أفراداً كانوا من عائلات من ارتكب المجازر أو وجه الإهانات للثوار في 2011، ولكن الأمر تجاوز ذلك، فسُجلت أكثر من 150 حالة قتل وعمليات خطف كثيرة لأناس لا علاقة لهم بما حدث في 2011 أو كانوا أطفالاً حينها، كما هي أعمار كثيرين من الشباب المقاتلين، الذين يقومون بالثأر. وبذلك تذهب سدى حقوق الضحايا القدامى ويتشكل ضحايا جدد. هل نسأل هنا، لماذا هذا التجاهل؟ وهل السبب أنّ تشكيل هيئة للعدالة الانتقالية ستؤدي إلى محاكمة كل من أولغ بالدم السوري، وستُرفع دعاوى على قيادات في هيئة تحرير الشام وفي سواها؟ ربما هذا هو السبب الحقيقي للتأخر بتشكيل هذه المحكمة، التي يُفترض أن تتشكّل من قضاة سوريين وعرب وأجانب، كي تكون شرعية وموثوقة، وبما يتوافق مع بنود القرار 2254.
الملف الاقتصادي
الملف الاقتصادي هو الملف الثاني الأكثر أهمية في سورية، والأوّل هو الأمني وهناك تثمين أوليُّ للإدارة في معالجته. أولاً، واقع الخدمات الأساسية في غاية الكارثية، الكهرباء، التعليم، الصحة، السكن، والبنى التحتية عامة، وهناك توقف العمل في القطاعات الإنتاجية، أو عملها بالحدّ الأدنى. حدث عفوٌ جزئيٌّ عن العقوبات من الإدارة الأميركية، وتأييدٌ غربي وعربي عام لخطوة كهذه، ولكن أيَّ تحسن لم يحدُث، وكذلك، أُوقِفَت الأجور، وبالتالي، أضيفت أزمة اجتماعية كبيرة، وهي، وغير طرد أكثر من ثلاثمائة ألف عسكري، فقد طُرد أكثر من ثلاثمائة ألف عامل مدني، وهنا لا قيمة حقيقية لأعداد من كان يتقاضى أكثر من راتب في الشهر نفسه، فهذه المجموعة فاسدة بالفعل، ونسبتها محدودة للغاية. وتخصّ هذه الأزمة كتلة كبيرة من العاملين في الدولة، ويعتاشون على أجورهم الشحيحة، وبطردهم، وهو شأنٌ ليس من صلاحيات الحكومة المؤقتة، تفتح الإدارة الجديدة على نفسها باباً واسعاً للإضرابات والاعتصامات وربما المظاهرات لاحقاً، وقد نُظّمت بالفعل في أكثر من مدينة، دمشق، درعا، طرطوس، اللاذقية، وربما بسواها.
وعدا كل ما ذكر، هناك سياسات اقتصادية، ليبرالية/ حرّة، تتقصّد تعميم سياسات الخصخصة، وتقول بذلك، وعلى معظم ألسنة الحكومة المؤقتة، وهي وصفة لأزمات مضاعفة، سيما أنّ سورية في حالة كارثية، وتتطلّب سياسات اقتصادية إسعافية لصالح مختلف شرائح الشعب، بما فيها عناصر الجيش والأمن ممن لم تتورّط أيديهم بالدماء أو القتل أو الاجرام، وهذا الملف من صلاحيات المحاكم. كان تأمين الخدمات المذكورة أعلاه يجب أن تكون المهمات الأولى على عاتق الحكومة المؤقتة، وليس إطلاق أفكار وسياسات تثمّن دور الاقتصاد الحر أو الشريعة الإسلامية. وهناك ملف المخيّمات، ولم ينفتح بعد، ويزيد عددها على 1200 مخيّم، وهو يرتبط بأهالي المدن المدمرة، وتقيم كتلة كبيرة منهم في المخيمات، وهذا سيشكل عامل ضغطٍ إضافي إن لم يُعالج الملف الاقتصادي بشكل خاصٍ، وكذلك الملف الاجتماعي وتأمين فرص العمل.
خاتمة
يقترب شهر مارس/ آذار، وهو نهاية المرحلة المؤقتة، كما حدّدها الرئيس أحمد الشرع، والبدء بالمرحلة الانتقالية. وهناك تعثر في ضبط الأمن وفي احتكار السلاح وعدم تأمين الخدمات الأولية، ولم تتشكّل لحظة تحضيرية وطنية للمؤتمر الوطني العام، وفي الوقت نفسه، يحاول الشرع تأمين الدعم الخارجي له، وتعتمد حكومته سياسات استئثارية وطردت كتلة كبيرة من العمّال وتستمر بتعطيل مؤسّسات الدولة وتجاهل الملف الإنساني وسواها كثير. تشير القضايا الإشكالية هذه إلى أنّ المرحلة الانتقالية ستتأخر، والضغوط الدولية ستزداد، والوضع الداخلي قد ينفجر بمظاهرات أوسع وأضخم، ولأسباب متعدّدة، ومن جماعات سورية متعدّدة، وبالتالي، هناك ضرورة حاسمة، لإيجاد المدخل الصحيح للانتقال السياسي والجاد والهادئ، وإيقاف مسار الفشل أو التذاكي، الذي تسير عليه الإدارة الحالية. المدخل هو الإعلان عن لجنة تحضيرية للمؤتمر العام، وبدء المناقشات الواسعة حول القضايا التي ستُناقش بالمؤتمر. وبالطبع، اختيار شخصيات وطنية جامعة؛ هذا وحده ما سيجعل المرور ممكناً من المرحلة المؤقتة إلى المرحلة الانتقالية.
العربي الجديد
——————————
سوريا “الجديدة”: إعادة النظر في توازنات الشرق الأوسط/ نجيب جورج عوض
12.02.2025
السلطة الجديدة في سوريا وصلت بأيسر السيناريوهات وأكثرها سلاسة لتبادل السلطة، يمكن أن يتخيله سيناريو أي فيلم هوليوودي، وهي الآن تطبّق أجندة استلام سلطة محسوبة، المثير في الأمر جيواسترتيجياً هو أن من يرعى الإدارة الانتقالية ورئيسها الحالي اليوم في سوريا، ويقدّم له مظلة حماية، قد يُضحي بها أو يُعدِّل في السلطة يوماً ما، في حال تغيرت لعبة توازن القوى والمصالح
يتّفق كل المراقبين الذين يقرأون المشهد السوري، من زاوية علاقته بالسياق الجيوسياسي في المنطقة، بأن وصول “هيئة تحرير الشام” إلى السلطة في سوريا، وتبوّء رئيسها مؤخراً موقع رئاسة المرحلة الانتقالية، هو تطبيق يبدو مبرمجاً ومحسوباً جداً، لسيناريو مُعَدّ مسبقاً، يُشرف التركي على تنفيذه وإدارته على أرض الواقع.
والقراءة الجيوسياسية تفيدنا بأن وصول هذا الطيف الجهادي، دون سواه من أطياف الثورة والمعارضة السورية، التي عرفناها في السنوات المنصرمة إلى سدة السلطة، جاء بتنسيق إسرائيلي- أميركي- أوروبي، ولتنفيذ مصالح تلك القوى الثلاثة وأجنداتها. أما ما هي مصلحة كل من تلك الأطراف الثلاثة بوصول “هيئة التحرير” وقائدها إلى حكم سوريا، فيمكن النظر فيها تالياً.
موقف اليمين الإسرائيلي
من الواضح أن اليمين الإسرائيلي يريد منذ عقود، أن يكون الحاكم الأول والمدير الفعّال والوحيد لملفات الشرق الأوسط برمّتها. وهو قد نجح مؤخراً في تحقيق هدفه هذا، بإزاحة إيران من ساحة التنافس على تلك الإدارة. العقل الإسرائيلي السياسي يرى أن دور نظام الملالي في إيران قد انتهى، بعد أن حقّق هذا الأخير الهدف الذي تم خلقه في المنطقة لتحقيقه: تشكيل تهديد وجودي على الفضاء السني العربي، ودفع هذا الفضاء للارتماء في الحضن الإسرائيلي، وتفريغ القضية الفلسطينية من تهديدها الوجودي لإسرائيل.
تحقّق هذا الهدف جيوسياسياً في الفترة الأخيرة، وما عاد من ضرورة لوجود إيراني في دول الطوق المحيطة بإسرائيل. كما أن إسرائيل تريد في سوريا بديل سلطة، يحوّل سوريا إلى جمهورية من جمهوريات الموز: غارقة في فوضاها وصراعاتها الداخلية الضيقة، وعُرضة دوماً للتفتّت وخطر التشظّي (دون التقسيم) انطلاقاً من التهاء السوريين بالصراعات، التي يمكن أن تنتج عن انهماكهم بالسؤال حول ماهية الدولة السورية المقبلة وهويتها: جمهورية مركزية رئاسية، جمهورية اتحادية برلمانية، أم فدرالية صريحة؟ ليس أفضل من سلطة جديدة دوغمائية وعسكريتارية كي تحقق هذا الهدف.
الإشراف الأميركي
أما من جهة الأميركي، فهو يريد حتماً أن يطبّق في المشرق، كل ما يُرضي إسرائيل ويخدم أمنها القومي ودورها الإداري للمنطقة برمّتها. كما أن الإدارة الأميركية اليمينية التي تحكم البيت الأبيض، تشجّع حكم اليمين في بقاع الأرض كافة، لأنه سيكون حليفها وخادمها الأمين أينما حكم. ولهذا، يُسعدها أن يحكم يمين متطرف إسلامي أيضاً أينما أرادت له أن يحكم، ولا يعيب هذا، أن الحاكم اليميني الإسلاموي المذكور قد كان على لائحة الإرهاب السوداء في أميركا (حدث هذا قبل ذلك مع أفغانستان، بحيث يتحوّل المتهم المذكور من إرهابي إلى ثائر ومقاوم).
كما أن أميركا، التي ساهمت مع بريطانيا تاريخياً في خلق نموذج النظام الحاكم في إيران، لا تمانع، بل تؤيد، خلق نسخة سنية معادلة للنظام في إيران داخل أكبر دولة من دول الطوق المشرقية، سوريا. ففي العقل الأميركي، هذا يخلق توازناً سنياً- شيعياً استراتيجياً، ونوعاً من حالة الصراع البارد الذي يمكن تأجيجه عند الحاجة.
أوروبا والبراغماتية الصرفة
الجانب الأوروبي يعمل لخدمة مصلحته الآنية البراغماتية الصرفة. لدينا معطيات حصلنا عليها من أوروبيين في مواقع تمثيلية دولتية، بأن الدول العميقة في أوروبا تواصلت مع “هيئة تحرير الشام” وقائدها، وبشكل ممنهج ومستمر منذ العام 2018، حين كانت “الهيئة” المذكورة تستقرّ في محافظة إدلب داخل سوريا.
المعطيات تقول إن تلك الجهات المذكورة، عملت على مساعدة “الهيئة” على خلق نوع من الإدارة والعجلة الاقتصادية داخل إدلب، وإنها قامت أيضاً بتدريب مقاتليها وتهيئتهم للتحوّل إلى جيش نظامي محترف. أي أن أوروبا العميقة رأت في هذا التيار اليميني، البديل المناسب في سوريا في ضوء مشاوراتها مع الإسرائيلي والأميركي.
وهناك هدفان براغماتيان مصلحيان صرفان يريدهما الأوروبي في مقابل دعمه. الأول: هو عمل السلطة الحالية على مساعدة أوروبا على إعادة أكبر قدر من النازحين السوريين إلى بلدهم، وتخليصها مما بات يشكل عند الأوروبيين كابوساً وعبئاً لا يطاق على كافة الأصعدة.
أما الهدف الثاني فهو أن الإدارة الحالية وعدت بمنع عودة المجاهدين؛ الذئاب المنفردة الداعشية، من ذوي الأصول أو الجنسيات الأجنبية إلى بلدانهم التي جاؤوا منها للجهاد في سوريا، إذ ستقوم تلك الإدارة بتوطين أولئك المجاهدين الأجانب وتجنيسهم لاحقاً (بدأت عملية التوطين وهي على السكة) بحيث تتم إذابتهم في المجتمع السوري (برغم ما يرتكبونه اليوم من أعمال عنفية وتهديدية وأصولية ترهيبية ضد السوريين المحليين حالياً).
هل نشهد مفاوضات إسرائيلية- إيرانية؟
السلطة الجديدة في سوريا وصلت بأيسر السيناريوهات وأكثرها سلاسة لتبادل السلطة، يمكن أن يتخيله سيناريو أي فيلم هوليوودي، وهي الآن تطبّق أجندة استلام سلطة محسوبة، ويُشرف عليها التركي برعاية مباشرة من تلك القوى الثلاث ومراقبتها. المثير في الأمر جيواسترتيجياً هو أن من يرعى الإدارة الانتقالية ورئيسها الحالي اليوم في سوريا، ويقدّم له مظلة حماية، قد يُضحي به أو يُعدِّل في السلطة يوماً ما، في حال تغيرت لعبة توازن القوى والمصالح.
لن يكون مستغرباً أن تعمل أميركا العميقة، على إجلاس الإسرائيلي والإيراني إلى طاولة تفاوض وتقسيم أدوار في لحظة ما مقبلة. أي نظام إيراني سيجلس حول الطاولة المذكورة: نظام الملالي الحالي أو نظام بديل؟ أياً تكن الإجابة، فإن أي نظام إيراني سيجلس، سيكون منزوع المخالب والأنياب، ويعمل على ترضية المعسكر السني الخليجي والعربي. في أية حال، مجرد جلوس الإيراني إلى الطاولة مع الإسرائيلي، سوف يعني تغيير الأدوات وتعديلها، وتعديل أدوارها داخل سوريا (وفي المنطقة) وقد يعني إما تحجيم وتعديل اللاعبين في السلطة الحاكمة في سوريا (مثـل الصوت الراديكالي الداعشي) وإما حتى التخلّص من لاعبيها، واستبدالهم أو تطعيمهم بآخرين من شرائح أخرى، بل قد يعني عودة روسيا للعب دور تركيا (أو معها) في إدارة المشهد اليومي.
– باحث سوري
درج
——————————
سورية من التحرير إلى تأسيس الحرّية/ طارق عزيزة
12 فبراير 2025
تنتمي كلمتا تحرير وحرّية إلى الجذر اللغوي نفسه، ورغم ما بينهما من ترابط ظاهر، إلا أنّهما تشيران إلى معنيين مختلفين، في حياة الدول والمجتمعات والأفراد. يعني التحرير، في ما يعنيه، تخليص الإنسان (والبلاد) من سطوة احتلال أو استبداد، وإزالة ما ترتّب عليهما من قيود واستلاب. وتعني الحرّية، من حيث المبدأ، القدرة على اتخاذ قرارات والتعبير عن مواقف، أو الامتناع عن ذلك، بلا إكراه أو قيد خارجي، ومن دون خشية على الأمان الجسدي والنفسي للشخص المعني، في السياسة والفكر والفن والحياة الشخصية، وغيرها من حقول النشاط البشري. أكّدت الفيلسوفة الألمانية حنة أرندت على هذا التمييز المفهومي في كتابها “في الثورة”، بقولها “إنّ التحرّر شرط الحرّية، ولكنه لا يقود إليها آلياً”، وميّزت بين التمرّد والثورة من حيث المآل، فكتبت: “نهاية التمرد هي التحرير، في حين أن نهاية الثورة هي تأسيس الحرّية”.
على هذا الأساس، وبعد إنجاز عملية تحرير سورية من طغيان نظام الأسد الفارّ، يُفترض الشروع في التأسيس لحرية المجتمع السوري، وتعزيزها، وصونها، لا الاكتفاء ببناء السلطة الجديدة وتقويتها. السلطة ركن أساسي لقيام الدولة، تعبّر عن سيادتها على أراضيها، وترعى مصالح المواطنات والمواطنين جميعاً بلا تمييز، وفق القانون، ويستدعي إنفاذ القانون وحماية الأفراد استخدام “القوة” أحياناً، وهو ما يُعبّر عنه بـ”احتكار العنف” وتقنينه من قبل سلطة الدولة. لكن اختلال التوازن بين قوّة السلطة وقوّة المجتمع باب من أبواب الاستبداد، وقوّة المجتمع تكمن في حرّيته، التي تجسّدها حرّية أفراده، وهذه لا تتحقق إذا قامت السلطة على الغلَبة لا التوافق، وسطوة القوة لا حكم القانون، وإخضاع المجتمع لا حمايته، وبذلك تنمسخ السلطة ومعها الدولة إلى محض قوّة غاشمة، فينشأ الاستبداد، وهو مرض قاتل من أمراض السلطة، وليس من خصائصها الطبيعية. وعندما يحلّ منطق الإكراه والقوة تتغول “ثقافة الاستبداد”، فتفرغ الدولة من مضمونها العمومي التشاركي الشامل، وتضمحلّ فاعلية المجتمع، وتتبعثر طاقاته، ويفقد قدرته على المبادرة، ويغدو أسير المستبدّ وأهوائه.
تشكّل قوى المجتمع المدني الحرّة والفاعلة ضمانةً حاسمة للحفاظ على التوازن الضروري بين السلطة والمجتمع. ليس المقصود هنا المنظمات الممولة غير الحكومية فقط، على أهمية دورها، وإنما المجتمع المدني بمفهومه الواسع، المتمثّل في جماعات مستقلة ينشط أفرادها طوعاً من أجل تحقيق مصالحهم المهنية والثقافية والمطلبية وسواها، وهو ما يستوجب إمكانية المناقشة الحرّة والعلنية لمختلف قضايا السياسة العامة، لأنها شأن يمسّ المجتمع بكلّيته، ولا تختصّ به نخبة السلطة فحسب، على نحو ما تضمر عبارة “من يحرّر يقرّر”. ولمّا كانت مسألة القضاء على المجتمع المدني، والتحكم بما تبقى من مظاهره واحدةً من أدوات التسلّط والاستبداد الأسدي، يجدر بالسلطة الجديدة الابتعاد عن هذا النهج، إلا إن كانت ترى في التحرير وإسقاط نظام الأسد مسألة استبدال سلطة بأخرى لا أكثر، وليس هذا ما بُذلت من أجله تضحيات الشعب السوري المهولة.
لا يكون الخلاص من نظام الأسد وآثاره بمحاكاة سياساته الإقصائية وتبنّي أساليبه القمعية، ولا يقتصر تحرير الناس من قبضة نظام مجرم على تحطيم قيودهم، بل يستدعي تمكينهم من عيش حياة طبيعية، تكون فيها كراماتهم وحرياتهم مضمونة ومصونة. وأياً تكن نوايا حكّام دمشق الجدد، ثمة مسؤولية على عاتق السوريين أنفسهم في التأسيس للحرية والدفاع عنها، من خلال المبادرة والمثابرة على ممارستها. قد يتذرّع أهل السلطة أو موالوها بعدم وجود قوانين ناظمة لعمل الأحزاب والمنظمات المدنية وتنظيم التظاهر، وغيرها من أشكال الحراك المجتمعي، لتبرير منعها أو التضييق عليها. الرد المنطقي على ذريعة كهذه أنّ غياب القوانين الإجرائية التي تنظم الحريات العامة والحقوق المدنية والسياسية لا يعني إسقاط هذه الحقوق نفسها، فهي تتأسس على مواثيق دولية لحقوق الإنسان صادقت عليها الدولة السورية، فضلاً عن أنّ الأصل في الأفعال الإباحة، ويأتي القانون ليرسم الضوابط ويحدّد المحظورات.
وإذا كانت السلطة الجديدة معنية فعلاً بتجاوز الاحتقان الطائفي الذي كرّسته سياسات النظام البائد وممارساته، ستجد في المجتمع المدني الحرّ خير سبيل لمعالجة هذه المعضلة، فالنشاط المدني عابر للهويات الدينية والمذهبية، ويرتبط بقدرة الأفراد على المبادرة، وتبنّي مواقف تنبع من ذواتهم الحرّة المستقلّة، فلا يمنعهم اختلاف انتماءاتهم من العمل معاً، انطلاقاً من حقيقة ظروفهم وأوضاعهم الاقتصادية والاجتماعية المتشابهة، من أجل تحقيق مصالح مشتركة.
تبدو المرحلة الانتقالية حبلى باحتمالات شتى لما سيكون عليه مستقبل سورية، وسيكون السيناريو الأشدّ خطراً نزوع السلطة الجديدة إلى التفرّد بالحكم، واعتماد الولاء والطاعة العمياء معياراً لازماً في تشكيل الأطر اللازمة لدولة ما بعد الأسد. لقد أُنجزت المهمّة الثورية الأولى بإسقاط الديكتاتور وتحرير سورية من طغيانه وظلمه، وحان وقت العمل على تأسيس الحرية وتحقيق العدالة بعد طول صبر وانتظار.
العربي الجديد
—————————–
مرّة أخرى: من السياسة السياسيّة إلى السياسة المجتمعيّة/ حازم صاغية
12 فبراير 2025 م
لوحظت، في الأسابيع القليلة الماضية، ظاهرة لافتة هي التجاور بين أقصى الابتهاج وأقصى الحذر عند أكثريّات سوريّة ولبنانيّة. فمن غير أن يختفي الابتهاج، أطلّ الحذر مقروناً بالريبة عند البعض، وبالنقد عند البعض، وبالنقض المشوب باليأس عند بعض ثالث. وفي خلفيّات تلك المشاعر لاحت أسئلة مشروعة حول العلاقات الأهليّة في المجتمعين، والقدرة التي تملكها طواقم الحكم الجديدة على رأب تلك العلاقات المتصدّعة، أو امتصاص طاقتها الانفجاريّة. فكأنّنا، في هذه المنطقة من العالم، محكومون بأفراح تساكنها الهواجس، واضطراب يتخلّل تعقّل الأشياء، جاعلاً من المؤقّت دائماً، ومن الترقّب رياضة وطنيّة.
وإذا كان آل الأسد قد أحكموا صدّ سوريّا عن السياسة، فاللبنانيّون لديهم، في 14 مارس (آذار) 2005 و17 أكتوبر (تشرين الأول) 2019، تمرينان على اختلاط التوقّع وانقلاب الآمال على نفسها وعلى أصحابها.
لكنّ مَن هم بيننا أشدّ ميلاً إلى الحذر، وأقلّ ثقة بظاهر الأمور، يخشون أحداثاً سابقة عرفها الجوار ويجدون فيها ما يعزّز حذرهم. ففي العراق مثلاً، لم يدم طويلاً احتفال العراقيّين بإطاحة نظام صدّام، بل ذهب بعضهم إلى التحسّر على عهده المتخم بالفظاعات. أمّا الليبيّون فما كادوا ينتهون من إهالة التراب على القذّافي حتّى عصفت بهم حرب أهليّة.
وما من شكّ في أنّ خلافات كثيرة تحمل على التمييز بين العناوين أعلاه، بعضها يتّصل بالبلدان وبعضها يتعلّق بالمراحل الزمنيّة أو بتفاوت أحجام الانتكاسات. مع هذا، ربّما آن أوان القول الصريح بأنّ بلداننا بلا داخلٍ يُعوَّل عليه، أو أنّها ذات دواخل متنازعة ذاتيّاً بعضُها ينفي بعضها الآخر. وهذا ما يعطي أدوار الخارج، بالسلبيّ منها والإيجابيّ، أحجاماً استثنائيّة، ويجعل الحديث عن «السيادة»، بنتيجة «الصراع على» بلداننا، إنشاءً محضاً.
وفي تجارب البلدان المذكورة يتصدّر اللوحةَ تحطّم الولاء الوطنيّ على يد النقيضين، الأنظمة الأمنيّة العسكريّة وحركات الإسلام السياسيّ، أو، في حالة لبنان، تحالف المحاصّة الطائفيّة الفاسدة واحتواء الحياة السياسيّة بالميليشيات وبأقنوم المقاومة السحريّ. وبهذه المعاول هُدّمت الوطنيّات حديثة النشأة وضمر كلّ اتّفاق حول الوطن ومعناه. فسؤال «من نحن؟» لا يزال يعثر على عديد الإجابات في كلّ واحد من البلدان، وحتّى حين يظهر إقرار جامع بالاسم الرسميّ للبلد بوصفه هويّةَ أمر واقع وظيفيّ، فإنّ مضمون تلك الوطنيّة ووجهتها يبقيان مادّة خلاف وتباين. فهل «اللبنانيّة» مثلاً تنطوي تعريفاً على مقاتلة إسرائيل أم على إبقاء لبنان بمنأى عن الحروب؟ وهل «العراقيّة» تتضمّن بذاتها موقفاً متوجّساً من إيران أو موقفاً يحضّ على الالتحاق بها؟ أمّا في سوريّا، فيُنبئنا بالكثير ذاك الخلافُ المتجدّد دوماً حول ما إذا كانت الجمهوريّة «سوريّة» فحسب، أم «عربيّة سوريّة»، وهذا فضلاً عن حرب العلمين.
وبالطبع كان ضعف النسيج الوطنيّ لبلداننا، وقبل أن تفاقمه الأنظمة العسكريّة والميليشيات وتفشّي الفساد، قد تغذّى على بضعة عوامل: فهناك الميراث العريق في رفض «دويلات سايكس بيكو» من دون امتلاك بديل عنها ما خلا التجربتين البائستين لمملكة فيصل في دمشق ولـ»الجمهوريّة العربيّة المتّحدة». ولأسباب يكثر تعدادها، بقيت القوى الحديثة والحداثيّة نُوىً، ولم تتحوّل فاعلاً سياسيّاً مؤثّراً يتجاوز الطوائف والإثنيّات، أو يستولد روابط تتعدّى الأهليّ منها. وهي حقيقة كانت تُظهّرها خصوصاً لحظات الاستقطاب الحادّ التي تتعاظم معها الحاجة إلى القوى السياسيّة وتدخّلها فيما لا يلبث أن يبدو تدخّل كهذا أمنية بلا حظوظ. وهكذا تروح سجالاتنا تصطبغ بقدر معتبر من الثأريّة، وباستدعاء الأصول والتواريخ الأقدم عهداً، كما تواكبها منافسات ريفيّة المصدر حول «البطولة» و»الرجولة» و»الشهادة»…
فمجتمعاتنا، بالتالي، لا تنتفع كثيراً بالرواية الحداثيّة المبسّطة التي تنهض على ثنائيّة «الشعب» و»النظام»، أو «المجتمع» مقابل «السلطة»، وما ينجرّ عن هذه المقاربة من ثنائيّات فقيرة عن «الوطنيّ» و»غير الوطنيّ»، و»الفاسد» و»غير الفاسد»، و»البورجوازيّ» و»الكادح»، بحيث ننتظر هطول ثورة أو إصلاح يقضيان على الطرف السيّئ وينصران الطرف الجيّد. وبعيداً من ذاك التبسيط، لا يكون الوسط بين قطبي الثنائيّة مرشّحاً للاضمحلال بالمعنى الذي رأت فيه الماركسيّة الأوروبيّة أنّ «الفرز» سوف يشقّ البورجوازية الصغيرة ما بين بورجوازية وبروليتاريا.
وهذا لا يلغي تفوّق طرف على طرف في النزاعات السياسيّة المألوفة، أكان لجهة قربه من وعي المسألة الوطنيّة أو بُعده عن الوعي الراديكاليّ بحاملَيه العسكريّ والمقاوم، إلاّ أنّه يذهب في تعقّب مشكلتنا إلى ما وراء السياسة بمعناها المألوف ذاك. فعندنا يتبدّى المجتمع مجتمعاتٍ، وثقافتُه ثقافاتٍ، تماماً كما أنّ وحدة السلطة نفسها تبقى عرضة للتفكّك تحت وطأة التنافر الأهليّ، الطائفيّ والإثنيّ والمناطقيّ، وضغطه. فإذا استخدمنا لغة الفنّ قلنا إنّها مجتمعات ثلاثيّة الأبعاد، لا ثنائيّتها، سطحُها لا يقتصر على بُعدين، كالارتفاع والعرض، بل ينهض، في آن واحد، على ارتفاع وعرض وعمق… وهذا ما يستحقّ حصّةً من التفكير الذي ينصبّ كلّه، في يومنا هذا، على السياسة السياسيّة.
الشرق الأوسط
—————————–
عهد سوري: إغلاق قائم وانفتاح مطلوب!/ فايز سارة
رغم أن فترة شهرين لا تعتبر فترة مناسبة لإصدار أحكام في وصف نظام سياسي، ولا حتى إصدار تقدير في وصفه. فإن الواقع السوري الراهن يدفع كثيرين لوصف العهد السوري الجديد بأنه قليل في تفاعله مع المحيط السياسي بما فيه من قوى وجماعات وشخصيات، ثمة ضرورات كبرى للتفاعل معها.
هذه تعبيرات بدأت مع بداية تحركات «إدارة العمليات» العسكرية لغرفة ردع العدوان في الخروج نحو حلب، وما تبعها من مسارات، انتهت بالوصول إلى دمشق في يوم النصر، حيث تم إسقاط نظام الأسد، وتولي «إدارة العمليات» زمام السلطة في 8-12-2024، ووسط هذا المسار السريع والحساس، لم تتم وفق ما هو معروف أي تواصلات أو مشاورات بين «إدارة العمليات»، والأطراف السياسية والعسكرية بما فيها القريبة منها، وثمة أعذار وظروف، كانت تحيط بمسارات التحرك العسكرية، تبرر ما حدث، وهذا على الأقل ما تم الإعلان عنه تفسيراً، عند إعلان تشكيل الحكومة الأولى للعهد الجديد برئاسة الدكتور محمد البشير رئيس حكومة الإنقاذ في إدلب لتكون حكومة لكل سوريا، وتم تبرير الأمر بأنه تم استناداً إلى تجربة تلك الحكومة ونجاحها في إدارة ملفات، تعاملت معها في الفترة السابقة، وتكرر ذات النهج على نحو عام في تسمية أشخاص من «إدارة العمليات» أو محيطها لتولي مسؤوليات إدارية وتنفيذية في مناصب حكومية كثيرة في الفترة التالية.
ورغم أن تبرير انغلاق «الهيئة» و«إدارة العمليات»، أمر يستحق الاهتمام. فإن الأهم منه في الأسباب هو تجربة العزلة التي عاشتها طوال سنوات «هيئة تحرير الشام» وحكومة الإنقاذ التابعة لها في إدلب عن الجماعات والتنظيمات والشخصيات السياسية، التي كانت تتجنب «الهيئة» وحكومتها باعتبار «الهيئة» جماعة متشددة، وبعد أن أكد المحيطان الإقليمي والدولي عملياً عدم صحة تلك التقديرات من خلال تأييدهما مسار «الهيئة» و«إدارة العمليات» في الوصول إلى دمشق وإسقاط الأسد، فإن «إدارة العمليات» وزعيمها أحمد الشرع لم يشعروا بضرورة انفتاح أو علاقة مع المحيط السياسي والعسكري المحيط والقريب، وهو ما يبرر سلوك الحذر في التعامل مع أطراف سياسية وعسكرية على نحو ما ظهر الأمر في التعامل مع «الائتلاف الوطني» وتابعيه وفصائل الجنوب بقيادة أحمد العودة.
إن الأسباب الثلاثة: القطيعة، والتفرد بإنجاز عملية إسقاط نظام الأسد، وهامشية الأطراف الأخرى، رسمت بصورة مشتركة أسباب هذا الانغلاق، ودفعت الفاعلين فيه ولا سيما الرئيس الشرع من جهة إلى طرح فكرة التعامل الشخصي مع الراغبين، ومن جهة ثانية إلى الذهاب نحو أشكال من التفرد في اتخاذ القرارات، بحيث بدا الرجل صاحب الرؤية والقرار في قضايا مستقبلية مصيرية بالنسبة لسوريا والسوريين، كما في رسم شكل تصور مستقبل الدولة وخياراتهم أو على صعيد السياسات رسم وتنفيذ السياسات الإجرائية، وكل هذا ساهم في إبراز تعبيرات حدة إغلاق العهد الجديد، خاصة بعد ما ظهر من دعم إقليمي ودولي للرئيس أحمد الشرع عقب تسميته رئيساً انتقالياً.
في بلد مدمر بصورة كلية، وشعب مشتت ومفقر، ووسط غياب للإمكانات، لا يمكن إنقاذ سوريا من الحفرة، وبديهي أنه لا يمكن إعادة إعمارها، وتطبيع حياة سكانها ولو بعد سنوات، بل إن من الصعب في حالة الإغلاق، أن تتقدم قوى إقليمية ودولية للمساهمة العملية في إعادة الإعمار، باستثناء أن الإغلاق سيقود إلى الديكتاتورية، وأعتقد أنه ليست هناك حاجة للإشارة إلى أمثلة قريبة أو بعيدة من تجارب حدثت.
إن التحديات والفرص أمام العهد السوري الجديد، تضعه أمام ضرورة انفتاح داخلي جدي، يوازي ويتوازن مع مسار انفتاحه الخارجي الذي يعطيه حقاً اهتماماً وجهداً كبيرين، ينبغي أن ينال الانفتاح الداخلي مثلهما، إن لم نقل أكثر، لأنه حساس ومتعدد ومعقد وفيه تراكمات واحتمالات تفجير. إضافة إلى أن إرضاء الخارج بما فيه من الدول والحكومات أسهل بكثير من إرضاء الشعوب، لأن حاجات الأولى كلية فيما حاجات الأخيرة تفصيلية، وهي بيضة القبان في رسم قيمة النظام الحاكم وقوة حمايته والدفاع عنه، ودروسنا قبل دروس الآخرين، ما زالت تحت عيوننا.
————————–
في سورية أيضاً كلّ السياسة محلية/ مروان قبلان
12 فبراير 2025
تفاخر الديمقراطيات، الولايات المتحدة خاصة، بالقول “إن كل السياسة عندها محلية” (All politics is local)، بمعنى أن غاية السياسة، كل السياسة، بما فيها الخارجية، هي خدمة مصالح الناس، والعودة عليهم بنفع مباشر من نوع ما، مثل تأمين فرص عمل، أو رفع مستوى المعيشة، أو زيادة الإنتاج والتصدير.. إلخ. المكافأة التي تتلقاها الحكومة عادة، إذا أحسنت الأداء، تكون بإعادة انتخابها، أي التمديد لها في السلطة. بهذا المعنى، يدرك السياسيون، ويتصرفون، على أساس أن قضايا الناس الكبرى هي قضاياهم الحياتية اليومية المتصلة بتأمين قوتهم، وتوفير الخدمات الأساسية لهم من ماء وكهرباء ومواصلات، وصحة وتعليم وغيرها، وأن المرء يقيس نجاحه بما يضعه، في نهاية يومه، على المائدة من طعام. قد يجول عامة الناس مساء، من خلال شاشات التلفزيون، على كل صراعات العالم ومآسيه الكبرى، يتعاطفون هنا، ويغضبون هناك، يتأثرون هنا، ويستاؤون هناك، لكنهم، ما أن يغلقوا جهاز التلفاز، أو يتوقفوا عن تصفح وسائل التواصل الاجتماعي، حتى يعودوا إلى العيش في عالمهم الحقيقي، وفيه همومهم الحياتية، التي وحدها ما يحدّد سلوكهم ويشغل تفكيرهم.
واقع الحال، أن هذا الكلام ينطبق على كل بلد في العالم، ديمقراطياً كان أو غير ذلك، فاحتياجات الناس الحياتية لا تختلف باختلاف الثقافات، والمجتمعات، ونظمها السياسية، الاختلاف الفعلي يكمن في سياسات الحكومة التي تؤثر إيجاباً أو سلباً في قدرة كل مجتمع على تأمين تلك الاحتياجات، وكذلك في وسائل محاسبتها (عبر صناديق الاقتراع، في الشارع، أو بوسائل أخرى).
لا تغيب فكرة بهذا الوضوح والبساطة عن بال الإدارة السورية الجديدة التي تبذل، منذ وصولها إلى الحكم، جهدها لجعل الناس يتلمّسون الفارق بين أوضاعهم اليوم وأوضاعهم في ظل النظام البائد. هذا الفارق لا تخطئه العين في مجال الحريات العامة، حيث يتنسم الناس عبق الحرية بعدما زال الطغيان الذي جثم طويلًا على صدورهم. لكن الناس لا يعيشون بالحرية فقط، وقد كانوا قايضوها أيام النظام البائد بالخبز، إلى أن أخذ منهم الاثنين معا (الخبز والحرية) فثاروا عليه.
تدل تجارب الانتقال في بلدان كثيرة حول العالم أن الأوضاع الاقتصادية والمعيشية لا تصبح أحسن في المراحل الأولى، بل قد تسوء، لأن الفترة بين انهيار القديم واستقرار الجديد تتسم عادة بالارتباك والفوضى، وإحساس بالغربة (التوتر أحياناً) بين النخب الجديدة والمؤسّسات القائمة. هذا يحصل في الأحوال العادية فما بالك ببلد خرج توا من أتون صراع طويل مدمّر أتى على البشر والحجر.
تواجه الإدارة السورية الجديدة تحدّيات جمة، لا شك في ذلك، أمنية، واقتصادية، ومؤسسية، لكنها تصعب الأمور على نفسها وعلى السوريين بعجزها حتى الآن عن وضع استراتيجية اتصال فعالة لنقل ما تريده إلى المجتمع، بما في ذلك خططها وسياساتها ومشروعاتها، حتى لو لم يكن لديها أي من ذلك، حاليا، وتمنع في الوقت ذاته الارتجال والتسرع (قصة زيادة الرواتب، مثلًا). السوريون الذين ضحوا وصبروا لسنوات مستعدون أن يصبروا أكثر ويتعاونوا في تجاوز المرحلة الانتقالية بغرض إنقاذ البلد ومنع الفوضى، بدليل سلوكهم المتعاون في ضبط الأمن في ظل ضعف موارد الحكومة الجديدة. هم يتفهمون أيضا حجم التعقيدات المرتبطة برفع العقوبات الدولية، توحيد البلد، استعادة السيطرة على موارده الطبيعية، ومشاكل السيولة النقدية، وغيرها، لكن فقط إذا تمت مخاطبتهم مباشرة، وباحترام وشفافية، وعبر وسائل إعلامهم الرسمية. من غير المفهوم، مثلًا، لماذا لا يقلع التلفزيون الرسمي حتى الآن، ولماذا لا يتم تعيين ناطق باسم الحكومة (وزير الإعلام مثلًا) يقوم بعقد مؤتمر صحافي يومي يقدم فيه موجزا عن عمل الحكومة، ويجيب عن مشاغل الناس. لماذا يترك البلد نهبًا للشائعات والأخبار غير المؤكدة في وسائل التواصل الاجتماعي. استمرار الشعور بوجود فوضى، تخبط وارتباك يفقد الناس الثقة بالحكومة، كما يدفعهم غياب الشفافية بعيدًا عنها. لا شك أن الجميع يتلمّسون وجود نيات حسنة ورغبة لدى الإدارة الجديدة للنهوض بالبلد، لكن هذا لا يكفي. لكسب تعاون الناس، أو أقله تخفيف تبرمهم من الوضع العام، يجب إما أن يشعروا بتحسن أوضاعهم فعلًا، وهذا متعذّر حالياً، أو مشاركتهم الخطط التي تكفل ذلك، ومصارحتهم بالتحدّيات. هكذا فقط يتم قطع الطريق على المتربصين، فكل السياسة، يجب أن لا ننسى، تبقى في النهاية محلية.
العربي الجديد
—————————–
سوريا الجديدة: هل يصمد الإعلان الدستوري أمام التحديات؟/ موفق نيربية
تحديث 12 شباط 2025
في كلمة متلفزة يوم الخميس الثلاثين من يناير، قال الرئيس السوري للمرحلة الانتقالية أحمد الشرع «سنعلن في الأيام القادمة عن اللجنة التحضيرية لمؤتمر الحوار الوطني، الذي سيكون منصّة للمداولات والمشاورات والاستماع لوجهات النظر حول برنامجنا السياسي المقبل. وبعد إتمام هذه الخطوات سنعلن عن الإعلان الدستوري ليكون المرجع القانوني للمرحلة الانتقالية».
وكان ذلك بعد أن اختاره «مؤتمر النصر» قبل يوم واحد لرئاسة البلاد للمرحلة الانتقالية، بحضور بضع مئات من قادة الفصائل العسكرية، وبعض الضباط المنشقين. ربما أراد الشرع بتلك الكلمة أن يقدّم نفسه بشكل أكثر وضوحاً، بعد أن أثار المؤتمر السابق وما طُرح فيه من اللغط والملاحظات.
أحصر موضوع هذه المقالة بمسألة الإعلان الدستوري، الذي يُقال فيه إنه مجموعة من المواد القانونية، لتنظيم الدولة في حالة سقوط النظام، وحدوث تغيير جذري في نظام الحكم، وهو عبارة عن دستور موجز، مكون من عدد قليل من المواد، يسمح للسلطة الحاكمة بحكم البلاد بصورة قانونية، وإصدار قوانين تسهل الحياة في البلاد، حتى يتم وضع دستور جديد، وتكون إعادة النظر فيها عند اللزوم أسهل وأقلّ أعباءً. من دونه إذن يحتمل بقوة أن يصبح النظام الجديد ديكتاتورياً؛ وبه يثبت حسن نيّته في تمثيل ما أراده ويريده شعبه. ليس بعنوانه وحسب، بل بمضامينه المعيارية على وجه التحديد. في سوريا، يُثبت بذلك ما يقوله من أنه امتداد للثورة التي قامت في مارس 2011، بأهدافها المفهومة والمتكرّرة. وليس ما يقوله من يشكّك بذلك، ويثير في معرض قوله ذاك تاريخ هيئة تحرير الشام وتصنيفها، الذي سيحمل وصف «السابق» قريباً على الأغلب- والأيديولوجيا التي حملتها. بناءً على ذلك، فإن إعلان المبادئ الدستورية سوف يتوجّه إلى مجتمع يطمح إلى أن تكون دولته الجديدة حرّة ديمقراطية، وفقاً للمعايير التي تتمتع بها الديمقراطيات الناضجة والمتقدمة. تلك الديمقراطية التي نطق الشرع باسمها- أخيراً- في مقابلته مع «إيكونوميست» البريطانية، وقال فيها، «في منطقتنا، هناك تعريفات مختلفة للديمقراطية، إذا كانت الديمقراطية تعني أن الشعب هو من يقرر من سيحكمه ومن يمثله في البرلمان، فنعم.. سوريا تسير في هذا الاتجاه». وتلك قولة حق يريد الشعب المعنيّ سماعها حتماً من حكومته الانتقالية؛ لكنّها ليست وحدها الديمقراطية، التي لا تكون ما لم تكن في قلبها حقوق الإنسان والحريّات الأساسية. ذلك هو المضمون الرئيس المطلوب للإعلان الدستوري، الذي يعبّر عنه في بنوده وموادّه. حين كانت الديمقراطيّة لا تزال جنيناً، أو رضيعاً في أحسن الأحوال، بعد ستة أسابيع فقط من سقوط الباستيل في الثورة الفرنسية، تمّت كتابة لائحة حقوق الإنسان والمواطن، التي أصبحت أساساً جميلاً لكلّ اللوائح الدولية الحديثة. كتب مسوّدتها الأولى الماركيز لافاييت، بالتشاور مع توماس جيفرسون صديقه حين كان في أمريكا لتقديم الدعم والخبرة العسكرية للاستقلال الأمريكي عن بريطانيا، الذي جاء إلي باريس سفيراً بعد الثورة الأمريكية. جيفرسون أيضاً كان قد كتب مسوّدة «إعلان الاستقلال»، وأسهم في وضع دستور الولايات المتّحدة. كان الشعب الفرنسي الثائر حريصاً منذ البداية على وضع أعزّ أهدافه في «ورقة» موجزة مستعجلة تسبق وضع الدستور، وتسدّ فراغاً بتكريس أهمّ أهداف الثورة، لذلك احتوت تلك الورقة على مقدّمة وسبع عشرة مادّة تحدّد «حقوق الإنسان الطبيعية غير القابلة للتصرّف».
نصّت المادة الأولى على أن» الناس يولدون ويظلّون أحرارا ومتساوين في الحقوق»، وحدّدت الثانية هدف أيّ كيان سياسي بأنّه «الحفاظ على حقوق الإنسان الطبيعية وغير القابلة للتقادم. وهذه الحقوق هي الحرية، والتملّك، والأمان، وحق مقاومة الظلم»، ثمّ حصر حقّ السيادة الكاملة بالأمة. عادت المادة الرابعة لتبيّن كيف تقف حرية الإنسان عند حدود حرية الآخرين، الأمر الذي يتطلّب وجود القانون وسيادته. لكنّ ذلك القانون يستطيع منع ما يضرّ بالمجتمع، ولا يمكن منع أحد من القيام بما لا يأمر بمنعه (المادة الخامسة)؛ ولا تمييز بين المواطنين المتساوين في الوظائف العامة سوى كفاءتهم وقدراتهم (المادة السادسة)؛ كما أنه لا يجوز اتّهام إنسان أو اعتقاله واحتجازه إلّا في إطار القانون، مع وجوب تلبيته وإطاعته لأيّ استدعاء أو قرار احتجاز، ولكن مع معاقبة من يصدر وينفّذ أيّ أمر تعسّفي (المادة السابعة). ولا يجوز إقرار عقاب قانوني إلّا بموجب قانون صادر قبل وقوع الجريمة (المادة الثامنة)، لكنّ كلّ إنسان يبقى بريئاً حتّى تثبت إدانته، وينبغي قمع أيّة شدّة مخالفة للقانون (المادة التاسعة). تلك المواد تشرح بعض مناحي سيادة القانون في ذلك الزمن.
بعد ذلك تعود المادة العاشرة لتنصّ على أنه» لا يجوز إزعاج أحد بسبب آرائه، حتى الدينية منها، بشرط ألا يخل إظهارها بالنظام العام الذي يقرره القانون»، ويحدّد في الحادية عشرة أن» حرية التعبير عن الأفكار والآراء هي من أثمن حقوق الإنسان: لذلك يحق لكل مواطن أن يتحدث ويكتب ويطبع بحرية، مع تحمل المسؤولية عن إساءة استخدام هذه الحرية في الحالات التي يحددها القانون».
نصّ الإعلان هنا على أن «ضمان حقوق الإنسان والمواطن يتطلب وجود قوة عامة: وبالتالي يتم تأسيس هذه القوة لصالح الجميع، وليس من أجل المنفعة الخاصة لأولئك الذين أوكلت إليهم» (المادة الخامس عشرة)؛ لكنّه أكّد أيضاً في السادس عشرة على أن أي» أي مجتمع لا يتم فيه ضمان الحقوق، ولا يتم فيه تحديد الفصل بين السلطات، لا يوجد فيه دستور» أيّ ليس دولة على النمط الحديث الذي قامت الثورة من أجله. وختم الإعلان موادّه بالنصّ على أن» الملكية حق مقدس لا يجوز المساس به، ولا يجوز حرمان أحد منها إلا إذا كانت هناك ضرورة عامة تفرض ذلك، استناداً إلى القانون، وبشرط تعويض عادل ومسبق». وعلى الرغم ممّا ورد في المادة الأولى والعاشرة والحادية عشرة، وتأسيساً عليها ثمّ تحديثاِ لها، أصبحت الحريّات الأساسية جزءاً مكمّلاً ومكافئاً تقريباً لحقوق الإنسان، وصارت جزءاً مهماً من الدساتير التي جاءت بعد الثورات الكبرى. والحريات الأساسية هي الحريات السياسية الأساسية المطلوبة في النظام الديمقراطي. ومع الحقوق تضمن الحريات أن الفرد قادر على التصرف أو التفكير أو الوجود أو التصرف، دون تدخل الحكومة ما لم ينص القانون على خلاف ذلك. تختلف طريقة التعبير عن تلك الحرّيات في اللوائح والدساتير الحديثة، لكنها عموماً حرية الضمير والفكر والرأي والعقيدة والتعبير، وحريّة التجمع والتظاهر السلمي مع حرّية التنظيم وتشكيل الأحزاب والجمعيات، ويدخل في ذلك كلّ ما يشجّع تطوير المجتمع المدني وازدهاره…
تنشيط وحماية تلك الحريّات ضمان لتلافي الأخطاء في البدايات، ولجعل المشاركة السياسية والاجتماعية والاقتصادية شاملة، تعزّز فرص بلاد دخلت في طور التغيير الجذري – مثل سوريا- بأن تنجو وتقطف ثمار تضحيات أبنائها. ولا بدّ من تقليص حمايات» الخصوصية القومية» وغيرها، التي استخدمها النظام السابق مراراً وتكراراً للتهرّب من التزامات الحريات والحقوق التي تشمل كلّ مكان وزمان. بلغ عمر اللوائح المذكورة أعلاه عمرها قرنين ونصف القرن تقريباً، لكنّها عموماً أساس لدولة العصر الحديث، ولإعلان مبادئ دستورية يحتوي عليها، وتكون جزءاً لا يجزّأ من دستور البلاد المقبل حين يتم إنجازه و»طبخه» بهدوء من خلال التوافق والتسويات والتنازلات المتبادلة. يمكن كذلك للإعلان أن يحتوي على نقاط سهلة التمثّل، مثل «وحدة البلاد» و»سلامة حدودها» و»هوية مواطنيها الجامعة»، وحتى تضمين «اللامركزية» من دون أيّ تفصيل حتّى يتمّ تحضير طاولة ملائمة لكلّ تفصيلات الدستور، التي تجمع بلداً يغلب عليه التنوّع وتؤلّف بين القلوب والعقول.. وهذا أيضاً باب للحوار.
كاتب سوري
القدس العربي
——————————-
مسألة حرّية التعبير/ فوّاز حداد
11 فبراير 2025
في مرحلة ما بعد سقوط نظام الأسد، برزت ظاهرة لافتة تتمثّل في تلك الجرأة الاستثنائية لروّاد “فيسبوك” على التعبير عن آرائهم وانتقاد الأوضاع الجديدة. هذه الجرأة كانت غائبة، تماماً، خلال العقود الماضية، حيث اعتُبرت حرّية التعبير جريمة تُعاقَب بأشدّ العقوبات. ومع ذلك، فهذه الحرّية الطيّبة المُكتسبة حديثاً لم تكن دائماً إيجابية، إذ أفسحت المجال أمام موجة من التعليقات العشوائية والمُبالغات العِدائية التي تفتقر إلى المصداقية.
مهما يكُن فهو أمرٌ بات طبيعيّاً. ما وفّره النِّظام الجديد من حرّيات بات استخدامُها، لا يعني تحمُّل أيّة مسؤولية على ما يُوزَّع من اتّهامات، لا تعدو أحياناً أو كثيراً، أن تكون تصيُّداً لأخطاء وتحويلها إلى جرائم وطنية، من دون أدلّة، تُفسَّر وفق أهواء أيديولوجية، تبلغ المغالاة فيها حدّ ابتكار نيّات مشبوهة وإسقاطات مُريبة، ترفدها محاولات تأويل تستنهض الشياطين، فالملائكة مطرودة من ملكوت النقد. إذا أحسنّا الظنّ فهي ممارسة لـ”شطارة”، لا تخلو من حذاقة. إذا أحسنّا الظنّ بها، قد تكون ناتجة عن عقلية تعتني بالمؤامرة وتجتهد في تنويعاتها، وحالة من التمرُّس غير الناضج بحرّية التعبير التي تتحرّى الحقيقة. وإذا شئنا التعليق عليها، يُمكن القول إنّها لم تُحسن استعمال حرّية أصبح التمتّع بها يُشير إلى تعمُّد الجهل. ولا تشي بحرّيات يجب أن تُصان، لا يجوز التفريط بها لترويج الإشاعات.
لا يُمكن فَهْم هذا الحاضر المُعقّد الذي ورثناه من دون العودة إلى الماضي الذي عشناه. فالنظام الذي حكَم سورية لعقود طويلة نجح في بناء آلة قمعية ضخمة، سخّر لها مئات الألوف من الجنود، والمُخبرين، والشبّيحة، ورجال أعمال ليسوا إلّا أثرياء حرب وتجارة مخدّرات. هذه الآلة لم تكن تهدف إلى السيطرة على الناس فقط، بل إلى سحق كرامتهم وتجريدهم من القدرة على الفعل والتفكير.
ورغم هذا الإرث الثقيل، فإنّ النظام الجديد استطاع، بدرجات لافتة، أن يحُدَّ من وقوع عمليات انتقام واسعة النّطاق كان من المُمكن أن تؤدّي إلى تصفيات بالجُملة، لن تكون إلّا كارثة إنسانية مُشينة. صحيح أن بعض الحوادث الفردية وقعت، لكن السيطرة على غيرها من الحالات كان إنجازاً جيّداً بالنظر إلى إرث من العنف والقهر استمرّ نصف قرن. لقد أدّت التدابير المُسبقة إلى تخفيف ممارسات خاطئة كادت أن تكون النتيجة المحتملة لسنوات طويلة من الدكتاتورية، ساعدت السيطرة عليها في ترسيخ السِّلم الأهلي، كما ساهمت في الحفاظ على ما تبقّى من مؤسسات الدولة.
منذ انفتح مجال التعبير عن الرأي، تعدّدت الأطراف المُتبارية في احتلال ساحة التعبير. والملاحَظ أنّ كلّ طرف يُحصّن نفسه في خندق، لا يتعدّاه، حتى لو ظهرت حقائق تُثبت خطأه. وبدلاً من مراجعة الذات، يُدافع عن موقعه، في الخندق المُتمترس فيه، وكأنّه يجب أن يكون رأيه النقيض لما يحدث، والبقاء مهما حدث من مُتغيّرات، ما يُكرِّس حالة الانغلاق، ولا يعود الحوار إلّا ساحة حرب، يُنعشها الصِّدام.
مسألة الحوار ليست بدعةً، خصوصاً أن لها علاقة بالمصير والمستقبل في ظرف حالك، نسعى للخروج من مستنقع الجميع غارقون فيه، ولا حُجّة لهؤلاء الذين يَبتدعون يوتوبيات غير فاضلة، الحرّيات فيها مُطلقة، تفضي إلى رفع حدّة النزاع، وبلا جدوى.
من المُمكن أن يكون “فيسبوك” وغيره من وسائل التواصل الاجتماعي، ساحة صحّية لتبادل الآراء وأن تلعب دوراً إيجابياً في تعزيز قيم التوافق بين أبناء وطن ابتُلي في هذا العصر، بما لم يُبتلَ به أي شعب في العالم، وما زال في مرحلة النقاهة من طغيان يزيد عن خمسة عقود مُظلمة.
العربي الجديد
——————————-
ما المنتظر من مؤتمر باريس لدعم سوريا؟/ حسن مراد
12.02.2025
بمنتهى الوضوح، أشارت السلطات الفرنسية إلى أن الطابع السياسي، سيغلب على المؤتمر الدولي حول سوريا، الذي تستضيفه باريس يوم الخميس 13 شباط/ فبراير، فما المنتظر من مؤتمر باريس لدعم سوريا؟
الإعلان عن مؤتمر باريس لدعم سوريا أتى في سياق بيان صادر عن الرئاسة الفرنسية في 15 كانون الثاني/ يناير، تناول فحوى اتصال هاتفي بين الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون وولي العهد السعودي محمد بن سلمان. الجانبان شددا خلال الاتصال على “التزامهما بدعم الانتقال السياسي العادل والشامل، الذي يحترم حقوق جميع السوريين”، ليضيف البيان “وأكد رئيس الجمهورية أن المؤتمر المقبل حول هذه المسألة، سينعقد في باريس في 13 شباط/ فبراير المقبل”.
بيان الإليزيه لم يتطرّق إلى المنح والقروض والتعهدات المالية الخاصة بإعادة إعمار سوريا، ما يعني تركيز المؤتمر على عملية الانتقال السياسي، وما تنطوي عليه من تحدّيات أمنية وسياسية.
الاتصال بين ماكرون والرئيس السوري المؤقت أحمد الشرع أتى في السياق ذاته، بعدما اكتفى الرئيس الفرنسي بالتعبير عن تمنياته “أن يستجيب المسار الذي أطلقته السلطات المؤقتة إلى تطلّعات الشعب السوري”، كما تناول البيان ضرورة الاستمرار في مكافحة الإرهاب، مؤكداً “ولاء فرنسا للقوى الديمقراطية السورية”، واستعدادها لمواكبة المسار الانتقالي السوري تحت هذه العناوين.
في حديث إلى موقع “درج”، أشار الباحث المتخصص في الجغرافيا السياسية دافيد ريغوليه – روز إلى أن تنظيم هذا المؤتمر يعكس “الاعتراف الدولي بالواقع السياسي الجديد في سوريا منذ سقوط نظام الأسد”.
الدعم “كي تنهض سوريا”
واستناداً إلى ما أُعلن حتى الساعة، تشير الصحافية في جريدة “ليبراسيون” هالة قضماني، إلى أن الغاية من المؤتمر هي توفير الدعم “كي تنهض سوريا”، كما المراهنة على إرساء “نظام منفتح”. وتقول قضماني في حديثها ل”درج”: “الموضوع الأساسي الذي بالإمكان التطرّق إليه خلال انعقاد المؤتمر، هو رفع العقوبات الاقتصادية المفروضة على سوريا، لا سيما على صعيد قطاعي الطاقة والمعاملات المالية، فالنيات موجودة، لكن ما من شيء ملموس حتى الساعة”.
يتّفق دافيد ريغوليه – روز مع ما أدلت به قضماني: “ما يمكن انتظاره من المؤتمر، هو الرفع المحتمل للعقوبات، تمهيداً لانطلاق مسار إعادة إعمار هذا البلد المدمر”. ريغوليه – روز، وهو صاحب كتب ودراسات تناولت إشكاليات منطقة الشرق الأوسط، أوضح لموقع “درج” أن “الأهم من التساؤل حول رفع العقوبات من عدمها، هو معرفة هل ستكون مشروطة و/أو خاضعة لجدول زمني ما”.
سفير فرنسا السابق في سوريا ميشال دوكلو أكّد بدوره أن “التوصل إلى آلية لرفع العقوبات”، تندرج ضمن التحدّيات التي سيتعين على المؤتمر بحثها، إذ تعيق العقوبات المذكورة تدفّق الاستثمارات، نظراً للقيود المفروضة على القطاع المصرفي، وقال لموقع “درج”: “التوصل إلى نتائج عملية على هذا الصعيد، رهن بموقف الولايات المتحدة الأميركية”.
برأي دوكلو، يواجه المؤتمر تحدّيين إضافيين: الأول هو تأكيد منهجية التفاهم القائمة بين القوى الإقليمية المؤثرة في المشهد السوري، لا سيما تركيا والدول الخليجية: “حتى الساعة لم تلعب أي من هذه القوى دوراً سلبياً على غرار ما جرى في السودان أو ليبيا، حين ساندت أطراف خارجية عدداً من المجموعات المسلّحة، مما أجّج النزاعات الداخلية المسلّحة. وعليه يُفترض تكريس آلية العمل المشتركة تلك، خلال المؤتمر”.
أما التحدّي الأخير، بحسب دوكلو، فيتلخّص في الحوار مع السلطات السورية المؤقتة، للحصول على ضمانات تتعلّق بالمرحلة الانتقالية، فموقف أحمد الشرع ما يزال مبهماً، حيال معالم تلك المرحلة أو جدولها الزمني. نقطة تناولتها قضماني، إذ وجدت في تدفّق الوفود إلى سوريا دليلاً على تفاهم دولي بمنح أحمد الشرع “ثقة مشروطة”.
انعقاد المؤتمر في باريس، يطرح بدوره تساؤلاً حول موقع الدبلوماسية الفرنسية ودورها في المشهد السوري المستجد.
قضماني أوضحت أن الرئيس الفرنسي يهوى استضافة هذا النوع من المؤتمرات، التي تعكس مكانة فرنسا القادرة على حشد الجهود الدولية لحل الأزمات. وإلى جانب تصدّرها المشهد، تسعى فرنسا إلى تعزيز نفوذها في الشرق الأوسط اقتصادياً وسياسياً ودبلوماسياً.
اتصالات بين ماكرون والشرع
“سعي فرنسا إلى تأكيد دورها في سوريا والمنطقة”، تجسّد أيضاً في الاتصال الهاتفي بين إيمانويل ماكرون وأحمد الشرع، ليصبح أول رئيس غربي يتواصل مباشرة مع الشرع، رغم علامات الاستفهام المطروحة حيال ماضي الرجل، بحسب دافيد ريغوليه – روز. بالمقابل توقّف الباحث الفرنسي عند تعامل باريس الحذر مع هكذا شخصية، حذر مردّه إلى “الرغبة في تجنّب الإيحاء بشرعنته، فالتساؤلات حيال نواياه الفعلية وحقيقة تحوّله الأيديولوجي ما تزال قائمة”.
في هذا الإطار يُذَكِّر ميشال دوكلو، الذي يشغل حالياً منصب المستشار الخاص في معهد مونتين، أن بلاده لم تسعَ إلى تطبيع علاقاتها مع نظام بشار الأسد، مما ترك أثراً إيجابياً في نفوس السوريين، بالرغم من تحفّظهم على “التلكؤ الغربي في التصدّي للنظام الساقط”. بالتالي “تصدّر تركيا والسعودية للمشهد السوري لن يطيح بالحضور الفرنسي، فالسوريون يثقون بالخبرات الفرنسية، ما يؤهلهم إلى حجز موقع في عدد من القطاعات”.
برأي قضماني، العلاقات الجيدة التي تربط فرنسا بدول الخليج الداعمة للشرع من جهة، وعدم وجود تعارض مع الجانب التركي من جهة أخرى، سيساعد باريس على أداء دور في سوريا، خاصة مع وجود رغبة غربية – أوروبية بالتأثير في المشهد السوري إلى جانب التأثير العربي الإسلامي، ما قد يساهم في الدفع باتجاه مسارات سياسية أكثر انفتاحاً.
لكن وفي ظل التحوّلات التي تشهدها منطقة الشرق الأوسط، يرفع دوكلو شعاري “التواضع والواقعية”. برأيه من الطبيعي أن ينصبّ الاهتمام الفرنسي على سوريا ولبنان: “صحيح أن الدبلوماسية الفرنسية هي لاعب من ضمن آخرين، لكن بوسع باريس أن تكون حاضرة في هاتين الدولتين أكثر من الملف الفلسطيني- الإسرائيلي مثلاً”، وفقاً لدوكلو. وعلى مبدأ المقارنة، اعتبر السفير الفرنسي السابق أن “أهمية سوريا ولبنان بالنسبة إلى فرنسا تتخطّى أهميتهما بالنسبة إلى الولايات المتحدة، ما يفسّر الاندفاعة الفرنسية”، ليختم حديثه إلى “درج” بالقول: “حتى تتمكن فرنسا من حجز موقع لها، عليها التخلّص من خرافة تراجع نفوذها في تلك المنطقة”.
رأي لا يؤيده دافيد ريغوليه – روز، الذي بدا أقل تفاؤلاً حيال حجم الدور الذي يمكن لفرنسا أن تلعبه “فرنسا تواجه صعوبة الاعتراف بأنها لم تعد تلك القوة العظمى التي كانت عليها في بلاد الشام”، مضيفاً “فرنسا أضحت قوة متوسطة الحجم بإمكانات محدودة”.
– صحافي لبناني
درج
———————————–
آغورا: كيف نُقيّم أداء الإدارة السورية الجديدة حتى الآن؟
ما هي أكثر القرارات أو التصريحات التي استوقفتك إيجاباً أم سلباً؟ ولماذا؟
حلا الحميدان، عمر البم، هيفي نوح، فاطمة حاج موسى، سلطان الحلبي، جود خلف، رام الأسعد
تحديث 12 شباط 2025
في كل حلقة من حلقات آغورا، نتوجّه لستة أشخاص من المهتمين والمهتمات بالشأن السوري العام بسؤال مُوحَّد، سياسي أو اقتصادي أو اجتماعي، ونَنسجُ من أجوبتهم المختلفة مادة تُبرز نقاط الالتقاء والافتراق، وتحاول أن تترك النقاش مفتوحاً ليُفكِّرَ ويتفاعلَ معه قُرّاء آخرون إن أحبوا. ولمعرفة أصل كلمة آغورا، بإمكانكم العودة إلى الحلقة الأولى هنا.
في هذه الحلقة، نتوّجه بسؤالنا إلى مجموعة من متابعي الجمهورية ومراسليها من الجيل الشاب، من المقيمين داخل سوريا والمتوزعين على مناطق مختلفة فيها. تكتب لنا حلا الحميدان من دمشق وجود خلف من حلب، رام الأسعد من طرطوس وفاطمة الحاج موسى من إدلب، هيفي نوح من القامشلي وسلطان الحلبي من السويداء، بالإضافة إلى عمر البم الذي يتنقّل حالياً كما كثير من الصحفيين بين إدلب ودمشق.
أما السؤال الذي اخترناه فهو:
صدرت عن الإدارة السورية الجديدة حزمة من القرارات والتصريحات منذ 8 كانون الأول 2024، ما هو أكثر ما استوقفك منها ولفت نظرك، سلباً أو إيجاباً؟ ولماذا؟
المسألة الأمنية العسكرية
اتفق جميع المشاركين تقريباً أن الجانب الإيجابي الأبرز في قرارات وتصريحات الإدارة الجديدة يرتبط بالجانب العسكري، وتحديداً حَلّ جيش النظام، وتوحيد سلاح الفصائل، وإلغاء الخدمة الإلزامية، وفتح باب التسوية لمن لم تتلطخ أيديهم بالدماء.
بالنسبة لـ حلا الحميدان، تكمنُ أهمية هذا القرارات في تعزيز الأمن وتَجنُّب هدر الدم السوري وضرورة حصر السلاح بيد الدولة. تُثمِّنُ حلا أيضاً الانفتاح على عَرض الأردن بتدريب الجيش السوري، لما يعنيه هذا من تغليب المصلحة السورية المستقلة على حساب التجاذبات والمحاور الإقليمية. أما بالنسبة لسلطان الحلبي، فإلغاء الخدمة الإلزامية «يكاد يكون القرار الوحيد الذي يدعمه بشدة»، لأنه أزاح عوائق أمنية كبيرة من على كاهل شريحة واسعة من الشباب السوري، ومن بينهم سلطان نفسه.
أما هيفي وعلى الرغم من تقييمها الإيجابي لتوحيد السلاح مبدئياً، فتوقفت عند الانتهاكات التي تم ارتكابها من قبل بعض الفصائل العسكرية، وتصفيتها لشخصيات من النظام السابق دون مُحاكمات.
المسألة الاقتصادية والهموم المعيشية
في مقابل المسألة الأمنية التي كادت تحظى باجماع إيجابي، برزت المسألة الاقتصادية والهموم المعيشية بصفتها موضوعاً إشكالياً وغير مُطمئِن حتى الآن.
ففي حين ثَمّنَ عمر البم بعض تصريحات الإدارة الجديدة بخصوص العدالة الاجتماعية، وأثنت هيفي نوح على مسألة إعادة الأملاك المسلوبة لأهلها، اتَّفقَ كلٌّ من حلا وفاطمة ورام وسلطان أن الكثير من القرارات والتصريحات المتعلقة بالشأن الاقتصادي تبدو غير مدروسة ومتناقضة وتعكس شيئاً من التخبط.
تساءل سلطان إذا كانت الدولة قادرة بالفعل على زيادة الرواتب بنسبة 400% كما صَرَّحت الحكومة، والتعامل مع التضخم الجنوني الذي يمكن أن ينتج عن هكذا زيادة، وتوقفت حلا عند كلام وزير التجارة الداخلية ماهر خليل الحسن عن اكتفاء سوريا الذاتي من القمح في وقت لا تزال فيه الجزيرة السورية تحت سيطرة قسد. وانتقدت فاطمة آثار توحيد التعرفة الجمركية المفاجيء على الأسعار في إدلب، وما تبعه من إضراب للتجار في المنطقة.
رام الأسعد ركَّزَ بشكل خاص على إعادة هيكلة القطاع الوظيفي الحكومي، والتصريحات حول رفع الدعم الحكومي. القطاع الحكومي يحتاج طبعاً إلى إصلاح، حسب رام، لما يُعانيه من ترهُّل إداري، وبطالة مقنعة، وانتشار الفساد والمحسوبيات، وهو ما يشكل عبئاً هائلاً على خزينة الدولة. ولكن الخوف يكمن في سرعة التنفيذ وضبابية الآليات والمعايير الضابطة له، وفي التداعيات الاجتماعية لهذه العملية. فبدون بدائل معيشية واضحة وقطاعات اقتصادية مُنتِجة، سيؤدي تسريح عدد كبير من الموظفين إلى ارتفاع معدلات البطالة والفقر، وسيخلق جيشاً من العاطلين عن العمل في مناطق فيها توترات اجتماعية وطائفية أصلاً، ولا سيما في الأرياف. هذا سيُهدّد الاستقرار الاجتماعي ويزيد من مشاعر التهميش وقد يدفع نحو المزيد من الانفلات الأمني.
الأولوية يجب ألّا تكون لرفع الدعم الحكومي، حسب وجهة نظر رام، بل توجيه هذا الدعم نحو القطاعات المنتجة لتدور عجلة الاقتصاد، بما يضمن عدم تَركُّز الثروة مجدداً في يد فئة صغيرة جداً من حيتان الاقتصاد وأمراء الحرب.
بنية الحكومة وخطابها العام
أما على صعيد بنية الحكومة وخطابها بشكل عام، فوحده عمر كان إيجابياً على العموم، مُثمِّناً عدم اتخاذ أي قرار بسرعة كبيرة، باستثناء القرار بحماية السجون والمراكز الأمنية والذي أدى التباطؤ فيه لضياع الكثير من المعلومات الثمينة.
أما الآخرون فكانوا أكثر حذراً في إطلاق أحكام إيجابية أو سلبية بالمُطلَق.
اختلف سلطان وهيفي في تقييمهما لكون الحكومة حكومة «لون واحد». سلطان أكَّدَ إنه يوافق على هذا لأن الحكومة لها تجربة في العمل الجماعي المؤسساتي، ولأن البلد في الوضع الراهن لا يحتمل المحاصصة وما تهدره من وقت. أما هيفي فلا تعتقد أن نموذج حكومة إدلب يمكن استنساخه بحذافيره لكل سوريا، وأن المناصب لا يجب أن تنحصر في دائرة ضيقة من المقربين من أحمد الشرع. أما ما اتّفقَ عليه سلطان وهيفي فهو أنه، وبغض النظر عن كل شيء، شخصيةٌ مثل وزير العدل شادي الويسي يجب ألا تبقى في الحكومة.
على صعيد التصريحات أيضاً، اختلفت آراء حلا وفاطمة. ثمّنت حلا كلام أحمد الشرع عن ضرورة الحفاظ على السلم الأهلي، وتأكيده على أن تحرير سوريا تم بفضل كل المناضلين داخل وخارج سوريا، لأن هذا في رأيها يشكل رداً مناسباً على من يحاول احتكار إنجاز التغيير السياسي وقمع الآخرين وحق الناس في نقد الحكومة. أما فاطمة، وعلى الرغم من تَفهُّمها مسألة الانتقال من منطق الثورة إلى منطق الدولة، فتقول إنها كابنة لمنطقة إدلب التي قدمت الكثير من التضحيات غير مستعدة للتخلي عن توّجسها من أي سلطة كانت، طالما أن حقوقها كمواطنة سورية لا تزال غير مُحصَّنة بالكامل.
التعليم والمناهج
وأخيراً ركَّزَت جود خلف على مسألة التعليم، وبالتحديد على قرار تعديل المناهج الدراسية الذي صدر عن وزير التعليم في حكومة تسيير الأعمال نذير القادري، والذي شملَ مواد مثل العلوم الطبيعية والتاريخ واللغة، إلى جانب التربية الوطنية والديانة الإسلامية.
حسب جود، أنكر القادري كون التعديلات شملت أي مادة باستثناء التربية الوطنية والديانة الإسلامية، ولكنه في الواقع لم يوجّه أي كتاب رسمي آخر للمدارس، وما تزال التعديلات الأخرى موجودة وعلى رأسها إلغاء نظرية التطور من مناهج العلوم باعتبارها «مغلوطة وغير مُثبَتة». ألا يتجاوز تعديل كهذا صلاحيات حكومات تسيير الأعمال؟ من هي اللجنة المسؤولة عن هذه الإجراءات كي نعرف إن كانت تملك المؤهلات العلمية والتربوية للقيام؟ وألا يجب أن يتم تحييد مسألة التعليم التي تخص مستقبل المجتمع السوري بأسره عن إيديولوجيا السلطة الحاكمة؟
تختم جود بأن المدارس الحكومية الآن تقوم بتدريس كُتيّب سلفي جهادي غريب يدعى «قيمة النصر على أرض الشام»، وأن هذا بقي حتى الآن بعيداً عن وسائل التواصل الاجتماعي، لكنها اطّلعت عليه شخصياً بعد أن قامت إحدى المُدرِّسات بمشاركتها الكُتيّب.
موقع الجمهورية
————————————
الحدود السورية اللبنانية بين المواجهات العسكرية وشبكات التهريب
11 شباط/فبراير ,2025
أولًا: المقدمة
تشهد المنطقة الحدودية بين سورية ولبنان تصاعدًا ملحوظًا في التوترات الأمنية، حيث اندلعت مواجهات بين الجيش السوري ومجموعات التهريب المحليّة المدعومة من “حزب الله”، أسفرت عن سقوط قتلى وجرحى، إضافة إلى اختطاف عنصرين من الجيش السوري، تمّ تحريرهما لاحقًا. وتأتي هذه الاشتباكات في إطار عملية عسكرية واسعة النطاق، أطلقتها الحكومة السورية بهدف استعادة السيطرة على كامل الجانب السوري من الحدود، وذلك بعد سنوات من الفوضى التي سمحت لشبكات التهريب بالعمل بحرية، مستفيدةً من التضاريس الجغرافية الوعرة والتداخل الحدودي بين البلدين، في ظلّ التعقيدات السياسية، والاجتماعية، والأمنية التي تتسم بها هذه المنطقة. وتركزت المواجهات في الريف الغربي لمنطقة القصير، التي تُعدّ واحدة من أكثر المناطق الحدودية السورية-اللبنانية تعقيدًا، من الناحيتين الديموغرافية والجيوسياسية، وتتميز هذه المنطقة بتركيبة سكانية مختلطة، حيث تتداخل القرى ذات الغالبية السنية والشيعية، ويقطنها سكان من السوريين واللبنانيين، مما جعلها ساحة مفتوحة للتجاذبات الطائفية والسياسية. وبالتوازي مع هذه العمليات، عزز الجيش اللبناني انتشاره في المناطق الحدودية، في محاولةٍ للحدّ من تدفق المهربين إلى الداخل اللبناني. ومع ذلك، يظل التساؤل قائمًا حول مدى قدرة الجيشين على فرض سيطرتهما.
تهدف هذه الورقة إلى تحليل طبيعة الاشتباكات الدائرة، واستعراض تداعياتها المختلفة، واستشراف السيناريوهات المحتملة لمستقبل المنطقة، في ظل استمرار التوترات الأمنية بين الأطراف الفاعلة.
ثانيًا: شبكات التهريب والاقتصاد غير الشرعي في المنطقة
بعد معركة القصير عام 2013، التي انتهت بسيطرة جيش النظام السوري وحزب الله على المنطقة، شهدت القرى السنّية عمليات تهجير قسري، وأصبحت القرى الشيعية مراكز نفوذ لحزب الله، ومع تفاقم الأزمة الاقتصادية في كلٍّ من سورية ولبنان، زادت عمليات التهريب عبر الحدود، خاصة تهريب المخدرات (الكبتاغون)، الأسلحة، المحروقات، والسلع التجارية، مستفيدةً من الطبيعة الجغرافية الوعرة للمنطقة، التي تجعل من الصعب فرض سيطرة أمنية كاملة عليها.
عزز حزب الله نفوذه على المعابر غير الشرعية، ما جعله لاعبًا رئيسيًا في ديناميكيات التهريب، حيث تحوّلت المنطقة إلى شبكة معقدة من المسارات غير الشرعية يديرها تجار ومهربون محليون، بدعم من جهات سياسية وعسكرية، وتشير التقارير الأمنية إلى أن أبرز الفاعلين في عمليات التهريب ينتمون إلى عائلات معروفة في المنطقة، مثل آل زعيتر، آل جعفر، آل دندش، وآل نون.
ومع ازدياد نفوذ حزب الله في سورية، لعب دورًا مركزيًا في تأمين طرق التهريب والإشراف عليها، مستفيدًا من العائدات المالية لهذه العمليات في دعم أنشطته، وقد مثّلت منطقة القصير وأريافها أحد مراكز نفوذ الحزب، وجعلها ذلك عرضةً لغارات إسرائيلية مكثفة عام 2023، استهدفت مستودعاته ومواقعه، وهو ما يعكس أهميتها الاستراتيجية، ومن أبرز مظاهر التهريب، تجارة الكبتاغون، حيث أصبحت منطقة القصير محطة رئيسية لإنتاج وتوزيع هذه المواد المخدرة، وهو ما أكدته عمليات ضبط مستودعات ضخمة من قبل قوات الأمن السورية.
ثالثًا: إطلاق الجيش السوري حملة عسكرية لتعزيز سيطرته على الحدود
أطلقت الحكومة السورية حملة عسكرية واسعة تهدف إلى إغلاق المعابر غير الشرعية، وملاحقة المهرّبين، وتعزيز نقاط المراقبة الحدودية. وقد كلّفت قيادة الجيش السوري الجديد الفرقةَ 103 بهذه المهمة، حيث بدأت عمليات التمشيط من بلدة (حاويك)، نظرًا لموقعها الاستراتيجي كأحد مراكز التهريب الحيوية.
خلال هذه العملية، استخدمت القوات السورية أسلحة ثقيلة، من ضمنها المدفعية، والرشاشات الثقيلة، وطائرات شاهين المسيرة، لاستهداف مواقع المهرّبين في المناطق الجبلية المرتفعة، وأدى ذلك إلى اندلاع اشتباكات عنيفة، أسفرت عن أسر عنصرين من الجيش السوري، أحدهما أصيب بجروح خطيرة، قبل أن يتم تحريرهما لاحقًا، بوساطات محلية ودولية.
وعلى الرغم من هذه الجهود، لا تزال شبكات التهريب قادرة على التكيف مع التغيرات الأمنية، عبر إيجاد مسارات بديلة واستخدام تقنيات أكثر تطورًا لتجنب الرقابة، وخاصة في منطقة القصير بفضل موقعها الجغرافي، وهي إحدى النقاط الاستراتيجية التي لا يمكن القضاء على أنشطة التهريب فيها بسهولة، حيث تتداخل العوامل الأمنية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية في تشكيل واقعها الحالي، واستمرار التهريب في هذه المنطقة، رغم الحملات الأمنية المتكررة، يشير إلى أن الحل لا يمكن أن يكون عسكريًا فقط، بل يتطلب مزيجًا من الإجراءات الأمنية المشددة، والتنسيق مع الجانب اللبناني، وخلق بدائل اقتصادية تقلّل من اعتماد السكان المحليين على التهريب كمصدر للدخل.
رابعًا: السيناريوهات المستقبلية
في ضوء التحديات الأمنية والاقتصادية التي تواجه المناطق الحدودية بين سورية ولبنان، تبرز الحاجة إلى تبني نهج شامل يعالج جذور الأزمة، بدلًا من الاقتصار على الحلول العسكرية التقليدية، حيث يُعدّ التعاون الأمني الوثيق بين دمشق وبيروت أحدَ الركائز الأساسية لضبط الحدود، حيث يمكن للجان أمنية مشتركة تعزيز عمليات المراقبة وتبادل المعلومات الاستخباراتية حول شبكات التهريب، مما يُسهم في تحسين الاستجابة للحوادث الحدودية والحدّ من الأنشطة غير المشروعة، وصولًا إلى تعزيز الاستقرار في المنطقة، وتحقيق نهج متكامل لمكافحة التهريب، ولن تكون الإجراءات العسكرية وحدها كافية لمكافحة التهريب، بل يجب أن تتكامل مع استراتيجيات أكثر شمولية تستهدف تفكيك هذه الشبكات تدريجيًا. يشمل ذلك: جمع المعلومات الدقيقة عن قادة شبكات التهريب، وفرض ملاحقات قانونية صارمة تتضمن عقوبات رادعة، والتوعية المجتمعية بمخاطر التهريب وانعكاساته السلبية على الاقتصاد والأمن المحلي.
وفي ظلّ هذه التحديات، تتباين السيناريوهات المستقبلية بين الحلول الدبلوماسية، والمواجهات العسكرية، واستمرار الوضع الراهن، حيث يحمل كل سيناريو تداعيات مختلفة على المشهد الأمني والسياسي في المنطقة.
السيناريو الأول: الحلول الدبلوماسية وتعزيز التعاون الأمني
إذا نجحت الوساطات المحلية في احتواء الأزمة عبر المفاوضات، فمن المحتمل أن يؤدي ذلك إلى تعزيز سيطرة السلطات السورية الجديدة، وسيتم تكثيف الجهود لضبط الحدود عبر آليات مشتركة بين الجيشين السوري واللبناني، وسيسهم ذلك في الحد من عمليات التهريب، مع توفير بدائل اقتصادية للسكان المحليين الذين يعتمدون على هذه الأنشطة كمصدر رئيسي للدخل، وقد يُسهم هذا السيناريو، على المدى الطويل، في تحقيق استقرار نسبي، لكنه يظل هشًا نظرًا لاحتمالية بقاء بعض الشبكات غير النظامية ناشطة في مناطق متفرقة.
السيناريو الثاني: تصعيد المواجهات العسكرية
قد يؤدي التصعيد العسكري إلى تفكيك جزئي لشبكات التهريب، لكنه سيخلق في المقابل حالة من عدم الاستقرار الأمني، خاصة إذا تدخل حزب الله بشكل مباشر لحماية مصالحه، وهذا التدخل قد يُوسّع نطاق المواجهات ليشمل الداخل اللبناني، مما يزيد من تعقيد العلاقة بين الجيشين السوري واللبناني، ويؤدي إلى تدخل جهات إقليمية ودولية لضبط الأوضاع، وينعكس سلبًا على المجتمعات الحدودية، مما يفاقم موجات النزوح وتراجع النشاط الاقتصادي.
السيناريو الثالث: استمرار الوضع الراهن
إذا استمر الوضع من دون حسم عسكري أو تسوية سياسية، فسيظل التهريب مستمرًا، لكن بأساليب أكثر تطورًا وسرية، ما يعني إعادة تشكيل شبكات التهريب لتكيّف نفسها مع الظروف الأمنية الجديدة، وقد يؤدي هذا السيناريو إلى زيادة الضغط على السلطات السورية الجديدة، التي ستكون مطالبة بتكثيف جهودها الأمنية لمنع تفاقم الفوضى، وتفاقم التحديات الاقتصادية والاجتماعية للسكان المحليين، مما قد يرفع معدلات الفقر والبطالة، ويدفع القوى الدولية إلى فرض سياسات أو عقوبات تستهدف الجهات المتورطة في التهريب، مما يزيد من تعقيد المشهد السياسي في المنطقة.
خامسًا: الخاتمة
في ضوء التعقيدات الأمنية والسياسية التي تحكم الحدود السورية-اللبنانية، يبقى مستقبل المنطقة رهنًا بمزيج من العوامل الداخلية والإقليمية التي تحدد مسار الأحداث، فبينما تحاول السلطات السورية الجديدة فرض سيطرتها على المناطق الحدودية، من خلال عمليات عسكرية وأمنية، تظل شبكات التهريب قادرة على التكيف وإعادة هيكلة عملياتها، مستفيدةً من الامتداد الجغرافي والعلاقات المتشابكة مع الفاعلين المحليين والإقليميين. في المقابل، يشكّل التعاون بين الجيشين السوري واللبناني فرصةً مهمّةً لضبط الحدود، لكنه يواجه تحديات مرتبطة بتباين المصالح السياسية والأمنية لكلا البلدين.
على المدى القريب، قد تتسبب أي مواجهة عسكرية واسعة في زعزعة الاستقرار في المنطقة، ولا سيما إذا ما قرّر حزب الله التدخل لحماية نفوذه وشبكاته، إذ قد يؤدي ذلك إلى تصعيد يمتدّ إلى الداخل اللبناني. وعلى الرغم من أن التسوية السياسية تبدو الخيار الأكثر واقعية لضبط الأوضاع، فإن نجاحها يعتمد على مدى استعداد الأطراف المحلية والإقليمية لتقديم تنازلات متبادلة تضمن توازن المصالح.
أما على المدى البعيد، فإن إنهاء اقتصاد التهريب لن يتحقق عبر الإجراءات الأمنية وحدها، بل يتطلب حلولًا اقتصادية وتنموية مستدامة، تعزز فرص العمل وتوفّر بدائل مشروعة للسكان المحليين، إلى جانب تطبيق سياسات رقابية أكثر صرامة على حركة السلع والأفراد عبر الحدود، وفي ظل استمرار الضغوط الدولية لمكافحة تهريب المخدرات والأسلحة، قد تتزايد التدخلات الخارجية في المنطقة، من خلال دعم الأجهزة الأمنية، أو عبر فرض عقوبات تستهدف الجهات المتورطة في عمليات التهريب.
مركز حرمون،
——————————————
الحدود اللبنانية السورية: تنظيف مخلفات “نظام” التهريب والمروق/ بتول يزبك
الأربعاء 2025/02/12
تشهد المناطق الحدّوديّة بين لبنان وسوريا تطوّرات بالغة الحسّاسيّة، في ظِلّ ما يُوصف بمحاولة إعادة رسم لموازين القوى الإقليميّة والدوليّة. تتلاقى إرادة دوليّة مع مصالح إقليميّة لترتيب واقعٍ جديدٍ على الأرض، تنعكس أبرز تجلّياته على خطوط التماسّ الحدودية بين البلدين، حيث شهدت الأيّام الأخيرة اشتباكاتٍ عنيفة ومناوشات متكرِّرة، أسهمت في تأجيج الخلافات القديمة حول مشكلات التهريب والسّيطرة الأمنيّة. وتتركّز هذه التحوّلات في منطقة البقاع الشماليّ، الّتي تُعَدّ تاريخيًّا أكثر ارتباطًا بسوريا من ارتباطها بباقي المناطق اللّبنانيّة، وصولًا إلى ما يشبه مسعى لتكريس حدودٍ سياسيّة جديدة، تجعل حزب اللّه فعليًّا بين نهرَي الليطاني والعاصي في المعادلة الداخليّة، بحسب توصيف بعض المتابعين.
تراكمت التوتّرات الميدانيّة خلال الأيّام الماضية على امتداد الشريط الحدّوديّ الذي لم يُرسَم رسميًّا بين البلدين. إذ اندلعت اشتباكات عنيفة بين قوّات تابعة للإدارة السوريّة الجديدة وبعض العشائر اللبنانيّة المقيمة في الهرمل ومحيطها، فضلًا عن مجموعات مرتبطة بحزب اللّه. وظهرت معالم صراع ميدانيّ لتثبيت سيطرة الدولة السوريّة على المناطق الحدّوديّة من جهتها، بينما بدا الوضع في الداخل اللبنانيّ محفوفًا بالقلق من توسّع هذه الاشتباكات، خصوصًا أنّ الكثير من القرى المتاخمة للحدود تضمّ لبنانيّين يعيشون رسميًّا ضمن الأراضي السوريّة منذ عقود طويلة، ويتنقّلون بحرّية تامّة بين الجانبين.
روابط تاريخيّة
التداخل السكّاني بين بعلبك–الهرمل والأراضي السّوريّة ليس وليد السنوات الأخيرة، بل يمتدّ إلى حقبة ما قبل ولادة الدولتين، حين كانت أسواق حمص ودمشق والقلمون تشكّل بوّابة اقتصاديّة واجتماعيّة أقرب إلى سكّان البقاع الشمالي من بيروت. استمرّ الارتباط الثقافيّ والعائليّ والتجاريّ حتّى ما بعد استقلال لبنان عام 1943، ثمّ تجذّر أكثر إبّان الوصاية السوريّة على لبنان. ورغم انسحاب الجيش السوري عام 2005، لم تنكسر العلاقة الشعبيّة على مستوى العشائر والعائلات، وإن مال المزاج الانتخابيّ صوب حزب اللّه.
لكنّ اندلاع الثورة في سوريا في العام 2011، وانزلاق الأحداث إلى مواجهات مسلّحة، أوجد شرخًا واضحًا في هذه الروابط، بعدما اعتبر البعض في البقاع الشماليّ أنّ الثورة السوريّة تمثّل تهديدًا للطائفة الشيعيّة في سوريا ولبنان. وازداد الشرخ عمقًا مع تضخّم ملف اللاجئين السوريّين وانتشار بروباغندا التضليل من مختلف الجهات.
من الناحية الاجتماعيّة، أثّر تباين النظرة إلى الحرب السوريّة على النسيج المشترك بين العشائر في البقاع الشماليّ والسكّان من السّوريّين. ولم تعد العلاقة قائمة على المصالح المشتركة والتنقّل الحرّ فحسب، بل بدأت تنحو باتجاه العداء والتوجّس، وصار كلّ طرف يتوجّس من الآخر. ومع تصاعد دور حزب اللّه عسكريًّا في الداخل السّوريّ، تبدّل ميزان القوى الميدانيّ من خلال إحكام قبضته على بعض المعابر الحدّوديّة واحتكار عمليّات التهريب، لتصبح البقاع قِبلةً لأنشطة تهريب تتضمّن السلاح والمخدّرات والسّلع المختلفة، بعلم الأطراف المستفيدة من الوضع الأمنيّ الهشّ وانكفاء أجهزة الدولة عن الضبط الجدّي.
تحرّك رسميّ
تدخّل الجيش اللّبنانيّ في الأيّام الماضية عقب استهداف مناطق لبنانيّة بقذائف من الجانب السّوريّ. زُجَّت تعزيزات كبيرة إلى بعض النقاط القريبة من القاع، فيما صدرت أوامر واضحة للوحدات العسكريّة بالردّ الفوريّ على أيّ مصدر للنيران يأتي من الحدود السوريّة. حصل تنسيق مبدئيّ بين الرئيس اللبناني جوزيف عون ونظيره السوري أحمد الشرع، أفضى إلى محاولة ضبط الإشكالات الميدانيّة عبر التهدئة ومراعاة الجانب الإنسانيّ لسكّان الحدود، لكنّ الاشتباكات توسّعت بعد حوادث خطفٍ متبادلة بين مجموعات مسلّحة من العشائر وقوّات الأمن السّوريّ، ما أجبر الجيش اللّبنانيّ على اتّخاذ إجراءات دفاعيّة صارمة لاحتواء الموقف.
والحال، أن الحكومة اللبنانيّة لا ترغب، وفق أوساطها الرسميّة، بالتورّط في نزاع مفتوح مع دمشق، وتسعى للإبقاء على ما تبقّى من قنوات الثقّة من أجل ترسيم فعليّ للحدود وإنهاء حالة التسيّب الّتي يستغلّها المهرّبون وتجّار الأسلحة. لكنّ هذا الخيار يفرض ضرورة الإمساك بزمام الأمور أمنيًّا على الأراضي اللبنانيّة أولًا، وهو ما لم يتحقّق تاريخيًّا منذ الاستقلال، لأسباب تتعلّق بعجز الدولة المزمن في تلك المناطق وتداخل النفوذ العشائري والأهلي مع مصالح جهات نافذة، فضلًا عن استفادة النظام الأسديّ المخلوع من هذا التسيّب وتسيير أمور اقتصاد التهريب الملتويّ الذي كان مفتوحًا على مصراعيه.
في المقابل، تشي خطوات الإدارة السوريّة الجديدة برغبة في توجيه رسائل حازمة للجهات الإقليميّة والدوليّة حول قدرتها على ضبط حدودها، وكأنّها تحاول إثبات أنّها ما زالت دولة قائمة وقادرة على التحكّم بمداخلها الغربيّة، وسط تساؤلات داخليّة حول مدى امتلاكها القدرات الفعليّة لاستعادة كلّ مفاصل السلطة، وإلى أيّ حدّ تتعارض هذه الرغبة مع مصالح إيران وحزب اللّه، اللذين تواجدا عسكريًّا في سوريا طوال سنوات الحرب.
جهات دوليّة عدّة لا تبدو مستفيدة مباشرة من تصعيد قد يتفاقم على نحو يهدّد الاستقرار الهشّ في المنطقة، بينما يُحتمل أن تكون جهات محسوبة على النظام السوري السابق أو إيران مستعدّة لاستثمار هذه التوتّرات. لا يزال حزب اللّه يبرّر احتفاظه بسلاحه بمواجهة التهديدات، مستفيدًا من أيّ توتّر لاستعراض قوّته ودوره في حماية مناطق نفوذه على جانبي الحدود. وترتبط الأسئلة الكبرى بقدرة الحكومة اللبنانيّة الجديدة على قلب المعادلة وضبط الحدود، عبر إجراءات دبلوماسيّة وأمنيّة واضحة المعالم. ولا يظهر أيّ مسار جدّي حتّى اللحظة لترسيم الحدود على الأرض وتنظيم إقامة اللبنانيّين القاطنين في أراضٍ سوريّة تاريخيًّا، إضافة إلى منع تدفّق السلاح والمخدّرات مع تفعيل حقيقي للتنسيق الأمني.
روايات متباينة
الجهة السوريّة المعنيّة بالضبط الحدّودي، ممثَّلة بإدارة أمن الحدود في سوريا، تصرّ على أنّ عمليّاتها الأخيرة لم تستهدف لبنان، بل إنّها تواجه عصابات تهريب السلاح والمخدّرات التابعة لـ”النظام المخلوع” و”حزب اللّه”. ونقلًا عن المقدّم مؤيّد السلامة، قائد المنطقة الغربيّة في إدارة أمن الحدود، جرى إطلاق حملة تمشيط واسعة لضبط القرى المحاذية للحدود اللبنانيّة، وتحديدًا في حاويك وجرماش ووادي الحوراني وأكوم، حيث تنتشر عصابات التهريب. وفقًا لروايته، باتت تلك العصابات تشكّل تهديدًا لأمن المنطقة، بعد رعايتها تجارة المخدّرات والأسلحة، بالتنسيق مع حزب اللّه. وانتهت الحملة بضبط مزارع ومستودعات ومعامل لتصنيع وتعبئة الحشيش والكبتاغون، فضلًا عن مطابع للعملة المزوّرة، وهي نشاطات اعتُبرت شريانًا اقتصاديًّا لهذه العصابات. وتحدّث السلامة عن تعرّض الوحدات السوريّة لقصف من جانب حزب اللّه، نافيًا أن تكون بلاده قد استهدفت الداخل اللبناني، ومشيرًا إلى أنّ العمليّات ركّزت على تفكيك الشبكات المسلّحة وتشديد الطوق على المعابر غير النظاميّة.
في المقابل، مصادر عسكريّة لبنانيّة رفيعة المستوى تحدّثت إلى “المدن” عن أبعاد تتجاوز قضايا التهريب، إذ جرى الحديث عن ضبط أشخاص كانوا يحاولون تهريب (لم يتمّ تحديد ما نوعية البضائع المهرّبة) إلى هيئة تحرير الشام عبر التسلّل من لبنان إلى سوريا. وأكدّت المصادر أنّه ” لم يحدث اشتباك مباشر بين الجيش الّلبنانيّ وهيئة تحرير الشام. ما حصل هو سقوط بعض القذائف على مناطق لبنانية، فردّ الجيش باستهداف مصادر النيران في الجانب السوري. أصبنا ثلاثة مواقع بدقة، وهذا إجراء طبيعي عندما تُستهدَف الأراضي اللبنانية بأي شكل من الأشكال. وكان هناك أسيران أُطلق سراحهما قبل أيام بوساطة واتصالات معيّنة. نراقب الوضع ميدانيًّا ونساعد في أي خطوات تُسهم في معالجة الملف الإنساني للمدنيين أو المحتجزين، لكنّ دورنا يظلّ محصورًا في حدود ما يسمح به القانون والصلاحيّات الموكلة إلينا. بعض اللبنانيين يقطنون في قرى تقع ضمن الأراضي السورية ويحملون إقامة سورية. مع تصاعد الأحداث، غادر بعضهم بالفعل تلك المناطق. نحن، كجيش لبناني، لا نتدخّل في شؤون أراضٍ تقع خارج الحدود اللبنانية؛ فهذا يتطلب تنسيقًا على المستوى الرسمي بين الدولتَين إذا لزم الأمر. لم نتلقَّ أي إشعار رسميّ مسبق حول عملية عسكرية على الجانب السوري، ولم يُجرَ أي تنسيق معنا في هذا الصدّد”.
شبكات التهريب
ولدى سؤاله عن ضبطٍ لمعامل وعن طبيعة عمل شبكات التهريب، أشار المصدر: “لم نضبط أي معامل كبتاغون في المناطق التي نُشرف عليها داخل لبنان مؤخرًا. صحيح أنّنا أوقفنا في السابق بعض المهرّبين، لكنّ العديد منهم هربوا إلى الأراضي السورية. بالنسبة إلى ما يُشاع عن معامل على الجانب السوري، فهذا أمر يعود للسلطات هناك. أمّا ارتباط الحملة العسكرية بملف الكبتاغون تحديدًا، فلا نملك معلومات مؤكّدة حوله، لكن من الواضح أنّ ملف التهريب عمومًا يشكل هاجسًا أمنيًّا للجانبين. واستحدثنا مراكز إضافية لضبط الحدود بصورة أفضل. بطبيعة الحال، هذه المهمّة تتطلّب مزيدًا من العتاد والعناصر، نظرًا لاتّساع الحدود وتشعّب التضاريس. نقوم بما تمليه علينا واجباتنا ضمن الإمكانيات المتوفّرة، وهناك حاجة دائمة لدعم إضافي لتعزيز السيطرة وتحسين فعالية الإجراءات”.
وتزامنت هذه المستجدّات مع أنباء عن تجفيف موارد تمويل دوليّة وتحديدًا أميركيّة (وقف المشاريع الخارجيّة الممولة أميركيًّا)، ليؤكد المصدر “لم نتلقَّ أي بلاغ رسميّ بهذا الخصوص، والبرنامج الأميركيّ لدعم الجيش اللبناني ما زال قائمًا، بل ثمة مؤشرات على زيادته في الفترة المقبلة. لدينا برامج تمويل وتجهيز مختلفة، وهي مستمرّة. وباعتبار أنّ هناك مهامّ متعدّدة تقع على عاتقنا، نأمل في استمرار الدعم وتعزيزه”.
في جانب آخر، تتضارب الروايات اللبنانيّة والسوريّة حول ما يجري. عشائر الهرمل تتّهم القوّات السوريّة بالتعدّي على المواطنين وطردهم من قراهم التي يقطنون فيها منذ عقود، وحرمانهم من أرزاقهم. هذه العشائر تملك وثائق ملكيّة وإقامات نظاميّة، لكنّ دمشق ترى أنّ وجود هؤلاء في مناطقها كان مرتبطًا بظروف الحرب الأهليّة السوريّة بعد عام 2011، حين غادر سوريّون سنّة بلداتهم في ريف القصير إلى مخيّمات عرسال ومناطق لبنانيّة أخرى، ليحلّ محلّهم لبنانيّون شيعة مدعومون من عشائر كآل زعيتر وعلوه وناصر الدين ودندش وجعفر، انتقلوا للعيش هناك مع وصول حزب اللّه عسكريًّا للدفاع عن النظام السوري.
منذ ذلك الوقت، ترسّخ نفوذ الحزب في القصير ومحيطها، واستفاد النظام السوري من الوجود الشيعي لتعزيز مواقعه أمنيًّا وسياسيًّا واجتماعيًّا. وتفيد معلومات أنّ الإدارة السوريّة الجديدة قرّرت تحريك الجبهة الحدوديّة تحت عنوان “تنظيفها” من المهرّبين وعصابات تهريب السلاح والمخدّرات، تزامنًا مع زيارة الرئيس السوري أحمد الشرع إلى السعوديّة، حيث شكّل تهريب الكبتاغون من هذه المناطق إلى الخليج معضلة أمنيّة واقتصاديّة شديدة التعقيد.
تدفع هذه الإجراءات عائلات شيعيّة كانت قد استوطنت في قرى وبلدات سوريّة إلى مغادرتها والعودة إلى الداخل اللبناني، فيما تمّت اعتقالات طاولت سوريّين سنّة ينتمون إلى الفرقة الرابعة الموالية للنظام السابق، ولبنانيّين اتُّهموا بالتورّط في أنشطة التهريب. تبدو المساحة الممتدّة في حوض العاصي، وتحديدًا في ريف القصير، ساحة أساسيّة لمعارك النفوذ بين الإدارة السوريّة الجديدة وحزب اللّه، وسط محاولات لإعادة صياغة الوضع الديموغرافيّ والأمنيّ.
هل يُحسم الملف؟
إلى الآن، يكتفي الجيش اللبناني بضبط جانبه من الحدود تبعًا لإمكاناته المحدودة. ومع كلّ تصعيد، يقصف مصادر النيران ويدمّر نقاط التهريب، لكن تبقى الأسئلة قائمة حول قدرته على بسط سيطرة شاملة إن لم تدعمه السلطة السياسيّة بقرارات حاسمة وترتيبات واضحة مع الجانب السوري. تحت هذه الظروف، يغدو مستقبل العلاقات اللبنانيّة–السوريّة مرتبطًا بتوازنات معقّدة، تتداخل فيها اعتبارات دوليّة وإقليميّة.
لا أحد يملك إجابة واضحة عمّا إذا كانت هذه الإجراءات ستحسم ملف المهرّبين والمسلّحين على نحو جذريّ أم ستؤدّي إلى صراع موارب قد يتوسّع لاحقًا. وبينما تسعى بعض القوى الإقليميّة والدوليّة إلى تهدئة الأوضاع والتركيز على الحدّ من انتشار المخدّرات والسلاح، قد يستفيد لاعبون آخرون من إطالة أمد التوتّر. وفي ظلّ احتدام الاشتباكات، يبقى هاجس الانزلاق إلى مواجهة أشمل هاجسًا قائمًا، خصوصًا إذا تداخلت التحرّكات العسكريّة بأيّ ترتيبات إقليميّة أكبر تتعلّق بمفاوضات القوى العالميّة حول ملفات المنطقة. هكذا، يستمرّ المشهد ضبابيًّا، ويبقى مصير هذه الرقعة الجغرافيّة رهن الصفقات والتسويات والتفاهمات الّتي قد تعيد رسم الخريطة الجيوسياسيّة في تلك البقعة الحسّاسة من الحدود.
المدن
——————————-
ملاحظات/ حسام القطلبي
شارك اليوم الصديق أسعد العشّي فيديو يتحدث فيه عن قضية مشاركة السيدة ريم تركماني في جهود الحشد السياسي لتجنب انضمام بريطانيا للولايات المتحدة الأميركية وفرنسا في تنفيذ ضربة عسكرية على نظام الأسد كرد فعل دولي على تنفيذ الأخير لهجمات بالسلاح الكيماوي على غوطة دمشق تسببت بمقتل أكثر من ١٣٠٠ مواطن سوري منهم عائلات بأكملها وهم نيام. وقال أنه يعتذر لتركماني على أنه صدّق وتبنّى كلاماً عن مشاركتها في جهود سياسية في مجلس العموم البريطاني في حينه، ثم اتضح له بعد ذلك في العام ٢٠١٩ أن الكلام غير صحيح.
أحال العشّي تبنيه للرواية لصديق مشترك قال أنه نقل في مجموعة فيسبوك في العام ٢٠١٣ أنه كان موجوداً في Side event في مجلس العموم تحدثت فيه السيدة تركماني، وأنه نفسه قد عاد فأخبر العشي في العام ٢٠١٩ أنه كان يكذب وقد اختلق القصة.
كل ما سبق هو شأن الصديق أسعد العشي وعلى ذمته. ولست بعالم بالغيب لأدرك ما الذي دفع به للاعتذار اليوم فقط بعد إدراكه “الحقيقة” منذ ست سنوات.
مفترضاً أن حديث العشي ذو صلة بمطالبتي السابقة للسيدة تركماني أن تعتذر للشعب السوري عن طرحها لاحتمال أن تكون المعارضة السورية هي من استخدمت السلاح الكيماوي في الغوطة، فأنا أريد أن أعلق على فيديو العشّي الأخير بما يلي:
– الصديق المشترك الذي يسميه العشي في رسالته المصورة كان في تلك الفترة على صلة وثيقة بمعظمنا في أوساط نخب الثورة السورية السياسية والثقافية النشطة في الخارج. كنت على تواصل شخصي شبه يومي معه ولم أسمع منه أي حديث عن Side event لريم تركماني في مجلس العموم البريطاني. ولكن الأهم الآن أن العشي يحيلنا لشخص اختفى تماماً في مرحلة لاحقة عن الساحة لأسباب خارجة عن إرادته، والأهم هنا أن العشي يعلم أن هذا الشخص لم يك خلال الأعوام الماضية في وضع متوازن وواعي يسمح بأن يدلي بمعلومة أو أن يستخدمه كمرجعية ومصدر. ويعلم العشي أن زج اسم هذا الشخص هنا ليس سلوكاً نبيلاً. وسأضطر للاكتفاء بهذا حول هذه النقطة لأنه سيكون من غير الأخلاقي الخوض في ظروف خاصة للرجل يعلمها العشي جيداً على ما أتمنى.
الأهم هنا:
– ليس سراً ولا يحتاج لاستدعاء شهادات وقصص غائبين، أن السيدة تركماني كان تشكك بحقيقة أن النظام السوري استخدم السلاح الكيماوي ضد الناس النائمين في بيوتهم. وكانت روايتها ومحاججتها مبنية في حينه على أنه “لم يتم التثبت ممن استخدم السلاح الكيماوي” بما يحتمل أن المعارضة هي من فعل ذلك. هذا الكلام لازال موجوداً في حوارات اذاعية ومصورة باللغة الانكليزية وأوراق منشورة لندوات مراكز تفكير غربية. هنا مثلاً حوار صوتي في اب ٢٠١٣ أي بعد أيام على هجوم الغوطة شارك فيه أيضاً عمر العظم ورد على ادعاء السيدة تركماني في حينه (كلام تركماني في الدقيقة ٣ من الملف الصوتي)
وبإمكان المهتمين أن يبحثوا عن حوارات عديدة أخرى مماثلة كررت فيها السيدة ريم تركماني هذا الإدعاء ولا زالت جميعها متوفرة ضمن المصادر المفتوحة!
– ليس سراً ولا يحتاج لاستدعاء شهادات وقصص غائبين، أن السيدة ريم تركماني شاركت في جلسات Side events نظمها نواب في مجلس العموم البريطاني عن الوضع في سوريا وكانت تشير في كل مرة إلى موقفها الرافض لاستخدام القوة ضد نظام الأسد. وهذه لا تحتاج لضرب في المندل أو شهادات متناقلة، لأن العشي وتركماني يعلمان جيداً أننا نعيش في بلاد تحفظ حق المعرفة والوصول للمعلومة. وبالتالي فإن جلسات كهذه تنشر على موقع مجلس العموم نفسه مصورة ومكتوبة. وهنا بالصوت والصورة جلسة من العام ٢٠١٣ بعد هجمات الغوطة شاركت فيها السيدة تركماني وكررت فيها حديثها عن ضرورة عدم معاقبة نظام الأسد عسكرياً.
سواء اعتذرت السيدة تركماني من أهل الغوطة أم انضمت لجحافل سورية لا تريد الاعتذار عن شيء ولا ترى في إجراء المراجعات أمراً ذي أهمية، فهذا شأنها وحدها أمام الناس وأهل الغوطة. وكانت مناسبة حديثي السابق هي مشاركتها موخراً في دوما في وقفة أمام مركز توثيق الانتهاكات للتذكير بمخطوفيه الأربعة الذين صادف (يا سبحان الله) أنهم هم تحديداً من كان في عين المكان لحظة الهجوم ووثقوا الأدلة على الأرض في حين كانت السيدة تركماني تشكك في المعلومات من بريطانيا، ثم تدين خطاب تشكيلات المعارضة والنشطاء السياسيين على أساس أنهم في الخارج وخطابهم مزيف ولا يمثل مطالب الداخل السوري من المجتمع الدولي، المطالب التي تعرفها هي جيداً بأن السوريين لا يريدون معاقبة النظام السوري عسكرياً!
كنت أتمنى أن لا أخوض في هذا كله لكن يعز علي التزوير في أمور لم تخبرنا عنها كتب التاريخ بل أيام وأحداث شهدناها وعشناها عن قرب بأم حواسنا.
الفيس بوك
———————-
عن “معركة الأسماء” في سوريا… جسر الرئيس أم جسر الخسيس؟/ مرح زياد الحصني
الأربعاء 12 فبراير 2025
داخل حافلة مكتظة في دمشق، سمعتُ شاباً يتحدث عبر الهاتف قائلاً: “وصلت عند جسر الرئيس”. لم يكد ينهي مكالمته حتى التفت إلى الحاضرين بارتباك، وأضاف معتذراً: “آسف، بقصد جسر الخسيس”. بعضهم ضحك، وآخرون تجاهلوا الموقف، لكن هذه اللحظة العابرة كانت تحمل دلالات أعمق من مجرد زلة لسان. فقد أصبحت اللغة اليومية في سوريا محمّلة بإرث ثقيل، حيث لم تعد الكلمات مجرد أدوات للتواصل، بل باتت تعكس تجاذبات اجتماعية وثقافية تمتد إلى تفاصيل الحياة اليومية.
خلال السنوات الماضية، أعيد النظر في الكثير من المصطلحات والأسماء في سوريا، سواء في سياقات رسمية أو شعبية. تغيرت دلالات بعض الكلمات، وبرزت مصطلحات جديدة، فيما احتفظت أخرى بمكانتها رغم المتغيرات. بعيداً عن الجدل السياسي، يمكن لهذه الظاهرة أن تُقرأ من زاوية إنسانية وثقافية: كيف تتشكل علاقتنا بالأماكن عبر أسمائها؟ وهل يمكن أن تكون هناك لغة محايدة تعكس تنوع التجربة السورية؟
اللغة كذاكرة جمعية: هل يمكن فصل الكلمات عن سياقاتها؟
عندما تقول “جسر الرئيس”، هل تفكر في رمزية الاسم، أم تنطقه ببساطة لأنه الاسم الذي تعرفه؟ معظم السوريين يستخدمون هذه الأسماء تلقائياً، دون وعي أو قصد سياسي. يقول أحد أصدقائي: “بالنسبة لي، هو مجرد جسر. لا أفكر في معناه، بل في أنني سأعبره يومياً للوصول إلى عملي”.
لكن البعض يرى أن اللغة لا تنفصل عن سياقها التاريخي، فهي انعكاس للواقع الذي نشأت فيه. في سوريا، حملت بعض الأسماء الرسمية دلالات أيديولوجية لعقود، مثل “مشافي الباسل”، “مدارس البعث”، و”معاهد الأسد”، فلم تكن مجرد علامات جغرافية، بل جزءاً من هوية سياسية ارتبطت بمرحلة زمنية محددة.
مع ذلك، يستخدم كثير من السوريين هذه الأسماء دون التفكير في دلالاتها. يقول أحد المارة في دمشق: “أنا أقول جسر الرئيس لأنه الاسم الذي عرفته منذ الطفولة، لا أفكر في رمزيته، إنه مجرد معلم جغرافي”، بينما يرى آخر أن تغيير بعض الأسماء ضروري “للتخلص من إرث الماضي، والبدء بمرحلة جديدة تعبر عن جميع السوريين”، أما أحد سائقي التاكسي، فعندما طلبت منه أن يقلني إلى المشفى الوطني في دمشق، المعروف سابقاً باسم “الأسد الجامعي”، قال مبتسماً: “لو قلتِ المشفى الوطني فقط، لما عرفت المقصود، لكن عندما ذكرتِ الاسم القديم، فهمت وجهتك فوراً، ربما نحتاج بعض الوقت لحفظ الأسماء الجديدة”.
عندما تقول “جسر الرئيس”، هل تفكر في رمزية الاسم، أم تنطقه ببساطة لأنه الاسم الذي تعرفه؟
يرى البعض أن الأسماء مجرد عناوين عملية للحياة اليومية، فيما يعتبرها آخرون رموزاً تستحق التغيير. يقول شاب من دمشق: “لا أفكر كثيراً حين أقول ساحة العباسيين أو جسر الرئيس. بالنسبة لي، هو اسم متداول ولا يعنيني ما وراءه”، في المقابل، يرى آخرون أن استمرار استخدام بعض الأسماء يعيد إنتاج الذاكرة ذاتها: “نحن نكرّر أسماء تحمل دلالات معينة، حتى دون أن نشعر. تغيير الأسماء قد يخلق مساحة جديدة للتفكير، لكنه ليس كافياً وحده لإحداث تغيير حقيقي”.
بهذا التنوع في وجهات النظر، نجد أن إعادة تسمية الأماكن ليست مجرد إجراء إداري، بل عملية معقدة تمس ذاكرة الأفراد والمجتمع. ففي العديد من دول العالم، كان تغيير الأسماء جزءاً من عمليات المصالحة الوطنية، لكنه لم يكن دائماً محل اتفاق.
تجارب من العالم
التاريخ مليء بأمثلة عن إعادة النظر في التسميات الرسمية بعد التحولات السياسية، إذ لم تكن الأسماء مجرد عناوين جغرافية، بل انعكاساً لهويات سياسية واجتماعية. في ألمانيا، بعد سقوط النازية، أزيلت أسماء الشوارع والساحات المرتبطة بتلك الحقبة، مثل تحويل “ميدان أدولف هتلر” في برلين إلى “ميدان الثورة”. لكن رغم ذلك، بقيت بعض المصطلحات متداولة في الذاكرة الشعبية، ما يدل على أن التغيير اللغوي يحتاج وقتاً طويلاً لترسيخه. أما في جنوب إفريقيا، فقد شهدت مرحلة ما بعد الأبارتيد إعادة تسمية عشرات الشوارع والمدن لتعكس التنوع الثقافي، إلا أن العملية لم تكن سلسة؛ فبينما رأى البعض أن تغيير الأسماء خطوة ضرورية نحو العدالة الرمزية، اعتبر آخرون أن ذلك لا يغير الواقع المعيشي.
كذلك، بعد تفكك الاتحاد السوفييتي في عام 1991، قامت العديد من الدول بإزالة أسماء القادة الشيوعيين من شوارعها وساحاتها كجزء من عملية اجتثاث الشيوعية. على سبيل المثال، في كييف، أوكرانيا، تم تغيير أسماء 95 شارعاً وساحة كانت تحمل أسماء روسية أو سوفيتية.
مع ذلك، لا تزال بعض المناطق تحتفظ بأسماء مثل “لينين” و”ستالين” في شوارعها، ما يعكس تبايناً في تقييم هذا الإرث التاريخي بين المجتمعات المختلفة.
تُظهر هذه التجارب أن تغيير الأسماء جزء من إعادة تعريف الهوية الوطنية، وهو أمر معقد يتطلب نقاشاً مجتمعياً واسعاً. ففي ألمانيا، لم يقتصر الأمر على تغيير الأسماء، بل شمل برامج تعليمية حول الذاكرة والتاريخ. وفي جنوب إفريقيا، اعتمدت لجان المصالحة على إشراك المجتمع لضمان تمثيل كافة الفئات. أما في أوروبا الشرقية، فقد استمر استخدام بعض الأسماء القديمة شعبياً رغم تغييرها رسمياً، ما يعكس أن الأسماء ليست مجرد قرارات حكومية، بل جزء من الثقافة اليومية.
في الحالة السورية، حيث لا تزال بعض الأسماء تحمل دلالات سياسية، يحتاج الأمر إلى نقاش شامل يأخذ في الحسبان التنوع الثقافي والاجتماعي. قد يكون الحل في إيجاد صيغة مشتركة تحترم التجربة السورية بكل تناقضاتها، فكما تُظهر التجارب الدولية، فإن التعامل مع الأسماء في الفضاء العام يتطلب رؤية تتجاوز البعد السياسي المباشر، لتشمل أسئلة أعمق حول الذاكرة الجماعية والهوية الوطنية.
هل يمكن للغة أن تكون جسراً لا ساحة معركة؟
في نهاية المطاف، تبقى اللغة انعكاساً لذاكرة الناس وتجاربهم. ما بين العادة والذاكرة، تحمل الكلمات قصصاً مختلفة لكل فرد. البعض قد يرى في الأسماء مجرد تفاصيل عملية في الحياة اليومية، بينما يجد فيها آخرون رموزاً تستحق المراجعة.
ربما يكون الحل في السماح للغة بأن تكون جسراً بين السوريين، لأن اللغة في جوهرها الحقيقي أداة للتواصل.
رصيف 22
————————————–
الفرق بين سقوط بغداد والمرحلة الانتقالية في سوريا/ خير الدين مخزومي
إعادة بناء الجيش والمؤسسات الأمنية تتم تحت قيادة وطنية
12 فبراير 2025
بعد انتصار الثورة السورية في 8 ديسمبر/كانون الأول 2024، دخلت سوريا مرحلة انتقالية حاسمة تميزت بالتخطيط الدقيق والتفكير الاستراتيجي لتجنب الأخطاء التي وقعت فيها تجارب سابقة، مثل سقوط بغداد عام 2003. وقد تم تعيين السيد أحمد الشرع رئيسا للبلاد في 29 يناير/كانون الثاني 2025، أي بعد أكثر من شهر من إعلان انتصار الثورة.
تعيين السيد أحمد الشرع جاء في توقيت مدروس بعد أن تم ضمان استقرار البلاد نسبيا، خلال الفترة السابقة. وتمت معالجة الكثير من التحديات الأمنية والسياسية، ما جعل انتقال السلطة إلى الرئيس الجديد أكثر سلاسة. وهذا التوقيت يعكس وعيا عميقا بأهمية تجنب الأخطاء التي وقعت في العراق، حيث تم تسليم السلطة بشكل عشوائي دون إعداد مسبق.
التوقيت لم يكن عشوائيا، بل كان جزءا من خطة مدروسة، لضمان استقرار البلاد وعدم حدوث فراغ أمني أو سياسي. فالفترة بين انتصار الثورة وتعيين الرئيس الجديد سمحت بإعادة هيكلة الجيش والأجهزة الأمنية بشكل تدريجي، مما منع حدوث فراغ أمني مشابه لما حدث في العراق، وبناء مؤسسات انتقالية قوية، وتشكيل مجلس تشريعي مؤقت.
إعادة هيكلة المؤسسات الأمنية خلال هذه الفترة أعطى الشرعية اللازمة للقيادة الجديدة وسهل عملية انتقال السلطة، كما أن تأمين الدعم الشعبي أخذ الوقت الكافي لاتخاذ القرارات المصيرية وأعطى الشعب السوري الثقة في أن القيادة الجديدة تعمل بشكل مدروس وشفاف، مما عزز شرعيتها.
بالإضافة إلى التعلم من تجربة العراق، فقد كانت القيادة السورية الجديدة على دراية بتجربة العراق وما ترتب عليها من فوضى، مما جعلها تتخذ إجراءات أكثر حكمة لضمان استقرار البلاد.
عندما سقطت بغداد في عام 2003، قام الحاكم المدني الأميركي بول بريمر بحل الجيش العراقي والأجهزة الأمنية بشكل مفاجئ وسريع. هذا القرار، الذي تم اتخاذه دون تخطيط مسبق أو إعداد بديل، أدى إلى تسريح مئات الآلاف من الجنود والضباط العراقيين، ما خلق فراغا أمنيا هائلا أدى إلى تفكك الدولة العراقية واندلاع حرب أهلية طاحنة. العديد من هؤلاء الجنود المسرحين، الذين وجدوا أنفسهم دون وظائف أو موارد، انضموا إلى الميليشيات المسلحة والجماعات الإرهابية، مما زاد من حدة العنف والفوضى في البلاد. كما أن عملية إعادة بناء الجيش والمؤسسات الأمنية تمت تحت إشراف قوات الاحتلال الأميركي، مما أثار شكوكا حول ولاء هذه المؤسسات للشعب العراقي بدلا من المصالح الأجنبية.
أما في سوريا، فإن إعلان حل الجيش والأجهزة الأمنية التابعة للنظام البائد يأتي في إطار وطني بحت، حيث تتم إعادة بناء هذه المؤسسات على أسس وطنية تحفظ سيادة البلاد وتستجيب لمطالب الشعب السوري. وتمت عملية إعادة هيكلة المؤسسات الأمنية والعسكرية بشكل تدريجي ومخطط له، حيث تم تشكيل مؤسسات أمنية جديدة تعتمد على كوادر وطنية موثوقة، مع ضمان عدم إقصاء الكفاءات العسكرية والأمنية التي يمكن أن تساهم في بناء الدولة الجديدة.
وكانت الإجراءات التي سبقت تعيين أحمد الشرع خلال الفترة بين انتصار الثورة وتعيين الرئيس الجديد، حيث تم اتخاذ عدة إجراءات استباقية لضمان عدم حدوث فراغ أمني أو سياسي، من أهم الفروق بين الحالتين من الناحية الأمنية، فقد ضمنت عدم حدوث فراغ أمني مشابه لما حدث في العراق. فقبل حل الجيش والأجهزة الأمنية، جرى تشكيل قوات أمنية جديدة مدربة ومجهزة بشكل جيد، مع ضمان عدم تسرب العناصر الموالية للنظام البائد إلى صفوفها.
وكما تم دمج الفصائل العسكرية في مؤسسات الدولة، تم دمج الفصائل العسكرية والأجسام الثورية في مؤسسات الدولة الجديدة، مما عزز الوحدة الوطنية وقلل من خطر الانقسامات الداخلية وتم حل حزب “البعث العربي الاشتراكي” وأحزاب “الجبهة الوطنية التقدمية” بشكل قانوني وشفاف، مع ضمان عودة أصولها إلى الدولة السورية. هذه العملية تمت بشكل تدريجي لتجنب أي ردود فعل عنيفة من عناصر النظام السابق مما يعكس رغبة حقيقية في تصفية إرث النظام السابق وبناء دولة جديدة قائمة على العدالة والمساواة.
إن عملية إعادة بناء الجيش والمؤسسات الأمنية في سوريا تتم تحت قيادة وطنية، وليس تحت إشراف قوات احتلال أجنبية. وهذا الأمر يعطي شرعية أكبر لهذه المؤسسات ويضمن ولاءها للشعب السوري وللدولة الجديدة، بدلا من أن تكون أداة بيد قوى خارجية كما حدث في العراق. بالإضافة إلى تشكيل لجان عسكرية وأمنية لمراجعة هياكل الجيش والأجهزة الأمنية التابعة للنظام السابق، بدلا من حلها بشكل مفاجئ، وتمت إعادة هيكلتها تدريجيا، مع ضمان دمج الكوادر الوطنية الموثوقة في المؤسسات الجديدة. وهذا الإجراء منع حدوث فراغ أمني وأعطى الوقت الكافي لتدريب وتجهيز قوات أمنية جديدة.
بالإضافة إلى ذلك، فإن المرحلة الانتقالية في سوريا تشهد إجراءات قانونية وسياسية لضمان استقرار البلاد. على سبيل المثال، تم تشكيل مجلس تشريعي مؤقت يتمتع بشرعية ثورية وشعبية، مما يضمن تمثيل مختلف مكونات الشعب السوري في عملية صنع القرار.
باختصار، يمكن القول إن عملية إعادة بناء الدولة في سوريا تأتي كرد فعل وطني على إرث النظام البائد، وليس نتيجة لاحتلال أجنبي كما حدث في العراق. ويمكن القول إن الدروس المستفادة من تجربة العراق كانت حاضرة في أذهان القيادة السورية الجديدة، مما أدى إلى اتخاذ إجراءات أكثر حكمة وشمولية لضمان استقرار البلاد وبناء دولة ديمقراطية تحفظ حقوق جميع المواطنين.
المرحلة الانتقالية في سوريا بعد انتصار الثورة تميزت بالتخطيط الدقيق والتأني في اتخاذ القرارات المصيرية. والقيادة الجديدة في سوريا، ممثلة بالسيد أحمد الشرع، والخطوات المدروسة التي تم اتخاذها بعد انتصار الثورة، تعكس وعيا عميقا بأهمية تجنب الأخطاء التي وقعت في تجارب سابقة. هذا الفارق الجوهري يعطي الأمل في أن تكون المرحلة الانتقالية في سوريا أكثر نجاحا واستقرارا وشرعية، وأن تؤسس لدولة قادرة على مواجهة التحديات المستقبلية بثقة واقتدار.
المجلة
———————————–
التغيير السوري… من لبنان إلى الجزائر!/ خيرالله خيرالله
الأربعاء 2025/02/12
في كل وقت من الأوقات بما في ذلك طوال الحرب العراقية – الإيرانية كان النظام العلوي في سوريا حليفا أساسيا بل محوريا لـ”الجمهورية الإسلامية” التي استطاعت بعد 2003 إقامة “الهلال الشيعي”.
مناورة جزائرية لن تنطلي على أحد
من بيروت، إلى الجزائر، التي زار وزير خارجيتها أحمد عطاف دمشق حاملا وعودا، ليس معروفا هل من قيمة لها، تتأكد يوميا أهمية الحدث السوري المتمثل بفرار بشّار الأسد من دمشق وزوال الحكم العلوي في بلد ذي أكثرية سنّية.
ليس سهلا على نظام مثل النظام الجزائري الاعتراف بوجود سوريا جديدة، لولا وجود واقع على الأرض يفرض عليه إرسال وزير الخارجية إلى دمشق مع رسالة من الرئيس عبدالمجيد تبون إلى الرئيس أحمد الشرع يعرض فيها خدمات الجزائر بصفة كونها العضو، الذي يمثل في أيامنا هذه المجموعة العربية، في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة.
على الصعيد اللبناني البحت، لم يكن ممكنا انتخاب رئيس للجمهوريّة في البلد لولا التحوّل الذي شهدته سوريا. لم يكن في الإمكان تشكيل حكومة برئاسة نواف سلام، حكومة من دون ثلث معطل تضمّ عددا لا بأس به من الكفاءات، لولا الزلزال السوري الذي غيّر طبيعة الحكم في دمشق الذي استمر 59 عاما، منذ 23 شباط – فبراير 1966 لدى حصول الانقلاب الذي قاده الضابطان العلويان صلاح جديد وحافظ الأسد على رفاقهما البعثيين. مهّد ذلك لتفرّد حافظ الأسد بالسلطة ابتداء من 16 تشرين الثاني – نوفمبر 1970. قام بعد ذلك نظام عائلي أوصل سوريا تدريجيا إلى الحضن الإيراني، خصوصا بعدما ورث بشّار الأسد سوريا عن والده صيف العام 2000.
يستطيع لبنان انتهاز فرصة التحوّل الكبير في سوريا من أجل التقاط أنفاسه. إنها المرة الأولى التي يلعب فيها الجانب السوري، منذ ما يزيد عن نصف قرن، دورا مهمّا على صعيد وقف تدفق السلاح من سوريا إلى الأراضي اللبنانية. منذ ما قبل وصول حافظ الأسد إلى السلطة، عمل النظام السوري على نقل السلاح والمقاتلين الفلسطينيين إلى لبنان من أجل تفجير الوضع فيه وصولا إلى حرب صيف العام 1982 التي شنتها إسرائيل وانتهت بخروج مقاتلي منظمة التحرير الفلسطينية من البلد.
من 1982 إلى يوم انتخاب جوزيف عون رئيسا للجمهورية ثم تشكيل حكومة نواف سلام، تدفق السلاح الإيراني على لبنان. نجحت “الجمهوريّة الإسلاميّة”، عبر أداتها اللبنانية، “حزب الله” وبتعاون مع حافظ الأسد، في إخراج الولايات المتحدة من لبنان. نسفت السفارة الأميركيّة في بيروت في نيسان – أبريل 1983 ونسفت مقر المارينز قرب مطار بيروت في تشرين الأول – أكتوبر من السنة ذاتها. قتل 241 عسكريا أميركيا في تفجير مقر المارينز قرب المطار. خطفت إيران، عبر أداتها اللبنانية أيضا، أميركيين وأوروبيين وابتزت واشنطن والعواصم الأوروبية وصولا إلى تحقيق كلّ أمنياتها. تحققت هذه الأمنيات بفضل إدارة جورج بوش الابن التي أسقطت في العام 2003 النظام البعثي – العائلي الذي أقامه صدام حسين في العراق.
في كلّ وقت من الأوقات، بما في ذلك طوال الحرب العراقيّة – الإيرانية بين 1980 و1988، كان النظام العلوي في سوريا حليفا أساسيا، بل محوريا لـ“الجمهوريّة الإسلاميّة” التي استطاعت، بعد 2003، إقامة “الهلال الشيعي”. كان العاهل الأردني الملك عبدالله الثاني أول من تحدّث عن هذا الهلال، بصفة كونه “هلالا فارسيا”، في تشرين الأوّل – أكتوبر 2004، في حديث أدلى به إلى صحيفة “واشنطن بوست”.
لم يقتصر هذا الحلف على إغراق لبنان بالسلاح، بل بلغ تنسيقا في العمق في مرحلة ما قبل اغتيال رفيق الحريري يوم 14 شباط – فبراير 2005، بغية القضاء على أي أمل بعودة الحياة إلى لبنان. لم يكن في استطاعة “حزب الله” تنفيذ جريمة اغتيال رفيق الحريري ورفاقه لولا الغطاء السوري الذي وفّره له بشّار الأسد…
ما تغيّر في المنطقة منذ سقوط النظام العلوي في سوريا يتجاوز لبنان، لا لشيء سوى لأن “الهلال الشيعي” الذي يربط بين طهران وبيروت، مرورا ببغداد ودمشق انتهى عمليا. نجد الآن وزير الخارجية الجزائري أحمد عطاف يزور دمشق كي يأخذ علما بانتهاء الخدمات المتبادلة بين النظامين العلوي والنظام الجزائري، وهي خدمات تقوم على دعم سياسي جزائري لحافظ الأسد ثم لبشّار الأسد في مقابل دعم سوري لـ“بوليساريو” وهي أداة جزائرية تستخدم في شنّ حرب استنزاف على المغرب ووحدة ترابه الوطني. هل جاء عطاف إلى دمشق في محاولة لإبقاء الارتباط بين دمشق و“بوليساريو” وهو ارتباط ليست إيران بعيدة عنه. يبدو أن الجانب الجزائري تصالح مع الواقع السوري بعد زوال وجود “بوليساريو” ومكاتبها في دمشق. فرّت “بوليساريو” مع فرار بشّار الأسد إلى موسكو!
المهمّ في الأمر أن تفاعلات الحدث السوري امتدت إلى شمال أفريقيا، امتدت من بيروت إلى الجزائر. إنه زلزال شعرت به دولة مثل الجزائر كان النظام فيها العضو غير المعلن في “جبهة الممانعة” بقيادة إيران…
لم يجد النظام الجزائري ما يقدمه لسوريا الجديدة غير وعد بالمساعدة من أجل رفع العقوبات عنها في مجلس الأمن. ليس سرّا أنّ رفع العقوبات قرار أميركي أوّلا وأوروبي بالدرجة الثانية. أقرّت هذه العقوبات بسبب الجرائم التي ارتكبها نظام بشار الأسد في حق الشعب السوري، وهي جرائم سكت النظام الجزائري عنها في كلّ وقت. ليس طبيعيا تجاهل النظام الجديد في سوريا هذا الصمت الجزائري، بل التواطؤ مع النظام العلوي الذي لم يكن لديه في يوم من الأيام سوى سياسة واحدة تقوم على ابتزاز الدول العربيّة عن طريق ممارسة الإرهاب بالتنسيق مع إيران.
تغيّرت سوريا كلّيا. لا يمكن إلّا أن يأتي يوم تتخذ فيه موقفا مع الحقّ، أي مع مغربيّة الصحراء. لن تنطلي المناورة الجزائرية التي تولاها أحمد عطّاف على أحد. لن تتمكن دمشق من تجاهل تاريخ العلاقة بين “بوليساريو”، التي ليست سوى أداة جزائرية و”حزب الله” في لبنان!
إعلامي لبناني
العرب
——————————-
لا لتكريس ثقافة البؤس السياسي والأخلاقي/ حسن النيفي
2025.02.12
أسهمت الحقبة الأسدية في تشويه العديد من المفاهيم والأفكار التي يمكن أن تكون أساسية في الحقل السياسي، وذلك في سياق سعيها لمحاربة معظم ضروب التفكير التي من شأنها أن تبعث الإحساس لدى المواطن بأنه كائن بشري له مطلق الحرية في إنتاج أفكاره والتعبير عن رؤاه وتصوراته، فما هو متاح بالنسبة إلى السلطة على الدوام هو التفكير في سياقات تحدّدها السلطة وتعرف مخرجاتها سلفاً، أمّا ما هو غير متاح، بل ما هو محظور هو اقتراب المرء من سياقات التفكير التي لا يمكن للسلطة ان تتنبأ بمخرجاتها، أي التفكير بعيداً عن السرْب، أو خارج الصندوق كما يقال.
من ليس معنا فهو ضدّنا
لعل من أبرز تلك المفاهيم التي كانت غائمة بل مشوّهة، وما تزال كذلك، هو مفهوم (المعارضة والموالاة)، ولعل ما هو معلوم أن فكرة “المعارضة” لم تكن موجودة في العرف السياسي الأسدي، طالما أنها كانت تحيل إلى ما هو مخالف للسلطة، بعيداً عن درجة المخالفة، وليس في الحقل السياسي فحسب، بل في أي شأن حياتي آخر، أي إن درجة التسلّط والإقصاء السلطوي لم تترك أي هامش للتمييز بين موقف سياسي مناهض لنظام الحكم، وبين موقف آخر لا يتجاوز الاحتجاج على أسعار الخضار أو سوء الخدمات على سبيل المثال. وقد انتج هذا السلوك السلطوي مفهوماً شائها لمصطلح “المعارضة” أدّى إلى انزياحه إلى مفهوم “الخيانة”، وذلك استناداً إلى القاعدة التي عملت بموجبها السلطة الأسدية: “كل من يخالف السلطة هو خائن” وبالطبع فإن هذه المعادلة لم تكن تستند إلى فراغ، بل تتأسس على سردية سياسية حاول نظام الأسد تعزيزها في أذهان السوريين على مدى أكثر من نصف قرن، ومفاد هذه السردية أن النظام القائم في دمشق يواجه عدواناً صهيونيا إمبريالياً مدعوماً من الرجعية العالمية والمحلية، وهو في حالة مواجهة دائمة توجب عليه استنفار جميع قدراته لمواجهة هذا الخطر الدائم، وبناء عليه، فإن أي مقاربة تهدف إلى نقد نظام الحكم أو مخالفته سيتم تصنيفها على أنها محاولة لإضعاف نظام الحكم، ( وهن عزيمة الأمة – مناهضة أهداف الثورة) وبالتالي هي انحياز سيخدم القوى المعادية، فهي – وفقاً لذلك – فعل خياني يوجب إنزال أقصى درجات المساءلة والعقاب بفاعله، ولعل هذا ما يفسّر تعرّض عشرات الآلاف من المواطنين السوريين لسنوات اعتقال امتدت إلى عقود من الزمن لمجرّد أنهم أبدوا رأياً أو موقفاً مخالفاً لمواقف السلطة الحاكمة.
من أبرز سمات الحقبة الأسدية هي أنها لم تتح للمواطن سوى ضفتين، كلّ منهما على نقيض الأخرى، إمّا موالٍ للسلطة إلى درجة التماهي المطلق، أو عدوٌّ مطلق، وهو ما يدخل حيّز “الخيانة”، في حين أن مفهوم المعارضة بصيغته الدستورية وأعرافه السياسية المتعارف عليها دولياً لم يكن موجوداً، بل الأدق أنه لم يكن مقبولاً من السلطة، وخاصة في ظل غياب قانون ناظم لوجود الأحزاب وكذلك في ظل غياب فعلي لأي شكل من أشكال الحريات، ولعله من النافل القول: أن ما يُدعى بأحزاب الجبهة الوطنية التقدمية، إنما هي في حقيقتها أشدّ موالاة وانقياداً لنظام الحكم من حزب البعث الحاكم نفسه.
نجاح التحولات السياسية والشرط الأخلاقي
في التحوّل الكبير الذي شهدته البلاد منذ الثامن من شهر كانون الأول الماضي، تطلّع الكثير من السوريين إلى أن يكون اندحار الحقبة الأسدية بدايةً ليس لعهد سياسي نظيف فحسب، بل بدايةً – أيضاً – لحقبة أخلاقية نظيفة تتماهى مع الشرط الإنساني للمواطن الحر، ولكن استمرار العديد من الظواهر المنافية للأخلاق والسياسة معاً تحيل إلى وعورة شديدة في تجاوز ثقافة الاستزلام والاتّضاع، بل تؤكّد أن إزالة الإرث الأسدي ليست مرهونة بتحوّل سياسي فحسب، بل هي قرينة تحوّل أخلاقي إنساني قبل أي شيء آخر. ففي إحدى المظاهرات التي خرج فيها مواطنون في مدينة طرطوس بمظاهرة سلمية يطالبون بمطالب معيشية لا صلة لها البتة بموقف سياسي مناهض للسلطة، فواجهتهم مظاهرة أخرى لأشخاص يهتفون بعبارات مؤدلجة “سوريا حرة علماني يطلع برا” ويحملون الهراوات وبعضهم يحمل السكاكين في مظهر هجومي بهدف تفريق المظاهرة الأولى، وكأن المشهد بات يُفَسّرُ على أن المظاهرة الأولى هي معارضة لنظام الحكم أو السلطة الجديدة، في حين أن الثانية موالية، والحال أن الأمر ليس كذلك، ولكن من أعطى الحق للجماعة الثانية بمصادرة حق الآخرين بالتظاهر السلمي والمطالبة بحقوق معيشية، ولماذا الاحتماء بشعارات إيديولوجية أثبتت بؤسها ولم تعد موضع قبول من غالب السوريين؟ ولماذا هذا السعي المحموم من الجماعة المؤدلجين لمواجهة المطالب الحياتية بسيوف الأدلجة؟ هل ثمة جواب سوى أنها نزعة الولاء المجاني المطلق التي كرّستها الحقبة الأسدية في مواجهة من يحمل بذرة الاختلاف؟ ثم ما علاقة المطالب الحياتية بالعلمانية، وهل غير العلماني لا يحتاج إلى الخبز والماء والكهرباء، أم يعتاش على الشعارات فقط؟
وفي سياق موازٍ لما سلف ذكره، تشهد فنادق ومقاهي مدينة دمشق اكتظاظاً شديداً بوفود وجماعات من داخل سوريا وخارجها، ومنها من ينتظر مدة أسبوع أو أكثر ليحظى بلقاء القيادة الجديدة للبلاد أو بأحد مسؤوليها، وأنا هنا لا أعني من لديه أفكار أو تصورات أو خطط عمل ومشاريع ذات صلة بالشأن العام ويريد إيصالها أو عرضها على القيادة، فهؤلاء بلا شك سعيهم محمود ومشكور، وإنما أعني من أرادوا مجرّد اللقاء لكيل المديح المجاني وإسداء المباركات الجوفاء والتقاط الصور، وبالتالي تقديم الولاء المطلق، وكأنهم مُتّهمون يبحثون عن صك بالبراءة وتزويدهم بوثيقة “الوطنية الخالصة” مقابل هذا الثناء المجاني على الحاكم، وهذا السلوك يستحضر في الذهن تلك الوفود والقوافل التي كانت تؤمّ بوابات السلطة في عهد الأسد الأب على إثر كل استفتاء رئاسي أو بمناسبة الحركة التصحيحية وما إلى ذلك. علماً أن الرئيس الجديد للبلاد السيد أحمد الشرع، وفي أول خطاب له موجه إلى الشعب سوري كان قد ذكر عبارة تؤكّد بأنه “خادم للشعب” وهي عبارة طيبة تبعث على الاطمئنان وتؤسِّس لعلاقة سليمة بين المواطن والحاكم. ما أتمنّاه هو أن تدرك القيادة الجديدة أن الخطر الناجم عن سلوك أصحاب الثناء الأجوف والمتملّقين والمتهافتين على أبواب السلطة هو أكثر بكثير من وخزات المنتقدين والناصحين لها، فالمديح المجاني والتزلّف للسلطة يُدعى في العرف الإسلامي “نفاقاً”، وفي السياسة يُدعى “محاباة” وفي العرف الشعبي يُدعى “تمسيح جوخ” وكلها صفات قبيحة منافية للفطرة الإنسانية السليمة، فضلاً عن كونها تنبثق عن ثقافة الرذيلة والانحطاط.
في فيديو تناقلته وسائل التواصل الاجتماعي في اليومين الماضيين وانتشر انتشاراً سريعاً، يظهر فيه رجل كبير في السن يُدعى (فصيح هنداوي) كان ضمن وفد من المواطنين الذين التقوا السيد أحمد الشرع، ولكن في فترة سابقة لعملية ردع العدوان، وقد أظهر الرجل المُسن فرادة في كلمته التي تحدث بها، إذ قال مخاطباً الشرع: (كل ما يقال من إطراءات ومطالب سواء شخصية أو مناطقية لا تعنيني.. أنا مع أبو محمد الجولاني بس ماني تابع، أنا شريك، الوطن ليس للجولاني وحده ولا لي وحدي ولكنه للجميع ولو أن اللي عم يطلع مظاهرات يقدم لي بديلاً أفضل من أبو محمد الجولاني لوقفتُ معه، وهذا الشريك إن لم يقبلني شريكاً ويريد مني أن أجمّل أخطاءه فأنا لست معه، أنا عندي مطالب خاصة ولكن عيب عليّ أقولها بها الوقت). أعتقد جازماً أن ما تحدث به فصيح هنداوي، على عفويته وبساطته، يختزل أهمّ الأسس الناظمة للعلاقة بين الحاكم والمواطن (الشراكة وليس التبعية والولاء المجاني – قيمة الحاكم لا تكمن بشخصه بل بما يقدمه للشعب– الإحساس بالمسؤولية حيال المصلحة العامة هي قيمة أخلاقية)، كما أضيف: إن ما جاء على لسان هذا الرجل المسنّ هو أكثر صدقاً وأنضج تعبيراً من بعض دهاقنة الثقافة أو ممّن جعلوا أنفسهم أوصياء على وعي الناس.
تلفزيون سوريا
————————–
سوريا يخشى منها أو عليها؟/ عبد الرحمن الراشد
12 فبراير 2025 م
دولةُ أحمدَ الشرع السورية أكبرُ مساحة اليوم من دولةِ الأسدِ عندما سقطَ وسقطت. تحت إدارتِه نحوُ سبعين في المائة من البلاد، مستقرة ولا تزال سوريا متشظية. ففي شرقِها وجنوبها جيوبٌ خارجة على السلطة، ووراء الحدودِ يوجد أعداء محتملون.
أوَّلُ التحديات الأمنية للنظام الجديد الانفصاليون. الفصيل الأكبر «قسد»، شرق الفرات، يسيطر على أكثرَ من خُمس مساحةِ البلاد. وفي جنوب غرب سوريا محافظة السويداء الدرزية، وكذلك القنيطرة، أقل انفصالاً. إسرائيلُ أعلنت أنَّها ضمن نطاقِها الأمني، في حين حرص نتنياهو على القول إنَّه ليس ضد النّظامِ الجديد في دمشق.
وهناك محافظة درعا، تحت قيادةِ أحمد العودة، استجابَ لطلب الشرع وخرج بقواتِه من دمشقَ مكتفياً بالسيطرة على محافظته. هذه الثلاث مناطق الجنوبية الغربية الأرجح أنَّها خارج التأثيرات الإيرانية. وفي اليوم الذي تستطيعُ فيه دمشقُ تحسينَ خدماتها واقتصادها ستميلُ للانضواء تحت سلطةِ الحكومة المركزية. حالياً لا يوجد هناك ما يدفعها لذلك.
وبخلاف التوقعات، فإنَّ المنطقتين الصعبتين اللتين لم تتمردا هما محافظتا طرطوس واللاذقية، الثانية سكانياً بعد دمشق، وفيها الروس والعلويّون. الطائفةُ العلويّة حافظت على ارتباطها بدمشقَ، كما بذل الرئيس الشرع جهداً واضحاً لبناء علاقة ثقة معها.
بشكل عام، نلحظ أنَّ سوريا استمرّت هادئة رغم ضخامة التغيير، وهو هدوءٌ الأرجح أنَّه قابلٌ للاستمرار مع واقعية سياسة الرئيس الشرع الذي يؤمن بإدارةِ الأزمات وفق الأولويات.
توحيد البلاد يتطلَّب ثلاثةَ إنجازات: هدوء الجبهات، والتحسن المعيشي، وثالثها عملية سياسية توافقية لإنهاء الانفصال والتنازع على الموارد.
ماذا عن الخطر الخارجي؟
بعض دول المنطقةِ تخشى من سوريا الجديدة، وأنَّها قد تمثل خطراً وجودياً عليها، مثل العراق، أو على نفوذها مثل إيران. وسوريا الشرع بدورها تتوجَّس من التَّدخلات الخارجية وتحديداً الإيرانية. هذا الوضعُ سيتطلَّبُ وقتاً لمعرفة اتجاه الرياح.
الشَّكُ والريبةُ موجودان على الجانبين، مع هذا أثقُ أنَّ معظم الدولِ الإقليمية مع حياكةِ ما تمزَّق في سوريا، ومع تمكين دمشقَ لحكمِ كامل البلاد، فاستقرارها يعزّز الاستقرارَ الإقليمي. ولهذا فإنَّ احتواءَ الحركات الانفصالية من ضرورات الاستقرار حتى لا تصبحَ مصادرَ فتنٍ على سوريا وعلى جيرانها، العراق ولبنان وتركيا وإسرائيل والأردن ولبنان. سوريا هي في قلب الأمن الإقليمي بحكم توسُّطها بين الدول الست.
تتخوَّف سلطةُ دمشقَ من نية إيران، الخاسر الأكبر من سقوط نظام الأسد، خلق معارضة «سورية» لإسقاطها أو للضغط عليها للتعاون معها في نشاطاتها، ومن أبرزها فتحُ الممر السوري للوصول إلى لبنان وإسرائيل. الشرع الذي كرَّر تأكيداته على رغبته في علاقة جيدة ورفض عودة النشاط الإيراني يجب ألا يستهين به خصومُه. لديه المقدرةُ للدفاع عن نظامه، وذلك بحكم خلفيته السابقة كقائد لتنظيمات مسلحة في العراق ثم سوريا، فهو خبير في بناء وإدارة الكيانات المتمردة، ولديه حدود عريضة شرقاً وجنوباً للرد والردع. وفي تصوري إيران الجريحة، بعد أن خسرت سوريا ولبنان وغزة، ستسعَى للحفاظ على ما تبقَّى من نفوذها، وتحديداً الجوهرة، العراق. لهذا فاستقرارُ سوريا مصلحة للاستقرار الإقليمي، ومصلحة إيرانَ طمأنةُ دمشق ضد هذه التوقعات العدوانية.
مرَّ شهران وسوريا مستقرة، ولا بدَّ أنَّ الأصعبَ على الرئيس الشرع ليس مواجهة القوى المسلحة ضده، بل المحافظة على انضباط الفصائل الموالية له، ومنعها من الانخراط في لعبة المواجهات المسلحة مع القوى المحلية وعبر الحدود. ويبدو أنَّ الوضعَ تحت السيطرة باستثناء بعض الاشتباكات المحدودة عبر الحدود مع لبنانَ وقبلها مع إسرائيل.
الرمالُ المتحركة هي في الشمال. هناك الوجود التركي العسكري والقوات الأميركية، وحزمة من الفصائل المتمردة القادرة على البقاء خارج إطار السلطة لسنينَ أخرى. الوجود التركي كانَ من أهدافه ملاحقةُ الأكراد الانفصاليين والضغط على نظام الأسد آنذاك. اليوم الحامي التركي ضمانةٌ لدمشقَ في ظلّ إعادة بناء القوات المسلحة السورية.
القوات الأميركية أكملت عشرَ سنين في سوريا، ومن المستبعد أن تخرج وتتخلَّى الولايات المتحدة عن حليفها الكردي وحفظ توازن القوى، وكذلك لمواجهة تهديدات «القاعدة» و«داعش». مع هذا، مصير الوجود الأميركي اليوم غامض، لأنَّه لا يمكن المراهنة على الثوابت الأميركية تحت إدارة ترمب الجديدة.
ومصلحة القوتين الإقليميتين، إيران وتركيا، في سوريا تجنّب الانخراط في المواجهات، والعمل على خفض التوتر لأنَّ الفوضى ستهدّد منطقة بلاد الرافدين.
الشرق الأوسط
——————————–
أهمية الاستفادة من التجربة السعودية لبناء نهج أمن معلومات شامل في سوريا/ حسن الخطيب
2025.02.12
إن العالم السيبراني عالم استثنائي لا يخضع للقواعد التقليدية التي تحكم العالم البشري، ولا يمكن فهمه في إطار المفاهيم البشرية العادية. فعلى سبيل المثال مفهوم القوة في العالم البشري نقيض الضعف، فكلما استطاع الإنسان التغلب على نقاط ضعفه زادت قوته، أما في العالم السيبراني فكلما ارتفعت الإمكانيات السيبرانية للدولة وازدادت حكومتها الرقمية تطوراً زادت ثغراتها الأمنية. وعلى الرغم من التطور المتسارع للتكنولوجيا الحديثة، إلا أنه لا يمكن وضع إجراءات سريعة للأمن السيبراني في دولة مثل سوريا اليوم، وإلا سنكون أمام إجراءات إسعافية مؤقتة قد تصلح آنياً فقط. كما أنه يجب الانتباه لمسألة مهمة هي أن إصلاح الأرضية السيبرانية يكون في كثير من الأحيان أكثر كلفة من البناء نفسه وذلك من ناحية الكلفة المادية، البشرية والوقت. والأمن السيبراني بما يحمله من خصوصية لا تخضع للمنطق فهو حصيلة تراكم خبرات بدرجة كبيرة والاستفادة من خبرات الآخرين، لذلك فإن الدول “الحليفة” تسعى لتتشارك خبراتها في هذا المجال. في هذا المقال أوصي الحكومة السورية بالتوجه لوضع نهج أمن معلومات شامل لكل المؤسسات والإدارات الحكومية، والشركات العاملة مع الحكومة، والاستفادة في هذا المجال من خبرات الدول العربية وفي مقدمتها السعودية.
ويرجع اختياري لنهج أمن المعلومات السعودي لسببين: سبب جيوسياسي، وسبب تحليلي عملي. السبب الجيوسياسي هو تعرض المملكة العربية السعودية لهجمات سيبرانية شرسة بهدف التخريب، سرقة المعلومات والتجسس بشكل رئيسي من إيران وإسرائيل. وهما ذات الدولتين الذين يمتلكان مصلحة للتخريب والتجسس في سوريا. ويبدو أن المملكة العربية السعودية طورّت قدرات سيبرانية متفوقة بشكل كبير لمواجهة إيران وإسرائيل، الدولتين الذين يمتلكان أسلحة سيبرانية متطورة. وبالإضافة للهجمات التي تقف وراءها دول، تتعرض السعودية لهجمات سيبرانية بدوافع مالية، يستهدف المهاجمون الحصول على منافع مالية من دولة غنية كالسعودية. وهذا ما يجعلها في قمة هرم الدول التي تواجه هجمات فيروسات الفدية.
أما السبب العملي هو أنني كنت قد أجريت قبل سنتين بحثاً أقارن فيه بين نهج أمن المعلومات السعودي ونظيره الهولندي. وكان الدافع لهذه المقارنة هو تعرض البلدين في الفترة نفسها لهجمات سيبرانية ومن الجهة نفسها، إذ يُعتقد بأن إيران كانت وراء هذه الهجمات. ففي شهر حزيران/يونيو عام 2011 تم اختراق شركة ديخينوتر الهولندية والتي تمنح شهادات آمان إلكترونية لكثير من المواقع الإلكترونية الكبرى عبر العالم. وتم على أثر هذا الاختراق إصدار أكثر من خمسمئة شهادة أمان مزيفة لمواقع إلكترونية غير موثوقة حول العالم، كما تم تصنيف كثير من المواقع الحكومية الهولندية على أنها مواقع غير آمنة وغير موثوقة. وبعدها بعدة أشهر تعرضت شركة أرامكو السعودية لاختراق أدى لتعطيل ما يقارب 35 ألف كومبيوتر من كمبيوترات الشركة وقد وُصف هذا الاختراق حينها بأنه أكبر اختراق سيبراني في التاريخ. ولم تتبنَ إيران المسؤولية عن كلا الهجومين إلا أن تقارير استخبارية أميركية بناءً على تحقيقات أجرتها الحكومة أكدت بأن إيران هي من كانت وراء الهجمات.
وكان غرضي من وراء المقارنة بين نهجي أمن المعلومات السعودي والهولندي للاطلاع على آلية تطوير نهج العمل الحكومي لدى كلٍّ من البلدين والإجراءات التي اتخذت بعد تلك الاختراقات. خصوصاً بأن الهجمات السيبرانية مازالت مستمرة وبشكل مكثف على كلا البلدين من جهات عدة في مقدمتها إيران. وعلى الرغم من تعرض البلدان لحملات مكثفة من الهجمات إلا أننا قليلًا ما نسمع عن نجاح هجمات تحقق اختراقات كبيرة كالتي حدثت في الماضي.
في نهاية بحثي وصلت للنتائج التالية: وضعت السعودية نهجاً موحداً لأمن المعلومات للمؤسسات الحكومية في عام 2014، بعد أن كان الأمر متروكاً للمبادرة من كل مؤسسة أو وزارة على حدى. لكن نهج أمن المعلومات الذي تم وضعه عام 2014 تم إقراره كنهج ملزم لجميع المؤسسات الحكومية وتم تصميمه بطريقة مرنة ليعمل كمظلة أساسية لكل المؤسسات الحكومية وترك المجال لكل مؤسسة لوضع نهجها الخاص تحت هذه المظلة وذلك بما يتناسب مع حجم المؤسسة، نطاق عملها، تنوع أقسامها وعدد العاملين بها واحتمالية المخاطر التي قد تتعرض لها. أما نهج أمن المعلومات الهولندي الذي تم إقراره عام 2019 كنهج ملزم لكل المؤسسات الحكومية، فيقوم على التمييز بين ثلاثة مستويات في الإجراءات، مستوى منخفض ومتوسط وعالٍ ويترك للمؤسسة نفسها بتبني واحد من هذه المستويات بعد إجراء مسح شامل وتقييم للمخاطر يعاد إجراؤه بشكل دوري وحسب الحاجة.
يلزم نهج أمن المعلومات السعودي المؤسسة الحكومية على تبني أمن المعلومات كعملية مستمرة، وليس مشروع ينتهي بانتهاء تأسيسه، هذا من ناحية استمرارية العمل. أما من ناحية التأسيس والتنفيذ فيُخضع هذه العملية لآلية إدارة وتنفيذ المشاريع. كما يركز نهج أمن المعلومات السعودي على العنصر البشري بشكل أساسي، باعتبار الإنسان هو الموجه الأول للتكنولوجيا. فيوصي باتباع برامج توعية وتدريب للموظفين بحسب حاجة الموظف والمهام التي يقوم بتنفيذها. كما روعي أثناء وضع نهج أمن المعلومات السعودي على تنوع المصادر والخبرات العالمية، إذ بالإضافة للمعايير العالمية الواجب اتباعها يتبنى نهج المعلومات السعودي خبرات الفيدرالية الأميركية ونظيرتها الألمانية، إلى جانب القوانين الوطنية السعودية الناجمة عن الخبرات المحلية.
ولا مجال في مقال واحد تقديم تحليل شامل عن مكامن القوى والضعف في نهج أمن معلومات حكومي. لكنني أود أن أختم بأنني قد تعمدت في هذا المقال الخلط بين أمن المعلومات والأمن السيبراني. وذلك لأن الدول المتقدمة اليوم تبني أمنها السيبراني بعد وضع منهجية واضحة وشاملة لأمن المعلومات. أما في الحالة السورية فأغلب الظن بأن الحكومات المتعاقبة خلال حكم نظام الأسد لم تتطرق لهذا المسعى. وهذا ما يجعل الحكومة اليوم أمام مسؤولية المبادرة بشكل فوري للبدء بوضع نهج شامل لأمن المعلومات في سوريا، من دون تضويع فرصة الاستفادة من خبرات الدول التي تشابه سوريا في الظروف والرؤى الاستراتيجية.
تلفزيون سوريا
————————-
واشنطن وأنقرة.. نقاط الاتفاق والخلاف في الملف السوري/ علي تمي
2025.02.12
شهدت السنوات الأخيرة تحولات كبرى في المشهد السوري، حيث لعبت واشنطن وأنقرة دوراً محورياً في إعادة رسم خريطة الصراع في الشرق الأوسط، من خلال تنسيق عسكري واستخباري مكثف أثمر عن تغييرات استراتيجية غيرت موازين القوى داخل سوريا.
ورغم هذا التعاون، لا تزال هناك نقاط خلاف رئيسية بين الحليفين، أبرزها ملف قسد، الذي يمثل العقبة الأكبر أمام توافق شامل بين الحليفين في الناتو.
التنسيق الأميركي – التركي في إسقاط النظام السوري
لم يكن سقوط النظام السوري ممكناً لولا التنسيق الوثيق بين واشنطن وأنقرة، هذا التنسيق سمح بتمهيد الأرض لمعركة حلب ثم دمشق، عبر خطة متعددة الأبعاد ومحكمة شاركت فيها إسرائيل أيضاً.
قبل ستة أشهر من بدء المعركة، كثفت إسرائيل ضرباتها الجوية ضد مواقع الميليشيات الإيرانية في سوريا، بدءاً من ريف درعا، مروراً بدمشق وحمص، وصولًا إلى ريف حلب. في الظاهر، بدا هذا القصف وكأنه جزء من استراتيجية ردع إسرائيلية لمنع أي هجوم إيراني محتمل انطلاقاً من الجولان، لكن في الواقع، كانت الضربات تهدف إلى إنهاك الميليشيات الإيرانية تمهيداً لإسقاط النظام المخلوع من الجذور.
ذروة هذه العمليات جاءت في الأول من نيسان/أبريل 2024، عندما استهدفت إسرائيل السفارة الإيرانية في دمشق، مما شكل ضربة قاصمة لقدرات طهران داخل سوريا.
تزامن ذلك مع حملة عسكرية جوية تركية استهدفت مواقع ومراكز حزب العمال الكردستاني (PKK) في شمالي سوريا، في 27 تشرين الأول/أكتوبر 2024، بهدف تحجيم نفوذه ومنعه من استغلال الفوضى الناجمة عن انهيار النظام.
بناءً على ذلك، اتضح اليوم أن واشنطن وزعت الأدوار بين حلفائها ولم يكن كل ما جرى عشوائياً، بل جاء ضمن خطة أميركية محكمة وكانت على النحو التالي:
– تركيا: تولت الدعم الميداني بالتنسيق مع الدوحة والتشاور مع الرياض، عبر تقديم الخطط العسكرية، وتمويل الفصائل المعارضة، وتوفير المعلومات الاستخبارية.
– واشنطن: فرضت رقابة مشددة على الحدود السورية – العراقية، لمنع أي تعزيزات إيرانية، كما وجهت تحذيرات صارمة لطهران بعدم استخدام المجال الجوي العراقي أو اللبناني لإرسال الإمدادات إلى سوريا.
– تل أبيب: شنت هجمات جوية مستمرة لإضعاف القدرات الإيرانية ومنع أي إعادة تموضع داخل سوريا. ففي 28 أيلول/سبتمبر 2024، كشف تقرير لوكالة رويترز أن وزارة الأشغال العامة والنقل اللبنانية منعت طائرة إيرانية من دخول المجال الجوي للبلاد، بعد تحذير إسرائيلي صريح لمطار بيروت بأنها ستستخدم “القوة” في حال السماح للطائرة بالهبوط.
هذا الموقف عكس مدى إحكام السيطرة الأميركية – التركية – الإسرائيلية على تحركات إيران في المنطقة.
ما هي النتائج الاستراتيجية التي حققتها التنسيق الثلاثي؟
– شلّ النفوذ الإيراني داخل سوريا، وإجبار طهران على سحب ميليشياتها “بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ”.
– إعادة رسم خريطة القوى داخل سوريا، بحيث تولت الفصائل المدعومة من أنقرة زمام الأمور بعد سقوط النظام.
– دفع موسكو إلى التفاوض على جدول زمني لإنهاء وجودها العسكري في سوريا، مما شكل ضربة كبيرة لنفوذها في الشرق الأوسط وتمركز قواتها قرب المياه الدافئة.
فالتحركات الناتو الأخيرة في سوريا أسهمت من إعادة تدوير زوايا الصراع من جديد وتقليص الهيمنة الروسية، خاصة في المناطق القريبة من الحدود التركية، حيث كانت موسكو تستخدم قواعدها للتجسس على قاعدة إنجرليك النووية التابعة للناتو.
ما هي نقطة الخلاف المحورية بين واشنطن وأنقرة؟
رغم نجاح واشنطن وأنقرة في التعاون لإسقاط النظام السوري، عادت الخلافات لتطفو على السطح مجددا بعد انتهاء المعارك، حيث برزت قضية “قسد” كأكبر عقبة أمام التفاهم الكامل والشامل بين الحليفين.
أنقرة، التي تعتبر “قسد” امتدادا لحزب العمال الكردستاني المصنف إرهابيا، طالبت واشنطن بتسليم الملف الأمني في شمالي سوريا بالكامل لها. لكن إدارة بايدن، التي كانت تنسق مع أنقرة خلال المعارك، فضلت تأجيل أي خطوة عسكرية ضد “قسد” إلى حين انتهاء الانتخابات الأميركية وعودة ترمب إلى الملعب من جديد.
لكن، حتى بعد فوز ترمب وتسلمّه مفاتيح البيت الأبيض، لا تزال واشنطن تماطل في تنفيذ أي تحرك حاسم ضد “قسد”، مما دفعها إلى تسليم الملف بشكل غير مباشر إلى باريس، التي تحاول استخدامه كورقة ضغط على أنقرة لتعويض خسائرها في إفريقيا.
السيناريوهات المحتملة لمستقبل “قسد” في ظل التعقيدات الراهنة
يبدو أن هناك عدة سيناريوهات مطروحة لحل هذه الأزمة:
– إعادة انتشار القوات الأميركية داخل سوريا، مع الاحتفاظ بقاعدتي التنف والوزير في الحسكة.
– توسيع اتفاقية أضنة بين أنقرة ودمشق، بحيث تمتد إلى 35 كم على طول الحدود السورية-التركية، لتأمين النفوذ والحدود التركي.
– احتفاظ إسرائيل بمناطق نفوذها التي سيطرت عليها بعد سقوط النظام، لمنع إيران من العودة إلى المشهد السوري.
الأهداف الاستراتيجية للتحركات الأمريكية – التركية – الإسرائيلية المشتركة في المنطقة
بعد نجاح الجهود المشتركة في سوريا، بات هذا التنسيق يهدف اليوم إلى تحقيق ثلاثة أهداف رئيسية:
– منع إيران من إعادة بناء شبكة ميليشياتها داخل سوريا من جديد.
– إجبار روسيا على تقليص وجودها العسكري تدريجياً، خاصة في المناطق الاستراتيجية مثل ميناء طرطوس وقاعدة حميميم.
– ضمان استقرار حكومة دمشق الجديدة، ومنع الفصائل الموالية لإيران أو موسكو من استعادة السيطرة على الحكم.
خلاصة القول من يعتقد أن هناك خلافاً جوهرياً بين واشنطن وأنقرة وتل أبيب فهو مخطئ. فرغم بعض التباينات في وجهات النظر، أثبت التنسيق الثلاثي قدرته على إعادة رسم ملامح الشرق الأوسط برمته وفق رؤية استراتيجية جديدة، تجلّت بوضوح بعد حسم ملف غزة بمشاركة الدوحة والقاهرة، في إطار تفاهمات إقليمية أوسع.
أما ملف الفصائل العراقية، فهو في طريقه إلى تسوية قانونية ضمن ترتيبات جديدة، بينما حزب العمال الكردستاني فقد تم حسمه على جبهتين:
سياسياً: من المتوقع أن يخرج زعيم الحزب عبد الله أوجلان في 15 شباط/فبراير الجاري بتصريح يدعو أنصاره إلى إلقاء السلاح والانخراط في العمل السياسي، بالتوازي مع عفو عام تصدره الحكومة التركية عن عناصر الحزب، في خطوة تهدف إلى إنهاء الصراع تدريجياً.
– عسكرياً: بعد هذا التوقيت، ستدعم واشنطن أنقرة في إخراج حزب العمال الكردستاني من سوريا والعراق، وهو السيناريو الأكثر ترجيحاً، مما يعكس تحولاً كبيراً في الموقف الأميركي تجاه الملف الكردي.
بالمحصلة، عقارب الساعة في سوريا لن تعود إلى الوراء، إذ نجح التنسيق الثلاثي التركي – الأميركي – الإسرائيلي، بدعم خليجي وتشاور أوروبي، في إعادة رسم قواعد اللعبة في الشرق الأوسط، وفرض توازنات جديدة غيرت معادلات الصراع، لتفتح الباب أمام مرحلة مختلفة تماماً في المشهد الإقليمي والدولي.
——————————–
التحديات الخارجية أمام حكومة دمشق/ عدنان علي
2025.02.12
لا شك أن الأوضاع الداخلية الضاغطة تشكل الهاجس الأول للحكومة في دمشق، وخاصة في قضيتي الأمن، والوضع المعيشي، فضلاً عن توحيد البلاد، تحت راية الدولة السورية.
غير أن ثمة تحديات خارجية تفرض نفسها على هذه الحكومة، ولا مهرب من التعامل معها، لأنها تؤثر مباشرة على أداء الحكومة في الداخل، فضلا عما تحمله من مخاطر استراتيجية على المدى الأبعد.
ولعل في مقدمة هذه المخاطر، الاعتداءات الإسرائيلية المتكررة على الأراضي السورية، بما فيها من توغلات وعمليات قصف، وقضم للأراضي، فضلاً عن استهداف المواطنين السوريين بالرصاص، ومنعهم من الوصول إلى حقولهم، وتخريب البنى التحتية في مدنهم وبلداتهم.
والمعروف أن هذه الاعتداءات بدأت منذ اليوم التالي لرحيل نظام الأسد، عبر استهداف مجمل قطعات وأسلحة الجيش السابق، ومن ثم احتلال قمة جبل حرمون، وصولاً إلى مسلسل التوغلات شبه اليومية لمناطق في محافظتي القنيطرة ودرعا، مع الاحتفاظ ببعض تلك المناطق حتى الآن، فيما يزعم جيش الاحتلال بأنه إجراء “مؤقت”، لكن في الحقيقة لا يمكن التثبت من ذلك، ولا معرفة معنى المؤقت في قاموس الاحتلال الإسرائيلي.
والسؤال المطروح، ماذا تريد إسرائيل من الحكم الجديد في سوريا؟ ولماذا تبادر الى هذه التحرشات دون أي استفزاز من جانب هذا الحكم؟
من الواضح أن حكومة إسرائيل لا تنظر بارتياح إلى التطورات في سوريا المتمثلة برحيل نظام الأسد، وهي تسعى الى استفزاز وابتزاز الحكم الجديد، ودفعه إلى مواجهة غير متكافئة، وهي تعلم أنه في مرحلة ضعف، ولديه أولويات داخلية ملحة، بعيداً عن أية مواجهة خارجية، لا مع إسرائيل، ولا مع غيرها. وهي بذلك تريد أن يكون لها دور في تشكيل مستقبل سوريا، عبر استغلال مرحلة الضعف وعدم الاستقرار الراهنة لتمرير أجندتها المتمثلة في تحييد أي خطر مستقبلي قد يأتي من سوريا. ومن المنطقي القول إن التفكير الاستراتيجي لدى حكومة الاحتلال يفضي إلى أن سوريا ضعيفة ومقسمة ومتصارعة، هو الوضع المثالي لتحقيق مصالح إسرائيل على المدى البعيد، أي تماما كما كان الحال في عهد النظام السابق، طيلة الـ 13 عاما الماضية. ومن هنا، يمكن أن نفهم تصريحات القيادية في الإدارة الذاتية إلهام أحمد أنه لا بد أن يكون لإسرائيل دور في سوريا، حيث تراهن حكومة الاحتلال على “قسد” كوسيلة لمنع توحد البلاد، ولإبقاء حكومة دمشق بعيد عن امتلاك عوامل القوة، وفي مقدمتها السيطرة على ثرواتها النفطية في شرق البلاد، مع تشجيع أي اقتتال بين قسد وحكومة دمشق، وبين الكرد والعرب إجمالا، بغية خلق بؤر صراع مديدة، تنهك الحكومة المركزية في دمشق.
ولعل الخيارات المتاحة أمام الحكومة في دمشق تتمثل فقط حالياً في محاولة محاصرة إسرائيل سياساً ودبلوماسياً، عبر حلفائه المقربين، تركيا وقطر والسعودية، وإثارة هذه الاعتداءات الإسرائيلية في مجلس الأمن، ومع الإدارة الأميركية والدول الأوروبية، بالتركيز على أن عدم الاستقرار في سوريا، يمكن أن يهدد استقرار المنطقة ومصالح المجتمع الدولي. وفضلا عن ذلك، يمكن أن تعمد هذه الحكومة إلى زيادة حضورها في المناطق الحدودية، بما فيه الحضور الأمني، لتصعيب عمليات التدخل الإسرائيلية في تلك المناطق.
ووفق صحف غربية، فإن الرئيس أحمد الشرع قال في مقابلات مع بعض الوفود التي تزور دمشق بأنه حصل على تعهدات من دول كبيرة بأن إسرائيل ستنسحب إلى الخط الذي تحدد في 1974، في اللحظة التي تستطيع فيها سوريا السيطرة على كل أراضيها، من دون تحديد جدول زمني لهذا الانسحاب.
والخطر الخارجي الآخر، مرتبط إلى حد ما بالخطر الأول، ويتمثل بأفكار الرئيس الأميركي دونالد ترامب حول تهجير سكان غزة إلى بعض دول المنطقة، خاصة مصر والأردن والسعودية. وإذا كانت سوريا لم تذكر صراحة في هذه المقترحات، فان دوائر إسرائيلية تدرجها بالفعل، في محاولة لاستغلال المرحلة الانتقالية التي تمر بها سوريا، وهي تحتاج إلى دعم خارجي، وأميركي خاصة، ما يسمح بالدخول في مقايضات مع حكومة دمشق على هذا الصعيد.
أما الخطر الثالث، فيتمثل في المواجهات التي تتواصل على الحدود مع لبنان في إطار ما تقول حكومة دمشق إنه مواجهة مع مهربين وتجار مخدرات يحتضنهم حزب الله اللبناني، وهي مواجهات سرعان ما دخل على خطها الجيش اللبناني بأمر من رئيس الجمهورية جوزيف عون، ما يعني أنها قد تؤسس لعلاقات سلبية بين دمشق وبيروت، يسودها التوتر وعدم الثقة، وهذا قد يكون له انعكاسات على الصعد الأخرى الأمنية والاقتصادية والاجتماعية.
ولا يخفى أن حالة مشابهة من البرود تسود العلاقات مع الجار الشرقي العراق، حيث كان للميليشيات هناك دور بارز في دعم النظام السابق تحت جناح إيران، وهي مرحلة، يبدو أنه لن يتم تخطيها بسهولة.
وفي المحيط الأبعد، لا يخفى أيضا البرودة في العلاقات مع الإمارات ومصر، وهما بلدان لديهما هواجس قوية إزاء أي حكم له خلفية إسلامية بنظرهما، وما قد يترتب على هذا من انعكاسات على أرض الواقع، فلا يغيب عن البال طبيعة الدور الذي قامت به الإمارات في ليبيا والسودان، وفي مصر نفسها في عهد الرئيس السابق محمد مرسي.
أما العلاقة مع روسيا، فيبدو أنها تسير في مسار هادئ حتى الآن بالرغم من محاولات التأثير الغربية، بينما يبدو أن دمشق تسعى لعدم التفريط فيها، وربما استخدامها كورقة مساومة مع الغرب، بالرغم من الماضي الأسود لروسيا في سوريا.
أما إيران، فلا تمثل تهديداً حقيقياً حتى الآن، رغم ما يصدر عن بعض قادتها أحياناً من تصريحات هوجاء، قد تفسر بأنها تدخل في باب التنفيس عن الغضب إزاء النكسات التي منيت بها سياستها الخارجية في الفترة الأخيرة.
وخلاصة القول، إن مجمل هذه التحديات الخارجية، لا بد من التعامل معها بكثير من الحكمة والتروي. ولا شك أن ما يقوي موقف الحكم في دمشق، هو الإسراع في نيل قدر أكبر من الشرعية على الصعيدين المحلي والخارجي، عبر تشكيل حكومة أكثر تمثيلاً في الفترة المقبلة، وأشد التزاماً بالمعايير الحقوقية، وصولاً إلى تهيئة الظروف لرفع العقوبات الدولية، وجلب الاستثمارات، وعودة المهجرين، ما يمنح هذه الحكومة مزيداً من القوة في مواجهة أية تحديات خارجية.
تلفزيون سوريا
—————————————————–
اليأس والأمل بهزيمة ترامب/ أرنست خوري
12 فبراير 2025
يستحضر العيش في زمن دونالد ترامب المصطلحات الأكثر كآبة في القاموس. القرف والصدمة والغضب والعجز واليأس والحزن والخوف والمهانة والتأسف على ما بلغه الحال وعلى ما توحي به ملامح الغد، بعضٌ مما يستدعيه الرئيس الأميركي في كل مرة يصرّح ويوقّع مرسوماً ويبتسم ويعبس فيحتقر ويستفز ويبتزّ ويظلم ويهدد ويعيد الزمن إلى شريعة الغاب والقوي الذي يأكل الضعيف، والغني الذي يشعر أن من حقه طحن الفقير. وتحمّل العيش في عالم يحكمه رئيس من هذا الصنف لأقوى دولة في العالم، يتطلب الكثير من الحكمة والصبر واختراع الأمل. ولأن اليأس والإحباط لا يفعلان إلا تعميق الأزمة وتسهيل مهمة مهووس بالسلطة متطرف ووضيع مثل ترامب، ومتوحشين عنصريين محيطين به مثل إيلون ماسك، فإنّ المسارعة إلى ملاذ آمن كعِبَر التاريخ من شأنه أن يذكّر قارئه أن دوام الحال من المحال، لكن تغيير الحال يبقى مفتوحاً على احتمالي الأسوأ أو الأفضل.
في خانة اليأس، تحضر حقيقة أن ردة فعل نصف الشعب الأميركي على الجنون الترامبي الذي يمسك بطرفي الديكتاتورية في الداخل وتجاه الخارج، محبطة ومخيفة. ما يناهز نصف الأميركيين يتشاركون ترامب نظرته للحياة وللعلاقات بين البشر والدول. أما النصف الثاني، معارضو ترامب وكارهوه، من ديمقراطيين ليبراليين ونخب ومثقفين وفئة شابة متعلمة وطبقة وسطى تريد أميركا أكثر عدالة ومساواة في الداخل وأكثر إنسانية في الخارج، فهؤلاء هم الذين يبثّ سباتهم خوفاً عظيماً في نفوس كل من يتمنى العيش في عالم أفضل من الجحيم الذي يريد حكّام واشنطن الجدد فرضه علينا. فأن تقتصر ردة الفعل على تظاهرات تضمّ بضع مئات ضد رئيس يطرد في يوم واحد مليوني موظف، ويعلن الحرب على مؤسسات بلده وقضاته وموظفيه، ويجاهر بنيته قضم عشرات الحريات والحقوق، فإنما هذا يعني إما أن الصدمة أقوى من المخزون الذي راكمته عقود من الديمقراطية في أميركا وحرياتها وحيوية مجتمعها، أو نتفاءل مع المتفائلين ونفترض أن هذا السبات طبيعي على الأقل في الأشهر الأولى لما بعد فوز الرجل بنسبة مرتفعة من الأصوات، إلى حين استفاقة المتضررين من جنونه وتخريبه وإعادة تنظيم صفوفهم التي لا بد من أن تتسع لتضم ملايين إضافيين مع كل قرار يتخذه.
يحتاج الأمر إلى قليل من الإيمان بنظريات المؤامرة ليصدّق مراقب أن ترامب هو العدوّ الأول لأميركا؛ فتحت شعار جعل أميركا عظيمة مجدداً، توحي القرارات التي اتخذها في الأسابيع الثلاثة الأولى من ولايته الرئاسية بأنه مصمم على ضرب المؤسسات التي تشكل في نهاية المطاف العمود الفقري لما نقصده عندما نقول الولايات المتحدة الأميركية، من الجيش إلى القضاء وأجهزة الأمن وأذرع أميركا الناعمة في الخارج مثل USAID والمؤسسات التربوية والبيئية والاقتصادية ومراكز ثقافية لا يعجبه أداؤها أو أنها اتخذت موقفاً سلبياً منه في ولايته الأولى وما بعدها. كذلك يحتاج الأمر إلى قدر أقل من تصديق نظريات المؤامرة إياها لتوقُّع مصير هوليوودي لقصة ترامب وشلّته، كأن ينتهي به الأمر اغتيالاً مثلاً، لأنه سيكون مع مرور الوقت مكروهاً أكثر من اللزوم، مثلما كان جون كينيدي المغتال أيضاً محبوباً أكثر من اللزوم.
من المبكر نعي الأمل بإمكانية هزيمة مشروع ترامب في الداخل، فطبقات المجتمع الأميركي وفئاته يفترض أنها تدرك أين تكمن مصالحها وهذا ليس لنا أن نخبرهم عنه. ما يقع بين أيدينا، بوصفنا غير أميركيين ومهدّدين كمعظم شعوب العالم من ترامب وعصابته، ضئيل، ويقتصر بالنسبة إلى حمَلَة جوازات سفر دول ديمقراطية من بيننا، على التصويت لأحزاب وسياسيين ليبراليين يتصدر برنامجهم الانتخابي فعل كل شيء في سبيل إنزال الهزيمة بمشروع دونالد ترامب، ووضع حدّ لتمدد سرطانه في العالم. أما المحكوم عليهم بجوازات سفر بلدان لا انتخابات فيها ولا ديمقراطية، فما أمامهم سوى التضرّع لأي قوة خارقة لعلها تقنع حكامهم بأن التجرؤ على رفض أوامر ترامب و”أفكاره” لا بل مواجهتها بأكثر من البيانات، ليس بالصعوبة التي يتخيلونها. حاولوا وسترون.
العربي الجديد
————————–
خطّة ترامب لتهجير سكان قطاع غزّة: أصل الفكرة… آفاقها … وتداعياتها
المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات
10 فبراير 2025
تسببت تصريحات الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، حول سعيه إلى تهجير أكثر من مليونَي فلسطيني من قطاع غزّة تهجيراً دائماً إلى مصر والأردن، واستيلاء الولايات المتحدة الأميركية على القطاع “عبر ملكية طويلة الأجل” لتطويره عقارياً وتحويله إلى “ريفييرا الشرق الأوسط”، في انتقادات وإدانات فلسطينية وعربية ودولية واسعة، كما لقيت رفضًا قاطعًا من مصر والأردن. وكان ترامب قد التقى رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو في البيت الأبيض في 4 شباط/ فبراير 2025، في أول لقاء له مع زعيم دولة أجنبي منذ توليه منصبه في 20 كانون الثاني/ يناير 2025، حيث أدلى بتصريحاته حول تهجير سكان القطاع وسط ترحيب من نتنياهو.
تطور المقترح
على الرغم من أن الرغبة الإسرائيلية في تفريغ قطاع غزّة من سكانه وتهجيرهم منه تعود إلى عقود طويلة، وأخذت منحى أكثر جدّية منذ بداية الحرب على غزّة في 7 تشرين الأول/ أكتوبر 2023، مع حديث مسؤولين إسرائيليين عن نياتهم القيام بتطهير عرقي في القطاع، فإن واشنطن، تحت إدارة الرئيس السابق جو بايدن، كان تعارض رسميّاً دعوات التهجير القسري. ويمكن تلمّس بواكير ظهور فكرة “تطهير” القطاع من سكانه في الدائرة المحيطة بترامب، في تصريحاتٍ أدلى بها صهره ومسؤول السياسة الأميركية نحو الشرق الأوسط خلال إدارته الأولى (2017–2021)، جاريد كوشنر، في 15 شباط/ فبراير 2024، خلال حوار أُجري معه في جامعة هارفارد، حينما قال “يمكن أن تكون الواجهة البحرية في غزة ذات قيمة كبيرة”. ولم يتردّد في الدعوة صراحة إلى إخراج فلسطينيي القطاع إلى صحراء النقب ومصر، ثمّ “تنظيفه”. وعلى الرغم من أنه زعم إن إسرائيل لم تتحدّث صراحة عن “أنها لا تريد أن يعود الناس إلى هناك [القطاع] بعد ذلك”، فإنه استدرك بالقول “لستُ متأكّداً من أن هناك الكثير من غزة بقي قائمًا في هذه المرحلة”. لكن الأخطر في تصريحات كوشنر، الذي يملك تأثيراً كبيراً في ترامب، كان في ادّعائه أن غزّة لم تكن مأهولة بالسكان تاريخيًا، حيث إنها “كانت نتيجة حرب […] كانت هناك قبائل في أماكن مختلفة ثم أصبحت غزّة شيئاً”.
وفي تشرين الأول/ أكتوبر 2024، أي عندما كان ترامب مرشحًا للرئاسة، قال في مقابلة إذاعية إن قطاع غزة يمكن أن يكون “واحداً من أفضل الأماكن في العالم، لكنّ الفلسطينيين فشلوا في ’استغلال‘ موقعه الساحلي على البحر الأبيض المتوسط”. وأضاف إن غزّة “قد تكون أفضل من موناكو” لأنها تتمتع “بأفضل موقع” في الشرق الأوسط. وعاد إلى طرح الفكرة مجددًا بعد وقت قصير من تنصيبه رئيسًا، إذ وصف القطاع بأنه “ذو موقع رائع على البحر ويتمتّع بطقس جميل […] ويمكن القيام ببعض الأشياء الجميلة فيه”، وأضاف أنه “قد” يكون على استعداد للمساعدة في إعادة الإعمار فيه. غير أن أول إشارة واضحة منه لدعمه عملية تهجير الفلسطينيين منه كانت في 25 كانون الثاني/ يناير عندما قال إنه تحدّث مع العاهل الأردني الملك عبد الله الثاني عن إمكانية نقل أكثر من “مليون ونصف فلسطيني”، إما على نحو مؤقت أو طويل الأمد، إلى الأردن ومصر إلى حين “تنظيف هذا المكان بالكامل”. وفعل الأمر نفسه في اتصال مع الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي. ومع رفضهما طلبه رفضاً قاطعاً، فإنه بقي يصرّ على أنهما سيقبلان في النهاية.
واللافت هنا أن كلّاً من ترامب، وصهره كوشنر، ومبعوثه إلى الشرق الأوسط ستيفن ويتكوف، وجميعهم يعملون في مجال التطوير العقاري والأعمال، ينظرون إلى قطاع غزّة “صفقة عقارية” يريدون الاستثمار فيها، ليس لمجموعة محدّدة من الناس (أي أهله من الفلسطينيين)، ولكن لزبائن آخرين؛ ذلك أن سكّانه لن يعودوا إليه أبداً، بل سيجري توطينهم خارجه.
خطة أم مجرد أفكار؟
يبدو أن ترامب فاجأ بتصريحاته بشأن رغبته في الاستحواذ على غزّة وتطويرها، كبار المسؤولين في إدارته، خصوصًا تصريحاته التي أدلى بها في المؤتمر الصحافي مع نتنياهو والتي مفادها بأن إدارته “ستفعل ما هو ضروري” للسيطرة على قطاع غزّة وتطويره، إذ إن عددًا محدودًا من مساعديه، أبرزهم مستشار الأمن القومي مايك والتز وويتكوف، كانوا على علم بما يخطط لطرحه في لقائه مع نتنياهو. وتتباين الروايات هنا بشأن إذا ما كان الجانب الإسرائيلي أحيط علماً مسبقاً بفكرة استحواذ واشنطن على القطاع أم لا، إذ يقول أحد المصادر إن والتز وويتكوف ناقشا الفكرة مع نتنياهو قبل يوم من اجتماعه مع ترامب، في حين تؤكد مصادر أخرى أن نتنياهو سمع بها أول مرة من ترامب قبل وقت قصير من إعلانها أمام الصحافيين.
وعلى الرغم من أن ترامب كان في المؤتمر الصحافي مع نتنياهو يقرأ من ورقة حول مقترحه، ما يعني أنه إعلان رسمي مدروس وليس موقفًا انفعاليًا، فإن مسؤولين في البيت الأبيض صرّحوا إن هذا المقترح لم يناقش في دوائر الإدارة المعنية بشؤون الشرق الأوسط، كما لم تجرِ مناقشة جدواه وواقعيته. وتشير تقارير إعلامية إلى أن وزارتَي الخارجية والدفاع لم يحاطا علماً مسبقاً لتقديم تصوّرات وتشكيل لجان عمل حول الفكرة، ولم تقدّم وزارة الدفاع أيّ تقديرات لأعداد القوات الأميركية المطلوبة للسيطرة على القطاع، ولا كيفية ذلك أو تكلفته. وبناءً على ما سبق، يبدو أن الفكرة تطوّرت نتيجة مناقشات بين ترامب وعدد قليل من مستشاريه، على عكس المتعارف عليه في تطوير السياسات الكبرى في الولايات المتحدة. ومن ثمّ، يمكن وصفها بأنها أقرب إلى أفكار من كونها خطة متكاملة جرت بلورتها على نحو مدروس. ويؤكد ذلك حالة الفوضى التي سادت إدارة ترامب بعد تصريحاته خلال لقائه نتنياهو، إذ سعى المسؤولون الأميركيون للتخفيف من حدّتها، خصوصًا أنها تمثّل انتهاكاً صارخاً للقانون الدولي، ولا تستند إلى أرضية قانونية أميركية واضحة تخوّل ترامب فعل ذلك. فقد أعلنت الناطقة باسم البيت الأبيض، كارولين ليفات، في 5 شباط/ فبراير، أن ترامب لم يلتزم بإرسال قوات أميركية إلى قطاع غزّة. في حين قال وزير الدفاع، بيت هيغسيث، إن الحكومة الأميركية “بعيدة جدًا” عن التدخل في القطاع، وذلك على الرغم من أن ترامب كان أكّد أن إدارته “ستفعل ما هو ضروري” لتحقيق ذلك. وأكدت ليفات أن خروج الفلسطينيين من غزّة سيكون “مؤقتاً”، على الرغم من أن ترامب قال بوضوح إنه سيكون على نحو دائم، وشدّدت على أن الولايات المتحدة لن تقدّم أيّ أموال لإعادة الإعمار. أما وزير الخارجية، ماركو روبيو، الذي تشير مصادر إلى أنه لم يُشارك في تفاصيل المقترح مسبقًا، ومع ذلك عبّر عن دعمه له، فحاول أن يخفّف من جماح تصريحات ترامب بالقول إنها ليست “خطوة عدائية”، بل خطة “سخية جدًا” من جانب الولايات المتحدة للمساعدة في إعادة إعمار غزة. وأضاف “الكثير من الأجزاء في غزة، حتى لو عاد الناس إليها، فلن يكون لديهم مكان للعيش بأمان، لأن هناك ذخائر غير منفجرة وحطامًا وأنقاضًا”.
لكن ترامب عاد، في 6 شباط/ فبراير، في مؤشر آخر على غياب رؤية واضحة حول هذه المسألة في إدارته، ليؤكد أن إسرائيل ستسلّم قطاع غزة للولايات المتحدة “عند انتهاء القتال […] وإعادة توطين الفلسطينيين في مجتمعات أكثر أمنًا وأجمل”، من دون أن يوضّح مقصده من ذلك، وإذا ما كان يعني السماح لإسرائيل باستئناف العدوان على القطاع وتهجير سكانه بالقوة العسكرية، أم عبر منع المساعدات الإنسانية ومواد الإعمار من دخوله. ولا تتوافق تلميحات ترامب هنا مع تفاخره بأنه هو من تمكّن من تحقيق وقف إطلاق النار في قطاع غزّة قبل يوم من تسلّمه الرئاسة. ولم يمضِ يوم واحد على تصريحه الأخير، حتى عاد ليؤكّد أن “الولايات المتحدة ستنظر إلى الأمر [السيطرة على غزّة] باعتباره صفقة عقارية […] لكن لا داعيَ للتسرع في فعل أي شيء”. ومع توالي الانتقادات الموجهة إليه بأنه يبدو في طرحه نحو غزة أنه مطور عقاري أكثر من كونه رئيسًا للولايات المتحدة، حاول مستشاره للأمن القومي والتز تبرير الأمر بالقول إنه “لا أحد لديه حل واقعي [لقطاع غزة]، وإن الرئيس يطرح بعض الأفكار الجديدة الجريئة جدًا على الطاولة […] أعتقد أن هذا سيجعل المنطقة بأكملها تأتي بحلولها الخاصة إذا لم تعجبها حلول السيد ترامب”.
ولم تأت هذه الانتقادات من أطراف عربية ودولية فحسب، ولا من الحزب الديمقراطي وحده، بل حتى من الجمهوريين أنفسهم الذين رأوا فيها نكوصاً من ترامب عن شعاره الذي يهتدي به في سياسته الخارجية “أميركا أولاً”. ويشير هؤلاء إلى أن طموحاته في السيطرة على واحدة من أسوأ مناطق الكوارث في العالم تتناقض مع انتقاداته لأسلافه في التورط في حروب لا نهاية لها، أو انتقاده لمحاولة جورج بوش الابن إعادة بناء العراق بعد احتلاله عام 2003. وأشار نقّاده من الجمهوريين إلى أن نيته السيطرة على قطاع غزة وإعادة إعماره، التي ستكلف عشرات المليارات من الدولارات، تتناقض مع سعيه لإغلاق الوكالة الأميركية للتنمية الدولية (USAID) بذريعة أنها تنفق مليارات الدولارات على المساعدات الخارجية سنويًا هباءً.
تداعيات المقترح
سيكون لإصرار ترامب على مخطّط تهجير سكان قطاع غزّة تداعيات كبيرة، خصوصًا أنه يتحدّث أيضًا عن أن إدارته ستبتّ في إمكانية الاعتراف بضمّ إسرائيل أجزاءً واسعة من الضفة الغربية. وتخشى بعض الأوساط في واشنطن من أن مجرد طرحه المقترح قد يؤدي إلى زيادة العنف في المنطقة، وتخريب اتفاق وقف إطلاق النار وتبادل المحتجزين بين المقاومة الفلسطينية وإسرائيل، ولا سيما أن نتنياهو يحاول التنصل بكل طريقة ممكنة من تنفيذ المرحلتين الثانية والثالثة في الاتفاق الذي توسطت فيه قطر ومصر والولايات المتحدة. وفعلًا، فقد صدرت جملة من التصريحات عن وزراء يمينيين إسرائيليين يؤيّدون فكرة ترامب بتطهير قطاع غزة عرقيًا، ومن ذلك الأمر الذي أصدره وزير الحرب الإسرائيلي، يسرائيل كاتس، في 6 شباط/ فبراير، للجيش بإعداد خطة للسماح بالخروج الطوعي للسكان من قطاع غزّة.
ومع أن نتنياهو وصف اقتراح ترامب بـ “الفكرة الرائعة التي يجب فحصها ومتابعتها وتنفيذها […] لأنها ستخلق مستقبلاً مختلفاً للجميع، وتعيد تشكيل الشرق الأوسط وتجلب السلام”، من غير الواضح إذا ما كانت إسرائيل ترغب فعلاً في تسليم الولايات المتحدة ملكية غزّة والتنازل عما تعدّه حقًا لها. وعلى الأرجح أن إسرائيل ترغب في توظيف قدرة ترامب على الضغط على الدول العربية لقبول فكرة تهجير سكان قطاع غزة والمساهمة في إعادة إعماره، بدعم دولي، ثمّ تمكينها من السيطرة عليه ضمن ترتيبات مع واشنطن، وربما بضمانات لشركات ترامب وشركائه. ولا شك في أن نتنياهو غادر لقاءه مع ترامب سعيداً، على الأقل لناحية تضييع الأخير فرصة الضغط عليه للالتزام باتفاق وقف إطلاق النار الذي يزعم الفضل فيه لنفسه.
ويحذّر بعضهم في واشنطن من أن إصرار ترامب على هذا المقترح قد يعوق مساعيه الأخرى لتوسيع دائرة الاتفاقيات الإبراهيمية، خصوصاً بعد إعلان السعودية موقفاً رافضاً أيّ مساعي لتهجير الفلسطينيين من القطاع، وتأكيدها أنها لن تطبّع مع إسرائيل من دون ضمانات لقيام دولة فلسطينية، وهو ما يرفضه نتنياهو تماماً. ويقول هؤلاء إن فكرة استيلاء الولايات المتحدة على غزّة تقلب الموقف الأميركي الرسمي، الذي يتبنّى منذ عقود طويلة، حل الدولتين رأسًا على عقب، كما أن من شأنه أن يدفع الولايات المتحدة إلى قلب الصراع “الفلسطيني – الإسرائيلي” بطريقةٍ حاول الرؤساء السابقون منذ عهد هاري ترومان تجنّبها. كما أن الضغوط التي يمارسها ترامب على الأردن ومصر قد تؤدّي إلى قلاقل في البلدين الحليفين لأميركا.
خاتمة
يرى بعض مستشاري ترامب أن مقترحه بسيطرة الولايات المتحدة على قطاع غزّة “خيالي”، وأنه سيتلاشى بمرور الوقت بعد أن يتضح له أنه غير قابل للتطبيق، لكن هذا سيعتمد بالدرجة الأولى على مستوى المقاومة التي سيواجهها المقترح فلسطينيًا وعربيًا ودوليًا. فآراء ترامب وسياساته ليست قدراً إذا كان ثمّة موقف فلسطيني وعربي رسمي لا يكتفي بالرفض فحسب، بل يقدّم خطة عملية لتثبيت الشعب الفلسطيني في أرضه في قطاع غزّة، تضمن إعادة إعماره ودعم صمودهم على أرضهم. الردّ على مشروع ترامب الاستفزازي الخطير يبدأ بكسر الحصار على قطاع غزّة من الجانب العربي، من بوابة مصر، وتقديم العون والإغاثة والسكن المؤقت لسكانه من دون التنسيق أو انتظار الإذن ممن يمارس الإبادة ويخطط لتهجيرهم، أما الخطوة الثانية فهي الضغط على الفلسطينيين لإعادة بناء منظمّة التحرير الفلسطينية وإنشاء هيئة تابعة للسلطة الفلسطينية لإدارة غزّة، وتشكيل هيئة عربية أو عربية – إسلامية تضع خطط الإعمار، وتخصّص لها الميزانيات اللازمة لتنفيذها، وتحثّ الفلسطينيين، في الوقت ذاته، على رفع دعاوى تعويض ضد إسرائيل وتدعمهم في هذا المسعى. مثل هذه الخطة، فحسب، تهمّش مسعى ترامب ونتنياهو، وتضع حدًّا لعبثهم بمصائر الشعوب في هذه المنطقة.
العربي الجديد
——————————
=========================