أبحاثسقوط بشار الأسد، الرئيس الفار والمخلوع

مرّة أخرى: من السياسة السياسيّة إلى السياسة المجتمعيّة/ حازم صاغية

12 فبراير 2025 م

لوحظت، في الأسابيع القليلة الماضية، ظاهرة لافتة هي التجاور بين أقصى الابتهاج وأقصى الحذر عند أكثريّات سوريّة ولبنانيّة. فمن غير أن يختفي الابتهاج، أطلّ الحذر مقروناً بالريبة عند البعض، وبالنقد عند البعض، وبالنقض المشوب باليأس عند بعض ثالث. وفي خلفيّات تلك المشاعر لاحت أسئلة مشروعة حول العلاقات الأهليّة في المجتمعين، والقدرة التي تملكها طواقم الحكم الجديدة على رأب تلك العلاقات المتصدّعة، أو امتصاص طاقتها الانفجاريّة. فكأنّنا، في هذه المنطقة من العالم، محكومون بأفراح تساكنها الهواجس، واضطراب يتخلّل تعقّل الأشياء، جاعلاً من المؤقّت دائماً، ومن الترقّب رياضة وطنيّة.

وإذا كان آل الأسد قد أحكموا صدّ سوريّا عن السياسة، فاللبنانيّون لديهم، في 14 مارس (آذار) 2005 و17 أكتوبر (تشرين الأول) 2019، تمرينان على اختلاط التوقّع وانقلاب الآمال على نفسها وعلى أصحابها.

لكنّ مَن هم بيننا أشدّ ميلاً إلى الحذر، وأقلّ ثقة بظاهر الأمور، يخشون أحداثاً سابقة عرفها الجوار ويجدون فيها ما يعزّز حذرهم. ففي العراق مثلاً، لم يدم طويلاً احتفال العراقيّين بإطاحة نظام صدّام، بل ذهب بعضهم إلى التحسّر على عهده المتخم بالفظاعات. أمّا الليبيّون فما كادوا ينتهون من إهالة التراب على القذّافي حتّى عصفت بهم حرب أهليّة.

وما من شكّ في أنّ خلافات كثيرة تحمل على التمييز بين العناوين أعلاه، بعضها يتّصل بالبلدان وبعضها يتعلّق بالمراحل الزمنيّة أو بتفاوت أحجام الانتكاسات. مع هذا، ربّما آن أوان القول الصريح بأنّ بلداننا بلا داخلٍ يُعوَّل عليه، أو أنّها ذات دواخل متنازعة ذاتيّاً بعضُها ينفي بعضها الآخر. وهذا ما يعطي أدوار الخارج، بالسلبيّ منها والإيجابيّ، أحجاماً استثنائيّة، ويجعل الحديث عن «السيادة»، بنتيجة «الصراع على» بلداننا، إنشاءً محضاً.

وفي تجارب البلدان المذكورة يتصدّر اللوحةَ تحطّم الولاء الوطنيّ على يد النقيضين، الأنظمة الأمنيّة العسكريّة وحركات الإسلام السياسيّ، أو، في حالة لبنان، تحالف المحاصّة الطائفيّة الفاسدة واحتواء الحياة السياسيّة بالميليشيات وبأقنوم المقاومة السحريّ. وبهذه المعاول هُدّمت الوطنيّات حديثة النشأة وضمر كلّ اتّفاق حول الوطن ومعناه. فسؤال «من نحن؟» لا يزال يعثر على عديد الإجابات في كلّ واحد من البلدان، وحتّى حين يظهر إقرار جامع بالاسم الرسميّ للبلد بوصفه هويّةَ أمر واقع وظيفيّ، فإنّ مضمون تلك الوطنيّة ووجهتها يبقيان مادّة خلاف وتباين. فهل «اللبنانيّة» مثلاً تنطوي تعريفاً على مقاتلة إسرائيل أم على إبقاء لبنان بمنأى عن الحروب؟ وهل «العراقيّة» تتضمّن بذاتها موقفاً متوجّساً من إيران أو موقفاً يحضّ على الالتحاق بها؟ أمّا في سوريّا، فيُنبئنا بالكثير ذاك الخلافُ المتجدّد دوماً حول ما إذا كانت الجمهوريّة «سوريّة» فحسب، أم «عربيّة سوريّة»، وهذا فضلاً عن حرب العلمين.

وبالطبع كان ضعف النسيج الوطنيّ لبلداننا، وقبل أن تفاقمه الأنظمة العسكريّة والميليشيات وتفشّي الفساد، قد تغذّى على بضعة عوامل: فهناك الميراث العريق في رفض «دويلات سايكس بيكو» من دون امتلاك بديل عنها ما خلا التجربتين البائستين لمملكة فيصل في دمشق ولـ»الجمهوريّة العربيّة المتّحدة». ولأسباب يكثر تعدادها، بقيت القوى الحديثة والحداثيّة نُوىً، ولم تتحوّل فاعلاً سياسيّاً مؤثّراً يتجاوز الطوائف والإثنيّات، أو يستولد روابط تتعدّى الأهليّ منها. وهي حقيقة كانت تُظهّرها خصوصاً لحظات الاستقطاب الحادّ التي تتعاظم معها الحاجة إلى القوى السياسيّة وتدخّلها فيما لا يلبث أن يبدو تدخّل كهذا أمنية بلا حظوظ. وهكذا تروح سجالاتنا تصطبغ بقدر معتبر من الثأريّة، وباستدعاء الأصول والتواريخ الأقدم عهداً، كما تواكبها منافسات ريفيّة المصدر حول «البطولة» و»الرجولة» و»الشهادة»…

فمجتمعاتنا، بالتالي، لا تنتفع كثيراً بالرواية الحداثيّة المبسّطة التي تنهض على ثنائيّة «الشعب» و»النظام»، أو «المجتمع» مقابل «السلطة»، وما ينجرّ عن هذه المقاربة من ثنائيّات فقيرة عن «الوطنيّ» و»غير الوطنيّ»، و»الفاسد» و»غير الفاسد»، و»البورجوازيّ» و»الكادح»، بحيث ننتظر هطول ثورة أو إصلاح يقضيان على الطرف السيّئ وينصران الطرف الجيّد. وبعيداً من ذاك التبسيط، لا يكون الوسط بين قطبي الثنائيّة مرشّحاً للاضمحلال بالمعنى الذي رأت فيه الماركسيّة الأوروبيّة أنّ «الفرز» سوف يشقّ البورجوازية الصغيرة ما بين بورجوازية وبروليتاريا.

وهذا لا يلغي تفوّق طرف على طرف في النزاعات السياسيّة المألوفة، أكان لجهة قربه من وعي المسألة الوطنيّة أو بُعده عن الوعي الراديكاليّ بحاملَيه العسكريّ والمقاوم، إلاّ أنّه يذهب في تعقّب مشكلتنا إلى ما وراء السياسة بمعناها المألوف ذاك. فعندنا يتبدّى المجتمع مجتمعاتٍ، وثقافتُه ثقافاتٍ، تماماً كما أنّ وحدة السلطة نفسها تبقى عرضة للتفكّك تحت وطأة التنافر الأهليّ، الطائفيّ والإثنيّ والمناطقيّ، وضغطه. فإذا استخدمنا لغة الفنّ قلنا إنّها مجتمعات ثلاثيّة الأبعاد، لا ثنائيّتها، سطحُها لا يقتصر على بُعدين، كالارتفاع والعرض، بل ينهض، في آن واحد، على ارتفاع وعرض وعمق… وهذا ما يستحقّ حصّةً من التفكير الذي ينصبّ كلّه، في يومنا هذا، على السياسة السياسيّة.

الشرق الأوسط

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى