هل تجعل الراحة حيواتِنا أكثر صعوبة؟/ أليكس كورمي
![](https://www.alsafahat.net/wp-content/uploads/2025/02/a2121204-f8888377-466a-80dc-a97ade40acf8.jpg)
8 فبراير 2025
ترجمة: لطفية الدليمي
لا يسعنا نكرانُ أنّ الراحة التي توفّرُها الحياة الحديثة لنا لا يمكنُ إلّا أن توصف بأقلّ من كونها مذهلة. عندما أكتب الآن هذه الكلمات يرسلُ هاتفي النقّالُ بطريقة لاسلكية بعضًا من أعظم ألحان القرن الثامن عشر (مؤلفها الموسيقار العظيم باخ لو كنت تريد معرفة ذلك!!) إلى مكبّر الصوت في الجهاز النقّال الخاص بي. في الوقت ذاته بوسعي استخدامُ الجهاز ذاته، وبزمن لا يتعدّى بضع لحظات، في طلب سيّارة أجرة تأخذني إلى حيث أشاء، أو توصلُ طلبية من الطعام إلى منزلي، أو ربما أختارُ بدء محادثة مع شخصٍ أشاء الحديث معه. حتى الماضي القريب كانت مثل هذه الوقائع (التطبيقات التقنية بلغة العالم الرقمي) تمثّلُ للبشر شيئًا أقرب إلى السحر، إذا ما شئنا استخدام القانون الثالث لآرثر سي. كلارك(1)Arthur C. Clarke.
لو شئنا تلمّس الحقيقة فإنّنا – كثقافة بشرية- نسعى إلى مثل هذه الفعاليات، وليس هذا بالأمر الذي يتعسّرُ فهمه أو يستعصي تسويغه. إنّ مثل هذه الفعاليات تزيلُ قدرًا كبيرًا من الأعباء عن كواهلنا، وتقلّلُ مناسيب الملل والضجر في الحياة، وتقدّمُ لنا ألوانًا من إمكانيات الإستمتاع، وفي الوقت ذاته توفّرُ علينا الكثير من الوقت والجهد والطاقة الجسدية والعقلية. لكن برغم هذه الملامح الإيجابية فإنّ معظم البشر يدركون أنّ هذه الراحة (المفترضة) لها جانب مظلمٌ ينبغي مساءلته وعدم إهماله لأنّ المترتبات على هذا الإهمال خطيرة وواسعة النطاق.
قبل أن نذهب بعيدًا في مساءلة موضوعة الراحة (أو الاعتياد على المسالك السهلة الميسّرة في الحياة) سيكون في غاية الأهمية قبلها أن نفهم لماذا تمثّلُ الراحة حلوى مغرية للبشر (أو لمعظم البشر في الأقلّ)؟ أوّلًا لنفكّرْ في الحقيقة الوجودية التالية: نحنُ في الغالب نقاومُ فعل الأشياء التي يتطلّبُ منّا القيامُ بها من أجل تحقيق تقدّم في أيّ وجه من أوجه الحياة: نقاوم دفع الضرائب المترتّبة علينا، أو كتابة التقرير الذي يتوجّبُ علينا تقديمه الأسبوع المقبل، أو ممارسة التمارين الرياضية المجهدة أو حتى الخفيفة منها. قد تكون لنا خطط كثيرة مدفوعة بحسن النيّة والرغبة في الإنجاز؛ لكن خلف كلّ خطة من هذه الخطط الكثيرة ثمّة دافعٌ مخيف إلى الخمول والسكينة. من المهمّ أن نتساءل: لماذا تشكّلُ هذه المقاومة والشهية المتعاظمة إلى الراحة والخمول من جانبنا جزءًا أساسيًا في تكويننا الذهني والجسدي؟
في هذه الإنعطافة المفصلية من بحثنا الاستكشافي قد تساعدُنا الرؤى المستمدّة من علم النفس التطوّري Evolutionary Psychology، وبخاصة فكرة “عدم التناغم التطوّري Evolutionary Mismatch”. عدم التناغم التطوّري فكرة جوهرها أنّنا تطوّرنا بيولوجيًا لكي نعيش نمط حياة الصيد وجمع الثمار Hunter-Gatherer، وتبعًا لهذا التطوّر تغيّرت ظروفنا بكيفية جذرية شاملة؛ غير أنّ أدمغتنا وأجسادنا لم تتغيّر تبعًا لهذه الفعالية التطوّرية. هذا يعني على مستوى السلوك البشري أنّ غرائزنا غالبًا لم تتطوّرْ بتناغم مع تطوّر نمط العيش، وعلى هذا غالبًا ما تكون غرائزنا غير متناغمة بشكل قاسٍ مع متطلبات بيئتنا.
لو عدنا الآن إلى النظر عبر عدسة التطوّر البشري إلى موضوعة الميل الطبيعي للبشر إلى الراحة والخمول فستكون درجة الخمول المتأصّل في البشر، والرغبة في التماس الطرق المختصرة والميسّرة والسهلة، أمرًا منطقيًا للغاية.
كان الطعام (بمعنى آخر: الطاقة اللازمة والضرورية للعيش) بالنسبة لأسلافنا من الصيادين وجامعي الثمار أمرًا يتّسمُ بالندرة وعدم الإتساق؛ إذ قد يتوفّرُ يومًا ويغيب أيامًا بطريقة عشوائية تعتمد الحظ والمصادفات الطيبة. فضلًا عن موضوعة الطعام (الطاقة) كان البشر الأوائلُ عُرْضةً لعوامل قاسية مثل الطقس الجامح والحيوانات المفترسة. كان البقاء في مثل تلك الظروف يعني الإبتعاد عن إستخدام الموارد المتاحة لنا بشكل مبذّر أو لا يتّسمُ بالمسؤولية.
كانت مقاومة الحركة (والميل الطبيعي إلى الخمول حينها) أقرب لأن تكون توازنًا ضروريًا لكبح لجام الاندفاعات الجامحة من النشاط التي واجهت حياة الصيّادين- جامعي الثمار. بعض تلك الاندفاعات الجامحة تمثّلت في البحث عن الطعام في المطر الغزير، أو الركض بسرعة جنونية للإفلات من الوقوع في قبضة حيوان قاتل. كان أسلافنا حينئذ يتساءلون: “هل يتوجّبُ علينا حقًا فعلُ مثل هذه الأمور؟ أليس من الأفضل لنا أن نوفّر طاقتنا؟”. البشر الذين كانوا يفضّلون إيثار السلامة والميل للخمول (البقاء في مأمن خلال العاصفة الثلجية) عندما تقلّ احتمالات الحصول على الطعام كانوا أكثر ميلًا للبقاء على قيد الحياة من سواهم، وبالتالي كانت تزيد إمكانية نقل جينوماتهم الوراثية إلى الأجيال التالية لهم. هؤلاء البشر هم أسلافنا؛ ولمّا كانوا كذلك فسيكون طبيعيًا أننّا ورثنا سلوكهم الميّال للخمول والسكينة وتغليب السلامة على كلّ ما سواها.
لكن من البديهي، ومنذ تلك الأوقات البعيدة للغاية حيث عاش أسلافنا، غيّرت الابتكارات المشهد بطريقة جذرية. نحنُ كبشر عدّلنا التقنية وبيئتنا – جزئيًا في الأقلّ- بحيث تخدم غريزتنا الطبيعية في حفاظنا على الطاقة. السؤال الجوهري الآن هو: ما الذي نخسره إذا ما اتّبعنا ميلنا الطبيعي لمنح الأولوية لكلّ ما من شأنه مدّنا بالراحة والرفاهية؟ لا أظنّ أحدًا سيجادلُ كثيرًا في نقض أو تفنيد الحقيقة التي تقولُ إنّ الغسّالات والقطارات والهواتف، على سبيل المثال، حرّرتنا من أعباء العمل الثقيل لكي نعيش حياة أكثر إشباعًا وإبداعًا؛ لكن كما قلتُ في بداية أطروحتي هذه فسأؤكّدُ ثانية أنّ التقنيات الأكثر تطوّرًا لها من غير شك متعتها وفرصها الواعدة كذلك؛ لكن ثمّة شواهدُ حقيقية تكشفُ لنا أنّ الراحة المفرطة في حياتنا المعاصرة يمكن أن تجعل حياتنا أكثر صعوبة بدلًا من تيسيرها المفترض والمتوقّع بالبديهة العامّة.
دعوني أتناولْ على سبيل المثال شواهد مشخّصة بدلًا من الحديث العام: تعاظم مناسيب الاكتئاب والقلق التي ترجع إلى الاستخدام المفرط للهواتف الذكية ووسائل التواصل الاجتماعي، وانفجار المشاكل الأيضيّة metabolic على مدى العقود العديدة الماضية والتي تعزى بشكل مباشر إلى أنماط الحياة الخاملة والاعتماد على الطعام الجاهز الغني بالسعرات الحرارية والفقير بالعناصر الغذائية. من جانب اجتماعي باتت مستويات الشعور بالوحدة Loneliness معضلة قومية دفعت المملكة المتّحدة لأن تعيّن وزيرًا للوحدة في حكومتها ابتداءً من عام 2018. واضحٌ لنا جميعًا أنّ مثل هذا الشعور بالوحدة لم يكن ليتحقّق ببساطة لولا التقنيات الرقمية المستحدثة – من الاتصالات الشخصية وصولًا إلى الترفيه المنزلي- والتي تتيحُ للبشر العيش في مثل هذه الحياة المنفصلة عن الآخرين مثل جزر هائمة في محيط شاسع.
خلال سنوات عملي كمعالج نفسي شهدتُ كيف يمكنُ أن يقود الاعتمادُ المفرط على آلية التكيّف مع المستجدات الوجودية والتقنية إلى تضخيم أبعاد المشكلة التي كان مفترضًا تخفيفُها عبر آلية التكيّف. الشعورُ بالأمان الذي تحصلُ عليه من البقاء ماكثًا لأيّام طويلة في المنزل يمكنُ أن يؤدّي لاحقًا إلى جعل الخروج ومغادرة المنزل أمرًا محفوفًا بقلق مرضي قد يستحيلُ طارئًا مهدّدًا لسلامة العيش. كذلك يمكن أن تصبح الراحة المجتناة من تجنّب محادثة غير مريحة مع زوجتك عاملًا يجعل إجراء هذه المحادثة أكثر صعوبة في الأيام أو الأسابيع اللاحقة. كذلك استخدامُ تطبيقات غرف المحادثة لتجنّب الشعور بالحرج من المحادثات المباشرة يضعفُ مهاراتك الاجتماعية مع الوقت حتى ليكاد ينسيك كيف يكون التعامل الحقيقي مع كائن بشري. إنّ اللجوء للخيارات المريحة والميسّرة بكيفية حثيثة يقلّلُ من قدراتك في التعامل مع الصعوبات التي لا مهرب منها في الحياة، ومن منظور تطوّري فإنّ بعض عناصر الإزعاج وعدم الراحة لنا مهمّة لبقائنا تمامًا مثل ميلنا لطلب الراحة والاسترخاء. لم يتمكّن أسلافنا من البقاء على قيد الحياة عبر طلب الكسل فحسب؛ بل عبر الجمع بين اللعب بأمان والمخاطرة المتّسمة بالحكمة. على سبيل المثال: التغلّب على الميل للسكينة والبقاء في منزل مألوف، وبدلًا من ذلك بذلُ الجهد المطلوب طلبًا لجني مكافآت مكان أقرب إلى مصادر الغذاء ويوفرُ في الوقت ذاته حماية أفضل من عناصر التهديد الطبيعي للبشر.
الإفراطُ في طلب الراحة في العصر الحديث هو أقربُ لأن يكون صفقة مع الشر الداهم. هو مغرٍ لنا لأنّه يروقُ لغرائزنا؛ لكنّه يستنزفُ قوانا مثل فايروس خفي. يسّرت الراحة عيشَنا؛ ولكن في الكثير من النواحي جعلت النجاح الحقيقي أكثر مشقّة للكائن البشري. إزدهار الإنسان ورفاهيته وسعادته عوامل لا تتعلّقُ بالبقاء فحسب بل تعتمدُ أيضًا على كيفية النمو العقلي والجسدي وحلّ المعضلات الدينامية فضلًا عن التضامن الجمعي في مجابهة المعضلات الوجودية.
على خلاف ما قد يتوقّعه كثيرون فقد ركّزتُ خلال عملي كمعالج نفسي مع عملائي الأصغر سنًّا على موضوعات بعيدة عن الموضوعات الكلاسيكية على شاكلة التصارع النفسي العميق أو تأثير عواقب ما بعد الصدمة. كان معظم اهتمامي ينصبُّ على المهمّات الأساسية في الحياة مثل إنشاء صداقات جديدة، والتعامل مع ضغوطات العمل، والذهاب إلى أماكن جديدة. ربما سيكون الأمر مفاجئًا لكثيرين منكم متى ما علمتم أنّ ما يخبرُني به عملائي مرّة بعد أخرى وبنسق تكراري مثير للتساؤل أنّهم يعانون شعورًا متفاقمًا بعدم الراحة عند التفكير بتحقيق ولو البعض القليل من تلك المهمّات الأساسية، وأنّ عوالمها راحت تضيق معهم يومًا بعد آخر بتأثير شعور عدم الراحة ذاك.
من الناحية المثالية، ينبغي أن تعمل وسائل الراحة اليوم كأنظمة دعم تساعدنا على التحرك نحو أهداف جديرة بالاهتمام، سواء كانت ممارسة الرياضة من أجل صحة أفضل، أو بناء مهنة، أو تربية أسرة، أو صنع عمل فني، أو تعليم الآخرين وتوجيههم. إن تحقيق هذه الأهداف ينطوي دائمًا على نوع من الإزعاج، ولكن هذه الصعوبة في حد ذاتها هي التي تشكل وتطور شخصيتنا.
لو تعاملنا من الوجهة المثالية فسنقولُ إنّ وسائل الراحة اليومية يجبُ أن تعمل كأنظمة دعم لنا تساعدنا على المضي نحو تحقيق أهداف جديرة بالإهتمام والإنجاز: ممارسة الرياضة لتحسين الصحة الشخصية، الإرتقاء بتوجّه مهني، تربية أسرة وإعالتها بطريقة مقبولة، صنع عمل فنّي، توجيه الآخرين والإشرافُ على تعليمهم… إلخ. تحقيق أيٍّ من هذه الأهداف ينطوي على نوع من الإزعاج بالتأكيد؛ لكنّ هذه الصعوبة (أي الإزعاج) هي ذاتها التي تستطيع الإرتقاء بشخصياتنا وتشكيلها بأفضل ممّا كانت عليه من قبلُ.
في العالم التقني الذي صمّمناه ليكون صنيعتنا وخادمًا لنا، من الضرورة البالغة أحيانًا أن نبذل جهدًا واعيًا للتصرّف بكيفية تعارضُ توجهاتنا الغريزية. في الوقت ذاته يجب علينا من الوجهة الثقافية أن نتذكّر- ونُذكّر أجيالنا الشابة- بحقيقة أنّ الراحة تبدو مرغوبة في اللحظة الآنية الحاضرة؛ لكنْ في الوقت ذاته فإنّ قدرتنا على التكيّف والتغلّب على التحدّيات تشكّلُ جزءًا من تراثنا التطوّري أيضًا، وهي جوهر مغامرة الحياة.
1. قوانين كلارك الثلاثة هي قوانين للتنبؤ بالتقنيات المستقبلية قام بصياغتها الروائي البريطاني آرثر سي. كلارك، تنص على الآتي:
حينما يقول عالم بارز إن شيئًا ما ممكن فهو محق. وإذا قال إن شيئًا ما مستحيل فهو مخطئ.
الطريقة الوحيدة لاكتشاف حدود الممكن هي أن تغامر مارًّا من هذه الحدود إلى المستحيل.
أي تقنية متقدمة بصورة كافية لا يمكن تمييزها عن السحر.
قراءات إضافية
Good Reasons for Bad Feelings: Insights from the Frontier of Evolutionary Psychiatry by Randolph M Nesse (Penguin)
Behave: The Biology of Humans at Our Best and Worst by Robert Sapolsky(Vintage)
The Anxious Generation: How the Great Rewiring of Childhood Is Causing an Epidemic of Mental Illness by Jonathan Haidt (Allen Lane)
(*) أليكس كورمي Alex Curmi: مختصّ بريطاني في علم النفس الإكلينيكي، ومتدرّب على العلاج النفسي. يقدّم بودكاست عنوانه The Thinking Mind.
(**) الموضوع أعلاه ترجمة كاملة لما نُشِر في صحيفة “غارديان” البريطانية بتاريخ 4 نوفمبر/ تشرين الثاني 2024 في سلسلة The Big Idea الأسبوعية تحت عنوان:
Is convenience making our lives more difficult?
المترجم: ترجمة: لطفية الدليمي
ضفة ثالثة