نقد ومقالات

الكاتب الجيد أم القارئ الجيد؟/ مجدي دعيبس

تحديث 13 شباط 2025

بداية لا بدّ من الإشارة إلى أنّ هذا المقال كان من وحي منشور قرأته على صفحة الروائي الحبيب السائح وكان بعنوان: روايتنا لا تُقرأ. وهو منشور يعبّر عن واقع الحال في الوطن العربي ـ باستثناء بعض الأسماء- بلا تجميل ولا مواربة ودون استدعاء لغة أو مفردات مراوغة قابلة للتأويل والتحقيق. لكنني في هذا المقام سأتناول الموضوع من وجهة نظر أخرى، تتقاطع مع وجهة نظر الحبيب السائح بالأسى على واقع فعل القراءة، الذي ما زال بحاجة للمزيد من الجهود على مستوى المؤسسات الرسمية والأهلية، وصولا إلى العائلة وبالذات مؤسسة الأم حتى تصبح القراءة أحد الأسس الراسخة في تربية الطفل العربي.

بعض القرّاء من فئة الشباب خاصة يتوجهون لي بالحديث في بعض الندوات التي أشارك فيها حول امتلاكهم لأفكار كثيرة حول الكتابة، لكنّهم لا يعرفون كيف يبدؤون، أو كيف ينظّمون أفكارهم ويحوّلونها إلى مادة مكتوبة. بالطبع أستوعب قلقهم وتردّدهم وأجيبهم، أنّ الكاتب كان في الأصل مثلهم قارئا نهما بدوام كلّي ثمّ قرّر في لحظة ما لأسباب ذاتيّة ونفسية وثقافية تراكمت عبر السنوات أن يقتطع جزءا من وقت القراءة ويخصّصه للكتابة، قرّر أن يترك منطقة الراحة (القراءة) ويتحوّل إلى فعل متعب وتنافسي ومحفوف بمخاطر كثيرة ألا وهو الكتابة، وأنتهي بالقول بعد تفصيل وتوضيح وتعليل، إنّ القارئ الجيد أفضل من الكاتب الجيّد.

الكاتب الجيد يُنتج ثلاثة أو أربعة أعمال تعتبر درّة مسيرته الروائيّة، قبل أن يدخل في مرحلة تكرار نفسه على مستوى اللغة والمواضيع والتقنيات – وهذا مجرد رأي يحتمل الصواب كما يحتمل الخطأ – لكن القارئ الجيد يمكن أن يصل رصيده إلى مئات الأعمال التي يمكن أن يتفاعل معها إيجابا أو سلبا، ويمكن أن يتبادل وجهات النظر مع نظرائه من القرّاء العمدة، ويمكن أن يكتب عنها مراجعات في (goodreads) أو على صفحات التواصل الاجتماعي، أو المدونات والقنوات والمواقع الثقافية. القراءة حالة وعي فريدة تؤدي إلى فهم الفرد لمكانه ومكانته في المجتمع والحياة والوجود. الوقت الذي يبذله الكاتب بالمعدل في الرواية يتراوح بين عام وثلاثة أعوام حتى تصل إلى يدي القارئ في صورتها النهائية، بينما القارئ يحتاج في المتوسط لثلاثة أيام لينهي رواية متوسطة الحجم. عصارة جهده وثقافته ولغته وفلسفته وخبراته في الحياة، يضعها الكاتب في رواية على مدار ثلاث سنوات، ثم يأتي القارئ ويهضم ويتأمل هذه الوجبة الدسمة في فترة قصيرة جدّا.

لا توجد لدينا أزمة كتابة على الإطلاق ودليل ذلك هو مئات الأعمال التي تصدر سنويا في الوطن العربي، ولكن ثمة خلل واضح في فعل القراءة. في عمان، على سبيل المثال هناك العشرات من نوادي القراءة وعدد كبير من الهيئات الثقافية التي تنظم وتنفذ نشاطات أدبية وقراءات ولقاءات، لكن السؤال الملح هنا: هل يُعتبر هذا الأمر مؤشرا حقيقيّا لاعتياد فعل القراءة وارتفاع عدد القرّاء، إلى الحد الذي يجعلنا نجازف ونطلق على المجتمع ككل صفة قارئ، بحيث تكون حصة الفرد من عشرين إلى خمسة وعشرين كتابا في السنة؟ لست متأكدا، الأمر بحاجة لدراسة ميدانية وتنظيم استطلاع لعينة تمثل خلفيّات متفاوتة من المجتمع. ويحضرني هنا قول أحد الأدباء الذي نشر جل نتاجه في عقد التسعينيات والعقد اللاحق من القرن الحالي عندما قال ملخّصا حال القراءة: «ربما نكون ألف كاتب، نكتب ونقرأ لبعضنا بعضا». القارئ الجيّد لديه الأدوات الكافية لمحاكمة النص. مع طول المراس يصبح لديه ذائقة خاصة به وقدرة على تمييز الغث من السمين. بطبيعة الحال، لن يمتلك خلفيّة أكاديميّة ومصطلحات صعبة لتنظير ما يشعر به ويحسّه تجاه الرواية التي يقرأها، بل يعمد إلى استخدام لغة بسيطة ومباشرة، لكنّها تؤدي الغرض وتظهر الجوانب الإيجابيّة والسلبيّة في العمل وتحلّل الشخصيّات المركّبة والإشارات الفلسفيّة العميقة وتفكك الرموز التي يبثّها الكاتب في عمله.

القارئ الملم والواعي بحركة التاريخ والجغرافيا وثقافة مجتمعه، يمتلك حساسية عالية تجاه المواضيع التي تمس خصوصيته فيتحوّل من قارئ إلى كاتب موازٍ يتوقع الخط السردي والحدث اللاحق وأفق نمو الشخصيّات، قد يتقاطع مخططه مع مخطط الكاتب وقد يذهب إلى مسارات أخرى بعيدة، لكن كل هذه السيناريوهات المحتملة تأتي من باب إثراء العمل وتخصيب الذائقة وتدريب الخيال. لا أجازف عندما أقول إنّ القارئ الجيد يصنع كاتبا جيّدا، يحاوره ويعرض عليه وجهة نظر مختلفة ورؤية مغايرة من زاوية معتمة لم يفكّر بها. يشير إلى الثغرات والهفوات، ليس من باب التصيد والاستخفاف والمناكفة التي يعجّ بها المشهد الثقافي، ولكن على سبيل النقد البنّاء الذي تحركه ذائقة مدرّبة وثقافة عريضة ومعرفة لصيقة بالنفس البشريّة.

بطبيعة الحال نحن نريد كاتبا جيّدا وقارئا جيّدا في الوقت نفسه، فكل واحد منهما يشدّ من عضد الآخر، وكل واحد منهما يشكّل حلقة في سلسلة متينة متّصلة؛ فلولا الكاتب ما كان القارئ ولولا القارئ ما كان الكاتب، لكن في المقابل، نريد قارئا شغوفا يستمتع بملمس الكتاب ويتأمل لوحة الغلاف ويشعر بالحماسة ويأخذ نفسا عميقا استعدادا للرحلة التي يزمع خوضها في ثنايا الرواية، لا نريد أن نختزل فعل القراءة بهدف كتابة بحث أو دراسة حول عمل ما طلبه أستاذ المدرسة أو أستاذ الجامعة. لو أنّ هذا القارئ الشغوف، المحب، المثقف، صاحب الرؤية، ذا الحس النقدي الرزين يأخذ مكانه الصحيح وحجمه المكتمل في المشهد الثقافي، فإنّ الرواية العربية – بلا ريب- ستأخذ مكانا متقدّما بين روايات الأمم الأخرى على صعيد الترجمة والانتشار والتأثير والمقروئيّة.

كاتب أردني

القدس العربي

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى