سوريا حرة إلى الأبد: مقالات وتحليلات 13 شباط 2025
![](https://www.alsafahat.net/wp-content/uploads/2025/01/585562_webp-780x470.jpg)
حرية إلى الأبد: كل المقالات والتحليلات والحوارات التي تناولت انتصار الثورة السورية اعتبارا من 08 كانون الأول 2024، ملاحقة يومية دون توقف تجدها في الرابط التالي:
سقوط بشار الأسد، الرئيس الفار والمخلوع
———————————-
صمت السلطة الجديدة في دمشق وصخب السوريين/ بكر صدقي
تحديث 13 شباط 2025
تتواتر التخمينات بشأن تشكيل حكومة جديدة في دمشق، في مطلع شهر آذار القادم، تكون أكثر شمولاً وتمثيلاً للسوريين، على ما وعد الرئيس أحمد الشرع في خطابه الأول الموجه إلى السوريين قبل أقل من أسبوعين، كخطوة أولى في سلسلة خطوات تشكل معاً «خارطة طريق» المرحلة الانتقالية وفقاً لرؤية السلطة هذه.
وسرعان ما يطرح السؤال عما فعلته الحكومة القائمة، حكومة تسيير الأعمال، في فترة ولايتها على رغم قصرها. فلنلق نظرة على أبرز الملفات التي تم التعامل معها إلى الآن، على ضوء أولويات الوضع الكارثي الذي حدث فيه التغيير.
الأمن: قامت قوات الأمن العام بحملات تمشيط وبحث عن «مطلوبين» في عدد من المدن، اعتقلت في أثنائها أعداداً غير معروفة من مسلحي النظام السابق، وعدداً محدوداً من رموزه البارزة. ووقعت أثناء هذه الحملات انتهاكات لم تنف الحكومة بعضاً من أبرزها (قتل تحت التعذيب، إهانات للسكان، حوادث ثأر وغيرها…). لكن التكتم كان هو الطابع الغالب على نتائج تلك الحملات. وجرت، بالتوازي، عمليات «تسوية وضع» لا يعرف الرأي العام تفاصيلها، كان من أبرزها تسوية وضع شخصيات معروفة من أعمدة النظام المخلوع كوزير الداخلية محمد الشعار، وقائد الحرس الجمهوري طلال مخلوف، وقائد ميليشيات الدفاع الوطني فادي صقر، ورجل الأعمال المقرب من ماهر الأسد محمد حمشو. أثار تعامل السلطة مع هذه الأسماء استياءً واسعاً في الرأي العام بسبب علاقتها المعروفة بقمع السوريين وارتكاب مجازر موصوفة بالنسبة لبعض منهم، فادي صقر بصورة خاصة الذي ظهر، قبل أيام، في حي التضامن في دمشق الذي يعرف كل السوريين المجزرة التي ارتكبها فيها أحد مرؤوسيه، أمجد يوسف، العام الماضي. وما زاد الأمر استفزازاً لسكان حي التضامن أن صقر كان برفقة ضباط من الأمن العام لحمايته! بل إنه يقوم على إحدى لجان السلم الأهلي!
الاقتصاد: لا نأتي بجديد حين نقول إن الحكومة قد وجدت نفسها حين تشكيلها أمام اقتصاد منهار بكل جوانبه، ووضع اجتماعي في الحضيض، وأنها لا تملك عصا سحرية للنهوض بهما في وقت قصير جداً. لكن هذا لا يعفيها من المسؤوليات عن قرارات خاطئة أو متسرعة، وأخرى لم تتخذها. وقد برزت المشكلات الاقتصادية وارتداداتها الاجتماعية مؤخراً بعد الارتفاع السريع في قيمة الليرة السورية أمام العملات الصعبة بصورة غير مبررة اقتصادياً. لربما كانت الحكومة مسرورة لهذا التطور لأنه في الأحوال العادية يعتبر مؤشراً إيجابياً لتحسن اقتصادي وارتفاع في مستوى الثقة بالعملة الوطنية.
أما في الواقع السوري فقد أوضح عدد من الخبراء بأن هذا الارتفاع في سعر الصرف إنما جاء نتيجة المضاربة في السوق السوداء، بسبب امتناع المصرف المركزي عن رفد السوق بما تحتاجه من النقد الوطني، وعملياً من خلال تأخير صرف رواتب الموظفين في الإدارة والقطاع العام، فزاد الطلب على الليرة السورية مقابل اضطرار الناس إلى صرف ما لديهم من عملات أجنبية، مصدرها غالباً تحويلات اللاجئين والمهاجرين، لتأمين احتياجاتهم اليومية. مع العلم أن الحكومة أعلنت، منذ أيامها الأولى، زيادةً على الرواتب بأربعة أضعاف.
ويتصل بموضوع الرواتب موضوع آخر هو فصل أعداد كبيرة، غير معروفة، من الموظفين من وظائفهم، بعضهم في إطار «إجازة» لمدة ثلاثة أشهر إلى حين تقرير مصيرهم الوظيفي. وقبل ذلك كان قرار حل الجيش وأجهزة الأمن وما يعني ذلك من تحويل أفرادهما إلى عاطلين عن العمل. وتتم هذه العملية تحت غطاء تصحيح حال البطالة المقنعة التي سادت في ظل النظام المخلوع بالنسبة للموظفين المدنيين، وتفكيك أجهزة القمع بالنسبة للعسكريين والأمنيين. لا شك أن انتفاع أعداد كبيرة من الناس من رواتب لا يستحقونها في ظل النظام السابق، لشغلهم وظائف وهمية، يجب ألا يستمر في الدولة الجديدة. ولكن ضخ أعداد كبيرة إضافية إلى كتلة العاطلين عن العمل لا يعدو كونهم قنبلة موقوتة يمكنها أن تشكل تحديات اجتماعية وأمنية على مستقبل البلاد. يمكن اعتبار قرار من هذا النوع متسرعاً لأنه لم يرفق بإيجاد بدائل لمن بقي بلا دخل، وهذه مسؤولية الدولة في أن توجد فرص عمل أو دخل بطالة كما هي الحال في كل الدول. ينطبق هذا أيضاً على حال عشرات الآلاف من جنود الجيش وقوات الأجهزة الأمنية ممن لم تشملهم حملات الاعتقال بسبب جرائم منسوبة إليهم الذين باتوا بلا وظائف ولا دخل.
قبل أيام تظاهر عشرات في مدينة طرطوس تركزت مطالبهم على تدهور الوضع المعيشي الناتج عن صرف من الخدمة أو تأخر الرواتب. فتصدت لهم مظاهرة مضادة اتهمتهم بأنهم من فلول النظام المخلوع، وتوتر الجو حين قام أفراد من المظاهرة «الموالية» للحكم الجديد بالاعتداء على المظاهرة الأولى وتفريقها بالقوة، ولم يتدخل الأمن العام للحجز بين الطرفين. هذه سابقة خطيرة تنذر بالتكرار ما دام هناك موجوعون بسبب قرارات متسرعة وغير محسوبة العواقب، وإشارة إلى تشابك الملفين الأمني والاقتصادي، وتشكل تهديداً للسلم الأهلي من خلال الانقسام الخطير بين معارضة جديدة وموالاة جديدة يفترض أن ينتظم الخلاف بينهما في أطر قانونية. وتقع المسؤولية على السلطة في توفير أسباب استياء آخذ في الاتساع بسبب الوجع الاقتصادي أولاً، والانتهاكات التي لم تتوقف ثانياً.
لقد لاقت عملية الإطاحة بنظام الأسد ترحيباً واسعاً لدى السوريين، وقبولاً بالأمر الواقع لدى البيئة الاجتماعية التي كانت حاضنة للنظام المخلوع. حتى الانتهاكات التي وصفت بالـ»فردية» تم بلعها على أمل أن تبقى في حدود الفردية. وكان على الحكم الجديد أن يحافظ على هذين الترحيب والقبول كشرعية مكتسبة لكنها مشروطة ومؤقتة لا يمكن تكريسهما بتجاهل المشكلات الملحة.
والحال أن الصمت هو السائد مقابل كل الشكاوى المعبر عنها سواء في الشارع أو وسائل التواصل الاجتماعي. وأهم تعبيرات هذا الصمت هو غياب وسائل الإعلام الرسمية التي يمكن أن تمنح قناة موثوقة للأخبار، ومنبراً للشكاوى ومراقبة أداء السلطة.
كاتب سوري
القدس العربي
—————————-
ملاحظات وخواطر ثانية عن سوريا في زمن جديد/ ياسين الحاج صالح
تحديث 13 شباط 2025
في الأيام الأولى لسقوط نظام الأسديين، تركزت خشية قطاعات متنوعة من السوريين على مخاطر حكم ديني متشدد، طالباني من نوع ما، بالنظر إلى الأصول السلفية الجهادية للمحررين الجدد، وربما الجغرافيا الأفغانية للسلفية الجهادية الأولى. ودون أن تزول هذه الخشية، فإنه بعد شهرين ونيف من السقوط/ التحرير (والكلمتان هما الأكثر شيوعاً في تداول المتكلمين السوريين) تصعد المؤشرات على مخاطر حكم تسلطي متمركز سنّياً. تسنين الجيش وجهاز الأمن العام، وتركز السلطات في يد الإدارة الانتقالية الجديدة وعمادها هيئة تحرير الشام، يسوغان كفاية الخشية من حكم تسلطي من الصنف الشائع عربياً (الحكم الأسدي كان إبادياً، وليس تسلطياً). وما يرجح مساراً تسلطياً خفيف الإيديولوجيا هو التحول ما بعد المتوحش أو ما بعد الغولي لإسلاميي هيئة تحرير الشام من جهة، والعاملان العربي والدولي اللذان يبدوان قويي التأثير على الشؤون السورية في الشهرين الماضيين من جهة ثانية. تتطلع الإدارة الجديدة إلى أن يجري تطبيعها إقليمياً ودولياً (وما يقتضيه ذلك من ابتعاد عن السياسة الدينية) لاعتبارات سياسية وأمنية مفهومة، وكذلك لاعتبارات اقتصادية ثقيلة الوطأة ولا يتصور أن تخف في السنوات العشر القادمة.
ولا يتوافق التمركز السني للحكم حتماً مع أسلمة إيديولوجية نشطة وعدوانية حتماً، لكنه لا يستبعدها كذلك. وبخاصة إذا تعثرت السير نحو شرعية قانونية ومؤسسية في الشهور والسنوات القليلة القادمة، أو إذا احتدت التوترات الاجتماعية التي يتقاطع فيها الطبقي بالطائفي والجهوي. وبالمجمل، قد نعيش مع هذين الشرطين: تشدد ديني وحكم تسلطي، وربما تستقر هذه الثنائية كشرط بنيوي طويل الأمد.
ديمقراطية وعلمانية: فإذا صحت هذه التقديرات، تعين للنضالات الديمقراطية في البلد أن تجمع بين التركيز على قضايا العدالة الاجتماعية والحريات العامة من جهة، والمواطنة المتساوية وسيادة القانون ومقاومة الاستثناءات والتمييز من جهة ثانية، أي باختصار بين تطلعين ديمقراطي وعلماني. وهذا يستجيب لواقع راهن يتمثل في وصل سلطتي الدين والدولة أو تقاربهما غير المسبوق اليوم، كما يتجاوز «الفصام النكد» بين الديمقراطية والعلمانية طوال عقدين، الأخير من حكم حافظ والأول من حكم بشار. خلال تلك السنوات كانت العلمانية بالفعل إيديولوجية داجنة وشاهدة زور على الأوضاع السياسية والحقوقية في البلد، بشهادة أعمال كبار دعاتها الذين لم يكتفوا بمعاداة الإسلاميين (دون ذكر شيء حتى عن حقهم بالعدالة، ومن باب أولى الحق في السياسة) بل وكذلك تسفيه الفكرة الديمقراطية الموصوفة بـ«الديمقراطوية» و«العدمية حيال الدولة» وصولاً إلى تزكية حرمان الأميين من التصويت في انتخابات حرة لأن المشكلة في «صناديق الرؤوس» فلا تحل بصناديق الاقتراع، كأنما كنا «مهددين» بأي صناديق اقتراع وقتها (ناقشت ذلك بقدر من التفصيل في كتابي: الثقافة كسياسة، المثقفون ومسؤوليتهم الاجتماعية في زمن الغيلان، بيروت، 2016). يحتاج المرء إلى إرادة عدم معرفة قوية العزم حتى يجهل ذلك. نستحضره اليوم للقول إنه يُستبعد للحاجة إلى علمانية ديمقراطية ومقاتلة أن تجد ما يُستند إليه في العتاد الفكري والسلوكي للمعنيين من العقدين المذكورين. نقد ذلك التراث والانخراط في صراعات اليوم هو، بالعكس، ما من شأنه أن يستعيد كرامة الفكرة العلمانية ويجدد شباب التفكير العلماني.
داخل وخارج: الملاحظة المتواترة تفيد بأن النقاش السياسي في الداخل السوري الجديد أكثر تنوعاً وأقل اختزالية، وفي كل حال أكثر تفاعلية، من النقاش خارج البلد. ولعل هذا وثيق الصلة بوفرة التفاصيل التي تتاح للمهتم كل يوم في الداخل. وهي إن كانت تنهى عن شيء فهو التبسيط والاختزال. تأخذ الأشياء أبعاداً أكثر درامية و«شعرية» من بعيد، بينما تظهر «نثرية» وأقل احتداماً وأكثر اختلاطاً عن قرب. ليس في هذا ما يعطي ميزة دائمة للنظرة الداخلية. فنحن نحتاج إلى مسافة كي نرى، وهو ما يتاح من بعد، لكننا نحتاج قبل كل شيء أن نعاين ونشهد ونختبر، أن نحدّق، وهو ما يتيحه القرب.
على أنه يجمع بيننا، أصحاب الموقعين معاً، الحاجة إلى إعادة اختراع النفس من أجل إشغال موقع مبادر في ظروف متغيرة، مختلفة نوعياً عما سبقها طوال عقود. هناك بداية كبيرة في تاريخ سوريا، ومن شأن التفاعل والاشتباك الفكري والعاطفي والنفسي معها أن يعود علينا ببدايات شخصية، وبقدر من التغير الضروري. استعداداتنا الموروثة تسير في الواقع في اتجاه معاكس: رفض أخذ العلم بالتغير الكبير، وقبله رفض أخذ العلم بالثورة، ودوماً رفض للتغير الشخصي، والمثابرة على عتاد فكري وسياسي وتنظيمي قديم. هذا مقاومة للتعلم وللحرية، ذلك أننا أحرار فقط بقدر ما نغير أنفسنا، بقدر ما لا نبقى كما نحن مدى الحياة، كأننا في سجن مؤبد.
موت وحياة : في سوريا قوى موت فاعلة، بعضها استمرار لما هو قديم من كراهيات وطائفية وسوقية وبذاءة وفساد طال أمدها فترسخت في الأنفس والأحوال، وبعضها ناشئ، يتصل بقوى تجمع بين طائفية محتقنة وعجرفة دينية سياسية ونوازع استئثار محمومة في تركيبة القوى المسيطرة الجديدة. لكن في سوريا اليوم روحا ناشئة نشطة. هناك اجتماع الناس وتفاعلهم ونقاشهم، وقلة خوفهم من بعضهم، بل وشجاعة ورفع رأس، وكذلك إرادة للحياة والتعاون لم يشهد مثلها من قبل. وهي، الروح، بعد ذلك وريثة تجارب كاوية مديدة، يسارع البعض سلفاً لإسدال ستار من النسيان عليها، وقد يعضدون النسيان بإرادة عدم معرفة قوية العين بدورها. هذا خاطئ كسياسة لأنه يجازف بالوقوع مجدداً في ما سورع إلى نسيانه، بدل استحضاره بقوة في النقاش العام وترسيخ مبدأ عدم تكراره، وهو خاطئ أخلاقياً لأنه ينطوي على تمييز وعدم احترام بحق من عانوا أكثر من غيرهم من تلك التجارب الكاوية، أي نسيان من كانوا منسيين قبلاً. حماية الروح الجديدة توجب مقاومة النسيان، كما مقاومة قوى الموت الموروثة والجديدة.
وفي سياق عدم التكرار (never again) ومقاومة الموت، تشغل قضايا نوعية مثل تحريم التعذيب موقعاً مركزياً في جدول الأعمال الديمقراطي الجديد لأن التعذيب كان ركيزة بنيوية للحكم الأسدي، ولأنه عنوان لهياكل وممارسات وتكوينات نفسية مقوضة للمجتمع، وليس للسياسة وحدها. وهو بعد مطلب أسمى راهن بالنظر إلى ما رأينا سلفاً من أفعال تعذيب وإذلال، أي من ممارسات موتية، خلال الشهرين الماضيين. وبالمثل تشغل قضية تحريم الحكم الأبدي، وبالتالي تداول السلطة، مكانة مركزية في الأجندة الديمقراطية بالنظر إلى اقتران الأبد بالتعذيب والإبادة، الموت المعمم. لذلك، فإن من شأن إقرار هذين البندين كمبدئين دستوريين، بل فوق دستوريين، أن يمثل قفزة قانونية وسياسية وأخلاقية كبرى إلى الأمام.
قواعد وتمارين: ولعله يمكن التفكير كذلك، ونحن في بداية جديدة، في بلورة بعض القواعد القانونية الأخلاقية الضابطة لأدوار شاغلي مواقع السلطة العمومية. ومنها مثلاً أن من في السلطة لا يُشكّرون إذا أحسنوا الفعل (فهذا واجبهم) ويلامون إذا قصّروا أو أساءوا؛ ومنها الفصل بين الحكم والحب، فمن يحكم لا يُحب أو يُغنى له أو يُهتف باسمه أو يُمجّد وتُعبَد شخصيته في وسائل الإعلام؛ ومنها أن من في السلطة ينضبطون بأخلاقية المسؤولية، وليس بأخلاقية الاعتقاد ولا بأخلاقية النية (التمييز لماكس فيبر) فهم يساءلون عن عواقب أفعالهم (فيستقيلون وقد ينتحرون) وليس لهم أن يسوغوا العواقب السيئة بمعتقداتهم الدينية أو غير الدينية، أو بنياتهم الحسنة؛ ومنها أخيراً أنه ليس مهماً من يحكم، بل كيف يحكم، فلم تكن مشكلتنا مع حافظ وبشار في أنهما علويون مثلاً، بل في أنهما مجرمون وأنانيون، قام نظامهما على العنف والكذب والتمييز المنهجي بين محكوميهما، وهذا ممكن الحدوث من قبل منحدرين من منابت سنية كذلك.
وهذه على أي حال من جملة القضايا التي يتعين أن يتناولها ويقرر في شأنها مؤتمر الحوار الوطني الذي يفترض عقده في الأسابيع أو الشهور القادمة. وقد يمكن هنا اقتراح تمارين قاعدية على الحوار (اقترح مثلها المرحوم رياض الترك عام 2001) يبادر إليها مهتمون بالشؤون العامة في ما يتاح لهم من مساحات للقاء والكلام، وربما تخرج بوصايا ينظر في شأنها المؤتمر المزمع. وقد تكون تمرينات تجري في الأحياء والبلدات والقرى، مساهمة في هذا الشأن كذلك، تستحضر بصورة ما فكرة المجالس المحلية التي طور فكرتها وعمل من أجلها الشهيد عمر عزيز. من شأن مبادرات كهذه أن تسهم في صنع المجتمع وسياسته ذاتياً، بينما يفترض بمؤتمر الحوار الوطني أن يخرج ببعض القواعد العامة لتسيير مؤسساته السياسية الجامعة.
كاتب سوري
القدس العربي
————————–
ما هي تجارب العدالة الانتقالية التي يمكن الاستفادة منها في الحالة السورية؟/ باسل المحمد
2025.02.12
من الطبيعي أن يكون ملف العدالة الانتقالية من أوّل القضايا التي تشغل بال السوريين بعد سقوط النظام في الثامن من ديسمبر/ تشرين الأول، لأنه وعلى خلاف باقي الملفات التي خلفتها تركة “الأسد” الثقيلة، يرتبط بشكل مباشر بمعاناة ملايين العائلات السورية من جهة، والكفيل بتحقيق السلم الأهلي في البلاد من جهة ثانية، إذ تشير التقارير إلى أن عدد الضحايا الهائل في سوريا مقارنةً بعدد سكّانها يجعل من كلّ السوريين تقريباً أصحاب ثأرٍ وأولياء دمّ، حيث قُتِل أو أصيب أو اعتقل شخص من بين كل عشرة، وهُجّر شخص من كل اثنين.
وأمام هذا الواقع فقد تناولت العشرات من وسائل الإعلام السورية وغير السورية، إضافة إلى مراكز الأبحاث هذه القضية، من حيث الأهمية، وكيفية تطبيقها، وآليات المحاسبة، وهل ستكون عدالة تصالحية أم عقابية، إلى غير ذلك من التفاصيل المتعلقة بها.
لذا سيكون الحديث في هذه المادة باتجاه مختلف قليلاً، إذ سيتم تسليط الضوء على تجارب بعض البلدان التي طبقت مبدأ “العدالة الانتقالية” في مرحلة ما بعد الصراعات والحروب الأهلية، عبر تحليل النجاحات والإخفاقات وإمكانية الاستفادة منها في الحالة السورية.
حرب أهلية في راوندا
شهدت رواندا، عام 1994، حرباً أهلية أدّت إلى واحدة من أسوأ الإبادات الجماعية في التاريخ، حيث قُتل ما يقرب من 800 ألف شخص خلال 100 يوم، معظمهم من أقلية “التوتسي” على يد جماعات “الهوتو” المسلحة.
وتعتبر تجربة رواندا نموذجاً ملهماً، حيث تم توحيد مجتمع منقسم بعد الإبادة الجماعية بفضل جهود المصالحة الوطنية والمشاركة المجتمعية الواسعة.
ما يميّز التجربة الرواندية في موضوع تطبيق العدالة الانتقالية هو اعتمادها نماذج وحلول محلية متناسبة مع خصائصها الثقافية، وتكوينها الاجتماعي، إذ لم تنتظر الحكومة الرواندية تدخّل المجتمع الدولي، بل اتخذت خطوات جادّة لحلّ الآثار السلبية للنزاع من خلال المحاكم المحلّية التي كانت جزءاً من نظام العدالة المجتمعية، فكانت المحاكمات علنيةً وتهدف إلى معالجة الجرائم بطريقة تضمن محاسبة الجناة، وفي الوقت نفسه ترميم العلاقات الاجتماعية داخل المجتمع.
جنوب إفريقيا.. لجان الحقيقة والمصالح
تعتبر تجربة العدالة الانتقالية في جنوب إفريقيا من أبرز التجارب لتطبيق هذا النظام في العالم، فبعد انتهاء فترة نظام التمييز العنصري، وما صاحبها من حرب دامت أكثر من ثلاثين عام (1960-1990) قادها المؤتمر الوطني الإفريقي ضد نظام التمييز العنصري، دخلت البلاد مرحلة الانتقال الديمقراطي، عام 1990، خاصة في فترة وصول زعيم الأقلية البيضاء (دو كليرك) إلى السلطة، حيث رفع الحظر عن نشاطات المؤتمر الوطني الإفريقي وأطلق سراح زعيمه نيلسون مانديلا بعد 27 عاماً من السجن.
أدّى إطلاق سراح مانديلا إلى مفاوضات بين حكومة الفصل العنصري في جنوب إفريقيا والمؤتمر الوطني الإفريقي، أسهمت في إحداث انتخابات العام 1994، وأدت إلى حالة من الانتقال السلمي الديمقراطي، ومشاركة المواطنين من ذو البشرة “السوداء” في الانتخابات، بعد عقود من عدم مشاركتهم أو إيلاء أي اهتمام بهم في الشأن العام، كنتاج لنظام العنصري، الذي أنشئ بعد الاستعمار الأوروبي.
وفي العام 1995، كلّف برلمان جنوب إفريقيا، بإنشاء لجنة الحقيقة والمصالحة (TRC)، ضمن برنامج من بناء السلام واستدامته في الجمهورية، عبر ما يسمى بأداة “العدالة الانتقالية”، كوسيلة للتعافي من آثار وويلات عمليات انتهاك حقوق الإنسان ما بين عام 1960-1994.
وشمل تقريبا جميع أنواع العنف الذي ارتكب بحق المدنيين على خلفية عنصرية وجرائم سياسية، حيث تضمن تقرير لجنة الحقيقة والمصالحة، الذي نُشر في عام 1998، شهادات من أكثر من 21000 ضحية وشاهد، في محاولة جادة لتحقيق العدالة عبر اعتراف الجاني بما اقترفه من جرائم بحق الجناة من المدنيين.
وفي هذا السياق يوضح مدير مركز سوريا القانوني للتوثيق فخر الدين العريان، أنّ تجربة جنوب إفريقيا تعد من أنجح نماذج العدالة الانتقالية، حيث تم تشكيل لجنة الحقيقة والمصالحة بعد انتهاء نظام الفصل العنصري، إذ ركّزت هذه اللجنة على كشف الحقيقة، وجبر الضرر، ومنح العفو المشروط للجناة الذين اعترفوا بجرائمهم.
وفي حديثه لـ موقع تلفزيون سوريا، يرى “العريان” أنه رغم اختلاف السياق، يمكن استخلاص بعض الدروس من تجربة جنوبي إفريقيا لتطبيق آلية ملائمة للوضع السوري، وذلك عبر تشكيل لجنة وطنية للحقيقة والتوثيق تضم ممثلين عن المجتمع المدني والخبراء القانونيين، تكون مهمتها الأساسية:
توثيق الجرائم والانتهاكات التي ارتكبت منذ عام 2011.
تخليد ذكرى هذه الجرائم في الدستور، وفرض عقوبات قانونية على أي محاولة لإنكارها أو تشويه حقيقتها.
وضع إطار قانوني لمحاسبة الجناة وفق درجات المسؤولية، بحيث تُتاح الفرصة لبعض مرتكبي الجرائم للاعتراف بما اقترفوه مقابل تخفيف العقوبات، شرط ألا يشمل ذلك المتورطين في جرائم الإبادة الجماعية والتعذيب الممنهج.
تعويض الضحايا وإعادة تأهيلهم نفسياً واجتماعياً.
تحويل السجون والمعتقلات سيئة الصيت مثل سجن صيدنايا إلى متاحف لحفظ الذكرى.
تشيلي: المحاسبة والتعويضات
تعتبر تشيلي من الدول التي سعت إلى تحقيق العدالة الانتقالية من خلال الكشف عن الحقيقة لتحقيق المصالحة الوطنية، حيث دعا رئيس الدولة المنتخب (أيلوين باتريسيو)، الذي أعقب حكم الديكتاتورية، وبمقتضى مرسوم رئاسي صدر في 25 أبريل/ نيسان 1990 إلى تشكيل لجنة رسمية للتحقيق في الماضي الأليم، الذي عانى منه شعب تشيلي إبان حكم الديكتاتور بينوتشي، والكشف عن الحقيقة التي انتظرها الشعب خاصة الضحايا وأسرهم، على اعتبار أن معرفة الحقيقة تساهم في تحقيق المصالحة للوصول إلى تحقيق العدالة.
وأطلق على هذه اللجنة اسم “لجنة الحقيقة والمصالحة”، عُهد لها أمر التحقيق في الفترة التاريخية الممتدة من سنة 1973 إلى سنة 1990، خاصة حالة الاختفاء والاعتداء خارج نطاق القانون والتعذيب والوفيات المرتبطة بهذه الانتهاكات والناتجة عن ممارسات ارتكبت بمبررات سياسية.
وقد أعطيت أوامر للجنة الحقيقة والمصالحة في التحقيق بخصوص حالات القتل التي تجاوز عددها الألفي قتيل في عهد الحكم العسكري، إضافة إلى حالات الاختفاء والمهجرين.
وتعليقاً على حالة تشيلي، يرى الحقوقي العريان أنه يمكن لسوريا الاستفادة من هذه التجربة في محاسبة المسؤولين عن الجرائم الكبرى، وضمان حقوق الضحايا، ومنع تكرار الانتهاكات عن طريق محاكمة للمسؤولين عن الانتهاكات، وتقديم تعويضات للضحايا، وحفظ الذاكرة التاريخية.
بولندا: الإصلاحات المؤسسية
تمثل التجربة البولندية واحد من بين أهم هذه التجارب نظراً للخصوصية التي تفرّدت بها هذه التجربة ضمن محيطها الجيوسياسي والعالمي، والأهم جنوحها إلى الطابع السلمي في إدارتها لعملية الانتقال الديمقراطي وتحقيق العدالة الانتقالية.
وتختلف التجربة البولندية عن مساري الإنصاف والمصالحة في جنوبي إفريقيا، إذ تم تأسيس هيئة الذاكرة الوطنية البولندية، وهي مؤسسة عمومية أنشئت بمقتضى قانون، وترمي للكشف عن الجرائم ضد الإنسانية التي ارتُكبت على أيدي النازيين والشيوعيين، ومن أجل ضمان استقلالية الهيئة، فإن رئيسها يُنتخب مباشرة من البرلمان لولاية تستمرُ خمس سنوات.
وأضيف قسمان جديدان في نطاق الهيئة، سنة 2016، وهما مكتب التربية الوطنية ومكتب التوثيق، إذ يختص الأول بإدخال مادة في المنهاج تخصُ تعريف الأجيال الجديدة بويلات القمع الذي عاناه البولنديون في ظل الأنظمة الاستبدادية السابقة، أما الثاني فيتعلق بتجميع الوثائق الموزعة بين مديرية الشرطة السابقة والشرطة النازية.
خبراء قانونيون يرون أنه يمكن لسوريا الاستفادة من هذه التجربة البولندية في إصلاح مؤسساتها القضائية والأمنية، وإرساء نظام قانوني يحمي الحقوق والحريات، على اعتبار أن هذه التجربة قامت على إصلاحات قانونية ودستورية لضمان التحول الديمقراطي ومنع تكرار الانتهاكات، كما ركزت هذه الإصلاحات على إعادة هيكلة القضاء، وتطبيق سياسات المساءلة، وتعزيز سيادة القانون.
خصوصية الحالة السورية
تكتسب القضية السورية أهمية خاصة عند تناول مفهوم العدالة الانتقالية، نظراً لخصوصية الأحداث وتطوراتها منذ اندلاع الثورة عام 2011 وحتى مرحلة التحرير، نهاية العام 2024.
لا بدّ من التمييز بين الثورة السورية والحروب الأهلية التي شهدتها دولٌ أخرى مثل (جنوب إفريقيا، بولندا، تشيلي، رواندا وغيرهم)، إذ إنّ الطابع العام للحالة السورية لا يتجسّد في صراعٍ طائفيٍّ بين مجموعاتٍ سكانيةٍ مختلفة، كما هو الحال في تلك البلد بقدر ما هو انتفاضةٌ شعبيةٌ واسعةٌ شاركت فيها شرائح متنوعة من مختلف مكوّنات الشعب السوري، ضد نظامٍ ديكتاتوريٍّ قائمٍ على القمع والإقصاء واستغلال الأقليات وتهميش الأغلبية للحفاظ على سلطته.
وفي هذا السياق يقترح “العريان” عدة خطوات لتطبيق العدالة الانتقالية في سوريا منها؛ تشكيل لجنة الحقيقة تضم ممثلين عن كل أطياف المجتمع السوري، بما في ذلك منظمات المجتمع المدني، وخبراء قانونيين، وممثلين عن الضحايا، إلى جانب إصلاح النظام القضائي وضمان استقلاليته.
ومن هذه الخطوات -بحسب “العريان”- تعويض الضحايا وجبر الضرر، عن طريق تنفيذ برامج إعادة تأهيل نفسي واجتماعي للضحايا وأسرهم، خاصة لمن تعرضوا للتعذيب والاعتقال القسري، كما يكتسب الدعم الدولي والإقليمي، عن طريق تأمين تمويل دولي لبرامج العدالة الانتقالية، والاستفادة من الخبرات الدولية، من خلال التعاون مع الأمم المتحدة والجهات المانحة أهمية كبيرة في دعم مسار العدالة الانتقالية.
ختاماً، يُجمع الحقوقيون على أن تطبيق العدالة الانتقالية في سوريا بعد سنوات الثورة الطويلة يعد تحدياً كبيراً، ولكنه ضروري جداً لتحقيق المصالحة الوطنية وبناء مستقبل مستقر، وهذا يتطلب إرادة سياسية قوية ومشاركة مجتمعية واسعة.
تلفزيون سوريا
—————————-
روسيا في سورية أفعى في العُبّ/ غازي دحمان
13 فبراير 2025
تثير تصريحات وزير الدفاع في الحكومة السورية الانتقالية مرهف أبو قصرة، عن العلاقة مع روسيا وإمكانية استمرار قواعدها في الساحل السوري، السؤال عن الهدف الحقيقي من هذا الموقف، وما إذا كان قد جرى بناؤه من منطلق منظور إستراتيجي، ربما لانعدام الخيارات، أم مجرّد مناورة الهدف منها تعظيم أوراق المساومة مع فاعلين دوليين آخرين.
وفي الواقع، تُشكّل العلاقات مع روسيا أحد أهم الملفات التي على الإدارة السورية الجديدة التعامل معها، ليس بحذر وحسب، بل وبحسم أيضاً، بالنظر إلى ما ينطوي عليه هذا الملف من مخاطر أكثر مما يتيحه من فرص، ما يضع العلاقة، واستمرارها، بناءً على المعطيات الراهنة في المشهد السوري، في خانة الأمور الضارّة بالمصلحة الوطنية السورية.
من الخطأ القاتل المراهنة على براغماتية نظام الحكم في روسيا، والركون إلى التحوّل الحاصل في موقفه، والذي جرى تفسيره نوعاً من العقلانية واستيعاب التطورات، قياساً بالموقف الإيراني الذي رفض التسليم بالخسارة، وذهب إلى حد إعلان العداء للحكام الجدد في سورية، لا شك أن عامل الخبرة مع الأزمات الدولية هو الذي أظهر هذا الفارق بين ردّات الفعل الروسية والإيرانية، كما أن روسيا ما زال لديها أوراق قوّة في سورية ستعمل على تثميرها، بعكس إيران التي بدا أنها بنت مجداً على الرمال ضاع مع هبوب الريح السورية.
لقد صمّمت موسكو موقفها بناء على تقدير موقف عسكري توصّل إلى أنه ليس من الممكن إنقاذ نظام الأسد، بل استمرّت القوّات الروسية بقصف أرتال قوات المعارضة حتى وصولها إلى حمص، أي أن روسيا بذلت كل ما في وسعها لكسر قوات المعارضة ولم تتخلّ عن موقفها إلا لأنها أدركت حدود قدرتها واستحالة تغيير الوضع العسكري.
غير معروف حتى اللحظة، عدد ضباط الأسد الذين جرى تهريبهم من قاعدة حميميم إلى الأراضي الروسية، إنما المؤكّد أن جميعهم من الوزن الثقيل، والذين شكلوا مفاتيح منظومة الأسد الأمنية والعسكرية، وهم أنفسهم من تولوا ارتكاب الجرائم وقمع الثورة وزعزعة الأمن الإقليمي، حتى ما قبل سنوات اشتعال الثورة.
لماذا حرصت روسيا على أخذهم؟ كان من الممكن الاكتفاء بالدائرة الضيقة لبشّار الأسد، بمعنى عائلته الصغيرة، إذا أرادت إثبات أنها لا تترُك حلفاءها حتى في أشد الظروف قساوة، لكن أن تشحن أغلب قيادة الأجهزة والضباط، أو توعز إلى خليفة حفتر أن يستقبل الباقين منهم، فهذا ما يطرح السؤال عن النيات الخفية لروسيا، وما إذا كانت ستوظّف هؤلاء في مشروع ما في سورية؟
جاء الجواب من صحيفة Pravda.ru الروسية، كما ترجمها المختصّ في الشأن الروسي، بسام المقداد، في موقع المدن، من أن موسكو ستعود إلى سورية، بعد أن تنتهي من الحرب في أوكرانيا. وإلى ذلك الحين، لن تتنازل عن قواعدها في سورية، ولن تسلم بشّار الأسد، ولن تعترف بالأخطاء، وحسب الصحيفة؛ فالمعركة من أجل سورية كانت ضرورية في العام 2015 وفازت بها روسيا ضد تركيا والولايات المتحدة، لكن المركز الجيو سياسي للصراع انتقل الآن إلى أوكرانيا، لذا يمكن لسورية الانتظار.
ما ورد في مقال الصحيفة، ليس وجهة نظر، بل ترجمة حرفية لما تفكّر به القيادة الروسية، وستناور موسكو في المرحلة المقبلة القيادة السورية الجديدة، وستدخل معها في مفاوضات وتفصيلات معقدة وروتينية، وتستخدم أساليب إغرائية لتطمئن دمشق، من نوع أنها قد تكون مصدراً تسليحياً للجيش السوري الجديد، لأن الدول الغربية ستمتنع عن تقديم السلاح تحت ضغط إسرائيل، وستكون سندا لدمشق في مجلس الأمن، إذا فكّر أي طرف غربي استصدار قرارات ضد القيادة الجديدة بذريعة موقفها من الأقليات أو المرأة، بل قد تتذاكى القيادة السورية الجديدة نفسها وتستخدم روسيا للضغط على الغرب والتلويح بوجود بديل لدفع عواصم الغرب إلى تخفيف اشتراطاتها على القيادة السورية.
ستفعل روسيا ذلك كله في إطار خطة ممنهجة واستراتيجية تهدف إلى استعادة سيطرتها على سورية، ستنتظر تخفيف الضغط عليها في أوكرانيا، وهو أمر قد يتحقّق بعد أشهر قريبة، ثم تلملم أوراقها في سورية، حيث لديها شبكات عديدة وآلاف العناصر الذين درّبتهم، وثمّة احتمال أن هناك قناة اتصال بين هؤلاء وضباط بشار الأسد في موسكو أو بنغازي بأن يلملموا صفوفهم ويتجهزوا للأيام المقبلة، ويصمدوا قدر الإمكان في وجه الحملات التي تقوم بها دمشق حتى يحين موعد بدء العمل.
لا تحتاج المسألة إلى عملية عصف ذهني لتصوّر هذا السيناريو، إذ لن تسلّم روسيا ببساطة بهزيمتها في سورية، فبالنسبة لها تشكّل السيطرة على سورية مكوّناً أساسياً في مشروعها للعودة فاعلاً عالميا مرموقاً، وبسيطرتها على سورية تستطيع التحكّم بتفاعلات الشرق الأوسط، المنطقة التي يُعاد تشكيلها، ومن دون هذا الدور ستفقد روسيا فاعليتها وتأثيرها على المستوى العالمي.
روسيا في سورية أفعى في العُبّ، تنتظر اللحظة المناسبة لتغرس أنيابها وتبث سمومها، ويجب عدم اللعب مع هذا الخطر أو منحه هامشاً من الزمن لإعادة ترتيب الأوراق، ليس لدى روسيا ما تمنحه لسورية الجديدة سوى الشر ولا ينبغي انتظار وقوعه، ولا سيما أن غالبية الرأي العام السوري ضد الوجود الروسي، وهي ورقة يمكن أن تستخدمها القيادة الجديدة وتطلب من روسيا الخروج فوراً من الأراضي السورية.
العربي الجديد
—————————–
من أبد إلى أبد… هل يكسر السوريون دائرة الاستبداد؟/ مناهل السهوي
13.02.2025
ما الحرية التي نشهدها اليوم في سوريا؟ يبدو أنها حرية سقوط النظام، خروج المعتقلين والتحرر من ثقل العسكرة، والتجربة السياسية بغض النظر عن الأسئلة المطروحة حولها، لكن لا يزال هناك طريق طويل أمام الحريات الفردية.
أطفال يحيّون الرئيس السوري الجديد، بأساليب تذكّر بمشاهد الولاء التي كانت سائدة في عهد الأسد. أما على وسائل التواصل الاجتماعي، فتنتشر تعليقات تُشبه الخطاب التشبيحي، تظهر في كل مرة يرتفع فيها صوت النقد، وكأنها محاولات منظمة لإسكات أي معارضة. الخطاب السائد يحمل ملامح خطاب أنصار الأسد ذاته: تمجيد للسلطة، رفض لأي صوت مختلف، ودعوات للمخالفين لمغادرة البلاد. مشهد يُعيد نفسه بشكل مقلق.
استخدام خطاب أتباع النظام السابق
أية محاولة للنقد أو التساؤل حول سياسات السلطة الجديدة في سوريا تقابَل بردود فعل قاسية. تشوَّه سمعة المنتقدين، أو يصنَّفون على أنهم جزء من مؤامرة خارجية، أو تتم دعوتهم لترك البلاد والرحيل… في شيء يشبه تماماً ما فعله أتباع الأسد حين وجدوا في خروج المعارضين فائدة للبلاد!
على مدار أكثر من خمسة عقود، نشأ السوريون في بيئة قمعية لا تعترف بحق الاختلاف، وتعرّض كل من يخرج عن الخطاب السائد، السياسي بخاصة، للتخوين والقمع والتهميش.
واليوم، مع تغيّر موازين القوى، يجد بعض الأفراد أنفسهم، يُعيدون في اللاوعي استخدام الأدوات نفسها التي استخدمها النظام ضدهم، لكن هذه المرة ضد خصومهم أو من يختلف معهم في الرؤية أو الهوية. لم يعد القمع محصوراً فقط في يد سلطة الأسد، بل تحوّل إلى أنماط سلوكية يمارسها البعض تجاه الآخرين في مختلف المساحات، سواء في الواقع السياسي والاجتماعي، داخل العائلات أو ضد الخصوم حتى لو لم يكونوا سياسيين، أو عبر وسائل التواصل الاجتماعي، وهو ما كان يحدث تماماً على عهد الأسد.
عندما نتحدّث عن رغبة بعض السوريين في إعادة إنتاج الاستبداد، أو الاستمرار في ممارسات ديكتاتورية شبيهة بنظام الأسد السابق، فنحن لا نوجّه اتهاماً أخلاقياً أو نلقي باللوم على الأفراد، بقدر ما نحاول فهم الظاهرة وتحليل جذورها.
ما يحدث غالباً لا ينبع من نية حقيقية لإعادة تأسيس نظام قائم على الخضوع، أو فرض الديكتاتورية على الآخرين، سواء في الواقع، أو عبر وسائل التواصل الاجتماعي، بل هو انعكاس لتجربة طويلة من القمع الأسدي، والتنشئة السياسية والاجتماعية التي رسّخت أنماطاً معينة من التفكير والسلوك لدى شرائح واسعة من السوريين.
خلق العيش تحت ظل الاستبداد لفترات طويلة، عوامل وتجذّرات نفسية واجتماعية معقّدة، إذ يتحوّل القمع من مجرد تجربة خارجية إلى آلية داخلية، تُعيد إنتاج ذاتها بطرق مختلفة، حتى لدى أولئك الذين ثاروا ضدها يوماً ما، فإنهم يجدون أنفسهم منساقين الى الديناميات نفسها التي نفروا منها سابقاً.
في بعض الحالات، نلاحظ اعتقاداً لدى فئة معينة، بأنها أصبحت في موقع القوة لمجرد انتمائها الديني السني، ما يدفعها إلى إعادة إنتاج عقلية الاستبداد، ولكن بأدوات وخطابات مختلفة. هذا التصوّر لم يأتِ من فراغ، بل هو نتاج عقود من التمييز الطائفي والسياسي الذي مارسه النظام، فكانت الطائفة العلوية هي القوة السياسية المطلقة في البلاد، ما عزز لدى بعض المجموعات إحساساً متضخماً بالمظلومية، وهو أمر صحيح، لكنه أدّى اليوم إلى تبني خطاب سلطوي مضاد، لفرض وجودهم الذي حاربه نظام الأسد لعقود.
إضافة إلى ذلك، فإن انهيار النظام القديم، لا يعني بالضرورة انهيار ثقافة الاستبداد التي تراكمت لعقود. لا يمكن اختزال المشهد بالقول إن طاغية قد استُبدل بآخر، فمثل هذا الحكم السريع على التجربة السورية الجديدة سيكون مجحفاً. اليوم، ننتقد السلطة من دون خوف مباشر من انتقامها، لكن لا شكَّ في أن هناك خشية من بعض أتباعها، الذين قد يتولّون دور القامع بالنيابة عنها. لقد أصدرت الحكومة أوامر واضحة بعدم وضع صورة الرئيس المؤقت أحمد الشرع على الأعلام، وتميل كذلك الى رفض مظاهر التبجيل، لكن الشعب انساق مباشرة إلى قولبة التجربة السابقة، فتحوّلنا من أبد الأسد إلى أبد شرع.
حتى لو كانت السلطة الجديدة هي نفسها ترفض هذا الأسلوب، لكن الرفض سيبقى غير مجدٍ، إن لم تُسنّ قوانين وإجراءات فاعلة لحماية هذه الحريات.
الأنظمة السيئة والأقل سوءاً
لا شك في أن المجتمعات الخارجة من ظل الطغيان، لا تتحوّل تلقائياً إلى بيئات ديمقراطية، فلا نتوقّع أن ننتقد النظام الحالي ويتقبّل البعض هذا برحابة صدر، حتى لو كانوا هم أنفسهم نادوا قبل أشهر فقط بحق الناس في نقد السلطات.
ما نشهده اليوم من رفض للنقد وتكرار لأنماط القمع، سواء في الواقع أو على وسائل التواصل، ليس استمراراً للنظام القديم بصيغ جديدة، بل هو نتيجة طبيعية للخوف من الفوضى والرغبة في الاستقرار، إلى جانب التكيّف مع لغة الإقصاء التي ترسّخت لعقود. اعتاد السوريون هذه اللغة، ومن كانوا إلى جانب الأسد أدركوا اليوم أن القانون وحده قادر على بناء دولة عادلة، وباتوا يطالبون به على رغم أنهم أدركوا ذلك متأخرين أو تحت وطأة الخوف. لكن في الوقت ذاته، وجد الضحايا القدامى أنفسهم في موقع القوة. وهكذا، نشهد في سوريا اليوم تبدّلاً في مواقع القوة بين الضحايا السابقين والجلادين القدامى.
ينطلق المدافعون عن السلطة الجديدة من مقارنة أي تصرف لها بانتهاكات النظام السابق، وكأن المعيار الوحيد للحكم على جودتها، هو ألا تصل إلى مستوى جرائم الأسد. يعكس هذا التصوّر العميق طبيعة السلطة التي عرفها السوريون لعقود، إذ ترسّخت في وعيهم فكرة أن أي سلطة بديلة لمجرد أنها أنهت حكم الديكتاتور، فهي بالضرورة أفضل. هذا التفكير، وإن بدا مفهوماً في سياق تجربة طويلة من الاستبداد، يتجاهل إمكانية وجود نموذج آخر للسلطة، قائم على العدالة والمساءلة، لا مجرد مقارنة بين الأسوأ والأقل سوءاً.
الشعب السوري شعب مقهور فتّته الديكتاتور، صنع هوّة عميقة بين الإنسان والحرية وفهمها وطريقة ممارسته لها. وتغيير النظام اليوم لا يعني أن الإنسان لم يعد مقهوراً، فالقهر مفهوم حياتي لدى السوري، أكثر من كونه نية واضحة وصريحة يودّ ممارستها إلى الآخر. والأصح القول إن شريحة واسعة من السوريين لا تعرف كيف تعيش حريتها التي حصلت عليها، لأنها مشغولة بملاحقة حريات الآخرين، ببساطة لأن هذا ما رسّخه نظام الأسد في داخلهم.
من جهة أخرى، وصْف الجمهور الغاضب من النقد اليوم بالمستبد ليس دقيقاً، لأنه ببساطة لا يمتلك أدوات الديكتاتور إنما فكره وحسب، الجمهور الغاضب من المساس بالسلطة الجديدة يقول بطريقة مواربة، لسنا ضعفاء بعد اليوم، لن يتم قصفنا ولا تدمير منازلنا ولا زجّنا في السجون، بسبب هويتنا السياسية أو الدينية، وهو موقف متأتٍّ من دور الضحية الذي فُرض عليهم لعقود.
إذاً، ما الحرية التي نشهدها اليوم في سوريا؟ يبدو أنها حرية سقوط النظام، خروج المعتقلين والتحرر من ثقل العسكرة، والتجربة السياسية بغض النظر عن الأسئلة المطروحة حولها، لكن لا يزال هناك طريق طويل أمام الحريات الفردية.
الأنظمة تسقط، لكن النهج البعثي والأسدي الاستبدادي هو أكثر تجذراً من إنزال علم ورفع آخر. والاعتقاد بأن الحرية تحققت هو فهم قاصر للواقع السوري المعقّد، فالكثير من الفئات والمجموعات لم تحصل على حقوقها وحرياتها بعد، كالمثليين والنساء، لكن أيضاً حتى الجمهور المنتصر بالحرية لم يمارس حريته حقاً، وما يمارسه من رفض للمساس بسلطته الجديدة أفضل مثال، فالحرية تشترط تقبّل الآخر واحتواءه مهما كان مختلفاً، وانحيازاً إلى الإنسان لا السلطة.
– كاتبة وصحفية سورية
درج
—————————————
أي مستقبل ينتظر الثقافة في سوريا بعد خراب البعث؟/ شهلا العجيلي
البداية من كرامة المواطن وحريته وحياته اليومية ومنظومة القيم في مجتمع متعدد
الخميس 13 فبراير 2025
لا بد اليوم، من طرح السؤال، بل الاسئلة، عن مستقبل الثقافة في سوريا، بعدما انهار النظام القديم ومنظومته الديكتاتورية الفاسدة التي لم تبق ولم تذر. لكن الثقافة لا تنهض إلا مع نهوض الانسان والمجتمع والاقتصاد والحياة عموماً. ولعل كتاب طه حسين “مستقبل الثقافة في مصر” قد يشكل مرجعاً لقراءة الازمة السورية.
قد يحيل عنوان هذه المقالة إلى كتاب طه حسين “مستقبل الثقافة في مصر”، الذي كتبه في عام 1938 بعد ثورات شعبية قامت لسحب القوات البريطانية من مصر، وانتهت بتوقيع معاهدة 1936 بين مصر وبريطانيا. وخاطب فيها الشباب ليعطيهم خلاصة رؤيته لما يجب أن تكون عليه مصر بعد الثورة، وكان هاجسه في ذلك الكتاب هو الآخر الأوربي، إذ أراد دائماً أن يثبت للأوربيين أن مصر جديرة باللحاق بركب الحداثة.
هنا ستختلف حالتنا في سوريا بعد سقوط نظام الأسد، أو نظام البعث، لأن ما يهم السوري في هذه المرحلة هو ذاته وكرامته وسعة رزقه، وحياته اليومية بعامة، والمنظومة القيمية التي سيعيش فيها في مجتمع متعدد بحكم الطبيعة الإثنوجغرافية / الدينية، الذي جعله كل من السلطة البائدة، وبعض معارضاتها بتحالفاتها الداخلية والدولية، مقسماً بالفعل، وأبرزت الانقسام بوصفه ورقة لعب رئيسة في الصراع على السلطة.
ركز طه حسين في التنظير للمرحلة الجديدة على نقطتين، وهما المسألة الثقافية، والعودة للماضي، ولعل الثقافة هي اليد الطولى التي تتحكم في كل من الصراع على سوريا، وفي سوريا اليوم، وعلينا ألا ننسى أن المسألة السورية منذ عام 2000 بدأت ثقافية، كما ينبغي لنا أن نلاحظ أن المواجهات التي تختلق أو تنشأ اليوم، فتستعمل من أجل الحشد السياسي العسكري هي مواجهات ثقافية (سواء أكانت وقائعية أم افتراضية)، تتعلق بالمعتقد الذي تحول إلى هوية سياسة، وتجير دائماً للحصول على مكتسبات سلطوية، مادية أو جغرافية على الأرض.
وفي حين عاد طه حسين للماضي البعيد لإبراز صلة مصر بالغرب منذ العصر الإغريقي، وتهميش رابطتها مع الشرق، إذ قصرها على العلاقة الاستعمارية مع الفرس، فلن نذهب بعيداً في التاريخ لأننا مشغولون بالحاضر، ولا يهمنا إيجاد صلات مع أحد، فما يهم هو صلاتنا الداخلية بوصفنا سوريين، ولكن يمكنني هنا أن أستعير من طه حسين، في كتابه المذكور، فكرة جد مهمة أشار إليها، حين قال: “إن مصر الجديدة لن تبتكر ابتكاراً ولن تخترع اختراعاً، ولن تقوم إلا على مصر القديمة الخالدة، وإن مستقبل الثقافة في مصر لن يكون إلا امتداداً صالحاً راقياً ممتازاً لحاضرها المتواضع المتهالك الضعيف، ومن أجل هذا لا أحب أن نفكر في مستقبل الثقافة في مصر إلا في ضوء ماضيها البعيد، وحاضرها القريب، لأننا لا نريد ولا نستطيع أن نقطع ما بيننا وبين ماضينا وحاضرنا من صلة، وبمقدار ما نقيم حياتنا المستقبلة على حياتنا الماضية والحاضرة، نجنب أنفسنا كثيراً من الأخطار التي تنشأ عن الشطط وسوء التقدير والاستسلام للأوهام، والاسترسال مع الأحلام”.
الليبرالية الموءودة
لابد لعلاقة الواقع السوري مع ماضيه من أن تقوم على أساس التفهم والاستيعاب والتحليل، ذلك أن الحياة في سوريا ممتدة من الألف العاشرة قبل الميلاد، بلا انقطاع، في جغرافيا لم تتغير إلا لماماً، وعليه فإن سوريا الجديدة لن تبتكر ابتكاراً، ولن تخترع اختراعاً، لكن يقتضي أن نقول إن الماضي القريب معقد وإشكالي، وإنه قام على ثورة سبقت ثورة 2011، وهي ثورة آذار 1963، وحدث فيها أكبر تغيير لبنية المجتمع في التاريخ السوري بعد الاستعمار الحديث، وسماها معاصروها انقلاباً عسكرياً على الحكم الذي كان مدنياً دستورياً، وحاول أن يكون ليبرالياً كلاسيكياً. كان قادة تلك الثورة من العسكريين وبعض المدنيين المثقفين، الذين أرادوا أن يتسيد حزب البعث السلطة في سوريا.
تبعت تلك الثورة ثلاثة انقلابات كان آخرها في 1970، إذ جرى تصحيح مسار الحزب، ليتولى الرئيس حافظ الأسد الحكم فيما عرف بالحركة التصحيحية، بما يشبه “الترويكا”، إذ استلم ذلك الجناح المسيطر من البعث السلطة، وحصر الامتيازات بدوائره، وحرم معارضيه، ومن لا يدور في فلكه من المواطنين، من حقوقهم في العمل، أو التوظيف أو الحصول على الفرص، وتنامت شبكة المحسوبيات في الحزب الذي تماهى مع الطائفة، وهذا التماهي هو أهم العوامل التي عقدت الحالة السورية، فاستحوذت الطائفة التي ينتمي إليها رأس السلطة، ورأس الحزب في الآن ذاته، على المفاصل القيادية والحيوية في الدولة والمجتمع، واستعملت القيادات الطريقة ذاتها في الإزاحة والاستحواذ، ثم فعلت ذلك قواعده الأقرب فالأقرب، من عمال وفلاحين وصغار الكسبة والمثقفين الثوريين، الذين صاروا يدورون في فلك السلطة التي ربطتهم بمنافع ومصالح كثيرة، وكان السلاح الأقوى هو تحويل الصراع الأيديولوجي إلى صراع يومي بين الأفراد، وحتى داخل العائلة الواحدة، بسياسة الوشايات المأجورة، أو الاستخبارية، والتظاهر بأنها مهمة وطنية لحفظ البلاد، فيما يعرف بكتابة التقارير، وأجرها قد يكون مادياً أو سلطوياً، وقد تكون عبارة (كتابة التقارير) أداة للتندر لكنها تودي إلى القتل.
دار عدد من الحروب والأحداث التاريخية الدولية والعربية، وتناسى ضحايا تلك الثورة حقوقهم واضطهادهم بسبب سطوة السلطة من جهة، وبسبب سياسة دفن الأحقاد التي من دونها لا يمكن لأي طرف المواصلة. فكك الحزب نفسه عقائدياً منذ التسعينيات مع غياب التعبئة الأيديولوجية بسبب سقوط الكتلة الشيوعية، والدخول في عالم رأسمالي بقطب واحد مسيطر، من مستلزماته انفتاح الإعلام، وانفتاح السوق الاقتصادية، وغياب النخبة القديمة، وظهور نخبة اقتصادية بلا مرجعية ثقافية، وحدوث تناقض بين الثقافة اليسارية على مستوى الفكر وبين اقتصاد السوق المطلوب لعالم ما بعد حداثي، كما ضربت فكرة القومية العربية بحرب الخليج الثانية، تلك التي يتخذ منها النظام أو الحزب مشروعية تاريخية، وصار المنتفعون القدامى من مخلفات الثورة الأولى، من البعثيين وأبنائهم ومنتفعيهم، يشعرون بالغبن وفقدان الامتيازات مع ظهور منتفعين جدد أكثر انفتاحاً على المرحلة العالمية الجديدة.
هذا على رغم أن معظمهم تربطهم صلات نسب بالمنتفعين القدامى، وغالباً هم أبناؤهم الذين نشأوا في المراكز، وتباعدوا عن منابتهم اليسارية الريفية عادة، التي اتسقت مع سياق المرحلة التاريخية. بدأت في الوقت ذاته قوة اليمين تتعاظم في الشرق الأوسط بسبب السياسة العالمية منذ أحداث الـ11 من سبتمبر 2001، فالاجتياح الأميركي للعراق 2003، وانتشار الميليشيات الدينية المسلحة، وتطور مسيرة الحرب على الإرهاب والإسلاموفوبيا، فعم التطرف في الدفاع عن الوجود، والتطرف في نيل مكتسبات للطبقات الجديدة التي أفرزها الاقتصاد المعولم.
خلال تلك السنوات، شكلت حقبة الثمانينيات الهزة الأكبر لنظام البعث، التي لم تدفن أحقادها، بل أورثتها للأبناء والأحفاد. أما موضوع الصراع على السلطة في الثمانينيات بين البعث والإخوان المسلمين فخلف دماء سالت تحت النواعير والسدود والجسور وعلى شاطئ البحر، وخلفت كثيراً من الثارات وكثيراً من المعتقلين الذين قضوا، وبعضهم لا ذنب له سوى المخالفة في الرؤية، كما أن بعضهم براء حتى من تلك المخالفة. وفي حين كان النظام يهرم بسبب تباطؤ سياساته وافتقادها الديناميكية، لم تكف التنظيمات الدينية في الخارج عن العمل السياسي والاجتماعي والعسكري المنظم، وعن التوسع الإقليمي والعالمي والتدريب المستمر، واكتساب الخبرة والعلاقات، وادخار عناصر القوة، ولم ينس أعضاؤها من السوريين ثأرهم مع السلطة، ولذا ظهرت منذ بداية الربيع العربي قيادات سياسية قديمة على وسائل الإعلام، تخاطب كلاً من السوريين والمجتمع الدولي من أجل التغيير، وبدأت بحشد طاقاتها مع بداية المواجهات في الداخل السوري بين المحتجين والسلطة، وذلك بعد أن يئست من موضوع المصالحة الوطنية، الذي طرح منذ الحراك الثقافي في عام 2000 وتضمن العفو والسماح للمبعدين بالعودة، ولم يتحقق منها سوى نزر يسير، إذ كان النظام دائماً متعنتاً في شأن المصالحة الوطنية، ومسألة تبييض السجون، والعفو.
الثورة الثقافية في عام 2000
عاش السوريون زماناً طويلاً بعد أحداث حماة وحلب، واجتياح بيروت، في انتظار التغيير، ولم يكن هناك بوادر للتفاؤل بعد قانون الاستثمار رقم 10 عام 1999، حتى قيام الثورة الثقافية في عام 2000، التي أيقظت الوعي المغيب أو المستسلم لدى المثقفين والسياسيين، وحركت الشارع، على غرار ربيع براغ، وسميت فعلاً بـ”ربيع دمشق”، فالمسألة بدأت حقاً ثقافية، إذ افتتحت المنتديات في محاولات جادة لتعزيز الحوار، ولعل أولها كان منتدى رياض الترك صاحب استعارة “مملكة الصمت”، وأشار بها إلى الحالة الاعتسافية لكم الأفواه في سوريا، وغياب الحوار السياسي الثقافي بين السلطة والمواطنين، وإلى الحالة السكونية على المستويين الاقتصادي والاجتماعي، ودعا إلى رد المظالم إلى أهلها، كما ظهر منتدى الحوار الديمقراطي (رياض سيف) في عام 2000، ولابد من أن أذكر منتدى أستاذي في حلب البروفيسور فؤاد المرعي في بيته في الحمدانية، وكان متنفساً لنا من طلبة جامعيين وأساتذة ومثقفين من المجتمع المدني، وأغلق سريعاً بسبب التقارير الأمنية التي كان أحد الزملاء يواظب على كتابتها في حق المنتدى.
ظهر بيان الـ99 الذي دعا إلى رفع حالة الطوارئ، وإطلاق سراح المعتقلين السياسيين وإطلاق الحريات، وكذلك بيان المحامين في 2001 الذي دعا إلى مراجعة الدستور، كما ظهر منتدى جمال الأتاسي الذي استمر لأطول فترة ممكنة. وشكلت تلك الحالة الثقافية جوهر الحراك السياسي السلمي للحياة الجديدة في سوريا، وكانت من أجمل الأيام التي عشناها منذ ثمانينيات القرن الـ20، لكن السلطة بقادتها ومستشاريها، ولا سيما من الحرس القديم، كانوا يرون في المثقفين “وجعة راس”، وكان شعارهم: الباب الذي تأتيك منه الريح عليك أن تسده بجدار منيع، لذلك استهدفت الثقافة الليبرالية في سوريا، بوصفها قوة قد تستحوذ على الخطاب، وتنقله من أيدي السلطة الأمنية والعسكرية إلى الشارع ونخبه المثقفة، وبذلك تتبدد مكتسباتها المادية أو تقل، فالذي يملك الخطاب يملك كل شيء، بحسب فوكو، ولم يكن في حساب المتنفذين في صياغة خريطة العهد الجديد أن الرأي لا يقتل، لكن السلاح يقتل.
ومثلما بدأت المسألة ثقافية على غرار ربيع براغ، انتهت على غرار الثورة الثقافية في الصين، باستعادة الديكتاتورية، وتوسيع السجون لمعتقلين جدد من المعارضة، ومن المثقفين ومن أصحاب المنتديات، ولعل رد وزير الدفاع السوري آنذاك على بيانات المثقفين وحراكهم لتداولية السلطة، يلخص موقف السياسة من الثقافة: “إننا أصحاب حق، ولن نقبل بأن ينتزع أحد منا السلطة لأنها تنبع من فوهة بندقية ونحن أصحابها، لقد قمنا بحركات عسكرية متعددة، ودفعنا دماءنا من أجل السلطة”. ولابد هنا من إشارة المطلع إلى أنه منذ عام 2002 حاول النظام، في خطوة مضللة، تصنيع معارضته لتصديرها إعلامياً، داعياً بعض الأسماء الوطنية التي تتسم بصدقية تاريخية، لتكون وجوهاً لمعارضة تخرج من تحت جناحه، ولم ينجح في ذلك كما كان يتوقع، فيحقق الشرط الديمقراطي، ويعزز سياسة الحوار ظاهرياً، ويرضي الشارع، مثلما يرضي المجتمع الدولي الذي كان يراقب حالة الانفتاح في سوريا، في عهد الرئيس القادم من لندن، بإعجاب.
لابد من القول إن الثورة السورية في 2011 نشأت من اجتماع إرادات شعبية داخلية، صادفت إرادات خارجية كانت ترسم دوراً لسوريا ظهر في التصورات التي نتجت من توصيات (بيكر-هاملتون) في 2006، ومن هنا يأتي تعقيدها، فالإرادات السورية البريئة المنظمة وغير المنظمة التي أفصحت عن مطالبها العادلة في مظاهرات سلمية، وجدت نفسها تلتقي مع رغبات إقليمية وخارجية لها أهدافها في المنطقة، كما أن الثوار في الشارع تركوا سريعاً بلا قيادات، لأن جزءاً من القيادات اعتقل، أو لوحق وخرج، وتصدر بعضها المشهد من الخارج، وعبر وسائل إعلام عالمية، ولم يكن على علاقة عضوية بالشارع، الذي رفض معظمه التدخل الأجنبي، والتبعية لجهات إقليمية أو دولية، مثلما رفض تسليح الثورة.
فوجئ الثوار من الشباب في الشارع، الذين تشوفوا إلى ثورة تشبه ما حدث في تونس ومصر، ببعض الشخصيات المعارضة التي طرحت نفسها أقطاباً للثورة، وكانت خرجت من البلاد مبكراً، أو كانت أصلاً مبعدة، مثلما فوجئوا بوجود فصائل ثورية منظمة ظهرت سريعاً. ولعل لمعان الجوهر الثقافي للثورة السورية خفت منذ أن ظهرت في الخارج المنصات السياسية التي أنشئت لإدارة المسألة السورية، ولا يعني ذلك غياب الأصوات الثقافية في الأدب، والكتابة والإعلام، ولكنه يعني غياب الحالة الثقافية الحيوية المنظمة، التي تشظت بسبب الإرهاب الأمني والاعتقالات، والانشغال بحالة المنفى واللجوء، وتحولت في كثير منها إلى صرخات افتراضية على وسائل التواصل الاجتماعي، تشكل ردود فعل على ما يحدث على الأرض.
فقد حدثت الخلافات على تسليح الثورة، والانشقاقات في المعارضة، مما أتاح الفرصة للنظام لإشعال الحرب بعد فشل سياساته القديمة في تجاهل القضايا العالقة، والاعتماد على الزمن لإنهائها، واختار الإصغاء إلى العسكر والأمنيين، بدلاً من المبادرة إلى الحلول السياسية. يعود جزء من ذلك لغياب مستشارين من النخبة، الذين يدركون طبيعة المجتمع وتاريخه، وعلاقة بنياته الاجتماعية، ويجهلون طبيعة الشخصية السورية أنثروبولوجياً وثقافياً، ولاشك في أن ما يزيد على 50 عاماً من حكم البعث للبلاد منع إيجاد نخبة قريبة منه، وقادرة في الوقت ذاته على الاحتفاظ برؤية أخلاقية منسجمة مع طروحاتها، إذ كان قادراً على تحويلها إما إلى طبقة صامتة، وذلك في أحسن الأحوال، أو إلى طبقة منتفعة تسهم في إثارة النعرات وخلق حال من الكره والقلق بين بنى المجتمع، كما عاقب معارضيه من المثقفين، حتى إن اشتركوا مع قياديه في الانتماء الطائفي، وذلك لصالح طبقة من أنصاف المثقفين والمدعين، مما قضى على البيئة التعددية، واحتمالات تكوينها أو وجودها أو توافرها، وحصر ثروة الأمة في عائلته ومنتفعيه وقبضاياته وذيوله، سواء أكانوا وسطاء عقاريين أم وزراء، أم مسؤولين في القيادات السياسية للأحزاب، وحولهم إلى رجال أعمال وسيدات أعمال وتجار وكمبرادورات.
من الجوهر الثقافي إلى المواجهات المسلحة
أما بقية البشر في الداخل السوري فبدأوا تراجيديتهم الخاصة التي لم تكن تشبه لا أحلام الثورة، ولا حياة المنفى واللجوء، ولا الحياة القديمة التي كانت لهم قبل 2011، لقد تركوا للانتقام والحرب الأهلية، وتركت مدن وأرياف واسعة من الجغرافيا السورية التي تعني ملايين البشر، في الرقة ودير الزور والحسكة وأجزاء من حلب وإدلب، تركت لحرب دولية، ولأشد حكم إرهابي في العالم هو حكم “داعش”، وساعة في حكمها لمن لم يجربه هي بألف ساعة مما يعدون، مع فارق المقارنة، وبالمناسبة فإن ذلك الحكم لم يكن صيغة افتراضية على وسائل التواصل بل كان قوة حقيقية على الأرض، وفي البيوت والسجون ومشانق الإعدام، وجز رؤوس الأبرياء والآمنين والشعراء والشباب والنساء والأطفال، وفي نفوس البشر، غير شكل المنطقة الشرقية وحياة أهلها تغييراً ربما لا إصلاح معه، ويجب أن نذكر أن هذا التنكيل العجيب لقي تجاهلاً إعلامياً وإنسانياً عجيباً من القوى السياسية والثقافية للثورة والمعارضة، في حين كانت المدينة وريفها تتلقى قصف النظام، وقصف طيران قوى التحالف، وأيضاً لا بد من التذكير بأن بعض فصائل الائتلاف المعارض المسلحة كانت نصبت منصات صواريخها على تلال الرقة، لتقصف الأحياء والبيوت والمدنيين الذين يخرجون لاقتناص الماء والخبز، من غير أدنى اهتمام بقواعد الحرب ومفهوم الهدنة.
لعل هذا التحول من الجوهر الثقافي إلى الصراع العسكري الدولي في الثورة السورية هو واحد من المراجع للنتاج الثقافي المستقبلي في سوريا، الذي يجب أن تكون أرضيته معروفة، وألا تؤخذ من رواية واحدة لهذه السردية الكبيرة، فمصطلح السردية الذي شاع استعماله أخيراً، يعني خطاً متواصلاً من الاهتمامات، ولا ينشئ السردية فرد أو تيار، فالسردية كي تستمر تحتاج إلى روايات متعددة ومختلفة، وتحتاج مناصريها وداعميها، مثلما تحتاج إلى أعداءها ومعارضيها، وتحتاج شهداءها ومنتفعيها، وتحتاج إلى روايات النساء والرجال، والمثقفين والجهلة، والشعراء والسياسيين، وإلى ما لا نهاية.
حقائق وأوهام
تتيح منصات التواصل الاجتماعي التعرف إلى أفكار الناس من أجيال مختلفة وجغرافيات مختلفة عبر تعبيرات لغوية عفوية يستجلي منها الباحث أو المتابع، في حالات كثيرة، جهل بعض الأفراد ببنية مجتمعهم وتاريخه وعلاقاته، وبالبنى السلطوية التي تشكلت فيه عبر التاريخ، وهذا ما أفضى إلى عدد من الأوهام، ومنها الوهم بعدم وجود طائفية في سوريا، ويتبعه وهم إمكان قدرة أية جهة خارجية على حماية الأقليات. لقد عرفت الثقافة في مستويات منها غير عالمة وعالمة تلك الحياة العفوية بين الطوائف، التي سميت لاحقاً بالعيش المشترك، باعتبار وجودها معاً في سياق اجتماعي واحد، وعدم تمركزها في جغرافيا واحدة، وغياب ذلك الوعي السياسي الاجتماعي بالآخر.
لكن السلطة توقظ ذلك الوعي الحدي بالآخر، وتحول وجود الطوائف إلى حالة طائفية، تصير مع الممارسة اليومية المنفعية سياسة هوية، لتكون ورقة ضغط في كل معضلة سياسية واقتصادية، وكانت واضحة في السياسة العثمانية في بلاد الشام، التي أقرت نظام الملة، كما كانت واضحة في سياسات الاستعمارين الفرنسي والإنجليزي، فالأول تبنى حماية الأقليات الدينية (المسيحيون والعلويون)، والثاني اشتغل على التحكم بالأقليات الإثنية (الكرد). تحولت الطائفية إلى حالة ما بعد استعمارية، تحمل مفارقة عميقة، ففي حين يظهر الخطاب معادياً للطائفية، تكون الممارسات السياسية والاجتماعية جد طائفية، وتصبح أكثر حدة مع اشتباك الثقافي بالسياسي، وهذا ما تستغله السلطة في البنى الاجتماعية ما بعد الاستعمارية، مثلما استغله نظام البعث، الذي نقل الممارسة الطائفية من السلطة إلى الدولة، أي إلى المؤسسات: المدرسة، والجامعة، والوزارة، والاتحادات، والمنظمات، وبذلك أخرج الطائفية إلى الشارع.
إن وجود ملل ونحل وأهواء في سوريا قديم بقدمها، إذ وجدت فيها انتماءات ثقافية كثيرة، فـعدا عن الأكثرية، والأقليات الكبرى فهناك فرق من الصابئة واليزيدية إلى طائفة كيز وكيز، كما رصدها مؤرخو القرن الـ18 إلى القرن الـ20، وعملت السياسات المتعاقبة منذ ذلك الوقت على إدارة الطائفية، وليس الطوائف، التي كان حضورها أكثر حرية في فضاء بلاد الشام بحيث كان خطرها أقل، وشجعت على حصرها في جغرافيات محددة، لتسهل إدارتها بوصفها هوية يمكن التحكم بها وتنظيمها ومأسستها، وتصنيع خطاب لها، على طريقة فوكو، مما سيقتضي بالضرورة خطاباً مضاداً، ويصنع لها سرديتها التي تحولها إلى فصيل سياسي، يستعمل عند الحاجة.
ولعل غياب الحوار حول الطائفية، وربطه بحالة تابوهية، صنع حالة من الجهل والخوف والحقد، أسهم فيه تنفج لغوي وثقافي، من الأقلية ضد الأكثرية، ظهر في مفردات الشارع والطقوس الخاصة والأغاني والدراما والنكتة، فضلاً عن ترييف المدن بخلق مفاصل سلطوية من قيادات البعث فرضت ثقافتها، من قبيل أن المسيطر عليه سيتماهى مع ثقافة الأقوى وسيتبناها في كثير من الأحيان. أما في حالة تمركز الغالبية في معاقلها الاجتماعية، فكان لسلطة البعث سياساتها ما بعد الاستعمارية في تحييد الانتماء الديني والإثني وتفعيل الانتماء الطبقي والسياسي والجغرافي، ولعل أنجع مثال على ذلك ماحدث في ثمانينيات القرن الـ20 في حلب، إذ تحكم فيها ضابطان سنيان عنيفان كما هو معروف.
لا شك في أن أهل السنة تحملوا كثيراً من الحيف والمظالم خلال ما يقارب 50 سنة من حكم البعث، وكان هذا مسوغاً للطرف الأكثر تنظيماً وتسليحاً وتطرفاً، أي الإخوان المسلمين، ليقدم على المواجهات المسلحة لانتزاع السلطة، في حين كان يمكن للحكم في سوريا أن يكون غير دموي، وغير مقسوم بين العسكر المتماهين بالطائفة العلوية والإخوان، وكان يمكن أن يصير ليبرالياً ووطنياً كما بدأ بعد الاستقلال، إذ لم تقدم قيادات الاستقلال نفسها بهويتها الدينية، لكن ذلك الشكل من السلطة لم يعط فرصة للاستمرار بسبب الانقلابات المتتالية، واجتياح اليسار، متمثلاً بالبعث، للمشهد، الذي وسمهم بأصولهم البرجوازية، ثم شهدت الساحة تماهي اليسار مع الطائفة لأسباب كثيرة كالمنبت، والوضع الاقتصادي الاجتماعي، والتلاقي بين واقع الطبقة والفكرة. ولابد من القول: إن غياب العدالة هو الذي يدفع الأقليات للجوء إلى الحماية الدولية، وينشئ العلاقة بين السلطة ومجموعات ذات هوية مخصصة أولغارشية، أو مافيوية، للحصول على الامتيازات والمصالح، وتحقيق حلول سريعة وآنية لمآزقها، التي تحقق من خلالها للمجتمع توازناً ظاهرياً.
روايتان مجازيتان
خلق التماهي بين السلطة والدولة وهماً راق ترويجه لدى بعض الفئات، وهو أن الشعب الذي يعيش في سوريا، أو في ما يسمى بمناطق النظام، يعمل لدى النظام بصفة عميل، وليس في بلده ووطنه، وهذه واحدة من الوقائع المعقدة التي تصنعها الأنظمة الشمولية، إذ توهم بأن من يعمل في الدولة يعمل لدى النظام، ومن يعارض النظام يخون الدولة. ولا شك في أن معظم الشعب السوري يعمل في مؤسسات بلده ومرافقها، ولا يستطيع الخروج، أو لا يريد الخروج من وطنه وحتى من مدينته أو قريته. وكما في كل ثورة، تليها حرب أهلية وغير أهلية، لا بد من وجود دعم دولي، وفرص اللجوء، والحصول على جنسيات أخرى.
وذلك قد لا ينحصر في الثوار الملاحقين، بل ينسحب على المتضررين وغير المتضررين أحياناً، وبذلك بدأ التفاوت يظهر عبر الفرص والمنح في المجالات الاقتصادية والثقافية والأكاديمية، مما وسع الفجوة المعرفية والاجتماعية بين السوريين في الداخل والخارج، في حصولهم على تعليم أفضل، وبمعايير أكاديمية عالمية، وسهل حصول بعضهم على منح في جامعات النخبة في العالم، كما أن متطلبات الحياة المعرفية الحديثة متوافرة بتفاوت واضح بين المنفى والوطن، بوجود اتصال دائم مع الإنترنت، ووسائل التواصل، وبوجود الكهرباء والماء والمرافق التعليمية والاقتصادية والصناعية، التي حرم منها سوريو الداخل، وصار صراعهم اليومي غايته الحصول على الحد الأدنى من متطلبات العيش. أما حرية الرأي فنسي من خرج من حدود سوريا قسوتها في الداخل بحيث يمكن لأية عبارة تذمر يكتبها مثقف معروف، أو شخص مغمور بصورة افتراضية، ستودي به إلى معتقل حقيقي.
إن هذه الفجوة بين الواقعين أدت وستؤدي دائماً إلى وجود روايتين مجازيتين أي أدبيتين: رواية الداخل، ورواية الخارج، وشعر الداخل وشعر الخارج، ووثيقة الداخل ووثيقة الخارج، وهاتان الروايتان تصنعان سردية واحدة، وقد تكونان متكاملتين حيناً مثلما قد تكونان متضادتين حيناً آخر.
يقتضي تحقيق السلم الأهلي التركيز على ما يجمع وتجاوز ما يفرق، ولعل أول عقباته هي فكرة “قتلانا في الجنة وقتلاكم في النار”، والموجهة في غالب الأحيان إلى عساكر التجنيد الإجباري والشرطة النظاميين، الذين كانوا مكرهين على الخدمة الإلزامية، ولم يقتلوا أحداً، ولعل معظمهم في مواقع الخطر اليومي لأن ليس معهم ثمن دفع البدل أو حجته، وكان معظمهم يساعد الناس إذا توافر لديه وسيلة لتأمين جرة غاز أو ربطة خبز، كما أن منهم من استطاع أن يفعل أكثر من ذلك، مثلما فعل قيصر، وإن هؤلاء لهم أهل وأمهات ليسوا من النظام ولا حتى من جماعته، وإنما هم مواطنون يعيشون في بلادهم، لم تتوافر لهم جهات تمولهم، أو يستعصمون بها، وكان قرارهم أن يبقوا في بيوتهم.
وإذا كان هناك نحو 8 ملايين مواطن سوري اضطر إلى أن يعيش حالة لجوء حول العالم، فإن 17 مليوناً بقوا في بلدهم، أو نزحوا فيها، وهم مضطرون إلى الخضوع لقوانينها. إن هذه الوصمة يجب أن تزول عن الأطراف كلها، لأنها ستحول الشارع المستقبلي إلى شارع عنيف، يعاني أفراده نفسياً واجتماعياً ربما لأجيال، ومن غير زوالها ستعاني الهوية الوطنية أمراضاً جديدة.
لعل أحد الأوهام الرائجة هو أن ثمة فئة محددة أنهت نظام بشار الأسد، وهذا ما يسمى في الأدب بالوهم الرومانتيكي، أي أن يعتقد الفرد، بنية صادقة، أن ما حصل كان بسببه، في حين أن جهة أخرى هي التي رسمت الخريطة له ليحقق رغباتها أو إرادتها، ونجد في مقابل ذلك وهم أن الذين في الداخل خانعون، وأن المعارضة في الخارج هي التي أسقطت النظام، والحقيقة أننا لم نعد نسمع أصوات الائتلاف المعارض وأخبار حراكه ومنصاته منذ وقت طويل، كما أن الذي يعيش في الخارج له مكابداته اليومية، فحياة اللجوء والمنفى تفرض شروطها المفارقة لشروط الوطن، كما يقول كونديرا، ولا يمكن بترها من المعاناة العامة، كما لا يمكن أن يمتلك الفرد إيقاعين، إيقاع البلد وإيقاع المنفى.
ولا يعني ذلك، سواء أكان مختاراً أم مجبراً، أنه مرتاح، أو أنه نسي قضيته، ولكن هذه هي طبيعة الأشياء، كما أن الذي في الداخل يكابد القمع والتجويع والذل والفقر، ونحن نتحدث عن السواد الأعظم، لا عن كومبرادورات الحرب، كما يكابد تهمة العمالة للنظام، على رغم تهديدات فروع الأمن للمواطنين، وتحكم أذناب النظام بهم، وانتشار سياسة الوشايات، وغياب الأمان، أما اللاجئون في المخيمات فلهم قصص أخرى، وأحلام أخرى.
لعل معظمنا كان يدرك أن سقوط النظام مسألة حتمية، وأنه يقوض ذاته بانهيار المجتمع من الداخل، وبانعدام الديناميكية، وبالضغط الخارجي التاريخي للمعارضة، وبتجاهل صوت الداخل، وبتجاهل الدعوات الدولية الأخيرة التركية والروسية، مما حرك: إيران، وروسيا، وتركيا، وإسرائيل، ويمثلون خريطة الطامعين بتقسيم الثروة السورية، ركازها وصناعاتها وزراعتها وإعادة إعمارها، وطبعاً بموافقة أميركية، أمنها السياق الدولي من حرب غزة، إلى مقتل قيادات “حزب الله”، وانسحاب إيران، ليتقدم فصيل منظم ومثابر ومسلح وصبور، ولديه خطة ودعم دولي ليفتح الشام، كما كان يحدث في معظم الفتوحات الكلاسيكية التي حدث بها (ابن الأثير).
يوجد وهم لدى بعض من طبقة معينة، أو من منطقة ما، أو من جيل ينتمي إلى حقبة معينة، يجد السوريين بطبيعتهم علمانيين وليبراليين، وطبعاً هي عَلمانية بفتح العين وليست عِلمانية، ولعل هؤلاء لا يعرفون طبيعة المجتمع السوري المعقدة بحكم امتداد تاريخه، وتعرضه إلى أنظمة حكم متعددة، واستعمارات متعددة، ولعلهم لم يعيشوا في الأحياء العتيقة للمراكز في دمشق وحلب وحمص وحماة، حيث العلاقات المحافظة التي تتمسك برؤيتها الخاصة للدين الإسلامي أو المسيحي، وربما بمظاهره، فتنبذ الاختلاط، وتخفي المحارم، والنساء، والبنات الصغيرات، كما لم يعيشوا في بعض الهوامش حيث ينشأ الخوف من الآخر، ويكون الرد عليه بالتمسك بالانتماء العقدي أيضاً، وقد يتقوقع كل على ملته، ويعد الآخر إما متخلفاً نتيجة مظهره وعاداته، وإما منسلخاً عن الأخلاق نتيجة مظهره وعاداته أيضا
——————————-
.
آلام التحول الاقتصادي في سورية/ مالك ونوس
13 فبراير 2025
ما يزال أقطاب الحكم الجديد في سورية مصرّين على تصنيف الاقتصاد السوري في عهد الأسد الأب والابن اشتراكياً، محمِّلين إياه المشكلات الاقتصادية التي تعانيها البلاد حالياً. وكان آخر ما جاء في هذا السياق، ما قاله الرئيس أحمد الشرع، لـ”تلفزيون سوريا”، قبل أسبوعين، في إطار حديثه حول اعتزام حكومته تبني اقتصاد السوق الحر نظاماً لحل مشكلات البلاد الاقتصادية. وبينما يُعدُّ تشخيص المشكلات تشخيصاً صحيحاً الخطوة الأهم التي يجب توفرها من أجل الحل، يُعدُّ التدقيق الجيد في هوية البلاد الاقتصادية خلال الحكم البائد ضرورياً لتجنّب أخطاء، قد تواجه مهمة إنقاذ البلاد من حالة الانهيار التي سبّبها نظام الرئيس المخلوع بشار الأسد، خلال العقدين الأخيرين من حكمه.
وكان رئيس الحكومة السورية المؤقتة، محمد البشير، أول من صنف الاقتصاد السوري في فترة الحكم السابق اشتراكياً، وأشار إلى ضرورة التحول إلى اقتصاد السوق الحر، من أجل القطع مع نهج النظام السابق. ثم أدلى وزير الخارجية، أسعد الشيباني، في هذا الشأن وتحدَّث عن الموضوع مراراً، وكذلك فعل وزير الاقتصاد. أما الراصد لهذه الأحاديث فسيعتقد جازماً أن سورية كانت بلداً اشتراكياً صرفاً، وهو ما لم يحدُث يوماً. كما أن هذا التشخيص استدعى ظهور دراسات ومقالات صحافية ومنشورات على وسائل التواصل الاجتماعي، تفند جميعها هذا التصنيف. وتعيد تلك الكتابات تذكيرنا ببديهيات جديدها أخيراً دَهوَرة نظام بشار الأسد الاقتصاد السوري وإيصاله إلى حافة الانهيار، عبر إدارته، خلال السنوات الأخيرة، الاقتصاد بأسلوب المافيات لتغطية مصاريف حربه على السوريين، وفرضه الخوات على شريحة واسعة من الصناعيين والتجار وتحصيل الإتاوات من قطاع شحن البضائع، علاوة على فرضة التحاصص على كثيرين. إضافة إلى ذلك، اعتمد النظام على صناعة حبوب الكبتاغون المخدرة وأغرق دولاً كثيرة بها، حتى إنه تبوأ مركزاً عالمياً متقدماً في هذا المجال، وذلك من أجل زيادة ثروة العائلة الحاكمة والدائرة المحيطة بها، ومن أجل الإيفاء بالتزامات الحكومة تجاه قطاع الجيش والأمن، وغيرها.
أما الفترة التي سبقت الحرب، خصوصاً فترة الأسد الأب، فقد كان اقتصاد البلاد هجيناً خلالها، تبنى النهج الاشتراكي شكلياً في أدبيات حزب البعث، لكنه اتبع اقتصاد رأسمالية الدولة، ثم وصل مع تقدّم حافظ الأسد في الحكم الديكتاتوري، إلى اتباع نهج “رأسمالية المحاسيب”. حينها أخذ نظام حافظ الأسد، واستمر ابنه بشار من بعده، يشرِّع القوانين على مقاس تجار واقتصاديين في المدن الكبرى، ومن يدورون في فلك النظام والعائلة الحاكمة، مع توزيع المناقصات والأعمال التجارية والإنشاءات وعمليات التصدير والاستيراد على تجار يصنعونهم أو تجار قائمين، في إطار التحاصص وتوزيع الحصص لربط الاقتصاد برمته بالنظام وأزلامه، بعد اختصار النظام السلطات التنفيذية والتشريعية والقضائية جميعها بيده لإصدار التشريعات التي تناسب هذا النهج، ونشر الفساد والإفساد وتعطيل القانون.
قبل أن يُسقِط النظام كلمة “اشتراكية” من دستور 2012، سار بشار الأسد بالاقتصاد إلى مرحلة أكثر وضوحاً، حين أقر حزب البعث، سنة 2005، التحوّل إلى ما سماه اقتصاد السوق الاجتماعي، والذي لم يكن اجتماعياً البتة. لقد كان الهدف من إقرار هذا النهج إشراك القطاع الخاص، من التابعين للأسد، في جميع الأعمال التجارية والإنشائية، وتحقيق هيمنة النظام على اقتصاد البلاد، ما انعكس غياباً للتنمية وتراجعاً لبعض الصناعات لصالح الاستيراد، وانحسار الأراضي الزراعية وهجرة سكان الريف إلى المدينة بعد زيادة كلف الزراعة. وقد أدّى هذا النهج إلى زيادة الفوارق الطبقية، مع تآكل الطبقة الوسطى وتراجع مستوى معيشة المواطنين، وهو ما سبّب بمجمله اندلاعَ ثورة الكرامة سنة 2011.
وفي ما يخص موضوع تبني اقتصاد السوق الحر، ربط أركان النظام الجديد بينه وبين أتباع الخصخصة لإنجاح هذا النهج. وتُعد الخصخصة عند بعضهم الخطوة الأسرع لحل مشكلات البلاد القائمة، بسبب ترهل المؤسّسات الاقتصادية لتحسين أدائها. وهذه الخطوة هي الأسهل من خطوات أخرى تتبعها حكومات كثيرة وتعتقد أنها قادرة على مساعدتها في التغلب على مصاعب بلدانها الاقتصادية، وتقلل من أعبائها وتجتذب الاستثمارات. لكن هذا النهج كان يأتي، أحياناً، بنتائج عكس المرجوّة منه، حين يبدأ بتوليد مشكلات اجتماعية ومالية مع تسريح أعداد هائلة من القوة العاملة، والتسبب بظهور تفاوت اقتصادي واجتماعي، وبيع القطاع العام المنتج، أو القطاع السيادي من قبيل المرافئ والمطارات والاتصالات وقطاع النقل البري، بما فيه القطارات والطرقات السريعة، وكذلك مصانع الطاقة وقطاع النفط والثروات الباطنية، وهي قطاعات غالباً ما تتمسك أكثر الدول الرأسمالية راديكاليةً بملكية قسم منها.
وفي هذا الإطار، لم يتم الإفصاح عن القطاعات التي ستجري خصخصتها، رابحة أم خاسرة، وهل سيجري بيع جميع أصول الدولة والخدمات التي تمتلكها؟ كما من غير المعلوم إن كان سيجري الاحتفاظ بالقطاعات السيادية، أم سيتم اللجوء إلى عملية “تحليل الأصول” لتحديد القطاعات التي يفضل خصخصتها، لمنع بيع الرابح منها وترك الخاسر، مثلما جرى في دول أقدمت على اعتماد الخصخصة؟ كما أن ثمة محاذير تتعلق بلجوء الحكومات إلى الاستدانة من الصناديق الدولية، إذا فشلت برامج الخصخصة في حل المشكلات القائمة، أو في رفد خزينة الدولة بعوائد الاستثمار والتخصيص، فتتولد مشكلات جديدة تعجز الحكومات عن حلها، فتدخل في طور من الاضطرابات الاجتماعية والسياسية.
ومن ناحية التشريع، لا تملك الحكومة المؤقتة، أو حتى الانتقالية، الحق في تقرير هوية اقتصاد البلاد، لأن هذا الأمر يحتاج إلى حكومة منتخبة ودستور سارٍ. كما لا تملك الحق في خصخصة بعض القطاعات الإنتاجية أو كلها، ولا يحق لها تسريح العمال. وهي قرارات استعجلت الحكومة المؤقتة للبت بها قبل الوصول إلى المرحلة الانتقالية، وحتى قبل إقرار “إعلان دستوري” للبلاد بعد تعطيل العمل بالدستور. لذلك من الأفضل لهذه الحكومة تأجيل القضايا الخلافية إلى ما بعد إقرار الدستور الجديد المأمول، وبعد إجراء انتخابات نيابية ورئاسية، وتعيين حكومة جديدة، منعاً للطعن في شرعية قراراتها، وكذلك منعاً للنظر إليها باعتبارها قرارات أمر واقع.
عادة ما تحوِّل الخصخصة الاقتصاد إلى اقتصاد ريعي يقوم على الخدمات وعلى جني الضرائب، إذا ما جرى تخصيص القطاعات الرئيسية. ومن ثم، ينعكس الأمر على الدولة فيضعفها ويجعل قرارها السياسي في أيادي القوى الاقتصادية الناشئة، والتي تكون قد راكمت ما جنته من الفوائد من عملية الخصخصة، وحزمت حقائبها لمغادرة البلاد إذا ما اشتبهت بقلاقل تقلق راحتها.
العربي الجديد
——————————-
سوريا الجديدة: الحرية مفتاح الاستقرار/ بيير لوي ريمون
تحديث 13 شباط 2025
تمثل عودة سوريا إلى الحاضنة العربية وريادة الدور السعودي في هذا الاحتضان المتجدد، منعرجا جيوسياسيا وجيوستراتيجيا أساسيا. وإذا كان الاقتصاد عصب «الحرب»، عملا بالقول المأثور «المال عصب الحرب»، فالاستثمار والازدهار مفتاح الاستقرار.
بالتأكيد، إن بلدا عزل اقتصاده الرسمي، يبقى مقطوع الصلة بأية علاقات تجارية يقيمها بينه وبين بقية العالم، بل يصبح مجردا من كل الروافع التي تسمح له بضمان أبسط الخدمات لمواطنيه. وبالتأكيد، تعتبر مسألة رفع العقوبات مسألة جوهرية، لا تتم إعادة دواليب الاقتصاد إلى سكة آمنة من دونها. من هنا، كانت عبارات مسؤولة الشؤون الخارجية الجديدة في الاتحاد الأوروبي كايا كالاس جوهرية أيضا، إذا قسناها بفعاليتها الدبلوماسية: «إنها مقاربة تقوم على التحرك خطوة بخطوة».
قطاعا الطاقة والنقل، قطاعان أساسيان يعتزم الاتحاد الأوروبي رفع العقوبات المفروضة عليهما أولا. وفي مجال الطاقة، يمثل القرار الأوروبي منعرجا في المعاملات التي يعتزم الاتحاد الخوض فيها عن طريق دعم الطاقة، وبيعها وتوريدها وتخزينها والتبرع بها إلى سوريا، وإلى داخل أراضيها، بما في ذلك النفط ومشتقاته، والغاز الطبيعي والكهرباء، فبسبب العقوبات، سوريا غير قادرة على إبرام صفقات لاستيراد الوقود، أو القمح مثلا، رغم رغبة العديد من الدول، وفي مقدمتها دول الخليج، في توفير هذه البضائع. ومن المعلوم أن قطاعات الطاقة والإسكان والزراعة وكذلك الصناعات التحويلية قطاعات سيعتمد عليها أساسا في إعادة البناء، أما النقل فعنصر أساسي في مساعدة مطارات سوريا على العمل بكامل طاقاتها، ما يساعد على عودة المواطنين المغتربين أو المنفيين، وقد يسهل استقبال اللاجئين. كما ينظر بشكل طبيعي، عبر قطاع الطاقة إلى الكهرباء كعنصر أساسي لتوفير ظروف معيشية لائقة لأهل الوطن. وثمة نقطة أساسية أخرى يتضمنها القرار الأوروبي وهي، الإسهام في إعادة تفعيل الحوالات الشخصية غير التجارية إلى سوريا، لكن من منظور استراتيجي، تقاس الواجهة الأوروبية على مستوى منخفض بالنظر إلى جوهر المسألة، وجوهر المسألة قائم على الثلاثية التي يلخصها ما سيشكل – إن تحقق- مخرج سوريا من محنتها: الديمقراطية وحقوق الإنسان ودستور جديد. وعيون العالم هنا، بما فيها الأوروبية، شاخصة إلى الدور الرئيسي الذي ستلعبه كل من المملكة العربية السعودية وتركيا في تحديد ملامح سوريا المقبلة. السعودية وتركيا دولتان تتقاطع خططهما من زاوية إعادة الإعمار والاستثمارات، لكنها تختلف كليا من باب الأجندة الدولية.
السعودية أولا، حسب العبارة المعروفة، لن تضع المملكة يديها، حيث لا تستطيع أن تضع استثماراتها. عندها، لسوريا مصلحة جيوستراتيجية وبراغماتية أساسية في تعزيز مؤشرات الانفتاح، التي بدأت تتأصل بعد سقوط النظام السابق عبر :
– تمكن السوريين المغتربين والمنفيين من العودة على نحو طبيعي، حيث بوسعهم العبور عبر بوابات المطارات والحدود بمجرد الاستظهار بجواز سفر يحمل اسمهم وصورتهم.
– انخفض، بعد شهرين فقط من سقوط النظام، سعر الدولار من 15000 ليرة سورية إلى 8000 ليرة سورية وتوفر الوقود في أسواق تملؤها السلع رغم ضعف القدرة الشرائية. بواكير تحرير الاقتصاد إذن، الذي تكرسه حرية التعامل بالعملات الأجنبية، تفتح آفاقا واعدة لشعب طالما ناء تحت وطأة اشتراكية «لم تترجم كما هو مأمول منها إلى تقاسم ثروات، وإنما انتهت بالشعب إلى الفقر والخصاصة». كما يكتب الصحافي السوري علي قاسم مجيدا في تلخيص الوضع.
عيون العالم أيضا على الانتظارت التي تحتمها المرحلة الانتقالية: مكافحة الإرهاب والتطرف، حل الفصائل المسلحة، حصر السلاح بيد الدولة، تشكيل حكومة تكنوقراط تمهد لحكومة حوار وطني، في سياق لن يكرس عروبة سوريا دون استبعاد أو إقصاء أي طائفة من المعادلة الجديدة، بما فيها العلوية.
وكما يرى الدكتور سمير التقي الباحث في معهد الشرق الأوسط، متحدثا إلى «بي. بي. سي، «أن السعودية اليوم هي العمود الأساسي للعرب»، لكن يجب إضافة أيضا أنها، عبر علاقاتها التجارية والدبلوماسية المميزة بأمريكا، وبقطع النظر عن الاشتراطات القائمة لإعادة تفعيل الاتفاقيات الإبراهيمية، بوابة علاقة دول الشرق الأوسط بالمجتمع الدولي. هنا نتحدث أساسا عن الدعم الدولي الذي يمكن أن يسهم في رفع العقوبات على سوريا، وهو أمر بالغ الأهمية ليس فقط بالنسبة للحكومة السورية الجديدة، بل للاستقرار في المنطقة.
الإدارة السورية الجديدة بحاجة إلى بناء تجربة سورية مبتكرة، تصمد في المستقبل وتكسبها مستوى من الشرعية، يؤسس لها مكانة جديدة داخل الأوساط العربية أولا ثم الدولية. ولا يمكن تصور دفع لعملية التنمية الإقليمية الراهنة، دون إعادة فتح خطوط التجارة بين سوريا والعالم الخارجي. شريان دول الخليج، فضلا عن النافذة الاستثمارية التي يفتحها، سيقلل من اعتماد سوريا على إيران، في ظل مساع لتوجيه الاقتصاد نحو قطاعات مستدامة مثل السياحة والزراعة والصناعات التحويلية.
أما الاتفاق الدفاعي، الذي تسعى تركيا لتفعيله عبر قاعدتي تدمر والتيفور الواقعتين في المنطقة الصحراوية السورية الشاسعة المعروفة باسم البادية، فخطوة لترسيخ نفوذ سيكتسب شرعية بخروجه من عباءة ترسيم اتفاق مبرم، يفتح الباب من جهة لإرساء ترتيب دفاعي استراتيجي مع قادة سوريا الجدد، بحيث يطرح على الطاولة، حسب مسؤول في الرئاسة السورية الجديدة «تدريب القوات المسلحة التركية للجيش السوري الجديد»، لكن يضع أيضا تركيا في موقع استراتيجي مميز في أفق المفاوضات التي ستجرى لا محالة لاستيعاب الفصائل المسلحة داخل الجيش النظامي الجديد، وعلى رأسها قسد، على ضوء الصراع الذي تخوضه تركيا مع وحدات حماية الشعب الكردية.
استمعت هذا الصباح إلى مقابلة أجرتها الخدمة العالمية لـ»بي بي سي» مع منفية سورية في ألمانيا عادت لزيارة البلاد بعد غياب دام اثنين وعشرين عاماً. تحدثت عن سجناء الرأي، تحدثت عن الزنازين بما فهمنا أنها تتحدث عن صيدنايا وأخواته، وصفت المشهد بـ»الأمر المعروف»، «بالكاد تصدق، لكنهم فعلوا ذلك»، قالت، لكن تحدثت أيضا عن «الكنز الثمين الذي تشكله عشرات الأوراق التي ضبطت في قصر الجمهورية»، قصر الشعب من الآن فصاعدا.
الحرية لسوريا إذن، نداء سنظل نردده من كل الزوايا المعنية: حرية الرأي، حرية تنقل الأشخاص، حرية التعاملات التجارية. لكن كل السؤال إلى أي حد ستصبح سوريا الجديدة رابحة من النفوذ الناعم – والعبارة ليست سيئة في ذاتها – وليس أسيرة له. أكثر من أي وقت مضى، الأيام بيننا.
باحث أكاديمي وإعلامي فرنسي
القدس العربي
—————————–
من هم المقاتلون الجزائريون الذين رفض أحمد الشرع إطلاق سراحهم؟/ رمزي البشراوي
13.02.2025
بسقوط نظام بشار الأسد، فقدت الجزائر حليفاً قوياً في المنطقة العربية، لكنها تبحث الآن عن ترتيب العلاقات مع القيادة الجديدة، علّها تحافظ على تحالفها القديم على رغم تغير النظام، فالمهم عندها الآن ألا تخسر أوراقاً إضافية تُضعف مكانتها الإقليمية المتهلهلة.
واصل النظام الجزائري بقيادة الرئيس عبد المجيد تبون، دعمه نظام بشار الأسد الدكتاتوري حتى اللحظات الأخيرة لسقوطه، في مواجهة ما أسماهم بـ”الجماعات الإرهابية”، التي تهدد سيادة سوريا ووحدتها وحرمة أراضيها وأمنها واستقرارها.
وكان النظام الجزائري واحداً من الأنظمة القليلة، التي تأسّفت على إطاحة الدكتاتور السوري، حتى إنه ظل صامتاً تجاه التغيّرات الحاصلة في بلاد الشام لأسابيع طويلة، إلى أن اضطر للقبول بالأمر الواقع وإيفاد مبعوث إلى دمشق للقاء القيادة الجديدة.
مقاتلون في صفوف قوات الأسد
أكّد وزير الخارجية الجزائري أحمد عطاف، بعدما استقبله الرئيس السوري أحمد الشرع، استعداد بلاده لتطوير تعاونها الثنائي مع سوريا، لا سيما في ميدان الطاقة والتعاون التجاري والاستثمار وإعادة الإعمار، وهي النغمة نفسها التي سمعناها من وزراء عرب زاروا دمشق في الفترة الأخيرة.
لكن يبدو أن زيارة مبعوث الرئيس الجزائري الخاص إلى دمشق، تناولت مسألة أخرى مهمة تشغل بال نظام تبون، وهي المقاتلون الجزائريون في سوريا، ولا نتحدّث هنا عن المقاتلين في صفوف قوى الثورة التي أطاحت نظام الأسد، بل نتحدّث عن المقاتلين الذين شاركوا إلى جانب الأسد.
يوجد عدد من المقاتلين الجزائريين الذين وقفوا إلى جانب الثوار، لكن النظام الجزائري لم يتحدّث عنهم، ولا يريد عودتهم إلى البلاد، حتى وإن كان الهدف من عودتهم محاكمتهم، ذلك أنه يريد التخلّص منهم، إلا أنه في المقابل أرسل مبعوثاً خاصاً للحديث عن المقاتلين في صفوف نظام الأسد.
ومع سقوط نظام بشار الأسد بداية كانون الأول/ ديسمبر الماضي، برزت إلى الساحة مجدداً مسألة المقاتلين الأجانب في صفوف قواته، ومنهم المقاتلون الجزائريون، إذ أشارت تقارير صحافية إلى محاصرة قوى الثورة نحو 500 مقاتل جزائري، ومقاتلين من جبهة “البوليساريو” الانفصالية في مدينة حلب.
وعقب سيطرة قوى المعارضة المسلّحة على المدينة، تمكّنت مجموعات من القبض على هؤلاء المقاتلين، واقتادتهم إلى السجون لمحاسبتهم ومحاكمتهم في وقت لاحق، إلى جانب مقاتلين أجانب آخرين. ولم تعقّب السلطات الجزائرية حينها على هذه الأخبار، واختارت الصمت، هي التي كانت تردّ على أي اتّهام موجّه إليها.
الشرع يرفض التسليم؟
تحدّث الموفد الجزائري إلى دمشق عن طبيعة العلاقات المستقبلية بين البلدين، لكنه ركّز على مسألة المقاتلين وفق ما أكّدته التقارير الإعلامية، وطالب بتسليمهم إلى بلادهم، إلا أن الإدارة السورية الجديدة بقيادة الشرع رفضت الطلب.
تقول تقارير إعلامية محلية ودولية، إن الرئيس السوري أبلغ المسؤول الجزائري رفض بلاده تسليم المقاتلين الجزائريين، وإنهم سيخضعون للمحاكمة إلى جانب بقايا “فلول نظام الأسد”، الذين تم القبض عليهم خلال العمليات الأخيرة، التي أدّت إلى سقوط “جزار دمشق”.
بالعودة إلى تقارير إعلامية سابقة، نرى أن مسألة المقاتلين الجزائريين في صفوف قوات الأسد، برزت إلى الساحة سنة 2015 مع احتدام القتال في البلاد، وفي أيار/ مايو 2016، أعلن الجيش السوري مقتل أول جزائري كان يحارب في صفوف قوات بشار الأسد.
آنذاك، نقلت مصادر لصحيفة “الشروق” الجزائرية الداعمة للنظام، مقتل الجزائري حسين بن عيسى المكنّى بـ”أبي عدي” في معارك داريا في ريف دمشق، التي سجّلت حضوراً مبكراً وقوياً في الثورة السورية ضد النظام الحاكم.
ونشط الجزائري بن عيسى ضمن “الحرس القومي العربي”، الذي يتزعّمه اللبناني أسعد حمود، الملقب بـ”الحاج ذو الفقار”، وهي مجموعة تقاتل إلى جانب قوات النظام، وشارك القائد الميداني الجزائري في معارك كثيرة ضد فصائل المعارضة السورية.
ولم يكن بن عيسى الجزائري الوحيد في تلك المعارك، بل كان إلى جانبه جزائريون آخرون يقاتلون في صفوف قوات الأسد، وقد تورّط عدد منهم في المجازر التي ارتُكبت بحقّ المدنيين العزّل في داريا وغيرها من المدن السورية.
وتحوّل عدد من الجزائريين من مساندة نظام بشار في الفضاء الافتراضي ووسائل الإعلام، إلى حمل السلاح والتوجّه إلى سوريا وقتال المدنيين المطالبين بالتغيير والتحوّل السياسي الديمقراطي، بعدما استطاع زبانية النظام إغراءهم لينضمّوا إلى ميليشيات ترفع شعارات القومية العربية.
ويضم “الحرس القومي العربي” الذي يتكوّن من 4 مجموعات: “كتيبة محمد البراهمي” المنسوبة إلى رئيس “التيار الشعبي” في تونس الذي اغتيل سنة 2013، و”كتيبة وديع حداد” المنسوبة إلى قائد العمليات الخارجية في “الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين”، و”كتيبة حيدر العاملي” المنسوبة إلى حسين أسعد حمود عضو “تجمّع اللجان والروابط الشعبية”، و”كتيبة جول جمال” المنسوبة إلى الضابط السوري الذي قُتل في مصر خلال العدوان الثلاثي، إضافة إلى مئات المقاتلين العرب من جنسيات مختلفة.
يُذكر أن نظام الأسد عمل منذ بداية الاحتجاجات المطالبة بسقوطه سنة 2011، على جلب مرتزقة من الخارج وتشكيل ميليشيات تقاتل المدنيين، إلى جانب القوات النظامية والمليشيات الطائفية متعددة الأسماء والجنسيات.
وعلى رغم حديث وسائل إعلام سورية ودولية عن رفض القيادة السورية تسليم المقاتلين الجزائريين إلى بلادهم، اختار النظام مواصلة الصمت تجاه هذه القضية وعدم الخوض فيها، وهو ما يزيد من تأكيد صحة هذه التقارير.
ووفقاً لما تم رصده، فقد نُقل المقاتلون الجزائريون إلى سوريا بمساعدة إيران، التي تمتلك علاقات قوية مع النظام الجزائري، وعناصر “البوليساريو” التي تنشط قرب الصحراء الغربية المتنازع عليها بين المغرب وجبهة “البوليساريو”. وساهمت المخابرات الإيرانية في إقناع عدد مهم من الجزائريين، بخاصة من عناصر “البوليساريو”، بالالتحاق بقوات النظام لمساندة الأسد في حربه ضد المدنيين السوريين.
وعلى رغم عمل هؤلاء المرتزقة تحت قيادة جيش النظام، فإنهم يتلقّون الدعم والتمويل المباشر من قيادات في “الحرس الثوري” الإيراني، وقيادات في “حزب الله” اللبناني، ويخضعون للتدريب تحت إشرافهم، ما جعلهم أداة في يد طهران لتنفيذ أجنداتها في سوريا والمنطقة.
كان النظام الجزائري يعلم يقيناً انضمام عدد من الجزائريين للقتال في صفوف قوات الأسد، إلا أنه لم يمانع ذلك، فنظام تبون ومن قبله الراحل بوتفليقة كانا حريصين على استمرار حكم عائلة الأسد، على رغم المجازر الكثيرة التي ارتُكبت في حق الشعب السوري.
الصحراء الغربية والخليج وسوريا!
لم تدعم الجزائر نظام المخلوع بشار الأسد بالمقاتلين فقط، فقد كان هناك دعم اقتصادي وسياسي ودبلوماسي أيضاً، فالمهم عند قيادة الجزائر بقاء الأسد في الحكم، وإن كلّف ذلك إبادة السوريين وتدمير المدن والقرى وحرق الأخضر واليابس.
وكانت الجزائر من الدول العربية القليلة التي حافظت على علاقات دبلوماسية متقدّمة مع نظام بشار الأسد خلال السنوات الأخيرة، ودعمت عودته إلى جامعة الدول العربية سنة 2023، بعد أكثر من عقد على تعليق عضوية سوريا في الجامعة.
ويأتي الدعم الجزائري لنظام الأسد نكاية بدول الخليج التي تدعم المغرب، فكل من يدعم المغرب تقف الجزائر ضده، حتى تضمن أصواتاً إضافية مساندة لها ولطرحها، في ما يخص قضية الصحراء الغربية.
كما يأتي هذا الدعم في إطار معاداة الجزائر للربيع العربي، فالنظام الجزائري يرى أن سقوط نظام الأسد يعني نجاح الربيع العربي، وهذا النجاح يهدد عرش الجنرالات في الجزائر، لذلك لا بد من دعم الجزار السوري بالقوة.
بسقوط نظام بشار الأسد، فقدت الجزائر حليفاً قوياً في المنطقة العربية، لكنها تبحث الآن عن ترتيب العلاقات مع القيادة الجديدة، علّها تحافظ على تحالفها القديم على رغم تغير النظام، فالمهم عندها الآن ألا تخسر أوراقاً إضافية تُضعف مكانتها الإقليمية المتهلهلة.
– صحفي تونسي
درج
———————————
القنيطرة المنسية.. ثروات ضائعة وأطماع إسرائيلية/ عقبة الأحمد
سد المنطرة في محافظة القنيطرة السورية وهو أكبرها ويبلغ مقدار التجمع المائي فيه 40 مليون متر مكعب الجويرة نت
13/2/2025
القنيطرة- في الطريق من دمشق إلى القنيطرة تهطل زخات من المطر ما تلبث أن تتوقف لتشرق الشمس ويتكرر المشهد طوال مسافة الرحلة الممتدة 67 كيلومترا.
تلامس هذه التغيرات المناخية المعروفة في شهر فبراير/شباط، التقلبات الميدانية التي حدثت في هذه المنطقة الإستراتيجية على تخوم الجولان المحتل فور تخلص السوريين من نظام حكم بشار الأسد فجر الثامن من ديسمبر/كانون الأول الماضي.
فلم تدم فرحة السوريين في القنيطرة بسقوط الأسد سوى ساعات حتى كتمتها إسرائيل بتقدم قواتها إلى المنطقة العازلة في هضبة الجولان التي تحتل معظمها منذ عام 1967 وأعلنت انهيار اتفاقية فض الاشتباك لعام 1974، منتهزة فرصة التغيير الذي حدث في سوريا، حيث توالت التصريحات من تل أبيب بالسيطرة والبقاء في المناطق الجديدة.
وشرعت قوات الاحتلال على الفور بإقامة نقاط ثابتة على جبل الشيخ جنوب غرب سوريا عقب انسحاب عناصر الجيش السوري المنحل منه، ولم تكتف بذلك بل توغلت بعمق وسطي يبلغ نحو 4 كيلومترات على طول الشريط الحدودي مع الجولان المحتل البالغ 76 كيلومترا.
احتلال ونقاط تمركز
وقال مصدر في مديرية الإعلام بمحافظة القنيطرة للجزيرة نت إن الجيش الإسرائيلي تمركز في 9 نقاط على طول الشريط الحدودي الفاصل، واحتل بلدات وقرى الحميدية، والرواضي، ورسم زعل، ورسم الشارع، ورسم الشولي، والقحطانية.
كما أقدمت قوات الاحتلال على تقطيع أوصال تلك البلدات بحيث يمر السكان بطرق التفافية طويلة وصعبة للتحرك إضافة إلى فرض حظر التجوال على سكان تلك المناطق الذين رفضوا مساعدات قدمتها قوات الاحتلال لهم، كما رفضوا الحديث مع قوات الاحتلال متمسكين بتبعيتهم للإدارة الجديدة في دمشق.
وتشمل النقاط العسكرية الإسرائيلية الجديدة في القنيطرة التالي:
نقطة جبل الشيخ.
نقطة قمة عرنة أعلى جبل الشيخ حيث بدأت بشق طرق وبناء ثكنة عسكرية.
نقطة التلول الحمر شرق بلدة حضر، إذ دخلت تلك المنطقة بعد انسحاب القوات الروسية إبان سقوط النظام المخلوع وبدأت بإنشاء ثكنة عسكرية تراقب المنطقة.
نقطة قرص النفل شمال غرب بلدة حضر في سفح جبل الشيخ يطل على الشريط الحدودي وقسم كبير من ريف القنيطرة الشمالي.
نقطة جباتا الخشب بالقرب من برج الزراعة في محمية جباتا الخشب الطبيعة وتحتوي النقطة على مهبط مروحي ونقاط مراقبة وشق طريق جديد باتجاه الحدود.
نقطة في منطقة العدنانية بالقرب من سد المنطرة على تلة مرتفعة بدأ الاحتلال بتجهيزها.
نقطة داخل مدينة القنيطرة المدمرة بالقرب من برج القنيطرة.
نقطة تل أحمر غربي جنوب بلدة كودنا، وهي نقطة تكشف الريف الجنوبي للقنيطرة وجزءا كبيرا من ريف محافظة درعا الغربي في محافظة درعا المجاورة.
نقطة شمال بلدة الحميدية تم تجهيزها وشق الطريق باتجاه الحدود وتم إنارتها وذلك بعدما انسحبت قوات الاحتلال من مبنى المحافظة والمحكمة باتجاه هذه النقطة والتي تكشف المنطقة بشكل تام.
شاهد على الدمار
وقد تجولت الجزيرة نت في مبنى محافظة القنيطرة والمحكمة بعد أيام على انسحاب قوات الاحتلال الإسرائيلي منهما إلى بلدة الحميدية القريبة، لكن دون تمكنها من رصد تمركز قوات الاحتلال بالصورة لخطورة التقاط صور لأماكن تواجد الجنود الإسرائيليين.
وقد عمدت قوات الاحتلال إلى تدمير بعض الأبنية خارج مقر المحافظة وتجريف الأراضي واقتلاع الأشجار وحرق السيارات التابعة للمحافظة.
وبدا المشهد في الداخل ممتلأ بالفوضى والخراب رغم جهود التنظيف وإزالة الحطام المستمرة، إذ أقدم جنود الاحتلال على تحطيم الأثاث والمكاتب وزجاج النوافذ ونشر القاذورات وبقايا الأطعمة والشراب والكتابة باللغة العبرية على حيطان المبنى من الداخل.
آثار حرائق تركتها قوات الاحتلال بعد انسحابها من مقر محافظة القنيطرة السورية (الجزيرة نت)
آثار حرائق تركتها قوات الاحتلال بعد انسحابها من مبنى محافظة القنيطرة (الجزيرة نت)
أما في محيط المبنى فقد بدت آثار الحرائق التي نفذها جنود الاحتلال لإتلاف وثائق وملفات تابعة للمحافظة والمحكمة المجاورة له، ولم تسلم من الحرائق أجهزة كمبيوتر.
وتظهر في إحدى الزوايا خارج مبنى المحكمة ما تبقى من آثار دراجة نارية دهستها دبابة إسرائيلية، إضافة لما تبقى من هيكل سيارة مدمرة في المنطقة الخلفية لمبنى محافظة القنيطرة التي جرفت الأشجار من حوله.
وقامت الفرق التابعة للدفاع المدني ومؤسسات الدولة الأخرى ببدء عمليات تنظيف واسعة لإزالة مخلفات العدوان الإسرائيلي على مقر المحافظة وتم إزالة السيارات المحترقة قبل يومين بعد أن زارت قوات الأمم المتحدة المكان واطلعت على حجم الدمار الذي خلفه الجيش الإسرائيلي ورفعت تقريرا به للمنظمة الدولية.
دور السلطات المحلية
وعن الأدوار والإجراءات التي تقوم بها السلطات المحلية في ظل الأوضاع الراهنة قال رئيس مجلس بلدية القنيطرة محمد السعيد للجزيرة نت إن المحافظة حاليا مكبلة اليدين بسبب التوغل الإسرائيلي إلا من بعض الخدمات القليلة التي تقدمها للسكان ومن بينها تسليك طرق بديلة بعدما قطعت قوات الاحتلال أوصال الطرق مع البلدات التي توغلت فيها.
كما تتواصل السلطات المحلية مع السكان في البلدات المقطوعة للوقوف على احتياجاتهم.
وأشار السعيد في هذا السياق إلى أن بلدة الحميدية مقطوعة تماما حتى إن قوات الاحتلال حولت الأراضي الزراعية إلى مساتر وحفرت خنادق في تلك الأراضي.
ورغم انتشار قوات إدارة الأمن العام التابعة للحكومة الجديدة في مناطق واسعة من القنيطرة وعلى تخوم المناطق والبلدات التي احتلتها إسرائيل حديثا، فإنها -وفق رئيس مجلس بلدية القنيطرة- تتلافى الاحتكاك مع الجيش الإسرائيلي لعدم إعطاء مبرر لأي تصعيد لحين إيجاد حل سياسي يؤدي إلى انسحاب قواته.
وأضاف السعيد أن المناطق التي احتلتها القوات الإسرائيلية شكلت بيئة لعناصر مطلوبة تلاحقها إدارة الأمن العام بسبب قضايا الفساد والمخدرات والاتجار بالبشر، مشيرا إلى أن وجود قوات الاحتلال حال أيضا بين عمليات قوات الأمن لجمع السلاح غير الشرعي في المنطقة.
وحمّل السعيد إسرائيل المسؤولية بشأن الوثائق المتلفة أو المفقودة من مبنى المحافظة والمحكمة، لافتا إلى أن كاميرات المراقبة أيضا أزيلت أو أتلفت، كما أشار إلى فقدان أو إتلاف ملفات مئات القضايا من مبنى المحكمة جراء تمركز قوات الاحتلال في المبنيين على مدى 55 يوما.
وتمارس إسرائيل -وفق السعيد- سياسة التهجير رغم تمسك السكان ببلداتهم إذ تحاول تعكير المزاج العام، وتمنع الماء والخدمات وتشوش على الاتصالات على المواطنين السوريين بالمنطقة التي توغلت فيها.
كما بات السكان في بعض بلدات القنيطرة لا يستطيعون الوصول إلى مزارعهم، مما يهدد الثروة الحيوانية بالموت والخسارة بسبب الدمار وخروج المراعي والآبار عن الخدمة جراء تجريف واسع للأراضي الزراعية وقطع أشجار سرو معمرة، وفق المسؤول المحلي السوري.
ثروات ضائعة
تُعرف القنيطرة منذ القدم بأنها سوق دمشق لما تنتجه ثروتها الحيوانية من ألبان وأجبان، لكن ضعف الدعم للمشاريع المحلية الزراعية في المنطقة أثر على تلك الثروة وأدى إلى تراجعها وتهديد استمرارها.
ويقول رئيس بلدية القنيطرة إن “النظام المخلوع تبنى سياسة إفقار وتهجير غير معلن” لسكان المحافظة عبر تقليل دعم المزارعين ومشاريع التنمية الصغيرة ومنع حفر الآبار لاستغلال الأرض والسقاية.
وجراء هذه الإجراءات من النظام المخلوع -وفق السعيد- باتت الثروة الحيوانية في خطر كبير بسبب ارتباطها بالثروة الزراعية ونموها معها.
سد المنطرة في محافظة القنيطرة السورية (الجزيرة نت)
سد المنطرة في محافظة القنيطرة (الجزيرة نت)
وتحدث رئيس بلدية القنيطرة عن وجود 6 سدود في المحافظة، لم يكن هناك أي خطة على أيام النظام المخلوع بخصوصها، إذ لا يتم الاستفادة إلا من نحو 5% من مياه تلك السدود في الري فقط.
وبحسب إحصاءات مديرة الموارد المائية واستصلاح الأراضي في القنيطرة يبلغ الحجم التجمعي لمياه السدود نحو 83 مليون متر مكعب تتشكل على النحو التالي:
سد المنطرة وهو أكبرها ويبلغ مقدار التجمع المائي فيه 40 مليون متر مكعب.
سد كودنا ويبلغ مقدار التجمع المائي فيه 31 مليون متر مكعب.
سد الرقاد ويبلغ مقدار التجمع المائي فيه 9.2 ملايين متر مكعب.
سد بريقة ويبلغ مقدار التجمع المائي فيه مليون متر مكعب.
سد روحين ويبلغ مقدار التجمع المائي فيه نحو مليون متر مكعب.
سد الهجة ويبلغ مقدار التجمع المائي فيه 850 ألف متر مكعب.
ويرى خبراء في المنطقة أنه يمكن توليد الكهرباء عبر السدود وتوسيع مجاري الري ودعم مشاريع التنمية الصغيرة حول السدود.
كما تتميز القنيطرة بوجود مساحة واسعة مفتوحة هوائيا يمكن الاستفادة منها في إقامة عنفات مراوح هوائية ضخمة لتوليد الطاقة الكهربائية، وهو ما تفعله إسرائيل على الجانب الآخر في الجولان المحتل.
وتتمتع المنطقة بأجواء صيفية وشتوية تجعلها مثالية لزارعة أنواع كثيرة من الخضار والفواكه وربما عمل مشاريع سياحية.
وبمقارنة بسيطة بين المنطقة والموارد الطبيعة فيها وبين الجانب السوري من الشريط الفاصل مع الجولان المحتل تجد صحراء قاحلة بسبب منع حفر الآبار لاستثمار الأراضي، في حين أن الطرف الإسرائيلي يستغل المنطقة بالزراعة والمشاريع لتوليد الطاقة.
وبانتظار ما ستؤول إليه الأيام والأشهر وربما السنوات القادمة يبقى السؤال هل سيكون للقنيطرة من اسمها نصيب؟. لتصبح جسر عبور من ماض مظلم إلى مستقبل مشرق.
المصدر : الجزيرة
—————————–
العدالة الانتقالية بوابة المصالحة الوطنية في سوريا/ بهاء العوام
“اندبندنت عربية” ترصد مواقف شخصيات متخصصة حول محددات السلم الأهلي المنتظر بعد سقوط نظام الأسد
الخميس 13 فبراير 2025
تبرز العدالة الانتقالية كضرورة ملحة لطي صفحة الماضي وفتح أبواب ونوافد البيت السوري على مستقبل جديد بعد عقود تحت نير نظام البعث وعائلة الأسد، اعترف الرئيس السوري الجديد أحمد الشرع بأهميتها في خطابه الذي ألقاه نهاية الشهر الماضي، ووضعها ضمن خمس أولويات للمرحلة المقبلة، ولكن الطريق نحو تحقيقها لا يزال مبهماً بالنسبة إلى السوريين.
تشهد الساحة السورية منذ سقوط النظام السابق في الثامن من ديسمبر (كانون الأول) الماضي حالات انتقام فردية بتهمة التواطؤ ودعم حكم الرئيس المخلوع بشار الأسد، ومع اتساع رقعة هذه الحالات وضعف الإمكانات الأمنية والعسكرية لمواجهتها ووقفها، تتعالى الأصوات المطالبة بإطلاق نظام عدالة انتقالية ينصف ضحايا الذين تعرضوا للاضطهاد والتهجير والانتهاكات بكل أنواعها من النظام والأطراف المحلية والدولية التي انخرطت في الحرب السورية على مدار 13 عاماً.
مدير مؤسسة “اليوم التالي” لدعم الانتقال الديمقراطي في سوريا معتصم السيوفي يقول إن الجرائم التي ارتكبت خلال سنوات الحرب ضمن انتهاكات جسيمة وواسعة النطاق جعلت حجم المظالم كبير جداً، هذا إضافة إلى أن البلاد لم تشهد انتقالاً سياسياً يرتب الأوضاع الداخلية بصورة متدرجة ومريحة تضبط الأمن وتحافظ على مؤسسات الدولة لرسم مسار سريع للعدالة الانتقالية.
ويشير السيوفي إلى وجود ضعف وعجز عن السيطرة على كامل البلد أمنياً، فعدد القوات المسلحة السورية في وزارة الدفاع والداخلية والفصائل المسلحة غير كاف لضبط الأمن في أراضي الدولة كافة، فضلاً عن وجود مناطق هي أصلاً خارج سيطرة السلطة المركزية، لذا إذا لم يثق المجتمع السوري بوجود مسار للعدالة الانتقالية سيفتح الباب أمام حالات الانتقام.
من جهته ترى المديرة التنفيذية لمنظمة “دولتي” القانونية والحقوقية رولا بغدادي أن مسار العدالة الانتقالية الخاص بسوريا والمجتمع السوري سيكون طويلاً جداً ويحتاج إلى عملية تحضيرية كبيرة، كما أنه بحاجة إلى أن يشمل الجميع، مشدداً على أن مهمة الخروج بقانون وصورة تلك العدالة يقع على عاتق المجتمع بالتعاون مع السلطة الموجودة.
وتعتقد بغدادي أن البلاد يمكن أن تنزلق بأية لحظة إلى حرب أهلية، وهناك إجراءات يجب أن تتخذها السلطة بصورة فورية لتعالج هذا الأمر، ومنها مثلاً الشرطة المحلية التي توجد في بعض المناطق من دون سلاح، كما أن هناك ضرورة لوجود عقاب حقيقي يوقف حالات الانتقام الفردي، فتشكيل لجنة للتحقيق وإعلان النية بإحالة المذبين إلى القضاء العسكري أمر اعتاد عليه السوريون منذ زمن النظام البائد.
الجهة المعنية
المستشارة القانونية في المركز الأوروبي للحقوق الدستورية وحقوق الإنسان جمانة سيف، تقول إن السلطة الحالية في سوريا تمتلك الحق لوضع نظام للعدالة الانتقالية ولكن ليس لوحدها، فهذا العمل هو مسؤولية تشاركية بين السلطة بكل مفاصلها التشريعية والتنفيذية مع المجتمع المدني الذي يتضمن روابط عائلات وضحايا الانتهاكات، منوهة إلى أن خطاب أحمد الشرع نهاية الشهر الماضي تضمن نقاطاً إيجابية، كما وضع العدالة الانتقالية بين الأولويات الخمس التي يجب العمل عليها، ولكن المهم أن تكون العملية تشاركية وتضمينية واضحة تستعين بالجميع وبالخبرات الدولية.
وتلفت سيف إلى أن العدالة الانتقالية كانت ضمن الأوليات الخمس التي ذكرها الشرع في خطابه نهاية الشهر الماضي، لذا ينتظر أن تكون حاضرة على طاولة الحوار الوطني المقبل الذي من المهم الكشف عن مراحله وخطواته وعناوينه بكل شفافية.
ويشدد السيوفي على أن السلطة الحالية عندما أطلقت العملية العسكرية التي أطاحت بنظام الأسد، حرصت على المستوى السياسي ألا يحصل انتهاكات واسعة وأن يحفظ السلم الأهلي ما أمكن، وبالتالي يمكن القول إن “السلطة تريد أن تقترب من منطق العدالة الانتقالية وتبتعد من الانتقام، لكن حتى الآن لم نر جهداً بدعوة روابط الضحايا وأصحاب الخبرة والمجتمع المدني إلى ورش عمل ولقاءات جدية من أجل الإجابة عن السؤال، كيف نبدأ مشروعاً وطنياً للعدالة الانتقالية في سوريا؟
ويلفت السيوفي إلى أن الصراع السوري خلال السنوات الماضية تعقد وتشابك كثيراً وتدخلت فيه أطراف أخرى غير النظام السابق وحلفائه، مشدداً على أنه “إذا كنا نتحدث عن عدالة انتقالية تقود إلى السلم الأهلي ومصالحة وطنية فيجب أن تكون هذه العدالة شاملة للجميع، وأي انتقاص أو خلل في هذه الشمولية يعني أننا لسنا أمام برنامج عدالة وطني، وإنما أمام برنامج ينتصر لفئة من المظلومين”.
وتلفت البغدادي إلى أن مجتمعات كثيرة واجهت في الماضي ما يواجه السوريين اليوم، وكان هناك تجارب مهمة عالمياً في العدالة الانتقالية عرفتها دول مثل رواندا وجنوب أفريقيا والمغرب، وعلى رغم هذا “يجب على السوريين أن يبتدعوا ويكونوا خلاقين في تجربتهم كي يلموا شتات البلد وينقلوه إلى سلام حقيقي”.
تقول البغدادي إن العدالة الانتقالية هي قرار سياسي، لكن وظيفتها هي التي تحدد الفارق بين تجربة وأخرى، مشيرة إلى ضرورة وضع قراءة موضوعية كي لا تغرق سوريا في حالة شعبوية وتضيع في سرديات مغلوطة تقوم على “الانتماءات ما تحت الوطنية” التي كرست سابقاً حكم الديكتاتور، وهنا يبرز السؤال الأساس كيف ومن سيكتب التاريخ ليرى السوريون جميعهم أنفسهم فيه.
وتلفت المحامية سيف إلى ضرورة بدء العمل والتنسيق بين المنظمات الداخلية والخارجية التي عملت على العدالة الانتقالية خلال السنوات الماضية، كما يحتاج السوريون إلى أن تكون مؤسسات العدالة الانتقالية مستقلة بقراراتها وتنفيذ مهماتها، إضافة إلى معرفة ما المؤسسات التي يجب أن تنبثق عن نظام العدالة الانتقالية في ما يتعلق بلجان المصالحة ومعرفة الحقيقة والتعويض وطبيعة المؤسسات التي ستقدم الخدمات للضحايا، إضافة إلى التوثيق الذي يحتاج إلى جهد كبير.
ويشير السيوفي إلى أن مشروع العدالة الانتقالية هو مشروع وطني أولاً، ولكن المجتمع الدولي يمكن أن يساعد تقنياً ومادياً، منوهاً إلى أن تجارب العدالة الانتقالية في العالم تأثرت دوماً بصورة الانتقال السياسي والأثمان التي بذلت ضمن هذا الانتقال، لذا هناك محطات رئيسة لا يمكن تجاوزها في التجربة السورية، أولها محاسبة كبار المجرمين كي لا يفتح باب الانتقام من الصغار، والثانية ضرورة “تجريم الأسدية”، والثالثة تعويض ملايين المهجرين الذين دمرت بيوتهم ومنشآتهم وإعادتهم في أسرع وقت لأن بقاءهم في المخيمات سيكون عاملاً للتوتر، وكذلك الكشف عن مصير المفقودين البالغ عددهم نحو 120 ألفاً، ومساعدة النساء اللاتي تعرضن للعنف الجنسي.
اندبندنت عربية
————————
آليات عمل اللجنة التحضيرية لمؤتمر الحوار الوطني السوري/ عماد كركص
13 فبراير 2025
أكد المتحدث باسم اللجنة التحضيرية لمؤتمر الحوار الوطني حسن الدغيم في تصريح خاص لوكالة الأنباء السورية سانا، أن الحوار الوطني انطلق مع سقوط النظام السوري، مشيراً إلى أن اللجنة التحضيرية بدأت أعمالها، محدداً المعايير التي ستستند إليها اللجنة في دعوة المواطنين إلى المؤتمر، مؤجلاً الحديث عن القضايا التي سيناقشها المؤتمر.
وقال الدغيم: “رأى جميع السوريين، سواء على مستوى اللقاءات المكثفة بين القيادة والوفود الشعبية، أو بين المكونات الشعبية نفسها، أن هذه اللقاءات لم تكن عبارةً عن تعارف، بل كانت الأرضية التي تتوج اليوم ببدء الأعمال التحضيرية لمؤتمر الحوار الوطني”. وأوضح المتحدث أن اللجنة بدأت أعمالها “مستندةً ومستلهمةً المرحلة السابقة في إعداد الآليات، سواء المتعلقة بإدارة المضامين، أو الإدارة التقنية، وبالتأكيد ستكون الأعمال موزعةً على الصعد كافة، سواء التحضير، أو التواصل، أو زيارة المحافظات، أو اللقاء بالمواطنين وأعيان السوريين ونخبهم، والنظر في الوسائل العملية لضمان تمثيل الشرائح الاجتماعية، من حيث التوزّع السكاني والخبرات والتخصصات والتأثير الاجتماعي”.
وبشأن موعد عقد المؤتمر، قال الدغيم: “عندما تنضج عملية التواصل وإعداد الأوراق الأوّلية للتنفيذ، لا شك ستتم الدعوة إلى مؤتمر الحوار الوطني، الذي سيلاقي فيه السوريون والسوريات الأرضية التي سينطلقون منها في بناء مستقبل بلدهم لأول مرة منذ عام 1950”.
وأشار المتحدث الرسمي للجنة التحضيرية، التي كشف عن أسمائها السبعة أمس إلى أن “كل سوريّة أو سوريّ وطني هو عضو في الحوار الوطني من حيث المبدأ، ولكن لا بد في وضعنا أن تراعى القدرة على تنظيم مؤتمر الحوار الوطني حتى لا تظلم المضامين على حساب الشكليات، وبالتالي لا شك أن الوطنية والتأثير والتخصص والرمزية والخبرة والإفادة هي من أولويات المعايير التي ستستند إليها اللجنة التحضيرية في دعوة المواطنين إلى المؤتمر”.
وحول نسبة مشاركة المحافظات في المؤتمر، قال: “سيجري الاجتماع بالمواطنين في كل محافظة سوريّة للوقوف على خصوصياتها، تنوعها، واختيار الشخصيات الوطنية القادرة على تمثيل مصالح كل محافظة، بما ينسجم ومصلحة الوطن بشكل عام”. وأكد: “لا شك أن اللجنة لن تسعى لتطييف المجتمع، أو المحاصصة الطائفية، وهذا أمرٌ مرفوضٌ تماماً، لكنها ستراعي هذا التنوع، بحيث تقارب مشاركة كل محافظة صورتها العامة”.
ولفت إلى أن عمل اللجنة هو إدارة الحوار الوطني، تنظيماً وترتيباً وتيسيراً، ومساعدة المواطنين وأعضاء المؤتمر في الوصول إلى النتائج المرجوة، وينتهي عملها بمجرد صدور البيان الختامي، كما هو مشهر في القرار الرئاسي.
وبشأن القضايا التي ستناقش في المؤتمر، ذكر أنها متروكة لتبادل وجهات النظر وزيارات المحافظات وترتيب أوراق العمل في المؤتمر، التي بالتأكيد ستتكشف عنها الأيام تباعاً. ولفت إلى أن “رسالة اللجنة التحضيرية للشعب السوري هي من خلال عملها في مساعدة السوريين في إدارة الحوار بينهم، وتبادل وجهات نظرهم في تشكيل سلطات بلدهم ومستقبلها، سواء كانت السيادية والأساسية والخدمية، ستحرص اللجنة على الصدقية والشفافية والحيادية في تيسير أعمال المؤتمر”.
وأكد الدغيم أن البلاد بعد تعطيل دستور 2012 هي بحاجة لملء الفراغ الدستوري بإعلان دستوري، الذي كان يمكن للسيد الرئيس أن يصدره فور تسلم السلطة في البلاد، لكن كانت رغبة الرئاسة أن يكون ذلك متزامناً مع مؤتمر الحوار الوطني رغبة في إشراك نتائج الحوار وتوصياته في البناء الدستوري للبلاد، سواء أكان ذلك المؤقت أم الدائم.
وأضاف في هذا السياق: “حرص القيادة على إنجاح المؤتمر هو الذي دفع إلى تأجيل الانطلاق مرات ومرات، رغم أنه جارٍ، من حيث الناحية العملية، ومن هذا المقتضى فإن اللجنة التحضيرية مستقلة تماماً وهي التي تعين رئيسها وأجنداتها والشرائح المدعوة وفق نظام داخلي تقره بنفسها”.
وحول العدالة الانتقالية أكد أنه “أمر من الأساسيات في بناء الدولة السورية وانطلاقتها نحو نهضة، فلا تحقيق للوفاق الوطني ولا للسلم الأهلي إلا من خلال العدالة الانتقالية التي ستكون بالتأكيد على رأس أولويات الحوار الوطني”.
وأصدر الرئيس السوري أحمد الشرع أمس قراراً بتشكيل اللجنة التحضيرية لمؤتمر الحوار الوطني، تأكيداً لما نشره “العربي الجديد” في وقت سابق الأربعاء، نقلاً عن مصادر مطلعة.
تصعيد عسكري شمالي سورية
ميدانياً، تشهد مناطق ريف حلب الشرقي، شمالي سورية، تصعيداً عسكرياً، إذ استهدفت القوات التركية صباح اليوم الخميس مواقع لقوات سوريا الديمقراطية (قسد) في محيط جسر قرقوزاق وسد تشرين بريف مدينة منبج، ما أوقع قتلى وجرحى في صفوف قوات “قسد”. يأتي ذلك دون تحقيق أي تقدم ميداني لأي من الطرفين، وسط استمرار الاشتباكات المتقطعة.
حملات أمنية في حماة ودير الزور
في غضون ذلك، تواصل إدارة الأمن العام التابعة لوزارة الداخلية، بالتعاون مع إدارة العمليات العسكرية بوزارة الدفاع السورية، حملتها الأمنية ضد فلول النظام السابق في ريف حماة الشمالي، حيث اعتقلت نحو 20 عنصراً وقيادياً من بقايا نظام بشار الأسد، بينهم ضباط من الفرقة 25 مهام خاصة.
وكانت القوات الأمنية قد ألقت القبض يوم الثلاثاء الفائت على تمام علي الشيخ، قائد مليشيا “الطراميح” التابعة للفرقة 25، في بلدة معردس شمال حماة، ويُعتبر إحدى الشخصيات التي ارتكبت انتهاكات بحق المدنيين السوريين.
وفي ريف دير الزور الشرقي (بادية الشامية)، تستمر حملة التمشيط الأمنية بحثاً عن قادة وعناصر من فلول النظام السابق، إضافة إلى تجار ومروجي السلاح والمخدرات، خصوصاً أولئك الذين كانت لهم ارتباطات سابقة بالمليشيات الإيرانية. واعتقلت القوات الأمنية اليوم الخميس تسعة أشخاص من تجار المخدرات والمتعاطين، في مدينة البوكمال شرقي محافظة دير الزور، شرقي البلاد. كذلك أعلنت وزارة الداخلية أن الأمن العام في محافظة اللاذقية ألقى القبض على عدد من تجار ومروجي الحبوب المخدرة والحشيش في مدينة جبلة، وحولتهم إلى الجهات المختصة لاتخاذ الإجراءات القانونية بحقهم، وذلك ضمن الجهود المتواصلة لمكافحة انتشار المخدرات في المنطقة.
العربي الجديد
————————————-
العدالة والعقوبات وحماية اللاجئين.. خمس توصيات حقوقية لمؤتمر باريس بشأن سوريا
2025.02.13
أصدرت منظمة “هيومن رايتس ووتش” رسالة لوزراء خارجية الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي قبيل مؤتمر باريس بشأن الانتقال السياسي في سوريا، المزمع عقده اليوم، تتضمن توصيات بشأن خمس قضايا رئيسية.
وقالت المنظمة الحقوقية إن “الإطاحة بنظام الرئيس المخلوع، بشار الأسد، في كانون الأول الماضي، خلقت فرصة تاريخية لتعزيز العدالة وسيادة القانون، وضمان المساءلة عن سنوات من الجرائم الفظيعة، وتنفيذ إصلاحات الحوكمة والقضاء وقطاع الأمن التي تحمي وتحقق الحقوق المدنية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية”.
وأكدت على أهمية أن “تكون جهود إعادة الإعمار شاملة، وتمكين الجميع في سوريا من التمتع بحقوقهم الأساسية وازدهار المجتمع المدني”، مشددة على أهمية “إشراك المجتمع المدني السوري على نطاق واسع واستشارته في هذه الجهود”.
وذكرت أن مؤتمر باريس، وكذلك مؤتمر بروكسل التاسع المقبل حول “دعم مستقبل سوريا والمنطقة”، “ينبغي أن يكونا فرصة لوضع استراتيجية واضحة لدعم التطلعات والاحتياجات لحماية الحقوق التي عبر عنها العديد من السوريين ومجموعات المجتمع المدني والتحرك بشكل استباقي في هذا الاتجاه”.
وضمّنت “هيومن رايتس ووتش” رسالتها بتوصيات محددة، تتعلق بخمس قضايا رئيسية، هي: العدالة والمساءلة، والعقوبات، ودعم إعادة الإعمار ومساعدة المدنيين، وضمانات حقوق الإنسان وحمايتها، فضلاً عن الحماية الدولية للاجئين وطالبي اللجوء.
العدالة والمساءلة
الضغط على السلطات الانتقالية في سوريا لاتخاذ خطوات عاجلة لتأمين الأدلة المادية للجرائم الدولية الخطيرة في جميع أنحاء البلاد، بما في ذلك التعاون مع الخبراء الدوليين.
دعم وتعزيز جهود التوثيق والتحقيق الجارية، من خلال زيادة التمويل للآلية الدولية المحايدة والمستقلة، والمبادرات الأخرى المعنية بالعدالة في سوريا.
الضغط على السلطات الانتقالية لدعوة المراقبين المستقلين، مثل الآلية الدولية المحايدة والمستقلة، ولجنة التحقيق التابعة للأمم المتحدة في سوريا، والمؤسسة المستقلة المعنية بالمفقودين، وضمان تعاونها الكامل معهم وتيسير وصولهم من دون عوائق.
مطالبة السلطات الانتقالية بالتصديق على نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية، ومنح المحكمة اختصاصاً رجعياً عبر إعلان رسمي، ومواءمة التشريعات الوطنية مع معاهدة المحكمة والقانون الدولي.
تعزيز الإرادة السياسية اللازمة لوضع أسس العدالة الانتقالية والمساءلة الشاملة والموثوقة على المدى الطويل.
العقوبات
مراجعة العقوبات العامة أو القطاعية التي تؤثر سلباً على العمليات الإنسانية، والحقوق الاقتصادية والاجتماعية للسوريين، ووصولهم إلى الخدمات الأساسية، أو التي تضر بالمؤسسات المالية السورية، بهدف رفعها.
دعم إعادة الإعمار ومساعدة المدنيين
دعم جهود إعادة الإعمار، مع التركيز على القطاعات التي تحسّن الحقوق الاقتصادية والاجتماعية للسوريين، مثل النقل والكهرباء والصحة والتعليم، مع ضمان شفافية البرمجة وإخضاعها للرصد المستقل والعناية الواجبة.
دعم إزالة الألغام الأرضية ومخلفات الحرب المتفجرة، بما في ذلك الذخائر العنقودية، من خلال تمويل وتسهيل عمل فرق إزالة الألغام، وتوفير التدريب والمعدات، وضمان التوعية بالمخاطر وتقديم المساعدة للضحايا.
دعم الجهود الرامية إلى تحديد وتأمين وتدمير مخزونات الأسلحة المحظورة دولياً، مثل الأسلحة الكيميائية، والألغام الأرضية المضادة للأفراد، والذخائر العنقودية.
التعاون مع مؤسسات الأمم المتحدة والمنظمات الإنسانية لمعالجة الوضع الإنساني المتدهور في سوريا، حيث يحتاج 16.7 مليون شخص إلى المساعدة، في حين تتطلب أوضاع النازحين في جميع أنحاء البلاد زيادة عاجلة في الدعم الإنساني.
ضمانات وحماية حقوق الإنسان
الضغط على السلطات الانتقالية لحماية السكان من العنف، وضمان حقهم في العيش بأمان، وحماية المواقع الثقافية والتراثية. كما يشمل ذلك معالجة احتياجات الحماية والسلامة للنساء والأطفال وذوي الإعاقة وكبار السن والفئات الأخرى المعرّضة للانتهاكات.
الضغط على السلطات الانتقالية لاتخاذ خطوات عاجلة لتوفير الرعاية الصحية والدعم النفسي والاجتماعي وإعادة التأهيل للمفرج عنهم من السجون، وضمان كرامتهم، وتسهيل لمّ شملهم السريع مع أسرهم، وإنشاء نظام لتتبع وإدارة عمليات إطلاق سراح السجناء.
الضغط على السلطات الانتقالية للإفراج الفوري عن جميع المعتقلين المحتجزين بشكل غير قانوني، وضمان تقديم المعتقلين المتبقين إلى هيئة قضائية مستقلة لتقييم قانونية وضرورة احتجازهم، وضمان محاكمات عادلة ونزيهة للمشتبه في ارتكابهم جرائم.
الضغط على السلطات الانتقالية للسماح لمراقبين مستقلين، مثل اللجنة الدولية للصليب الأحمر، بالوصول إلى جميع مراكز الاحتجاز لمراقبة الأوضاع وظروف المعتقلين.
المطالبة بالإعادة العاجلة للمواطنين الفرنسيين ومواطني الاتحاد الأوروبي المحتجزين تعسفياً في ظروف غير إنسانية داخل المخيمات والسجون في شمال شرقي سوريا، مع إعطاء الأولوية للفئات الأكثر ضعفاً، بما في ذلك الأطفال وأمهاتهم.
الضغط على السلطات الانتقالية لضمان مشاركة جميع قطاعات المجتمع السوري في تشكيل مستقبل البلاد، بما في ذلك مؤتمر الحوار الوطني، ورفع القيود أمام مشاركة المجتمع المدني.
الضغط على السلطات الانتقالية لتعزيز الحقوق والحريات الأساسية للجميع، من دون تمييز، بما يشمل ضمان حرية التنقل والتجمع والتعبير، والامتناع عن الاعتقالات التعسفية أو أي شكل آخر من القمع.
الحماية الدولية للاجئين وطالبي اللجوء
ضمان استمرار دول الاتحاد الأوروبي في توفير الحماية المؤقتة والوضع القانوني للاجئين وطالبي اللجوء السوريين، وعدم فرض العودة القسرية إلا عندما تصبح طوعية وآمنة وكريمة، وفقاً للمعايير الدولية.
ضمان حق السوريين الحاصلين على الحماية الدولية في أوروبا في زيارة سوريا ضمن رحلات “اذهب وشاهد” من دون فقدان وضعهم القانوني.
تشجيع دول الجوار، مثل تركيا ولبنان والأردن، على عدم فرض العودة القسرية حتى تتوفر ظروف عودة آمنة وكريمة، مع الحفاظ على الحماية المؤقتة أو الوضع القانوني البديل للاجئين السوريين، وضمان استمرار الدعم للدول المستضيفة.
وختمت “هيومن رايتس ووتش” رسالتها بالتأكيد على أن “سقوط نظام الأسد يجب أن يكون فرصة للقيادة السورية الجديدة وجميع الشركاء الدوليين، بما في ذلك الاتحاد الأوروبي والمشاركين في مؤتمر باريس، للقطيعة مع عقود من القمع، ووضع احترام حقوق الإنسان والعدالة للانتهاكات الماضية في صميم مستقبل البلاد”.
تلفزيون سوريا
——————————
استراتيجية التنسيق بين دول الخليج وتركيا في سياسة الشيباني/ فراس رضوان أوغلو
2025.02.13
بعد مرور أكثر من شهر من تولي الإدارة السياسية الجديدة زمام الأمور السياسية والإدارية في دمشق وتعيين حكومة الإنقاذ بشكل مؤقت يمكننا القول إن الأداء بشكل عام هو أداء ناجح، وإن كان من الصعب التكلم عن استراتيجيات معينة تتبعها دمشق، فالوضع ما يزال في بدايته إضافة للإرث الثقيل الذي تركه نظام الأسد من خراب ودمار لكل مؤسسات الدولة ومدنها.
لكن الملاحظ في الأداء السياسي لوزارة الخارجية للإدارة السياسية الجديدة بأنه منضبط و متوازن وفق رؤية مقبولة عند كثير من الأطراف الدولية و هذا كان واضحاً من التصريحات التي جاءت من قبل المسؤولين الذين زاروا دمشق أو الذين قام بزيارتهم وزير الخارجية السيد أسعد الشيباني، ولو أضفنا على ذلك النتائج الحاصلة ما بعد تلك الزيارات سنجد أن النتائج الإيجابية أصبحت ملموسة ويمكن اعتبار أحد هذه النتائج هو مخرجات و قرارات اجتماع مسؤولي وزارات الخارجية لدول الخليج العربي و الذي شهد توافقاً بين تلك الدول حول خارطة طريق من أجل دعم الاستقرار في سوريا و إعادتها لمكانتها الإقليمية التي كانت عليها مسبقاً، إضافة للاجتماع العربي والدولي الذي أقامته المملكة العربية السعودية في العاصمة الرياض في مسعى منها هي أيضاً لتحقيق الاستقرار والدعم لسوريا بعد سقوط نظام الأسد، علاوة على ما قامت به المملكة السعودية من إرسال جسر بري من المساعدات الإنسانية لدعم الشعب السوري وكذلك قطر التي أرسلت أول طائرة مساعدات إلى دمشق.
أما على الصعيد الثاني (غير العربي) فزيارة الشيباني لتركيا بعد جولته في دول الخليج العربي كانت متوقعة لما قامت به تركيا من دعم كبير للمعارضة السورية منذ بداية الثورة السورية وما تقوم به حتى الآن من دعم سياسي للإدارة السورية الجديدة و تثبيتها كمخاطب سياسي للمجتمع الدولي ومطالبتها بإنهاء العقوبات المفروضة على سوريا من أجل إعادة الإعمار وإحياء التجارة البينية بين البلدين المتجاورين إضافة لدعمها الكامل لاستعادة دمشق سيطرتها على كامل التراب السوري ورفضها محاولات قسد استغلال الوضع من أجل إقامة كيان مستقل لها، ومطالبات أنقرة إسرائيل الخروج من الأراضي التي دخلتها في الجنوب السوري، واستعدادها التام في إعادة وتدريب الجيش السوري في حال تشكيله.
هذه النتائج الإيجابية حتى الآن جاءت نتيجة لتكتيك جيد في أداء الخارجية السورية و قراءة واقعية لموازين القوى في المنطقة وحسن التنسيق في العلاقات بين تلك القوى، فابتداء الزيارات الرسمية الخارجية من دول الخليج (المملكة العربية السعودية وقطر و الإمارات العربية المتحدة) تأكيداً منها على الانتماء العربي لسوريا ومعرفتها مقدار تأثير تلك الدول على الولايات المتحدة الأميركية لما تمتلكه من شراكات اقتصادية واستراتيجية هامة معها وما يمكن أن تقوم به في إنهاء العقوبات المفروضة على سوريا وتمويل مشاريع إعادة الإعمار وإحياء سوق المال والمصارف البنكية في سوريا، إضافة لثقلها السياسي في بعض العواصم العربية (القاهرة، عمان) مما يمكنها من الاستفادة منها من أجل تحسين العلاقات مع دمشق وتثبيتها سياسياً والاعتراف بها كمخاطب سياسي لتلك العواصم.
رغم أنه من المبكر الحكم على نجاح السياسة الخارجية من فشله إلا أن المؤشرات الأولية تعطي انطباعاً لا بأس به من أن الأداء كان جيداً حتى الآن وأنه يبشر باستراتيجية قادمة ذات فاعلية و واقعية مهمة وخاصة أن الزيارات الأولى التي قام بها الوزير الشيباني أظهرت أن هذه الإدارة الجديدة مدركة تماماً لما يحصل من تغيرات سياسية في المنطقة وفي العالم وأظهرت أنها على دراية بالمفاتيح التي يجب التوجه نحوها من أجل طرق وفتح أبواب الغرب الاقتصادية و السياسية، وأن الاستراتيجية الفاشلة التي اتبعها النظام السابق لم تجلب إلا العزلة و التخلف الاقتصادي لسورية وخاصة أن كل دول المنطقة أصبحت صديقة للغرب وخاصة للولايات المتحدة الأميركية وراحت سياسات واستراتيجيات تلك الدول تتماشى مع المصالح الأميركية في حين كانت دمشق متقوقعة في ظلال المحور الروسي الإيراني.
الوضع في سوريا لا يشبه أياً من الدول المحيطة بها فموقعها الجغرافي وضَعَها بين قوتين هما من القوى الأكبر في المنطقة تركيا من الشمال وإسرائيل من الجنوب والتنافس بين هاتين الدولتين بدأ يتحول إلى صراع بينهما تجلت فصوله على الأراضي السورية، فإسرائيل تدعم قسد و تركيا تدعم الحكومة و الإدارة السياسية في دمشق وهذا ينعكس على الوضع الميداني غير المستقر حتى الآن بين قسد و دمشق، ويمكن اعتبار توجه الشيباني نحو السعودية هو لتشكيل كتلة سياسية قوية بين دول الخليج و تركيا للضغط على قسد وطبعاً من خلفها الولايات المتحدة الأميركية وبهذا تكسب دمشق زخماً سياسياً يُحسب لها في كل الأحوال سواء تخلت أم لم تتخلَّ واشنطن عن قسد.
تلفزيون سوريا
————————
تفعيل رأس المال الاجتماعي في سوريا/ حمدان العكله
2025.02.13
بعد سنوات من الصراع والتدمير الذي طال كل جوانب الحياة في سوريا، سيكون تفعيل رأس المال الاجتماعي أحد الركائز الأساسية، لإعادة بناء البلاد، بعد التحرير وسقوط النظام، حيث يشير رأس المال الاجتماعي إلى الشبكات والعلاقات والثقة المتبادلة بين الأفراد والمجتمعات، والتي تُعد عنصراً حاسماً في تحقيق التنمية المستدامة، وتعزيز الاستقرار الاجتماعي والسياسي، وفي ظل التمزق المجتمعي والانقسامات التي خلفتها الحرب، يصبح العمل على استعادة الثقة والتعاون بين المواطنين، وإعادة بناء المؤسسات على أسس عادلة وشفافة، ضرورة لا غنى عنها لضمان انتقال سلس نحو مستقبل أكثر استقراراً وديمقراطية، وهنا نحاول مناقشة الآليات الفعالة لإحياء رأس المال الاجتماعي في سوريا، مع التركيز على التحديات والفرص المتاحة لتحقيق تحول إيجابي ومستدام يضمن استقرار البلاد وتنميتها.
أولى هذه الآليات هو بناء الثقة والمصالحة الوطنية، حيث يُشكل التمزق المجتمعي وانعدام الثقة بين الأفراد والمؤسسات عقبة رئيسة أمام تحقيق الاستقرار والتنمية المستدامة، لضمان إعادة ترميم النسيج الاجتماعي، فلا بد من تبني نهج شامل للمصالحة الوطنية، يقوم في البداية على تعزيز الحوار المجتمعي الذي يساعد في معالجة القضايا الخلافية، ويفتح المجال أمام مختلف الفئات للتعبير عن مخاوفها وتطلعاتها، ويمكن تحقيق ذلك من خلال إنشاء منصات حوارية تجمع قادة المجتمع، الناشطين، والجهات الفاعلة المختلفة؛ لمناقشة آليات التعايش السلمي وتعزيز ثقافة التسامح، كما أن إشراك الشباب والنساء في هذه الحوارات يعزز من شموليتها ويضمن استدامتها على المدى الطويل.
إنَّ بناء الثقة المجتمعية يتطلب تحقيق العدالة الانتقالية، وذلك لضمان عدم تكرار الانتهاكات التي شهدتها سوريا، حيث تقوم على الموازنة بين محاسبة المسؤولين عن الجرائم وتحقيق المصالحة المجتمعية، ليشمل ذلك محاكمات عادلة للمتورطين في الجرائم الخطيرة، إضافة إلى توفير فرص للعفو عن الأفراد الذين لم يرتكبوا انتهاكات جسيمة، مما يسهم في تفكيك أجواء العداء والانتقام، كما أن تعويض الضحايا ورد الاعتبار لهم يمثل خطوة جوهرية في تعزيز الثقة بالمؤسسات الجديدة، فالمصالحة الوطنية تستلزم إصلاح المؤسسات الأمنية والقضائية، وذلك لاستعادة ثقة المواطنين بالدولة، وإعادة هيكلة الأجهزة الأمنية، لتكون خاضعة للمساءلة والقانون، مع ضمان أن تعمل لحماية المواطنين بدلاً من قمعهم، كما ينبغي إنشاء جهاز قضائي مستقل قادر على تحقيق العدالة بشكل نزيه.
ثاني آليات تفعيل رأس المال الاجتماعي هي تعزيز دور المجتمع المدني، حيث يسهم المجتمع المدني في تعزيز الثقة بين الأفراد، وتمكين الفئات المهمشة، وتوفير الخدمات الضرورية، ويشمل المجتمع المدني مختلف المنظمات غير الحكومية والجمعيات الأهلية، والتي لها دور في دعم جهود الإغاثة، التعليم، وإعادة الإعمار، وتعزيز هذه المنظمات عبر توفير التمويل، الدعم اللوجستي، والإطار القانوني المناسب، سيمكنها من لعب دور أساسي في تقديم الخدمات الإنسانية والاجتماعية، كما أن تشجيع المبادرات التطوعية يُعد أحد الأدوات الفعالة في تعزيز الترابط الاجتماعي وبناء الثقة بين المواطنين، إذ يمكن للحكومات المحلية والمنظمات الأهلية دعم المبادرات التطوعي، مثل إعادة تأهيل المدارس والمستشفيات، وحملات التوعية الصحية، ومشاريع دعم سبل العيش، كما أن فعالية المجتمع المدني تتطلب إعلام مستقل يدعم المجتمع المدني من خلال تعزيز الشفافية، ومكافحة الفساد، ونشر ثقافة الحوار، وتسليط الضوء على قضايا المجتمع، لدعم حرية التعبير.
أما ثالث الآليات في عملية تفعيل رأس المال الاجتماعي هي تعزيز التماسك الاجتماعي والاقتصادي حيث تسهم في خلق بيئة مستقرة تُمكّن المواطنين من المشاركة الفاعلة في عملية إعادة الإعمار، وتعزز التكافل بين مكونات المجتمع، وتوفر فرصاً اقتصادية عادلة تضمن التنمية المستدامة والاستقرار الاجتماعي، ولتعزيز هذا التماسك لا بد من دعم المشاريع الصغيرة والمتوسطة لتحفيز الاقتصاد المحلي، وذك عبر تمويل ميسر، وتدريب ريادي، وحوافز استثمارية لرواد الأعمال، مما يسهم في توفير فرص عمل، وتحسين مستوى الدخل، وتعزيز الاعتماد على الذات، كما أن تنشيط الاقتصاد المحلي يقلل من التفاوت الطبقي ويعزز التكامل بين مختلف الفئات الاجتماعية، مما يدعم الاستقرار المجتمعي، وكذلك العمل على تشجيع التعاونيات والاقتصاد الاجتماعي لتعزيز العدالة الاقتصادية والتعاون بين الأفراد، فتسهم هذه التعاونيات في خلق شبكة دعم اجتماعي واقتصادي تعزز رأس المال الاجتماعي، ولا بد من إعادة تأهيل البنية التحتية لضمان التنمية والاستقرار، ليشعر الأفراد بأن لديهم فرصاً متكافئة للحصول على الخدمات الأساسية، بشكلٍ يحقق العدالة الاجتماعية ويحدُّ من الفجوات الاقتصادية.
إن رابع الآليات في عملية تفعيل رأس المال الاجتماعي هي دعم المشاركة السياسية والمواطنة الفاعلة، حيث تسهم في عملية التفعيل من خلال إشراك المواطنين في صنع القرار، وتقوية الثقة بين الأفراد والدولة، وترسيخ قيم الديمقراطية والشفافية، وذلك بتنظيم انتخابات ديمقراطية نزيهة، بوصفها أهم وسائل دعم المشاركة السياسية، إضافة إلى سنِّ تشريعات تضمن تمثيل فئات المواطنين العادل في الهيئات الحكومية والبرلمانية، إذ إن تمكين هذه الفئات يسهم في تنويع مراكز صنع القرار وتعزيز روح المواطنة الفاعلة، كما يمكن دعم اللامركزية وتعزيز دور المجتمعات المحلية، مما يزيد الثقة بين الدولة والمجتمع المحلي ويُعيد توزيع السلطة بشكل أكثر عدالة، وتشجيع ثقافة الحوار والتسامح السياسي، ويعد ذلك أمراً ضرورياً لتجاوز آثار النزاع والانقسامات السابقة والحد من الاستقطاب والانقسامات المجتمعية.
وفي الذهاب إلى خامس تلك الآليات في عملية تفعيل رأس المال الاجتماعي في سوريا سنجد بأنه من الضروري إعادة بناء النسيج الاجتماعي، لتحقيق الاستقرار والسلم الأهلي، فالتمزق الذي لحق بالمجتمع بسبب العنف، التهجير، والانقسامات الطائفية والسياسية يستدعي جهوداً شاملة لإعادة ترميم الثقة بين الأفراد وتعزيز قيم التعايش المشترك، يُعد رأس المال الاجتماعي أحد العوامل الأساسية لإعادة بناء المجتمعات بعد الحروب، حيث يقوم على الثقة، التعاون، والتواصل الفعال بين مختلف الفئات، مما يسهم في تحقيق تنمية مستدامة وسلم مجتمعي طويل الأمد، كما لا بد من تعزيز المبادرات الثقافية والفنية، والتي تجمع السوريين من خلفيات مختلفة يسهم في إعادة بناء الثقة المتبادلة وتعزيز الشعور بالهوية المشتركة.
ختاماً: إن عملية تفعيل رأس المال الاجتماعي في سوريا بعد التحرير لا تقتصر على إعادة إعمار المباني والبنية التحتية فحسب، بل تشمل أيضاً إعادة بناء العلاقات الإنسانية والثقة المجتمعية التي تأثرت بشدة نتيجة سنوات من النزاع والانقسامات، إن خلق مجتمع أكثر تماسكاً واستقراراً يتطلب جهوداً شاملة ومستدامة تستند إلى مبادئ العدالة، المصالحة، والتنمية المتوازنة، بحيث يشعر كل فرد في المجتمع بأنه جزء من مشروع إعادة البناء، وله دور في صناعة المستقبل، مع التأكيد على أن تشجيع عودة رؤوس الأموال السورية من خارج سوريا.
تلفزيون سوريا
—————————-
من التنوع إلى الوحدة.. الانطلاق إلى سوريا قائمة على القانون والمساواة/ بشار الحاج علي
2025.02.13
في هذه اللحظات الفارقة من تاريخنا، حيث تتعالى الأصوات وتختلط الكلمات بين شعارات متناقضة وأمنيات كبيرة، لا بد من أن نسترجع الفكرة الأساس التي يمكن أن تحمي سوريا من خطر التفكك والانهيار: فكرة دولة القانون والمواطنة المتساوية، فالحديث عن بناء دولة قوية وعادلة يبدأ من نقطة أساسية، وهي أن الجميع، على اختلاف انتماءاتهم وأعراقهم وطوائفهم، هم أبناء هذا الوطن، وأن الحقوق والحريات ليست امتيازات تُمنح لشريحة دون أخرى، بل هي أمانة من واجب الدولة أن تضمنها للجميع.
إنها الحقيقة البديهية التي يجب أن نُعيد التأكيد عليها في كل وقت، لا يمكن لنا أن نبني وطناً قوياً إن نحن جعلنا من قضية الأقليات قضية يتيمة، معزولة، تبتعد عن روح المواطنة والعدالة.
إن الأقليات في سوريا ليست مجرد مفردات سياسية تستخدم في خطب أو تصريحات، بل هي جزء من نسيج اجتماعي غني ومعقد، يتشابك في تاريخه الحافل بالتنوع والاختلاف، والكل فيه معنيون بالتعايش، بالإخاء، بالوحدة في أوجها، والاحتفاء بالتعدد، هي فسيفساء رائعة تجمع بين كل الألوان، والاختلافات التي ينبغي أن تكون مصدر قوة، لا نقطة ضعف.
لكن هناك من يرى أن قضية الأقليات قد تم استغلالها على مر السنوات، سواء من قبل أطراف خارجية أو حتى من بعض القوى الداخلية التي لم تجد في الوحدة الوطنية ما يغريها، فابتعدت عن هذه الفكرة لصالح تعزيز حضورها على حساب الآخرين، للأسف أصبحت هذه الأقليات مادة تُستخدم للترويج لمواقف سياسية، تُحرف فيها قضيتها لتصبح سبباً في تعزيز الانقسام، لا في بناء الجسور بين أبناء الوطن الواحد وفي هذا الإطار، نجد أن الحديث عن الأقلية والأكثرية يصبح مغلوطاً، فتلك المسائل ليست مقاسات يمكن حشرها في قالب ثابت، بل هي جزء من حقيقة اجتماعية تحتاج إلى وعي مختلف وطرح جديد.
إننا في سوريا بحاجة لأن ننظر إلى أنفسنا كمجتمع واحد، لا كمجتمعات متوازية أو متقاطعة، فكلنا معنيون بوجود الآخر، وكلنا نخوض معركة واحدة، وهي معركة بناء الوطن في ظل دولة قانون تحترم الإنسان وتعزز حقوقه، من دون أن تفرق بين أحد وأحد. لقد آن الأوان لأن نرفع شعار المواطنة المتساوية فوق كل الشعارات التي قد تُستغل لحسابات سياسية ضيقة، وأن نضع قانونا واحدا ينظم علاقة الفرد بالدولة، ولا يسمح لأحد بالهيمنة على الآخر أو استخدام تلك الهوة الظاهرة بين فئات المجتمع كأداة ضغط.
دولة القانون ليست فقط تلك التي تطبق القوانين بشكل صارم، بل هي أيضاً تلك التي تجعل من المواطن العنصر الأساسي في العملية السياسية والاجتماعية، حيث لا يتوقف دور المواطن عند حدود واجب السمع والطاعة، بل يتعداه ليصبح الفاعل في تشكيل القرار، والمشارك في صناعة المستقبل، وهنا لا يمكن لأي فئة أو جهة أن تتهم الأخرى بتهميش حقوقها، لأن القانون هو الحاكم، والمواطنة هي البوصلة، هذا هو الضمان الوحيد لبناء دولة سيدة، حرة، ومتحضرة.
لكن علينا أن نكون صرحاء مع أنفسنا؛ لن يكون هذا التقدم ميسراً إن لم نؤمن بأن الوحدة الوطنية هي الفكرة الأكثر قوة، لا يمكن لبناء الوطن أن يتحقق إلا حين نُقبل بأن التنوع ليس تهديداً، بل هو قيمة يجب أن تظل شاهدة على غنى هذا الوطن، فلا يُمكن أن ننحي هذا التنوع جانبا، بل يجب أن نحتفي به، من دون هذا الوعي العميق، من دون هذا الاستعداد لإعادة النظر في طريقة فهمنا للآخر وتقبلنا له، لن يكون لنا أن نخطو خطوة واحدة نحو الأمام.
إن استغلال قضية الأقليات لأهداف سياسية قد دمر العديد من الآمال التي كانت تُبنى على فكرة سوريا الواحدة الموحدة، لكن على الرغم من كل التحديات، يبقى لدينا الأمل بأن الإرادة الوطنية الحقيقية، التي تقوم على التضامن والمساواة، يمكن أن تقلب المعادلات، وأن نبدأ في بناء وطن يضمن الحق والعدل لكل أبنائه، يرفع شعار المواطنة على جميع الشعارات الأخرى، ويدرك أن حماية الأكثرية تكمن في صون حقوق الأقليات كما الأكثرية، لا في المتاجره والتلاعب بها كما فعل النظام الساقط.
إن ما نحتاج إليه في سوريا اليوم ليس مجرد شعارات فارغة عن الأخوة الوطنية، بل نظام سياسي واجتماعي يقف على قاعدة قانونية راسخة لا تميز بين أحد وآخر، ولا تسمح باستغلال أي فئة من الفئات لتحقيق مكاسب على حساب الآخر، دولة تُقيم العدل، وتُسقط الممارسات التي تتاجر بالجماعات في سبيل الوصول إلى السلطة، بل تحتضن الجميع، وتضمن الحقوق الإنسانية لكل فرد، وتسمح له بالتعبير عن نفسه بحرية ومن دون خوف هذا هو السبيل الوحيد لحماية الوطن وحمايته من الانقسام والضعف.
إذا نحن الآن أمام لحظة مصيرية في تاريخنا، لحظة يجب أن نرفع فيها رؤوسنا عالياً، ونقول بثقة: إننا بحاجة لدولة القانون والمواطنة المتساوية، التي تسهم في بناء أرضية مشتركة بين جميع السوريين، في وطن يسع الجميع ويحتوي اختلافاتهم، ويحولها إلى مصدر قوتهم، وفي هذا الطريق فقط يمكننا أن نعيد بناء سوريا كما يجب أن تكون، من دون وصاية من أحد، وبروح من الإخاء والتعاون بين كل مكوناتها.
تلفزيون سوريا
——————————-
مؤتمر باريس حول سوريا: الحاجة إلى التنسيق ووضع خارطة طريق/ ديفورا مارغولين, سهير مديني
١٢ فبراير ٢٠٢٥
تحليل موجز
لإرساء مستقبل لا يستدعي استمرار الوجود العسكري الأمريكي أو الانخراط المكثف في سوريا، ينبغي على واشنطن التحرك الآن، إذ يمكن للمشاركة الحكيمة عبر الأطلسي أن تُسهمَ في تحقيق هذا الهدف.
سيكون المؤتمر الدولي، المقرر عقده بشأن سوريا في باريس في الثالث عشر من شهر شباط/فبراير، أول تجمع للفاعلين الدوليين منذ تولي إدارة ترامب مهامها، وثالث مؤتمر من نوعه منذ سقوط نظام الأسد بعد مؤتمري العقبة والرياض. وستتمحور أجندة المؤتمر، الذي سيحضره عدد من وزراء الخارجية الإقليميين والدوليين، بمن فيهم وزير الخارجية السوري، على الانتقال السياسي والمساعدات الإنسانية وإعادة الإعمار. غير أن الأنظار تتجه جميعها نحو إدارة ترامب، إذ يأتي المؤتمر في ظل شكوك واشنطن في استمرار انخراطها في سوريا. وتُتيح عملية الانتقال في البلاد والاجتماع في باريس فرصةً للولايات المتحدة وحلفائها لوضع خارطة طريق محددة المعايير لتحقيق استقرار سوريا، مما ينعكس إيجابًا على استقرار الشرق الأوسط. وبذلك، يمكن لواشنطن أن تُسهم في ترسيخ مستقبل لا يتطلب وجود القوات الأمريكية في سوريا أو اهتمامًا أمريكيًا دائمًا.
تعدد الفاعلين واختلاف الأجندات
بعد خمسة عقود من الحكم الاستبدادي وأكثر من عقد من الحرب الأهلية، أثار سقوط نظام الأسد مزيجًا من التفاؤل والقلق. فمنذ كانون الأول/ديسمبر، سعت العديد من الدول داخل المنطقة وخارجها إلى تحقيق مصالحها في سوريا، والتي تمحورت في الغالب حول وقف تدفق مخدر “الكبتاغون”، ومكافحة الإرهاب، والحد من النفوذ الإيراني، ومعالجة حالة عدم الاستقرار التي انتشرت منذ فترة طويلة خارج حدود البلاد. وقد دفعت مساعي تركيا للقضاء على عدوها، “حزب العمال الكردستاني”، إلى دعم انتفاضة “هيئة تحرير الشام ” وتشجيع شركائها المحليين من الميليشيات التي تشكل “الجيش الوطني السوري”، على تغيير الواقع الميداني، والتقدم داخل الأراضي السورية لإجبار “قوات سوريا الديمقراطية “المدعومة من قبل الولايات المتحدة على التراجع. في الوقت عينه، استهدفت الغارات الجوية الإسرائيلية القوات العسكرية التابعة لنظام الأسد، بينما كثّفت إدارة بايدن عملياتها ضد “تنظيم الدولة الإسلامية” في المناطق التي كان يسيطر عليها النظام سابقاً. من جهتها، سعت دول الخليج إلى الانخراط مع السلطات السورية الجديدة، على الأرجح لمواجهة النفوذ الإيراني الذي تعزَّز في ظل حكم الأسد. وتُبدي الحكومة الانتقالية انفتاحاً واضحاً على التعاون مع دول الخليج، حيث جعل الرئيس أحمد الشرع المملكة العربية السعودية أول محطة لزياراته الدولية. أما بالنسبة للاتحاد الأوربي والمملكة المتحدة، فقد أسفرت الحرب الأهلية السورية الطويلة عن تداعيات جسيمة، شملت هجمات إرهابية دامية وأكثر من مليون لاجئ، مما جعلهما ينظران إلى بروز قيادة جديدة في سوريا بوصفها فرصة لإعادة بناء البلاد والتصدي لتهديد تنظيم الدولة الإسلامية.
وعلى الرغم من تعدد المصالح التي تحملها الأطراف المختلفة حيال مستقبل سوريا، فإن مؤتمر “باريس” يمثل فرصة للانتقال من مرحلة ما بعد الأسد إلى وضع معايير ملموسة للنجاح، وصياغة خارطة طريق تضمن استقرار البلاد. غير أن تحقيق ذلك لن يكون يسيراً، نظرًا لاتساع الفجوات في الرؤى بين الأطراف المعنية. ومن جانبها، تدعو الدول الأكثر تفاؤلاً، مثل قطر وتركيا، المجتمع الدولي إلى دعم الحكومة الانتقالية قبل مطالبتها بإثبات حسن نيتها، في حين يبدي المعسكر المتشكك، ممثلًا بمصر والأردن، حذرًا، بينما يتبع المعسكر البراغماتي، المتمثل في الإمارات العربية المتحدة، سياسة “الانتظار والترقب”. أما في أوروبا، فما زال النقاش مستمرًا بين الدول الأكثر تحملًا للمخاطر – التي رحبت بأعداد كبيرة من اللاجئين السوريين وترغب في رؤية رفع شامل للعقوبات لتسريع عودتهم إلى بلادهم (مثل النمسا) – والدول الأكثر حذراً ، التي تصر على أن الاتحاد الأوروبي يجب أن يكون متيقظاً وأن يقترح فقط تدابير يمكن التراجع عنها (مثل قبرص).
سوريا تطلب الدعم
تنطوي مصالح السوريين أنفسهم على تباينات واضحة. فقد دعت الحكومة الانتقالية إلى الوحدة الوطنية، مطالبةً، في المقام الأول، برفع العقوبات، حيث ربط وزير الخارجية المؤقت، أسعد الشيباني، تخفيف العقوبات بالتقدم في مسار العملية الانتقالية. وقد أعربت القيادة الجديدة عن مواقف إيجابية، من بينها التأكيد على الشمولية، والدعوة إلى الوحدة، وتعزيز مشاركة الحالية السورية في المهجر. غير أن الغموض لا يزال يكتنف نواياها الحقيقية، لاسيما في الشمال الشرقي. وفي هذا الصدد، شددت منظمات المجتمع المدني على أن نموذج الحكم الصارم الذي تطبقه “هيئة تحرير الشام” في إدلب لا يمكن تعميمه على سائر أنحاء سوريا. كما يعتقد العديد من السوريين أن العدالة الانتقالية يجب أن تكون جزءًا أساسيًا من الحوار برمته، وأن مؤتمر باريس ينبغي أن يستند إلى حوار” العدالة والإنصاف” الذي عقدته منظمات المجتمع المدني السوري في دمشق الشهر الماضي.
تعقيدات تلوح في الأفق بشأن التنسيق
يُعد جمع هذه الأطراف المتباينة معًا لصياغة خارطة طريق واضحة مهمة شاقة، لا سيما في ظل سعي تركيا، الحليفة في الناتو، إلى تجاوز أوروبا لتحقيق هدفها الأساسي، وهو القضاء على حزب العمال الكردستاني، سواء داخل أراضيها أو خارجها، مع تعزيز نفوذها في سوريا. وقد باتت أنقرة اليوم أقل حدةً مما كانت عليه في الماضي بشأن قدرتها على تولي محاربة “تنظيم الدولة الإسلامية” في الشمال الشرقي بمفردها. وفي هذا الإطار، قد يحاول الرئيس أردوغان إقناع الرئيس ترامب بإمكانية التوصل إلى صفقة كبرى، تقتضي انسحاب جميع القوات الأمريكية، مما يفسح المجال أمام تشكيل منصة إقليمية تضم تركيا وسوريا والعراق والأردن تتولى مسؤولية مكافحة “تنظيم الدولة الإسلامية” وإدارة السجون في الشمال الشرقي.
قد يبدو عرض أنقرة مغريًا لإدارة ترامب، التي بادرت إلى إجراء أكبر عملية إصلاح للمساعدات الخارجية الأميركية منذ عقود، وقامت بتفكيك الوكالة الأمريكية الرئيسية المسؤولة عن تقديم هذه المساعدات، وطرحت مرة أخرى فكرة سحب القوات الأمريكية من سوريا. وعلى الرغم من أن وزارة الدفاع قد وضعت خططًا للانسحاب المحتمل، فإن مستقبل الوجود الأمريكي لا يزال غير واضح، كما صرح وزير الخارجية ماركو روبيو مؤخرا: “إذا كانت هناك فرصة في سوريا لخلق مكان أكثر استقرارًا من الوضع الذي شهدناه تاريخيًا… فعلينا أن نتابع تلك الفرصة ونرى إلى أين تقودنا.” وقد ساهم هذا الغموض الأمريكي في خلق حالة من عدم اليقين لدى العديد من الدول، التي تأمل أن تساعد واشنطن في ضمان عدم انتشار تهديد تنظيم الدولة الإسلامية في سوريا.
إن قرار العديد من الدول الأوروبية والشرق أوسطية بعدم استكمال عملية إعادة مقاتلي التنظيمات الأجنبية وأسرهم من الأراضي السورية يزيد من تعقيد المحادثات. ومن المرجح أن يكرر ترامب الدعوات السابقة لإعادة جميع المواطنين الأجانب المحتجزين في الشمال الشرقي. أما في فرنسا، كما في الدول الأوروبية الأخرى التي تعرضت سابقًا لهجمات إرهابية مرتبطة بـالتنظيم، فسيكون من الصعب التغلب على المعارضة السياسية المحلية لإعادة هؤلاء الأفراد إلى بلادهم. علاوة على ذلك، تجري هذه المناقشات عبر الأطلسي في ظل قضايا مثيرة للجدل أخرى، من بينها تصريحات ترامب بشأن شراء جزيرة “غرينلاند” لدنماركية وتهديداته بفرض رسوم جمركية على الاتحاد الأوروبي.
التوصيات
قدمت فرنسا خطوة مهمة في جهود التنسيق المتعلقة بسوريا. ولكي ينجح مؤتمر باريس، ينبغي أن يتجاوز كونه مجرد فرصة دولية لالتقاط الصور. من شأن الانخراط الحكيم عبر الأطلسي الآن أن يساهم في ضمان مستقبل تكون فيه سوريا مستقرة ولا حاجة للقوات الأمريكية. وعليه يمكن أن تسهم الخطوات التالية في تحقيق هذا الهدف:
التنسيق عبر الأطلسي
على الرغم من الصعوبات المشار إليها سابقًا، فإن هذه فرصة حقيقية لواشنطن وحلفائها الأوروبيين لتسهيل انتقال يساعد في استقرار سوريا، ومن ثم، استقرار الشرق الأوسط. فبالنسبة لإدارة ترامب، يوفر مؤتمر “باريس” فرصة للتنسيق المُسبق مع الشركاء لتحقيق الأهداف الاستراتيجية التي تتبناها الإدارة الأمريكية. من شأن سياسة أمريكية واضحة تجاه سوريا أن تشكل الطريقة الوحيدة لضمان ألا تملأ قوى مثل روسيا الفراغ الذي قد تتركه واشنطن وحلفاؤها.
العقوبات
إن رفع العقوبات الأمريكية والأوروبية دون تنسيق ودون معايير واضحة سيكون خطأً جسيماً. فقد بدأت بالفعل عملية تخفيف العقوبات على جانبَي الأطلسي. ففي السادس من كانون الثاني/يناير، أصدرت وزارة الخزانة الأمريكية الترخيص العام رقم 24، الذي أدى إلى تخفيف العقوبات على المعاملات السورية المتعلقة بمجال الطاقة والتحويلات الشخصية. وفي السابع والعشرين من كانون الثاني/يناير، أعلن الاتحاد الأوروبي عن رفع جزئي وتدريجي للعقوبات القطاعية. ويوفر مؤتمر “باريس” فرصة لتنسيق هذه المعايير مع الحلفاء الآخرين قبل الاجتماع المقرر عقده لمجلس الشؤون الخارجية للاتحاد الأوروبي في 24 شباط /فبراير. وفي حين أن الاستجابة القانونية قد تستغرق وقتًا، فضلًا عن كون رفع العقوبات عملية طويلة، فمن الضروري أن تفضي قرارات الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي إلى نتائج ملموسة ضمن إطار زمني معقول. كما يتعين على المسؤولين الأمريكيين والأوروبيين أيضًا المساعدة في إعادة بناء الثقة بين الحكومة الانتقالية السورية والأمم المتحدة، إضافة إلى إنهاء القيود على المساعدات التي توفرها المؤسسات المالية الدولية مثل البنك الدولي وصندوق النقد الدولي.
الاتفاق مع الشركاء في شمال شرق سوريا
على غرار الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، تسعى تركيا إلى إعادة توحيد سوريا لتصبح كيانًا متماسكًا قادراً على أن يكون جاراً مستقراً. كما يجب أن تظل تركيا حليفة للغرب في سوريا. غير أن الولايات المتحدة ودول الاتحاد الأوروبي أيضا يسعيان إلى تعزيز مصالحهم الخاصة، التي لا تتماشى بالضرورة مع مصالح أنقرة بما في ذلك منع روسيا من استعادة نفوذها هناك. وبناءً على ذلك، يجب على واشنطن وحلفائها الأوروبيين مضاعفة الضغط للتوصل إلى مصالحة بين دمشق و”قوات سوريا الديمقراطية” قبل مغادرة القوات الأمريكية الأراضي السورية، حيث إن العديد من الحلفاء قلقون من أن الانسحاب الأمريكي غير المدروس قد يكون له عواقب مشابهة لما حدث في أفغانستان. ومن المتوقع أن تكون هذه المصالحة صعبة التحقيق، إذ تبدو المفاوضات حالياً عالقة في مطالبة “قوات سوريا الديمقراطية” بالاستقلال الإداري. غير أنها ليست بعيدة المنال، ولذا يجب أن تستمر المحادثات.
خارطة الطريق والمعايير
للمرة الأولى منذ نهاية نظام الأسد، سيتمكن الجيران والفاعلون الإقليميون والدول الغربية والسلطات السورية الجديدة من الاتفاق على بيان مشترك. من الضروري الإشارة إلى أن إصدار بيان غامض وغير ملزم لن يحقق الهدف المنشود بأي حال من الأحوال. وما زالت بعض الجهات الفاعلة متشككة في قدرة الحكومة الانتقالية على إحداث تغيير حقيقي، مما يعني أن دمشق ستحتاج إلى وقت لكسب ثقة الشعب السوري والمجتمع الدولي بشكل كامل. وينبغي أن يكون مؤتمر “باريس” هو اللحظة التي يتجاوز فيها الفاعلون الأجانب الحماسة المحيطة بإسقاط الأسد ليشرعوا في وضع توقعاتهم المستقبلية بشكل أكثر واقعية. فكما صرح الشرع مؤخراً لمجلة “مجلة الإيكونيميست”، كانت سوريا تحت حكم الأسد مصدر قلق لجيرانها ولم تفي بواجباتها الأساسية تجاه الشعب السوري”. ومن المتوقع أن تركز كثير من الأطراف المشاركة في مؤتمر “باريس” على الحكومة الانتقالية، بهدف وضع معايير واضحة لحكومة شاملة تلتزم بروح قرار مجلس الأمن رقم 2254، وفق جدول زمني واقعي. يجب أن تشمل هذه المعايير:
إطلاق عملية سياسية شاملة تضم المجتمع المدني السوري بمختلف مكوناته، بما في ذلك صياغة دستور جديد.
وضع خطة استراتيجية لاتخاذ إجراءات لمكافحة الإرهاب تستهدف “تنظيم الدولة الإسلامية”، والقاعدة وفروعها، والجماعات المسلحة المرتبطة بإيران
تقديم التزام قوي بتدمير برنامج الأسلحة الكيميائية للنظام السابق، وذلك بالتعاون الوثيق مع منظمة حظر الأسلحة الكيميائية.
ضمان التزام قوي من الحكومة الانتقالية بتفكيك تجارة مخدر “الكبتاغون” ومنع عودتها.
الالتزام القوي بمواصلة محاسبة المسؤولين عن جرائم النظام، ولا سيما تلك التي ارتكبت خلال الحرب الأهلية.
وتُعَدُّ العدالة الانتقالية عنصراً جوهرياً في عملية إعادة الإعمار، وركيزةً أساسيةً لبناء سوريا جديدة ومستقرة بحيث لا تشكل تهديداً للمنطقة.
الدكتورة ديفورا مارغولين هي زميلة أقدم في برنامج الزمالة “بلومنشتاين-روزنبلوم” في “برنامج جانيت وايلي راينهارد لمكافحة الإرهاب والاستخبارات” في معهد واشنطن، وأستاذة مساعدة في “جامعة جورج تاون”.
سهير مديني هي زميلة زائرة في معهد واشنطن للفترة، ومقيمة حالياً من “الوزارة الفرنسية لأوروبا والشؤون الخارجية”.
——————————
كيف سيتخلّص بوتين من كابوس الأسد؟/ سمير صالحة
عندما تعلن أنقرة على لسان وزير خارجيّتها هاكان فيدان أنّ نظيره الروسي سيرغي لافروف طلب منه الإسهام في فتح صفحة جديدة من الحوار الروسيّ السوريّ، فهذا يعني أنّ تركيا ستكون موجودة أمام أكثر من طاولة حوار وتفاوض بين موسكو ودمشق، قد يكون في مقدَّمها نقاشات مصير بشار الأسد الفارّ إلى روسيا محمّلاً بما هبّ ودبّ.
احتفل الشعب السوري قبل شهرين بنجاح ثورته على نظام بشار الأسد. هرب الرئيس المخلوع إلى روسيا أحد أكبر داعميه سياسياً وعسكرياً طوال سنوات الثورة. منحه الرئيس الروسي فلاديمير بوتين حقّ اللجوء الإنساني على الرغم من أنّ هذا التوصيف مبتكر ومطّاط بحسب المصالح والمزاج السياسي. فهل تستجيب روسيا لمطلب تسليم الأسد؟ وما هي العوائق أمام تسليمه؟ وما هو الثمن الذي قد تطلبه موسكو مقابل خطوة بهذا الاتّجاه؟ وإلى متى ستتمكّن “إنسانيّة” روسيا من الصمود أمام مطلب الشعب السوري والمجتمع الدولي بتسهيل تسليمه ومحاكمته على الجرائم التي ارتكبها طوال عقدين من الزمن؟
أجلست موسكو اللاعب السوري في حضنها لعقود طويلة. كانت الأقوى على الأرض في سوريا بعد اندلاع الثورة عام 2011. سقوط نظام الأسد تركها أمام ورطة البحث عن خيارات بديلة للخروج من المأزق. كان هدف تسهيل هروب حليفها وأسرته وكبار أعوانه إلى روسيا محاولة الإمساك بأوراق مقايضة سياسية وأمنيّة واقتصادية مع السلطة السياسية الجديدة في دمشق والمجتمع الدولي. لكنّ موسكو اكتشفت أنّها أخطأت، وأنّ الأسد يتحوّل إلى عبء كبير عليها لا تعرف كيف تتخلّص منه، لأنّ الرياح غيّرت مجرى السفن والأمور تذهب باتّجاه معاكس، فقيادة أحمد الشرع قد ترجّح تركه في الحضن الروسي ليكون ورقة تُلعب ضدّ بوتين.
أولويّة موسكو
قال الرئيس التركي رجب طيب إردوغان إنّ نظام البعث في سوريا مسؤول عن مجازر مروّعة، وسينال مرتكبوها العقاب. تحدّث إردوغان بعد عودة وفد روسي رفيع يرأسه نائب وزير الخارجية ميخائيل بوغدانوف والممثّل الخاصّ للرئيس الروسي إلى سوريا ألكسندر لافرنتييف من دمشق.
من الصعب أن يعود التفاعل الروسي السوري إلى سابق عهده. أولوية موسكو هي معرفة مصير القواعد الروسية في سوريا، ومحاولة إيجاد صيغة تعاقدية سياسية اقتصادية أمنيّة جديدة. بينما أولويّة دمشق هي انتزاع الكثير من الجانب الروسي لموازنة حوارها مع الغرب وواشنطن تحديداً. ملفّ تعويض سوريا عن الخسائر التي تسبّبت بها روسيا طوال 13 عاماً سيطغى على مسألة المساومة على رأس الأسد التي تلوّح بها موسكو. دمشق الجديدة تريد حتماً استرداد الأسد لمحاكمته. لكنّ المقايضة ليست بهذا الاتّجاه مع الجانب الروسي: أعيدوا لنا الأموال التي سلبها الأسد وشاركوا مع إيران في تحمّل تعويضات الأضرار التي تسبّبتم بها، والأسد سيكون هديّتكم المجّانية لنا عندما يزول مفعول إنسانيّة لجوئه.
حصلت روسيا في عام 2017 على عقد إيجار مدّته 49 عاماً مكّنها من الوجود في ميناء طرطوس الذي تحوّل إلى المركز اللوجستي البحري الروسي في البحر الأبيض المتوسّط. لا تقلّ قاعدة حميميم أهمّية، فهي تحوّلت إلى خطّ إمداد رئيسي للقوات الروسية في المتوسّط وشمال إفريقيا. استردادهما من روسيا يعني تضييق الخناق على تمدّدها ونفوذها في المتوسّط الذي ستجد صعوبة في استبداله بالسواحل الليبية حيث تطاردها واشنطن عن قرب.
لا تعني نهاية المشوار بالضرورة نهاية الطريق بالنسبة لروسيا في علاقتها مع سوريا. هي نهاية حقبة ومرحلة ولا بدّ أن تكون هناك بداية جديدة تحرّكها المتغيّرات والظروف المحيطة والعوامل الداخلية والخارجية المؤثّرة. نظام البعث وحكم أسرة الأسد هما اللذان انتهيا في سوريا بعد 6 عقود، وموسكو لن تفرّط بحاجتها الاستراتيجية إلى سوريا. طلب الشرع من روسيا تسليم الرئيس المخلوع الذي هرب إليها. لكنّ دمشق تقول إنّها تريد أيضاً من روسيا التي دعمت الأسد طوال سنوات الثورة “إعادة بناء الثقة مع الشعب السوري، من خلال تدابير ملموسة، مثل التعويضات وإعادة الإعمار والتعافي.. استعادة العلاقات يجب أن تعالج أخطاء الماضي وتحترم إرادة الشعب السوري وتخدم مصالحه”.
ترحيل أو تسليم
يعرف الأسد جيّداً أنّه أضعف الأوراق في الصفقات والمقايضات التي ستدور بين الجانبين.
مهما حاولت موسكو تبرير توفير “الضيافة” لبشار الأسد ستبقى أعين السوريين والمجتمع الدولي مشدودة نحو متّهم بارتكاب انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان وهجمات وحشية ضدّ المدنيين طوال الحرب التي استمرّت 13 عاماً، بما في ذلك استخدام الأسلحة الكيميائية ضدّ شعبه.
صحيح أنّ موسكو تتطلّع صوب الحفاظ على علاقات متعدّدة الجوانب مع سوريا الجديدة. وصحيح أنّ الخارجية الروسية تردّد وهي تفتح أبواب موسكو أمام الأسد أنّه “قرّر ترك منصبه الرئاسي وغادر البلاد، وأعطى تعليماته بانتقال السلطة سلميّاً”. لكنّ الصحيح هو تمسّك روسيا بورقة الأسد الذي قدّم لها الكثير من الاتّفاقات والصفقات الاستراتيجية على حساب ما يقوله ويريده الشعب السوري، وأنّ عليها تحمّل تبعات وارتدادات خياراتها السورية، حتى لو أعلنت أنّ إقامة الأسد وأسرته هي استثنائية لأسباب إنسانية، وأنّه لا يحظى بلجوء سياسي حسب تعريفات وتوصيفات القانون الدولي، وهو ما يعني أنّ ترحيله أو تسليمه أو مطالبته بمغادرة البلاد ليست مستبعدة.
ذاكرة المجتمع الدولي هي في مكان آخر، وتتقاطع مع ما وصفه الأمين العامّ للأمم المتحدة الأسبق بان كي مون وهو يتحدّث عن الهجوم الذي وقع في آب 2013، بضواحي دمشق، “أسوأ استخدام لأسلحة الدمار الشامل في القرن الحادي والعشرين”.
أعلن بوتين في منتصف كانون الأوّل المنصرم أنّ سقوط الأسد لا يشكّل هزيمة لروسيا، لكنّه يعرف أكثر من غيره أنّ تسليم الأسد أو إسقاط ورقته مطلب سوري لا تراجع عنه، إذا ما كانت موسكو تبحث عن بدائل تمكّنها من الانفتاح على الإدارة السوريّة الجديدة.
من المحتمل أن تطالب موسكو القيادة السورية الجديدة بعدّة تنازلات، مثل ضمان بقاء النفوذ الروسي في سوريا والحفاظ على العقود الاقتصادية الاستراتيجية وتجيير المشهد السوري لمصلحتها في العلاقة مع الغرب. لكنّ عليها أن تقدّم أوّلاً تنازلات كبيرة، وأن تدفع ثمن حماية الأسد حتى الثامن من كانون الأوّل المنصرم وتوفير الغطاء الدولي والأممي له تحت سقف الأمم المتحدة، والتخلّي عن الشريك الإيراني في سوريا والمنطقة، لأنّ التوازنات الإقليمية الجديدة تفرض عليها ذلك.
تعويضات وتنازلات
أعلن وزير الدفاع السوري مرهف أبو قصرة أنّه “عندما قرّر بشار الأسد الذهاب إلى روسيا، كان يعتقد أنّ من المستحيل علينا التوصّل إلى اتّفاق مع الروس”. وتابع أنّهم منفتحون على استمرار الوجود العسكري الروسي في البلاد ما دام يخدم مصالح سوريا. يترك أبو قصرة الأبواب مشرّعة أمام حوار تفاوضي حقيقي مع موسكو يعطي دمشق ما تريده من تعويضات وتنازلات وفرص استراتيجية تساهم في بناء سوريا الجديدة.
روسيا التي تفاهمت مع أنقرة مساء 27 تشرين الثاني على أنّ بقاء الأسد في السلطة لم يعد يعنيها، لن تتردّد في الذهاب إلى طاولة تفاوض وتفاهم مع القيادة السورية الجديدة إذا ما كانت مصالحها الاستراتيجية تستدعي ذلك.
هناك العديد من السيناريوهات التي يمكن أن تنتهجها روسيا للخروج من الورطة التي قد تسبّبها معضلة الأسد. الاحتمال الأكبر هو البحث عن الحلّ الذي يوازن بين إعطاء القيادة السورية الجديدة ما تريده لتحسين الأوضاع السياسية والاقتصادية، ووصول موسكو إلى قناعة أنّ بقاء الأسد عندها يشكّل عبئاً على مصالحها في سوريا والمنطقة.
أساس ميديا
——————————–
=====================