أبحاثسقوط بشار الأسد، الرئيس الفار والمخلوع

نحن لسنا بيادق .. نحن الشعب الذي انتفض ضد النظام/ جوانا عزيز

تتناول هذه المقالة للكاتبة السورية  سقوط نظام بشار الأسد، والظروف التي أدت إلى انتفاضة عام 2011، وسنوات الحرب، والتحديات التي تنتظر الشعب السوري خلال المرحلة القادمة، مع إبقاء الاحتمالات مفتوحةً حقّاً لمستقبلٍ حرّ. جوانا هي ابنة عمر عزيز (أبو كامل)، المفكر الأناركي السوري، الذي كان وراء إنشاء المجالس الديمقراطية المحلية في دمشق أثناء الانتفاضة. عام 2012، اعتقلت قوات الأمن السورية عمر عزيز، واستُشهد في زنزانته عام 2013 وسط ظروف رهيبة.

مقدمة

أثناء جلوسي للكتابة، أستعيد في ذهني آخر مرة رأيت فيها والدي. كان واقفاً أمامي خلف قضبان حديدية، ضعيفاً ونحيفاً، ومع ذلك ابتسم لي. أحمل تلك الابتسامة في ذاكرتي. كنتُ أقف أنا وأمي على الجانب الآخر، وانضمت إلينا بقية العائلات التي كانت تزور أحباءها. المقصود من التفريق بيننا وبين السجناء كان واضحاً. لقد أخطأ السجناء في حق الدولة وعليهم أن يتحملوا عواقب تمرّدهم. أما نحن، في المقلب الآخر، فلم نتمرد على الدولة، لذا يمكننا أن نخرج من مبنى السجن طليقين والتجول بحرية.

اليوم، أجد نفسي، كما السوريون/ات في جميع أنحاء العالم، في خضمّ انهيارٍ من المشاعر، الفرح والحزن والأمل والخوف، كلٌّ منها يسحبني في اتجاه. كان سقوط النظام السوري حلمنا المشترك، وهو الهدف الذي طمحنا إليه، وفي الثامن من ديسمبر/كانون الأول 2024، تحقق هذا الحلم/الهدف.

لفهم واقعة سقوط نظام الأسد، من المهم أولاً أن نفهم كيف صعد إلى السلطة. منذ استولى حافظ الأسد على السلطة في سوريا عام 1970، صمّم نظاماً للحكم بقبضةٍ من حديد على جميع المقيمين/ات على الأراضي السورية. خلال العقود الثلاثة الأولى، وضع حافظ نظاماً مبنياً على المحسوبية الرأسمالية والفساد المحميّ بالرقابة المكثفة، ودولة بوليسية عسكرية. أثبت هذا المزيج أنه فعّالٌ لإضعاف أيّة معارضة تقوم ضد عائلة الأسد.

تقوية الأساسات

استغل الأسد منصبه في السلطة لاحتكار السيطرة على جميع القطاعات الحيوية، فضمن للدولة السورية أن تهيمن تحت حكمه على كل قطاع تقريبًا من الحياة العامة والخاصة. وشمل ذلك الاتصالات والعقارات والتعليم والرعاية الصحية وحتى مؤسسات الزواج. وشهدت السبعينيات توسعاً كبيراً في القطاع العام، مما جعل الدولة صاحب العمل الرئيسي للسوريين/ات. وبحلول عام 2010، كان هناك ما يقدر بنحو 1.4 مليون سوري/ة على قائمة رواتب الدولة. وقد أدت هذه الاستراتيجية إلى طمس الخطوط الفاصلة بين عائلة الأسد والدولة السورية، ما جعل التمييز بينهما مستحيلاً تقريباً.

سوريا.. كيف نربط بين القضايا الديمقراطية والاجتماعية والاقتصادية لخدمة 99% من الشعب؟

10 شباط 2025

المحسوبية

ضمَنَ نظام الأسد الولاء له عبر تنمية شبكةٍ من النخب المرتبطة بالعائلة، وتقديم الحوافز الاقتصادية والاجتماعية لها. مُنِحت المناصب القيادية على أساس الولاء لعائلة الأسد، وغالباً ما كانت لأعضاء من طائفة الأسد ذاتها، أي الطائفة العلوية، إلى جانب حلفائه المقربين من طوائف أخرى. وقد ضمن هذا النظام القائم على المحسوبية ولاء شخصياتٍ رئيسية في القطاعات العسكرية والسياسية والتجارية لعائلة الأسد، مما عزز سلطة العائلة. وللتأكيد على هذه السلطة الشمولية، أقيمت تماثيل لا تعد ولا تحصى تكريما للأسد ومحسوبيه، ورمزاً إلى هيمنتهم الشاملة على سوريا.

العنف الجماعي والسجن الجماعي

ربما كان السلاح الأكثر فعالية في ترسانة الأسد هو استعداد نظامه لاستخدام العنف اللامحدود ضد شعبه. بلغت هذه الاستراتيجية ذروتها الأعنف مع مذبحة حماة عام 1982، أطلق نظام الأسد حينذاك حملةً عسكرية وحشية ردًا على انتفاضةٍ نظمها الإخوان المسلمين. وفي عام 2011، قتل النظام ما يقدر بنحو 10 آلاف إلى 40 ألف شخصاً ودمر أجزاء كبيرة من المدينة ذاتها. وقد أرسلت هذا الأحداث رسالة واضحة إلى بقيتنا: أي تحدٍ لحكم الأسد سيقابل بعنفٍ ساحقٍ وعشوائيّ.

وقد أدت الحرب السورية، التي بدأت في عام 2011 في عهد نجل حافظ، بشار الأسد، إلى تصعيد هذا العنف إلى نطاقٍ صناعي/تكنولوجيّ. استخدم النظام القصف الشامل والبراميل المتفجرة والهجمات الكيميائية لسحق المناطق التي تسيطر عليها المعارضة، ما أسفر عن مقتل أكثر من نصف مليون شخص وتشريد الملايين. كما تم اعتقال عشرات الآلاف أو تعذيبهم/ن أو إخفائهم/ن.

ولا مكان يُوضح قدرة نظام الأسد على العنف أكثر مما تُظهره سجونه. من بين أكثر السجون شهرةً سجن تدمر و صيدنايا المعروف باسم “المسلخ البشري”.

تم تقسيم سجن صيدنايا إلى قسمين: “المبنى الأحمر” للتعذيب والإعدام، و”المبنى الأبيض”، الذي يضم السجناء المنتظرين لمصيرهم.

استناداً إلى شهادات من حراس سابقين، كشف تقريرٌ لمنظمة العفو الدولية في عام 2017، أنه: بعد الحرب السورية، تمّ تطهير المبنى الأبيض من سجنائه الحاليين إفساحاً لاستقبال المعتقلين/ات المتهمين/ات بالمشاركة في الاحتجاجات ضد نظام بشار الأسد. تشير التقديرات إلى أن حوالي 157.634 سورياً اعتقلوا بين مارس/آذار 2011 وأغسطس/آب 2024. من بينهم 5.274 طفلاً و10.221 امرأة. تحت المبنى الأبيض، تقبع “غرفة إعدام” يُنقَل المعتقلون/ات من المبنى الأحمر ليتم شنقهم/ن. في الفترة ما بين عامي 2011 و2015 وحدها، تم شنق ما يقدر بنحو 13 ألف شخصاً هناك.

(يوم رأيتُ والدي عمر عزيز، وعندما خرجت من مبنى السجن، وقفت على أرض سوريا، مفترضةً أنني حرة. لكنني لم أشعر بأي طعمٍ للحرية)

وقد عرفنا منذ فترة طويلة عن أهوال هذه السجون. في أغسطس/آب 2013، قام منشقٌّ عسكري يُدعى قيصر، (كشف عن نفسه مؤخراً باسم فريد المذهان)، بتهريب 53275 صورة فوتوغرافية، وثقت وفاة ما لا يقل عن 6786 معتقلاً. قدمت هذه الصور لمحةً عن وحشية نظام الأسد. اليوم، وبعد تحرير هذه السجون والكشف عما كان بداخلها ،أصبحت الأمور أكثر وضوحاً.

تصف الروايات فظائع لا يمكن تصورها من الاغتصاب والتشويه وانتهاك الجثث والتجويع والحرمان من الاحتياجات الأساسية كالغذاء والماء والنوم والدواء. وقد استوحتْ سجون الأسد بعض أساليب التعذيب المعتمدة فيها من الممارسات الاستعمارية الفرنسية والألمانية، بما في ذلك الكرسي الألماني، حيث ينحني الضحايا إلى الخلف حتى ينكسر العمود الفقري. كذلك كان بساط الريح من أكثر اساليب التعذيب الرائجة داخل سجون الأسد، وهو لوحٌ خشبي مصمم لضم الركبتين والصدر معًا، يسبب آلاماً لا تطاق في الظهر. وأيضًا السلم، حيث يُربَط المعتقلون/ات إليه ويتمّ دفعهم/ن مراراً وتكراراً، ما يتسبب في كسر ظهورهم/ن مع كل سقوط. وأخيراً، كان المكبس الحديدي يستخدم للتخلص من الجثث بشكل جماعي.

من المفجع معرفةُ أن هذه الفظائع استمرت لسنوات. فالسوريون/ات اليوم إما ما زالوا يبحثون عن إجابات حول أحبائهم/ن المفقودين/ات، مثل وفا مصطفى التي لا تزال تبحث عن والدها، أو يحزنون على وفاة أفراد عائلاتهم/ن وأصدقائهم/ن المؤكدة. ففي هذا الأسبوع، نزل السوريون/ات إلى الشوارع حزناً على فقدان الناشط مازن الحمادة، الذي تأكدت وفاته في مستشفى عسكري. مازن، رمز المقاومة واللطف، له مكانٌ أبدي في قلوبنا إلى جانب عددٍ لا يحصى من آخرين كرسوا/ن حياتهم/ن من أجل حريتنا اليوم: رزان زيتونة، وسميرة خليل، وغياث مطر، وكل الرجال والنساء والأطفال الشجعان الذين ضحوا/ضحيّن من أجل مستقبل سوريا.

في تحقيقٍ حديث، يكشف فضل عبد الغني، رئيس الشبكة السورية لحقوق الإنسان، عن أدلّةٍ تشير إلى أن النظام متواطئ في حرق الجثث على نطاق صناعي. “أين الجثث؟” يسأل. منذ يوم أمس، تم اكتشاف حوالي 50 كيساً من بقايا بشرية في أرضٍ قاحلة بالقرب من دمشق، وهي واحدة من العديد من المقابر الجماعية المشتبه بها. وتأكيداً لدعوة عبد الغني، أؤكد على الحاجة الملحة لمعرفة مكان دفن الجثث، حتى يتمكن/تتمكن السوريون/ات من دفن أفراد أسرهم/ن والبدء في رسم مستقبلهم/ن.

ومع ذلك، وسط كل هذا الظلام، هناك فرحٌ وعزيمة. لقد أظهرت مقاطع الفيديو الأخيرة إطلاق سراح سجناء، من بينهم/ن أطفال صغار، ورجال بالغون فقدوا ذاكرتهم بسبب الظروف المروعة داخل السجون، ونساء ولدن في الأسر أطفالاً من آباء لا يعرفنهم. وعلى رغم هذه المعطيات المؤلمة، فإن اليوم هو يوم أمل، حيث تجتمع العائلات، ويحتضن/تحتضن الأحباء/الحبيبات المنفصلون/ات منذ فترة طويلة بعضهم/ن بعضاً مرة أخرى. إن تفكيك سجن صيدنايا حدثٌ مهمٌّ يجب تذكره.

نحن نقف في أول أيام سقوط نظام الأسد، حيث تم إسقاط التماثيل، وتحطيم الصور، وتشتيت المحسوبيات، وتبديد المخابرات. عائلة جمعت الثروة وأوقعت 90٪ من الشعب السوري في الفقر، تجد الآن منزلها مفتوحاً، حيث يمشي الناس العاديون ويأخذون ما يحلو لهم. هي مفارقة حلوة، أو ربما انتقام مناسب.

لكن احتفالنا سيكون قصيراً.

ماذا بعد؟

إن الفراغ الذي تركه النظام تستغلّه فصائل قومية مثل هيئة تحرير الشام – وهي منظمة استبدادية ذات أيديولوجية أصولية إسلامية، والجيش الوطني السوري – وهو وكيل لتركيا. ويُنظَر إلى كل من هيئة تحرير الشام والجيش الوطني السوري على أنهما يشكلان تهديداً لسوريا ديمقراطية. وعلى رغم أن الولايات المتحدة وإسرائيل لم تحرضا على العملية العسكرية التي أدت إلى سقوط النظام، فإن إسرائيل تعارض تحرير سوريا بسبب المخاطر المحتملة التي يمكن أن تشكلها سوريا محررة على الاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية والاستقرار الإقليمي.

من الضروري في هذه اللحظة أن نرفض كل أشكال القومية العربية والكيانات الاستعمارية المتجذرة في التطهير العرقي والتوسع الاستيطاني، سواءٌ أكانت مدفوعة من قِبَل إسرائيل أو الولايات المتحدة أو تركيا أو غيرها من البلدان. يجب علينا أيضاً حماية وضمان عدم المحو الممنهج للمجموعات العرقية بما في ذلك الآشوريين والكورد والنوبيين والأرمن.

الأمر متروكٌ الآن للسوريين/ات لتفكيك الأساسات الهرمية وإعادة بناء الديمقراطية من خلال “السلطة من الأسفل”. إن نضال والدي ورفاقه يثبت قدرة الطبقة العاملة على الحكم الذاتي من خلال المجالس المحلية. لقد تمكنوا حينها من الازدهار من دون الدولة، من خلال تنظيم التعليم والمستشفيات والخدمات، يُسيّرها أناس عاديّون. ومنذ سقوط النظام، قام السوريون/ات بالفعل باستعادة المهام الأساسية التي أهملها النظام. والمبادرات لتنظيف واستعادة الأماكن العامة مثالٌ يشهد على ذلك.

من المؤسف أن العالم يقف مرةً أخرى مكتوف الأيدي، متردداً في تقديم الدعم الذي نستحقه. اليوم، كما في الماضي، يسعى الخطاب إلى الحد من إمكانيات التغيير في سوريا. نحن نُصَوَّر كأشخاص سلبيين/ات، وتشوَّه سمعتنا بنظريات المؤامرة، ونُوصَم باعتبارنا بيادق في لعبة جيوسياسية كبرى.

ولكننا لسنا بيادق. نحن الناس الذين ثرنا ضد نظام كنا نعلم أنه سيقتلنا.

يوم رأيتُ والدي، وعندما خرجت من مبنى السجن، وقفت على أرض سوريا، مفترضةً أنني حرة. لكنني لم أشعر بأي طعمٍ للحرية. كان الشعور بالمراقبة والخوف هما المألوفان، فقبضة النظام في كل مكان، في الشوارع، في المحلات التجارية، على الطرق، وفي عيون الناس. رأيتُ سوريا كلها وكأنها سجن ضخم.

إذا كان هناك رسالةٌ أريد مشاركتها مع العالم، فهي هذه: ما لم تتمكن أنتَ/تِ ومجتمعك من تحديد أسلوب حياتك، فأنتَ/تِ تعيش/ين داخل سجن كبير. سجن يسعى إلى السيطرة على إمكاناتنا وخيالنا وتقييدها. إذا أمكن لواحدٍ من أكثر الأنظمة دكتاتوريةً ووحشية في القرن الحادي والعشرين أن ينهار في غضون أيام، فإن النظام الرأسمالي الذي يهيمن على حياتنا ويستغلها قد ينهار أيضاً. يجب أن نكون قادرين على الحلم بهذا العالم الحر، كما حلم والدي بسوريا الحرة.

ترجمة : انطوني برمانا

كاتبة سوريّة، تتركّز كتاباتها حول المقاومة والحركات الشعبية وقضايا السجناء السياسيين، مستلهمة من والدها الراحل عمر عزيز، أحد الشخصيات البارزة في انتفاضة سوريا. تتعمق جوانا في رحلة سوريا خلال الحرب السورية وأيّ مستقبلٍ ينتظر شعبها.

(نشرت هذه المقالة منذ بضعة أسابيع على موقع Black Rose Anarchist باللغة الانكليزية. وهي تعبّر عن وجهة نظر الكاتبة فقط)

حكاية ما انحكت

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى