سقوط بشار الأسد، الرئيس الفار والمخلوعصفحات الثقافة

أن تحلم بأعين مفتوحة: كيف صُنع «الأسد»؟/ علي نعناع

تحديث 15 شباط 2025

هل كان بشار الأسد مجنونا؟ ان لم يكن كذلك، فأي رجل عاقل يمكن له أن يبرر لنفسه حجم الإجرام الوحشي الذي قام به نظامه؟ ما المنطق الذي اقتضى تدمير ملايين من الحيوات السورية، وإعادة سوريا تقريبا للعصر الحجري؟

عندما سُئل نائب الرئيس السوري السابق عبد الحليم خدام عن الفرق بين بشار ووالده حافظ الأسد، جاوب بأن الأب عنده عقل لكن بشار «فاقد للعقل». تكررت سردية مشابهة على لسان الابن جمال خدام، تفيد بأن بشار الأسد كان حقيقة يعاني من اضطراب نفسي، وقد ذهب إلى بريطانيا في سبيل تلقي العلاج.

على النمط نفسه، تتكرر قصص عن معاناة بشار، منذ الصغر، من اضطراب في الشخصية مشابه في كثير من أعراضه بما يسميه الأطباء «اضطراب الشخصية النرجسية»، أو «الحدّية»، ولا علاقة له بالصورة الشعبية لما يسمى بالنرجسية. فبينما تستعمل الأخيرة بالجملة للإشارة لأي تصرف قد نعتبره أنانياً أو شخصية قد أساءت لنا بطريقة ما، يشكّل الاضطراب النرجسي مرضا جدّيا ويكون المصابون به في غالب الأحيان شديدي الخطورة على من هم حولهم. يتم استخدام تشخيص الاضطراب النرجسي (أو الشخصية الحدّية) غالبا في حالات المجرمين الخطرين كالقتلة المتسلسلين أو زعماء العصابات. ويمكن تلخيص هذا المرض في ثلاثة أعراض:

ـ الهذيان بصورة متضخمة جدا عن الذات، بحيث يتخيل المرء نفسه كلّي القدرة، عظيم الشأن، فائق الجمال، ذا عقل وحكمة فوق بشرية، إلخ. قد تصل مرحلة الهذيان إلى تخيل المرء نفسه إما إلهاً يمشي على الأرض، أو مبتعثا من جهة إلهية لغرض عظيم جدا، وأن الكون والتاريخ كله يتمحور حوله، حتى مع تخيل هلوسات سمعية وبصرية تثبت هذه الادعاءات. هذا الجانب الأساسي في المرض، حيث يفتتن المرء بذاته دون حدود.

ـ على الضد من تخيل ذات فوق- طبيعية وتمحور كل مشاعر وأحاسيس النرجسي حول الذات تلك، لا يقدر النرجسي أن يتخيل أي شخص آخر على أنه كائن واقعي، إنسان له شخصية ومشاعر وآمال. فلا وجود للغير عند النرجسي. هم إما غير حقيقيين، كالدمى وشخصيات الألعاب الافتراضية، أو انعكاسات لصورته المتعظمة عن ذاته (كما كانت «ايخو» انعكاس لصوت «نرسيس»، والبحيرة انعكاس لصورته التي وقع في حبها). فيرحب النرجسي بشخصيات يختارها لكي تكون انعكاسات لعظمته وقوته. غالبا ما يكون أولئك نوعا من «التابعين» المخلصين أو المطبلين لكل ما يصدر من حضرة النرجسي.

ـ البارانويا أو جنون الارتياب: وهذا أخطر جانب عند الشخصية النرجسية. رغم إيمانه التام بعظمته وقدرته الإلهية، وأن الكل يوافق على هذه الرؤية، فهو دائما يتخيل أن هناك مؤامرات تحاك ضده، ما يجعله عرضة لنوبات الغضب وما يلحقها من تدمير وإبادة لمن يتخيلهم خصوما. يساعده على ذلك أنه لا يرى أي شخص آخر على أنه بشر مثله (هو يرى نفسه فوق- بشري أساسا)، بل هم أشبه بالحشرات، فلا ضرر من القضاء عليهم ولا حراج ولا تردد. فلا توجب الرحمة على من هم أدنى من البشر.

في حين يمكننا أن نطابق بين هذه الأعراض، وما نعرفه عن بشار وأفعاله بحيث نثبت عليه صفة المرض السريري، الحقيقة أنه لا داعي لكونه كان «في الأصل» يعاني من مرض عضوي أو نفسي، ما يجعل أفعاله وسيرة حكمه مجرد انعكاس لاضطراباته الذهانية. ليس هناك ضرورة لوجود مرض باطني يتحكم في المرء لتبرير تحوله إلى طاغية مجنون. لا حاجة حتى لأن يكون لبشار أي صفة نفسية أو بيولوجية مميزة قد حددت مسار حياته ليصير الجزار الذي نعرفه. يخبرنا سبينوزا في «رسالة في السياسة» عن نوع محدد من الهذيان يسمّيه «الزّهو» (superbia)، حيث «يحلم المرء وعيناه مفتوحتان، أنه يقدر على كل ما يدركه بخياله فقط، ومن ثم فهو ينظر اليه على أنه شيء واقعي ويعجب بقدرته تلك». تكمن أسباب «الزهوّ» في الطبيعة المشتركة لدى البشر كلها: السعي نحو القوة (ما يسميه بالميل، أو الكوناتس)، من حيث نحن كائنات تسعى لتزيد قوتها واستمراريتها في الوجود، فإننا دائما نجرب قوتنا أو قدرتنا على الفعل. لكننا لا نملك من تلقاء نفسنا ما يحدّ قوّتنا فيحددها ويعلّمنا قدرها في الحقيقة. لا نعرف ما نحن قادرين عليه إلا عندما تصدم قدرتنا بما لا تقدر عليه فتقف عند ذلك الحدّ. لذا، فإن العوامل الخارجية التي نصادفها في تجاربنا وتحدّ من قدرتنا على الفعل هي سبيلنا الوحيد لتقدير قوتنا بواقعية ما.

لا يمكن لنا أن نعلم ـ من نفسنا ـ كم كيلومتراً يمكننا أن نركض، أو كم يوما يمكن لنا أن نبقى بلا طعام، أو إن كان باستطاعتنا أن نطير، إلخ. تلك تقديرات لا يمكن أن تحدد إلا تجريبيا. يقضي الأطفال معظم وقتهم في التجريب والتعلم، أي باستكشاف ما هم قادرون على فعله. تلك التجارب تكون دائما مؤلمة وقد تترك آثارا يصعب محوها. لكن الحد من القدرة على الفعل (أي الطريق لمعرفة ما أنا قادر عليه) ما هو إلا مرادف للتعاسة والاصطدام بما يفوق قدرتنا على التعامل معه. الإحباط والتعثر التعيس هو العلامة الوحيدة على أني وصلت إلى حدي، وهو الطريق الوحيد لتقدير قوتي وبالتالي معرفة ذاتي. ما الذي قد يحصل حين يخيل لي أن كل العوائق قد سحبت من أمامي، وأن كل ما ألتقيه في حياتي اليومية انما ينحني أمام قدرتي ويؤكدها، ولا ألتقي ما يوقفني عند حدي؟ تلك هي الحال عندما يتسلم السياسي سلطة ما. إن إضفاء السيادة على شخص سياسي يعني بالضرورة إعطاءه بشكل رمزي أو مؤسساتي (الدولة) قوة وقدرة هو لا يملكها من ذاته. بالتالي، هي سلطة متخيلة، لا يحدها شيء تجريبي عملي. لذا، ينوّه سبينوزا بأنه بينما كلنا عرضة للوقوع في «الزهو» حين نتذوق شيئا من القوة والمكانة، فإن السياسيين أصحاب السلطة هم بالذات من يتميز بهذا الجنون الهذياني. فسرعان ما يستسيغ صاحب السيادة طعم القوة ويتنبه إلى أنه لا يوجد من أو ما يحد من سلطته، على العكس تماماً. نرى ذلك عند من يتم انتخابهم لدورة واحدة، فما بالكم عند من توارثت عائلته السيادة لأجيال، ولأسباب قد نسيت وأصبحت بحكم المجهولة.

لا يقتصر الأمر على غياب كيانات تحد قدرة المرء الذي وقع في الهذيان، بل هناك جانب جوهري آخر يتعلق بتحقيق العكس، أي تأكيد وإثبات هلوسات القدرة الإلهية عند صاحب السيادة. الأمر أشبه في ما لو كان الطفل محاطا بشكل تام بأهل أو حاشية، تؤكد له كل هلاوسه حول قدرته على الطيران، أو تحطيم الأشجار بيديه، أي تغذي كل محاولاته الفاشلة على الفعل عوضا عن تحجيمها. لا بد عندها أن يصدق الطفل أنه حقا كلي القدرة، وأن كل ما هو قادر على تخيله هو أيضا قادر على فعله، وأنه الأفضل والأجمل والأذكى، إلخ. لذا نقول إن السبب الواقعي لهيستيريا أو هذيان (سمه ما شئت) التسلّط لا يقتصر على غياب النقد والتمحيص والمساءلة، بل إن وقود الهذيان وسبيل حياته هو جمع العبيد التي تحيط بالسلطان المجنون وتتغنى بأقواله وأفعاله وتطرب لصوته وتفتتن بصورته كما يفتتن هو بنفسه. ونحن لا نقصد فقط الحاشية المباشرة للحاكم المستفيدة من سطوته، بل «العامة» التي هي فعلاً تتصرف كما يتخيلها عقله المريض، إنها جموع مسلوبة بلا عقل، لا ترى ولا تفهم سوى منطق القوة، فتميل مع الأقوى وتسجد لأكثر الموجودات غطرسة وعنفا. هناك علاقة تجاذب غريبة بين الطاغوت والعبيد، فكما يبتهج الطاغوت حين يتأمل صورته البهية ذات العظمة والقدرة المطلقة، كذلك يتخذ العبد من صورة الطاغوت شديد القوة صنما يستمد منه نوعا من السعادة والبهجة، فيمتلئ باللذة لمجرد استذكار، أو إعادة سرد بطولات وفتوحات وبطش السلطان، ويستلذ طعم التذلل أمام عظمة وأبهة سلطانه. هؤلاء العبيد هم من يفرش أرض خيالات السلطة المريضة وهم دعامة بنيانها الدموي. إن سر انجذاب العبيد نحو الطغاة العتاة، كما تنجذب اليراعات نحو اللهب له علاقة بالعجز والضعف، كما يستمتع المحروم جنسيا بمشاهدة مقطع إباحي فينتشي لنشوة البطل. هي مرحلة متقدمة من الضعف والهوان، حيث لا يقدر المرء حتى أن يتخيل نفسه بموقع قوة، بل يستعمل خياله ليلحق ذاته بشكل كامل بالذات الميثولوجية، التي يتوسل بها قوة خارقة للطبيعة. ربما يفسر هذا سبب الهوس بالـ»هاردكور» من العنف إلى الجنس، فلا بد للفعل المتخيل أن يكون مستفحلا، فوق العادة، وكل ما زاد تطرف البطل الذهاني وأمعن في هذيانه، زادت هيستيريا العبيد وبهجتهم المتخمة بالرهبة.

ما الداعي للسؤال عن المنطق الذي دفع بشار (أو قد يدفع غيره) للبطش والهذيان؟ يقول لنا سبينوزا، إن السرية والتكتم وإخفاء «منطق» السلطة يقع في صلب الجنون التسلطي: كل هذيان «نرجس» وأشباهه مبني على مقولة أن للحاكم (أو الكاتب الفذ، أو الفنان العبقري..) طبيعة متسامية أرقى وأكثر تعقيدا من طبيعة «العامة» البلهاء، لذا فإنه لا فائدة من شرح ما يفعله صاحب السيادة لأولئك المتخلفين البسطاء، فهم، بحكم طبيعتهم الدنيئة، لا يمكنهم أن يفهموا أحوال ومنطق وحتى لغة صاحب السيادة. بذلك يصبح التستر والإخفاء والسرية عقيدة دولة الهذيان. وبما أنها كذلك، فإن تفكيكها يكون تماما بمحاولة فهمها وإزاحة ستارة الغموض عن منطقها وآليات فعلها، وإنزاله من منزلة التعالي التي يدعيها، إلى مستوى العامّة ومصالحهم وعلاقاتهم. في النهاية، العامة هم ذاتهم من يصنع الطغاة بعبوديتهم وانجذابهم لمن يذلّهم.

القدس العربي

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى