أن تُنتزع منك نفسك في رحلة والديتك: الغربة واللجوء ورعاية الأبناء/ ميساء منصور
![](https://www.alsafahat.net/wp-content/uploads/2025/02/Web-91_png-780x470.jpg)
15-02-2025
في كتابها كيف تلتئم: عن الأمومة وأشباحها، تُناقش الكاتبة والشّاعرة المصريّة إيمان مرسال، المغتربة في كندا، مسائلَ حساسة في الأمومة عبر استحضار تجارب نساء كثيرات من حولها، وتجارب كاتبات عربيات وغربيات شكّلت الأمومة محوراً مهماً في حياتهنّ. وبغض النظر عن إيجابية أو سلبية التجارب التي وثَّقتها، استطاعت الكاتبة عرضَ الأمومة في صورة مختلفة عن تلك التي تصطبغ بها عادة.
تطغى اليوم تلك الصورة الرومانسية لحفلة جنس المولود وصور الأمهات بثياب بيضاء على مواقع التواصل الاجتماعيّ، ويطغى الحبّ الظاهر المُتدفّق بلا حدود، لكن دون الحديث عن الحاجات الشخصيّة والتّغييرات الجوهرية في حياة المرأة بعد قدوم طفل. هذا نقدٌ مهم لكيفية التعاطي مع الوالدية حتى في الأحوال الاعتيادية، وبالمقابل، كم هو حريٌّ الحديث عن أمهّات وآباء أنجبوا أطفالهم وربّوهم في بلادٍ بعيدة عن بلدهم الأم، وفي مجتمعاتٍ لا تُشبه بأيّ شكلٍ كان المجتمعات السابقة التي تَشرَّبوها وكبروا فيها؟
في الحقيقة، تساءلتُ كثيراً أثناء إعداد هذا التقرير عن الطريقة التي يمكنني الحديث بها عن تجربتي الشخصيّة الصّعبة في تربية طفل، خاصة تحت وطأة اللجوء ومراكز استقبال اللاجئين والوحدة والغربة في صقيع أوروبا، بلجيكا تحديداً، بينما أتحدّثُ في الوقت نفسه عن تجارب آباء وأمهات آخرين تعرّفتُ عليهم خلال الرحلة القصيرة هذه. لأعترف، في عملنا الصحفي يُفضَّلُ فصل العام عن الخاص، ولكن في هذا التقرير المطوّل سيكون لدينا دمج سحريّ بينهما، بين الهوية الشخصيّة والتجربة الخاصة شديدة التعقيد، وبين تجارب الآخرين المختلفة، وبين الأدبيات التي تحدّثت عن الأمومة والوالدية والغُربة.
إحصائيات اللاجئين في بلجيكا
عند التفكير بتقديم طلبات اللّجوء في أوروبا، تُعتبَر بلجيكا وجهة مرغوبة عادةً من الفلسطينيين، خاصة الغزّاويين، وذلك لأسباب عدة من أهمها مدة الانتظار القصيرة نسبياً للحصول على قرار في الملف المطروح، والتي كانت لا تتجاوز السنة سابقاً. مع بداية الحرب الإسرائيلية على القطاع، وزيادة أعداد اللّاجئين من غزة بشكلٍ كبير، رُفِعَت مدة الانتظار إلى 21 شهراً بالحد الأقصى، وتحصل العائلات عادةً على ردٍّ أسرع من الأفراد، خاصة في حال وجود أطفال.
وبحسب CGRS، المكتب العام للاجئين وعديمي الجنسيّة، فإنّ عدد المتقدمين لطلب اللجوء في بلجيكا خلال شهر تشرين الثاني (نوفمبر) من عام 2024 قد ارتفع بنسبة 18.9 بالمئة، بما يعادل 4.383 طلب لجوء. وتعتبر سوريا البلد الأول في أعداد طلبات اللجوء في بلجيكا بنسبة 16.6 بالمئة، بينما تحتل فلسطين المرتبة الثانية بنسبة 12.8 بالمئة، ثمّ أفغانستان وتركيا. وقد حصل 3536 شخصاً على موافقة على طلب اللجوء خلال هذا الشهر.
اللجوء ونزع الإنسانية
أثناء انتظاري في غرفة المطار لحظةَ تقديم طلب اللجوء، كنتُ أحمل ابني بينَ يديّ وأفكر في اللحظة التي سيتم نقلي فيها من هنا، حيث ترتجف قدماي من البرد والقلق والتوتر بينما درجة الحرارة بالكاد تصل إلى ستة. كان شيءٌ من إنسانيّتي يتسرّب من بين يديّ، هذا وأنا المحظوظةً نسبةً للآخرين إذ تمّ وضعي في بيت تابع للحكومة؛ بيت كامل لي ولابني، ويمكنني فيه أيضاً استقبال زوجي الذي ينتظرنا في «كامب» في بروكسل.
بعد أسبوعٍ واحد من وصولي إلى البيت في إحدى القرى في الجانب الوالوني، قرروا نقلي إلى «الكامب» مع زوجي، ووضعَنا ضمن ملف واحد كعائلة. في طريقنا إلى دائرة الهجرة واللجوء، كانت السماء رمادية والمطر يهطل بغزارة، يجرُّ زوجي حقيبة سفري الكبيرة، وأحمل على ظهري حقيبتي التي وضعتُ فيها بعضاً مما تمكّنتُ من حمله أثناء نجاتي بابني من تهديدات القتل في البلاد لأنّ والده غزيّ، ومن العنصرية والفاشية التي تكالبت علينا كفلسطينيين في الداخل بعد السابع من أكتوبر 2023. أجرُّ بيديَّ عربة ابني ذي الأشهر الثلاثة، وأبكي لأنّي لم أتخيّل يوماً أن أعيش معه مثل هذه التجربة.
«الكامب» عبارة عن فندق قديم للغاية، يستقبلك لحظة دخولك بروائح مقززة لا يمكنني نسيانها حتى اليوم. الطابق الثالث مُخصّص للعائلات، تفترش أرضيّته سجادة حمراء مخططة بالأصفر كما أرضيات كل الفنادق القديمة، وفي الغرفة 310، حيث يغلب الزمن والرطوبة والعفن على الحيطان، يوجد ثلاثة أسرّة كبيرة من الحديد، تشبه أسرّة السجن، بأغطية بالية وخزانة حديدية مع قفل. أما الحمام، فلا يمكن أن تشعر فيه بالنظافة مهما حاولت التنظيف، كل شيء يُشعركَ أنك في زنزانة، لا في مكان يصلح لأن يكون «بيتاً».
لم أتمكن من البقاء هناك أكثر من ثلاثة أشهر، خرجنا بعد أن تقدّمنا بطلبٍ للخروج إلى عنوان خاص. حملتُ أغراضي، ابني وتجربتي التي نَزعت عني شعوري بالأمان والدفء إلى الأبد، وانتقلنا إلى بيتٍ صغير ريثما نحصل على إجابةٍ لملّفنا.
لم أكن الوحيدة التي شعرت بانعدام الإنسانية في هذه الرحلة، وربما كانت تجربتي قصيرةً مقارنةً بغيري. التقيتُ يارا شاهين، والدة عمر ( 10 سنوات)، فلسطينيّة من غزة، عازبة مقيمة في بلجيكا منذ 8 سنوات، تقول يارا: «كانت صدمة كبيرة، صدمة لا يمكنني حتى اليوم التعامل معها أو الحديث عنها. أَصِفُ دوماً تجربة اللجوء و’الكامبات’ في بلجيكا بأنها تنزعُ عنكِ جزءاً كبيراً من شخصيتك وإنسانيتكِ. من ضمن المواقف التي لا يمكنني نسيانها، ولا ينساها عمر ابن الثالثة من عمره فقط، هي معيشتنا خلال فترة اللجوء داخل ‘كونتينر’ في مكان بعيد كلّ البعد عن المدن والتجمعات السّكانية، في داخله يوجد سرير لي وسرير لعمر ومطبخ، لكن لم يكن هناك ‘تواليت’. في إحدى الليالي، استيقظتُ في الساعة الثالثة فجراً وكنتُ بحاجة قصوى لقضاء حاجتي، وكان عليّ السيرُ لمدة ثلاث دقائق للوصول إلى بناء الحمامات، خرجتُ وتركتُ عمر نائماً، لأعود وأجد الناس متجمّعين أمام الكونتينر الخاص بنا وعمر يصرخ ويبكي وفي صدمة نفسية حقيقية. اعتقدَ عمر في تلك اللحظة أنني تركته وذهبت، في اليوم التالي أحضرتُ وعاءً إلى الغرفة، وصرتُ أقضي حاجتي فيه خلال الليل وأُفرغه في اليوم التالي خارجاً».
تكمل: «لا أستطيع حتى اليوم نسيان شعوري لحظة عودتي وسماعي صوت صراخ عمر، كما لا يستطيع هو تجاوز تلك اللحظة من حياته، يُذكّرني بها دائماً، حيث يسألني باستمرار أين كنا حين تركتُهُ وذهبتُ في الليل. كما كانت المدرسة بعيدة، حيث كنا نضطر للمشي يومياً مدة عشرين دقيقة تحت الثلج للوصول إليها، أنا وعمر بقدميه الصغيرتين وجسده الضئيل. عدا عن الطعام السيء والبيئة الغريبة، لأنكِ في مكان لا تعرفين أي شخص فيه، ولا تدرين الخلفيات التي جاء منها الناس. كنتُ أظل ملتصقة به طيلة الوقت، وهذا خلق لديه شعوراً بعدم الأمان بعيداً عني».
يُعاني الآباء المهاجرون واللاجئون من صعوبات أخرى في جوانب مختلفة في والديّتهم خلال فترة بقائهم في مراكز اللجوء والكامبات في بلجيكا، ومع اختلاف ثقافات وخلفيات اللاجئين، يتكشّف صراعٌ آخر عند الاحتكاك المباشر. يقول أحمد الحلبي، 45 سنة، فلسطينيّ لاجئ يحمل وثيقة سفر لا تُمكِّنه من دخول الحمام على حدّ تعبيره: «كان الأمر صعباً للغاية، وكنت خائفاً بشكلٍ كبير على ابنتي، وذلك بناءً على تجارب عائلات أخرى مع بنات في جيلها. كانت في الخامسة عشرة، وقد سمعتُ من كثيرين قصصاً صعبة من تحرّش وغيره تحدث مع فتيات في مثل هذا السّن من طالبي اللجوء من جنسيات مختلفة، لذلك صرتُ شخصاً حريصاً أكثر من اللازم، وكثير التدقيق على خيارات ابنتي في اللباس وغيره، خاصةً أنها بنظر العديد من الرجال والشُّبان هنا غير محجبة، أي مُتاحة».
يكمل أحمد: «أصعب فترة هي تلك التي قضيناها في كامب الفرز، كنا هناك مع أشخاص من مختلف دول العالم، أُدرِك أن الظروف وضعتهم هنا، لكني لم أتقبّل أن ينظر أحدهم إلى ابنتي بطريقة شهوانية ويُدقِّق في جسدها. الشّعور الذي رافقني خلال تلك الفترة كان غريباً، شعرتُ للمرة الأولى بأنني والدها ومسؤول عن حمايتها، للمرة الأولى في حياتي أشعر أنها في خطر. في هذا الكامب الأوّل، كان هناك رجل يجلس دائماً في الممر، تخاف ابنتي منه كثيراً، وإذا خَرَجتْ إلى هناك ووجدته، كانت تعود إلى الغرفة لعدم شعورها بالأمان. في هذا المكان كنتُ أصحو مع ابنتي في الثالثة صباحاً وأُرافقها إلى الحمام، لأنه ليس آمناً أن تسير وحدها».
انتقل أحمد من الكامب المؤقت إلى الكامب الدائم، ولكن لم يتحسَّن الأمر؛ «ظللتُ طيلة الوقت خائفاً على أبنائي، وقد صُدمت هناك من أمرٍ آخر، فقد اعتقدت أنّ أبناء الجنسيات الأخرى الذين لا يعرفوننا ولا يملكون أي خلفيةً معرفية عن ثقافتنا هم من سينظر إلى ابنتي ويتحرش بها، لكن صدمتي كانت بوجود العديد من أبناء جلدتي، فلسطينيين مثلي، يأتون إليّ ويطالبونني بإجبار ابنتي على ارتداء الحجاب، لأنها دون حجاب ستكون متاحة للتَّحرش في نظرهم. خلق هذا الأمر مشكلة بيني وبين ابنتي، فمن خوفي عليها بدأتُ أحاول السيطرة على لباسها والتحكم بحريتها في الخروج، لم يكن لديَّ في السابق أيّ من هذه الأفكار أو محاولات التحكّم، لكن الخوف الذي جعلتني البيئة المحيطة أعيشه جعلني أتصرف بشكل مختلف».
ويتابع: «لم يكن الأمر مقتصراً على ابنتي فقط، بل على ابني أيضاً وعُمره 12 عاماً. في إحدى المرات قام أحد الرجال بمحاولة الاعتداء عليه وضربه، في تلك اللحظة كنت سأفقدُ حق اللجوء وسأصير مشرداً في العالم بشكلٍ حقيقي. جئتُ إلى بلجيكا للبحث عن الأمان والجنسية، خاصةً أني أحمل وثيقة لاجئ فقط، هذا الأمر الذي أثّرَ على خياراتي في الحياة، حرية حركتي، وحتى على خياراتي المهنية وتقدّمي في المناصب بسبب عدم امتلاكي لجواز سفر. ولكن الخوف الأكبر كان على ابنتي، لأنّ هناك بعضاً من الناس الذين يعتقدون أنّ الفتاة/المرأة إذا لم تكن محجبة فهي غير مُسلمة وبالتالي متاحة، ويمكن التحرّش بها، وكانت هذه العقلية غريبة وفجّة بالنسبة لي، حتى أني في كثير من الأحيان كنت أحاول إقناعهم بأنّ هذه المرأة محترمة ومن الممكن أن تكون مسلمة مثلهم، لكنهم كانوا يرفضون بشكلٍ قاطع الاستماع أو الاقتناع بأننا كرجال علينا ألّا نتحرّش بالنساء».
«كأب، كنتُ مضطراً لإظهار أُبوَّتي بشكلٍ دائم، والسير خلف ابنتي، زوجتي وابني، وحمايتهم من الأشخاص الذين يفكّرون بهذه الطريقة. في إحدى المرات اتصل بي شاب صغير في بداية العشرينيات من عمره، الساعة الثانية صباحاً، وطلب الحديث معي، وعندما ذهبتُ طلب مني إجبار ابنتي على ارتداء الحجاب ومنعها من الحديث مع صديقتها الكولومبية! كان هذا الموقف من أكثر المواقف الصادمة في حياتي كلها».
وحول تَعامُل الشرطة مع هذه المواقف يضيف أحمد: «الشرطة كانت ترفض التدخل في مشاكل اللاجئين، وتعتبرها مشاكل هامشية، ما جعل شعور عدم الأمان يزداد خلال تلك الفترة».
كريم أبو الروس، باحثٌ في الشأن السياسي في الشرق الأوسط ووالدٌ لغسان (عام ونصف)، اختبر تجربة العيش في الكامب لمدة ثلاثة أشهر ريثما وجد منزلاً وانتقل إليه. يقول أبو الروس: «فترة صعبة ومكان صعب وبشع نفسياً، وجودك وحدك هناك دون أطفال صعب، فتخيل كم يزداد صعوبة مع أطفالك. كل شيء في الكامب في بلجيكا غير آدمي، وغير مُعَدّ لتربية أطفال أصحّاء نفسياً؛ الطعام سيء للغاية ورائحة الممرات قذرة. لا يوجد مساحات لعب للطفل والرعاية الصّحيّة في أدنى مستوياتها».
الإنجاب كصّك قبول
منذ ولادة ابني، أصبحتُ أشعر وكأن هناك طاقة مختلفة تخرج من الناس جميعاً، توحي بأني وزوجي على الطريق الصحيح للسعادة والوفاق الأبديّ، وبأنّ الخطوة تأخرت كثيراً، على الرغم من أنّه بالكاد مرّت سنتان على زواجنا عند انجابنا لطفلنا البِكر، والوحيد. حين كانت النساء تأتي لتهنئتي بولادتي بعيداً عن زوجي وتُحيي شجاعتي في ذلك، كنتُ أشعر بأنّ هناك صكَّ قبول ودخول إلى مجتمع جديد ومختلف من النساء.
تتشكّل بين النساء الأمهات مجموعات يتحدّثنَ فيها فقط عن مشاكل الأبناء، وتُطرَح فيها أسئلة كثيرة خاصة خلال تجربة الوالدية الجديدة؛ أسباب مغص البطن، الطرق التقليديّة لمعالجتها، الأدوية المعتمدة فيما بينهنّ عندما يتألّم الطفل؛ تَشاركٌ عميق للتّجارب المختلفة للأمهات، والفرق بين المراحل العمرية المختلفة للطفل من طفل حديث الولادة إلى الطفل بعد عبوره الأشهر الثلاثة الأولى. ثم عندما يزحف للمرة الأولى، وعندما يبتسم للمرّة الأولى، وعندما يتعرف أخيراً على وجه أمّه وأبيه، وعندما يقف، يمشي، يركض، يذهب إلى الحضانة، يطلب الألعاب. وتتشارك الأمهات تفاصيل عن أطفالهن؛ هل لديهم حساسية من نوع حليب معيّن؟ ما هي طرق الرضاعة الصحيحة؟ وما هو العمر المناسب للفِطام؟… ولا تنتهي التّجارب والمشاركات والنصائح بانتهاء اليوم، بل من الممكن أن تُطاردنا في أحلامنا وكوابيسنا باختناق أبنائنا خلال الليل.
تفتقد النساء اللواتي ينجبنَ أبنائهنّ في الغربة لمثل هذه المجموعات، فعلى الرغم من أن النظام الطبيّ وأنظمة الرعاية تُقدِّم الدعم الكامل للأمهات والآباء عند الولادة، إلّا أنّ التجربة العاطفية في الولادة والتربية في الوطن الأم تظلّ مفقودة.
عن الولادة فتقول روان: «يمكنني وصف الولادة بأنها ‘سهل ممتنع’، تجربة الولادة نفسها في المشفى كانت عظيمة، لكني أصيرُ أمّاً للمرة الأولى، بعيداً عن أمي وأخواتي ووالدة زوجي وأخته. كان لدي طيلة الوقت ذلك الشعور بحاجتي إليهنّ، وبأني لا أفهم ولا أستوعب ماذا يحدث معي وأحتاج إلى التوجيه والرعاية. حين خرجنا من المستشفى إلى البيت، في التاكسي، كنتُ أبكي بحرقة لأنّ ابني لم يكُن يتحرك، اعتقدتُ أنّه مات، خاصّةً أنه وُلِدَ مع مشاكل في الرئة، وحين اتصلت بوالدتي التي كانت تحت القصف في غزّة، صارت تضحك وتخبرني بأنّ الأطفال في هذا السّن لا يتحركون. ظللتُ طيلة الوقت أشعر بحاجتي لوالدتي، على الرغم من مجيء الممرضة مرة في الأسبوع إليّ لمساعدتي وتوجيهي». تضيف: «بالتأكيد، رغم كلّ صعوبات الولادة هنا بعيداً عن الأهل، أعتقد بأني حظيت بتجربة ولادة رائعة. في غزة يُمنَعُ الزوج من دخول غرفة الولادة مع زوجته، وتدخل أمه وأخته وأمي وأختي، قسم الولادة كله من الممرضات وممنوع حضور طبيب للمساعدة، بينما في المشفى هنا، كانت الممرضات متعاونات لأقصى حد، ويخبرنني طيلة الوقت كم أقوم بعمل عظيم وكم أنا شجاعة، متعاطفات وصبورات، على عكس الولادة في غزة، حيث تتعامل معظم الممرضات بصورة غير لطيفة مع النساء الحوامل».
وتُعلّقُ يارا على هذا الشأن بقولها: «أعتقدُ أنّه من الطبيعيّ وجود مجموعات يتمّ قبولكِ فيها بعد تجربة الولادة فقط، أو لِنَقُل أنّ حاجتكِ واهتماماتك وأولوياتك صارت تحتاج لهذا القبول من الأمهات الأخريات ومن هذه المجموعات، لأنّكِ تغيّرتِ، لم يتغيّر الناس فقط من حولك، أنت أيضاً صرتِ بحاجة إلى مجتمعات جديدة من حولكِ تلبي احتياجاتكِ، لذا أظنّ أنّه من المناسب القول أنّكِ تحتاجين هذا الصِّك» وتضيف: «أعتقد أنّ الأمر السيء في المجتمع بعد الولادة، هو محاولاتهم الدائمة لتقييمكِ بحسب أمومتكِ، يطلقون عليكِ الأحكام بأنكِ أم سيئة إذا بكى ابنكِ في مكانٍ عام، إذا اتّسخت ملابسه قليلاً، إذا رفض تناول صنف معيّن من الطعام؛ كلّ تصرّف يتصرّفه الطفل في مختلف المراحل يصير جزءاً من تقييمكِ الشخصيّ كأم. هذا كان أحد أهم الأسباب التي جعلتني أبتعد عن المجتمعات العربية في بلجيكا، وصرتُ أقضي طيلة وقتي مع ابني وحدنا، أو في أُطُر مناسبة له ومع مجتمعات مختلفة عنا، بحيث لا أضطر إلى شرح كلّ تصرف من ابني. الشيء الرائع هنا، والذي تَعلّمته من الأمهات الغربيات، هو تقدير الأم ووضعها في مكان البطلة، هي تقوم بأفضل ما لديها دائماً، ولا يتم إطلاق الأحكام عليها، بل يتم دعمها وتقديرها ومساعدتها بكلّ الطرق الممكنة».
هل نُكرّر والدية آبائنا وأمهاتنا على الرغم من الغربة؟
منذ اللحظة التي عرفتُ فيها بحملي نهاية عام 2022 والخوفُ ينتابني من تكرار نمط أمومة أمي، وعلى الرغم من أنها قدّمتْ أقصى ما بوسعها لتلافي أخطاء أمومتها في صغرنا، إلّا أنّ بعض الأحداث لا تختفي من رؤوس الأبناء بسهولة، تظلّ عالقة وتخرج على شكل صدمات مختلفة عندما يصبحون آباء وأمهات. حاولت أن أكون أمّاً هادئة، متريثة، لا تخاف بشكلٍ كبير، لا تحمل شعور الذنب في حقيبتها وتُخرجه أمام أي حدث، لكنني في النهاية أم، أبحث عن الثغرات لنفسي وأُذكِّرني بها كلّ مساء.
عندما غادرتُ فلسطين، وأنا على يقين بأني لن أعود قبل فترةٍ طويلةٍ جداً، كانت الحرب على غزة في بداياتها، ومؤشرات كثيرة تحكي عن حربٍ طويلة الأمد على الجبهة الشمالية مع لبنان، ما يعني فترة طويلة من التوتر في قريتي أيضاً، عدا عن التهديدات المباشرة من المستوطنين على حياتي وحياة ابني لاختياري زوجاً وأباً غزّياً. اعتقدتُ أنّ هذا الهرب المفاجئ سوف يُعفيني من تكرار أمومة صعبة، لكن في لحظات الانهيار والاكتئاب الكبير مع طول مدة الحرب وفترة اللجوء، كانت تخرج مني أمي، تعيد بعض التصرفات الغاضبة التي كانت أمي تفعلها أمامي، ما جعلني أتوجه لمختصين كي أفهم الصدمة التي تعيش في جسدي حتى اليوم رغم مرور الكثير من الوقت واعتقادي بتجاوز الصعب، وذلك لاكتساب مهارات جديدة تُمكّنني من تشكيل أمومتي الخاصة والآمنة مع ابني.
أعتقدُ أني ما زلت في بداية رحلتي لتشكيل أمومتي، لكن بعد سنة وخمسة أشهر، أظنّ أني أسير في الطريق الصحيح لفهم نفسي وتقديم أمومة آمنة لابني.
تُعاني الأمهات من جيلنا من هذا الأمر، فبينما كانت الأمومة في الماضي تعني تحضير الطعام والانتباه للدروس وتنظيم البيت والغسيل… إلخ، فإنها اليوم إضافةً إلى كلّ هذا، تعني أمّاً سعيدة وبيتاً آمناً دون صراخ، وشريكين متفاهمين وصحة نفسية جيدة ومستقبلاً زاهراً، وفي كلّ الحالات فإنّ هذا يعني عبئاً جديداً وكبيراً على الوالدين. تقول يارا حول أمومتها الخاصة:
«هناك تقاطعات كبيرة بين أمومتي وأمومة أمي، لكن الاختلاف الأكبر بيننا هو أن أمي ربّتنا في مجتمع كان يمكن أن يسندها من ناحية العناية بالأبناء. بغض النظر عن بقية السلبيات الموجودة في مجتمعنا الأصلي في غزة، إلّا أن وجود الأم، الجدة، الخالة والعمة والصديقات، يُسهّل عملية الرعاية، كما أنها كانت تعمل هناك وتتمكن من الإنتاج، على عكسي، أنا التي اضطررتُ للبدء من الصفر. ما يُميّز أمي أنها كانت تُحاول حقاً أن تكون حاضرة طيلة الوقت معنا على الرغم من انشغالاتها وعملها، كنتُ دوماً أحاول تكوين هذه العلاقة مع ابني، لكني في كثير من الأحيان لم أنجح في ذلك، خاصةً أنه اضطر لأخذ دور أكبر من عمره في العلاقة بيننا؛ حين كنتُ أَنهارُ في السنوات الأولى من الهجرة والانتظار لقرار لجوئنا، كان يحاول إسنادي وحضني وإخباري بأنّه موجود هنا من أجلي، وهذا جعله على مدار سنوات يشكّل نوعاً من المسؤولية عن حمايتي، وهذا أدى إلى خلل في الأدوار فيما بيننا. على الرغم من التقاطعات بين أمومتي وأمومة أمي، وعلى الرغم من مجيئها لاحقاً إلى هنا، إلّا أنني تمكنتُ من بناء أمومتي الخاصة مع عمر بشكل مختلف كلياً عن علاقتي بأمي. التجربة صنعت علاقة مختلفة عما تخيلت».
ويقول أحمد عن تجربته مع والديةِ والده: «حاولتُ طيلة الوقت أن أُكوِّنَ أبوّتي الخاصة وألّا أعيد تجربة والدي معي. كنتُ الأصغر بين أخوتي وجئتُ عن طريق الخطأ بعد 7 سنوات من التوقف عن الإنجاب. كان هناك فارق كبير بيني وبين إخوتي وأبي، ولم تتشكّل أي علاقة مع أبي ومعهم. أخي الكبير على سبيل المثال يكاد لا يعرفني. لذلك حاولت دائماً أن أُكوِّنَ علاقة صداقة مع أبنائي وأعتقدُ أنّي نجحت في تكوين والديّتي الخاصة».
أما كريم فيتحدثُ عن والديّته مقارنةً بوالديّة والده: «طفولتي مع والديّ كانت جميلة ومميزة، كان لدي أب وأم يتعاملان معي بشكلٍ مميّز. كنت في بيئة دفعتني للتعلّم والتميُّز والتمرد والسير خلف أهدافي، لكن ليس بالضرورة أن أعيد طريقة التربية التي نشأتُ بها مع ابني حتى لو كانت جيدة، فزمانه مختلف عن زماني واحتياجاته مختلفة عن احتياجاتي، والمكان الذي يكبر فيه مختلف تماماً عن المكان الذي كبرتُ فيه. أيضاً قيمي مختلفة عن قيم والدي ووالدتي، لذلك تربيتنا مختلفة عن تربية آبائنا».
تحديات وصعوبات الوالِدية في بلادٍ غريبة
بينما البرد القارس يتسلل من نوافذ «الكامب»، والشتاء في الخارج لا يتوقف، وشتاءٌ حقيقيّ ينمو بداخلي ويكبر، كنت أفكّر في كلّ لحظةٍ عليَّ قضاؤها وحدي في تربية ابني في هذه البلاد، فبينما تتوفّر الرعاية والفُرَص للتقدّم والعمل والإنجاز، كان الاكتئاب والخوف والقلق من المستقبل يجلس في داخلي وينقل على كتفي. عند انتقالنا إلى عنوان خاص وبيت يمنحنا الشّعور بالإنسانية قليلاً، كان غسان قد بدأ يكبر ويضحك ويشعر بالأشياء من حوله؛ أُشغِّلُ له التدفئة، أُعِدُّ له طعاماً صحياً، آخذه في جولة في الخارج ليرى الطبيعة والسماء والطيور؛ كنت قد أعطيتُ نفسي مهمّة إشعار ابني بالأمان مهما حدث في داخلي من انتكاسات.
على الرغم من وجود مؤسسات ونظام صحّي شامل يهتم بالأطفال ويضعهم في مركز الاهتمام ويوفّر لهم كلّ سبل الأمان النفسي والمجتمعي، تواجهنا صعوبات كبيرة عند الانتقال إلى هنا والبدء بالبحث من جديد داخل هذا النظام.
تقول يارا في الشأن ذاته: «أبرز الصعوبات التي واجهتُها خلال تربية ابني في بلجيكا كانت عملية الدمج بيني كإنسانة تُحاول أن تنتج وتقوم ببناء شخصيتها وحياتها الجديدة في البلد الجديد، وبين مهماتي وحضوري كأم مع طفلي. لم يكن لدي الوقت إطلاقاً لأكون حاضرة في حياة ابني خلال السنوات الأولى بعد وصولنا إلى هنا، لأني كنت مضطرة للدراسة والعمل وإثبات نفسي في المجتمع الجديد، لأنكِ مهما كان لديكِ إنجازات في بلدكِ الأم فإنها تعتبرين صفراً هنا. لذا كان عليَّ البحث عن كلّ شيء والعمل على شخصيتي وهويتي الجديدة، وهذا أدى إلى عدم حضوري ذهنياً معه، ما أدى أيضاً إلى تعلّق ابني بي بشكلٍ أكبر، وزاد الأمر صعوبة أيضاً باعتبار أنني أمٌّ منفصلة ووحيدة معه. مع الوقت، بسبب عدم الحضور، أصابني شعور كبير بالذنب يرافقني حتى الآن، بعد 8 سنوات في الغربة».
أما أحمد فيقول: «ربما لو كنت أستطيع العيش رفقة عائلتي في فلسطين لكان كلّ شيءٍ مختلفاً. عائلتنا مشتتة منذ الولادة، توفي والدي في دولة، وأمي في دولة أخرى، أخوتي موّزعون في كلّ أنحاء العالم؛ السعودية، كندا، أميركا، وأنا هنا. أبنائي لم يتعرّفوا على أبناء عمومتهم ولم يعرفوا معنى الترابط العائلي والعائلة الكبيرة، لذلك كان من الصعب تنشئتهم هنا في ظلّ كلّ التحديات دون عائلة ومجتمع».
يضيف كريم حول تجربته: «لا أعتقد أني اضطررتُ إلى تقديم تنازلات كبيرة حين صرتُ أباً، لأنه بنظري، مرحلة الأبوّة لا تتعلق بالمكان وحده، هي مرحلة لها خصوصيتها ومشاعرها، وبالتالي فإن التعامل معها لا يحدث بمنطق التنازل إنّما بمنطق التكيّف. بالتأكيد تتغيّر عليك العديد من الأمور بعد مجيء طفل، أسلوب حياتك، تفكيرك، نظرتك للأمور من حولك، لكنك تتعلّم كيف تتكيّف مع المرحلة الجديدة. بالتأكيد هذه التغييرات كانت ستكون أقل وطأة وسيكون التعامل معها مختلفاً لو أني تزوّجتُ وبنيتُ عائلة في غزة وليس في الغربة، ليس في منطق طريقة التعامل مع أبوّتي ولكن في تسهيل بعض الأمور بوجود الأهل من حولنا، إذ بإمكانهم مُساندتنا خلال رحلة التربية ورعاية الأبناء. وفي الوقت ذاته، أعتقد أنّ الغربة منحتني القدرة على التركيز بشكلٍ كامل مع ابني، واختيار طرق التربية والرعاية له بشكلٍ مدروس، الأمر الذي لم يكن ليحدث في البلاد».
أما روان فتقول عن تجربتها: «أبرز ما واجهته من صعوبات خلال فترة الحمل كان وجودي داخل الكامبات، انعدام النظافة ووجودي بين أشخاص لا أعرفهم وصعوبة المسار نفسه وهرمونات الحمل، كلها أشياء شكّلت عوامل ضغط كبيرة عليّ. ما ساعدني لاحقاً هو قرارنا بالخروج من الكامب واستئجار بيت خاص بنا. لم أستطع تَخيُّلَ نفسي وأنا ألِدُ ابني داخل هذه المراكز المكتظة باللاجئين-ات، والتي لا توفّر حياة كريمة للناس». وتضيف: «لو أنني عشت هذه التجربة في غزّة، فربما كنت تمكنت من إيجاد الوقت لنفسي كأمّ. أسوأ شيء في الغربة هو عدم وجود وقت لأنفسنا، يعزّ عليّ أنّي أرغب أحياناً بالذهاب إلى الكوافير، قص شعري، تقليم أظافري، وهو ما لا أستطيع القيام به بما أني وحدي مع ابني طيلة الوقت. ولكن من ناحية أخرى، أعتقد أنّ هناك إيجابيات كثيرة لوجودنا هنا، لقد تمكّنتُ من وضع نظام غذائي وحياتي لابني بعيداً عن تَدخُّل الآخرين، الأمر الذي لا يمكن حدوثه في غزّة. لاءمتُ طعام البيت بحسب الحاجة الصّحيّة له، ونوعية الطعام الذي يقدّم له دون سكّر أو ملح كثير… إلخ. في غزّة هذا غير ممكن، فالجد والجدة يرغبون طيلة الوقت بإعطاء الأطفال ما يرغبون به من منطق حبّ ودلال. منحتني بلجيكا هذه القدرة على التنظيم».
المؤسسات والنظام والاندماج
لم يكن صعباً عليَّ بشكلٍ خاص التعاملُ مع فكرة المؤسسات والنظام الداعم للأم والطفل والوالدين عامّةً في بلجيكا، ربما لأني عشتُ داخل فلسطين تحت سلطة إسرائيلية طيلة حياتي، وكانت المؤسسات تعمل إلى حد كبير بصورة مشابهة للوضع في أوروبا، خاصةً فيما يتعلّق بالطفل ومتابعته الصّحية والنّفسيّة. ما لفت انتباهي هنا هو الاهتمام الأكبر بالأم في المؤسسات عامّةً، والسؤال الدائم عن صحّتها النفسيّة، حتى من طبيب-ة العائلة؛ أن أكون أماً سعيدةً بالنسبة لهم يعني أن يكون طفلي سعيداً.
على عكس العديد من الأمهات اللواتي صادفتهنّ وصادقتهنّ وأجريتُ معهنّ المقابلات، خاصةً القادمات من الشرق الأوسط، فقد كان معظم النظام الصحي والنفسي للطفل والأم جديداً عليهنّ. تقول يارا:
«يوجد الكثير من البرامج والمؤسسات المخصصة لدعم الأم في رحلتها الجديدة وأمومتها هنا، لكنني أعتقد أن المشكلة كانت تكمن بأننا لا نعرف عن هذه المؤسسات والمجتمعات أي شيء في البداية، خاصةً أننا قادمون من مكان لا يتم فيه تطبيق القانون إلّا بقدرٍ قليل، فلا تعرفين لمن عليكِ التوجه. هنا عليكِ أن تبحثي وحدكِ عن كل حقوقك والمؤسسات التي يمكن لها أن تدعمك، إضافةً إلى أن هناك كثيراً من الأشياء التي لم أتخيل أنها موجودة أصلاً ويمكنني الاستفادة منها، لأنها غير موجودة في نظام البلد الأصلي ولا نعرف عن وجودها خارجاً؛ أقل الأشياء كانت كيفية متابعة ابني مع طبيب العيون وملائمة نظاراته بحسب مستوى نظره».
تُكمل يارا: «هنا في بلجيكا يبدأ الاهتمام من المدرسة، حيث تلاحظ المعلمات كل شيء على الأطفال، والمدرسة تراقب معكِ طفلكِ ونُموَّه وتساعدكِ على التوجه إلى الأماكن الصحيحة، وفي الوقت نفسه هناك بيروقراطية عالية ولائحة انتظار طويلة في معظم المؤسسات. هناك أمور أخرى عليكِ أن تبحثي عنها بنفسكِ وتضعي طفلك في أُطر تربوية وترفيهيَّة، وتوفِّري له أماكن للّعبِ والتّعلّم حتى في العُطل ونهايات الأسبوع، كي يكون جزءاً من المجتمع».
بعد خروج يارا وعمر من الكامب احتاجا إلى علاج نفسي مُشترَك لتعلُّم كيفية التعامل مع بعضهما بعضاً وكيفية مواجهة الصدمة التي مرّا بها، وهذا ما وفّرته لهما إحدى المؤسسات؛ «كنتُ في كثير من الأحيان أجلس في الشارع أبكي إذا ما حدث شيء، أو إذا بكى عمر ونحن في الخارج. تعلّمتُ مع الوقت والوحدة ودعم المؤسسات كيفية التعامل مع كلّ هذه الأمور. مع ذلك أَعتقدُ أنّ ما ينقصنا هنا هو التعاطف، صحيح أنّ النظام ممتاز لكنه يفتقد إلى التعاطف معنا، ومع تجربتنا الصعبة وماضينا الذي نحمله معنا أينما حللنا».
وعن هذا يضيف أحمد: «أفضل ما في المؤسسات هنا هو توفير الدعم الاجتماعي والضمان الاجتماعي والتأمين الصّحي، وحقوقي كإنسان لا تُقارَن بأي مكان آخر بالنسبة لي. في السعودية كنت مجرد ورقة ورقم، ولا أحد يتعامل معي كإنسان».
أما روان فتقول: «تمنيّتُ بعد ولادة ابني أن يحظى بحياة اجتماعية كالتي حظينا بها ونحن أطفال، بأن يتعرّفَ على أبناء عمومته ويقضي الوقت معهم في الشارع والحي والبيت، أن لا يفتقد هذا الشعور الذي تربينا برفقته وكبرنا عليه بوجود عائلة كبيرة تحمينا، لكني دوماً أتذكّرُ أنّ خيار المجيء إلى هنا لم يكن خياراً للرفاهية بقدر ما كان اضطراراً، لكي يحظى ابننا بحياة آمنة، وهذا ما وفّرته لنا المؤسسات هنا من دعم بعد الولادة وتوجيه طبي واجتماعي وحضور ممرضة إلى البيت بشكلٍ أسبوعيّ للدعم والمساعدة والفحص الطبي».
وعلى العكس من غزة، يرى كريم أن النظام هنا سهل وممتاز: «هناك متابعة دائمة من المؤسسات مع طفلي يُرسلون تذكيرات بشكل دوري بمواعيده الطبية. هناك اهتمام شديد بالأطفال وبكلّ نواحيهم الحياتية؛ تأمين صحي للطفل، تطعيمات دورية، رعاية اجتماعية ونفسية، تعليم مجّاني، حضانات ممتازة، رقابة على الحضانات وقوانين صارمة في كيفيّة التّعامل مع الطّفل. على العكس من ذلك في غزة، فإنّ الحصار وقلّة الإمكانيات الاقتصادية لا توفّر للطّفل الاحتياجات التي تتوفّر له هنا. أيضاً في غزة المسؤول الرئيس عن الرعاية الطّبية لنا هي الأونروا، وهي تُقدّم الاحتياجات الأساسية فقط للفلسطينيين، كما أنّ مستوى الطب في غزة متواضع بسبب عدم سماح الاحتلال الإسرائيلي بدخول الأجهزة الحديثة والاحتياجات للمستشفيات. لديّ تجربة شخصية مع هذا، فأختي توفيت في غزة وهي في عمر 5 سنوات أثناء عملية جراحية، بسبب عدم توفّر الأدوات الكافية للقيام بها».
كيف نُعرِّف ذواتنا في ظلّ والديّتنا؟
يواجهني سؤال الهوية بشكلٍ دائم منذ ولادة ابني. لا يمكنني فصل شخصيتي عن أمومتي أبداً، فتحضر أمامي حين أُعرِّفُ عن نفسي بين الناس، وتُطاردني الأسئلة حين أَجرُّ عربته، تطالعني صور الأمهات في الإعلانات، وأتصادف بشكلٍ غير مخطط له مع كلّ أمٍ في الشارع، تبتسم لي الجدّات كلّما صرخ غسان وأراد تقرير شيء لوحده، هناك ابتسامات متواطئة على معرفة أسباب النزول في الوزن وعدم وجود الوقت الكافي للعناية بالنفس وتصفيف الشعر بين الأمهات في الأماكن العامّة، ونظرات محبّة وتعاطف مع اللحظات الصعبة والعظيمة التي تمرّ بها كلّ أم ألتقي بها. حين أكتب مقالاً، أختار الكتابة عن الأمهات والأطفال في أماكن النزاع والحروب، حين أختار أصدقاءَ جُدداً، أفكّر بامرأة ورجل قادرين على فهم صعوبات أن يكون لديك طفل يتحكم بجدول حياتك.
وهذا ليس شأني وحدي، حيث يقول كريم: «تعريف الأبوة بالنسبة لي هو شعوري بأنّ ثمّة باباً للحياة فُتح أمامي حين صار عندي ابن وعندما صرت أباً. باب الحياة هذا مليء بالاكتشاف والتعلم والقيم والجمال والحب والحميمية والخوف والتعلّق وتفكيك القناعات وخلق قناعات جديدة، وتجارب معايشة جديدة خاصة مع الطفل في مراحله الأولى حين يبدأ في تعلّم كلّ الأشياء وبكل تأكيد مسؤولية جديدة».
«لم أكن أفهم ما هي الأمومة حقاً» تقول لنا يارا، «كنت أسير خلف التخيّلات حول أجمل شعور في العالم، والحب الذي نشعر به ولا يمكن وصفه، ولاحقاً صرتُ أَصفُ علاقتي بِعمر على أنه صديقي وشريكي في الطريق والتجربة، ولكن في النهاية هويتكِ تتحدد بهذه الأمومة شئتِ أم لا، من خلال تصرفاتك، مشاويرك، ترتيبات وأولويات حياتك. لا يمكنني وصف نفسي إلا بأنني أم عمر، في أي نقاش، أو أمام أي تعارف جديد أو في أي مكان كان، ولكن هذا الأمر، أي هذه الهوية، جعلتني راضية عن نفسي أضعاف السابق».
أما أحمد فيُعرّف والديّته بقوله: «لقد كان من الصعب للغاية أن أؤدي دوري كأب لأبنائي طيلة الوقت، كنت المثال الوحيد لهم كأب في ظلّ عدم وجود عائلة كبيرة، وهذا الأمر خلق مسؤولية مضاعفة على عاتقي لأكون قدوة حسنة وصديقاً ورفيقاً لهم في الطريق».
تجارب الآخرين كجزء من التّجربة الشخصية
في بيتنا الواسع، بجانب مركز مدينة غنت القريبة من بروكسل، أجلسُ بشكلٍ يوميّ، منذ سنةٍ وأشهرٍ ثلاثة، أُراجع كلّ ما حدث خلال هذه الفترة. الأمومة التي بدأت بشكلٍ غير متوقّع، الاكتئاب الطويل الذي رافقني مُذ عَرفتُ بحملي، البكاء اليومي في غرفتي في بيت والديَّ في الجليل، ووجودي اليوم في المنفى. اختياري للمنفى طواعية، حتى لا يضطر ابني لمواجهة الوحوش البشرية التي تعيش بيننا في الداخل الفلسطينيّ حين يَكبُر.
في البيت الدافئ، مَنحتني تجارب الآخرين مَنارة صغيرة للنظر إلى تجربتي القاسية من الحمل والولادة دون زوجي في غرفة الولادة الباردة، إلى رغبتي الدائمة في البكاء حين يَستيقظُ ابني في أشهره الثلاثة الأولى وأنا أُدرك أني وحيدة معه، ثم إلى اللحظة التي حطّت بها قدماي في مطار بروكسل، والألم الذي يرافقنا كفلسطينيين بسبب الإبادة التي لا تتوقف، والألم الشخصي بفقدان عائلة شقيقة زوجي بداية الحرب، وأخيراً إلى المعرفة اليقينية بأنّ آلامنا ستظل معنا زمناً طويلاً، وإلى اللحظات القاسية خلال هذا العام حين اعتقدتُ أنّ كل شيء يتفكك وينتهي إلى الأبد.
إن تجارب الآخرين التي سمعتُها وكتبتُ عنها هنا بكلّ تفاصيلها، وشاركتُ أصحابها البكاء والعواطف والخوف والقلق، كانت سبباً لأن يهدأ صوت الخوف في داخلي قليلاً، ويربتَ على كتف أمومتي التي لا تعاني وحدها في الغربة والشتات.
* * * * *
ميساء منصور هي كاتبة وصحفية وباحثة فلسطينية. تحمل درجة الماجستير في الأدب العربي والدراسات الإسلامية. تكتب في العديد من المجلات والمواقع العربية. أمٌ لغسان، ومقيمة في بلجيكا.
أُنتج هذا المقال ضمن زمالة الصُنعة الصحفية، والتي أُقيمت بالتعاون بين الجمهورية.نت وشبكة فبراير.
موقع الجمهورية