عن قمع الأطباء في ظلّ النظام البائد/ غدير برهوم
![](https://www.alsafahat.net/wp-content/uploads/2025/02/website-extra_jpg-780x470.jpg)
“الماء والخلاء في إبريق واحد” وصور الرئيس أهم من المراجع الطبية
15 شباط 2025
كانت غضبة ضابط الأمن شديدة، فقط لأنّ الطبيب قرّر إجراء صورة طبقي محوري لمريضٍ برضٍّ على الرأس، ليتحقّق من وجود نزفٍ دماغيّ لديه. على إثرها أقدم الضابط على قتل المريض المعتقل داخل قسم الإسعاف بضربةٍ ثانية قاصمة على الرأس”.
“قتلوا المريض والطبيب، لأنّ الأخير طلب صورة طبقي لمريض”. المريض لأنه معتقل، والطبيب لأنه كتب في تقريره الطبي: “سبب الوفاة: رضّ على الرأس” كما يملي عليه القسم الطبيّ، أنّ من واجب الطبيب معالجة أيّ مريض، بغضّ النظر عن انتماءاته وتوجّهاته.
ولم تتوقف المعاناة على الكادر الطبي الذي قد يتواجد في أماكن الاعتقال أو المشافي التي يصل إليها المعتقلون من الأفرع الأمنية، بل وصل الأمر إلى التضييق على كل ما لا يوافق سياساتهم. مثالٌ صغير: قال أمين الجامعة للدكتور حسين حيدر، بعد أن وضع كأس الشاي على قرار اعتماد دراسته كمرجعٍ طبي في مشفى الأطفال الجامعي بدمشق: “ما عنا وراق نطبع نوطات للجامعة، حتى نطبعلك المرجع تبعك يا دكتور”.
وبحسب تقرير للشبكة السورية لحقوق الإنسان، لقي 87 من أصل 857 من أعضاء الطاقم الطبي حتفهم بسبب التعذيب على يد أطراف النزاع في سوريا منذ مارس/ أذار 2011 وحتى 2020. من بين هؤلاء، قتلت قوات النظام السوري 652 شخصًا، بينهم 84 نتيجة التعذيب، وثلاثة منهم وردت صورهم ضمن مجموعة صور قيصر. كما سجل النظام 9 منهم في السجل المدني كمتوفين، بينما قتلت القوات الروسية 69، وتنظيم “داعش” 36، والمعارضة المسلحة 29، بينهم اثنان قضوا تحت التعذيب.
وسجل التقرير توزيع حصيلة الضحايا من الكوادر الطبية على مرّ السنوات، حيث كان عام 2012 الأكثر تضرّراً، إذ بلغ عدد الضحايا فيه 158. وجاء عام 2014 (وهو عام اعتقال الدكتور سمير صمادي الذي تحكي عنه هذه المادة بعد قليل) في المرتبة الثانية، مسجّلاً 147 ضحية.
عن معتقل صيدنايا ووثائقنا .. هل كان بالإمكان تفادي الوضع الكارثي بُعَيدَ سقوط النظام؟
يقول الطبيب محمد ماجد الشايب، اختصاصيّ في الجراحة العامة، لسوريا ما انحكت أنه أتاه ذات يوم مريض “مصاب بطلق ناري في الصدر، استقرت الرصاصة داخله، وأدت إلى ريحٍ صدرية ونزيفٍ داخليّ. عالجتُه بوضع أنبوب صدر واستقر وضعه. نصحت أهله بإخراجه بعد صلاة العشاء بأيّة طريقة، أرشدتهم إلى طريق أشبه ما يكون بالأفلام البوليسية، كي لا يتم اعتقاله وترحيله مثل الآخرين إلى جهةٍ طبية أخرى، غالباً ما كانت مستشفى (مسلخ) ٦٠١ العسكري، وغالباً ما يلقى هناك نهايته، وعلمتهم كيف تتم العناية بجهاز نزح الصدر، وطمأنني أحدهم أن هناك ممرضاً يمكنه أن يتابع الموضوع في المنزل، وتم ذلك له ولم أعرف عنه شيئاً بعدها”.
بعدها ألحّ والده عليه كي يسافر “برضاي عليك سافر”، وظلّ الدكتور متمسّكاً برأيه، أنّ النظام ساقطٌ لا محالة. لكنّ الأب تابع إلحاحه: “كثرت الأقاويل عن علاجك المتظاهرين، واليوم كان آخرها حيث استوقفني كلامٌ قاله شخص في محل الخضار، وهو لا يعرف أني والدك، أتى على ذكر أفعالك من دون الاسم، ولا يبدو عليه أنه يعرفه. قال “الله يجزيه الخير هاد الدكتور الجراح الإدلبي أبو سكسوكه شايبه، أنقذ أخي من الموت وأجرى له عملية في المشفى الوطني بداريا، وساعدنا في الخروج به من المشفى” وبما أنّه قال هذا الكلام أمام العامة وفي مكان عام، فلتعلم يا بنيّ أنّ الدولة قد عرفت بذلك حتماً وأكيد “حطوك ببالهم'”.
وقد كانت مخاوف والد الطبيب في محلّها، إذ ورد في تقرير منظمة أطباء من أجل حقوق الإنسان، أنّ احتمالات إطلاق سراح العاملين في القطاع الصحي، المحتجزين بسبب تقديم الرعاية الطبية للمتظاهرين المصابين، أقل بنسبة 91% مقارنة باحتمالات إطلاق سراح المعتقلين بسبب نشاط سياسي. وكانت احتمالات وفاتهم خلال الاعتقال أعلى بنسبة 400%، في حين كانت احتمالات الاختفاء القسري أعلى بنسبة 550%.
الماء والخلاء في إبريق واحد
في حين نجا الدكتور الشايب من الاعتقال، يحكي الطبيب الاختصاصيّ في أمراض العيون وجراحتها، خالد عرنوس، لسوريا ما انحكت، بعض معاناته في صيف ٢٠١٤ “القصيرة زمناً، الطويلة غمّاً وحزناً، داخل زنزانة رقم ٤ الموجودة في الفيديو القصير الذي وصلني بعد تحرير مطار المزة.. ورغم فترة الاعتقال القصيرة خسرت ١٢ كيلوغراماً في شهر، وعانيت من الحرب بعد الخروج”.
وأضاف “بتهمة نقل رسائل من معتقلين لدى النظام إلى أهاليهم، تمّ وضعي بعدها في الزنزانة رقم ٥ لمدّة عشرة أيام منفرداً حتى انتهاء التحقيق، وأعتقد أني كنت من المدللين حينها لأسباب علمتها فيما بعد، إذ أتت بي عدّة توصيات من ضباط على معرفة باللواء جميل حسن، رئيس فرع المخابرات الجوية حينها”.
ومن الجدير بالذّكر، أنّ جميل الحسن، الملقب بـ عرّاب البراميل المتفجرة، صدرت بحقه مذكرة توقيف (بعد سقوط الأسد) من الإنتربول تتهمه بالتورط في “جرائم حرب وتعذيب وإبادة جماعية”.
وعن زنزانة الاعتقال، يقول عرنوس “كانت مساحتها (مترx متر ونصف)، فيها إبريق بلاستيكي واحد فقط، يستخدم لشرب الماء والخلاء ولتعبئة الشاي، وكان عيداً حين حظيت بكأس بلاستيك لأشرب الشاي المعكر فيها دون ‘زنبوعة’ الابريق”.
وعن طعامه “أضربتُ عن الطعام لعدة أيام بسبب ما رأيته من القذارة، وكان يُسمح لنا بدخول الخلاء وتعبئة الإبريق من صنبور الحمامات القذرة مرتين يومياً، وسُمح لي مرة واحدة بالاستحمام لمدة ثلاث دقائق، والتنفس مرّة واحدة لعدّة دقائق خارج الزنزانة”.
ولم تنتهِ معاناة الطبيب بعد الإفراج عنه بالملابس ذاتها التي دخل بها “بقيت عدة أشهر أصحو على كابوس يومي، يوقظني فيه صوت فتح وإغلاق باب الزنزانة الحديدي مع صوت السجان الأجش ‘قوم ولاك عر…’، وأصوات التعذيب اليومي للمعتقلين الآخرين -منهم نساء- وصراخهم/ن من ألم التعذيب بأدوات مختلفة(دولاب وجلد)”.
كما كانت لطبيب التخدير محمد سالم عتال (٦٤ عاماً)، من مدينة حماة، ذكرياتٌ سيئة مع الاعتقال، يقول: “أخذتني قوات الأمن من كلية الطب البشري بجامعة دمشق في عام ١٩٨٤حين كنت طالباً فيها، كان التعذيب على أشده في سجن تدمر الصحراوي المرعب، وحين رفضتُ الاعتراف أني ‘منظّم’ لأني لم أكن كذلك، وضعوا سلكين في أذنيّ، ووصلوا الكهرباء فيهما، كان شعوراً لا يمكن وصفة، رأسي يهتز بعنف في جميع الاتجاهات مع كل صعقة، شعرت وكأنّ فكي خرج من مكانه، لشدة ما كانت أسناني تصطك، لم أعد أملك شيئاً من السيطرة على فمي وفكي ورأسي، والدم يسيل من فمي على رقبتي وصدري، إلى أن سمعتُ صوت المحقق ‘جروه لهالكلب، حاجتو اليوم'”.
قتل طبيب بسبب صورة طبقي محوري لمعتقل
بعد الشايب الذي كان يخاطر بحياته لإنقاذ مريضه، وعرنوس الذي خاطر بحياته من أجل إيصال رسالةٍ من معتقل يطمئن بها أهله، ودفع ثمن ذلك، يوجد أطباء آخرون لم يسعفهم القدر في رواية تجاربهم المريرة، وهنا يتكلّم أمجد مطاوي، طبيب جراحة عصبية مقيم في ألمانيا، عن صديقه الدكتور سمير صمادي، الذي اعتُقل من منزله عام 2014، في حديثه لسوريا ما انحكت: “كان سمير صمادي طبيب جراحة عصبية يعمل في مشفى ابن النفيس. خلال مناوبته فيه تلقّى اتصالاً بخصوص حالة إسعافية، لمريضٍ برضٍّ على الرأس؛ وهو مُعتقل في فرع الأمن السياسي المعروف باسم ‘فرع الفيحاء'”.
بعد أخذ القصة السريرية للمريض المعتقل ومعاينته، قرّر الدكتور سمير أنّ الحالة تقتضي إجراء صورة طبقي محوري لأنّ قصة الرض على الرأس ربما تتسبب في مشاكل، بداية نزفٍ دماغيّ مثلاً، ولم تتضح أعراضها بعد”. يستدرك مطاوي “لكن ذلك أثار انزعاج ضابط الأمن المسؤول حدّ الغضب، ليقدم على إثرها على قتل المريض المعتقل داخل قسم الإسعاف بضربةٍ ثانية قاصمة على الرأس، وعلى مرأى الدكتور سمير، ليكتب الأخير بعدها على تقرير الوفاة ما يمليه عليه قسمه الطبي والأخلاقي ‘سبب الوفاة: “رضّ على الرأس”.
وبعدها بساعة “يتلقى الدكتور سمير اتصالاً من الدكتور المجرم ن.ز بوجود الممرضة المجرمة ه.و وبحضور فرع الأمن السياسي، جرى توجيه مختلف أنواع الإهانات للدكتور سمير واتهامه بالإرهاب والانتماء إلى داعش، ثم أجبروه على تغيير ما كتبه في التقرير”.
وبعد بضعة أيام يعتقله الأمن السوري، استناداً إلى تقرير مدير المشفى ن.ج والممرضة ذاتها، ليرثيه مطاوي شارحاً “كان سمير أباً لطفل عمره سنتان على ما أذكر، وبعد استشهاد سمير بعدة أيام اعتقلوا أخاه لأنه ذهب للاستفسار عن أخيه الطبيب… وكم من سميرٍ في المعتقلات”.
ويعتبر فرع الفيحاء الذي اعتُقل فيه الدكتور الصمادي أحد أبرز إدارات الأمن السياسي في دمشق، وسمي كذلك لأنه يحتل ركناً يقابل مدينة الفيحاء الرياضية في دمشق، أمام السفارة الروسية.
لا أوراق للمراجع الطبية
هذا ولم تقتصر السياسات القمعية لنظام الأسد ضدّ الأطباء على الاعتقال والتعذيب والقتل، بل تخطّتها إلى الجوانب العلمية والطبية والأكاديمية، إذ يقول الدكتور حسين نديم حيدر، ماجستير في طب الأطفال وحديثي الولادة، لسوريا ما نحكت “عام 1985، قدّمتُ رسالة الماجستير في نهاية اختصاص طب الأطفال وحديثي الولادة، وكانت رسالتي موسّعةً ودقيقة، وتوفر للدارسين في المشفى ما يواكب التطورات في هذا المجال. حاول رئيس الجلسة التشكيك في معلومات البحث، لكنني كنت حاضراً ورددتُ بالحجة العلمية الموثقة”.
بعدها أعطت اللجنة حيدر علامة جيدة، وصدر قرارٌ رسمي باعتبار الرسالة أوّل مرجع طبي عربي في مجال يرقان الوليد، وأن يُطبع على نفقة جامعة دمشق.
تخرّج الدكتور حيدر، وبدأ رحلاته المكوكية لمتابعة القرار، ليكون الجواب “ما إجاني شي من مجلس الجامعة”. قرّر التوجّه بنفسه إلى مجلس الجامعة “خصصتُ يوماً لأنزل باكراً من بلدتي إلى دمشق. بعد الاستئذان، قابلتُ أمين الجامعة، وضعتُ القرار أمامه على الطاولة وهو يتكلم على الهاتف، ثم دخل موظف البوفيه يحمل صينية عليها كأسان، وضع كأس الماء على الطاولة، أما كأس الشاي فوضعه على ورقة قراري، وانطبع ‘سفلها’ عليها مثل الختم، فتشاءمت”.
وأكمل واصفاً الاستهزاء بالعلم والطب “بعد أن أنهى الأمين مكالمته حمل كأس الشاي ورشف منها رشفة ثم نظر إليّ بطرف عينه، وسحب الورقة، وقرأها ثم نظر إلي ثانيةً وقال ‘دكتور إذا ما عندنا ورق لنطبع نوطات الجامعة كيف بدنا نطبع رسالتك!’ فقلت له شكرا لأنك أرحتني من المراجعات يعطيك العافية..
من المسؤول؟
وفي سؤال: من المسؤول عن حماية الأطباء، ربما يكون الجواب البديهيّ أنّ كل نقابةٍ مسؤولةٌ عن حماية حقوق منتسبيها. وللتوضيح أكثر حول خصوصيات نقابة الأطباء في سوريا، تحدث الدكتور يحيى عبد الحميد أبو يحيى، اختصاصيّ في طبّ الأطفال وحديثي الولادة، يشرح لسوريا ما انحكت: “تأسست أول نقابةٍ في سوريا عام 1943، ثم أُقرّ قانون مزاولة المهنة الطبية سنة ١٩٥٢، وتمّ إحداث نقاباتٍ مستقلة في دمشق وحلب وحمص واللاذقية، من بعدها صدر القانون رقم ٣٢ بتاريخ ٢٢/ ٧ /١٩٧٤ الخاص بالتنظيم النقابيّ للأطباء البشريين، الذي نصّ على تأسيس نقابة واحدة وتوحيد خزانات التقاعد الأربع في واحدة”.
أما التاريخ الأكثر كارثية، بحسب أبو يحيى، فقد كان في تاريخ ١٦ /٨ /١٩٨٠ “حين أصدر نظام حافظ الأسد القانون ٣١ الذي يقضي بحلّ جميع النقابات بما فيها نقابة الأطباء، إذ تم تأسيس هيكلياتٍ جديدة للسيطرة على العمل النقابي، عبر إضافة بنود إلى أنظمتها الداخلية، عزّزت قبضة حزب البعث وجهازه المخابراتي على العمل النقابي، ليصبح هو الراسم لسياسة النقابة بغض النظر عن مصلحة منتسبيها”.
وفي سياق متصل، أكد الدكتور محمد حمزة، طبيب أسنان مختص وخبير في قضايا العمل الإنساني، لسوريا ما انحكت “أظهر العاملون والعاملات في القطاع الصحي في سوريا، من أطباء وممرضين وكوادر صحية، شجاعةً فائقة رغم كافة الاستهدافات التي تعرضوا لها بشكل أساسيٍ من قبل النظام السابق وحلفائه، وتفانى العديد منهم في عمله واستمر رغم الخطر المحدق، مدفوعين بالتزامٍ ديني وأخلاقي ووطني عميق تجاه مرضاهم ومريضاتهم ومجتمعهم، أحياناً على حساب صحتهم النفسية والجسدية. كما حاولنا إظهاره في دراسةٍ علمية صدرت حديثاً، توضح حجم الضغوطات الهائلة التي تعرّض لها العاملون الصحيون طيلة السنوات السابقة”.
أما عن تخوفاته في الوضع الراهن، “بعد إطلاق سراح عددٍ محدود فقط من إجمالي المغيّبين قسرياً في المعتقلات بعد التحرير؛ لدي تخوّفٌ حالي من أنّ احتمالات العثور على الكثير من زملائنا وزميلاتنا على قيد الحياة قد تضاءلت، ما يُرجّح أن الحصيلة النهائية لشهداء الكوادر الصحية قد تكون أعلى من الرقم المتداول سابقاً، والمقدر ب ٩٤٨ عاملًا صحياً، كما وثقت منظمة “أطباء من أجل حقوق الإنسان”. وفي تقديري ربما يتجاوز الضعفين وصولًا حتى أربعة أضعاف في أسوأ السيناريوهات، وذلك قياساً على ما وثّقته الشبكة السورية لحقوق الإنسان من تعرض ما يقارب ٣٣٦٤ من الكوادر الصحية للاعتقال أو الإخفاء القسري، ٩٨% منهم على يد النظام السوري السابق”.
واليوم بعد سقوط النظام، يأمل الأطباء أن تُطوى صفحةٌ سوادء من تاريخ البلاد التي تتطلع إلى “سوريا جديدة تستهلك الأوراق بالعلم لا بصور السيد الرئيس”، كما يقول الطبيب حسين حيدر.
طبيب وكاتب صحفي
حكاية ما انحكت