سقوط بشار الأسد، الرئيس الفار والمخلوعصفحات الحوار

مروان حمادة: حافظ الأسد قال لنا انسوا بشير الجميل واغتيل بعد 4 أيام

الجزء الثاني من هذا الحوار في نهاية هذا الحوار

«الشرق الأوسط» سألت عن تجارب لبنانية شائكة مع نظام الأسدين (1)

 بيروت: غسان شربل

14 فبراير 2025 م

على مدى نصف قرن، عاش لبنان في ظل حكم الأسدين الطويل في سوريا. أمسكت دمشق بالمصير اللبناني وساهم عهدها الطويل بلبنان في إنتاج رؤساء وزعماء كما ساهم في شطب رؤساء وزعماء. النائب والوزير السابق مروان حمادة يروي هنا تجربته مع العهدين.

في 22 ديسمبر (كانون الأول) الماضي، زار وفد درزي لبناني برئاسة وليد جنبلاط «سوريا الجديدة». كان مروان حمادة في عداد الوفد. استوقفه المشهد. يجلس الرئيس أحمد الشرع على الكرسي الذي كان يجلس عليه حافظ الأسد وابنه بشار من بعده في «قصر الشعب» الذي ساهمت شركة رفيق الحريري في بنائه.

إبان الرحلة تذكر حمادة مصير رجال عاندوا أسداً أو اثنين وبينهم كمال جنبلاط وبشير الجميل ورينيه معوض ورفيق الحريري وسائر أعضاء القافلة. ضاعف من الذكريات أن حمادة نفسه نجا بأعجوبة في الأول من أكتوبر (تشرين الأول) 2004 من محاولة اغتيال أدمته وقتلت حارسه وجرحت سائقه. وساد يومها انطباع أن المحاولة كانت رسالة موجهة في الوقت نفسه إلى وليد جنبلاط ورفيق الحريري الذي يحيي أنصاره ذكرى اغتياله في 14 فبراير (شباط) 2005.

زارت «الشرق الأوسط» مروان حمادة المقيم منذ منتصف الثمانينات في مكتبه بصحيفة «النهار»، وسألته عن محطات لبنانية شائكة مع الأسدين. تذكر حمادة قول حافظ الأسد أمامه: «انسوا بشير» الجميل، واغتيال الرئيس المنتخب بعد 4 أيام من هذا الموقف، علماً أن منفذ الاغتيال يدعى حبيب الشرتوني الذي ينتمي إلى الحزب القومي السوري القريب من نظام الحكم في دمشق. لم يبرئ حمادة النظام السوري من اغتيال الرئيس رينيه معوض وقبله إخفاء الإمام موسى الصدر وصولاً إلى اغتيال الحريري.

سألته إن كان توقع فرار بشار الأسد وسقوط نظامه، فأجاب: «كنت ربما أتوقع أن يجري انقلاب معين. أي أن تتمرد وحدة من وحدات الجيش السوري كالفرقة الرابعة وتخرج على سلطة قائدها شقيقه ماهر الأسد. وقلت ربما يحركها الحرص على الدولة السورية الخاضعة للنفوذ الإيراني. لم أكن أتوقع هذا الانهيار الكامل الذي بدت بوادره في عدم الرد على إسرائيل على مدى أكثر من سنة. لم يصدر بيان عن غزة ولا قبل ذلك. غارات يومية على سوريا ولا رد».

تشعر أن هناك شيئاً أفرغ من الداخل. ما هو؟ لا أعرف. كنت أعرف بشار الأسد. آخر مرة رأيته كانت قبل محاولته هو وغيره اغتيالي بشهر. كنت وزير اقتصاد وحضرت افتتاح معرض دمشق الدولي. كنت على يمينه والعلاقات طبيعية بين لبنان وسوريا. إلا أن الصراع على التمديد لإميل لحود كان قد بدأ، وهو أصر على فرض هذا التمديد على رفيق الحريري ووليد جنبلاط، وحتى – استطراداً في مكان ما – على نبيه بري.

والحقيقة أن المشكلة لم تبدأ مع الأسد الابن. كان النظام السوري مهتماً دائماً بالسيطرة على قرارين حتى لا نقول جغرافيتين: القرار اللبناني المستقل والقرار الفلسطيني المستقل، وهذا هو سر العداء المستمر لقيام دولة متماسكة في لبنان. طبعاً أن يكون لبنان مقاطعة أو محافظة غربية لسوريا، هو حلم سبق الأسدين، ولم يكن هذا في ذهن حزب «البعث» فقط.

كنا نشعر من الأنظمة السورية بأن شيئاً ما لم يتم هضمه في سوريا هو اقتطاع هذه الأقضية سنة 1920 من قبل فرنسا لإعلان جمهورية لبنان الكبير. وهذا الأمر كنا نشعر به ليس فقط عند العلوي. وربما العلوي، على العكس، كان يمكن أن يكون جزءاً من عملية التقسيم، أي أعطوا هذا القسم للدروز، وهذا القسم لغيرهم. ولكن في العمق السوري هناك شيء. حتى لدى الذين يعتبرون دائماً أن دمشق هي قلب العروبة النابض وأن سوريا هي العروبة المتجسدة على تخوم الإمبراطورية العربية و(يصفون أنفسهم بأنهم) حماة الثغور، كنت تشعر أيضاً بهذا الشيء. وكنت أشعر بهذا الشيء بالتفصيل. مثلاً، عندما نفتح موضوع اتفاق الطائف. وقبل هذا الاتفاق، «الاتفاق الثلاثي» الذي كنت أحد الذين اشتغلوا عليه.

طبخت هذا الاتفاق مع ألد أعدائي آنذاك: إيلي حبيقة الذي كان يمثّل «القوات اللبنانية»، مع ميشال سماحة الذي اشتهر لاحقاً بقصة القنابل الآتية من عند المسؤول الأمني السوري علي مملوك، وأسعد شفتري رئيس المخابرات في «القوات اللبنانية» مع حبيقة، ومحمد عبد الحميد بيضون الذي كان ممثلاً للرئيس نبيه بري وحركة «أمل» وكان نافذاً آنذاك، علماً بأنه يساري قديم والتحق بالحركة. ما حصل معه أتى في إطار النزوح التدريجي الذي شهدناه من اليسار ومن القوى التي كانت دائماً مع «فتح» والفلسطينيين نحو «أمل»، ثم «حزب الله».

جاء «الاتفاق الثلاثي» نتيجة فشل مؤتمري جنيف ولوزان للحوار الوطني وقد نجحا فقط في إسقاط اتفاق 17 مايو (أيار) اللبناني – الإسرائيلي الذي كان حافظ الأسد يسميه «اتفاق الإذعان». وقد أدى الاتفاق إلى الهجوم المضاد على النظام اللبناني وعلى (الرئيس) أمين الجميل وعلى القوة المتعددة الجنسيات، بدعم من الاتحاد السوفياتي بقيادة يوري أندروبوف.

جاء نتيجةَ رفض المؤسسة اللبنانية، خصوصاً المارونية، التخلي عن صلاحيات رئاسة الجمهورية وتوزيعها بين السلطة التشريعية والسلطة الإجرائية أي مجلس الوزراء. بعد ذلك، كان التركيز على هذا الأمر إلى أن وصلنا إلى «الاتفاق الثلاثي» الذي كان أول مبادرة مشتركة بين الرئيس رفيق الحريري الذي لم يكن تولى آنذاك رئاسة الحكومة – وكان وسيطاً سعودياً – وبين السيد عبد الحليم خدام نائب رئيس الجمهورية السورية. كان الهدف من الاتفاق الوصول إلى اتفاق بين الميليشيات بدل الاتفاق بين النواب، ولذلك سُمّي «الاتفاق الثلاثي». كان عملياً الإتيان بنوع من كونفدرالية فيها وزراء دولة من الطوائف الست، وفيها حقائب وزارية، وطبعاً يكون الحكم مداورة على غرار الكونفدرالية السويسرية. وهذا يعني عملياً وجود إدارة سورية دائمة وإلا فإن كل هذه الفسيفساء يمكن أن تنفرط.

إيلي حبيقة كان قد أخذ الخيار السوري. قيل في تلك الفترة إنه كان فتح (خطاً) على مخابرات دولتين: إسرائيل وسوريا، وهذا ربما ما يفسّر التساهل في اغتيال بشير الجميل ثم الانقلاب كلّياً إلى حضن المخابرات السورية. في النتيجة صارت هناك لعبة استخبارات نقلت إيلي حبيقة وجعلته في صفنا، في صف ما كان يُعرف بـ«القوى الوطنية» وحركة «أمل» وهذا التحالف الواسع الذي عاد في نهاية المطاف واصطدم ببعضه. في ظل هذا الاحتدام، نما «حزب الله» على حساب حركة «أمل»، وبطريقة ما على الجثث المتهاوية للقوى الحزبية الأخرى و«المقاومة الوطنية» التي حلت محلها ما سميت بـ«المقاومة الإسلامية».

من قاوم الأسدين؟

سألت مروان حمادة عمن قاوموا الأسد الأول أو الثاني، فقال إن «الشعب اللبناني قاوم الأسدين وعلى فترات متفاوتة وعلى حصص متفاوتة حسب مكونات الطوائف في المناطق. ولكن ليست هناك منطقة في النتيجة نجت من الأسدين الأول والثاني، وليست هناك طائفة وفّرت على نفسها غضب وتنكيل الأسدين، حتى الشيعة في مراحل معينة. قضية الإمام موسى الصدر يجب أن نعود إليها. نعود إلى الدور السوري مع بوادر الثورة الإسلامية في إيران. وأنا عندي شعور ومعلومات بأنهم شاركوا في إقصائه وفي إخفائه.

الليبيون يمكن أنهم كانوا ساحة وأداة. القرار لم يكن من عندهم. ليسوا هم من قرر. يمكن أن التنفيذ كان جزئياً منهم. لست أبرّئ الليبيين لأن (خطف الصدر) حدث عندهم وأكيد بموافقتهم. لكنني كنت (وقتها) رئيس تحرير (صحيفة) «لوريون لوجور» وذهبت إلى دمشق في اليوم التالي لاختفاء الإمام الصدر. سألت وزير الإعلام أحمد إسكندر أحمد الذي كان أحد أقرب الناس لحافظ الأسد، كان علوياً ومن ضمن العائلة. كنت أسأله وقتها إذ كانت هناك علاقة طيبة مهنياً، فقال لي: «لا تسأل يا مروان. فهذا (الصدر) عظامه صارت مكاحل»، أي أنه كان متأكداً من مقتله. حصل هذا في اليوم التالي لاختفائه. كنت عضواً في لجان البحث عن الإمام. المجلس الشيعي الأعلى ضمني إلى هذه اللجان. لم أستطع أن أحذف من ذهني أنه كان هناك دور سوري في إخفائه.

ربما السبب هو خوف النظام السوري من زعامة شيعية مستقلة تكون أكثر لبنانية وأقرب إلى العرب ومتمردة على الفلسطينيين عموماً وعلى تيار الرفض القريب من سوريا خصوصاً. ما أريد قوله هو إنه ليس هناك أحد نجا من الأسدين الأول أو الثاني. نبدأ بكمال جنبلاط الذي نعتبره المعلم والذي سحرنا بأفكاره الاجتماعية والاشتراكية ونزعته إلى القرار الوطني (اللبناني المستقل) والقرار الفلسطيني الوطني المستقل. وفي الحقيقة عوقب كمال جنبلاط على مساره هذا وعلى قوله للأسد في لقائهما الشهير والأخير: «لن أُدخل لبنان معكم في السجن العربي الكبير».

انفرط اللقاء. حاول بعض الأصدقاء، ومنهم الأستاذ محسن دلول واللواء العماد حكمت الشهابي (رئيس أركان الجيش السوري)، أن يقنعوا كمال جنبلاط بألا يعود إلى بيروت ويترك مجالاً للقاء ثانٍ في اليوم التالي، لكن كمال جنبلاط رفض. بعدها بدأ المسار الطويل. شعر كمال جنبلاط بأنه تُرك عربياً وسوفياتياً وحتى (من) الفلسطينيين.

أسرّ أحد المسؤولين الفلسطينيين القريبين من ياسر عرفات بأن حافظ الأسد أعطى لياسر عرفات لائحة بأسماء عدد من اللبنانيين المطلوب قتلهم وإزالتهم ومن بينهم طبعاً على رأس اللائحة كان كمال جنبلاط. ولكن لا يمكن أن ننسى لاحقاً موضوع بشير الجميل.

حين قال حافظ: «انسوا بشير الجميّل»

العداوة كانت معروفة، لكننا حضرنا بعد حصار بيروت وخروج أبو عمار ورفاقه إلى تونس… كانت إسرائيل تحاصر بيروت وكنا محاصرين في داخلها. كانت (المدينة المحاصرة) تحصل على القليل من الماء والقليل من الأغذية والقليل من الكهرباء نتيجة تدخلات المملكة العربية السعودية مع (الرئيس الأميركي رونالد) ريغان، ووقتها لعب رفيق الحريري أول أدواره كوسيط أو مبعوث. قلنا للأميركيين إنه إذا دخلت إسرائيل إلى بيروت فستقضي علينا؛ إذ كانت تعتبرنا وتصفنا بأعوان المخربين وأصدقاء المقاومة الفلسطينية. فالأميركيون، عبر فيليب حبيب مبعوثهم إلى لبنان، أمّنوا لنا خروجاً من بيروت إلى (بلدة) صوفر ومنها إلى دمشق عبر سيّارات للسفارة الأميركية والشعبة السادسة اللبنانية. كان هناك الأميركي رايان كروكر وجوني عبده مدير المخابرات في الجيش اللبناني.

في اليوم التالي، في 10 سبتمبر (أيلول) 1982، التقينا بالرئيس حافظ الأسد. كانت الساعة 9 صباحاً. وليد جنبلاط وأنا وكنت وقتها ما زلت وزيراً في حكومة إلياس سركيس، ومحسن دلول وعبد الله الأمين وحكمت العيد. في سياق حديث الأسد عن صداقاته مع أندروبوف وأنه سيقوم بهجوم مضاد ضد أميركا والقوة المتعددة الجنسيات و(قوله لنا) سأزودكم بالطبع بالسلاح أيضاً كي تدافعوا عن الجبل. كان الحديث في هذا الإطار لكنني أتذكر ملاحظة للأستاذ وليد جنبلاط الذي قال إن في لبنان نظاماً سياسياً وقد تم انتخاب رئيس للجمهورية (بشير الجميل)، فيجب أن نتعاطى مع هذا الواقع الجديد، كما يحصل في كل مرة. فسأل حافظ الأسد أمامنا: «عمن تتحدثون؟ عن بشير الجميل؟» قلنا: «طبعاً فقد انتخب». فقال (ملوحاً بيده): «انسوا بشير الجميّل، انسوه». حصل هذا في 10 سبتمبر 1982 وكان بشير منتخباً رئيساً للجمهورية قبل أيام وما زال يحتفل بانتخابه. بعد 4 أيام من كلام الأسد اغتيل بشير، وكنا لا نزال في دمشق بينما انتقل وليد إلى عمّان لزيارة عائلته. هكذا عرفنا باغتيال بشير.

استهدفت موجة الاغتيالات لاحقاً الشيخ حسن خالد مفتي الجمهورية اللبنانية. كما تم استهداف قيادات فلسطينية. طبعاً إسرائيل كانت لها المسؤولية الكبرى في اغتيال الفلسطينيين ولاحقتهم حتى تونس، لكن النظام السوري لم يقصر في طرابلس وغيرها. حصلت (الاغتيالات) مع آخرين. مع محمد شقير مستشار الرئيس أمين الجميل، والشيخ صبحي الصالح، والنائب ناظم القادري الذي أُطلقت عليه النيران وهو عند الحلاق. حصلت لاحقاً مع الرئيس رينيه معوض.

سوريا واغتيال رينيه معوض

سألته: «هل أفهم أنك تتهم النظام السوري باغتيال معوض؟» فأجاب: لا أبرئه أبداً من قتل رينيه معوض. قد يكون آخرون شاركوا النظام السوري (في الاغتيال). ففي كل مرة يكون هناك عمل مشترك (جوينت فنتشر) في الاغتيالات. هذا ما حصل مع الرئيس الشهيد رفيق الحريري. ولكن بالنسبة لرينيه معوض، في يوم من الأيام، استُدعينا كـ«حركة وطنية» إلى دمشق وكانت القيادة السورية موجودة وعلى تواصل مع الرئيس حافظ الأسد بالهاتف. كان موجوداً خدام والشهابي وعلي دوبا رئيس المخابرات وهو من القتلة.

كان ذلك بعد الانتهاء من اتفاق الطائف، والنواب اللبنانيون كانوا يقومون بزيارات للمملكة العربية السعودية والجزائر والمغرب لشكر الدول التي شاركت في اللجنة الثلاثية العربية التي رعت الاتفاق. طُرح السؤال: «من تريدون رئيساً للجمهورية؟» وكان الاسم المطروح رينيه معوض. بالإجماع، من جورج حاوي الشيوعي إلى أعوان سوريا مثل عاصم قانصوه ومحسن دلول وغيرهم، وإلى نبيه بري ووليد جنبلاط وأنا ومحمد بيضون. كلنا قلنا: «نريد رينيه معوض». فهو بمثابة «حفر وتنزيل» وأفضل تعبير عن اتفاق الطائف وخير من سيطبقه. فالاتفاق فيه كثير من الأمور التي تحتاج إلى دقة ودبلوماسية ومعرفة بالتركيبة اللبنانية. لكن لم يكن أحد منهم، من المسؤولين السوريين الثلاثة، يريد رينيه معوض. كانوا يعودون خلال الاجتماع إلى حافظ الأسد ثم يقدمون أسماء أخرى منها اسم الرئيس (إلياس) الهراوي.

عندما رجعنا إلى بيروت في الليلة نفسها عبر الخط العسكري – نعم كان هناك خط عسكري نرجع فيه من سوريا غير الخط المفتوح الذي استخدمناه في زيارتنا الأخيرة لدمشق (للقاء الرئيس أحمد الشرع) – جاء اتصال هاتفي من باريس أخبروني به بالتفصيل بما جرى. كانوا (أي المسؤولين السوريين) يحرضون النواب ضد خيارنا وبالتالي ضد رينيه. كانوا من الشام يتصلون بالنواب اللبنانيين الموجودين في باريس ويحرضون ضد انتخاب رينيه معوض. من هؤلاء نواب موارنة مستقلون كانوا زملاء رينيه ومنافسيه. بعد 15 يوماً ونحن نهنئ رينيه بعيد الاستقلال، لنذهب إلى بيته كي نتناول الغداء، تصل منه خرقة متبقية من بزته مبللة بالدم. فقد اغتيل.

طبعاً هناك آخرون اصطدموا بسوريا. ميشال عون كان في البداية متفقاً معهم (مع السوريين). كان متفقاً معهم على أساس أن يترك البلد في الوضع الذي يعيش به، وضع يلبي من جهة طموحاته بأن يكون رئيساً في بعبدا ولو على مزبلة صغيرة ومن جهة ثانية يتباهى بأنه قاوم سوريا برغم أن المازوت كان يأتي من سوريا والسلاح يأتي من العراق. كانت خلطة عجيبة.

جعجع و«فخ» تفجير الكنيسة

سمير جعجع في البداية طمأنوه بعدما مشى والبطريرك الماروني (نصر الله صفير) في اتفاق الطائف، ما يعني أن هذا الجناح المسيحي قد تم تأمينه (في مقابل الجناح الرافض لاتفاق الطائف بقيادة ميشال عون). ولكن بعد ذلك بدأ إعداد الحفرة له. أتوا به إلى الحكومة، فاعتذر. كان سليمان فرنجية مطروحاً ولم يكونا قادرين على الجلوس مع بعضهما. جاءوا لجعجع بقصة تفجير الكنيسة.

لا علاقة لجعجع أبداً بتفجير الكنيسة. كنت وزير صحة وذهبت مع الرئيس رفيق الحريري، رئيس مجلس الوزراء. كنا أول من وصل إلى الكنيسة. بدا أن كل شيء كان مدبراً لتفجير الكنيسة، ثم محاولة إغلاق جسر نهر الكلب ونفقه، بهدف لصق الاتهام بأن هناك عملية إرهابية وبأن هناك محاولة تقسيمية، ولحقتها أيضاً محاولة ضد زميلنا في الحكومة نائب رئيس مجلس الوزراء ميشال المر وأُلصقت بسمير جعجع. كثيرون نبهوا جعجع ومنهم إلياس الهراوي أن الأفضل له أن يخرج من لبنان، لكن سمير جعجع رفض الخروج. التفجير دُبّر من المخابرات السورية واللبنانية آنذاك، والرئيس الحريري على علم بذلك. تبيّن ذلك معنا. لذلك أُسديت النصيحة لسمير جعجع بأن يطلع (من لبنان) لأنهم ينوون عليه. لم يقبل أن يغادر فجلس 11 سنة في السجن.

علاقة وليد جنبلاط مع دمشق لم تكن سهلة أبداً. قاوم الأسد الأول مراراً. قاومه منذ لحظة توقيع «الاتفاق الثلاثي». قال إن هذا الاتفاق يُطبق في أيام تيمور ويقصد نجله الذي كان طفلاً وعمره سنتان. قاومه بعمليات عدة قام بها في الشوف، وبعدم مجاراة أمين الجميل عندما كان الأسد يريد صفقة مع الرئيس الجميل. قاومه مراراً. أذكر الهجوم على إقليم الخروب الذي كان حافظ الأسد قد أعطى ضمانات لأمين الجميل بأنه لن يحصل هجوم على المنطقة، وجاء ذلك بعدما تبين (لجنبلاط) أنه إذا لم يحصل الهجوم على إقليم الخروب فإن الجنوب ليس فقط لن يتحرّر، بل إن الشوف وعالية قد يسقطان مجدداً في يد إسرائيل وأعوانها في لبنان.

كنا نذهب إلى الشام للدفاع عن وليد. أنا قمت بعدة مهمات للدفاع عنه. وعندما حصل الخلاف الكبير بين «أمل» و«الاشتراكي» ببيروت (في ثمانينات القرن الماضي) كانت هناك نية سورية للتخلص من نبيه بري ووليد جنبلاط معاً. كانوا (أي السوريين) قد أمّنوا البديل لبري عبر «حزب الله»، بينما وليد جنبلاط كانوا يحرضون ضده. حاولوا تحريض أصدقائه ضده. طبعاً رفضنا ذلك وبقينا صامدين بجانب وليد ولم يجدوا عن الدروز سوى بعض الناس أي النتوءات التي ظهرت لاحقاً وقفزت من مكان إلى آخر عند المخابرات السورية.

وهناك اغتيال إيلي حبيقة. ماذا كان دورهم (أي السوريين) في قتل إيلي حبيقة؟ هل حبيقة اغتيل فلسطينياً لأنه كان له يد في جرائم صبرا وشاتيلا؟ هل اغتيل إسرائيلياً لأنه كان سيذهب للشهادة أمام المحكمة في بروكسل (ضد إسرائيل)؟ هل اغتيل لأن السوريين اعتبروا أنه صار كنز أسرار ويجب أن نتخلص منه؟ تبخّر حبيقة. وفي هذه الأثناء ذهب كثير من الناس. خطفوا أو قتلوا، من «الكتائب» ومن «القوات»، ومنهم أشخاص ما زال يتم البحث عنهم مثل بطرس خوند الذي ما زالت القوى المسيحية تطالب بالكشف عنه. اليوم هناك الرئيس أحمد الشرع ويقولون له إن خوند كان في السجون السورية ويسألون عما حصل له.

أختصر عهد الأسدين بالقول إنه كان هناك أسدان مجرمان. أسد مجرم ولكن عنده رؤية للحكم ولديه القليل من الثقافة العربية اختزنها من «البعث» ومن أيام الوحدة السورية – المصرية (الجمهورية العربية المتحدة) وغيرها، وهناك أسد مجرم ولكن بلا رؤية وهو بشار. جاءا بعد بعضهما. كان من الطبيعي أن الأسد الثاني بلا رؤية وبنفس الإجرام سيقضي على التركيبة الكبرى التي أخذت هذه العائلة 50 سنة كي تقيمها، مع أولاد عمومتهم وأولاد عشيرتهم ولكن ليس كلهم.

اليوم مثلاً تُلقى الملامة على كل العلويين، وهذا خطأ. هناك عائلات علوية دفعت ثمناً غالياً جداً، منها عائلة جديد، صلاح وغسان، البعثي والقومي السوري. ومنها عائلة عمران، وهي عائلة كبيرة بين العلويين. محمد عمران اغتيل في طرابلس. لحقوا به إلى هناك وقتلوه. ومنها عائلة الشيخ. حتى بعض رفاقه دفعوا ثمناً. علي دوبا أُبعد. بقي فقط المصون لكن المبعد وهو رفعت الأسد. تركوه يذهب وأخذ معه كنزه من الأسرار والخيانات.

كنز من الأسرار والخيانات؟ الخيانات لمن؟

– خيانات لكل الناس ولأخيه (حافظ) أيضاً. ألم يجرب عام 1983 (الاستيلاء على السلطة)؟ استفاد من مرض حافظ الأسد واضطراره إلى أن يدخل للمستشفى فنزل بالدبابات و«الفهود الحمر». كانت لديه فرقة على غرار الفرق الطائفية والحزبية الضيقة من قماشة الجيوش الموازية.

———————————–

مروان حمادة: سخر رفعت الأسد من شقيقه ودعا إلى تقسيم لبنان وسوريا

«الشرق الأوسط» سألت عن تجارب لبنانية شائكة مع عهد الأسدين (الثانية والأخيرة)

بيروت: غسان شربل

15 فبراير 2025 م

لم يكتف الرئيس حافظ الأسد بالإمساك بمصير سوريا بقبضة حديدية. أراد أيضاً الإمساك بمصير لبنان وكان له ما أراده. تردد كثيراً في ثمانينات القرن الماضي حديث عن وجود خط ثانٍ في سوريا يمثّله رفعت الأسد شقيق الرئيس ومنافسه. في حلقة اليوم يروي النائب والوزير السابق مروان حمادة أن رفعت كان يدعو إلى تقسيم سوريا ولبنان دويلات طائفية ومغادرة العلاقات مع الاتحاد السوفياتي إلى علاقات مع أميركا وإسرائيل.

سألت حمادة عن رفعت الأسد فأجاب: «أُبعد رفعت في النهاية لكنه بقي مُصاناً. تركوه يذهب وأخذ معه كنزه من الأسرار والخيانات. خيانات لكل الناس ولأخيه (حافظ) أيضاً. ألم يجرّب عام 1983 (الاستيلاء على السلطة)؟ استفاد من مرض حافظ الأسد واضطراره إلى دخول المستشفى فنزل بالدبابات و(الفهود الحمر). كانت لديه فرقة على غرار الفرق الطائفية والحزبية الضيقة من قماشة الجيوش الموازية.

كان لا بد من التعاطي مع حافظ الأسد، فحدود لبنان مع سوريا وإسرائيل. سوريا ممرنا الإلزامي إلى العالم العربي. ذهبنا إلى حافظ الأسد، لكننا لم نعتقد يوماً أننا سنرى رفعت، المتهم الأول مع محمد الخولي، قائد المخابرات الجوية، باغتيال كمال جنبلاط. في أحد الأيام من عام 1983، جاءتنا دعوة من رفعت لتناول العشاء في فيلا بالمزة الشرقية – الفيلا تقع في مكان قريب من سجن المزة. فوجئنا، وليد جنبلاط وأنا. في البداية كيف يمكن أن نقبل العشاء، وكيف يمكن أن نرفضه، علماً بأننا كنا لاجئين آنذاك في الشام خلال حرب الجبل (ضد القوات اللبنانية). كما يقولون بالإنجليزية، كان عرضاً لا يمكن رفضه it’s an offer you cannot refuse . قررنا أن نذهب إلى العشاء ولكن مع ضرورة أن نكون منتبهين لأنفسنا. الجو كان جو خمّارة. كان رفعت ثملاً إلى حد كبير، لكنه كان طليق اللسان ويتكلم عن كل شيء بلا توقف. كنا نتوق إلى أن تنتهي السهرة عندما قال: أريد أن أعطيكم نصيحة. أنتم تسيرون مع أخي، أي حافظ. هذا الخط هو الخط الحليف للاتحاد السوفياتي والمناهض لأميركا والذي يحارب إسرائيل عبر المقاومة الوطنية. ماذا تريدون من كل هذا؟ اذهبوا واتفقوا مع الموارنة وأعطوهم جزءاً من جبل لبنان وخدوا أنتم الجزء الجنوبي منه وأقيموا دويلتكم. أخي أهبل. لدينا، أي العلويين، أحلى منطقة. جبال وساحل. نعمل دولتنا هناك، وبدون كل هذه القصص (سياسات شقيقه). نتصالح مع الأميركيين ونوقّع سلماً مع إسرائيل، ونترك الأمور تسير بهذه الطريقة. صرنا ننكز بعضنا بالأقدام تحت الطاولة. لم نكن نريد أحداً أن يعلّق سلباً أو إيجاباً أو يدلي بأي تعليق. أينما ذهبت في الشام، سواء كنت في فيلا أو فندق، كل شيء يتم تسجيله ويتم التنصت عليه. لم نتكلم بكلمة. أكملنا العشاء وعدنا إلى مواقعنا سالمين، أو نعتقد أننا كذلك. لا أتصور أنه (رفعت) تمكن من أن يأخذ منا أي شيء ولا أولئك (أجهزة أمن شقيقه حافظ) سمعوا منا شيئاً».

كم تشبه والدك

قلت لحمادة بأنه بعد أربعين يوماً من اغتيال كمال جنبلاط (عام 1977) ذهب نجله وليد إلى دمشق والتقى الأسد، فهل صحيح أنه قال له: كم تشبه والدك؟ أجاب: «نعم. المذبحة التي حصلت (رداً على اغتيال كمال جنبلاط) والتي طالت المسيحيين الآمنين في الشوف، طالت المسيحيين الجنبلاطيين المطمئنين بأنهم من اليسار أو من عائلات محسوبة على جنبلاط في الخلاف الكبير (بين الدروز) في الجبل، الانقسام اليزبكي – الجنبلاطي. جن جنون وليد عندما طالت المذبحة هؤلاء المسيحيين (المحسوبين على والده). راح يركض من قرية إلى قرية مع شيخ العقل كي يوقف ما يحصل. أثّر ذلك عليه كثيراً. شعر بأنه لم يدخل فقط على دم والده، بل دخل على دم مؤامرة حيكت بهدف تعميق الجرح بين الدروز والمسيحيين إلى غير رجعة.

بعد ذلك بدأ التحقيق وعُرف من هم السوريون الذين قاموا بالاغتيال. هناك قاض جيد من صيدا اسمه حسن القواص قام بتحقيق كامل ما زال في خزنة وليد جنبلاط وفي العدلية (قصر العدل) ولم يتحرك أحد (لملاحقة القتلة). أظهر التحقيق أن أربعة من المخابرات السورية جاءوا وخطفوا سيارة شاب مسيحي. تركوه فوصل إلى بعقلين. وهو من دل كيف ذهب منفذو اغتيال كمال جنبلاط. ذهبوا باتجاه الجديدة في ضاحية بيروت. المخابرات السورية هي من قام (بالجريمة)، وكان على رأسها رائد يُدعى إبراهيم حويجي الذي يتبع محمد الخولي. كل تفاصيل الجريمة عُرفت. جمع وليد جنبلاط حزبه وكبار المشايخ الدروز. قال لهم أنا أعرف من قتل أبي وأنتم تعرفون أنني أعرف وأنا أعرف أنكم تعرفون (من قتله). ولكن الأمر هو أن هناك مؤامرة كبيرة لإخراج الشريحة العربية من الجبل وضربنا، إما دفعنا إلى جبل العرب وراء الحدود (تهجير دروز لبنان إلى جنوب سوريا)، وإما إلى البحر (تهجيرهم من لبنان). أنا لا أستطيع أن أترك الأمور هكذا. سأخرج إلى سوريا لأنها المنفذ العربي والمعبر العربي الوحيد. هي الواجهة العربية. لا أذهب إلى إسرائيل، ولا أقبل أن أرمى في البحر. وصل وليد جنبلاط لعند حافظ الأسد، وكان الأخير بمنتهى اللطف معه، إن لم يكن بخبث كامل من خلال التمثيل (بأنه لطيف). كان يسأل كيف حصل ما حصل، وكأنه يتنصل من الذين قاموا بالجريمة حتى ولو كانوا من عنده. وبدأ يقول له: كم تشبه أباك! وبدأ يعطي ضمانات بخصوص مصير دروز الجبل هذه الشريحة التي وصفها بحماة الثغور العربية تاريخياً منذ أيام الصليبيين. وهذا ما بدأ في فتح طريق صغيرة في البداية ثم توسعت بعد وقوع الاجتياح الإسرائيلي (عام 1982) حين قاتلنا في بيروت نحن وبقايا الجيش السوري (اللواء 82) بقيادة اللواء محمد حلال وهو لواء عربي سني من درعا. قاوم (الاجتياح الإسرائيلي لبيروت) بقليل من العسكر، إلى جانب حركة أمل».

تطرق حمادة إلى العلاقة الشائكة بين وليد جنبلاط وبشار الأسد، فقال:

«أول رفض علني (من وليد لسياسات بشار) أدى إلى أزمة كان سنة 2000. خاضت سوريا بشار الأسد، وعبر المخابرات اللبنانية، حرباً ضروساً علينا انتخابياً، وضد رفيق الحريري أيضاً في بيروت. صارت تحرّض عليه. ربحنا نحن كل مقاعد الجبل وربح رفيق الحريري كل مقاعد بيروت. في هذا الوقت، تم الانسحاب الإسرائيلي (من الجنوب). (حزب الله) وصل إلى نتيجة أن إسرائيل تريد تخفيف التكلفة (تكلفة انتشارها في شريط حدودي في الجنوب)، فخرجت من لبنان. المسيحيون تداولوا بين بعضهم وصدر بيان المطارنة الموارنة. قالوا، وكان هذا منطقنا، إن العدو (الإسرائيلي) خرج، فيجب على الشقيق (السوري) أن يخفف. قال الإكليروس (المسيحي) إن الجيش السوري يجب أن يخرج أيضاً (بعد انسحاب إسرائيل). نحن قلنا: دعوه يخفف (وجوده). دعا وليد في المجلس النيابي إلى إعادة الانتشار السوري. سارع صديقنا وزميلنا السابق عاصم قانصوه، أمين سر حزب (البعث) في لبنان إلى اتهام وليد بالخيانة مطالباً بإعدامه. كانت تلك أول أزمة كبيرة في عهد بشار، وفي أول عهده. ويمكن أن أقول إن العلاقة مع بشار لم تكن في يوم من الأيام جيدة. بين وليد جنبلاط وبشار الأسد غابت الكيمياء منذ لقائهما الأول.

كنا نعرف أن حافظ الأسد يقف وراء قرارات قتل وخطف. نعرف في جريدتنا (النهار اللبنانية) قصة خطف ميشال أبو جودة. لكن الابن مغلّق. جاء بزوجته من لندن. يدّعي الحداثة وأنه ملك الإنترنت (الانفتاح على الشبكة العنكوبتية) في الشرق الأوسط. وإذا به لم يتحمل 3 أشهر (من النشاط) في المقاهي والنوادي التي سمح بها في دمشق. هل تتذكر ماذا حصل مع المثقفين؟ فتح لهم الباب قليلاً ثم أطبق عليهم وانتهى بهم المطاف في سجن صيدنايا وفي تدمر. لم تمش الكيمياء بتاتاً بين بشار ووليد.

صار (الأسد) يضايقنا، وصرنا ننتظر الخلاص. فرض على رفيق الحريري تغيير الحكومة سنة 2003 وأخرج منها بعض حلفاء رفيق الأساسيين. جرّب بشار أن يخرجنا أيضاً من الحكومة فلم يقبل لا رفيق ولا وليد. بقينا بالحكومة التي أشرفت على انتخابات الرئاسة في 2004. يومها كان الحريري قد قال: أقطع يدي ولا أمدد لإميل لحود. وليد كانت لديه القناعة ذاتها (بعدم التمديد للحود). تكلمنا مع بشار الذي كان يحاول أن يطمئن لكنه كان يحضّر عملية التمديد للحود. كنا نعرف أشخاصاً علاقتهم السورية جيدة وليس بالضرورة مع بشار، مثل الأستاذ جان عبيد، وهو شخصية مقبولة عربياً، من الخليج، ومقبولة دولياً، لكن بشار لم يكن ليقبل سوى بالتمديد لإميل لحود.

هنا تأزمت الأمور كثيراً. وصدف أن الأميركيين والفرنسيين اتفقوا (آنذاك) على إخراج سوريا من لبنان.

القرار 1559 كانت نتيجة تفاهم أميركي وفرنسي. ميشال عون ساهم في الإعداد له قبل أن يقوم بصفقة مع السوريين ليرجع (من المنفى) ويعمل رئيساً. أذكر أنني ذهبت كوزير خارجية بالوكالة إلى بروكسل في فبراير (شباط) عام 2004. وقتها علّقنا تنفيذ أحكام الإعدام كي نبقى مقبولين أوروبياً لأنهم لا يريدون أحكام إعدام. فقدمت تعهداً بذلك ما زال سارياً حتى اليوم. وأنا خارج من المؤتمر الخاص بلبنان وأوروبا في بروكسل، قال لي وزير خارجية هولندا وكان هو رئيس المؤتمر، إنني نجحت هذه المرة كمحام ناجح لقضية فاشلة. كنت وقتها قد تعهدت بأننا لن نعدّل الدستور (بخصوص الحكم بالإعدام) وقامت القيامة عليّ. كنا نعقد سنوياً مؤتمراً مع أوروبا. أحدهما اقتصادي كنت أقمته في نوفمبر، والآخر سياسي يحضره وزراء الخارجية فشاركت أنا مكان الأستاذ جان عبيد الذي قال لي إنه يريد أن يذهب في جولة في أفريقيا، فالموضوع السوري سيطرح في المؤتمر مع أوروبا وهو سيشعر بالإحراج. فذهبت بالوكالة عنه. قال لي الوزير الهولندي: لقد نفدتم هذه السنة، لكن السنة المقبلة سيكون هناك بند واحد على جدول الأعمال: خروج القوات السورية من لبنان. إذن كان القرار متخذاً بين الأميركيين وغيرهم قبل أن يعلم به رفيق الحريري. ولمّا علم به الحريري ربما تحمس بأنه (لن يتم التمديد) للحود ويمكن أن نغيّر سياسة لبنان بمعنى أن لا نكون مربوطين لهذه الدرجة بسوريا وتحت هيمنة متزايدة عسكرية وأمنية لـ(حزب الله) الذي كان قد أخذ حيزاً من الوجود بحيث صار لا يطاق. يومها استدعي إلى دمشق، في آخر شهر أغسطس (آب). رفيق الحريري ونبيه بري ووليد جنبلاط. جال عليهم رستم غزالي (المسؤول الأمني السوري) وقال لهم إن الرئيس ينتظركم غداً الساعة 9. قال وليد له إنني لن أذهب. نبيه قال إنه سيذهب. رفيق أخّر جوابه. قالوا له إنه لا يستطيع أن يغيب عن الاجتماع، فهو رئيس وزراء لبنان. عاد رستم غزالي وجرّب مع وليد جنبلاط. وليد كان قاطعاً في جوابه: لن أذهب. وهكذا عقد اجتماع الحريري مع الأسد. الاجتماع الذي استغرق 10 دقائق مع الأسد والذي تردد أن الحريري بقي واقفاً خلاله. قال له الأسد إنكم تريدون تغيير وجه لبنان وتريدون فرض رئيس جمهورية وتريدون إخراجنا من لبنان، فسأكسر لبنان على رأسك ورأس وليد جنبلاط وجاك شيراك.

عاد رفيق الحريري إلى منزل جنبلاط في كليمنصو (في بيروت) وكنا نحن والأستاذ باسم السبع ننتظره فأخبرنا بما حصل معه، فقال له وليد: أنت صوّت مع (التمديد) للحود لأنهم سيقتلونك إن لم تفعل. فقال له الحريري: وأنت؟ فأجاب أنا سأذهب إلى الجبل وأخلّص نفسي. هكذا صار. لكن الحريري لم يتمكن من ابتلاع ما حصل. نحن لم نصوّت واستقلنا. وزراء التقدمي الاشتراكي الثلاثة مع فارس بويز. لم يحضر جان عبيد لكنهم في النهاية أتوا به بالقوة. لم يأت لكنهم فرضوا على سهيل بوجي أمين عام مجلس الوزراء أن يضع عبيد حاضراً الجلسة. كسر رفيق يده وصارت جلسة التمديد وصوّت فيها (لمصلحة التمديد للحود). صدرت لائحة شرف تضم 29 نائباً قالوا لا للتمديد. من هؤلاء النواب الـ29 اختاروني أنا، في أكتوبر (تشرين الأول) 2004، حيث تعرضت لمحاولة الاغتيال. بعد ثلاثة أشهر ونصف الشهر تعرض الحريري للاغتيال.

في 14 فبراير (شباط) 2005 كنت في (جريدة) النهار. كنت أستقبل سفير أوروبا باتريك رونو. ما زلت أذكر اسمه لأنني أتذكر هذا النهار. سمعنا دوي الانفجار هنا. اعتقدنا في البداية أن خزان ذخيرة يمكن أن يكون انفجر. لأن ارتجاجاً حقيقياً حصل. بدأنا نتصل بكليمنصو (مقر وليد جنبلاط) وقريطم (مقر رفيق الحريري). وليد كان قد نزل إلى مستشفى الجامعة الأميركية. تسألني إن كنت استهدفت بسبب علاقتي الوثيقة بالرجلين. لا شك في ذلك. ربما أولاً (كان الهدف) إلغائي كي لا أكون مرشحاً في الانتخابات المقبلة. ربما قالوا إن هذا يمكن أن نتخلص منه. كان عندهم مرشح ضدي لكنه كان يسقط دائماً. يومها لم تحصل انتخابات وفزت بالتزكية بسبب محاولة الاغتيال.

إذن كانت هناك صداقتي لرفيق الحريري ووضعي الخاص أنه حتى عندما يختلفا على أمور معينة، قد تكون اقتصادية، كأن لا يكون وليد راضياً عن سياسات رفيق الاقتصادية، أو تفاصيل معينة، كنت دائماً أعود وأوفق بينهما، بحيث إن هذا التحالف بقي ونما إلى صداقة حقيقية بين رفيق الحريري ووليد جنبلاط. صداقة نمت على 15 – 20 سنة لم يتركا بعضهما خلالها في أي شيء، من الأمن إلى الاقتصاد إلى بناء المستشفيات. كانت هناك شراكة حقيقية وكنت أنا أحد حراس هذه الشراكة.

كان وليد (بعد اغتيال الحريري) يبكي عليه، وربما كان يبكي أيضاً على لبنان، لأنه شاهد واعتقد أن الوجود السوري سيستمر دون منازع في ظل رئيس جمهورية جاء السوريون به وفي ظل حكومة عمر كرامي التي جاءوا بها بنسبة مائة في المائة.

يمكن بعد 14 آذار (تظاهرة المعارضة المليونية ضد سوريا بعد اغتيال الحريري) اكتشف وليد أن الدينامية التي أطلقتها دماء رفيق الحريري ستؤدي إلى خروج السوريين. كان وليد خائفاً من حجم الانتصار وأنه يمكن أن يرجع ويرتد علينا. لأنه يعرف أن الدنيا مد وجزر. فقد كنا نريد أن نقلع إميل لحود من الرئاسة. وليد كان متحمساً لذلك. لكن عندما عارض البطريرك نصر الله صفير ذلك وقال لا وأن الرئيس (يجب أن) يُكمل عهدته، سايرنا هذا الجو واضطررنا بعد ذلك إلى ارتكاب خطأ أساسي وهو الاتفاق الرباعي مع حزب الله».

سألته هل تتهم النظام السوري بمحاولة اغتيالك، فرد قائلاً: «وحزب الله أيضاً. عندي قرار اتهامي موجود هنا على طاولتي بالتفصيل. كل عمليات الاغتيال كان على رأسها وحدة يقودها عماد مغنية. ولكن المنفذ الحقيقي فيها مصطفى بدر الدين المسمى سامي عيسى الذي كان يعيش في جونية باسم مسيحي ولديه محل مجوهرات ولديه يخت وعدد من الصديقات في المحيط المخملي في جونية وجوارها.

وطبعاً هناك المنفذون ومنهم العياش (سليم جميل عيّاش) الذي صدر عليه الحكم باغتيال الحريري، لأن الآخرين ماتوا. عماد مغنية قتل مبكراً. بدر الدين قتل لاحقاً. في القانون الدولي لم يعد يمكنك أن تلاحقهم.

ولكن كل الأمر هو أنه كان هناك تسهيل سوري (للاغتيالات) لكن هناك قراراً وتنفيذاً يبدأ في طهران وينتهي بحارة حريك (معقل حزب الله في ضاحية بيروت)».

زيارة دمشق الجديدة

سألته عن شعوره عندما ذهب براً إلى دمشق ووجد الرئيس أحمد الشرع يجلس على الكرسي الذي كان يجلس عليه بشار الأسد وقبله حافظ الأسد، فأجاب: «كل الرحلة ولّدت مشاعر. العبور من المصنع إلى جديدة يابوس وليس عبر الخط العسكري وعبر المخابرات السورية. كانت الطريق مفتوحة. الشباب يرحبون بك بدون أي تدقيق. الطريق كلها ليست فقط سالكة، بل لم يبق بها تمثال أو كتابة بالحجر على جانبي الطريق: الأسد إلى الأبد. لم يكن هناك أحد في أي ثكنة. ثكنات مدمرة أو مهجورة. تصل إلى طريق الشام فتجد دمشق أمامك. تشعر وكأنك تعود إلى (عهد) الأمويين والعباسيين. هذه سوريا العروبة التي عدنا إليها. بعد ذلك تأخذ الطريق المؤدية إلى القصر الجمهوري. تتذكر أن هذا القصر المشيد على رأس تل كان رفيق الحريري هو من بناه لهم قبل أن يُقتل. حافظ الأسد لم يقم طويلاً في هذا القصر لأنه توفي، لكن بشار أخذ راحته هو والسيدة أسماء. تصل إلى القصر ولا تجد حارساً سوى عندما تصل إلى باب القصر. يفتحون لك الباب فتدخل لتجد قصراً شامياً تتذكر أن رفيق الحريري هو من بناه. المملكة العربية السعودية هي من مولته. تدخل فتلاقي شاباً بمنتهى الحكمة والكلام الرصين والعاقل. لا أقول إنه نفذ أو سينفذ كل شيء (يقوله)، لكنه يقول لك ما يجول في عقله.

وجدت في الشرع خامة ثائر ورئيس. يريد التخلص بسرعة من زمن فصائل. يريد أن ينتقل بسرعة من ثورة إلى جمهورية. من زمن الفصائل إلى زمن الدولة. طبعاً سوريا ما زالت مبعثرة. هناك الموضوع الكردي والموضوع الدرزي الذي أثرناه والذي بحمد الله تقدم نحو الأحسن. كان يخشى ردة فعل على العلويين من جماعته. قال إنه ليس لدينا أي شيء ضد العلويين. هناك قسم كبير منهم كانوا ضده (نظام بشار). كما أنه يقول لماذا أهل الشام المسالمون يتم تحميلهم مسؤولية شيء جرى قبل 1400 سنة؟ بالنسبة له ما حصل كان حادثاً سياسياً يتم تحميل شعوب وطوائف ومناطق وزرها حتى اليوم. أهل الشام ليست لهم علاقة بهذا الشيء. ولذلك يجب أن نعامل سوريا بغير العداء الذي عُوملت به من قبل إيران. وزير الخارجية أسعد الشيباني تحدث أيضاً عن إيران بالاسم. سألته كيف دخلتم ووصلتم من حلب إلى الشام في ثلاثة أيام؟ فقال لي: لم نخترق حدوداً عسكرية. الشعب كان فاتحاً الطريق. أهل حماة يرحبون بنا. أهل حمص يرحبون بنا. كان همهم أن لا تحصل تصفيات، فدخلوا إلى السجون في البداية كي تأخذ الناس نفساً. وإذا لاحظت في حماة وحمص وصيدنايا أول ما تحرر فيها كانت السجون قبل تحرير المباني الرسمية وقبل رئاسة الأركان ووزارة الدفاع. تذكرت هنا ماذا حصل بنا عندما اغتيل كمال جنبلاط وبعض الناس في الجبل وضعوا الاغتيال في ظهر المسيحيين مع أن النظام السوري هو الذي قتله.

سألته هل استغربت أن سوريا باتت بلا إيران، فأجاب: «استغربت أن سوريا بيد شعبها، بلا نظام مخابراتي. يعني نظام مخابراتي يحاول أن يحمل ثمناً لأي شخص كانت لديه علاقة ولو شكلية بنظام الأسد. هذا كان همه (الشرع) الأساسي (أن لا يحصل ذلك). هناك الآن موظفون نعرفهم منذ أيام الأسد».

قلت لحمادة إننا نُجري هذا الحوار في مبنى جريدة النهار التي كانت لها أكثر من قصة مع نظام الأسدين، ما هو شعورك؟ رد قائلاً: «صحيفتنا تم تفجيرها. احتُلت. خطف رئيس تحريرها ميشال أبو جودة وأعيد بمساعٍ من ياسر عرفات وكمال جنبلاط آنذاك لدى حافظ الأسد وحكمت الشهابي. حاولوا اغتيال جبران تويني عندما كان شاباً صغيراً. رجعوا واحتلونا وأخدوا الأرشيف وكل صناديق (محفوظات) الجريدة. وضعونا قرابة 20 يوماً نحن و(السفير) و(النداء)، ونسفوا جريدة (المحرر)، واحتلوا (الأوريون لوجور). بعد ذلك صرنا في القفص مثل غيرنا.

وبقية القصة المأسوية معروفة. اغتالوا الصحافي والكاتب سمير قصير ثم اغتالوا جبران تويني. حاولنا أن نترك جبران في الخارج لكنه لم يقبل. جربوا أيضاً دفع الصحيفة إلى الإفلاس. كان لرفيق الحريري حصة في شركة (النهار) ففرضوا عليه أن يبيعها. الأسد شخصياً هو من فرض ذلك. لم يكن معنا قرض يسمح لنا بشراء (حصة الحريري). أعد رفيق عقداً وأجّل الدفع إلى ما بعد انتخاب رئيس جديد، على أساس أن لحود لن يرجع رئيساً (ممداً له) وأن لبنان سيتحرر من ضغط السوريين. لم يحصل هذا الشيء لكن اغتيل رفيق وبعدها مزّق الطرفان العقد».

قلت له: انتخب العماد جوزيف عون رئيساً للجمهورية وشكّل نواف سلام الحكومة فهل تعتقد أن هناك فرصة حقيقية للبنان اليوم؟ أجاب: «نعم بالتأكيد. الفرصة نشأت قبل أن يتم اختيارهما. الفرصة نشأت من خلال البروفايل الخاص بهما. يعني أحدهما حافظ على الجيش، والثاني حافظ على كرامته وعلمه، ووصلا بحركة لبنانية ليست منسقة بالأساس لكنها تترجم موجة شعبية… نحن رجعنا للحضن العربي. بمجرد انتخاب رئيس الجمهورية الجديد عرفنا أننا طلعنا من القفص إلى الحضن. هذا الفرق بين نظام الأسد وبين الأنظمة التي كانوا يهاجمونها والتي تبين أنها تقدمية أكثر منهم».

الشرق الأوسط

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى