العدالة الانتقالية.. خطوات لنزع الفتيل/ خالد الجرعتلي | جنى العيسى | علي درويش | حسن إبراهيم

تحديث 16 شباط 2025
سقط نظام الأسد، لكن عمليات المحاسبة التي انتظرها السوريون على مدار سنوات، لم تطل رجالاته المعروفين بارتكاب انتهاكات وجرائم بحق السوريين وثقتها منظمات وجهات دولية، وأخرى محلية.
ضباط وعسكريون من خلفيات مدنية، شكلوا عماد آلة النظام المخلوع العسكرية، وكانوا يده الضاربة في محاولات إخماد حراك السوريين على مدى 14 عامًا، لا يزال جزء منهم طلقاء إما في سوريا، أو في دول الجوار التي هربوا إليها مع هرب الأسد نحو موسكو.
الرئيس السوري في المرحلة الانتقالية، أحمد الشرع، قال في مناسبات مختلفة، إنه عازم على إطلاق مسار عدالة انتقالية، يهدف لمحاسبة كبار مرتكبي جرائم الحرب في سوريا، لكن هذا المسار لم تتكشف ملامحه حتى اليوم.
وفي وقت لا تزال تحركات حكومة دمشق المؤقتة خجولة في هذا الإطار، تستمر المطالبة بمحاسبة مرتكبي الجرائم من نظام الأسد المخلوع، وتذهب بعيدًا في بعض الأحيان، حتى تطالب بمحاسبة الإعلاميين الحربيين، وأساتذة في الجامعات، ونافذين في النظام المخلوع.
وعود حكومية ومطالب بالتهدئة
زاد الشحن والمطالب بمحاسبة مرتكبي الجرائم نتيجة عدة أحداث برزت مؤخرًا، الأول ظهور عدد من رجال النظام السابق في تسجيلات مصورة يهددون بتنفيذ عمليات استهداف للقيادة الأمنية والعسكرية، وهو ما تُرجم على الأرض بمقتل عدد من عناصر “إدارة الأمن العام” و”إدارة العمليات العسكرية” عبر كمائن نفذها فلول النظام السابق.
أبرز الشخصيات التي أججت الشارع المطالب بالمحاسبة ووجهت تهديدات للسوريين هي العنصر السابق في “الحرس الجمهوري” مقداد فتيحة، الذي أعلن، في 6 من شباط الحالي، عن تأسيس “لواء درع الساحل” في جبال اللاذقية، متوعدًا بشن عمليات عسكرية ضد “إدارة العمليات العسكرية” و”إدارة الأمن العام”.
الحدث الثاني ظهور قادة في النظام السابق بأماكن ارتكبوا فيها مجازر بحق المدنيين. في 7 من شباط، خرجت مظاهرات في حي التضامن جنوبي دمشق، بعد زيارة فادي أحمد المعروف باسم “فادي صقر” للحي، وهو أحد المسؤولين عن مجزرة “التضامن”.
وما زاد من احتقان الأهالي هو توارد أنباء عن إجراء فادي صقر “تسوية” مع السلطات الجديدة، وأنه أحد أعضاء لجنة “السلم الأهلي”، لكن لم تستطع عنب بلدي التحقق من صحة هذه الأنباء.
طالب المتظاهرون القيادة الأمنية والعسكرية في حكومة دمشق المؤقتة باعتقال فادي ومحاسبته على الجرائم التي ارتكبها خلال السنوات الماضية.
فادي كان قائد “الدفاع الوطني” في التضامن ثم في دمشق، وكان أحد المسؤولين عن ملف المصالحات في عهد النظام السابق، وهو ملف يضم عددًا من الشخصيات للتفاوض مع مقاتلي المعارضة في المناطق المحاصرة من قبل الجيش والميليشيات الرديفة، وتنتهي بتهجير المقاتلين إلى جانب عائلات من أبناء هذه المناطق.
الحدث الثالث، ظهور مسؤولين في نظام الأسد شاركوا بالانتهاكات ضد السوريين، وإعلاميين كانوا يرافقون قوات الأسد والميليشيات الرديفة في عملياتهم العسكرية، بمقابلات إعلامية بوتيرة متزايدة.
وتمحورت بعض المقابلات حول تبرير المسؤولين السابقين موقفهم المؤيد للنظام السابق، أو لنفي ضلوعهم في انتهاكات أو معرفته بما كان يحصل من تعذيب وقتل لمدنيين في السجون.
وزير الداخلية في حكومة الأسد المخلوع، محمد الشعار، سلم نفسه للقوى الأمنية طواعية، وخرج في مقابلة مع قناة “العربية” نفى فيها ارتكابه فعلًا يعاقب عليه القانون، علمًا أنه شارك في ارتكاب جرائم في سوريا ولبنان وفق ما وثقته مراكز حقوقية.
الأمر الآخر، هو إدارة عناصر وقادة من فلول النظام السابق على منصات التواصل حملات تحريض قائمة على أساس طائفي وعرقي.
هذه الحالة خلقت جوًا مشحونًا واستفزازًا في أوساط الشارع السوري، الذي يرفض أن يرى جلاديه يسيرون في أحيائه وبين أبنائه.
بينما قلل وزير الدفاع السوري، مرهف أبو قصرة، من خطر البؤر التي يتنشر فيها فلول النظام السابق، مشيرًا إلى أنه يتم التعامل معها وخطرها يتراجع.
الحكومة.. حملات ووعود
في كلمته التي وجهها للشعب السوري، عقب تنصيبه رئيسًا للمرحلة الانتقالية، ركّز أحمد الشرع على ضمان السلم الأهلي والعدالة الانتقالية وبناء مؤسسات الدولة، والمشاركة في المرحلة الانتقالية من خلال تشكيل حكومة شاملة ومجلس تشريعي مصغر وإطلاق مؤتمر حوار وطني.
وقال إنه يركز في الفترة المقبلة على رسم الأولويات، من بينها تحقيق السلم الأهلي، وملاحقة المجرمين الذين ولغوا في الدم السوري وارتكبوا بحق الشعب المجازر والجرائم سواء ممن اختبؤوا داخل البلاد أو فروا خارجها عبر “عدالة انتقالية حقيقية”.
وعن شكل العدالة الانتقالية في سوريا، قال الشرع في مقابلة لاحقة، إن هناك خيطًا رفيعًا مهمًا جدًا بين العدالة الانتقالية والسلم الأهلي، و”إن فرطنا في حقوق الناس، هذا سيؤثر على السلم الأهلي، وإن تشددنا بالمطالبة في حقوق الناس، أيضًا سيؤثر على السلم الأهلي، وستحصل حالة من الفزع”.
وقال الشرع إنه منذ إطلاق العمليات العسكرية، لم يصدر “عفو” عمن ارتكب جرائم منظّمة، وسط استمرار بملاحقة “الرؤوس الكبيرة المجرمة”، مستصعبًا الذهاب إلى كل جزئية حدثت في الـ60 سنة الماضية، معتبرًا أنه يجب أن يتسامى الناس عن بعض الحقوق، مع التركيز على الحقوق ذات الجرائم المنظمة، و”هذا هو الخيط الذي يحافظ على العدالة الانتقالية والسلم الأهلي”.
كما ربط تحسن الوضع الاقتصادي ونشاط أي استثمار اقتصادي في سوريا بوجود قضاء منصف وتوفر حالة استقرار أمنية، معتبرًا أن وجود اقتصاد ناجح، يتطلب إصلاح مؤسسات كثيرة.
الشرع وبعد يومين من سقوط النظام ووجود انتقادات حول مسألة الصفح عن عناصر النظام السابق وخاصة مرتكبي الجرائم، توعد بالإعلان عن القائمة “رقم 1” التي تتضمن أسماء كبار المتورطين في تعذيب الشعب السوري.
وقال الشرع، “لن نتوانى عن محاسبة المجرمين والقتلة وضباط الأمن والجيش المتورطين في تعذيب الشعب السوري. سوف نلاحق مجرمي الحرب ونطلبهم من الدول التي فروا إليها حتى ينالوا جزاءهم العادل”.
وتحدث عن عزم الإدارة الجديدة على تقديم مكافآت لمن يدلي بمعلومات عن كبار ضباط الجيش والأمن المتورطين في جرائم حرب، مضيفًا، “أكدنا التزامنا بالتسامح مع من لم تتلطخ أيديهم بدماء الشعب السوري، ومنحنا العفو لمن كان ضمن الخدمة الإلزامية، إن دماء الشهداء الأبرياء وحقوق المعتقلين أمانة لن نسمح أن تهدر أو تنسى”.
وبحسب ما تحدث به وزير الدفاع، مرهف أبو قصرة، في لقاء مع التلفزيون “العربي”، فإن التسويات لا تلغي عملية المحاسبة القانونية اللاحقة، وهي لضبط الأوضاع وعدم السماح بالفوضى وتثبيت الوضع الحالي ريثما يتم التعاطي مع هؤلاء الأشخاص عن طريق السلطات المختصة، ومن عليه قضايا جنائية أو تعذيب يجب أن تتم محاسبتهم عن طريق المؤسسات القضائية.
لكن حتى الآن لم يصدر أي حكم قضائي يخص محاسبة قادة النظام السابق ممن تم إلقاء القبض عليهم أو أجروا “تسويات”، ولعل أبرز الشخصيات التي أجرت “تسوية”، القائد السابق لـ”الحرس الجمهوري” طلال مخلوف.
ومع بداية الثورة السورية كان مخلوف قائدًا لـ”اللواء 105″، وفي عام 2016 عيّن قائدًا لـ”الحرس الجمهوري”، وخلال هذه السنوات شارك “الحرس الجمهوري” في قمع المظاهرات السلمية وقصف واقتحام المدن، خاصة في الغوطة الشرقية وأحياء حلب الشرقية.
وطرحت عنب بلدي مجموعة من الأسئلة على وزارة العدل في حكومة دمشق المؤقتة، استفسرت فيها عن القائمة “رقم 1” ومتى ستصدر، وهل يوجد تعاون أو تنسيق مع دول أخرى لتسليم المطلوبين، وما الخطوات التي تجريها وزارة العدل في مسار العدالة الانتقالية وما طبيعتها.
ورفضت الوزارة من جانبها الإجابة عن جميع هذه الأسئلة.
ما العدالة التي تحتاج إليها سوريا
تأتي أهمية تطبيق العدالة الانتقالية في سوريا من كونها البديل المتوازن عن عمليتين “شديدتي الخطورة”، هما طي الماضي كليًا، وتجاهل إرث الانتهاكات، وهو شيء مستحيل عمليًا لأن آثار الانتهاكات مستمرة وحاضرة، والثانية هي التوجه نحو الانتقام الفردي أو الجماعي الذي قد يؤدي لإسقاط فكرة الدولة والغوص في دوامة الفوضى والعنف، وفق ما يراه الحقوقي والباحث في مركز “الحوار السوري” نورس العبد الله.
الباحث قال لعنب بلدي، إن منظومة العدالة الانتقالية، وبمقاربة ليست نظرية، تسمح بالموازنة بين الاستجابة لآثار الماضي، وتسويته بشكل صحيح، إلى جانب التفاعل مع متطلبات الحاضر والتأسيس للمستقبل.
تكمن أهمية تطبيق العدالة الانتقالية في سوريا بأنها البديل المتوازن عن عمليتين شديدتي الخطورة، هما طي الماضي كليًا وتجاهل إرث الانتهاكات، وهو شيء مستحيل عمليًا، لأن آثار الانتهاكات مستمرة وحاضرة، والثانية هي التوجه نحو الانتقام الفردي أو الجماعي ما يعني إسقاط فكرة الدولة والغوص في دوامة الفوضى والعنف.
من جانب آخر، يرى العبد الله أن تطبيق العدالة الانتقالية من حيث المبدأ وبغض النظر عن عشرات التفاصيل يسمح ببناء دولة جديدة تضمن عدم تكرار ما حصل سابقًا، وتسمح ببناء “هوية وطنية سورية حقيقية”.
يبدأ مسار العدالة في سوريا أو كما عرف مؤخرًا باسم “مرحلة العدالة الانتقالية” بقيادة هيئة عدالة انتقالية تتشكل عبر مشاورات مجتمعية ونقاشات تفضي للتوافق على أشخاص ينضمون لهذه الهيئة، وفق ما يراه مدير “الشبكة السورية لحقوق الإنسان”، فضل عبد الغني، بشرط أن يكون أعضاء هذه الهيئة خبراء في قضايا العدالة الانتقالية والقانون الدولي، وبملف توثيق الانتهاكات، إضافة إلى منظمات مجتمع مدني حقوقية، وروابط الضحايا، وبالاشتراك والتنسيق مع الحكومة.
فضل عبد الغني أضاف، لعنب بلدي، أن الهيئة لا تُشكل من قبل الحكومة، ومن الخطأ الاعتقاد أن “هيئة العدالة الانتقالية” هي جهة محسوبة على الحكومة، ولا يجب أن تكون كذلك، بل تتشكل عبر مسار مجتمعي ترعاه الحكومة.
وتشرف هذه الهيئة على عملية تنسيق تقود الدولة لمسار العدالة، وعبر مؤسسات الدولة نفسها، لكن باستقلالية تامة عن الدولة، إذ يرتبط عملها بالمحاسبة وهو مسار قضائي يسري عبر المحاكم.
وتتحمل هيئة العدالة الانتقالية ضمن ركن المحاسبة مسؤولية نقل الأفراد إلى المحاكمات تمهيدًا لمحاسبتهم، وتلعب الهيئة في هذه المرحلة دورًا يشبه مهمة الادعاء العام، وفق عبد الغني، وهو ما يجعل من الضروري جعل مسار عملها مستقلًا عن الدولة.
مدير “الشبكة السورية لحقوق الإنسان” أضاف خلال حديثه لعنب بلدي، أن مفهوم العدالة الانتقالية يهدف بشكل أساسي إلى “تطبيق العدالة في مرحلة انتقالية”، خصوصًا أنه في هذه المرحلة يمكن أن ينعكس النزاع نفسه، خصوصًا في الحالة السورية مع وجود طرفين، الأول مرتكب الانتهاكات، الذي انتقل للمرحلة الانتقالية، وطرف ثانٍ وقع عليه الانتهاك، ويطالب الطرف الأول بالمضي قدمًا، بينما يطالب الثاني بالمحاسبة، ما يولد حالة نزاع بين الطرفين خلال هذه المرحلة.
وتهدف فلسفة العدالة الانتقالية لتجنب الوقوع بين هذه الأطراف خلال المرحلة التي تشهد فيها البلاد انتقالًا، مع وجود هذه الأطراف نفسها، وفق عبد الغني.
ثلاثة تحديات كبرى
تواجه المرحلة عقبات عديدة تتشابه في السياقات، وفق ما يراه الباحث نورس العبد الله، الذي حدد من وجهة نظره ثلاثة تحديات كبرى تواجه المرحلة.
وقال الباحث لعنب بلدي، إن التحدي الأول هو بناء “التوافقات الوطنية الكبرى” حول فلسفة العدالة الانتقالية، ومدى تركيزها على الآليات القضائية وغير القضائية، فعلى الرغم من التحضيرات الاستثنائية في السياق السوري على صعيد التوعية والدراسات والنقاشات والإجراءات المختلفة لتطبيق العدالة الانتقالية، توجد عشرات الأطروحات، كل منها صحيح في جانب، وهذا بحد نفسه تحدٍ يواجه المرحلة.
وأضاف أن الموازنة بين الاستقرار والخدمات خلال المرحلة الحالية، وبين إطلاق مسار متكامل للعدالة الانتقالية، هو تحدٍ آخر، إذ يمكن الوقوف على عدد مرتكبي الانتهاكات في سوريا وانتشار السلاح وضعف المؤسسات التي يجب أن تلعب أدوارًا رئيسة في القضاء وأجهزة إنفاذ القانون وغيرها، وهي تحديات أخرى.
واعتبر الباحث والحقوقي أن الجانب الاقتصادي والظروف السياسية الإقليمية والدولية تشكل عقبات أمام مرحلة عدالة انتقالية سلسة، إذ تفرض هذه الجوانب أحكامها على منطق العدالة الانتقالية في سوريا وعادة ما تكون عوامل سلبية وليست إيجابية.
وفيما يخص الجدول الزمني للبدء بمسار عدالة انتقالية على الصعيد العملي، قال العبد الله، إن المسار انطلق بالفعل مع حل المؤسسات الأمنية واعتقال بعض الشخصيات المتورطة وحل أحزاب “الجبهة الوطنية”، وغيرها من الخطوات، وإن كانت هذه الإجراءات تعد تدابير أولية وترتبط بترتيب المشهد الحالي أكثر من كونها قائمة على الاستجابة لمنطق تطبيق العدالة، معتبرًا أن ذلك “أمر طبيعي”، فمسارات العدالة الانتقالية عمليًا ليست كتلة واحدة يتم تطبيقها كمشروع له بداية ونهاية ولا يمكن النظر إليه بهذه الطريقة.
ولفت الباحث إلى أهمية الحذر من المضي بإجراءات جزئية ومنفردة من السلطة الانتقالية دون حشد أكبر قدر ممكن من التوافقات على محددات العدالة الانتقالية المطلوبة وآلياتها، وحوكمة ذلك، من خلال النص والهياكل الرسمية كإحداث وزارة أو هيئة للعدالة الانتقالية لضمان مشاركة فاعلة من كل القوى الداعمة للعدالة الانتقالية.
واعتبر العبد الله أنه من الناحية النظرية، تعتبر العدالة الانتقالية شاملة لجميع الأطراف، لكن هذا النهج “نظري محض”، فالتجارب العملية في دول مختلفة تكشف عن الأثر الواقعي لطريقة التحول على منطق العدالة الانتقالية، لذلك يمكن التفكير بمنطق “جبر ضرر جميع الضحايا” بعد حسم تعريف الضحية أصلًا، وعدم التوجه للتمسك النظري بفكرة المحاسبة الشاملة لأنها تؤدي لتفجير الواقع، وهذه النقطة بحد ذاتها هي من القضايا الجدلية، وفق الباحث.
ولفت إلى ضرورة فهم واستيعاب الدروس المستفادة من التجارب المختلفة في إنتاج مقاربة سورية للعدالة الانتقالية، التي لن تكون محل إجماع بأي حال من الأحوال، وسيستمر الجدل حولها كما حصل في كل مكان.
خطوات متوقعة
توقع مدير “الشبكة السورية لحقوق الإنسان”، فضل عبد الغني، خلال حديثه لعنب بلدي سير عملية العدالة الانتقالية في سوريا ضمن جدول عملي مقسم على صعد مختلفة، تبدأ من محاسبة المتورطين بالانتهاكات، وتقسم هذه العملية على قسمين، الأول جنائي والثاني غير جنائي، ويستهدف الأول من ارتكب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية، أو تورطوا فيها وفق آليات جنائية يحال بموجبها إلى المحاكمات ويستهدف بشكل أساسي الصفوف العليا، أو أبرز المسؤولين عن الانتهاكات مثل قادة الصف الأول والثاني، وكون الحالة السورية تشمل “أعدادًا هائلة” من مرتكبي الجرائم، وفق عبد العني، تقارب 16200 شخص ارتكبوا جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية عند النظام السوري، يتطلب وجود معايير من نوع ثانٍ للمحاسبة.
وقال مدير “الشبكة”، إن الحالة السورية لا تدعم محاكمة الـ16 ألف شخص من مرتكبي الجرائم، ما يتطلب وجود معايير تبنى عليها آلية المحاكمة، والمضي قدمًا، لذلك تستهدف الهيئات القضائية نسبًا مئوية من الأطراف العسكرية في سوريا، مثلًا 90% من قوات النظام وتحديدًا قادة الصفوف الأولى، بينما تستهدف المحاسبة غير الجنائية الصفوف الأقل مثل قادة الصف الثالث، والرابع، والخامس، والسادس، وتشمل الـ10% الأخرى بقية أطراف الصراع في سوريا.
المحاكم غير الجنائية، تستهدفها جهة يطلق عليها، وفق عبد الغني، “لجان الحقيقة والمصالحة” التي تستدعي قادة الصفوف المتدنية وتطلب منهم الاعتراف بانتهاكاتهم ومواجهة ضحاياهم الذين عذبوهم وقتلوا أهلهم وشردوهم، وتطلب منهم الاعتذار والاعتراف، وأن يدفعوا تعويضات للضحايا.
ولا ترتبط المحاكمات الجنائية بالجانب العسكري من قادة النظام السوري المخلوع، إذ قد تطال رجال الأعمال الذين أسهموا بدعم النظام اقتصاديًا، إلى جانب قادة الصفوف السياسية.
والخطوة الثانية أطلق عليها عبد الغني اسم “جبر الضرر”، وهو ما تشرف عليه “لجان الحقيقة والمصالحة”، وترتبط بدفع التعويضات المالية، واعتراف مرتكبي الانتهاكات بجرائمهم، ثم الانتقال إلى خطوة “تخليد الذكرى” ويقصد بها الأفراد الذين تعرضوا لانتهاكات على مر السنوات الماضية.
ولفت إلى ضرورة النظر في مسار التعويضات، إذ لا بديل عنه، ما يعني ضرورة وجود لجنة للتقييم، والنظر في إعطاء الأولوية للضحايا الأكثر تضررًا، لذلك تعتبر هذه اللجان مستقلة بشكل أساسي، حتى لا تخضع للتأثير، وترتبط بمعايير واضحة لإجراء هذه العملية.
تعود أسباب تعدد المسارات في العدالة الانتقالية بسوريا إلى وجود كم هائل من الانتهاكات، ما يجعل من المسار شاقًا ومعقدًا ومتداخلًا بالنسبة للمحاكم التي ستضم العديد من المسارات، بدءًا من المحاكم الدولية، ووصولًا للمحلية.
عبد الغني أرجع أسباب تعدد المسارات في العدالة الانتقالية بسوريا إلى وجود “كم هائل” من الانتهاكات، معتبرًا أن المسار سيكون شاقًا ومعقدًا ومتداخلًا بالنسبة للمحاكم أيضًا التي ستضم العديد من المسارات، بدءًا من المحاكم الدولية، ووصولًا للمحلية.
لا تعليق أممي
صرح المبعوث الأممي إلى سوريا، غير بيدرسون، في أكثر من مناسبة أن ملف العدالة الانتقالية من أبرز ملفات سوريا الملحّة في هذه المرحلة، دون أن يوضح دور الأمم المتحدة في هذا الملف، وهل ستشارك أم أنها ستكون جهة تضغط نحو تحقيق العدالة الانتقالية فقط.
حول هذا الدور تواصلت عنب بلدي مع المتحدثة باسم المكتب الصحفي للمبعوث الأممي، جينيفر فانتون، إلا أنها لم تستطع الحصول على تعليق محدد حول الدور الأممي المرتقب في هذا الملف، واكتفت فانتون بقولها، إن بيدرسون أطلع مجلس الأمن على مجريات الأمور في سوريا، وهو أشار إليه في إحاطته الشهرية.
بيدرسون قال في أحدث إحاطة له أمام مجلس الأمن، في 12 من شباط الحالي، إنه أوضح للسلطات المؤقتة في دمشق أن بعثته مستعدة لتقديم المشورة والدعم في مختلف المجالات، والتزمت السلطات حتى الآن بالتشاور الوثيق مع بيدرسون بشأن جميع خطوات الانتقال السياسي بقيادة وملكية سورية.
المبعوث الأممي أشار في أكثر من مكان إلى أن من مسؤولية السلطات العمل على إطار شامل لإحقاق عدالة انتقالية في سوريا.
لقاء وزير الخارجية السوري أسعد الشيباني مع وفد من منظمات المجتمع المدني السوري وروابط وعائلات الضحايا – 12 شباط 2025 (وزارة الخارجية)
لقاء وزير الخارجية السوري أسعد الشيباني مع وفد من منظمات المجتمع المدني السوري وروابط وعائلات الضحايا – 12 شباط 2025 (وزارة الخارجية)
التأخر ينذر بالفوضى
يثير تأخر تطبيق العدالة الانتقالية في سوريا المخاوف بشأن أثر ذلك على السوريين، خاصة الضحايا ممن تضرروا في عهد النظام ويبحثون عن عدالة تخفف من حجم معاناتهم وترد إليهم جزءًا من حقوقهم.
عملية العدالة الانتقالية طويلة ومعقدة، إذ ترتبط بالنفس الطويل، وتحتاج إلى مدة زمنية لإطلاق المسارات التي تأتي تباعًا، كما تحتاج إلى فترات زمنية للإنجاز، وغالبًا ما تكون فجوة الإنجازات حاضرة، إذ تكون الإنجازات نسبية، مع وجود سمات مميزة لكل تجربة من تجارب العدالة وإسهامات نوعية عبر إعمال التفكير الإبداعي قانونيًا وسياسيًا واجتماعيًا، بحسب ما ذكره تقرير صادر عن مركز “الحوار السوري“، في 11 من شباط الحالي.
وحتى لا يتعرض الضحايا وذووهم في الحالة السورية لخيبات أمل واسعة تفقدهم الإصرار على تطبيق العدالة، فإن من المهم معرفة نسبية الإنجازات المتاحة، وتشجيعهم على طرح مبادرات وأفكار إبداعية للتعامل مع إرث الماضي، وفق التقرير.
وفق التقرير الذي استعرض تجارب العدالة الانتقالية في مختلف البلدان، تشير التجارب المقارنة إلى أن أنصار الاستبداد في المجتمع (قد يكونون الأغلبية، خصوصًا في بعض المناطق ومن طوائف محددة وغير ذلك) يهاجمون بشدة إجراءات العدالة الانتقالية، حتى وإن كانت بالحد الأدنى، مثل المطالبة بالاعتذار، أو الحكم بالسجن لفترات قصيرة، ويتهمونها بأنها إقصائية وانتقامية وانتقائية وتسبب الانقسام المجتمعي.
في حين يرى مناصرو التغيير والضحايا أنها لا تلبي الطموحات، وتعفو عن القتلة والمجرمين، وتسمح بتكرار الانتهاكات في المستقبل، وسيستمر هذا الجدل طوال فترة التغيير، وسيستمر طويلًا حتى يتم تغيير عقلية الأجيال.
في الحالة السورية، من الأفضل تشجيع السوريين على فهم الموازنة بين الطرحين، وأنه لا يوجد حلّ مثالي يُجمع عليه جميع السوريين، وإنما الهدف الوصول إلى مقاربة في العدالة الانتقالية تحظى بأكبر قدر ممكن من التوافق، بغض النظر عن مضمون هذه المقاربة، وفق ما أوصى التقرير.
الضحايا والديمقراطية متأثران
يترتب على تأخر انطلاق مسار العدالة الانتقالية عدة آثار في الحالة السورية، وفق ما يراه القاضي السوري أنور مجني، أبرزها إضعاف الثقة لدى المجتمع وبشكل خاص الضحايا من وجود القدرة والرغبة لدى السلطة بإطلاق هذا المسار.
ويرى القاضي السوري، في حديث إلى عنب بلدي، أن تحقيق الانتقال الديمقراطي يتطلب إطلاق برنامج العدالة الانتقالية، وأي تأخير يعني بالضرورة تأخرًا في مسار الانتقال الديمقراطي، ما يعزز المخاوف بجدية السلطة بتحقيق هذا الانتقال.
قد يؤدي تأخر إطلاق مسار العدالة الانتقالية إلى استمرار الانقسام في المجتمع، ويمكن أن يؤدي إلى حالات انتقام فردي، بسبب الشعور بعدم رغبة السلطة بالمحاسبة، وقد يعني أيضًا تأجيل العديد من الملفات المرتبطة بالعدالة الانتقالية وخاصة لجهة جبر الضرر بما يتضمن رد الممتلكات، والإصلاح المؤسساتي، وبالتالي ضعف الرغبة لدى المهجرين بالعودة.
من جانبه، اعتبر المحامي عارف الشعال، أن تسريع إطلاق عملية العدالة الانتقالية يبرد قلوب الضحايا وذويهم، ويؤدي إلى استقرار المجتمع، إلا أن هذا أمر صعب المنال، إذ تعد عملية العدالة، بغض النظر عن نوعها، عملية بطيئة وتحتاج إلى وقت لضمان محاكمات عادلة.
بيئة قانونية
حول إمكانية أن تلائم القوانين السورية تطبيق العدالة الانتقالية، أو إشراك جهات دولية في ذلك، يرى القاضي أنور مجني، أن القوانين السورية الأساسية تشكل أرضية مهمة، لكن المنظومة القانونية المحلية تتضمن عدة قوانين استثنائية لا تتوافق مع المرحلة المقبلة، ما يفرض الحاجة اليوم إلى جهة تشريعية تلغي القوانين الاستثنائية خاصة المتعلقة بالحقوق والحريات، إضافة إلى ضرورة إصدار قوانين مكمّلة تسهم في تعزيز مسار العدالة الانتقالية.
أما لجهة إشراك جهات دولية، فيرى أنور مجني أن هذا الإشراك مهم، ليس في عملية صياغة القوانين، وإنما في تفعيل مسارات العدالة الانتقالية، على أن يكون هذا الدور استشاريًا لتقديم الخبرات، دون أن يكون جزءًا من العملية الوطنية للعدالة الانتقالية.
المحامي عارف الشعال، قال خلال حديثه لعنب بلدي، إن القوانين السورية تلائم تطبيق العدالة، إذ توجد في سوريا منظومة قضائية جيدة، يمكن العمل من خلالها على إنشاء محاكم خاصة تتشكل من قضاة طبيعيين لضمان المحاكمة العدالة، وحقوق الدفاع، وعلنية المحاكمة، والطعن بأي حكم يصدر عنها.
ويرى الشعال أن ما تحتاج إليه سوريا من القانون الدولي، الانضمام إلى اتفاقية “روما” أو طلب تشميل جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية التي ارتكبت في سوريا منذ آذار 2011 إلى الآن، بسبب الحاجة له في نواحٍ تقنية، منها أن تشمل من أعطى الأمر والرؤساء وليس منفذي الجريمة فقط.
كما تحتاج سوريا من المجتمع الدولي إلى المساعدة التقنية والمادية في مسألة كشف مصير المفقودين، وإنجاز التحقيقات حول المقابر الجماعية التي تحتاج إلى كوادر كبيرة وأجهزة تقنية غير متوفرة بمعظمها في سوريا.
من جانبه، قال مدير “الشبكة السورية لحقوق الإنسان”، فضل عبد الغني، إن من الضروري إدخال محاكم الجنايات الدولية إلى سوريا، لكي تعمل ضمن اختصاصها، وتحاكم بضعة أشخاص فقط (خمسة أو ستة أشخاص)، معتبرًا أن هذا المسار مهم، ويجب على الحكومة السورية الجديدة المساهمة بالسماح للمحاكم الدولية بدخول سوريا، للاستفادة من الخبرات التي توفرها، وإصلاح الهيكل القضائي في سوريا.
ولفت أيضًا إلى الحاجة للقيام بتدريب واسع للمحامين والقضاة على التعامل مع هذه الجرائم وبناء ملفات فيها، معتبرًا أنه لا بديل عن المحاكم الوطنية التي ستحاسب الأعداد الأكبر، وبالتالي نحن بحاجة إلى عدد كبير من القضاة والمحامين وتدريبهم، ما يعني ضرورة إصلاح المؤسسة القضائية.
تجنب الفراغ والفوضى
تجسد العدالة الانتقالية مفهومًا ديناميكيًا وغير جامد، بمعنى أنه ليس وصفة جاهزة للتطبيق في كل مكان وزمان وبذات الطريقة والمقاييس، ولذلك لا يمكن استنساخ تجربة من هنا أو هناك لتطبيقها في دول أخرى خارجة من حالات نزاع مع أنظمة استبدادية، بحسب ما ذكره تقرير صادر عن مركز “الحوار السوري” تحت عنوان “العدالة الانتقالية وأهمية إنضاج المقاربة السورية”.
لخص التقرير مجموعة من الأسباب التي تدفع السوريين لإنضاج مقاربتهم الخاصة للعدالة الانتقالية بأسرع ما يمكن وهي:
على الرغم من وجود غنى في المستوى النظري والمعرفي وكذلك طيف واسع من التجارب، من الضروري أن يؤسس السوريون لمبادئ أساسية حاكمة لمنظومة العدالة الانتقالية وبأسرع وقت ممكن، إذ يؤدي الغنى السابق إلى تنوّع شديد في الآراء.
يؤدي التأخر في حسم الإجابات الأساسية إلى نشوء مسارات مبعثرة تؤدي إلى تناقضات عديدة لمنطق العدالة الكلي، كخضوع بعض الأشخاص للمساءلة القضائية في الفترة القريبة وإفلات البعض منها بناء على قانون لاحق، من جانب آخر فإن التأخر في وضع قواعد أساسية للعملية يؤدي إلى فقدان الثقة لدى كثير من ضحايا انتهاكات نظام الأسد بالتحول الحاصل، ويعزز من الانتقام الفردي ويؤدي إلى دوامة من العنف.
ضرورة تفويت الفرصة أمام خلط الأوراق بحيث يبدأ أنصار النظام البائد في المجتمع وبشكل سريع بمحاولة إعادة إنتاجه وأفكاره بطرق وأساليب شتى، ويجمعهم في ذلك على تنوعهم الكره الشديد للثورة والسعي لإحباطها عبر إعادة التموضع في الهياكل الجديدة.
شهدت الحالة السورية انقسامات حادة وعلى مختلف الصعد، لذلك فإن التأسيس السريع لقواعد العدالة الانتقالية الكبرى يسهم في استقرار المجتمع نسبيًا بحيث تحسم قضية المجرم والضحية ومحددات العفو ومواصفات أركان النظام البائد التي لا يجب أن تتسلل للنظام الجديد.
عنب بلدي