سوريا حرة إلى الأبد: مقالات وتحليلات 16 شباط 2025

حرية إلى الأبد: كل المقالات والتحليلات والحوارات التي تناولت انتصار الثورة السورية اعتبارا من 08 كانون الأول 2024، ملاحقة يومية دون توقف تجدها في الرابط التالي:
سقوط بشار الأسد، الرئيس الفار والمخلوع
————————————
تحدّيات الإدارة السورية الجديدة بين المتطلّبات الداخلية والضغوط الخارجية
المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات
16 فبراير 2025
بعد مرور نحو شهرين على سقوط نظام بشار الأسد، في 8 كانون الأول/ ديسمبر 2024، لا تزال الإدارة السورية الجديدة تواجه تحدّيات داخلية وخارجية كبرى، محاوِلةً إعادة تشغيل مؤسّسات الدولة، على الرغم من شُحّ السيولة، وعدم قدرتها على دفع رواتب موظفي القطاع العام، الذين يعيش كثيرون منهم حالة قلقٍ بشأن مستقبلهم الوظيفي، حيث تجري دراسة أوضاعهم وتقييم مدى الحاجة إلى استمراراهم في عملهم. وكانت الإدارة الجديدة عقدت، في 29 كانون الثاني/ يناير 2025، “مؤتمر النصر”، وجمع قادة الفصائل المشاركة في غرفة العمليات العسكرية، وانتهى باتخاذ جملة قراراتٍ، أبرزها وقف العمل بدستور 2012، وحل الجيش والأجهزة الأمنية ومجلس الشعب، وحظر حزب البعث، وحل الفصائل المسلحة المشاركة في غرفة العمليات العسكرية، بما فيها هيئة تحرير الشام، وانتخاب أحمد الشرع رئيسًا انتقاليّاً إلى حين صياغة دستور جديد وإجراء انتخابات.
تحدّيات الداخل
يعدّ ضبط الأمن وتحسين الأوضاع المعيشية أبرز التحدّيات الداخلية التي تواجه الإدارة الانتقالية السورية بقيادة الشرع، وهما مرتبطان ارتباطاً وثيقاً بالقدرة على إعادة تشغيل مؤسّسات الدولة، وتقديم خريطة طريق واضحة للمرحلة الانتقالية. على المستوى الأمني، نجحت الإدارة الجديدة، عشية سقوط النظام، في حفظ السلم الأهلي، من خلال منع وقوع حوادث انتقام على نطاق واسع بين فئات المجتمع، كما تمكّنت من الحفاظ على مؤسّسات الدولة، إذ لم تحدُث عمليات نهب وتخريب كبيرة لحظة سقوط النظام. ومع ذلك، تظلّ التحدّيات الأمنية جسيمة، وفي مقدّمتها جمع السلاح، الذي انتشر على نطاق واسع، حيازةً وتجارةً، في مختلف المناطق السورية عقب سقوط النظام. وعلى الرغم من نجاح الإدارة الجديدة في بسط سلطتها في مراكز المدن الكبرى، فإنها تواجه عقباتٍ أمنيةً في مناطق مختلفة، خاصة في ريف الساحل، حيث تتعرّض قوى الأمن التابعة لها لهجمات متكرّرة، تأخُذ على نحو متزايد طابع حرب العصابات، من جانب فلول النظام السابق التي ترفض التسوية، وتسعى إلى التفاوض على عفو عام عن قادتها وعناصرها. وإضافة إلى ذلك، تعمل الإدارة الجديدة على ضبط مناطق الحدود المشتركة، ولا سيما مع لبنان، حيث تتمركز قوى تعمل في تهريب السلاح والمخدّرات، ويُؤوي بعضُها عناصر من النظام السابق.
وفي حين تسعى الإدارة الجديدة إلى إعادة بناء أجهزة وزارة الداخلية من خلال تجنيد عناصر جديدة وتدريبها، بهدف ضبط مظاهر العنف المجتمعي الناتج، خصوصاً، من توترات طائفية وعمليات انتقامية، وإن كانت محدودة النطاق، يبقى تركيزها منصبّاً على دمج مختلف الفصائل العسكرية ضمن هيكلية وزارة الدفاع الجديدة. وفي وقتٍ أبدت فيه فصائل عديدة موافقتها على حل نفسها والانضمام إلى الجيش الجديد، تواصل فصائل أخرى مقاومة مقترح الدمج بذرائع مختلفة، خاصة في درعا والسويداء. لكنّ التحدّي الأكبر الذي يواجه الإدارة الجديدة في هذا المجال يتمثل في موقف قوات سوريا الديمقراطية (قسد) التي تملك جيشاً يتراوح قوامه بين 40 و60 ألف مقاتل، وتبسط سيطرتها على ثلاث محافظات سورية في شمال البلاد وشرقها (الرقة والحسكة ودير الزور)، تشكّل مجتمعةً نحو ربع مساحة البلاد الغنية بالثروات الطبيعية. وتشترط “قسد” للانضمام إلى الإدارة الجديدة الاحتفاظ بسلاحها، والاندماج بوصفها كتلة، وليس أفراداً، في الجيش الجديد، مع الإبقاء على السيطرة المدنية على مناطقها (من خلال مؤسّسات الإدارة الذاتية التي أنشأتها). بعبارة أخرى، وافقت “قسد” على الاندماج شكليّاً في الإدارة الجديدة، بينما يبقى الوضع فعليّاً على حاله، مع إبداء استعدادها لتقاسم الثروات الطبيعية في مناطق سيطرتها مناصفةً مع دمشق. وتستند “قسد” في مواقفها التفاوضية إلى الدعم الأميركي، حيث لا تزال واشنطن تعتبر وحدات حماية الشعب الكردية، التي تمثل العمود الفقري ل”قسد”، أداتها الرئيسة في محاربة تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام “داعش”، وضبط السجون التي تضم آلافًا من عناصره وعائلاتهم (خاصة في مخيم الهول وسجن غويران). وتعدّ هذه السجون إحدى الأوراق الرئيسة التي تضمن استمرار الدعم الأميركي لها، لذا ترفض قسد التخلي عنها. ولكنّ الولايات المتحدة الأميركية تناقش حاليّاً مع تركيا إمكانية تولّي الأخيرة مسؤولية هذه السجون.
أما اقتصادياً، فتواجه الإدارة الجديدة صعوباتٍ لا تقلّ أهمية عن التحدّيات الأمنية، إذ ورثت بلدًا مدمّراً واقتصاداً منهكاً وبنية تحتية معطّلة. ومع دخول هذه الإدارة شهرها الثالث في الحكم، فإنها لا تزال غير قادرة على إعادة تشغيل مؤسّسات الدولة، أو دفع رواتب موظّفي القطاع العام، الذين لم تُخفِ حكومة تصريف الأعمال رغبتها في التخلّي عن جزءٍ كبير منهم في إطار عملية إعادة هيكلة واسعة، قد تؤدّي إلى الاستغناء عن نحو نصف العاملين فيه. وكان وزير التنمية الإدارية في حكومة تصريف الأعمال حدد حاجة القطاع العام إلى عدد إجمالي من الموظفين والعاملين يراوح ما بين 550 و600 ألف من أصل 1.3 مليون حالياً، كما تحدّث وزير المالية عن عمليات فساد كبرى في مؤسّسات الدولة تشمل وجود نحو 400 ألف موظف “شبح” يتقاضون رواتبهم من دون أن يلتحقوا بأعمالهم فعليّاً. وإذا أضيف إلى هؤلاء عناصر الجيش وأجهزة الأمن ووزارة الداخلية التي جرى حلها، فإن إجمالي عدد الذين فقدوا وظائفهم منذ سقوط النظام يقدّر بنحو مليون شخص، وهذا يهدّد بنشوء كتلةٍ اجتماعيةٍ ناقمة عابرة للطوائف السورية. وفي حال عدم إيجاد فرص عملٍ بديلة، فإن ذلك قد يؤدّي إلى اضطرابات اجتماعية، في المدى المنظور، على خلفية معيشية.
وما يزيد من صعوبة الوضع الاقتصادي تجفيف الحكومة السيولة في الأسواق؛ فمن جهةٍ لا تزال وزارة المالية عاجزةً عن دفع رواتب القطاع العام، ومن جهةٍ أخرى تحاول الاحتفاظ بمستوى معيّن من الاحتياطات النقدية الطارئة، ما أدّى بها إلى تجميد الأموال المودعة في البنوك لصالح التجار والصناعيين، وفرضها سقفاً على عمليات سحب المواطنين للسيولة. وترافق ذلك كله مع غزو البضائع التركية الأسواق السورية عشية سقوط النظام، ما أدّى إلى توقّف شبه كامل لعجلة الإنتاج المحلي. وزيادة على ذلك، ارتفعت قيمة الليرة السورية أمام الدولار بنحو 50% خلال الأسابيع الأخيرة، على الأرجح، بسبب عمليات مضاربة في سوق العملة التي عمّتها الفوضى بعد السماح بتداول العملات الأجنبية. غير أن هذا الارتفاع لم يرافقه انخفاضٌ مماثلٌ في أسعار السلع الأساسية، بل على العكس، إذ ظلت أسعار المحروقات، على سبيل المثال، مرتفعة؛ ما أثّر في حركة النقل، بما في ذلك ذهاب الموظفين إلى أعمالهم، خاصة أن رواتبهم قد توقّفت. وعلاوة على ذلك، يضطر الناس الذين يحتفظون بمدّخراتهم بالدولار أو بالذهب إلى صرف مزيدٍ منها للحصول على الليرة السورية التي صار وجودها نادراً في الأسواق، ما يهدّد ما تبقّى من مدّخرات لديهم.
سياسيّاً، على الرغم من تقديم الإدارة الجديدة أفكاراً (غير متسقة أحياناً) حول ترتيبات المرحلة الانتقالية، فإنها لم توفّق بعدُ في تقديم تصور شامل منسجم بشأنها. وقد حاول الشرع تقديم مقترح للمرحلة الانتقالية، في خطاب ألقاه بعد مؤتمر النصر، حيث نصّبته الفصائل المسلحة رئيساً انتقاليّاً، وأناطت به مسألة تعيين مجلس تشريعي مؤقت إلى حين وضع دستور جديد وإجراء انتخاباتٍ، لكنه لم يحدّد جدولاً زمنيّاً واضحاً لاختيار الهيئة التشريعية، أو لعقد مؤتمر الحوار الوطني، ولم يحدّد صلاحيات هذا المؤتمر ومهماته أيضاً، على الرغم من اتخاذه خطوة نحو ذلك بتعيين لجنة تحضيرية، ولم يُصَغ كذلك إعلان دستوري يحدّد صلاحيات السلطة التنفيذية وسلطاتها بعد وقف العمل بدستور 2012. وفي غياب دستور، أو إعلان دستوري مؤقت، يحكم البلاد ويوضح الصلاحيات ويحدّد الحقوق والواجبات، تتّخذ السلطات الانتقالية قراراتٍ جوهرية، مثل إعادة هيكلة مؤسّسات القطاع العام، واعتماد نظام اقتصادي ليبرالي، مع أنها، من المفترض، لا تمتلك خطة أو توجهًا واضحاً بشأن قضايا البلاد الاجتماعية والاقتصادية وطبيعة نظام الحكم فيها. وعلى الرغم من وجود إجماع وطني على ضرورة إنجاح تجربة الانتقال السياسي في سورية، وهو ما ساعد الإدارة الجديدة في تجاوز عقباتٍ كثيرة من خلال منحها فرصة للقيام بعملها، فإنه بقي غير مفعّلٍ في الممارسة العملية في هذه المرحلة. وفي هذا السياق، لا يمكن أن تحقق الإدارة الجديدة النجاح من دون الاستفادة من القوى والكفاءات الكثيرة القائمة في الداخل السوري، على مستوى المجتمع أو جهاز الدولة، وكذلك في الشتات، ولا ينبغي غربلتها استناداً إلى معايير أيديولوجية.
تحدّيات الخارج
تستثمر الإدارة الجديدة وجود إجماع عربي ودولي على ضرورة احتضان التغيير في سورية ومنع انزلاقها نحو الفوضى. وفي هذا الإطار، كانت الولايات المتحدة، في عهد الرئيس السابق جو بايدن، من أوائل الدول التي بادرت بالتواصل مع القيادة السورية الجديدة، حيث أرسلت وفداً رفيع المستوى من وزارة الخارجية إلى دمشق لحثّها على تشكيل حكومة شاملة وضمان قيادة البلاد بعيداً عن الفوضى. وجاء التحرّك الأميركي مدفوعاً بنجاح الإدارة الجديدة في منع الاقتتال الطائفي وكبح نزعات الانتقام. وفي إثر ذلك، شهدت دمشق زيارات مكثّفة لمسؤولين عرب وأجانب، حيث كان أمير دولة قطر، الشيخ تميم بن حمد آل ثاني، أول رئيس دولة يزورها، في حين كانت المملكة العربية السعودية أول دولة يزورها الشرع بعد تنصيبه رئيساً، قبل أن يتوجه بعد ذلك إلى تركيا. وعلى الرغم من أهمية هذه الزيارات والاتصالات، لم تؤدِّ إلى نتائج جوهرية تتجاوز إطار المساعدات الإنسانية والإغاثية، التي تقدّمها أساساً دول خليجية، وبعض الدول الأوروبية، إلى جانب اتفاق مع قطر في مجال الكهرباء وبعض القضايا الأخرى. وفي الوقت الحالي، يتمثل التحدّي الأبرز في رفع العقوبات الدولية، وسط ترقّب الجميع لتبلور إطار سياسي واضح للمرحلة الانتقالية، يعكس استعداد الإدارة الجديدة للانفتاح على القوى السياسية السورية وعدم الاستئثار بالسلطة، أو فرض لون أيديولوجي معيّن على المجتمع السوري المتعدّد الطوائف والتوجهات السياسية والاجتماعية.
وعلى الرغم من تعليق الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي بعض العقوبات المفروضة على سورية، لم يقلّل هذا الأمر من الحذر إقليميّاً ودوليّاً بشأن زيادة المساعدات المقدّمة إلى سورية، في انتظار تبلور موقف إدارة الرئيس الأميركي الحالي دونالد ترامب من التغيير في سورية، ووجود مخاوف من تأثره بالموقف الإسرائيلي غير المتحمّس للنظام الجديد في دمشق.
وفي حين أن الإدارة السورية الجديدة، ومعها دول عديدة، تدعو إلى رفع العقوبات الأميركية والأوروبية بالكامل، باعتبار أنها كانت مفروضة على النظام السابق، بهدف تشجيع تدفق الاستثمارات السورية والعربية والأجنبية، وإطلاق عملية إعادة الإعمار، فإن سورية تواجه تحدّيات خارجية رئيسة مصدرها إسرائيل خصوصاً، فمنذ سقوط النظام، كثّفت إسرائيل عملياتها العسكرية داخل الأراضي السورية، حيث تتوغل يوميّاً فيها، واحتلت نحو 600 كيلومتر مربع إضافية من الأراضي السورية، بما فيها كامل المنطقة العازلة التي أُنشئت بموجب اتفاقية فضّ الاشتباك بين سورية وإسرائيل لعام 1974. كما دمرت القدرات العسكرية السورية بنسبة تصل إلى 85% عشية سقوط النظام، بهدف إفقاد السلطات الجديدة القدرة على بسط سيادتها على كامل الأراضي السورية. وفي الوقت نفسه، تحاول تشجيع النزعات الانفصالية من خلال مد الجسور مع بعض الفئات داخل المجتمع السوري، ولا سيما “قسد”.
في المقابل، تواجه الإدارة الجديدة ضغوطاً تركية كبيرة من أجل التخلي عن المسار الدبلوماسي، والتحرّك عسكريّاً ضد “قسد” المدعومة أميركيّاً، لاستعادة السيطرة على مناطق شرق الفرات، وطرد قوات حزب العمال الكردستاني منها. وبالتوازي مع ذلك، تضغط تركيا من أجل إحياء اتفاقية التجارة الحرّة لعام 2007 مع سورية، وتحاول التحرّك سريعاً لترسيم الحدود البحرية مع السلطات الجديدة في دمشق؛ ما من شأنه أن يعزّز موقفها في النزاع مع قبرص واليونان بخصوص استثمار ثروات شرق البحر الأبيض المتوسط. وقد تؤدّي هذه الخطوة إلى توتّر مع الاتحاد الأوروبي، الذي يمارس ضغوطًا على الحكومة السورية الجديدة لإغلاق القواعد العسكرية الروسية في طرطوس وحميميم. وأمام هذه المعادلات الإقليمية، تحاول الإدارة السورية الجديدة تجنّب القطيعة كليّاً مع روسيا، التي تحتاج إليها في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة من أجل رفع تصنيف أحمد الشرع وهيئة تحرير الشام من قوائم الإرهاب، وهي خطوة مهمّة نحو كسب الاعتراف بشرعية النظام الجديد في دمشق الذي يجهد لتحقيق توازن دقيق في علاقاته الخارجية في بيئة إقليمية ودولية شديدة التنافسية.
خاتمة
تواجه الإدارة السورية الجديدة مجموعة واسعة من التحدّيات الخارجية والداخلية، التي تحتاج إدارتها إلى كثير من الحنكة والصبر، ولا سيما في واقع أمني واقتصادي وسياسي معقّد خلّفته عقود من سياسات النظام السابق، فضلاً عن تضارب المصالح الإقليمية والدولية في سورية. وحتى تنجح هذه الإدارة في التعامل مع هذه الاستحقاقات، تحتاج إلى التخلّي عن حذرها في التعامل مع المجتمع السوري، بما يسمح بإدماج كل فئاته في عملية إعادة بناء الدولة. وإضافةً إلى ذلك، ينبغي تبنّي خطة واضحة متكاملة ومتفق عليها للانتقال السياسي، تشمل مساراً واضحاً للعدالة الانتقالية، بالتوازي مع عملية مصالحة وطنية، تساعد في طيّ صفحة النظام السابق نهائيّاً والتطلع إلى المستقبل في بناء سورية الجديدة.
العربي الجديد
————————
لماذا لا يحق لطهران مطالبة دمشق بـ”الديون البغيضة” بل عليها ان تدفع تعويضات؟/ توفيق شنبور
مطالعة قانونية خاصة بـ”المجلة” تفند المبادئ العالمية لهيئات ومراجع في القانون الدولي والاقتصاد لتصنيف الديون
16 فبراير 2025
بعد أسبوع من هروب بشار الأسد من سوريا، نشرت صحيفة “التايمز” البريطانية في 15 ديسمبر/كانون الاول 2024 تقريرا أعده ماثيو كامبل بعنوان “إيران خسرت الأسد ومعه 50 مليار دولار”. وتساءل الكاتب في تقريره عن إمكان إعادة هذا المبلغ الضخم إلى رعاة الأسد في طهران.
وكانت جهة معارضة إيرانية أعلنت قبل أكثر من سنة في مايو/أيار2023 حصولها على “وثيقة سرية مسربة من مؤسسة الرئاسة الإيرانية” تؤكد أن الـ50 مليار دولار هو المبلغ المقدر الذي أنفقته الحكومة الإيرانية في الحرب الأهلية السورية من دون الاتفاق على كيفية استرداده، نقدا أو في إطار مشاريع اقتصادية. ثم عادت المعارضة الإيرانية وتحدثت عن وثيقة أخرى “تؤكد أن ديون إيران على سوريا يصعب استردادها”.
بعد يومين من نشر تقرير كامبل، عقد المتحدث باسم الخارجية الإيرانية إسماعيل بقائي مؤتمرا صحافيا في غرفة غير مدفأة في الوزارة التي يعمل فيها بسبب انقطاع الغاز، وهو أمر أثار الكثير من الانتقادات الشعبية، إلى جانب انقطاع الكهرباء المستمر في إيران نتيجة نقص التمويل بفعل تحويل الأموال إلى خارج البلاد طوال أكثر من عقد مضى.
وقال في هذا المؤتمر “إن الرقم الذي يتم تداوله على أنه دين مستحق على سوريا لإيران مبالغ فيه، وإن الاتفاقات والمعاهدات ومذكرات التفاهم التي وقعت بين البلدين، ليست بين مجموعات أو حكومات موقتة بل هي بين دولتين. لذلك، جميع الالتزامات المتأتية عنها لا تزال قائمة ولا يمكن أن تختفي، وأي نظام أو حكومة يتوليان السلطة في أي من الدولتين، يلتزمان مبدأ ‘خلافة الدولة’ وهو مبدأ معترف به في القانون الدولي وتنتقل بمقتضاه الحقوق والواجبات”.
وخلص إلى دعوة الحكم الجديد في دمشق إلى التزام تعهداته وفقا للاتفاقات والعقود المبرمة مع نظام الأسد، مشيرا إلى أن القضية ستشكل جزءا من تعاملات إيران المستقبلية مع حكومة دمشق الجديدة.
التحلل من مبدأ “العقد شريعة المتعاقدين”
يستند كلام بقائي كما ألمح إلى المبدأ القانوني المعروف “العقد شريعة المتعاقدين” باللاتينية Pacta sunt servanda، وهو مبدأ متفق عليه في علاقات الأطراف في إطار القوانين المدنية والتجارية، وأيضا في إطار القانون الدولي العام، وفقا للمادة 26 من اتفاقية فيينا لقانون المعاهدات عام 1969، التي تنص على “أن المعاهدة ملزمة لأطرافها وعليهم تنفيذها بحسن نية”. وقد اعتُمد المبدأ في القانون الكنسي لعام 1983. ووردت في القرآن الكريم في سورة الإسراء، الآية “وأوفوا بالعهد إن العهد كان مسئُولا”.
وبهذا التوجه ذكر ميتو جولاتي وأوغو بانيزا في كتابهما “ديبلوماسيات الديون السيادية: إعادة النظر في الديون السيادية من زمن الإمبراطوريات الاستعمارية الى زمن الهيمنة”، “أن القاعدة العامة للخلافة الحكومية في القانون الدولي صارمة ومفادها أن الحكومات ترث ديون أسلافها مهما كانت الخلافات السياسية بين الحكومات”.
بمرور الوقت، تبين من التطبيق العملي أن هناك ضرورة لتلطيف مبدأ “العقد شريعة المتعاقدين” في العلاقات الدولية، من خلال مبدأ آخر عرف باللاتينية باسم “Clausula rebus sic stantibus”، ومضمونه أن أحكام المعاهدة أو الاتفاق تظل قابلة للتطبيق فقط إلى الحد الذي تبقى فيه الظروف الأساسية التي بررت إبرامهما بشكلهما.
هروب الأسد من الحكم يبرر وقف الالتزامات
وعلى هذا الأساس، جرى تضمين اتفاقية فيينا لقانون المعاهدات نصا ورد في المادة 62 منها يجيز الاحتجاج بالتغيير الجوهري غير المتوقع في الظروف التي كانت سائدة عند توقيع الاتفاق، كأساس لإيقاف العمل بالاتفاق أو المعاهدة أو الانسحاب منهما، شرط ان تكون الظروف سببا رئيسا لرضا الأطراف، وأن يكون التغيير دافعا لتبديل مدى التزامات أي من الأطراف بصورة جذرية. ما سبق، ينطبق في الحقيقة على العلاقة بين إيران وسوريا، حيث تبدلت الظروف جذريا بعد هروب بشار الأسد من الحكم، مما يبرر وقف الالتزامات والمنافع المتبادلة بحسب المادة 62 الآنفة الذكر، لا بل إمكان التملص منها.
التخلي عن الديون في تجربة الحرب الأهلية الأميركية
وقد عُمل بمنحى إلغاء الديون بعد تغيير الحكومات منذ ثلاثينات القرن التاسع عشر في الولايات المتحدة عندما تخلت ولايات ميسيسيبي وأركنساس وفلوريدا وميشيغان عن ديونها بعد تمرد المواطنين وتغيير الحكومة، وكانت الحجة إساءة استخدام الأموال المقترضة وخيانة الأمانة من جانب المقترضين والمقرضين. وحدثت موجة ثانية من الرفض بعد عام 1877 مع تخلي ثماني ولايات جنوبية عن ديونها بإصدار مرسوم يقضي بأن الديون المتراكمة خلال الفترة ما بين نهاية الحرب الأهلية 1865 و1877 نتجت من الاقتراض غير المشروع للسياسيين الفاسدين.
لجنة إلغاء الديون غير المشروعة (CADTM): الدعم المالي لنظام إجرامي حتى ولو كان مخصصا لغايات اجتماعية إنسانية، هو ترسيخ وتمكين لهذا النظام ووجهة القروض ليست أساسية في تصنيف الدين ما إذا كان بغيضا أم لا
القانوني الروسي الشهير ألكسندر ناهوم ساك
وتوالى الأمر خلال القرن العشرين، ومن أمثلته كوستاريكا، حيث أعلن التخلي عن الديون التي تعاقد عليها النظام السابق بعد تغييره في عام 1919. وفي شباط 1918 تخلت الحكومة السوفياتية عن جميع الديون التي تكبدها النظام القيصري وتم إلغاء ديون ناميبيا لجنوب أفريقيا من قبل حكومة نيلسون مانديلا في عام 1994، وغيرها من الأمثلة.
جدير بالذكر أن لجنة إلغاء الديون غير المشروعة (CADTM) أشارت في أحد تقاريرها إلى أنه حتى في حالة عدم وجود تغيير في الحكومة أو النظام، يمكن الدولة أن تفرض خفضا للديون على دائنيها من خلال اتخاذ إجراءات أحادية تساعد سكانها. أيضا، أصدرت محكمة العدل التابعة للاتحاد الأوروبي عام 2019 حكما قضت فيه بأنه يمكن الدولة في حالات خاصة تعديل التزامات ديونها من جانب واحد.
الديون السورية “ديون بغيضة” بتوصيف إيران نفسها
تستطيع الحكومة السورية الحالية، حتى ولو لم تكتسب الصفة الشرعية، وبصفتها حكومة أمر واقع، وكذلك الأمر بالنسبة لأي حكومة مستقبلية، إعلان التوقف عن دفع أي ديون مترتبة على سوريا لصالح إيران، بذريعة أن هذه الديون “بغيضة” أو “كريهة”، من الجائز التملص منها.
وهذه الذريعة سبق لإيران نفسها أن تمسكت بها إزاء الولايات المتحدة الأميركية عام 1982 ردا على مطالبة الأخيرة لها بمبلغ كبير من المال بموجب عقد مؤرخ عام 1948 يتعلق بشراء إيران بعض المعدات العسكرية. وكانت حجة إيران أن الديون المطالب بها “بغيضة”، وقد فرضتها الولايات المتحدة على نظام سابق وهي غير قابلة للتحويل إلى حكومة جمهورية إيران الإسلامية.
خلاصات القانوني الروسي الشهير ألكسندر ناهوم ساك
كذلك، تستطيع الحكومة السورية أن تستند إلى الخلاصات التي توصل إليها القانوني الروسي الشهير ألكسندر ناهوم ساك الذي كان أول من تناول بالبحث والتمحيص مصير الاتفاقيات المالية الدولية بعد تغيير الأنظمة السياسية، والتي حصلت طوال مئة وخمسين عاما، وذلك في معرض تأليفه كتابا نشر باللغة الفرنسية وحمل عنوان “آثار تحولات الدول على ديونها العامة والتزاماتها المالية الأخرى”.
وقد ألمح ساك في مقدمة كتابه إلى “أنه عندما يتعاقد نظام استبدادي على دين ليس لتلبية احتياجات دولته أو خدمة لمصالحها، بل لتعزيز قوته أو قمع تمرد شعبه أو ما إلى ذلك، فإن هذا الدين يصبِح “دينا بغيضا” لأنه يلحق الضرر بالشعب. بناء على ذلك، لا ينبغي أن يكون سداد “الديون البغيضة” المستحقة على أنظمة استبدادية إلزاميا، لأنه كان من الواجب على الجهة المقرضة أن تعلم أن اتفاق الدين تم دون موافقة الشعب أو لصالحه”.
وأضاف “مثل هذه الديون لا تلزِم الأمة، فهي ديون لصالح النظام. إنها ديون شخصية تعاقد عليها الحاكم وهي تسقط بزوال النظام، ولو خلفه نظام استبدادي آخر”. وينهي “إنه في ظروف معينة، سيتعين على الدائنين قبول إلغاء ديونهم إذا ثبتت قباحتها”.
من جهة أخرى، رأى ساك أن بعض الديون التي يتعاقد عليها نظام استبدادي يمكن أن تكون مفيدة للسكان، على سبيل المثل، بناء الطرق أو غيرها من مرافق البنية التحتية العامة. بالتالي، هذه الديون ليست كريهة، وفي حال تغيير النظام، يجب سدادها. منحى يخالف ما خلصت إليه لجنة إلغاء الديون غير المشروعة (CADTM) من أن الدعم المالي لنظام إجرامي حتى ولو كان مخصصا لغايات اجتماعية إنسانية مثل بناء المستشفيات أو المدارس، هو ترسيخ وتمكين لهذا النظام ووجهة القروض ليست أساسية في تصنيف الدين ما إذا كان بغيضا أم لا.
فنظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا تلقى تمويلا خارجيا واسع النطاق أنفق على البنية التحتية، مما سمح بإطالة عمر النظام على الرغم من دعوة الأمم المتحدة إلى مقاطعته وطلب البنك الدولي وقف تقديم الدعم المالي له.
لا يجوز أن تتحمل الأجيال جنون من سبقها
الطبيعة الاستبدادية للنظام ليست بالنسبة الى ساك الشرط الوحيد الضروري لتحديد “الطبيعة البغيضة للدين” الذي يمكن أن يتنصل منه من يخلف النظام كما يعتقد البعض، لأن الأخذ بهذا المعيار من شأنه أن يؤدي إلى شلل النظام الدولي للائتمان العام برمته وحرمان العالم من فوائده. فالمهم هو وجهة استخدام الدين، فيكون بغيضا إذا تم التعاقد عليه ولو مع حكومة ديمقراطية لتلبية احتياجات تتعارض بشكل صريح مع مصالح الأمة أو الشعب أو الدول، وإذا كان الدائنون، عند منح الائتمان، على علم أو كان بإمكانهم معرفة وجهته البغيضة. ولا يهم بعد ذلك أن تكون السلطة “ملكية مطلقة أو محدودة أو جمهورية وسواء أتت من ‘نعمة الله’ أو من ‘إرادة الشعب’ أو جزء منه”.
لتلبية احتياجات تتعارض بشكل صريح مع مصالح الأمة أو الشعب أو الدولة، وإذا كان الدائنون، عند منح الائتمان، على علم أو كان بإمكانهم معرفة وجهته البغيضة. ولا يهم بعد ذلك أن تكون السلطة “ملكية مطلقة أو محدودة أو جمهورية وسواء أتت من ‘نعمة الله’ أو من ‘إرادة الشعب’ أو جزء منه”.
وكان الفقيه الألماني غوستاف هوغو قد كتب قبل ساك في القرن التاسع عشر أنه “ليس من الممكن أن نطلب من أي جيل أن يتحمل العواقب المترتبة على جنون من سبقوه”.
تاريخيا، تعتبر عدم مطالبة الشعب السيادي والحر باحترام المعاهدات والالتزامات التي يعقدها قادته الطغاة أحد المبادئ العظيمة التي أكدتها الثورة الفرنسية عام 1789. وفي عام 1792، أسقط المؤتمر الوطني الفرنسي ثلثي الديون التي تعاقد عليها النظام القديم. كذلك، أدت الثورة الأميركية عام 1776، إلى إلغاء العديد من المعاهدات من جانب واحد.
أربع حالات يعتبر النظام فيها بغيضا
يحدد مركز التنمية العالمية (CGD) أربع حالات يعتبر النظام فيها بغيضا، وبالتالي ينطبق ذلك على الديون التي يقترضها:
أولا، إذا انتهك حقوق الإنسان في التعامل مع شعبه.
ثانيا، استخدامه القهر العسكري مع مواطنيه.
ثالثا، ارتكابه جريمة التزوير الانتخابي.
رابعا، سوء إدارته الأموال العامة أو اختلاسها.
اتصف نظام آل الأسد الذي حكم سوريا على مدى أكثر من خمسين عاما بجميع الحالات الأربع المذكورة. ما يؤكد ذلك، البراميل المتفجرة والأسلحة الكيميائية التي استخدمها جيش النظام ضد معارضيه، كما الصور والشهادات التي يتم تداولها عن شتى وسائل التعذيب في السجون السورية، في مقدمها سجن صيدنايا الذائع الصيت، والتي ذهب ضحيتها أكثر من مئة ألف سجين، وأيضا الحشود الشعبية التي ملأت الساحات للتعبير عن فرحتها بالتخلص من نظام آل الأسد، مما يدحض سلامة الانتخابات التي كانت تجرى في السابق. وكذلك سيطرة أفراد من آل الأسد ومقربين منهم على المفاصل الاقتصادية الأساسية في البلاد.
عدم موافقة الشعب السوري كشرط
نشرت مجلة “التمويل والتنمية” الصادرة عن صندوق النقد الدولي في أبريل/نيسان 2002 مقالا لمايكل كريمر، الأستاذ في كلية الاقتصاد في جامعة “هارفرد”، وسيما جاياشاندران، إحدى المتخرجات في الجامعة، عن “الديون البغيضة” ذكرا فيه أن العديد من الدول النامية تعاني من ديون تراكمت على عاتق حكام اقترضوا من دون موافقة شعوبهم، واستخدموا الأموال إما لقمع هذه الشعوب أو لتحقيق مكاسب شخصية.
وقد فسر خبراء نشر المجلة لهذا المقال على أنه تبنٍّ من الصندوق لفكرة اشتراط “غياب موافقة الشعب” لتصنيف “الديون البغيضة”، وأيضا على أنه توجه من الصندوق، ومعه البنك الدولي ونادي باريس، من أجل تقديم تعريف جديد لهذه الديون يصب في مصلحة الدائنين، خصوصا من القطاع الخاص، وهو يتضمن ضرورة سداد الديون الدولية قبل صرف أي قرض يتفق عليه مع الصندوق أو البنك الدوليين. واستمرار ذلك من شأنه أن يضغط على الدول المدينة لتسديد ديونها حتى لو كانت بغيضة تنفيذا للشرط الذي فرض عليها، وأيضا تجنبا لمصادرة أصولها في الخارج وتشويه سمعتها، مما يزيد صعوبة اقتراضها من جديد أو جذبها للاستثمارات الأجنبية.
أما بالنسبة الى سوريا، حتى مع التعريف المتشدد لصندوق النقد وخلفياته، تبقى الديون السورية لإيران غير قابلة للسداد لعدم وجود موافقة عليها من الشعب السوري وفقا للآلية المقترحة من الاقتصاديين كريمر وجاياشاندران.
القانون الدولي ومفهوم “الديون البغيضة”
عدم تحديد القانون الدولي مفهوم “الديون البغيضة” غير الشرعية الجائز عدم سدادها، دفع البعض، ومنهم الاقتصاديان كريمر وجاياشاندران، إلى اقتراح خيارات عدة لتقييم شرعية الأنظمة الحاكمة وإعلان أي ديون سيادية تتكبدها هذه الأنظمة، فلا تقع على عاتق الحكومات التي ستخلفها. منها إنشاء هيئة من قضاة محترفين ومستقلين لتقييم شرعية الديون على غرار محكمة العدل الدولية في لاهاي أو المحكمة الجنائية الدولية، أو قيام مجموعة من الشخصيات البارزة من رؤساء دول سابقين، كالرئيس الراحل نيلسون مانديلا مثلا، ومحامين دوليين وممثلين عن منظمة الشفافية الدولية وحقوق الإنسان، بإصدار قائمة دورية بالأنظمة الشرعية.
مع هذا، من غير المتوقع أن تكون هناك عمليا عوائق أو تداعيات لأي قرار قد تتخذه أية حكومة سورية بوقف سداد ديون بلادها البغيضة لإيران ومصادرتها الاستثمارات المرتبطة بهذه الديون أيا كانت آجالها، لصعوبة مجاراة الدول الغربية إيران في أية إجراءات قضائية قد تتخذها ضد سوريا ردا على تملصها من السداد. لا بل من المتوقع أن تقترن أية مساعدات خارجية لسوريا بشرط توقف الأخيرة عن دفع الديون البغيضة التي اقترضها نظام الأسد من المؤسسات العامة والأفراد في إيران.
مطالبة سوريا إيران بالتعويض
من جهة أخرى، تناقل عدد من وسائل الاعلام والمواقع الالكترونية خبر عزم الحكومة السورية على مطالبة إيران بدفع تعويضات مقدارها 300 مليار دولار عن “الأضرار التي لحقت بالسوريين والبنية التحتية السورية بسبب سياساتها التعسفية خلال تحالفها العسكري مع الميليشيات العاملة معها لصالح نظام الرئيس السابق بشار الأسد”، من دون الإشارة إلى أية إجراءات ستتخذها في هذا الإطار.
الطلب ممكن من حيث المبدأ، انطلاقا مما ذكره ألكسندر ساك في كتابه من أن الدائنين الذي يبرمون “ديونا بغيضة” مع الحكومات لأغراض تتعارض، بعلمهم، مع مصالح الأمة، يرتكبون “عملا عدائيا” ضد الشعب. مما يؤسس ليس فقط لتخلص سوريا من ديونها “البغيضة” بل لمطالبتها أيضا إيران بالتعويض عن مجمل التبعات والأضرار التي لحقت بالأفراد والممتلكات العامة والخاصة جراء دعمها العسكري والمالي لنظام الأسد.
يبقى من المهم هنا تحديد الجهة التي ستنظر في هذه التعويضات وتبتّها، هل هي المحاكم المحلية أو الدولية، أم لجنة خاصة كلجنة الأمم المتحدة للتعويضات التي أنشأها مجلس الأمن عام 1991 للتقرير في التعويضات عن الخسائر الناجمة عن غزو العراق للكويت؟
المجلة
——————————-
شرق الفرات ومعضلة قسد في سورية/ رانيا مصطفى
16 فبراير 2025
تستمرُّ المفاوضات بين “قوات سوريا الديمقراطية” (قسد)، بقيادة مظلوم عبدي والحكومة الانتقالية في دمشق، بشأن الاندماج ضمن وزارة الدفاع السورية وتوحيد الأراضي السورية. يرفع عبدي سقفَ شروطه للانضمام ككتلة واحدة ضمن الجيش ومحاصصة سياسية لجناحه المدني “مجلس سوريا الديمقراطية” ضمن الحكومة، وحصص من الثروات النفطية والزراعية في شرق الفرات، الأمر الذي ترفضه حكومة دمشق. استمرار المفاوضات يعني أن لا رغبة لدى الطرفين في القتال، فمن الواضح أن توجهات حكومة دمشق، ومنذ بدء عملية ردع العدوان، هي بتجنب القتال، وتحقيق المكاسب بالطرق السلمية ما أمكن، فيما يبدو أن عبدي يُجيد قراءة التغييرات السياسية التي حصلت في سورية والمنطقة، حيث انقلبت كلُّ موازين القوى والتحالفات السابقة، ويحاول البحث عن مكاسب ممكنة ضمن الترتيبات الجديدة لسورية.
بات واضحاً أن المجتمع الدولي يُريد استقراراً في سورية والمنطقة، وقد وضع سقوط نظام الأسد نهاية لكلِّ محور المقاومة الإيراني، وكذلك لم تعد سورية منطقة نفوذ لروسيا، وبات الحكّام الجدد يسعون إلى الانكفاء وتحقيق حالة من التوازن في العلاقة مع الخارج. ومن تداعيات “طوفان الأقصى” والحرب على غزّة وما تبعه من تفجُّر الصراع في المنطقة أن الغرب بات يميل إلى التهدئة، ومن مصلحته توحيد الأراضي السورية وإنهاء فوضى السلاح، وهو يدعم حكومة دمشق في ذلك. هذا يعني أن وضع “قسد” والإدارة الذاتية لن يبقى على حاله. عبدي يمرّر الوقت بانتظار اتّضاح أمرين؛ الأوّل موقف الرئيس الأميركي ترامب حول جدية وكيفية انسحاب القوات الأميركية من سورية، وقد صرّح الأخير بذلك، وأوكل لفرنسا مهمّة ترتيب وضع شرق الفرات، وهي تتصدّر الإشراف على ترتيب الوضع السوري، باستضافتها مؤتمراً يخصّ سورية الخميس الفائت، حضرَه وزير الخارجية السوري أسعد الشيباني، وأبدت حماسها لتمكين الإدارة الجديدة من السيطرة وفتح سفارتها في دمشق، لكن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون لمّح إلى نية التحالف الدولي دعم مصالح حلفائه في قتال تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) و”قسد” في أثناء حديثه عن ضرورة دمجهم في الدولة الجديدة، وهو معني بترتيب الوضع الجديد مع دمشق في ما يخص منع عودة داعش. الثاني الخطاب المرتقب لعبد الله أوجلان، والمتوقع أن يدعو فيه إلى إلقاء السلاح مقابل إطلاق سراحه، ضمن خطّة المصالحة بين الحكومة التركية وحزب العمال الكردستاني التي تتوسط بها أحزابٌ سياسية تركية بارزة، لحل الملف الكردي داخلياً. ويبدو أن الرئيس أردوغان يميل إلى هذه المصالحة، وقد دفع الفصائل السورية التي كانت تعملُ ضمن الأجندة التركية لقتال وحدات الحماية الكردية وعناصر حزب العمال الكردستاني إلى الاندماج تحت مظلَّة وزارة الدفاع، وهذا يعني أنه لم يعد بإمكانها شن معركة ضدّ “قسد” إلا بقرار من دمشق، كما أن أنقرة دفعت بالائتلاف السوري المعارض إلى الحوار مع دمشق وحل نفسه وربما المشاركة في العملية السياسية.
إلى جانب الرغبة الدولية والتركية لتمكين الرئيس السوري الانتقالي أحمد الشرع من السيطرة على كل الأراضي السورية، تراهنُ دمشق على الانقسامات داخل تنظيم قسد؛ فهناك تيار مظلوم عبدي، المقرب من أوجلان ومن الغرب، الراغب في المفاوضات مع تحقيق مكاسب، فيما الجناح المقرّب من إيران، والمكون من قادة حزب العمّال الكردستاني في جبال قنديل وهم سوريون وأتراك، يرفضون، ويحملون أجندات غير سورية، ويشكلون كتلة وازنة ضمن “قسد”. أما العرب فيها، فقد يعلنون انشقاقهم في حال رجحان الكفة الرافضة للتفاوض مع دمشق.
لا تمثِّل قسد، وشكلُ الإدارة الذاتية التي تشرف عليها، طموحات أكراد سورية، وهذه القوات تنظيمٌ تبنَّاه التحالف الدولي لقتال داعش ويضمُّ أجندات غير سورية. بالأصل نواة التنظيم هو حزب الاتحاد الديمقراطي، الفرع السوري لحزب العمال الكردستاني، وقد سلَّمَه نظام الأسد مهمّة قمع الأحزاب الكردية التي شاركت في الثورة السورية في 2011. وسبق أن ذكر الرئيس الشرع مظالم الأكراد السوريين في عهد النظام البائد؛ وهذا لا يتفق مع نية اللجنة المكلفة من الرئاسة للتحضير لمؤتمر الحوار الوطني تجاهل مشاركة الأكراد، بما فيها أحزاب المجلس الوطني الكردي، بحجة عدم إلقاء قسد السلاح. إن النظر في كيفية تلبية مطالب الشعب الكردي في سورية وتطمينه سيسهِّل على الشرع وحكومته مهمَّة المفاوضات مع قسد. والتطمين ليس بالكلام، بل بإعداد خطَّة متكاملة ومؤطّرة زمنياً للمرحلة الانتقالية عبر إعلان دستوري مثلاً، وتتضمن كيفية توسيع دائرة مشاركة السوريين جميعاً، ومنهم الأكراد، في تقرير مصير سورية.
من الواضح أن الميول الانفصالية، إن وجدت في مراحل سابقة لدى قسم من أكراد سورية، ليست أصيلة، بل وليدة ظروف إرث التهميش في العقود السابقة، ووليدة القوة التي حظيت بها قسد نتيجة تبنِّي التحالف الدولي دعمها. وأكراد سورية، ككل السوريين، يتطلعون اليوم إلى حياة كريمة وآمنة وإلى نيل حقهم في ممارسة حقوقهم الثقافية، والتحدث بلغتهم والتعلم بها، فيما تحتاج كل المنطقة الشرقية، عرباً وكرداً، إلى ضمانات بألا يتكرر التهميش الذي تعرضت له في سنوات حكم البعث، خاصة في ما يتعلق بالتنمية الاقتصادية والخدمات.
من اللافت عند تناول الملف الكردي في سورية عدم تجاوز كيفية معالجة الشرخ العربي الكردي، والذي يعود إلى ثقافة التعالي العربية تجاه القوميات الأخرى، والقائمة على إرث الأدلجة القومية التي تبنَّتها الأحزاب القومية التي حكمت البلاد العربية، ومنها حزب البعث في كل من سورية والعراق، وغذَّى هذا التعالي خلال سنوات الثورة السورية الخطاب المعادي لدى جزء من النخب السورية التي كانت تدور في فلك الأجندة التركية، وبرَّرت اقتتال فصائل إسلامية مع تنظيم “قسد” تحقيقاً للمصالح التركية وحسب. ولا ننسى هنا أن الدعم الدولي لقسد ضخّمها، وزاد من الوهم الكردي بإمكانية الاستقلال. هذا التعالي العربي يصل إلى حدّ الشوفينية، فهناك دعوات تظهر هنا وهناك تدعو إلى محاربة “قسد”، رغم ميل الإدارة الجديدة إلى الحلول السلمية. أعتقد أن نقاش كيفية معالجة القضية الكردية في سورية يبدأ من نقاشٍ آخر لا يُطرح اليوم كثيراً، وهو نقاش إشكالية القومية العربية في سورية، وكيفية نزعها من إرث الإيديولوجيا السابقة، وهذا لا يحلّ باستسهال مقولة “جمهورية سورية” وحذف كلامي لعروبتها، بل يحتاج إلى نقاش معمَّق تُعنى به النخب السورية.
العربي الجديد
————————————–
مؤتمر باريس… دعم ووعود لسورية/ فاطمة ياسين
16 فبراير 2025
تفاعل المجتمع الدولي بشكل جيد مع سورية بعد سقوط نظام الأسد، وتسارعت دول عربية وأجنبية إلى إظهار دعم عملية التغيير المفاجئة التي حدثت. وأمس، اجتمعت 20 دولة مرة أخرى في باريس، ولهذه المدينة دلالة، حيث تمثل باريس مع برلين قلب الوحدة الأوروبية، ووزيرة خارجية ألمانيا شاركت في الاجتماع الذي كان عنوانه العريض دعم سورية… وتحت هذا المسمّى أصدر المجتمعون بياناً اعتبروه سيشكل وحدة سياسية وقانونية بشأن ما يمكن أن يحدث في سورية، وقد كان التمثيل متنوعاً وشاملاً، فقد جاءت دول مجلس الأمن التي لم تكن داعمة لنظام بشّار الأسد، وحضرت دول الجوار، بما فيها العراق ولبنان، ومن أميركا الشمالية جاءت كندا والولايات المتحدة، وكان مندوب اليابان بما تمثله هذه الدولة في قارّة آسيا من الحضور. كان هؤلاء جميعاً في قاعدة واحدة، وأصدروا بياناً وضع أملاً كبيراً في أحمد الشرع بشكل شخصي لاستكمال المرحلة الانتقالية، مع اعتبار أن الحكومة الحالية ستتغيّر كما وعد الشرع بعد أن يمر عليها ثلاثة أشهر، تتجاوز فيها سورية منعطفاتها الأمنية الخطيرة، وتثبت الأمن في البلاد، وسيكون إعلان التشكيل الجديد للحكومة بعد مرور الشهر المتبقي، ولكن البيان ذكّر الشرع بأن الوزارة الجديدة يجب أن تكون شاملة وذات تمثيل يحمل مصداقية شعبية. جرت صياغة البند وكأنه توصية، رغم أنه يمكن أن يكون شرطاً، إذ أكد البيان على ضمان نجاح المرحلة الانتقالية ما بعد الأسد، في إطار عمليةٍ يقودها السوريون ويتسلّمون زمامها، وقد أشار البيان إلى الأخذ بروح المبادئ الواردة في قرار مجلس الأمن 2254، وقال المبعوث الأممي، غير بيدرسون، إن القرار يمكن تعديله وفق المعطيات الجديدة، باعتبار أن نظام الأسد قد سقط، ويمكن تحوير بعض البنود التي جاءت على ذكره.
وقع وزير الخارجية السوري أسعد الشيباني موافقاً على ما ورد في البيان، وهذا يعكس بالطبع رأي الإدارة الجديدة وقبولها تنفيذ بنوده بالسرعة الممكنة، وكان قرار تشكيل اللجنة المشرفة على مؤتمر الحوار الوطني في الداخل قد سبق انعقاد المؤتمر بيوم، ما شكّل تمهيداً موفقاً ربما ساعد في الحصول على مكافأة في نهاية الاجتماع، فبالإضافة إلى تقديم 50 مليون يورو لدعم جهود الاستقرار في سورية، دعا ماكرون الرئيس الشرع إلى زيارة باريس، وهي خطوة دبلوماسية هامة في تثبيت الإدارة الجديدة، فماكرون يمثل ثقلاً في الاتحاد الأوروبي، ويمكن أن تنسحب خطوته على طول هذه المنظمة، وكان من النتائج الجيدة تشديد البيان، وكذلك فعل ماكرون على مسار العدالة الانتقالية، بمعنى أن المجتمعين لم ينسوا ما حصل خلال الأعوام الأربع عشرة المنصرمة للشعب السوري، وكمية المعاناة التي لحقت به. ويجعل هذا البند باب المطالبة بكل المجرمين الفارّين خارج سورية مفتوحاً، حتى سوقهم إلى العدالة. لكن تنفيذ مطلب ماكرون دمج قوات سوريا الديمقراطية (قسد) ضمن الجيش السوري الجديد يبقى معلَّقاً، ففي الداخل لم يأتِ منظّمو مؤتمر الحوار الوطني لرسم مستقبل سورية على ذكر أي تمثيل لشرق الفرات.
مؤكد أن الاجتماع في باريس لن يكون الأخير، ولكن من المهم تنفيذ ما ورد في خريطة الطريق التي أعلنها الشرع نفسه في أحد لقاءاته المتلفزة، والاستحقاق الحالي والملحّ هو الحكومة الجديدة، ولا سيما أن الحكومة الحالية قد طاولتها سهام النقد، ومن المفيد توخي بعض المعايير العامة في التشكيل، لإقناع المجتمع الدولي به، فقد يدفع ذلك إلى تسريع رفع ما بقي من عقوبات، وزيادة المساعدات، بعد ضمان عدم تكرار ما حدث في سورية في فترة الأسد. وتبدو الوزارة المرتقبة ذات التمثيل الواسع الخطوة اللازمة لتحصل سورية على مكانتها مرّة جديدة، ويرتفع كل حرج عن التعامل معها لإدارة المرحلة المقبلة.
العربي الجديد
————————–
“اللامركزية” كوصفة غير انفصالية/ سميرة المسالمة
الأحد 2025/02/16
السؤال المطروح على الحكومة السورية ليس لماذا ترفض اللامركزية، بل ما هي المركزية التي تتمسك بها؟ هل هي مركزية سياسية، اقتصادية، أم إدارية؟ أم أنها تريد تقييد كل ذلك بسلطة واحدة؟ هذا السؤال لا يهدف إلى التشكيك بصحة أو خطأ الأحكام المسبقة حول شكل الدولة، لكنه قد يساعد في فهم الطريق نحو الحلول، سواء مع مكونات الشعب السوري، أو مع المجتمع الدولي، الذي بات متدخلاً ومراقباً لكل تفاصيل المشهد السوري.
فالمصارحة حول شكل النظام الجديد في سوريا تفيد في تضييق الفجوات في جميع ملفات التفاهمات المحلية. إذ إن الخلاف الحاد اليوم لا يقتصر على الأكراد فقط، كما يتم تصويره، بل يشمل جهات عديدة أخرى، جنوباً وشرقاً وشمالاً وغرباً، فهل المقصود بالمركزية هو ضبط السياسة الخارجية، ووحدة الجيش وقوى الأمن، وإدارة الموارد الوطنية؟ هذا فعلياً، لا يتناقض مع مفهوم اللامركزية. أم أن الهدف هو استعادة السيطرة الشاملة، حيث تُحتكر القرارات كافة بيد سلطة واحدة من دون توزيع للصلاحيات؟
قد تنجح سياسة المركزية الشديدة في دولة مستقرة، تملك مقومات اقتصادية تمكنها من إحداث نهضة شاملة على مساحة البلاد، ولكن لا يخفى على أحد أن سوريا اليوم تُصنَّف ضمن الدول “الهشة”، ليس بصفتها التاريخية، بل بسبب أوضاعها الاقتصادية والعسكرية والخدمية الحالية. فهي خرجت من حرب دمرت مؤسساتها، وأرهقتها بالديون الخارجية، وأضعفت جيشها وقواها الأمنية، والأخطر من ذلك أنها مزقت وحدتها المجتمعية. لذا، فحتى شعار “الشعب السوري واحد” يحتاج إلى إعادة إعمار، ليس فقط للاقتصاد والبنية التحتية، بل أيضاً لإعادة بناء الثقة بين مكونات المجتمع السوري، وذلك عبر تحقيق العدالة الانتقالية والمساءلة، فلا تتحمل طائفة واحدة دون غيرها عبء المرحلة الأسدية المدانة.
من هنا، يمكن تفهم رغبة المناطق في إدارة شؤونها المحلية (المدنية)، سواء لرغبتها في تجاوز النظام السابق أو لتحرير اقتصادها من مركزية مشددة تعيق الاستثمار، وتُبقي النشاط الاقتصادي محصورًا في دمشق بسبب بيروقراطية الوزارات. وبالتالي، فإنها ترى في منح صلاحيات إدارية أوسع قد يسرع من عملية إعادة إعمارها، بمشاركة رجال الأعمال من أبناء تلك المناطق أنفسهم، ما يخلق حالة تنافسية شديدة الإيجابية بينهم تعود بالفائدة على سوريا بعمومها.
لطالما كانت اللامركزية الإدارية مطلبًا لمحافظات عديدة، ويُعَدّ القانون 107 محطة رئيسية في هذا المسار، إذ يمنح الوحدات الإدارية صلاحيات واسعة، تضمن مرونة الإدارة من دون المساس بوحدة البلاد، وهو تقريباً يدخل ضمن حدود ما تحدث به الرئيس الحالي، أحمد الشرع، خلال لقائه لفعاليات شعبية، عندما منحهم حق اختيار من يقود مناطقهم المحررة، ما يعني أنه في مضمون خطابه حررهم من مركزية القرار الإداري. واللامركزية الإدارية هي “قوننة” لمثل هذا الأمر الذي يمنح المحافظات السورية حق اختيار قادتها والمسؤولين عن تنفيذ سياساتها.
يمنح القانون 107 البلديات والمحافظات حرية اتخاذ القرارات المتعلقة بحياتها اليومية، مثل تخطيط المشاريع المحلية، وإدارة الموارد، وتطوير البنية التحتية، مما يسهم في تحسين الخدمات العامة وتعزيز التنمية الاقتصادية. ويمكن مقارنة هذا النموذج بتجربة الإمارات العربية المتحدة، التي تمزج بين المركزية القوية على المستوى الاتحادي، واللامركزية الفعالة على مستوى الإمارات السبع، ما يمنح هذه المناطق مرونة كبيرة في اتخاذ القرارات وفقاً لأولوياتها الخاصة، مع بقاء الشؤون السيادية مثل الدفاع والسياسة الخارجية ضمن نطاق الحكومة المركزية. ما يعني أن هناك نماذج متعددة للامركزية، بدءًا من الإدارية التي تبسط الخدمات، وصولاً إلى الاقتصادية التي أثبتت نجاحها في تجارب كالإمارات، حيث عززت التنمية والاستثمار المحلي.
إن جوهر اللامركزية الإدارية لا يعني تفكيك الدولة، بل يمثل نموذجاً حديثاً للحكم يعزز التكامل بين المركز والمناطق المحلية. فالوحدة الوطنية في سوريا لا تتحقق بتركيز السلطة بيد واحدة، بل من خلال دستور موحد، وجيش وطني، وثروات وطنية تُعتبر حقاً لجميع السوريين، من دون تخصيصها جغرافياً لمنطقة معينة. كما أن التمثيل السياسي الخارجي للدولة يجب أن يبقى مركزياً، كما هو حال الجيش، ما يضمن تماسك الدولة على الساحة الدولية، ويحد من الشعور بالتهميش الذي طالما عانت منه المدن النائية. كما أنها توفر مجالاً لاحترام التنوع الثقافي والديني، حيث يمكن لكل منطقة تنظيم أعيادها وعطلها المحلية، بما لا يتعارض مع القانون العام للدولة، وبما يعزز التعايش بين مختلف مكونات الشعب السوري، ويزيل أحد أهم الذرائع التي يستخدمها أصحاب السلاح على حساب رفاهية مجتمعاتهم.
وفي هذا السياق، تطرح اللامركزية الإدارية كبديل عن الفيدرالية القومية التي تقوم على أسس عرقية، وهو ما قد يقلل من المخاوف الإقليمية والدولية المتعلقة بتقسيم البلاد. وقد يكون هذا التوجه حلاً عملياً للتوفيق بين متطلبات الإدارة المحلية ومخاوف الدول المجاورة، لا سيما تركيا، التي تعتبر أي شكل من أشكال الفيدرالية القومية تهديداً لأمنها القومي.
لعل تطبيق اللامركزية الإدارية أو قانون الإدارة المحلية مع تحسيناته، أو أياً كانت تسميتها المقبولة لدى السلطة في سوريا، يمثل خطوة مهمة نحو تعزيز الحكم الرشيد وتحقيق التنمية المتوازنة، مع ضمان وحدة الدولة وسيادتها. فالتوزيع الذكي للصلاحيات لا يعني إضعاف السلطة المركزية، بل يجعلها أكثر كفاءة ومرونة، ويعزز دور المجتمع المحلي في بناء مستقبل أكثر استقراراً وازدهاراً لسوريا. كما أن تبنّي نموذج اللامركزية أو ما يمكن تسميته بـ”الفيدرالية الإدارية الجغرافية” قد يكون حلاً يضمن التوازن بين تطلعات المكونات المختلفة، ويحمي البلاد من خطر التفكك، وقد يكون الوصفة السحرية التي تحقق لمّ شمل الأراضي السورية بديلاً عن تمزيقها!
المدن
——————————
بعد اقتلاعها من سوريا.. إيران تتخبط بحثًا عن موطئ قدم جديد/ أحمد رياض جاموس
نشر في 15 فبراير ,2025
نون بوست
بين عشية وضحاها، وجدت إيران نفسها في موقف لا تحسد عليه وهي التي كانت اللاعب الرئيسي بالمشهد السوري في عهد نظام الأسد البائد الذي منحها امتيازات اقتصادية وسياسية وعسكرية كبرى طمعًا بتثبيت نظام حكمه.
لكن الصفعة القاسية التي تلقتها إيران بسقوط نظام الأسد وتسلّم الإدارة الجديدة قيادة السلطة في البلاد جعلتها متخبطة تائهة في أمرها وباحثة عن أي منفذ للعودة مجددًا إلى سوريا، محاولةً الإمساك بأي خيط تعيد به ترتيب أوراقها، لا سيما أن سقوط نظام الأسد يمثل نهاية ما يُعرف بـ”الهلال الشيعي” الذي يرمز إلى طموحات إيران في الهيمنة على الشرق الأوسط.
وكان علي أكبر ولايتي، المستشار الأقدم للمرشد الأعلى الإيراني، قد وصف سوريا بأنها “الحلقة الذهبية في سلسلة المقاومة في المنطقة”. ولهذا السبب فإن سقوط نظام دمشق شكل تحديًا كبيرًا لإيران، حيث خسرت ثلث جغرافية هذا المحور الذي كانت تفتخر به دائمًا، وانتقل مركز ثقل هذا التراجع إلى الشرق، أي العراق واليمن.
تهديدات إيرانية بصناعة الفوضى
بالعموم فإن موقف إيران الرسمي من سقوط النظام في سوريا ما يزال يدور حول شعارات المرشد الأعلى علي خامنئي الذي رفض فكرة أن سقوط النظام ووصول الإسلاميين السنة إلى السلطة هو تراجع للدور الإيراني وأن هناك انتفاضة ستطيح بالواقع السوري الجديد خلال عام، وهو ما يتعارض مع تصوير “بهروز إسبرطي” قيادي كبير في الحرس الثوري الإيراني تراجع إيران في سوريا بـ”الهزيمة السيئة للغاية”.
لكن في الوقت نفسه ألمح إسبرطي إلى إمكانية أن تعيد إيران نفوذها في سوريا من خلال تفعيل مجموعات اجتماعية من أجل إنشاء ما أسماها “خلايا مقاومة”، وهو ما بدا بالفعل في الأيام الأولى من انتشار قوات الجيش السوري الجديد في المحافظات السورية وملاحقته فلول النظام، حيث خرجت مظاهرات مدفوعة من تلك الفلول مرددين شعارات طائفية ثأرية مشابهة لشعارات الزوار الشيعة الإيرانيين للمراقد في سوريا.
اللافت للنظر أن هذه الاحتجاجات جاءت بعد ساعات فقط من تصريحات مسؤولين إيرانيين حول ما يجري في سوريا، حيث صرّح وزير الخارجية الإيراني، عباس عراقجي، لوكالة “مهر” الإيرانية: “من يعتقدون بتحقيق انتصارات في سوريا عليهم التمهل في الحكم، فالتطورات المستقبلية كثيرة”، الأمر الذي عده متابعون أوامر لخلايا موالية لإيران للتحرك وزعزعة الأمن في سوريا.
كما صرّح عضو مجمع تشخيص مصلحة النظام في إيران محسن رضائي: “في أقل من عام سيعيدون إحياء المقاومة في سوريا بشكل مختلف وسيبطلون المخطط الشرير والمخادع لأمريكا والكيان الإسرائيلي ودول المنطقة”.
وجدير بالذكر هنا أن أُولى المواقف العملية من حكومة دمشق الجديدة تجاه إيران تمثلت بحظر دخول الإيرانيين إلى سوريا عبر المطارات، كما كشف إعلان عن موعد استئناف الرحلات الجوية، إذ أعلنت شركة الخطوط الجوية التركية (Turkish Airlines) في بيان لها أنه “وفقًا للوائح الجديدة التي أقرّتها الحكومة السورية الجديدة، يُسمح لمواطني جميع الدول بدخول دمشق، عاصمة البلاد، باستثناء مواطني إسرائيل وإيران”، في ظل التأكيدات المتكررة من قبل دمشق بأن الوجود الإيراني في سوريا يُعد تحريضيًا ويهدف إلى إعادة نفوذ النظام الإيراني إلى البلاد.
مؤخرًا وتحديدًا في 11 شباط/ فبراير الشهر الجاري، فجّرت صحيفة “Türkiye Gazetesi” مفاجأة من العيار الثقيل عندما تناولت في تقرير لها تسريبات استخباراتية عن خطة إيرانية لتنفيذ انقلاب في العاصمة دمشق، واغتيال الرئيس السوري أحمد الشرع كجزء أساسي من هذا المخطط، لإثارة الفوضى وتبرير تدخل عسكري إيراني أعمق.
وجاء في التسريبات أن اجتماعًا سريًا عقده جنرالات من الحرس الثوري الإيراني وكبار ضباط النظام البائد في النجف العراقية لمناقشة خطة انقلاب في دمشق، يشارك فيها حزب العمال الكردستاني وتنظيم داعش والحشد الشعبي وحزب الله اللبناني.
وحسب الصحيفة، فإن الذخائر والأسلحة ستدخل من بوابات دير الزور- البوكمال والحسكة- القائم- ربيعة- المالكية في الشرق عبر الإيرانيين الذين وعدوا بأن كل ما هو مطلوب في الغرب أيضًا سيتم توفيره من حمص- القصير ومدينتي طرطوس واللاذقية عن طريق البحر.
فيما أكد ضباط من فلول النظام أيضًا أن اتصالاتهم مع حزب العمال الكردستاني مستمرة وأن كافة أشكال التعاون ممكنة، مع استعداد خلايا سرية في المناطق ذات الكثافة العلوية، إضافة إلى تسلل ميليشيا “زينيبون” و”فاطميون” من منطقة حزب العمال الكردستاني من جهة، الأمر الذي سيعزز احتمالات التدخل الدولي جراء الفوضى مع التركيز على زعزعة الاستقرار في مناطق رئيسية مثل السويداء، واللاذقية، وطرطوس، وحمص، والرقة، والحسكة، ودير الزور.
إضافة إلى ذلك، أوكلت مهام سرية إلى عناصر من “حزب الله” والحشد الشعبي، مثل إنشاء خلايا، وتأمين مستودعات أسلحة، وتنفيذ عمليات تخريبية.
وتشير التسريبات الاستخباراتية أيضًا إلى أن الاستراتيجية الإيرانية تشمل أيضًا تأجيج الصراعات الداخلية في سوريا من خلال استغلال التوترات الطائفية والعرقية، وإشعال تمردات مسلحة في مناطق الدروز ومعاقل العلويين، إلى جانب تعزيز النفوذ الإيراني في المناطق الساحلية عبر شبكات خاضعة لحزب الله.
وفي مداخلة معنا، رأى الباحث في الشؤون الإيرانية نزار الجاف، أن خامنئي وبقية المسؤولين الإيرانيين الآخرين وإن أدلوا بتصريحات عدائية ضد الوضع الجديد في سوريا، أو حضّروا لعمليات تهدد استقرار سوريا، فإنها لا تعدو عن كونها جوفاء وانفعالية وذات طابع نظري على الأغلب.
وقال إنه من الصعب جدًا -إن لم نقل من المستحيل- على حزب الله والذي كان يمثل ذراع إيران الأقوى أن يؤدي دورًا سلبيًا مؤثرًا على سوريا بعد تلاشي نظامها “العمق الاستراتيجي” لإيران، وخاصة أنه تمّ شلّ دور الحزب وإجباره على التقوقع والانطواء على نفسه، وهو ما يعد أكبر ضربة استراتيجية تمّ توجيهها للنظام الديكتاتوري الحاكم في إيران منذ تأسيسه.
ويضيف الجاف لـ”نون بوست”، أن الميليشيات الشيعية في العراق في نفس الوقت أيضًا تعيش حالة من الفوضى والانقسام يضاف إليه الكثير من الخوف من المستقبل الذي يميل إلى المجهولية بالنسبة لها، إذ لن تتمكن هي الأخرى من التجرؤ حاليًا على أداء أي دور بهذا السياق.
إيران تحاول ابتلاع الصفعة
يشير مركز الدراسات الإيرانية (إرام)، إلى أن إيران يمكن أن تكون مصدر تهديد هجين لمستقبل سوريا، بعد هزيمتها الاستراتيجية الصادمة، وتتمثل مجالات التهديد الهجين في الأبعاد الاقتصادية والبنية التحتية الحيوية وأمن المعلومات.
فلإيران نفوذ كبير على البنية الاقتصادية والبنية التحتية الحيوية وبناء الاتصالات في سوريا لامتلاكها مجموعة واسعة من مصادر البيانات والمعلومات بشأن الأنظمة والبنى التحتية المعنية، وبالتالي القدرة على التخريب والتسريبات والأنشطة التي من شأنها انتهاك أمن المعلومات من أجل إعادة بناء هذه الأنظمة والبنى التحتية في سوريا.
أما المجال الثاني، فيتمثل في أمن الحدود التي تستحوذ عليها ميليشيات مدعومة من إيران، إضافة إلى ميليشيا حزب العمال الكردستاني وذراعه السوري حزب الاتحاد الديمقراطي (PYD).
فيما يكمن المجال الثالث في الأمن الداخلي والنظام العام، عبر دعم محاولات الثورة المضادة إذا ما أخذنا بعين الاعتبار شبكة الاستخبارات والميليشيات التي أنشأتها إيران في سوريا منذ نحو 13 عامًا، وقدرتها على تنفيذ عمليات سرية، والخبرة المتراكمة في ذاكرة الدولة لاسيما مع الغزو الإسرائيلي لسوريا الذي بدأ بعد الثورة السورية وقد يؤدي أيضًا إلى تسريع استراتيجية إيران في خلق عمليات فوضوية مع ظهور “حركة شعبية معادية لإسرائيل” من خلال هياكل خلاياها.
يرى إسلام المنسي وهو باحث في الشؤون الإيرانية، أن إيران حاولت بشكل سريع جدًا استيعاب الصفعة التي تلقتها في سوريا، عندما سحبت ميليشياتها من أنحاء سوريا، ولكنها لم تيأس من إعادة التدخل في سوريا تمامًا، وإن كانت تحاول لملمة ما تبقى من أي بقايا نفوذ وتبني عليه وجودًا في المشهد السوري كتعليقاتها المستمرة عن المراقد الدينية التي تستخدمها كمسمار جحا يبرر لها التدخل في الشؤون السورية مستقبلًا، أو الحديث عن حريات الأقليات الدينية سواء الشيعة أو العلويين وهو ما يناقض أصلًا السياسة الإيرانية الداخلية تجاه الأقليات المقموعة داخل حدودها.
ويضيف الباحث المنسي لـ”نون بوست”، أن إيران تحاول التعامل مع المثال السوري ببراغماتية وضمان “أقل القليل” من نفوذها السابق، لكنها حتى الآن فشلت فشلًا ذريعًا لأن النظام الجديد هو معبّأٌ أصلًا ضد النفوذ الإيراني وهناك حسٌّ وطنيٌّ عامٌ في سوريا مناهض لإيران.
ويكشف المنسي اللثام عن رؤيته للاشتباكات التي جرت قبل أيام على الحدود السورية اللبنانية ضد ميليشيات مرتبطة بحزب الله، إذ يفسرها المنسي بأنها تندرج في إطار عزم الإدارة الجديدة على قطع أي شريان لأذرع إيران في لبنان والمنطقة، والبدء بضبط الحدود حفاظًا على الأمن الداخلي بصفة عامة ونكاية بإيران الراغبة بإقامة أي صلة مع النظام الجديد وتقليل خسائرها على الأقل، إلا أن الواقع يوحي بعدم أي تقدم للسياسة الإيرانية في هذا الخصوص.
آخر الأوراق الإيرانية
لا يمكن إنكار علاقة إيران المعقدة بالتنظيمات الكردية وتلاعبها بهم وهو الذي يعود لأكثر من نصف قرن، لا سيما حزب العمال الكردستاني (PKK) وفرعه السوري المسمى حزب الاتحاد الديمقراطي.
لكن منذ العام 2011، وبغرض محاولة ممارسة ضغوط على تركيا، وتعزيز موقع نظام بشار الأسد الذي كان على وشك الانهيار في ذلك الوقت، بدء شهر العسل بين طهران وحزب العمال الكردستاني، عندما أعلن “حزب الحياة الحرة في كردستان (PJAK) “، وهو الفرع الإيراني لـ “حزب العمال الكردستاني”، وقف العمليات العدائية ضد النظام الإيراني.
في السياق ذاته، نشر موقع “اندبندنت عربية” في الرابع من شهر شباط/ فبراير الجاري، تقريرًا أشار فيه إلى محاولة الحرس الثوري الإيراني التعاون مع قوات سوريا الديمقراطية للحصول على عدد من أسرى تنظيم “داعش” لاستخدامهم في زعزعة الأمن في سوريا.
ومع الحديث عن تراجع الدعم الأمريكي والانسحاب المحتمل من شمال شرق سوريا، قد تنحصر قسد في زاوية ضيقة أمام ترصد أنقرة ودمشق لإنهاء مشروعها التقسيمي، ما قد يجبرها ذلك على تعزيز علاقتها مع إيران والاستجابة لمطالبها كونه لم يعد في جعبتها ما تخسره.
بالمقابل تشير دراسة أجراها المركز “الأوروبي لدراسات مكافحة الإرهاب والاستخبارات ECCI” إلى أن إيران تسعى لتعزيز العلاقات مع الجماعات الجهادية في سوريا التي تنوي مواصلة الأنشطة الجهادية ضد “إسرائيل” من الأراضي السورية.
وتشمل هذه الجماعات نشطاء جهاديين سلفيين، وقد تتلقى هذه المجموعات الدعم من إيران، ويمكن الافتراض أن إيران ستسعى إلى استعادة قنوات نفوذها في سوريا من خلال استغلال علاقاتها مع قيادة تنظيم القاعدة.
“إيران تحاول استخدام بعض الأوراق في الساحة السورية كاللعب على ورقة الأقليات والتواصل معها واستغلال العلاقات التي نسجتها سابقًا معهم ومع فلول النظام السابق خلال الفترة الماضية”، بحسب الباحث المنسي.
واستدرك بالقول: لكن أربح أوراقها الآن هي ورقة قوات سوريا الديمقراطية، فقادة العمال الكردستاني لهم ارتباطات وثيقة مع الإيرانيين، وأحيانًا صلات مذهبية، حيث كانت إيران خلال فترة النظام البائد تنتشر في مناطق قسد وتنشر دعاتها، وتقوم بالترويج للمذهب الشيعي في شمال شرق سوريا بعد التنسيق مع قيادة قسد.
وباعتبار أن خوف قسد من التخلي الأمريكي عنها ورغبتها في التواصل مع أي طرف يدعمها ضد الإدارة الجديدة وتركيا، فإن هذا يمكن أن يكون سببًا للتواصل والانسجام أكثر مع إيران، غير المقتنعة حتى الآن بأن عشرات مليارات الدولارات دعمًا للنظام البائد في سوريا قد ذهبت هباء منثورًا، يختم المنسي.
ويختلف الباحث الجاف مع المنسي في مسألة تعاون قسد مع إيران، إذ يشير الجاف إلى أن قسد قد أخذت بنصائح الزعيم الكردي “مسعود بارزاني” على محمل الجد، ولن تقوم بإلقاء كراتها في السلة الإيرانية المهترئة، بل طبقًا لما تم استشفافه من أوساط مقربة من بارزاني، فإن قسد سوف تسعى للتقرب أكثر من حكومة دمشق الجديدة حتى وإن کان هذا التقرب حذرًا.
نمر من ورق
تشير التقديرات إلى أن إيران أنفقت نحو 50 مليار دولار لدعم حليفها المخلوع بشار الأسد، إضافة إلى حشد إيران 70 ألفًا من القوات والأعضاء والقيادات في الحرس الثوري والمرتزقة من دول أخرى إلى سوريا، تحت ذريعة “حماية الأماكن المقدسة” الشيعية.
ويُعتقد أن معظم القتلى المنتمين لإيران وميليشياتها كانوا من عناصر الميليشيات الشيعية ومن بينهم العديد من القادة رفيعي المستوى.
وبالإضافة إلى كل هذا، يزعم المسؤولون الإيرانيون حاليًا أن سوريا لديها ديون نشطة لإيران تبلغ نحو 30 مليار دولار. ولا يزال من غير الواضح ما الذي سيحدث لهذه الأموال بعد تغيير الحكومة في سوريا في ظل تساؤل الرأي العام عن استثمارات إيران وخسائرها في سوريا.
والأهم من ذلك كله نهاية خطة إيران بتغيير النسيج الاجتماعي في سوريا، وخسارتها ثلث جغرافية محورها بعد انهيار خط دفاعها الأول، وعزلها عن أكبر جماعة لها في المنطقة حزب الله، لكن السؤال الذي يتبادر للذهن، هل ستتكيف إيران مع هذه التطورات التي أكلت نفوذها؟
يجيب تقدير موقف لمركز الدراسات العربية الأوراسية، عن هذا التساؤل، بأن السيناريو الإيراني الأكثر ترجيحًا في سوريا هو انتهاج مسار تفاوضيّ بشأن مستقبل سوريا، وقد دعم هذا التوجه تقارير تشير إلى محاولات طهران فتح قناة تواصل مباشرة مع القيادة الجديدة في سوريا، ما يعكس إستراتيجية إيرانية براغماتية جديدة في ظل التخوف من استغلال ترامب سقوط الأسد في ممارسة سلسلة ضغوط سياسية واقتصادية على إيران.
ويتفق الباحث الجاف، في أن سلوك إيران بعد التطورات الأخيرة التي جرت في المنطقة وكانت ذروتها سقوط نظام بشار الأسد في 8 ديسمبر/ كانون الأول 2024، يختلف عن سلوكها قبل هذا التاريخ، إذ أنها فقدت الكثير من مقومات قوتها السياسية والعسكرية وحتى الفكرية في المنطقة، مع ملاحظة أن طهران نفسها تحبذ حاليًا مراقبة مسار الامور في الشأن السوري وانتظار ما ستسفر عنه من نتائج.
ويختم الجاف حديثه بالإشارة، إلى أن إيران على الأغلب تم إجبارها قسرًا وعلى حين غرّة على تقبل الأوضاع المستجدة في المنطقة عمومًا وفي سوريا بشكل خاص، بل إنها بصورة أخرى قد ابتلعت الصفعة، ومن الصعب أن يجازف أي طرف في المنطقة وفي سوريا نفسها بالقيام بمغامرة ما لصالح نظام طهران الذي يتخبط حاليًا في أسوء أوضاع داخلية وخارجية على حد سواء.
نون برس
——————————–
ظهور مجرمي النظام وإعادة تدوير الفاسدين.. التسويات تقلق السوريين/ منصور حسين
الأحد 2025/02/16
تثير قرارات الإدارة السورية الجديدة، والتسويات التي تجريها، جدلاً واسعاً بين السوريين، مع عودة الكثير من مجرمي الحرب ومسؤولي النظام المخلوع، إلى ممارسة أعمالهم ومهامهم، مما يطرح تساؤلات حول آلية عمل هذه التسويات وتأثيرها على مسار العدالة الانتقالية في سوريا.
واللافت خلال الأيام القليلة الماضية، ظهور عدد من الشخصيات المتهمة بارتكاب جرائم حرب ومجازر بحق السوريين، بدعم وحماية الأمن العام التابع لوزارة الداخلية، فضلاً عن قرارات التعيين الأخيرة التي شملت شخصيات ذات صلة بأجهزة النظام المخلوع، وطالت مختلف القطاعات الحكومية الحساسة كالتعليم والصحة والقضاء والأمن.
مجرمون طلقاء
فقد ترك خروج وزير داخلية النظام المخلوع محمد الشعار، في لقاء مصور بعد تسليم نفسه للسلطات الجديدة، انطباعاً سيئاً ومقلقاً في الشارع السوري، الذي اعتبر مجرد ظهوره الإعلامي وحديثه إساءة لهم، بالنظر إلى الجرائم التي ارتكبها داخل البلاد وخارجها.
وسبق ظهور الشعار، احتجاجات شعبية في حي التضامن بدمشق، مطلع شهر شباط/فبراير الجاري، على عودة فادي صقر، قائد إحدى المليشيات المتهم بارتكاب مجازر بحق سكان الحي، رفقة مجموعة من عناصره المقربين ولقائهم ببعض الوجهاء، بعد الحديث عن قيامه بتسوية وضعه.
ليشهد يوم الأحد الماضي، عودة خالد الفارس، قائد فرقة الموت في مليشيا الدفاع الوطني بحمص، والمتهم بقتل الصحفية الأمريكية ماري كولفين عام 2012، قادماً من دبي بعد فراره من البلاد عقب سقوط الأسد، حيث تحدثت وسائل إعلامية محلية عن تسوية وضعه، ما يثير القلق من حصول هؤلاء على ضمان عدم ملاحقتهم مستقبلاً.
تسوية أمنية فقط
ووفق إعلان إدارة العمليات العسكرية، فإن عملية التسوية تتضمن إصدار بطاقة أمنية مؤقتة صالحة لمدة ثلاثة أشهر، تتيح لحاملها التنقل بحرية وتحميه من الملاحقة القانونية خلال هذه الفترة.
ويوضح عضو نقابة المحاميين السوريين الأحرار عبد الناصر حوشان، في حديثه لـ”المدن”، أن التسوية التي تجريها الدولة السورية للمسؤولين ومن قاتل إلى جانب النظام، تأخذ طابعاً أمنياً وعسكرياً بحتاً.
ويقول حوشان إن هذا الإجراء، “لا يحميهم من الملاحقة القضائية والقانونية، في حال ثبوت تورطهم بقضايا وانتهاكات تخص المدنيين في أرواحهم أو ممتلكاتهم، وهو ما يجعلهم داخل خزانة العدالة الانتقالية”.
ويشير إلى ضرورة التميز بين إجراءات التسوية التي تخص الوضع الأمني للفرد، وبين العفو الذي سبق وأن حصل عليه جنود الخدمة الإلزامية في جيش النظام، دون أن يشمل الضباط والمتطوعين والمسؤولين.
تحقيق العدالة الانتقالية
لكن المحامي وعضو جمعية “خليل معتوق” لحقوق الإنسان، ميشال شماس، يعتبر أن عمليات التسوية التي جرت لبعض المشتبه بارتكابهم جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية في سوريا، أعطت رسالة سيئة للناس، وانعكست مباشرة بقيام عدد من أهالي الضحايا بعمليات انتقام.
ويقول شماس لـ”المدن”: “على الحكومة اليوم أن تهيئ الأرضية لتطبيق مسار العدالة الانتقالية، من خلال إصدار قانون إحداث هيئة العدالة الانتقالية من شخصيات وطنية خبيرة، وإنشاء محاكم خاصة وتدريب وتأهيل قضاتها، وتعديل قانون العقوبات الذي لا يعاقب على جرائم الحرب وجرائم ضد الإنسانية المنصوص عليها في قانون روما، وتضمين تلك الجرائم بنص قانون العقوبات”.
ويرى أن الأفضل لنجاح مسار العدالة الانتقالية، “يوجب إشراك قضاة غير سوريين لضمان حياديتها، وتشكيل لجان كشف حقيقة ما جرى، ولجان تعويض الضحايا والاعتراف بمعاناتهم وتكريمهم وتخليد ذكراهم، وتشكيل لجان المصالحة التي من مهامها إجراء مصالحات مناطقية وعلى مستوى البلاد”.
تدوير الفاسدين
ولا تقتصر مخاوف السوريين على عودة مجرمي الحرب لممارسة حياتهم الطبيعية فقط، إنما تشمل إعادة تدوير فاسدين ومجرمين في عهد الأسد المخلوع وتسليمهم مناصب رفيعة داخل مؤسسات الدولة.
وسبق وأن شهدت محافظة السويداء جنوب سوريا، احتجاجات نظمها ناشطون ومعلمون، على قرارات مديرية التربية بتعيين مدراء ومدرسين متهمين بقضايا فساد ضمن السلك التعليمي، وهي الثانية خلال أيام، بعد حالة الاستياء والغضب الذي رافق قرار تعيين العميد طلال العيسمي، قائداً لشرطة المحافظة، رغم تورطه بقتل المتظاهرين السلميين في درعا، بحسب ناشطين محليين.
ويحذر شماس من هذا النهج، وتسليم مجرمي الحرب مناصب حساسة في الدولة الجديدة، مشيراً إلى أن هذه القرارات تزيد من نقمة الشارع السوري، “ونحن نراقب هذا الأمر ونحاربه فوراً”. ويؤكد أن سوريا الجديدة يجب أن تؤسس بنهج تطبيق العدالة وتقوم بمشاركة الكفاءات والخبرات من أبناء الثورة، ومن كفوا أيديهم عن دماء السوريين.
المدن
————————-
في ضرورة الوعي بالمواطنة على المستوى الشعبي/ سوسن جميل حسن
16 فبراير 2025
في لحظة التحولات الكبيرة، كتلك التي تعيشها سورية، بعد سنوات الثورة التي توجت بسقوط طاغيتها، تظهر أسئلة كثيرة يفرضها الواقع الجديد وما يبدو عليه من مظاهر، قد تبدو غريبة بعض الشيء خاصة على المستوى الاجتماعي، إنما في الواقع هي ليست غريبة أو مفاجئة إذا ما استرجعنا نصف القرن الماضي من تاريخ سورية.
من الأسئلة المهمة ربما، ما يتمحور منها حول شكل الدولة السورية المأمولة، وهوية المجتمع السوري الجديد، الذي أصابه كثير من التشظي، ودور الفرد السوري في هذا البناء الصعب ما دام أنه فوق ركام عقود من الخراب والتدمير الممنهج والفساد، ليس ركام العمران فحسب، إنما الدمار الذي لم يسلم منه بنيان الفرد السوري والمجتمع السوري.
ومن أجل أن يكون للفرد السوري دوره المنتج في إعادة إعمار وطنه والمساهمة في بناء دولته المنشودة، لا بدّ لمفهوم المواطنة من أن يكون واضحًا في وعي الأفراد، ومعززًا من قبل الحكومة، المواطنة التي حُرم منها باضطراد على مدى عمر الطغيان.
لقد كانت المواطنة موضوعًا لعمليات إعادة ترتيب وتحولات متعددة في محتواها الدلالي، والتي هي في حدّ ذاتها عوامل ومؤشرات للتغيرات الاجتماعية والتاريخية العميقة.
للمواطنة تاريخ طويل
في اليونان قديمًا تشير المواطنة إلى العضوية في الهيئة السياسية السيادية (demos)، التي تتداول وتضع القوانين التي تحكم المدينة، كان يمكن للمواطنين الاجتماع في مكان واحد لمناقشة القضايا الرئيسية التي تهم المدينة (الحروب، والمعاهدات التجارية، والانتخابات لمختلف المناصب، وما إلى ذلك). لكن هذه المواطنة القديمة كانت تخصّ أقلية صغيرة. وهكذا، على سبيل المثال في أثينا، 10% فقط من السكان كانوا يتمتعون بوضع المواطنين. كلهم رجال أحرار، تم استبعاد النساء والعبيد و”الميتيك”، أي الأجانب.
وفي القانون الروماني أشارت المواطنة إلى وجود مجموعة من الحقوق والحماية الشخصية التي يهدف القانون تحديدًا إلى ضمانها. ومع توسع إمبراطوريتها، أعطت روما عددًا متزايدًا من الأفراد الحق في العيش فيها. كانت المرحلة الأخيرة من هذا التطور هي مرسوم كركلا (212 م)، والذي تم بموجبه الاعتراف بجميع سكان الإمبراطورية على هذا النحو.
ثم شهدت فكرة المواطنة كسوفًا في عصر الملكيات. كمجتمعات امتيازية، حيث استبعدوا أي مشاركة لرعاياهم في صنع القرار السياسي. لكن الحداثة السياسية، التي ولدت تدريجيًا في الغرب، والتي فرضت نفسها في زمن الثورات السياسية في القرنين السابع عشر والثامن عشر في إنكلترا والولايات المتحدة وفرنسا، أحدثت قطيعة جوهرية، ولم تعد المواطنة الحديثة تمتد إلى العصور القديمة.
المواطنة بمفهومها الحديث
لقد رددنا كلمة المواطنة لدرجة أنها تبدو “طبيعية” بالنسبة لنا، لكنها فكرة أو مفهوم تخييلي، لا تصبح ملموسة إلا بتحققها في المواطن، والمواطن هو موضوع القانون. على هذا النحو، لديه حقوق مدنية وسياسية، يتمتع بالحريات الفردية، وحرية الضمير والتعبير، وحرية الحركة، والزواج، وافتراض براءته إذا ألقت الشرطة القبض عليه ومثوله أمام المحاكم، وأن يكون لديه محامٍ للدفاع عنه، وأن تعامل المحاكم الماثلين أمامها وفقًا لقانون متساوٍ للجميع. له حقوق سياسية: المشاركة في الحياة السياسية والانتخاب والترشح لجميع المناصب العامة. ومن ناحية أخرى، يقع على عاتقه التزام باحترام القوانين، والمشاركة في النفقات الجماعية وفقًا لموارده، والدفاع عن المجتمع الذي ينتمي إليه، إذا تعرض للتهديد وغيرها من الواجبات التي يقرها الدستور ويحميها القانون. فالمواطنة وفقًا لمفهومها الحديث تتألف من مجموعة من الحقوق والواجبات، حقوق المواطن على الدولة، وحقوق الدولة على المواطن، وتعريف المواطن بحقوقه وواجباته وفهمه إياها يعدّ أساسيًا في مساهمته في الأمور العامة، خاصة لناحية دوره في رسم السياسات الخاصة بدولته، وقبلها دوره في تحديد شكل الدولة ونظام الحكم فيها، هذا ما يقره بالتفصيل دستور البلاد.
عن ضرورة الشعور بالمواطنة
إن المواطنة هي ضرورة من مستلزمات الانتماء للمجموعة السياسية أو للدولة كوحدة سياسية متكاملة والتي تتألف من وطن هو إقليم جغرافي وشعب ونظام وسلطة، لذلك من المهم بمكان أن يدخل هذا المفهوم في الوعي الجمعي، وأن يكون كل فرد في المجتمع واعيًا بهويته مواطنًا، فيدافع عن حقوقه المدنية والسياسية، ويتحمس لواجباته، لا أن يشعر أن الدولة خصم له، تتمادى على كيانه وتمسخه حد أن يصبح بلا ملامح، لا يعدو أن يكون رقمًا بين مجموع كبير، رقمًا ألصقته أجهزة النظام البائد على جبين ضحاياه الذين عذبوا في أقبيته ومعتقلاته حتى الموت.
ما جرى الاشتغال عليه في سورية على مدى أكثر من نصف قرن تركز بشكل أساس على انتزاع هذا الشعور من وجدان الفرد السوري، مع إعلاء لمفهوم الوطنية كما روج له النظام وفق تطلعاته ورؤاه المستقبلية، كانت بداياته مع وصول حزب البعث العربي الاشتراكي إلى السلطة ومن بعده انقلاب حافظ الأسد في عام 1970، إذ تم تأطير الوعي العام ضمن كوادر بعيدة عن مفهوم المواطنة والوطن والمشكلات التي تخص المجموعة البشرية التي تعيش ضمنها، فصارت الشعارات القومية والوحدة العربية والاشتراكية مفاهيم شاسعة، إنما مغلقة تحشر الشعب ضمن أطرها وتشغل وعيه عن خصوصيته وطموحاته ومستقبله، مع تعطيل، بل إلغاء، دور مؤسسات المجتمع في الحفاظ على البنية السليمة لوعي المواطن وممارسته للمواطنة، ما نجم عنه، بعد سنوات من هذا التأسيس والعمل، محو فكرة المواطنة وإلغاؤها من التداول، إلا بما تراه السلطة القائمة مناسبًا لخدمة أجندتها، فتعمل على إخراج مدونات الدستور والقوانين إلى العلن والتبجح بمفردة مواطن في توجيه خطابها إلى الشعب: أيها المواطنون. بعد أن دمجت الشعور بالانتماء والولاء للوطن بالانتماء إلى القيادة السياسية متمثلة برأس النظام، وبعد أن عملت على تثبيت فكرة “سورية الأسد” فجعلت الوطن ملكية خاصة بعائلة وحيدة.
لم يشعر الأفراد عامة بأنهم مواطنون إلا تحت تلك اليافطات التي تروج لها السلطة، وهذه المشاعر كانت معجونة بالقهر والشعور بالظلم وانتقاص الكرامة، فلم يكن الفرد في المجتمع قادرًا على التعبير عن نفسه، أو المطالبة بحقوقه والدفاع عنها، كانت حريته تنتهك في أبسط ممارسة لها، وحقوقه تغتصب، في الوقت الذي تصدع سمعه وروحه المفردات الممجوجة من حرية وديمقراطية وعلمانية وغيرها من المصطلحات التي أوصلت الشعب في قسم منه إلى نبذها وشيطنتها، فقد شوهت ممارسات النظام هذه المفردات حتى صارت ترتبط في وعي شرائح واسعة بالكفر والسطوة الغربية على هويتنا وثقافتنا، في الوقت الذي كان فيه الشعب يبحث عن ملاذ آمن لروحه وكيانه من تجاوزات النظام وبطشه، فلم يجدها إلا في الملاذ الديني الذي ساعد النظام السياسي على تقويته فكريًا وعمليًا كي يكون لديه حليف قوي يسانده في بسط سيطرته على المجال العام والخاص، وتأطير الشعب في كوادر تخدمه، مع تنمية وتعزيز الشخصية الامتثالية، الفردية والجمعية.
بعد سقوط نظام الأسد، والخراب الذي خلفه على مستوى الدولة والمجتمع، تبين بشكل واضح انقسام الشعب السوري حول طبيعة الدولة المرتجاة، هذا الانقسام وهذه التصورات لشكل الدولة مبنية على فهم ضيّق لمفهوم الدولة الحديثة، وإهمال لمفهوم المواطنة، هذا ما كان نتيجة نصف قرن من تكميم الأفواه ومنع التعبير عن الرأي وتوجيه الفكر والثقافة باتجاه يخدم أجندات النظام الحاكم ويعزز من تمكين سيطرته على المجال العام والمجتمع، مع إضفاء الشمولية المعيقة للازدهار، خاصة بالنسبة إلى طمس الهويات الثقافية الخاصة بالمجموعات السورية المتعددة، هذا التعدد الذي كان من المفترض أن يكون سبب ازدهار المجتمع السوري.
من حقيقة هذا الواقع السوري، التاريخي والحالي، القائم على التعددية الغزيرة التي يتصف بها، من دينية ومذهبية وعرقية وقومية وغيرها، يولد سؤال شكل الدولة السورية المرجوة، لكن هذا السؤال يبقى خامدًا ما لم يشعر السوريون بمواطنيتهم، ما لم يكن كل فرد يعتز بها بدلًا من كونه يتمسك بانتماء دون هذا المستوى، عززته سنوات القمع والاستبداد، وربما يكون الشعور بالمواطنة وإدراكها عتبة أولى في فهم معنى الديمقراطية السياسية والاجتماعية، فمع الديمقراطية تتحقق المواطنة بالشكل الأمثل، ويتحقق التمثيل الشعبي بطريقة تخدم التطلعات إلى المستقبل وبناء الدولة وفق أسس مستدامة، فلا تشعر معها شريحة من الشعب أنها مبعدة أو مقصية عن الفعل الإيجابي والتشاركي في صنع القرارات التي تخص الشعب ومستقبل دولته، فالديمقراطية الحديثة هي في الغالب تمثيلية، حيث ينتخب المواطنون ممثلين لاتخاذ القرارات نيابة عنهم. وتشمل المبادئ الأساسية المساواة السياسية وحرية التعبير وحماية حقوق الإنسان ومشاركة المواطنين من دون تمييز. هذه المفاهيم ضرورية لعمل وشرعية النظم الديمقراطية المعاصرة، هذا رأي من آراء يتوزعها الشعب السوري، إنما يبقى الشعور الإيجابي بالمواطنة هو الدافع الأكبر لالتقاء الشرائح من أجل الحوار حول قضايا مشتركة تخص جميع السوريين، وربما في إعادة النظر في علاقاته السابقة والروابط الاجتماعية الأخرى كالعشائرية والمذهبية والقومية والعرقية والإثنية والدينية، كما أسّس النظام الساقط، وهذه كلها تعيده إلى مراحل ما قبل الدولة وتضع العثرات والعراقيل في طريق بنائها.
إدراك المواطنة هو الخطوة الأولى في بناء مجتمع يستطيع أن يرسم معالم مستقبله، وأن يكون أفراده مؤهلين للقيام بمسؤولياتهم بروح إيجابية وليس بالإكراه. المواطنة المتساوية هي الضامن الوحيد، وهي التي تمحو فكرة أن المجتمع السوري قائم على أغلبية وأقليات، الفكرة التي تزيد من الشروخ والتصدعات في المجتمع، وتشل قدرة أبنائه، وتبقي على المظلوميات حاملًا رئيسًا للحراك السياسي في البلاد، هذا لن يخلق جوًا تنافسيًا إيجابيًا، إنما سيؤدي إلى تبديد الطاقات وحرفها عن مسارها المنتج.
ضفة ثالثة
————————–
سورية: كأنّ معابرَ الحدود مداخلُ للمدائن/ نبيل سليمان
15 فبراير 2025
1- في العشية التلفزيونية:
بحثتْ شاشةُ التلفزيون عن القناة الإخبارية، عن قناة سما، القناة التربوية، قناة سوريا دراما، قناة نور الشام التي كنت أسميها قناة الشيخ محمد سعيد رمضان البوطي، فصرت أسميها منذ صباح العيد الوطني – كما صار اسم الثامن من كانون الأول/ ديسمبر – قناة وزير الأوقاف الأسدي جدًا الشيخ الدكتور محمد عبد الستار السيد الذي أذعنتْ له الوزارة سبعة عشر عامًا في أحضان بشار الأسد، وهو ابن وزير الأوقاف الأسدي جدًا عبد الستار السيد الذي أذعنتْ له الوزارة تسعة أعوام في أحضان حافظ الأسد. والابن (العلّامة الفهّامة) هو صاحب التفسير الجامع للقرآن الكريم. وفي زعمي أنه أكبر التفاسير ضحالة.
في تلك العشية توقفت الشاشة عن البحث، لأن القنوات كانت صمّاء، أي كانت جميعًا تبث الصور نفسها، والأناشيد نفسها، والبلاغات نفسها.
على إيقاع رشّات الرصاص التي لعلعت بعد هدأة طويلة ها هو التلفزيون السوري ما بعد الأسد – وليس ما بعد الأسدية، فهذا حديث آخر – يبث على قنواته جميعًا ما يلوّن الشاشة: حفل (معايدة وتكريم أهل التضحية والفداء) في قاعة حاشدة.
فجأة امتلأت الشاشة على رحابتها بذوي البدلات المبرقعة التي كانت (تذعرنا) في شبابنا عندما كانت حكرًا على سرايا الدفاع والقوات الخاصة، ثم صارت ستر من لا ستر له من فقراء الفلاحين والعمال الذين ينتظرون من يلتقطهم كل صباح في دوّار ساحة اليمن: أتحدث عن اللاذقية.
ملأ الشاشة أحدُ المبرقعين على عكازين من الألومينيوم. هو إذن من المجاهدين. الذقون تتبارى. عندما يرفعون أذرعهم يرفع أحدهم ذراعه نصف رفعة أو أقل. هو أيضًا من ضحايا الجهاد أو الحرب أو الثورة. تابعتُ المشاهدة. الآن أتحاشى أن أقول الفرجة. هذا حفل ثالث لتأبين (شهداء العمليات الانغماسية). هذه فرقة (أبناء الشهداء للإنشاد الثوري)، وهذا نشيد (أبتاه). يرتدي الأطفال (تيشرت) بيج بنصف كمّ فوق بنطال أسود. أحار فيما أسمع: هل تبثّه القنوات الصمّاء جميعًا الآن، أم هو مما سمعته ذات مساء تقطعُ صمتَه لعلعةُ الرصاص، وأية لعلعة؟!
“اثبتوا يا أهل إدلب”: تصدح حناجر.
“إدلب النار تلتهب والمنايا إدلبية”: تصدح حناجر، ثم… ثم أردد: سبحان مغيّر الأحوال من حال إلى حال! ماذا كانت القنوات تبث وماذا صارت تبث!
أغادرها ساعة أو أكثر إلى ماراتون القنوات العربية وغير العربية عن سورية ما بعد الأسد، وليس ما بعد الأسدية، فهنا حديث آخر، وربما يطول ويتعقد. من تلك القنوات ما يتمنطق بالكلمات: سورية الإسلامية، سورية هيئة التحرير، سورية… ولم تطل بي المشاهدة/ الفرجة، إذ عدت إلى القنوات السورية، بالضبط إلى قناة الخبر. فاجأني أنها تلوح بنسبها إلى الحزب السوري القومي الاجتماعي، بدون أن تحدد إلى أي شقّ من الشقوق التي آل إليها بفضل الأسدية. فاجأني أن شريطها يخبر بأنها لم تحصل يومًا على ترخيص لتكون شرعية، وتذكرت جريدة (الدومري) التي أصدرها الفنان علي فرزات بترخيص شفوي من رأس الهرم، لكن ذلك لم يشفع لها حين رأى صاحب الترخيص أن يغلقها، ففعل.
امتلأت الشاشة ببيان أهل القرداحة. بين الموقعين على البيان أقرأ اسم الدكتور إياس الخيّر. ترمي الشاشة عينيّ ببهرها عندما امتلأت بتمثال حافظ الأسد وهو يتهاوى في عقر داره. أراني في صباح يوم من تشرين الأول/ أكتوبر عام 2017 أغادر غرفة العناية المركزة في مشفى درّاج. منذ خمسة أيام حين رمتني الأزمة القلبية شرّ رمية وأنا حبيس الغرفة. أراني في سيارة الإسعاف، ولكن بلا دويّها المرعب. بعد ساعتين ترميني السيارة في ردهة من مشفى في حمص. ها هنا فقط يُجري الدكتور إياس الخير عملية القسطرة لمن هو مثلي. لم أر الدكتور إياس من قبل ولا من بعد. لا أنسى أن جفاءه أقبضني. بناء على صنيعه سيجري لي بعد يومين المرحوم الدكتور طلال فارس جراحة القلب المفتوح في مشفى أمية في دمشق. سرّني أن الدكتور إياس بين من وقعوا على بيان يلفظ الأب وابنه في عقر الدار، في القرداحة التي أحتفظ من أجلها بما نقلت منذ أكثر من أربعين سنة من مخطوطة (وقائع مجلس مدينة اللاذقية) من إبراهيم باشا في القرن التاسع عشر، وهذا حديث آخر.
2- في معبر العريضة:
هنا كان حاجز الفرقة الرابعة. هنا كان حاجز المخابرات العسكرية، وهناك حاجز مخابرات القوى الجوية، وهنالك حاجز أمن الدولة. هنا حاجز الأمن السياسي، وهناك فيللا قائد من قوّاد (بضم القاف وليس بفتحها) الدفاع الوطني. تحفّ بالفيلا من الجهات الأربع سيارات البيك آب للتهريب وسيارات التكسي للتشبيح. يحمد الله (أبو عمر) السائق الذي ينقلني من اللاذقية إلى بيروت منذ دهر، على أنه (ريّحنا) منهم جميعًا: الفروع وذيول الفروع. أعدّ معه ما كان يدفعه لكل حاجز، وما سيحمل لكل حاجز في العودة من طرابلس: موز أو حفاضات أو تنباك أو كروز مالبورو أو… والسيارة تفتقد مثلي من يوقفها. الجمارك أيضًا اختفت. لا تتوقف السيارة عند الهجرة والجوازات. تسأل دهشتي ويسأل عجبي وقلقي:
– الجوازات يا أبو عمر.
تجيب ضحكته وهو يوقف السيارة:
– لا جوازات ولا من يحزنون.
أتبعه وزوجتي وخلفنا شاب يجرّ حقيبتينا. خطوات بطول أمتار ثم نقف أمام طاولة خشبية. هل كانت طاولة أم ألواحًا خشبية تتكئ على… على ماذا؟
على الخشب يضع الشاب الحقيبتين أمام مسلحين شابين ملتحيين. يتناول أحدهما جوازي السفر لي ولزوجتي. يسجل قلمٌ على ورقة ويعيد الجوازين. لا ختم، ولا تفتيش للحقيبتين. يودعنا أبو عمر ويتقدمنا الشاب والحقيبتان.
خرجنا من سورية إذن.
معبر جوسيه الحدودي
ألتفت خلفًا، ألتفت إلى سورية غير مصدق. أخاف عليها وأتمنى أن أعود لأتمرّغ على أعتابها. أصدّ البكاء وأناديه. بلاد مفتوحة على مصاريعها. ألتفت إلى لبنان، إلى العريضة، إلى البحر، إلى نهر الكبير الجنوبي.
لا لا، ليست هذه بلادًا مفتوحة. هي بلاد حرة ولا خوف عليها. فليغادرْ من يغادر وليدخلْ من يدخل. مع السلامة أهلًا وسهلًا. ما عاد قلبك يرجف حين تقف أمام من ينتر الجواز من أصابعك، يقلب فيه قرفًا، ينقر على مفاتيح الكومبيوتر وأنت تعد الثواني (والثواني جمرات في دمي): ممنوع من السفر، راجعْ الفرع 335، تتلقف الجواز لاهثًا. هل كنت في سباق؟
تتبع وزوجتك هذا الشاب ذا الحقيبتين فوق الجسر، والجسر فوق النهر، والنهر يصب في البحر، والبحر يتفجر بالقنابل الإسرائيلية التي أفرجت عنها مؤخرًا الولايات المتحدة الأميركية، فتتطاير أشلاء الجسر كما تتطاير أشلاء الطيور وهي تصدّ بنادق الصيادين قبل شروق الشمس، فتناشد سيارة أبو عمر أن تقفز فوق الجسر وتنجو بك من هذه المجزرة.
قبل تسعة أشهر كان ما ستسميه مجزرة العريضة، وأنت تناشد السيارة أن تطير إلى مطار بيروت كيلا تتأخر عن إعلانك عن الرواية التي ستفوز بالجائزة العالمية للرواية العربية، قل: البوكر، وها أنت تلتفت خلفًا لترى ما دمرت القنابل الإسرائيلية الأميركية من مبنى الهجرة والجوازات: هناك سورية، وهنا – تلتفت – لبنان، وإسرائيل وأميركا في كل (هنا)، وصوت محمود درويش يصدح:
لم يعرفوني في الظلال التي
تمتص لوني في جواز السفر…
3- في معبر الجوسية:
أمس، في منتصف الليل، عندما عبرت السيارة بنا – زوجتي وأنا – الضاحية الجنوبية، ترجّع في روحي صوت مرسيل خليفة: بيروت غصتنا / بيروت دمعتنا، وكان في الآن نفسه صوت محمود درويش يجأر: بيروت قصتنا، بيروت قلعتنا.
انتقلنا صباحًا من الأوتيل في الحمرا إلى الدورة بسيارة لبنانية، حيث ترابط سيارة أبو عمر التي لا يسمح لها بالوصول إلى الحمرا لأنها سورية.
معبر العريضة مغلق، لأنهم ينصبون جسرًا، لذلك سنقصد معبر الجوسية: يقول أبو عمر.
عندما تبدأ السيارة بالصعود أتنسّم هذا الشطر البيروتي الذي لم أره منذ خمس أو ست أو سبع سنوات.
قبل أن تبلغ السيارة صوفر بدأت الدنيا ترفل بالبياض. ثلج ثلج ثلج. ضهر البيدر ثلج ثلج. ثلج يطوي السنين حتى يبلغ مثل هذا اليوم من عام 1972 وأنت تغرق في البياض من الكحالة إلى دمشق، ومن دمشق إلى حلب، ومن حلب إلى الرقة التي توحدتَ بها منذ شلّعتك هزيمة 1967.
لولا ذلك الثلج ما كان لك أن تكتب روايتك (ثلج الصيف).
ما إن أخذت السيارة تنحدر نحو شتورة حتى أسرع البياض يأفل. والآن ستنعطف السيارة عن طريق دمشق، وفي غمضة عين تلوّح لك زحلة، وفي غمضة عين تلوّح لك بعلبك يا مدينة الشمس يا هليوبوليس يا قصة عزّ عليانة/ بالبال حليانة/ يا معمّرة بقلوب وغناني/ وبعلبك بالدهر مضوية يا فيروز يا طلال حيدر لبسوا الكفافي ومشوا: صحيح راح زمن فلسطين؟
هنا قرية اللبوة أي هنا حزب الله. أين هي إذن عرسال وأين الصراع السني الشيعي بين البلدتين؟ أين القنوات التي كانت تجر المياه من ها هنا إلى تدمر لتنعم زنوبيا بمياه اللبوة، والرهق يُلبِس عليك ما ترى مثل القلق على ظهر زوجتك من مطبات وحفر الطريق الذي تنهمر عليه الصور من على أعمدة الكهرباء: ها هنا معقل إذن لحزب الله، وها هنا معقل للحزب السوري القومي الاجتماعي، وكان يا ما كان في قرية النبي عثمان، إسرائيل تقصف ما تشاء وحيث تشاء.
أين صرنا يا أبو عمر؟
هذه كنيسة، اختفت صور رجال حزب الله. الحدود تقترب. قرية القاع تقترب. تقدح الذاكرة بمجزرة القاع ذات صيف قبل أربعين سنة، بل سبع وأربعين سنة، وهذه هي الحدود اللبنانية، وصوت درويش يصدح:
كل الحدود
كل المناديل التي لوّحت
كل العيون
كانت معي، لكنهم
قد أسقطوها من جواز السفر…
صوّتت الأختام على جوازي السفر لزوجتي ولي، ولبطاقة أبو عمر.
وبعد ما لا أدري بالضبط كم مترًا: خمسين، مئة، أكثر؟ لا، هذان مسلحان يشيران للسيارة التي تهادت. تتابع السيارة، لا حاجز ولا ورقة ولا قلم ولا ختم ولا تفتيش للحقيبتين. أنت الآن في سورية، تخاف عليها ولا تتمرغ على أعتابها، لا تصد البكاء ولا تناديه. أنت مذهول أو مشلول. بلاد مفتوحة على مصاريعها، ولكن لماذا هذه السوداوية؟ قلْ: هذا هو التشينجن السوري، وافرحْ. احمد الله وافرحْ، سورية هذه المرة غصتنا. سورية دمعتنا. سورية قلعتنا. سورية قصتنا. وأنت في القصير، والقصير يباب. القصير براميل الطائرات إلى أن يحل حزب الله محل أهليها، وهذا حاجز يشير فتتابع السيارة، والقصير يباب، لا حزب الله ولا بشر سوى هذا الحاجز في منتهاها.
عندما أسلمتنا طريق القصير إلى أتوستراد حمص بدأت أصحو من ذهولي وشللي، وسيطول ذلك بي حاجزًا بعد حاجز، وأنا أعد الحواجز حتى بلغت اثني عشر حاجزًا على مشارف طرطوس. حاجز وحيد منها أوقف السيارة، وسأل الشاب المسلح الملتحي: من أين؟ أجاب أبو عمر: من بيروت. سأل الشاب: معكم سلاح؟ ضحكتْ زوجتي، ضحكتُ، ضحك أبو عمر، ضحك الشاب، وتابعت السيارة هرجها ومرجها. ولأمر ما تصفحت جواز السفر بعدما تجاوزت الحاجز على مدخل اللاذقية، وإذا بصوت درويش يهمس:
تصفحت جواز السفر
فأدركت أني وصلت اليوم
دون أن أتذكر أني سافرت.
ضفة ثالثة
——————————–
عمر عزيز: صوت الغياب والحلم الذي لن ينتهي: رسالة إلى المناضل السوري في ذكرى استشهاده/ عمّار ملص
16-02-2025
أبو كامل، أُفكّر فيك كصوت الغياب الذي لا يُغادرني مطلقاً. أيُّ كلام يمكن له أن يملأ فجوة الغربة بين هاتيك الأيام مذ غادرت إلى اليوم. كنا نصحو كل يوم لنتذكر أن بشار الأسد، الذي يهين مَنظرُهُ عقلنا البشري، ما يزال قابعاً هناك في قريتنا.
بدايةً، للعِلم، سوريا التي أحببتَها، طَردت بعضاً من قَيحها. لم يَعُد موجوداً فيها من يدنّس ما تبقى من أرضها التي لم يُحرقها. نبذت سوريا عثَّ هذا الكوكب خارجاً.
نعيشُ منذ أسابيع أياماً كنّا نراها مستحيلة، لكنها جاءت، كنا نراها مستحيلة جميعنا ما عداك. ها قد أصبح الحلم المستحيل حقيقة.
سجن عدرا، ذلك المكان الذي قُيِّضَ له أن يكون سجناً ووطناً في آخر أيامك، أصبح اليوم فارغاً، لكن هذا الفراغ لم يُزِل وجع الفقد.
غريبة هاتيك الأيام يا أبو كامل، غريبةٌ جداً. لو قُيّضَ أن تكون لي كلمة مسموعة لدى السماء لسألتُها أن تعيدك إلى هذا العالم البائس لترى ما حصل. إنَّ هذا العالم مدينٌ لنا بشرح ما يحدُث، سيكون أمراً سهل الاستيعاب بالنسبة إليك. سيبدو ما جرى بالنسبة لك أمراً مُسلّماً به. من أين امتلكتَ مثل هذا اليقين بأنّ ثورة مثل هذه يمكن لها أن تنجح. من أين لك مثل هذا اليقين يا صديقي. أجدُ نفسي اليوم باحثاً عن ضحكتك التي كانت دائماً تسبق أيّ تفسير. لو كنتَ هنا الآن، هل كنتَ ستكتفي بابتسامتك الصامتة التي تقول إنك كنت تعرف كلّ شيء مسبقاً؟
هناك تأريخاتٌ عديدة يا عمر، لقائي معك عند قدومي الرياض في عام 2006، وقتها نصحني صديقنا عمر أبو سعدة بالتعرف عليك. هل أبوح بَسرّي وأقول إنني حينها لم أكن أرغب في رؤيتك مجدداً. لك أن تتخيل، يا عمر، أنني بعد ذلك اللقاء الأول شعرتُ بثقل كلماتك، كأنك كنت تنقل عالماً كاملاً من الأفكار التي لم أكن جاهزاً لها. كنتُ يومها أحاول أن أبدو مثقفاً بما يكفي، أن أُخفي جهلي، لكن الحقَّ أنّ حديثك عن فوكو وعن «المراقبة والمعاقبة» جعلني أشعر وكأنني طفلٌ يحاول فكَّ رموز كتاب قديم مكتوب بلغة لا يفهمها. فوكو ودراسته للسجون، واعتمادُها على المراقبة بدل العقوبة الجسدية والجنسانية، ودورها في التحكُّم الاجتماعي.
داريتُ جهلي بالقول إنّ الترجمات إلى العربية تمت على يد فلاسفة من المغرب العربي، وإنّ لغتهم معقدة علينا نحن المشرقيون. لربما ينبغي أن أعترفَ أنني حاولت بعدها أن أقرأ كتاب المراقبة والمعاقبة، وفشلت. الترجمة جدُّ سيئة يا عمر. والله.
لكن الحقيقة أيضاً يا عمر أنني لم أكن مُستعداً للغوص في تلك الأفكار العميقة التي كنتَ تُلقيها ببساطة، وكأنها حكايا يومية. كنتَ تتحدث عن السجون كأنك زُرتها جميعاً، وعن الجنسانية كأنها مفتاحٌ لفهم العالم، وأنا كنتُ مشغولاً بمحاولة إدراك ما تقصده أصلاً.
بدوتَ دائماً حالماً، حتى في مشاريعك التي كانت تبدو للبعض مستحيلة أو عبثية. خُذ مثلاً فكرتك في إعادة تشكيل «أبناؤنا في الجولان»؛ و تحويله من برنامجٍ تعليميّ مُخصَّص لأطفال سوريا المُتعَبة إلى جعله مادة درامية تَفتح لهم نوافذ جديدة على التعلُّم، فكرة أشبه بمشهد مأخوذ من لوحة سوريالية، يثير الدهشة وربما التردُّد. يبدو أن الحلم، يا صديقي، لم يكن مجرد خيار بالنسبة لك، بل كان ضرورة. أو هكذا سأعرف لاحقاً.
أذكر أنني حاولت تحويل الحديث إلى الشعر، حقل أعرف فيه القليل على الأقل. كنتُ أظن أن الشعر سيكون أرضاً محايدة، لكن حتى هنا لم نكن على توافق. لم أكن أفهم ولعكَ بمحمود درويش وقتها، وكنت أجادلكَ بلا هوادة حول معاني قصائده. أذكر أنني قلت لك مرة إن قصيدة «حلمتُ بقصيدة زرقاء من سطرين» تبدو لي مُبهمَة حَدَّ الغموض، وسألتكَ ما الذي يمكن أن تعنيه «قصيدة زرقاء». ابتسمتَ حينها كعادتك. سيموت درويش ونحضر سويّة بثَّ جنازته من بيتي في الرياض. سأقول لك إن محمود درويش سيصبح عصياً على النقد كأي نبيّ، وأنني أُفضِّل نص أمجد ناصر أكثر. وستبتسم مجدداً. لم نتفق في الشعر إذن، ولم أكن مهتماً بالفلسفة حينها (ما زلت على موقفي الجاهل حتى الآن، حتى بعد قراءاتي في هذا الحقل الإنساني. سألوم الترجمة دائماً). أنقذتنا إيديث بياف من صمت غريب بيني وبين ابتسامتك. أيّ رِقّة هذه يا رجل كنتَ تحملها معك!
لكأنَّ السماء تدخَّلت بعد ذلك لأجدك تسألني عن فايز، عمّي، ولتبدأ الرحلة الأكثر عمقاً في حياتي حتى اليوم. وكأن سؤالك هذا فتح الباب على شيء أكبر من مجرد حديث عابر. بدأت تلك الحوارات الدورية بيننا نحن الثلاثة، مكثفة وعميقة، كأنها طقس مُقدَّس يُعاد كل أسبوع. لم يكن الأمر مجرد كلمات تُقال، بل جلسات تفيض بالتفكير، وبأسئلةٍ تأخذنا بعيداً في عوالم لم نكن نعلم أنها تسكن داخلنا. وجدتُ نفسي بينكما كمن جلس تحت شجرة التين المُقدَّسة، التي احتضنت بوذا حتى وصل إلى استنارته. كان الحوار يتدفق بينكما، كساقية في جبل. كانت الكلمات تضرب جذورها كشجرة بودهي ذاتها. والحكمة ضالّة المؤمن يا صديقي.
سيُضاف تدريجياً إلى قائمتنا رشا وإبراهيم، وفي مرحلة متأخرة معتصم، لتكتمل دائرة السهرات. سنستسلم لسحر السينما كما لو أنها طقسٌ من طقوس النجاة، نشاهد كيروساوا ونكتشف غودار سوية، نغرقُ في عوالمهم ونصنع منها عوالمنا الصغيرة. كانت السينما طريقتك، كما قلنا مرة، «لرشّ السكر على الموت»، ووسيلةً للهروب من المفاجآت القاسية التي كان يبدو أنك تعرف أنها ستأتي يوماً.
سيتضح مع الوقت هوسكَ بالصور، بشكلياتها وجمالياتها، كأنك كنت تحاول تثبيت لحظاتٍ شعرتَ في أعماقك بأنها لن تدوم طويلاً. كنت تلتقط الصور بوعي غريب، كأنك تصنع ذاكرة مؤقتة، ليس لنا، بل ربما لك وحدك. لكن الغريب في الأمر أن كل هذه الصور اختفت بعد رحيلك، كأن هناك اتفاقاً سرّياً بينك وبين القدر، كأنكما قرَّرتما معاً أن لا تتركا لنا شيئاً يُحيلنا إلى نوستالجيا الفقد.
بحثتُ بين صوري عن أثر لك، ولم أجد سوى صورتك في أميركا وصورة أخرى حين زُرتني في المشفى. هذا كل ما تبقى، صورتان فقط، كأنها تذكير بأنك لم تكن تعيش لتترك خلفك أرشيفاً من الذكريات، بل كنت تعيش اللحظة بكل امتلائها، ثم تدعها تتلاشى كما تريد. الصور التي تجمعنا الآن ليست إلا تلك التي ترسّبت في ذاكرتنا، تحمل ملامحك وكلماتك، ونوعاً من الحضور الذي لا تملكه أيّ صورة مادية.
سنكتشف لاحقاً أن تلك السنوات الخمس لم تكن سوى بروفات، تمرينات أولية على الحياة التي ستأتي بعدها، حيث سنصبح جميعاً أسرى الانتظار. سنعيش وكأن حياتنا تجري مع وقف التنفيذ، كل يوم يمرّ كتحضير للحظة واحدة، لحظة العودة إلى سوريا، تلك اللحظة التي بدت لنا كأنها نقطة النهاية التي تستحق أن نبني حياتنا حولها.
كلٌّ منّا كان مهووساً بزمنه الخاص؛ أحدهم يعيش في سباق مع الوقت لإنهاء التزاماته العائلية، وأنا وعُصبتي نَعدُّ الأيام لدفع بدل الجيش، كلُّ واحدٍ منا يربط مصيره بتلك اللحظة المجهولة. لم نكن نعلم أن انتظارنا سيأخذ أشكالاً أخرى، وأن تلك اللحظة ستأتي أخيراً، لكنها لن تشبه ما تخيلناه.
بدأت القصة في تونس، حيث سقطت أول أحجار الدومينو، وصولاً إلى سوريا التي انتفضت فجأة، كأنها تستيقظ من حلم طويل، أو كابوس مديد. تلك اللحظة التي عشنا ننتظرها، جاءت، لكن ليس كما رسمناها في أذهاننا. لم تكن لحظة العودة البسيطة التي حلمنا بها، بل كانت لحظةً أعادت صياغة كل شيء: حياتنا، أفكارنا، وحتى تعريفنا للوطن.
فاتَ أوانُ أن أخبركَ اليوم أنني كنت متشائماً عندما أوصلتكَ إلى المطار من كومباوند الفال، حيث كنتَ تسكن. لا زلت أذكر كل التفاصيل الصغيرة التي أحاطت بتلك اللحظة:
رقم الأستوديو الضيّق A1205، الجدران التي بالكاد تتسع للكتب التي تَكدَّست فوق بعضها، معظمها بالفرنسية، كأنك كنت تبني قلعة من الورق في مساحة بالكاد تكفيك.
كنتُ أحاول، بصمت، أن أتآمر مع الجغرافيا، آمِلاً أن يتباطأ كل شيء من حولنا:
الطريق، الزمن، حتى إشارات المرور. ربما تمنيت أن تصل متأخراً وتفوتك الطائرة، كأن ذلك يمكن أن يُغيَّر شيئاً. لكنك كنت مختلفاً، دائماً ما ترى الطريق واضحاً، تسلكه بثقة كأنما تخطو فوق أرض تعرفها مسبقاً.
لم تكن تلك الرحلة بالنسبة إليك مجرّدَ مغادرة أو انتقال من مكان إلى آخر، بل كانت خطوة أخرى في مسارك الذي كنتَ ترسمه بثبات، حتى عندما لم يكن واضحاً لنا نحن من حولك. أما أنا، فقد كنتُ عاجزاً عن مجاراتك في رؤيتك، مُتردِّداً أمام قرارك، وكأنني أحاول أن أُمسكَ بالزمن لأوقفه، أو أُمسكَ بكَ لأُبقيكَ قريباً.
ستُسمّي صفحتك الجديدة على فيسبوك «مبسوط راجع على بيتي»، وكأنك كنت تحتفل بانتصار صغير وسط بحر من الخسارات. ستبدأ العمل بحماس على مشروع المجالس المحلية، كنتَ تراها بديلاً مُحتملاً عن مؤسسات الدولة المتآكلة؛ كنتَ تؤمن بأنها خطوة أولى نحو مجتمع جديد. اختلفنا حينها كثيراً، كعادتنا. كنتُ أراه مشروعاً حالماً، رومانسياً، ومحدودَ الأفق. قلتُ لكَ إن السوريين بحاجة إلى عقد اجتماعي جديد، إلى رؤية أعمق من مُجرَّد تنسيقيات ومجالس محلية. لكنك كنت ترفض حتى فكرة «العقد الاجتماعي»، وكنت ترى في روسو مجرد مهرطق آخر لا يستحق التوقف عنده.
هل أَغضبتُكَ تلك المرة يا أبا كامل؟ هل شعرتَ أنني أقل إيماناً منك؟ لا أدري. كل ما أدريه أنني كنتُ أبحث عن إجابات، وأنت كنتَ تعيش في يقينك، ذلك اليقين الذي لا يملكه إلا الأنبياء. كنت ترى هذه المجالس خطوة ضرورية، وأنا كنتُ أراها مجرد تكرار لخطاب معسول، نسخة محسّنة من تنظيرات حزب البعث التي استهلكها الزمن. أخبرتكَ بذلك مباشرة حين أرسلتَ لي مسودتكَ الأولى عن المجالس المحلية، وبدلاً من أن تغضب، أكملتَ بنقاشك المعتاد، ذلك النقاش الذي لا ينتهي إلّا بابتسامتك الواثقة وكأنك تقول لي: «يمكن غلط، بُكرا بنشوف».
أما الآن، وبعد كل شيء، لا أملك إلّا أن أعترفَ أنكَ كنتَ أكثرنا وعياً بالضرورة التاريخية للتغيير. فاتك الكثير، نعم، لكن كل ما فاتك ليس سوى تفاصيل صغيرة في كتب التاريخ التي لا تعنيك ولا تعنيني. النتيجة الأهم، يا صديقي، أن سوريا حرّة كما أردت، كما حلمت، وكما تيقنتَ حتى في أحلك اللحظات. وكأنك كنت تعرف، قبلنا جميعاً، أن الأمل أيضاً كما الحلم ليس اختياراً بل ضرورة.
تأريخٌ آخر أريد أن أخبرك عنه، يا أبو كامل. كنتَ آخر من بكيتُهُم. خسرتُ الكثير من أحبتي وأقربائي، لكني لم أذرف دمعة واحدة على أيٍّ منهم. بكيتُ بحرقة بعدها مرة واحدة فقط، عندما غادر آدم إلى كندا، لكنها كانت دموع الفقد المؤقت، وليست دموع الغياب الأبدي الذي تركه رحيلك. جفَّ الدمع تماماً منذ ذلك الحين، يا عمر، وكأن فقدكَ أغلق حنفية الحزن داخلي، أو ربما استنفدها بشكل كامل.
لا أذكر التفاصيل بدقة، لا أذكر في أيّ شهر اعتُقلت، ولا في أيّ شهر فارقتَ الحياة، ولا حتى كم من الوقت قضيتَ في زنزانتك. الذاكرة تلاشت وكأنها تحاول حماية نفسها من عبء التفاصيل. لا أذكرُ إن كنتَ قد رحلتَ قبل فايز أو بعده.
بالمناسبة، فايز أيضاً رحل. أعرف أنه عاش الثورة في أيامها الأولى، بكامل وعيه وحماسته، قبل أن تخونه ذاكرته وتبدأ الثورة في التلاشي داخل عقله كما تلاشت سوريا في أعيننا.
زُرته في دار العجزة الباريسيّة، ذلك المكان الذي بدا وكأنه صُمِّمَ خصيصاً للموت:
كان يقطن في حيّ غريب، حي تبدأ فيه محلات بيع التوابيت والزهور، ثم تمتد إلى دار العجزة، وفي النهاية توصلك إلى المقبرة.
قاسية هي هذه الــ «باريس» يا عمر، قاسية بشكل يجعلني أتساءل عن علاقتنا بها. كأنها مدينة تتنفّسُ الحزن وتكتنزُ الرحيل، لكنها تمنحه طابعاً أنيقاً يُخفي قسوته خلف واجهات زجاجية وباقات من الزهور.
فايز كان هناك، جسداً متعباً بدون ذاكرة، بلا أثر لذلك الحماس الذي كان يضيء وجهه في مكالمات السكايب. باريس لم ترحمه، كما لم ترحم بعده فدوى وميّ، وكأنها تخبرنا أننا مجرد عابرين في عواصم لا تُبالي إلا بتفاصيلها الصغيرة. أما أنا، فقد خرجتُ من تلك الزيارة وأنا أحمل إحساساً آخر بالفقد، إحساساً يُضاف إلى الخسارات التي تراكمت منذ أن غبت.
ماذا عن البقية؟
جميعهم بخير، على طريقتهم. هذه جردة سريعة يا أبو كامل. رشا وآدم في مونتريال، يعيشان حياة مختلفة تماماً. رشا، التي كانت دوماً تمشي على الحافة بين الواقع والحلم، أصبحت الآن في قلب الحلم الكندي، ولكنها، بشكل مفاجئ، تعيش الحلم السوري أيضاً، حتى إشعار آخر. يبدو أن نصائحك لها عن ضرورة استقلال المرأة اقتصادياً أثمرت. ماذا أقول لك؟ سامحكَ الله على نظريتك حول تمكين المرأة، خربت لنا بيتنا يا رجل.
(أتخيّل ضحكتك اللطيفة الآن، تلك الضحكة التي كانت تحمل دائماً شيئاً من التهكُّم اللطيف، وكأنك كنت تعرف كل شيء مسبقاً).
أما آدم، الذي رأيتَهُ رضيعاً ذات يوم، فقد أصبح الآن في الثالثة عشرة. تخيّل يا أبو كامل، لقد خطَّ شارباه!
إنه يتقن ثلاث لغات بطلاقة والرابعة في الطريق. مواطن كندي حقيقي، يعيش حياة لا تشبه شيئاً ممّا عرفناه نحن. لكنني، في زيارتي القادمة له، سأحاول أن أحقنه ببعض الجرعات السورية، علّه يشعر قليلاً بما كُنّا فيه وما وصلنا إليه. لا أريد له أن يفقد الرابط تماماً، أن يتحول إلى غريب عن تلك الأرض التي صنعت كل شيء فينا.
وصلتني صورته مؤخراً، يقف إلى جانب العلم الجديد القديم، ذلك العلم الذي يحمل كل أحلامنا وكل جراحاتنا. ربما هناك بوادر خير هنا، بوادر صغيرة لكنها تكفي لتجعلني أبتسم، حتى وأنا أكتب لك، لأنه في النهاية، كل ما نعيشه الآن هو امتدادٌ لما كنت تؤمن به دائماً، ذلك الإيمان الذي لم يتزعزع، حتى حين كنا نحن جميعاً غارقين في الشك .
إبراهيم، يا أبو كامل، صار مترجماً «أدّ الدنيا» في لندن. ذلك الشاعر الذي كانت كلماته تملأ الجلسات بروحها الخاصة، وجد اليوم مساراً جديداً. الترجمة بالنسبة له ليست مجرّد نقل للمعنى، بل هي فنٌّ في حد ذاته. رغم ذلك، لا أنكر أنني أفتقد شعره، ذلك العالم الذي كان يخلقه بكلماته. لي معه حسابٌ لاحقاً، لأنه منحنا فراغاً كبيراً بغياب قلمه، لكنه، في كل ما يفعله، لا يزال يحمل تلك الروح التي عرفناها فيه.
أما عُديّ، الذي كنت تحبه جداً، فهو يكتب ويراجع، بل ويترجم. شابٌ مبدع حقاً، يا عمر. أتابع كل ما يكتبه بشغف، من النقد الذي يفتح العيون إلى القصص التي تأخذك إلى أماكن لا تعرفها. يدهشنا دائماً، وكأنَّ كتاباته نافذة صغيرة تطل منها سوريا التي نحلم بها.
معتصم؟ إنه في بروكسل الآن، لكن ليس لوقت طويل، كما أظن. يبدو أنه عائدٌ إلى سوريا، ليصبح جزءاً من ذلك الحلم السوري الذي لطالما آمنتَ به. معتصم واقعي بشدة، لكنه يحمل دائماً لمسة حالمة، تلك اللمسة التي تجعل من الأحلام أمراً يمكن تحقيقه. يتحدث عن سوريا العلمانية التي أُدافع فيها عن حق أمي في ارتداء الحجاب، وعن حق صديقي في اختيار الإلحاد.
أما عمر أبو سعدة ، فهو يكتب المسلسلات التي يُقال عنها إنها ناجحة جداً. لا أتابع التلفزيون منذ عقد كامل، لكنني لا أشكُّ أبداً في قدراته. نعلم علم اليقين أن عمر مُعلّمٌ حقيقي فيما يفعله. هو الآخر يحمل رؤيته الخاصة لسوريا، ويرويها بطريقته.
لا أعرف الكثير عن عائلتك يا عمر، سامحني. لم يكن بيننا حديثٌ عنهم إلا القليل. تحدثت مع ندى لأطلب منها عنوان قبرك لأزوره ، لكنني لم أجرؤ على ذلك. منذ عودتي إلى سوريا في شتاء 2019، بعدما صحَّحتُ وضعي مع النظام السوري، بقيَتْ رهبةُ زيارة قبرك تُلاحقني . زرتُ فرع فلسطين ثلاث مرات يا عمر. كنتُ خائفاً، خائفاً حتى من زيارة قبرك. يا للبؤس. لكن، لحسن الحظ، زالَ هذا الكابوس الآن.
لم أجرؤ على أن أُخبِرَ ندى أنّ جوازات سفرك القديمة لا تزال معي، أحتفظُ بها وكأنَّها كنز. لصٌّ أنا، يا عمر، لكن ليس على طريقتهم. كنتُ أبحث عن أيّ شيء يُبقيني متصلاً بك، وكأن هذه الوثائق التي عبرتَ بها العالم تحمل جزءاً من روحك. ما زال لدي أيضاً شالكَ الصوفي الجميل. هذا كل شيء. سامحني على هذا التعلُّق.
وبالحديث عن القبور، يا أبو كامل، هل تعلم أنك محظوظ جداً لأن لك قبراً نزوره، مكاناً نعرف أنك انتهيت إليه؟ هذه نعمةٌ نادرةٌ في سوريا اليوم يا صديقي. نستطيع أن نأتي إلى هناك، أن نضع زهرة، أن نتحدث إليك. ميزة لم يحصل عليها كثيرون من أحبائنا الذين غُيِّبوا في سجون النظام، وابتلعتهم تلك الجدران إلى الأبد.
رامي سليمان، صديقي النبيل من أيام المدرسة، اختفى كما لو أنه لم يَكُن. وإياس، ذلك الشاب الهادئ الذي لا يقل وداعة عن وداعتك، اعتُقِلَ بلا سبب واضح. لا أعرف حتى لماذا أخذوه، ولماذا اختفى من حياتنا بهذا الشكل القاسي.
ثم هناك المئات يا عمر، الذين لم يبقَ منهم إلا أسماؤهم، تُردِّدها الذكريات كأنها محاولة ضعيفة لإبقائهم على قيد الحياة. يا لهذا الكابوس الذي كُتِبَ علينا أن نحمله معنا حتى آخر أيامنا. نحن الذين بقينا هنا نحاول أن نتذكر، أن نحفظ الأسماء، كأننا نحارب النسيان الذي يحاول أن يبتلعنا جميعاً.
مشتاقٌ لك يا أبو كامل كما لا تتخيل. مشتاقٌ لك يا صديقي، مشتاقٌ لابتسامتك ولروحك اللطيفة. هل رأى سجّانوكَ هذه الابتسامة. كيف استطاعوا أن يتغلَّبوا بحقدهم وكراهيتهم على هذه الوداعة.
في مقال كتبه عباس بيضون عنك (حتى هذا أحبه أكثر من درويش) قال: «تَذكّروا هذا الاسم، لاحقوه، اسألوا عنه، اعرفوا في أيّ معتقل هو. رُعبي أن يكون اختفى واحتبس صوته إلى الأبد». كان بيضون مُحقّاً في بعض ما قاله. اختفيتَ يا عُمر، لكنّ صوتكَ لم يحتبس إلى الأبد ولن يحتبس. باقٍ هذا الصوت ما بقيَتْ سوريا.
إلى اللقاء.
عمّار
موقع الجمهورية
——————————–
جمهورية الموز/ يزن الحاج
16 فبراير 2025
درَج مصطلح “جمهورية الموز” منذ بدايات القرن العشرين للدلالة على الدول (في أميركا الوسطى والجنوبية خاصة) المعتمِدة اعتماداً شبه كليّ على تصدير بضاعة بعينها (الفواكه في الغالب)، واستيراد كل ما عدا ذلك، مع وجود احتلال غربيّ، بالتوازي مع نظام محلّيّ قمعيّ دكتاتوريّ. يرحل الاحتلال العسكري الصريح ويبقى الاحتلال الاقتصادي الذي يربّي قادة محليّين على هواه بهدف إبقاء الهيمنة.
وصل إلينا المصطلح من الروايات قبل أن يصلنا من الفضاء السياسي-الاقتصادي. تلك أيام حمّى روايات أميركا الجنوبية التي أصابت الجميع بلا استثناء، وأطاحت بكل القراءات الأُخرى. لم يكن الأمر محض استعارة أجواء كما كانت عليه الحال مع الأدب الروسيّ، إذ استوردنا أشجار البتولا إلى رواياتنا على حدّ تعبير عبد الرحمن منيف. كانت حُمّى من نوع آخر، حُمّى تماهٍ مُطلق. تلك البلاد البعيدة، جمهوريات الموز تلك، لا تُشبهنا وحسب، بل هي نحن ولكن بلا موز. موزنا قمح وقطن وربّما شيء من نفط.
في سورية كان للموز معنى آخر قريب وبعيد في آن. بل لعلّ الموز في ذاته يصلح أن يكون مفتاحاً لفهم سورية منذ أواخر الثمانينيات وصولاً إلى منتصف التسعينيات مع ارتدادات لاحقة. كان الموز (وما يزال بنسبة معقولة) بورصة طبقية اقتصادية اجتماعية في آن. بعد إفلاس الدولة والعقوبات الاقتصادية أواخر الثمانينيات، اختفت سلع كثيرة من السوق. علب المناديل كانت رفاهية يُضرَب بها المثل، ولكنّ الموز بالذات كان عالماً آخر؛ مَن يعرف الموز، ومَن أكل الموز، هو سوريّ مختلف بالمطلق عمّن لم يدخل الموز بيته.
سلعة أكبر بكثير من أن نصفها بالرفاهية. هي الذهب أو ما يعادله. انتشرت حكايات كثيرة عن قهر الآباء والأُمّهات ودموعهم حين يطلب أحد أطفالهم موزة يدرك الأهل أنها ستلتهم نصف أو أغلب أو ربما كلّ ما يمتلكون من مال شحيح أصلاً. كان الموز مؤشراً اقتصادياً اجتماعياً دقيقاً: الطبقة الفقيرة لا موز لها، الطبقة الوسطى تتعامل بأجزاء الموزة حين تُقسِّم الموزة الواحدة على طفلين أو ثلاثة أو أربعة، وحتى الطبقة الغنية (التي لم تكن تشكّل نسبة كبيرة أصلاً في سورية حافظ الأسد) ما كانت تعرف الموز كغيره من الفاكهة.
بعد البحبوحة الاقتصادية النسبية، تلاشى الذُّعر السوريّ إلا حيال الموز بالذات. حتّى بعد أن بات في متناول الطبقة الوسطى وبعض الطبقات الأدنى، صار الموز أشبه بـ”تابو”. يتباهى كل بيت حين يقدّمون الفاكهة لضيفهم بتاج الموز الذي يعتلي كل شيء: نحن لسنا جياعاً، فلدينا الموز. ويأكل الضيوف من جميع أنواع الفاكهة باستثناء الموز: نحن لسنا جياعاً كي نهجم على الموز، لأننا نعرفه ونعرف مذاقه. كانت تنبيهات الأهل صارمة للأطفال: كُلْ ما تشاء عند الناس باستثناء الموز كي لا يظنّوا أننا أدنى منهم.
ترسّخت العادة لدينا، نحن الجيل الذي وُلد قبيل الأزمة الاقتصادية وأثناءها، ولم نعد نمدّ أيدينا إلى الموز إلا حين نكون في بيتنا أو بين “شلّة” تعرفنا ونعرفها. فالموز للجوعى، للفجعانين الذين لم يروا موزاً في حياتهم. وانتشرت عادة في بعض المدن حين تُؤكَل الموزة ملفوفة بالخبز مثل أي سندويش كي يشبع الطفل من موزة واحدة.
مع الانهيار الاقتصاديّ الذي أوصلَ تسعين في المئة من السوريين إلى ما دون خط الفقر، عادت بورصة الموز تُكشّر عن أنيابها من جديد. ولم يستعِدْ السوريون ابتساماتهم إلا حين انخفضت أسعار الموز بعد سقوط النظام. يفرح معظمهم مع أنهم لا يدركون المعاني الضمنية للموز، إذ وُلدوا بعد سنوات الرماد في الثمانينيات بكثير. بدا وكأنّ فوبيا الموز، أو تابو الموز، ينتقل بالجينات، ينتقل في اللاوعي الجمعيّ، مثله مثل فوبيا المرتفعات وفوبيا الأماكن الضيّقة وفوبيا العتمة.
الغريب أنّ الموز لم ينتشر في الأدب السوريّ. ربّما لأن أمكنة الأدب اقتصرت على المقاهي والشوارع وعلى طبقة مثقّفة يهمّها الكلام أكثر من الطعام. في واقع الحال، ليس هناك اهتمام كبير في الأدب السوريّ بالطعام، ولعلّ الكتّاب ظنّوه إسفافاً يُخلّ بسموّ الأدب. ولكنّ الطعام أكثر بكثير من كونه حشواً لبطن أو مصران، كما يقول المثل السوريّ. هو حياة كاملة، حياة أجيال عديدة من السوريين يخشون التابو ولو لم يدركوا معناه.
* كاتب من سورية
العربي الجديد
—————————–
عزمي بشارة: يجب أن ينتج عن الحوار الوطني في سوريا مبادئ ملزمة وألا يكون شكلياً
2025.02.16
شدّد المفكر العربي، مدير عام المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، عزمي بشارة، على أن مؤتمر الحوار الوطني في سوريا لن يجدي إذا بدا شكليّاً وإرضائيّاً، بل يفترض أن تنتج عنه مبادئ دستورية مُلزمة يُصاغ الدستور على أساسها.
وتطرق الدكتور عزمي بشارة في حوار مع صحيفة “العربي الجديد”، إلى ملفات التهديد الإسرائيلي وشكل العلاقة المتوقعة بين موسكو والسلطة الجديدة التي تتسم بالبراغماتية على خلاف بشار الأسد، والدعم العربي الدبلوماسي لرفع العقوبات، والدعم الاقتصادي المباشر لسوريا، بالإضافة إلى ملف العدالة الانتقالية والجيش والعلاقات بين سوريا والمجتمع الدولي، وقال إن غالبية الدول معنية بنجاح تجربة الانتقال لأسباب مختلفة، وألا ينشأ فراغ جديد في سوريا. ويجب استغلال ذلك.
وفيما يلي نص المقابلة:
إلى أي مدى ترى الإدارة الجديدة في سوريا عازمةً على تحقيق حوار وطني سوري شامل، تتمثل فيه جميع مكونات الشعب السوري، وهل ترى خطوات جدّية على الأرض في ما يخص ذلك، بما يشمل إجراء انتخابات ديمقراطية نزيهة مستقبلاً؟
أي حوار وطني يجب أن ينعقد بالضرورة بمشاركة مختلف فئات الشعب السوري وتياراته السياسية والاجتماعية وانتماءات أفراده المذهبية والدينية والإثنية، بعد إقصاء النظام السابق ومن يواليه.
لكن السؤال يتعلق بمدى إلزامية نتائج الحوار لناحية المبادئ الدستورية التي يجب تبنّيها، إذ يُفترض أن يتوصل الحوار إلى حد أدنى من الإجماع المُلزم الذي يمكّن من العيش المشترك، وسقف أعلى من الحقوق والحريات. لا يجوز أن يكون الحوار شكليّاً وإرضائيّاً، بل يفترض أن تنتج عنه مبادئ دستورية مُلزمة يُصاغ الدستور على أساسها.
السلطة الحالية مشغولة جداً وبحق بتوفير الظروف اللازمة لتسيير الحياة الاجتماعية والاقتصادية، ولا سيما على مستوى توفير الأمن ورفع العقوبات المفروضة والتي تشل الاقتصاد السوري، مستغلةً الاعتراف الدولي بالسلطات الانتقالية.
من الصعب القيام بهذه المهام من دون الانفتاح على فئات الشعب السوري كافّة، ولا يمكن الاستغناء عن العاملين في الدولة، وعن الجزء الأكبر من أجهزتها المدنية. وهذا يتطلب إعادة تثقيف لعناصر هيئة تحرير الشام وغيرها من الفصائل للتخلّي عن زاوية النظر الفصائلية وعقلية العمل المسلح التي لا تثق بغير الموالين، أو العقلية السلفية التي تصنّف الناس بموجب دينهم ومذهبهم ودرجة إيمانهم على مستوى المظهر الخارجي وغيره.
ثمّة تقدم في هذا المجال على مستوى العاصمة وبعض المناطق المدنية، ولا بد من بذل جهدٍ أكبر، هذا إذا توفرت النية لذلك.
– هل تعتقد أن روسيا سوف تتجاوب مع مطالب سوريا بتسليم بشار الأسد وفق احتمال لترتيبات جديدة في العلاقة بين البلدين تضمن المصالح الروسية؟
لا أعتقد ذلك، كيف تسلّم الأسد، وهو الذي، بدعمها، استمرّ في الحكم طوال عقد منذ ممارسة حق النقض مراتٍ في مجلس الأمن، وصولاً إلى التدخل العسكري برضا أميركي عام 2015؟ ومن ثم هي تتحمّل جزءاً من المسؤولية عما آل إليه الوضع في سوريا في ظل حكمه.
على كل حال، في هذا العالم الذي تحكمه علاقات القوة والمصالح العارية أصبح كل شيء جائزاً. ولكن سوف تنشأ علاقات عادية بين روسيا وسوريا في مجالات أخرى، وهذه لا بد منها على مستوى الدولتين. فثمّة علاقات بين الدول من المفترض أن تتجاوز العلاقة بين الأنظمة. وأعتقد أن الإدارة الحالية تتمتّع بالبراغماتية اللازمة لحكم سوريا، أما النظام في روسيا فتجاوز منذ مدة طويلة البراغماتية إلى المَكْيافيلية.
– حذّرت في مقابلة سابقة لك من العمل الإسرائيلي على تقسيم سوريا. ما هو شكل التقسيم الذي تطمح له إسرائيل؟ وكيف يمكن مواجهته؟
تلخّصت استراتيجية إسرائيل خلال الثورة بتشجيع كل ما من شأنه أن يُضعف سوريا. وقد فضّلت سوريا ضعيفة (مقسّمة في الواقع إلى أربع مناطق) في ظل حكم الأسد الذي تربّع على خرائب بلده. وتعاونت مع روسيا وأميركا خلال ممارسة هذه السياسة. وكل ما قامت به إسرائيل منذ سقوط الأسد من تدمير للبنية التحتية العسكرية ومحاولتها الحيلولة دون قيام جيش سوري يؤكّد هذا التوجه.
غياب مؤسسات الدولة حالياً فرصة ذهبية بالنسبة لها، ليس فقط للتوسّع، وإنما أيضاً للبحث عن نفوذ في سوريا. ولا أعتقد أنها تنازلت عن تصوّرها القاضي بضرورة تقسيم سوريا.
أما ممارساتها فحدّث ولا حرج. ولذلك يجب أن تدرك الإدارة الجديدة أن وحدة الشعب السوري في ظل ثوابت وطنية ومحرّمات أمر مصيري لدولة أراضيها نفسها محتلة، وتعد قضية فلسطين أساسية بالنسبة لها على مستوى دورها الإقليمي ومكانتها، وعلى مستوى الروابط التاريخية مع فلسطين وشعبها. وتجاهل هذه القضايا مؤقتاً إلى حين رفع العقوبات والإصغاء للنصائح الغربية بعدم إثارة قضايا المناطق المحتلة لن يكبح جماح إسرائيل أو يدفعها إلى تغيير مخطّطاتها.
– ما أهمية الانفتاح العربي على سوريا وما المطلوب عربيّاً لدعم المرحلة الحالية؟
هذه أولوية بالطبع. وأعتقد أن الإدارة الحالية تدرك ذلك. المطلوب هو الدعم الدبلوماسي لرفع العقوبات، والدعم الاقتصادي المباشر، والاستثمار فوراً في البنية التحتية، وفي القطاعات الإنتاجية، لا سيما الزراعة والصناعة الزراعية، وتشجيع رجال الأعمال السوريين على العودة للاستثمار في سوريا، ولا سيما في الصناعات التي اشتهرت بها سوريا. وتشجيع الدولة على تطوير القطاع السياحي الواعد جداً الذي لم يُستغل في سوريا على نحو كافٍ في الماضي بسبب الانغلاق الذي كان قائماً.
تُوجّه منظماتٌ حقوقية سورية انتقادات إلى الإدارة الجديدة لعدم تصدّيها للانتهاكات التي يقترفها عناصر محسوبون عليها بحق مواطنين سوريين، وهي انتهاكاتٌ تتكرّر في أكثر من مكان في البلاد. لماذا لا تستطيع الإدارة الجديدة وقفها، وبعضها يأخُذ طابعاً طائفيّاً؟
هذه وظيفة المنظمات الحقوقية ويجب أن تقوم بها، ويفترض أن تشكرها الإدارة الجديدة على لفت نظرها إلى هذه الأمور، فقد يكون بعض تلك الانتهاكات خارجاً عن السيطرة، كما يساعد هذا النقد، إذا لم يتضمّن مبالغات، الإدارة الجديدة على ضبط عناصرها، فالصمت على بعض الممارسات يشجّع على مواصلة ارتكابها.
ما زالت الإدارة الجديدة فتية. وهي تواجه تحدّيات ثلاثة في هذا المجال: ثقافة عناصرها الأمنية، وعدم قدرتها على السيطرة على التفاصيل في جميع المناطق لمحدودية حجمها قياساً بحجم سوريا، وعدم تفعيل أدوات قانونية في المحاسبة على التجاوزات في هذه المرحلة المبكرة.
– ما تقييمك للتعامل مع ملفّ العدالة الانتقالية؟ وما يجب القيام به في الفترة الحالية؟
هذا لم يحصل بعد. ويُفترض أن يكون تشريع العدالة الانتقالية من أهم وظائف هيئة الحكم الانتقالي، أو السلطة التشريعية المؤقتة المزمعة إقامتها. التشريع للعدالة الانتقالية، بما في ذلك تحديد الأجهزة المسؤولة، وإنشاء بعضها، شرط ضروري. ولكن ثمة شروط أخرى، مثل رفض التعميم ونبذ الشائعات والمبالغات وتجريم التحريض الطائفي، والتشجيع على المصالحة لكي يتمكّن المجتمع السوري من طي هذه الفصل، والانتقال إلى مرحلة جديدة من تاريخه. وهذا لن يحصل من خلال شعبوية وسائل التواصل الاجتماعي، ويجب أن تقوده الإدارة الجديدة، ولا سيما أنه يصعب المزايدة عليها في العداء للنظام السابق.
– هل حلّ الجيش السوري خطوة صحيحة، وما هي قدرة الرئيس أحمد الشرع في توحيد الفصائل في جيش واحد؟
الإدارة حلّت الجيش، بغض النظر عن تعدد الآراء وتقييم تجارب سابقة (في العراق جرى حل الجيش. وفي جنوب أفريقيا لم يحل الجيش بعد إسقاط نظام الأبارتهايد، بل تغيرت قيادته وعقيدته). وأصبحت سوريا أمام وضع قائم، وآمل أن ينقذوا ما يمكن إنقاذه باستخدام الهيكلية القائمة، وعدم البدء من الصفر، واستدعاء ضباط منشقين وبعض الضباط غير المنشقّين، فمن الصعب بناء جيش من الفصائل من دون وجود عسكريين محترفين غير فصائليين.
لستُ خبيراً في تشكيل الجيوش، ولكن يبدو لي أن المهمّة لن تكون سهلة لناحية الدمج وتأسيس عقيدة عسكرية، وتقديم الولاء للوطن في الجيش على الولاءات الأخرى، ودمج انتماءات المجتمع السوري المختلفة الطائفية والمذهبية في الجيش، فهو الفرصة لتعزيز الوطنية السورية.
– هل يُمكن قراءة الانفتاح الدولي على الإدارة الجديدة، وجديده أخيراً دعوة الرئيس أحمد الشرع إلى باريس، أن له أسباباً تتعلق بالتعامل مع ملف الجهاديين في سوريا، والترتيب لعودة اللاجئين السوريين؟
لا أعرف. ولكن من الواضح أن غالبية الدول معنية بنجاح تجربة الانتقال لأسباب مختلفة، وألا ينشأ فراغ جديد في سوريا. ويجب استغلال ذلك.
تلفزيون سوريا
————————————
هل يمكن تطبيق التجربة الألمانية على “العدالة الانتقالية” في سوريا؟/ أحمد طلب الناصر
2025.02.16
يعد تطبيق “العدالة الانتقالية” من أكبر تحديات الدول التي شهدت جرائم حرب وضد الإنسانية على يد أنظمة استبدادية دكتاتورية، أو عبر المواجهات والنزاعات المسلحة؛ لتخلّف آثاراً مدمّرة كان انعكاسها كارثياً على الشعوب في مختلف الأصعدة.
وسوريا، التي لن نبالغ إن قلنا بأنها شهدت أشد حالات العنف دموية وتعقيداً على الإطلاق في زمن نظام الأسد المخلوع، أحوج ما تكون اليوم لاجتراح حلّ حقيقي ينتشل مواطنيها من دوامة الفوضى المدمرة التي أفرزها ذلك النظام، للوصول إلى مرحلة البناء والمواطنة الحقيقية؛ والتي لا يمكن بلوغها إلا عبر آلية انتقال عادلة.
على الرغم من التعقيدات والصعوبات التي تعرّضت وتتعرض لها آليات تطبيق العدالة على اختلاف أساليبها، إلا أن غالبية الدول تمكنت من تنفيذها بالصورة التي تتناسب مع طبيعة شعوبها وثقافاتهم ووعيهم الاجتماعي والسياسي، ما ساعدها على العبور بسلام من مستنقع العنف إلى ضفّة الاستقرار والمواطنة، (دون التشدد بالمطالبة في تنفيذ آلية ملاحقة ومحاسبة الأطراف المسؤولة عن العنف والانتهاكات، بحسب الآليات التي نصّ عليها مفهوم العدالة الانتقالية).
وإذا استثنينا التشدّد في تطبيق مبدأ “المحاسبة” في الحالة السورية أيضاً، لسببٍ أو لآخر، ولجأنا إلى دراسة تطبيق باقي الآليات المطروحة ضمن المفهوم العام والواسع للعدالة الانتقالية؛ فما هي الآليات الممكن تطبيقها في سوريا؟ وهل تنطبق عناصر تشكّلها على مرتكبي الجرائم بحق السوريين؟
قبل الخوض في رحلة الإجابة عن ذلك التساؤل، دعونا نسلّط الضوء قليلاً على تجربة مهمة شهدها التاريخ المعاصر؛ وهي التجربة الألمانية الاتحادية بعد انهيار جدار برلين، والتي كان من نتائجها إنهاء حالة خلاف وصراعات دامية كانت من الممكن أن تنشأ على الساحة الألمانية عقب توحيد شطريها.
النظام الألماني الشرقي والنظام السوري.. مقارنات وتقاطعات
بعد مضي ما يقرب من 28 عاماً على تشييده، انهار جدار برلين الفاصل بين جزئي المدينة الشرقي والغربي، في 9 تشرين الأول/ نوفمبر 1989، معلناً بذلك بدء انهيار الاتحاد السوفييتي، الذي لم يكن ليصل إلى ذروة مجده العسكري لولا سيطرة جيشه الأحمر على برلين وإنهاء الحكم النازي عام 1945.
شكل ذلك الجدار، خلال الأعوام بين 1961- 1989، مقبرة للحالمين بالعبور من برلين الشرقية وجحيم الشيوعية، إلى برلين الغربية ونعيم الديموقراطية، فقُتل خلال تلك الفترة 236
ألمانياً شرقياً في أثناء محاولتهم اجتيازه.
عموماً، كانت ألمانيا الشرقية (DDR) تتبع بشكل مباشر للسلطة السوفييتية في موسكو منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية 1945 وتقسيم الدولة الألمانية بين الدول المنتصرة آنذاك، فانتزع (ستالين) الجزء الشرقي منها ليضمه إلى “الإمبراطورية البلشفية”، وجعل حكمها يدار من قبل “الحزب الاشتراكي الألماني الموحد” بنظام قمعي استبدادي فرض قيوده على البلاد، وعاصمته برلين الشرقية.
أما الجزء الغربي “ألمانيا الاتحادية”، فوضع تحت إشراف الدول المتبقية من التحالف (بريطانيا- فرنسا- أمريكا)، لينشأ فيه نظام سياسي ديموقراطي، يتميّز عن الأول اجتماعياً واقتصادياً وثقافياً وعلمياً؛ اتخذ من المدينة الصغيرة (بون)، عاصمة مؤقتة ضمّت مؤسسات الحكومة وسفارات الدول.
جهاز الأمن الألماني (شتازي) والنسخة السورية
خلال المرحلة التي سبقت انهيار الجدار ومعه الاتحاد السوفييتي، وما تبع ذلك من توحيد شطري ألمانيا، كان المجتمع الشرقي، كما أسلفنا، يعاني من تسلّط المؤسسة الأمنية، التي كانت تدار من قبل الاستخبارات السوفيتية المتحكمة بمفاصل الدولة؛ تلك المؤسسة تمثلت بجهاز أمن الدولة وشرطته السرية، أو ما اشتُهر بجهاز (Stasi- شتازي)، الذي ضم بين صفوفه أكثر من 150 ألفاً من عناصر المخابرات، من جميع شرائح المجتمع، العسكرية والمدنية؛ ويقابل هذا الجهاز في سوريا خلال حكم النظام المخلوع “شعبة المخابرات العامة”، والتي يتبع لها موظفون عسكريون ومدنيون أيضاً.
مثّل ذلك الجهاز الأمني جحيماً مرعباً للشرقيين حينذاك، ما دفع جزءاً منهم للعمل ضمن فريقه لتحصين نفسه وضمان وظيفته ونيل رضا الحكومة العميلة للسوفييت، شأنهم بذلك شأن العديد من المخبرين المتعاقدين والمرتبطين بأجهزة أمن نظام الأسد خلال العقود الخمسة الماضية.
اقترفت العناصر المدنية المنتسبة للـ “شتازي” العديد من الانتهاكات الإنسانية بحق أبناء جلدتهم، من النشطاء المدنيين في المجالات الحقوقية والفكرية والثقافية، وأيضاً من المعارضين السياسيين للهيمنة السوفيتية، بالإضافة إلى المواطنين الذين يتواصلون مع أبناء الشطر الآخر من ألمانيا، أو ممن حاولوا الفرار إليهم؛ إذ اعتمد غالبية المخبرين على أسلوب “الوشاية” وكتابة التقارير الأمنية للإيقاع بهم، ومعظم المخبرين المدنيين كانوا من العاملين بمؤسسات الدولة الحكومية؛ تماماً كما حصل داخل مؤسسات النظام البائد، والذي حرص طيلة فترة حكمه على زرع المخبرين و”كتبة التقارير الأمنية” في جميع الدوائر والمؤسسات الحكومية والمدنية.
لعبت العناصر الأخيرة دوراً بارزاً في تسليم المتظاهرين والثوار والمتعاطفين معهم، لأجهزة الأمن، وخاصة في المراحل الأولى لاندلاع الثورة السورية؛ إذ تم الاعتماد الرئيسي عليهم للكشف عن أسماء وصفات المشاركين في التظاهرات، لفشل عناصر الأمن من اختراق صفوف المحتجين وكشف أسمائهم وأماكن عملهم. ونتيجةً لذلك، تم اعتقال آلاف المواطنين وزجّهم في أقبية الفروع الأمنية، ولما يزال العديد منهم مسجلاً في خانة المفقودين الذين تجاوز عددهم اليوم المئة ألف مواطن.
أما الشتازي، فقد كانت نتائج وشاياتهم تختلف بحسب وصف التهمة الموجّهة للمواطن (المخرب والمعادي لمبادئ الثورة البلشفية)، فتراوحت بين الفصل من العمل، والحرمان من الحقوق المدنية، والاعتقال المؤقت أو المؤبد، والتعذيب، وأخيراً التصفية الجسدية.
تقاطعت المؤسستان الأمنيتان، الشتازي ومخابرات النظام السوري المخلوع، في بعض النقاط المتعلّقة بالمهام الأمنية الموكلة لعناصرهما تبعاً للرتب والتشكيل الهرمي داخلهما.
فالعنصر المدني الذي ذكرناه، والذي يشكّل نسبياً الطبقة الثالثة والأخيرة من سلّم الجهاز الأمني، لاقتصاره على الدور الوظيفي المساعد خارج المؤسسة، وغالباً ما يكون بشكل سرّي داخل المجتمع المدني؛ يسبقه العنصر الأمني – العسكري، المرتبط إدارياً بالهيكل التنظيمي للمؤسسة الأمنية. وينقسم هذا العنصر إلى أفراد الطبقتين، الوسطى والعليا، من سلّم الجهاز؛ الوسطى (المتطوعون من الرتب الصغيرة والمتوسطة)، والعليا (القيادات من ضباط الرتب العليا – مصدرة الأوامر). الأمر ذاته انطبق على “المرتّبات” داخل أجهزة أمن نظام الأسد.
وتشترك مرتبات شتازي مع قريناتها في أمن النظام البائد، بالجانب الوظيفي الذي يؤديه ضباط وأفراد الجهازين؛ وهذا الجانب هو الأشدّ تعقيداً والأعمق أثراً في الحالة الإنسانية بالمطلق، ونقصد به الممارسات المرتبطة بشكل مباشر بانتهاكات حقوق الإنسان وارتكاب الجرائم المختلفة بحق المواطنين المدنيين.
تلخصت الأدوار الوظيفية عند شتازي بإجراءات: الاعتقال، والاختطاف، وممارسة جميع أشكال التعذيب الجسدي والنفسي المستقاة من تجارب التعذيب داخل المعتقلات والسجون والمعسكرات النازية، ثم السوفييتية؛ إضافة إلى التصفيات الجسدية نتيجة التعذيب الوحشي، وتنفيذ الإعدامات الميدانية بحق المعارضين، دون محاكمات علنية شفافة.
ونلاحظ أن كل ما طُبّق من انتهاكات داخل أجهزة ألمانيا الشرقية كان يطبّق أيضاً داخل معتقلات وسجون النظام المخلوع؛ والدلائل على ذلك تزخر بها وثائق وملفات التعذيب والتصفيات الجسدية عند أغلب المنظمات الحقوقية الأممية والمؤسسات الأهلية الدولية ذات الصلة.
وكما ارتبطت سجون النظام المخلوع بعمليات القتل والإعدامات الميدانية، مثال ما حصل في سجن “صيدنايا” (المسلخ البشري
) حين تم الكشف عن إعدام 13 ألف معتقل، والمقابر الجماعية الوحشية التي تتكشّف معالمها تدريجياً منذ اليوم الأول من سقوط نظام الأسد في 8 كانون الأول 2024؛ فإن مواطني ألمانيا الشرقية، وعلى الرغم من مرور ما يقرب من 37 عاماً على انهيار جدار برلين، إلا أن ذاكرتهم ما تزال تحتفظ بصور الانتهاكات الوحشية المرتبطة بسجن مدينة (باوتسن) الألمانية، المخصص لمعتقلي جهاز شتازي وقتذاك، والذي شهد سقوط العديد من ضحايا التعذيب ممن لم يتم العثور على آثار لأجسادهم إلى اليوم.
كيف جرى التعامل مع الشتازي بعد توحيد ألمانيا؟
بعد كل الانتهاكات التي ارتكبها جهاز شتازي بحق مواطني ألمانيا الشرقية على مدى 3 عقود ونيف من الزمن، كيف تمّ التعامل مع عناصره عقب انهيار جدار برلين وما لحقه من إعلان الوحدة بين شطري ألمانيا، في آب/ أغسطس 1990؟
حقيقةً، مهما حاولنا الاعتماد على مخيلتنا للوصول إلى إجابة قريبة، فلن نقدر على ذلك؛ ولذلك سندخل مباشرة، في وصف تجربة العدالة الانتقالية التي طُبّقت في النموذج الألماني.
جرت انتخابات عامة وحرة في المانيا الشرقية منتصف عام 1990، ليتشكل بعدها تحالف “من أجل ألمانيا”، تبعها موافقة مجلس الشعب الاتحادي على انضمام جمهورية ألمانيا الشرقية رسميا إلى جمهورية ألمانيا الاتحادية، فتحققت الوحدة التي لم تشهد قطرة دم واحدة.
في أثناء ذلك، طالبت شخصيات مختلفة، وجهات حقوقية وإعلامية، وبعض المؤسسات المدنية، بمحاسبة مرتكبي الجرائم في جهاز شتازي، وأغلب عناصره معروفون من قبل مواطني الشطر الشرقي. فتم تنظيم لوائح تحمل آلاف الأسماء العائدة لعناصر شتازي، وتقديمها للجهات القضائية والحكومية المختصة لملاحقتهم ومحاسبتهم، وتطبيق “عدالة انتقالية” بحقهم.
إلا أن حكومة ألمانيا الاتحادية، يمثلها حنذاك المستشار “هلموت كول” (مهندس وعراب الوحدة الألمانية)، عملت -بشكل غير معلن أو مكشوف- على إقناع جميع أبناء المجتمع الألماني بمنح المذنبين فرصة للتغيير من خلال عامل الزمن. تلك الخطوة تجسدت بتسهيل حكومة المستشار (كول) انتقال جميع الأشخاص الذين شاركوا في شتازي من مناطق إقاماتهم في المدن والبلدات الشرقية، باتجاه الولايات والمدن الألمانية الأخرى، للبدء بحياة جديدة، وظروف معيشية مناسبة، مع منحهم أسماء مختلفة لهم حرية اختيارها![i].
وعلى الرغم من استمرار احتجاج بعض الأطراف على عدم محاسبة المذنبين، إلا أن غالبية الشعب الألماني تغاضى عن مبدأ المحاسبة، وتكيّف مع مبدأ التغيير الزمني بسرعة قياسية.
طُبّق ذلك المبدأ على الأغلبية المدنية المتمثلة بفئة العاملين في مؤسسات ودوائر الحكومة الشرقية، والذين، كما ذكرنا، شكلوا الطبقة الأضعف في جهاز شتازي، ومعظمهم كان مجبراً على العمل ضمن ذلك الجهاز بدافع الخوف والمصلحة، بالإضافة إلى أن أغلب المحيطين بهم لم يكونوا على علم بعملهم السري مع الشتازي.
أما شخصيات الطبقتين الوسطى والعليا ممن اشتهروا بجرائمهم وانتهاكاتهم داخل شتازي، فقد فرّ معظمهم أصلاً من الأراضي الألمانية قبل ذلك الوقت، لخوفهم من الملاحقة القانونية والعقاب الذي سينالون. والقليل ممن لم يغادر منهم، خضع للمحاكم الألمانية، فتم تجريم بعضهم وإخلاء سبيل البعض الآخر.
كل هذا سهّل مهمة الحكومة الألمانية في تطبيقها لسياسة التغيير والاندماج؛ ولعل أهم العوامل التي ساهمت بإنجاح المهمة، هو مستوى الوعي الاجتماعي والسياسي الذي تميز به الشعب الألماني، وأدرك من خلاله أهمية تغليب المصلحة الوطنية والمجتمعية على المصالح الفئوية والفردية التي يغلب عليها الطابع العاطفي.
أما بالنسبة لعناصر شتازي الذين طُبّقت عليهم خطة الحكومة، فقد كان لانعكاساتها النفسية والأخلاقية أثراً إيجابياً طغى على الصورة السلبية المختزنة مدة طويلة داخل ذاكرة المواطنين؛ حيث شعر أولئك العناصر بالاختلاف الجذري بين النمط الشرقي القمعي والمتخلّف الذي ساد في زمن السوفييت، والنمط الغربي الديموقراطي المتطوّر والأخلاقي، ما دفعهم للتغيير الداخلي، طوعاً، والانصهار الكامل داخل المجتمع الألماني. وما هي إلا أقل من 5 سنوات لاحقة حتى أضحى الشطر الشرقي صورة مطابقة تماماً للجانب الغربي، اجتماعياً واقتصادياً وثقافياً وعلمياً، بل وحتى من الجانب العمراني والخدمي.
ختاماً: هل يمكن استنساخ التجربة الألمانية على المشهد السوري؟
قبل الخوض في فرضية التجربة، لا بد لنا من الإشارة إلى نقطتين:
لا توجد إحصائية دقيقة لأعداد ضحايا شتازي بسبب إتلافهم للملفات والوثائق بالتزامن مع حادثة انهيار الجدار، ولكن تبقى أعداد ضحاياهم أقل بكثير من ضحايا النظام السوري.
أشرف الشتازي على تنظيم وتدريب
مكثف لخدمات المخابرات السورية في عهد حافظ الأسد وحزب البعث من 1966 وما بعدها، وخاصة منذ عام 1973، ما يعني أن الطرفين استخدما الأساليب عينها في تعذيب المعتقلين وتصفيتهم.
نعود للإجابة عن التساؤل: هل يمكن تطبيق النموذج الألماني نفسه على الحالة السورية؟ ولماذا؟
من الصعوبة بمكان وضع إجابة محددة بـ “نعم” أو “لا” قبل المبادرة بطرح الآلية على أرض الواقع؛ وليس بالإمكان طرحها أصلاً إلا بعد عملية انتقال إلى نظام حر وديموقراطي في سوريا، ويكفل للمواطنين العيش الكريم ويوفّر لهم أدنى متطلبات الأمان؛ فالمبدأ لم يكن ليتم طرحه أو تطبيقه أو الموافقة عليه في التجربة الألمانية لولا توفّر شرط النظام الديموقراطي الحر، المتمثّل آنذاك بحكومة المانيا الغربية ومستشارها (كول).
تركيبة الشعب السوري، والتفاوت الفكري والثقافي بين شرائحه، ومستوى الوعي والنضوج السياسي؛ وكذلك بجوانب المجتمع السلبية لدى بعض فئاته، كالعشائرية، والنزعات القومية، والمذهبية والطائفية، والمناطقية… بالإضافة إلى تعدد التيارات السياسية والفكرية الذي تحوّل في غالبيته إلى حالة من الصدام بين أصحاب هذه التيارات. تلك الطبيعة للمجتمع السوري تختلف عنها لدى الألمان في ذلك الوقت، ما يحول أيضاً دون إمكانية تطبيق النموذج المطروح.
والحال، على الرغم من وجود العديد من العقبات الأخرى، إلا أنها تبقى تحت السيطرة بمجرد إزالة المعوقتين السالفتين. حينذاك سيكون بإمكان السوريين طرح مشروعهم الوطني الحقيقي القائم على أسس ومبادئ العدالة، أو ربما “المسامحة” الانتقالية.
[i] – المعلومات حصلت عليها من طبيب ينحدر من ألمانيا الشرقية، كان معاصراً لتلك الحقبة. وقد أكد بأن الخطوات التي انتهجها “هلموت كول” وحكومته لم يتم تدوينها أو الإفصاح عنها بشكل رسمي.
تلفزيون سوريا
———————————-
هل يدفع النهج الغربي الإدارة السورية لتكرار السيناريو السوداني؟/ فراس فحام
2025.02.16
وجه الرئيس السوري أحمد الشرع منذ اليوم التالي لإسقاط نظام بشار الأسد العديد من الرسائل لدول الجوار والولايات المتحدة، ركز فيها على أنه جزء من هزيمة المشروع الإيراني في المنطقة، كما تم تقييد حركة القوافل العسكرية الروسية الداخلة والخارجة من قاعدة حميميم، فيما فهم أنه رسائل حول الاستعداد لإنهاء نشاط هذه القواعد فيما لو حصل انفتاح غربي على سوريا الجديدة، خاصة وأن تسريبات عديدة أشارت إلى اشتراط ألمانيا مغادرة القواعد الروسية لسوريا مقابل رفع العقوبات.
وتفيد المعطيات بأن الإدارة السورية تسعى لتجنب الحل العسكري مع “قسد” تحاشياً لاستفزاز الموقف الغربي والأميركي على وجه التحديد، في وقت تريد فيها اتخاذ خطوات متعلقة بإزالة العقوبات عن سوريا.
مؤشرات سلبية حول الموقف الأوروبي
ظهرت مؤشرات عديدة في الفترة القليلة الماضية على استمرار سلبية الموقف الغربي من السلطة الجديدة في سوريا، أبرزها امتناع ممثل الولايات المتحدة عن التوقيع على مؤتمر باريس الذي عقد في 14 شباط/ فبراير الجاري المخصص لسوريا، والذي حضره وزير الخارجية السوري أسعد الشيباني.
أيضاً، دعا الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون خلال المؤتمر دمشق إلى ضم “قسد” ضمن الجيش السوري من أجل ضمان مكافحة الإرهاب، بالإضافة إلى المطالبة بحكم تمثيلي يحترم الجميع، مما فهم منه على أنه دعم لاستمرار حالة خصوصية “قسد” ضمن المؤسسات السورية.
المعلومات التي رشحت من أروقة الإدارة الأميركية الجديدة تفيد بوجد تضارب بالآراء بخصوص التعامل مع الملف السوري، حيث يرى بعض المسؤولين في الإدارة أن السلطة السورية الجديدة تمثل هيئة تحرير الشام، بالمقابل يوجد أصوات أخرى ترى ضرورة الانفتاح على سوريا وعدم تركها مجدداً للنفوذ الإيراني والروسي.
انفتاح الإدارة السورية على روسيا وإيران
في 12 شباط/ فبراير الجاري أجرى الرئيس الروسي فلاديمير بوتين مع نظيره السوري الشرع أول اتصال هاتفي منذ تولي الأخير منصبه، وأوضح الكرملين أن بوتين أبدى استعداده لدعم سوريا بشكل دائم من أجل تحسين الوضع الاجتماعي والاقتصادي، وتقديم المساعدات الإنسانية.
في بعد أيام قليلة من المكالمة، أرسلت روسيا مبلغاً ماليا بالليرة السورية إلى دمشق، تقدر قيمته بـ 300 مليار ليرة، وهي أموال طبعتها روسيا لصالح سوريا في وقت سابق ولم تقم بتسليمها.
ووفقاً لمصادر دبلوماسية، فإن روسيا تعهدت أيضاً بالتأثير على إيران، ودفعها لضبط سلوكها تجاه السلطات السورية، مع الاستعداد لرعاية قناة اتصال بين الجانبين.
ومن الواضح أن الإدارة السورية تريد الحفاظ على توازنها، وعدم خسارة علاقتها مع روسيا في وقت تضع فيه الدول الغربية اشتراطات من الممكن أن تدفع باتجاه المحاصصة الطائفية في السلطة، بالإضافة لتسريبات نشرتها وسائل إعلام إسرائيلية تفيد بدعم إدارة ترمب لبقاء القوات الإسرائيلية التي توغلت جنوبي سوريا لسنوات إضافية.
إمكانية تكرار السيناريو السوداني في سوريا
ما يجري في سوريا من تطورات، يوحي بإمكانية تكرار السيناريو السوداني في سوريا، حيث اتجهت الحكومة والجيش السودانيين إلى استجرار الدعم الإيراني والروسي لمواجهة تمرد قوات الدعم السريع المدعومة من قوى خارجية برضا ضمني من الولايات المتحدة التي لديها تحفظات على وجود كتائب ذات توجه إسلامي ضمن الجيش السوداني.
وفي آب/ أغسطس 2024 استعادت السودان علاقتها الدبلوماسية والرسمية مع إيران بعد قطيعة استمرت لأكثر من 8 سنوات، وباتت الأخيرة توفر الدعم الاقتصادي والعسكري للجيش السوداني، وسبقها تصحيح العلاقة مع روسيا وإعلان الجيش السودانية جاهزيته لتنفذ اتفاق سابق تم توقيعه في عهد عمر البشير، وينص على إنشاء قاعدة روسية على البحر الأحمر، لتصبح موسكو مورداً أساسياً للسلاح للجيش السوداني، وبالمقابل فرضت الولايات المتحدة عقوبات على الجيش السوداني وقائده مطلع العام الحالي.
توفر روسيا خياراً سياسيا وعسكرياً مهما يمكن اللجوء لها حال يئست الإدارة السورية من تغيير الموقف الغربي، خاصة أن موسكو تدعم وحدة الأراضي السورية.
أيضاً، لا تزال ترغب إيران باقتناص الفرص للعودة إلى سوريا وإن كان بموجب تحالف مع السلطة الحالية، فالأهم عندها هو الجغرافيا السورية المطلة على البحر المتوسط، ويمكن لها في هذا السياق تقديم حوافز اقتصادية مهمة ستكون ضرورية للسلطات السورية التي تدير بلداً مشلولاً اقتصاديا.
ولكن هناك فارق بين السودان وسوريا هو أن روسيا وإيران ارتكبتا جرائم بسوريا وبحق الشعب السوري لا يمكن تجاهلها في ترتيب السياسات المستقبلية.
تلفزيون سوريا
——————————————
نديم بالوش ضحية أوهامه الاستخباراتية/ حسام جزماتي
2025.02.16
لا يخلو حديث عن استعصاء سجن صيدنايا من ذكر شخصية إشكالية هي السجين الإسلامي نديم بالوش الذي كان أحد أبرز التصعيديين الذين قرروا التمترس في السجن حتى النهاية بعدما سلّم معظم نزلائه. في حين خاضت ثمالة المتشددين هذه، الذين قدّر عددهم بخمسة وثلاثين، ما عُرف بالاستعصاء الثالث الذي أدى إلى مقتل العديد منهم والقبض على الناجين الذين كان منهم بالوش الذي تجمعت، فيما بعد، قرائن على استسلامه التام أو عمالته الأصلية. مما أعطى فرضية اختراق النظام للحركات الجهادية دفعة كبيرة لدى هواة التحليل المخابراتي الذي كان، للمفارقة، أحد أهم محاور تفكير بالوش نفسه ونظرته إلى العالم.
ولد نديم في عام 1982 لعائلة ميسورة معروفة في الوسط السنّي باللاذقية. إذ كان والده أحد أبرز مدرّسي الرياضيات في المدينة وصاحب معهد تعليمي خاص شهير، فضلاً عن اتسامه بالتدين والخلق والسمعة العطرة. وقد تربى ابنه الأوسط هذا في بيئة مساجد اللاذقية حيث حفظ القرآن ولفت الأنظار بذكائه والتزامه. غير أنه لم يسِر وراء الوسطية السنّية التقليدية حتى النهاية بل عكف نحو السلفية الجهادية متأثراً بواقع المدينة التي كانت تشعر أنها تحت وطأة ريفها المهاجر العلوي، أو “النصيري” كما كان نديم يصرّ على القول مستخدماً الاسم التاريخي الذي لا يخلو من موقف ديني يصل إلى التكفير.
في الجامعة انتسب الشاب إلى كلية الهندسة الميكانيكية. وساعدته مواهبه على التفوق في السنة الأولى لكن نزعته المغامرة لم تقنع بالمسار الدراسي الذي كان سيقوده إلى مجرد أن يصبح “خير خلف لخير سلف”. وتحت تأثير مخيلة بوليسية مهيمنة أسس “عصابة” من عدة يافعين قادهم إلى اقتحام المزارات العلوية ليلاً والاستيلاء على حصيلة ما فيها من تبرعات يلقيها الزوار، وتوزيعها على عائلات هاجر رجالها بهدف “الجهاد”. وفي مرة إلى تهديد ضابط بمسدس خلّبي للاستيلاء على مسدسه الحقيقي، إعداداً لصدام لم تتضح معالمه بعد.
لاحقاً سينظر نديم إلى تلك التجربة بوصفها صبيانية بالقياس إلى فكرة القتال في أفغانستان في العام التالي، 2001، الذي شهد أحداث الحادي عشر من أيلول/سبتمبر وما تلاها من حرب أميركية على إمارة طالبان، ومبادرة بعض الشبان الذين كان يعرفهم إلى السفر إلى هناك عبر طريق كان يبدأ بتركيا ثم إيران ثم باكستان.
وقد أدار مكتب الارتباط السرّي في إسطنبول وقتئذ شاب حلبي أكبر سناً وخبرة هو لؤي السقا. ولما تأخر وصول الفيزا ليغادر نديم إلى طهران تعمقت علاقة الاثنين وقرر السقا أن يُدخل الشاب في عالم جديد كان يبرع فيه هو العمل الأمني الذي كان قد تلقاه عن أبي زبيدة الفلسطيني، أحد أهم الاستخباراتيين العرب في أفغانستان، وصاحب موسوعة شهيرة في هذا الشأن تُعرف باسمه في الأدبيات الجهادية.
أقام بالوش مع السقا في منزل واحد بعد أن توافق هذا الدور مع ميوله، نازعاً من ذهنه فكرة أن يصبح مجرد مقاتل بالكلاشينكوف في جبال أفغانستان. وتلقى عدة دورات في التحرك والتخفي والتمويه والعمل داخل المدن ومواجهة المحققين على يد الدكتور، كما كان السقا يلقب، “سيد العمل الأمني” كما يقول نديم الذي لم ينسَ مجموعته في اللاذقية من عطايا خبرته الجديدة فصمم لهم هويات مزورة وأرسلها لهم فكانت، لسوء حظ الشبان الثلاثة، سبباً للقبض عليهم عندما اشتبهت بهم إحدى الدوريات وطلبت هوياتهم فعثرت مع كل منهم على اثنتين، فوسعت التحقيق ووصلت إلى القصة الكاملة، وعممت اسم نديم الذي تم اعتقاله في أنطاكيا وتسليمه على الحدود للمخابرات السورية التي ساقته فوراً إلى فرع التحقيق “الفيحاء” التابع لشعبة الأمن السياسي حيث قضى خمسة وعشرين شهراً في زنزانة منفردة.
بعد أقل من سنة من الاحتجاز قرر نديم أنه يستطيع أن يواجه “أعداء الله” من مكانه. فأخذ يرفع الأذان بصوت عالٍ، ويؤدي الصلوات الجهرية بتجويد مسموع، ويتوعد الضباط والحراس ويكفرهم، ويُضرب عن الطعام، ويهدد جدياً بالانتحار. فنُقل إلى المهجع الجماعي في الفرع حيث التقى بأبناء قضيته، ثم أودع الجميع في الجناح السياسي بسجن عدرا حتى حكمت عليهم “محكمة أمن الدولة العليا” بالسجن؛ عشر سنوات لبالوش وسبعاً لكل من وسيم عطورة وحسام حليوة وعبد الرؤوف سينو، الذين “رباهم وتعب عليهم ونبههم وعلّمهم وأرشدهم وهذب أخلاقهم” على حد تعبيره، والذين كانوا يتعاملون معه بمهابة وتقدير شديدين وطاعة عمياء، إلى درجة أنه كان يوقع عقوبة سادية على غير الملتزم منهم بالتعليمات.
بعد أن استطاع تهريب جهاز موبايل إلى السجن، وتواصل مع “عصبة الأنصار” في لبنان في مخطط دار في مخيلته لصفقة تخرجه من السجن؛ انقضّت المخابرات العسكرية على الجناح واقتادت نزلاءه إلى سجن صيدنايا الذي كان يعيش مرحلة انتقالية بين تمرديه الأول والثاني (الكبير).
في فوضى الاستعصاء وتمايز الصفوف إلى تيارات انحاز بالوش إلى الأقصى كعادته. معتبراً أنه من النخبة القليلة في السجن التي خاضت تجربة حقيقية، مستعلياً على “جماعة السيديات” الذين اعتقلوا بسبب حيازتهم إصدارات جهادية مرئية. ويتذكره النزلاء، في آخر أيام الاستعصاء، وهو يخطب فيهم بانفعال ليحثهم على الموت. كما يتذكرونه حين تخفّى لأيام، من دون أي مبرر، بقفطان مرتجل يغطي وجهه وصار يتحدث الفصحى بلكنة مغاربية! لكن الأهم أن كثيراً منهم يفيدون بأنه كان الشاهد الملك للمخابرات العسكرية في أثناء التحقيق معهم لاحقاً حول أحداث الاستعصاء، بل إنه أخذ يتصرّف معهم كمحقق بعد أن التقى بآصف شوكت، رئيس هذه الشعبة، وأبرم معه “صفقة” يقول نديم إنها كانت خدعة معقدة تعزف على وتر تخليص النظام السوري من تهمة اغتيال رفيق الحريري، رئيس الوزراء اللبناني، قبل سنوات. في حين لا يرى فيها آخرون سوى خيانة أفادت فاعلها بالخروج من السجن قبل انتهاء مدة حكمه.
في سنوات قبيل الثورة سيلجأ نديم إلى الخداع الاستخباراتي مجدداً بزعمه، فيُشيع عن نفسه صورة الشاب اللاهي حين يفتتح عدداً من المشاريع التي كان من بينها محل لبيع الأدوات الجنسية وصالة ألعاب إلكترونية متطورة باهظة.
أما عندما اندلعت الثورة فيُنسب إلى نديم أنه من أوائل من حملوا مسدساً في احتجاجات مدينة اللاذقية، ثم غادر إلى ريفها المحرر فسيطر على مخفر بلدة سلمى وجعله مركزاً لمجموعة جديدة أنشأها من الشباب المسلح الذين كان يُعدّهم بمنهاج يلقيه عن “الدروس الأمنية في السيرة النبوية”، مهجوساً بالاختراقات ومصراً على إصدار تصريح أمني لكل داخل إلى المنطقة. ومن دون مقدمات أعلن عن تشكيل كتيبة “الريح الصرصر” التي هددت باستهداف القرى العلوية بالسلاح الكيماوي، فيما عدّه الثوار كارثة إعلامية ورأى بالوش أنه فعل مشروع. ولتمويله خطف ضابطاً منشقاً هو رياض الأحمد وعذبه حتى الموت أملاً في الحصول على فدية من الدعم الكبير الذي كان يصل إلى النقيب من الشيخ عدنان العرعور.
وبين المجموعات الناشئة مال بالوش إلى احتقار فصائل “الجيش الحر”، وكراهية “أحرار الشام” نتيجة لتجربته مع بعض مؤسسيهم في السجن، والتشكيك في أهلية “جبهة النصرة”، والتوافق مع منهج “الدولة الإسلامية في العراق والشام” (داعش) من دون أن ينتمي إليها بشكل معلن. حتى اعتقل مجدداً في سنة 2016، في مدينة أنطاكيا التركية حيث كان يقيم، فبادر إلى شنق نفسه بعد أيام، منفذاً فتوى كان يرددها للشيخ السعودي علي الخضير، تبيح للمجاهد الانتحار إن غلب على ظنه أنه سيضطر إلى الاعتراف بما يؤدي إلى اعتقال إخوانه.
لا يبدو أن “العبد الغريب”، كما كان يلقب نفسه، عميل منظم مستمر للمخابرات بقدر ما كان شخصاً مسكوناً بالألاعيب الأمنية التي ظن أنه يمارسها مستنداً إلى اعتداده الواضح بدهائه وبقدرته على الخداع. لكن هذه اللعبة الخطرة أودت به في النهاية، بعدما أطاحت بسمعته الجهادية إلا لدى حفنة شبان وقعوا أسرى جاذبية طريقته غير النمطية في تفسير القرآن، استخباراتياً!
تلفزيون سوريا
————————–
“مَن نحن؟” سؤال الهوية الذي لمّا يجد السوريون جوابه بعد!/ ياسين عبد الله جمّول
2025.02.16
لو ذهبنا نعدّد قائمة المحظورات أيام نظام الأسد البائد لَطال المقام؛ ولم يحظروا إلا ذا أهمية وخطر، يزيد في وعي الناس ويساعد في تقويض بنيان الاستبداد والظلام في السجن الكبير الذي ضربوه على السوريين لعقود.
ومن ذلك السؤال الخطير: “مَن نحن؟” الذي هو سؤال الهُوية.
فلا عجب أن ينفجر البحث والنقاش بعد انطلاق ثورة الكرامة عام ٢٠١١ بين السوريين حول الجواب عنه، لتصبح محاولات الإجابة عنه معركة في ذاتها؛ ومنها يعرف المرء خطورتها حتى حظرها البعث والأسد لعقود، محاولين تزوير الوعي الجمعي للسوريين في ذلك؛ فمع دعوى البعث العروبة والقومية طعن العربَ في مفاصل تاريخية، وانحاز إلى إيران الفارسية ضد الاجتماع العربي، ومع التستّر بالإسلام لم يكن له عدو أكبر من الإسلاميين؛ وإنْ كبّر تهمة الإخوان حتى اعتُقل وقُتل بها آلاف الأبرياء، ولم يَسلم منها حتى بعض المسيحيين!!
فلما استقرت أركان الحكم للأسد على دابّة البعث اخترعوا شعارات مسمومة ربّوا عليها الناشئة من “طلائع البعث” ثم “شبيبة الثورة” حتى “اتحاد الطلبة”، وكلها تختصر حياة الطالب طوال مراحل الدراسة بشعار: “نحن جنود الأسد”؛ إذ كانت سوريا مزرعتهم باسم “سورية الأسد”، ليخرج علينا المجرمون عند انفجار الثورة بشعار: “الأسد أو نحرق البلد”!!
ليس هذا السرد لإملال القارئ الكريم أو تذكيره ببعض الأسى؛ بل للبناء الواعي في قراءتنا ما كان بعد ذلك؛ فذاك الاختصار المشوّه للهوية بين العروبية الزائفة حتى الأسدية المتوحشة جعل بناء الهوية السورية أمراً صعباً، لم يألفه السوريون، واستمروا طوال سنوات الثورة يكتبون ويعقدون الندوات والمؤتمرات لتصميم هوية سورية، من دون أن ينتهوا حتى التحرير الكامل إلى جواب شامل في ذلك، فتجاذبوا سوريا فيما بينهم؛ فكثيرون يقولون: “هوية سورية”، ثم تجدها هوية لمن صمّمها لا أكثر، فتكون تلك الهوية مادة جديدة للنقد من آخرين يعملون على تصميم الهوية بمعاييرهم، أو على مقاسهم الأيديولوجي أو المناطقي.
وإن كان سؤال الهوية عامة من الأهمية والخطر بمكان فهو مع الهزّات الكبرى أشد خطراً وأهمية، ثم يكون عند النصر أشد من ذلك أهمية وأبعد خطراً وأثراً.
وقد نستصغر هتافات بضعة أفراد أكثرهم مجهول أو مطعون فيه يوماً في ساحة الأمويين ينادون بدولة علمانية حين أزعجهم وصول أصحاب اللحى إلى قصر الشعب، وهم أنفسهم لم يكونوا ليستطيعوا الخروج والهتاف بهويةٍ يريدونها للدولة قبل وصول الثوّار الأحرار ذوي اللحى إلى القصر!!
كما قد نستصغر أصواتاً شاذّة تنادي _ولو في العالم الافتراضي في الجنوب أو الساحل_ بطلب الحماية من “إسرائيل” أو فرنسا؛ وكأنهم كانوا وهم تحت البوط العسكري أيام الأسد المجرم وحلفائه من الروس والإيرانيين في حرية ورغد عيش، وجاءهم الآن مع التحرير محتلّون غرباء!!
فضلاً عن أصوات تهمهم في الشرق تريد تارة الانفصال، وتارة أخرى الفدرالية والحكم الذاتي!!
مع استحضار الدوافع المختلفة المتعددة لتلك اللقطات شرقاً وغرباً وجنوباً لابد أن نعترف أنّ عدم توافق السوريين حول هوية مشتركة يأتي في مقدمة أسباب ذلك؛ ولذا تتعزّز أهمية سؤال “من نحن؟” وخطورة الإجابة عنه.
ومما يتصل بذلك في صفوف أهل النصر والتحرير أولياء الدم والألم ما يشعر به كثيرون من الإقصاء والتهميش في التعيينات والتكليفات التي صدرت حتى الآن في الإدارة الجديدة.
ومن بديع ما ذكره ابن خلدون في أطوار الدولة من الظفر إلى الانهيار ما حكاه عن طور التأسيس والبناء من سيطرة الأنا العصبوي على الأنا الفردي داخل العصبة التي تستلم الحكم والسلطة؛ فقد بيّن أن العصبة الغالبة في هذا الطور ترى الحكم مغنماً لها ككل، ورئيسها يرى نفسه واحداً منها بل خادماً لها، ويرى ابن خلدون أن العلاقات السائدة في هذا الطور من أطوار الدولة هي المساهمة في السلطة، والمشاركة في الثروة الناجمة عن غنائم النصر.
وسؤال الهوية هنا في هذا الطور يتصل بعنوان جذّاب أطلقه الرئيس الشرع: “انتهى عهد الثورة، وبدأ عهد بناء الدولة”، فيلزم على ذلك الانتقال بـ”الأنا العصبوي” من طور هيئة تحرير الشام في إدلب إلى طور يناسب مقاس سوريا كلها؛ وكلام ابن خلدون في ذاته _على قدمه_ تصوير لما يجري اليوم من الاصطفاء والإقصاء معاً؛ فتغيير الإعدادات الملاحيّة نحو النموذج الجديد يستغرق وقتاً.
فهل هذا تبرير للبقاء في دائرة العصبة المصغّرة لقيادة العمليات؟
لا؛ فالطائر لا يرجع إلى القفص، وقد أنعم الله عليه بالحرية مهما كان!
حين سُئل الرئيس الشرع عن أصحاب النصر والتحرير؛ وهو سؤال يتصل بذاته بسؤال الهوية “نحن” كان جوابه: لا……
وبجمع هذا الكلام مع شعار “نحو بناء الدولة”، ثم وضعه مقابل شعار المرحلة التعيسة البائدة “سورية الأسد”؛ من الطبيعي أن يتطلع كل سوري نحو القيادة، وإن لم نصدّق كلمة شكري القوتلي لعبد الناصر: “أنت لا تعرف ماذا أخذت يا سيادة الرئيس! أنت أخذت شعباً يعتقد كلّ مَن فيه أنه سياسي، ويعتقد خمسون في المئة من ناسه أنهم زعماء، ويعتقد 25 في المئة منهم أنهم أنبياء، بينما يعتقد عشرة في المئة على الأقل أنهم آلهة».
كيف يكون التوازن؟
نرفض التدجين والخضوع للاستبداد مهما كانت مبرراته؛ ولكن هذا لا يبرر بحال الخروج من العباءة السورية بدعاوى انفصالية تدمّر وحدة سوريا وتقيّد حريتها.
ونسلّم أن الهوية السورية غير ناجزة، ولا بد من التوافق الوطني عليها، من دون أن يعني هذا الإسراع في صياغتها فتأتي مولوداً خديجاً لا يحيا أو يكون مريضاً مشوّهاً؛ فلتأخذ وقتها في المناقشة والاختلاف عبر لقاءات حوارية وندوات قبل التوجه إلى المؤتمر الوطني الشامل، لأن التعجل في عقده قبل خطوات كافية تؤدي إليه يعني إفشاله والدخول في صراعات لا يبعد أن تنتهي بتخريب النصر وتقسيم البلد.
فالجواب الرئيس المأمول من المؤتمر الوطني العام هو الخروج بجواب متوافق عليه لسؤال: “من نحن؟” ليكون تثبيت ذلك في الدستور اللائق بسوريا الحرّة.
وحتى ذلك الحين لا بد من المتابعة في خطّين اثنين:
فالأول يقع على عاتق الإدارة الجديدة؛ فالعُصبة على الحقيقة هي أولياء الدم من الثوّار الأحرار الذين اعترفت القيادة أنهم الشركاء في الألم ثم في النصر وصناعة الأمل، وإن كان يُبرر لهم في التعيينات الأولى الاقتصار على فريقهم في إدلب سابقاً بالخبرة والموثوقية؛ فهذا المبرر ذاته قد تضاءل مع الوقت، لا سيما وأن الثوّار منذ الأيام الأولى جاؤوا مباركين للقيادة النصر، ثم بايعوا في مؤتمر النصر وسلّموها الرئاسة، فلا يتركوا أحداً من أولياء الدم هؤلاء؛ حتى لا ينصرف مَن يُبعَد وتنفرد به الشياطين تخترع له أجوبة مدمّرة لسؤال “مَن نحن؟”.
والخط الثاني: يقع على عاتق المجتمع برمّته في النُّصح والتسديد؛ فالبلد صارت لنا وليست للحكومة أو للرئيس وحده، ومن تمام النصح ألا نسكت عن الخطأ وأن نقدّر الجُهد المبذول فنشكره.
وألا ننازع الأمر أهله لا يعني أن نبقى على المدرّجات للمُشاهدة؛ بل أن ينخرط كلٌّ منا فيما يُتقنه، ويزاحم الناس على الخير؛ فمَن يجلس يتفرّغ للنقد من دون عمل، فنعمل ما نستطيع؛ نُصيب مع الإدارة ونُخطئ، ونَنصح ونُنصح؛ نتطاوع ونتعاون حتى تنهض سوريا من جديد على أكتاف الجميع.
فبالعمل لسوريا كلها، وفق رؤية وطنية خالصة، بعيداً عن المناطقية والحزبية؛ تتبلور إجابة “مَن نحن؟” ونعرف هويتنا السورية الصحيحة.
تلفزيون سوريا
——————————–
شكل العلاقة السورية اللبنانية الجديدة/ سمير صالحة
2025.02.16
هناك حالة سورية لبنانية جديدة فرضتها المتغيرات والتحولات الداخلية في البلدين وكذلك عوامل إقليمية مؤثرة ينبغي قبولها واحترامها والتعامل معها على هذا الأساس.
المسألة في غاية البساطة هناك سلطة سياسية جديدة في سوريا وهناك حكم لبناني جديد في لبنان. كلاهما يريد بداية حقبة مغايرة في العلاقات تنهي حالة التدخل في الشؤون الداخلية وتقديم مصالح بعض القوى الإقليمية على مصالح الشعبين، وتضع حدا للفوضى الحدودية التي استغلها نظام الأسد لعقود واستفادت منها بعض مجموعات التهريب والتنظيمات المسلحة المحسوبة على إيران.
المسألة هذه المرة ليست بمثل هذه السهولة فالمشهد الجديد يستدعي كما أعلن في دمشق وبيروت حماية الحدود المشتركة بطول 375 كلم واحترامها وإنهاء الوضع القديم الذي فرض على الطرفين لأكثر من 5 عقود، وهو ما لا يعجب بعض المتنفذين والمتنفعين تجاريا وسياسيا وحزبيا، لكنه وربما هنا الأهم سينهي الخروقات الأمنية والعسكرية ويضع حدا لعمليات نقل السلاح عبر الأراضي السورية إلى الداخل اللبناني بقرار إيراني.
لا حاجة لقلق بعضهم بسبب الاشتباكات العسكرية في مناطق الحدود اللبنانية السورية القيادات الأمنية والعسكرية تتعامل معها ولن تسمح باتساعها وتفاعلها وتحولها إلى أزمة سياسية تتفاقم وتستدعي نشر قوات فصل إيرانية مثلاً.
بقدر ما هناك إصرار سوري على إنهاء الوضع الشاذ في المناطق الحدودية بين البلدين، هناك تمسك لبناني بنشر وحدات الجيش وسيطرته على الوضع ومنع تواجد عسكري مسلح لغير قوات الأمن والفصائل العسكرية النظامية. صحيح أن انتشار القوات السورية واللبنانية الشرعية والنظامية على الحدود المشتركة سيكون على حساب شبكات التهريب ونقل السلاح والعبور غير الشرعي، وأن صعوبته بالنسبة لبعضهم هو أنه سيغلق الخطوط والممرات العسكرية الجانبية التي كان يستفيد منها للتنقل كما يشاء وأن عليه البحث عن وسائل وطرق جديدة بعيدة عن الحدود المشتركة هذه المرة لإدخال السلاح. لكن الرمزية السياسية لما يجري هي أنها تنهي دخول وخروج مجموعات “حزب الله” والميليشيات والعناصر الممولة إيرانيا من الأراضي اللبنانية باتجاه الجانب السوري تحت ذريعة الدفاع عن النظام. ما يجري يغضب طهران أولا وأخيرا لأنه يضع حداً لتحركها العسكري كما تريد في تلك المنطقة، وينهي خطوط الإمداد الإيراني الإستراتيجي على حساب البلدين بعد عقود من التسيب والفلتان وهي لن تقبل بخسارة هذه الجغرافية بسهولة. التخادم الإيراني وبعض العشائر التي تعيش على خط الحدود اللبنانية السورية هو المستهدف هذه المرة بقرار سوري لبناني مركزي وبدعم إقليمي يهدف لإنهاء حالة الفوضى والخروقات وغياب السلطة.
الجيش اللبناني لم يدخل وسيطاً في مسألة تعنيه مباشرة وهو يسترد السيطرة والسيادة على أراضي لبنانية حدودية، كانت لسنوات طويلة تحت سيطرت مجموعات خارجة عن القانون. والقرار السياسي جاء مشتركا بين بيروت ودمشق على طريق بناء الثقة في المسار الجديد بالنسبة للبلدين. ما يجري اليوم يشكل فرصة تحريك قوة دفع سياسية لا يجوز التفريط فيها. واضح جداً أن هناك عواصم عربية وإقليمية تريد أيضا تجيير تطورات المشهد في البلدين إلى وسيلة بناء علاقات جديدة يحتاجها كلا الطرفين وتتطلبها المرحلة الإقليمية القائمة، بهدف توسيع رقعة التعاون التجاري والخطط الإنمائية والاستفادة المشتركة من الموارد الطبيعية والكهرباء والمياه والطاقة المدفونة في قعر السواحل البحرية التي تجمعهما. هذا إلى جانب ملفات اللجوء والهجرة غير الشرعية ومواجهة التهديدات الأمنية المشتركة والتنسيق في ملفات إقليمية تعنيهما.
كانت القوى الإقليمية والدولية وحتى الأمس القريب تؤثر سلباً على مسار العلاقات اللبنانية السورية. الوضع تغير اليوم فمصالح كثيرين باستثناء إسرائيل تتطلب دعم التقارب السوري اللبناني بعد متغيرات الداخل في البلدين في الأسابيع الأخيرة. الدعم العربي والغربي المقدم للجانبين على طريق التغيير في الداخل لا يجوز التفريط به، لأنه قد لا يكون هناك فرص مشابهة مرتبطة بالتحولات السياسية الحاصلة اليوم في الإقليم. المطلوب الآن هو عدم التفريط بالإرادة السياسية الموجودة في الجانبين المصحوبة بأجواء إرادة إقليمية تسير لصالحهما على طريق إخراج البلدين مما هما فيه.
التأزم والانفراج في العلاقات بين بيروت ودمشق كان لها ارتداداتها على علاقاتهما بالإقليم وكذلك نظرة الإقليم إليهما. دخلت سوريا الأسد بشكل مباشر إلى لبنان بعد العام 1975. ثم أشركت إيران في العام 1982. حاول نظام الأسد الاستقواء بمعاهدة ” الأخوة والتعاون ” في العام 1991. لكنه غادر الساحة اللبنانية في العام 2005 بعد ارتدادات جريمة اغتيال رفيق الحريري. فاتحا الأبواب أمام حليف إيران اللبناني “حزب الله” ليدخل إلى سوريا من دون علم المسؤولين ويبقى هناك حتى مطلع كانون الأول الماضي.
عقود طويلة عاشها لبنان تحت تأثير تدخلات نظام الأسد. بالمقابل عاش الشعب السوري 13 عاما كان لبعض القوى اللبنانية تأثيره السلبي فيها. القوى العربية قادرة هنا على إنهاء هذا الوضع. دور المجموعة العربية هو محوري نظرا للتاريخ المشترك الذي يجمعها بالطرفين، ووسط حاجتهما للدعم الاقتصادي والاستثمارات العربية في هذه المرحلة، لكن ما هو بين الأهم ربما، غياب شبح إيران الذي حوم لعقود في سماء البلدين.
اعتبارا من صباح الثامن من كانون الأول السوري والتاسع من كانون الثاني اللبناني ظهر إلى العلن واقع مغاير يحمل معه كثيرا من المؤشرات التي تنهي مقولة “الخاصرة الرخوة” في علاقات البلدين، ويعلن أن مستلزمات المرحلة الجديدة تتطلب قراءة واقعية عملية مشابهة لطريقة تعامل عشرات العواصم العربية والغربية مع الواقع اللبناني والسوري الجديد. الترجمة العملية الأولى كانت عبر اتصال التهنئة الذي أجراه الرئيس السوري أحمد الشرع بالرئيس اللبناني المنتخب جوزيف عون وذلك بعد ساعات من استقباله رئيس حكومة تصريف الأعمال وقتها نجيب ميقاتي. دلالات سياسية مهمة في مرحلة حساسة بالنسبة للبلدين في منتصف الشهر الماضي، إذ لم يكن البعض في لبنان ينتظر هذا التحول السياسي والحكومي السريع في مشهد عكس معه كثيرا لناحية تزامن المتغيرات في البلدين.
نظم أهالي الموقوفين السوريين في سجن رومية اللبناني وقفة احتجاجية عند معبر جوسية الحدودي بين سوريا ولبنان، مطالبين بالإفراج عن أبنائهم على خلفية الثورة السورية أو تسليمهم للسلطات السورية. ثم أعلن مشايخ العشائر اللبنانية الحدودية مع سوريا أنهم تركوا الأمور إلى الدولة اللبنانية وقيادة الجيش والأجهزة المختصة لتتعامل مع متطلبات الوضع الأمني القائم على الحدود المشتركة.
تحسن العلاقات السورية اللبنانية يتطلب جهدا كبيرا بسبب أكثر من أزمة سياسية وأمنية بين الطرفين. لكن التواصل الرسمي وإعطاء المصالح المشتركة واحترام السيادة الوطنية لكلا البلدين الأولوية، والتعاون في المجالات الاقتصادية والأمنية، والابتعاد عن التدخلات في الشؤون الداخلية هو وحده مفتاح تحقيق استقرار دائم بين البلدين.
من الصعب تحليل شكل العلاقات السورية اللبنانية بعيدا عن العوامل الإقليمية المحيطة التي كانت دائما عقبة أساسية أمام مسار هذه العلاقات. كان لإيران وإسرائيل تحديداً دورهما السلبي الكبير في رسم معالم هذه العلاقة. المتغيرات الحاصلة في المنطقة تتحول اليوم إلى فرصة للالتفاف على الكثير من الرواسب والخلافات وأسباب التباعد، ويبدو أن القيادات السياسية في البلدين لا تريد التفريط بها.
تلفزيون سوريا
————————–
في مفهوم الدولة و السلطة و المعارضة/ خالد قنوت
مقدمة
إذا استبعدنا خوف أو شك الرأي العام السوري,تاريخياً, لمبدأ المعارضة السياسية للنظام الاستبدادي الأسدي فإن هناك خلط واضح لدى الكثير من السوريين لمفهومين سياسيين اساسيين و هما مفهوم الدولة و مفهوم السلطة حيث الفكرة السائدة هي إن الدولة هي السلطة و السلطة هي الدولة, هنا يُلغى مفهوم الدولة لمصلحة فكرة السلطة و الحكم و التسلط و هذا الخلط هو البنية الاساسية التي اقام عليها نظام حافظ الأسد نظامه الاستبدادي و الذي عانينا و مازلنا و سنعاني منه كثيراً.
إن هذا الخلط المقصود لمفهومي الدولة و السلطة ليس وليد نظام الاستبداد الأسدي البائد, بحكم أننا كسوريين ضحايا ذاك الاستبداد و قد تحررنا لتونا منه, بل هو حدث تاريخي واجهته دول كثيرة: حدث في فرنسا يوم أعلن الملك لويس الرابع عشر: “أنا الدولة و الدولة أنا” و كذلك تجلى في النظرية الماركسية التقليدية القائلة “إن الدولة ستتلاشى و ستنطفئ في المجتمع الشيوعي المنشود” و هو ما رفضته الاحزاب الشيوعية في العالم الغربي حين رفضت موقف الماركسية في اعتبار الدولة جهاز طبقي لسحق الطبقات المعادية في تناقض صريح لتعريف الدولة لدى أفلاطون و أرسطو, فوصف الدولة, سياسياً, يتجاوز الطبقة حتى و لو كانت دولة طبقية لأن الدولة لها ارتباطاً بالناس و بالمجتمع.
مفهوم الدولة
ينطلق مفهوم الدولة من اصلها اللغوي إن كان باللغة الفرنسية أو الانكليزية حيث توحي ترجمتهما بالثبات و الاستقرار, حتى لو كانت هناك تقلبات فإن الدولة موجودة.
بالتعريف الدولة هي, مجموعة من المؤسسات القانونية و الادارية و العسكرية يتم انشاؤها من قبل المجتمع بموجب عقد اجتماعي مشترك لغرض تنظيم حياتهم, حيث يؤسس كياناً بيروقراطياً ذا اختصاص سيادي في نطاق اقليمي محدد و يمارس السلطة عبر منظومة من المؤسسات الدائم.
تعرف الدولة بخمس خصائص اساسية تميزها عن المؤسسات الاخرى:
1- ممارسة السيادة: الدولة هي صاحبة القوة العليا غير المقيدة في المجتمع و هي بهذا تعلو فوق أية تنظيمات أو جماعات أخرى في الدولة.
2- الطابع العام لمؤسسات الدولة: الدولة مسؤولة عن صياغة القرارات العامة الجمعية و تنفيذها في المجتمع و لذلك تحصل على تمويلها من المواطنين.
3- التعبير عن الشرعية: عادة ما ينظر إلى قرارات الدولة بوصفها ملزمة للمواطنين حي يفترض أنها تعبر عن المصالح الأكثر أهمية للمجتمع.
4- الدولة أداة للهيمنة: تملك الدولة قوة الارغام لضمان الالتزام بقوانينها و معاقبة المخالفين بذلك فهي تحتكر العنف لمنع أي طرف من سحق الطرف الأخر و إبادته حيث كل مجتمع فيه اشكال متعددة للصراعات.
5- الطابع الاقليمي للدولة: الدولة تجمع إقليمي مرتبط بجغرافيا محددة, و يعامل كوحدة مستقلة داخلياً و دولياً.
مفهوم السلطة
السلطة هي الهيئة السياسية و الادارية العليا التي تقع على عاتقها تسيير شؤون المواطنين و الحفاظ على الاستقرار داخل الدولة و الصلاحيات المعطاة لهذه السلطات تختلف تبعاً لعوامل متعددة كطبيعة النظام السياسي و مستوى الديمقراطية في بلد ما, وهي تعمل على وضع صياغة الأنظمة و القوانين و تطبيقها بغية صيانة الحقوق و الحريات في المجتمع و تنظيمه للحد من الفوضى التي قد تؤثر على العلاقة بين الحكام و المحكومين.
بذلك نقول أن السلطة ليست سوى جزء من الدولة بحكم أنها الوسيلة التي تؤدي من خلالها الدولة سلطتها, فهي بمثابة عقل الدولة.
مفهوم المعارضة
هي مجموع القوى و الهيئات التي تعبر عن آراء و مصالح فئات اجتماعية لها أهداف و مشاريع و خطط تختلف عن أهداف و خطط السلطة السياسية القائمة و هي قد لا تملك الأدوات و الآليات ذاتها التي تمتلكها السلطة في تنفيذ خططها و برامجها و لكن لها وسائلها الخاصة في الوقوف بمواجهة السلطات الحاكمة و الوصول لتحقيق أهدافها.
أهداف المعارضة السياسية
تختلف أهداف المعارضة السياسية مع اختلاف جملة الظروف السياسية و الاجتماعية و الاقتصادية لكل دولة و لكنها تهدف بكل الحالات إلى:
1- اجراء تقويم لعمل السلطة القائمة على إدارة الشأن العام و توجيه النقد و تقديم التوجيهات و المقترحات للسلطة في حال عجزت أو أهملت أو انحرفت عن مصالح المجتمع.
2- رصد الاخطاء المبكرة للسلطة القائمة بغية إيقافها و الحد منها و التدخل المباشر عبر مؤسسات الدولة عند أي ممارسات تقوم بها السلطة القائمة تخالف فيها المصلحة الامة و ذلك منعاً للتفرد في السلطة.
3- الدفاع عن حقوق و حريات المواطنين و حرية العمل السياسي للتيارات المعارضة.
4- تعزيز الديمقراطية و التدخل لمنع أي نزعات استبدادية أو دكتاتورية.
5- حق الوصول للسلطة عن طريق وضع برامج سياسية و اقتصادية تقدم بها نفسها كبديل للسلطة الحاكمة من خلال الانتخابات الدورية أو الاستثنائية المنصوص عنها بالقانون, فتصبح المعارضة في السلطة و تنتقل السلطة الحالية إلى صفوف المعارضة.
وسائل المعارضة السياسية
1- الأحزاب و هي من أرقى الوسائل السياسية و التي اصبحت ضرورة اساسية في المجتمعات الحديثة, و المعارضة من خلال الاحزاب السياسية تعمل على تنظيم الجهود لتحقيق أهداف المعارضة و تكون احياناً صلة وصل بين أهداف المجتمع و بين الدولة و قد تكون جسر تواصل بين السلطة الحاكمة و المواطنين.
2- المنظمات و الجمعيات و النقابات, حيث تعبرمن خلالها المعارضة السياسية عن رؤياها لتحقيق اهداف النقابات و المنظمات و الجمعيات المطلبية و تكون كمجموعات ضغط على السلطة التشريعية و السلطة التنفيذية و على الرأي العام و لها بذلك حق التظاهر و الاضراب و الاحتجاج و الضغط على اصدار القوانين.
3- المنظمات غير الحكومية و هي إحدى الوسائل السياسية للمعارضة حيث تكون متحدثاً باسمها و تقوم بالضغط على السلطة القائمة لاجراء تعديلات أو اصدار تشريعات تؤثر على المواطنين.
بالنتيجة
إن المعارضة السياسية هي أهم اساس من اسس المجتمعات الديمقراطية حيث الشعب هو مصدر السلطات و تطبيق مبدأ الفصل بين تلك السلطات (السلطة التشريعية, السلطة التنفيذية و السلطة القضائية) و مبدأ تدوال السلطة عن طريق الانتخابات و ضمان و صيانة الحريات الاساسية و حقوق الانسان المواطن الفرد, فالمعارضة هي ضمانة للتنوع في المجتمع و تقف سداً منيعاً أمام الاستئثار بالسلطة و وأد أي نزعات استبدادية.
في الانظمة الحضارية و الديمقراطية تمتلك المعارضة السياسية كل الحقوق و الحريات بالعمل السياسي و تقوم الدولة عبر دستورها و قوانينها بضمان ذلك و تكفل الحماية و الدعم المالي و القانوني لها دون قمع لصلاحياتها من خلال قوانين الاحزاب و الانتخابات و الجمعيات و المنظمات و تضمن حق التجمع و التظاهر و الاضراب و كل الوسائل السلمية.
سورية و بناء الدولة
تمتلك سورية هذه الايام فرصة تاريخية لبناء دولتها الجديدة بعد عقود من السلطة الاستبدادية الذي دمرت أو عطلت مؤسسات الدولة السورية عندما اغتصبتها و خلطت بين مفهومي الدولة و السلطة و جعلتهما كتلة واحدة, فسقطا معاً.
امام هذا الاستحقاق الوطني المصيري و حيث يشهد السوريون وصول سلطة أمر واقع جديدة تتصف ببعدها التاريخي المتطرف و واقعها الضبابي المثير للريبة نتيجة الممارسات الانتقامية المناقضة للتصريحات الاعلامية لرأس السلطة الجديد السيد أحمد الشرع و من تعينات لاوطنية داخل مؤسسات الدولة و خاصة في مؤسسة الجيش و القوات المسلحة بذريعة التوافق بينما هي بالحقيقة تعتمد الولاء العقائدي كاستنساخ واقعي لتجربة السوريين المرة مع بدايات حكم حافظ الأسد في سبعينيات القرن الماضي.
إننا مدعون و بحكم الضرورة بأن نقوم جميعنا بدورنا في بناء الدولة الحديثة, دولة ذات سيادة. دولة مواطنة حيث المواطنة المتساوية و الكرامة الانسانية و حقوق المواطن الفرد و حرية التعبير و النشاط السياسي, دولة القانون و فصل السلطات و تداول السلطة, كل ما سبق محكوم بوثيقة دستورية, تقر كبنود فوق دستورية في دستور سورية الدائم.
إن الدولة في الدول الحضارية و الديمقراطية و في دولة سورية المنشودة, هي المكون الثابت المستقر بينما السلطة و المعارضة فهي مكونات متحولة عبر صناديق الانتخابات تسعى لتأدية واجبات وطنية تحقق مصالح المجتمعات و مصالح الوطن و عندما يتم بناء المكون الثابت (الدولة) فلا ضير في وصول أي مكون للسلطة طالما هناك قوانين تحكم عملها و فترات زمنية لمنحها الثقة و هناك أيضاً معارضة ترصد عمل السلطة و تعمل على تقديمها النصح أو للمحاسبة أمام مؤسسات الدولة عند الاهمال أو التقاعس أو التواطئ ضد مصالح الشعب و الوطن.
أعتقد, ليس ترفاً بل هو الظرف الموضوعي الذي يتحتم على السوريين العمل مع سلطة الأمر الواقع الحالية حيث هناك تحديات عظيمة سياسية و اقتصادية و اجتماعية و أمنية تواجه سورية ناهيك عن شعبها المنهك منذ عقود الاستبداد الأسدي و هذا العمل يتطلب حتمية ترسيخ مبدأ المعارضة على كل ما يحرف مسار بناء الدولة السورية و إيجاد البدائل الوطنية دائماً و بكل الأوقات.
كلنا شركاء
——————–
ممزق بين الأجندات… هل الإعلام السوري قابل للإصلاح؟/ جعفر مشهدية
تحديث 16 شباط 2025
ترك نظام الأسد وراءه الكثير من الندوب، بسبب ما زرعه من ألاعيب وفتن بين السوريين على مدار عقود من الاستبداد والتفرقة، ولا نبالغ إذا قلنا إن من بين أكثر المتأثرين هم الصحافيون والعاملون في حقل الإعلام.
انقسم الصحافيون عقب سقوط النظام إلى فئتين: الأولى؛ هم العاملون في المعارضة، كمناطق الشمال السوري، والعاملون في وسائل إعلام محلية كقناة “حلب اليوم”، أو وسائل إعلام مدعومة تركياً كـ”تلفزيون سوريا”، أو وسائل إعلام عربية داعمة للثورة السورية كـ”الجزيرة” القطرية، أو منصات المجتمع المدني كـ”عنب بلدي”.
والفئة الثانية مكونة من الصحافيين والإعلاميين العاملين في مناطق سيطرة النظام السابق، سواء في القطاع الحكومي، كالعاملين في “الهيئة العامة للإذاعة والتلفزيون”، أو في القطاع الخاص، كقناتي “الدنيا” و”سما”، أو الإعلام الممول إيرانياً، بمواقعه وقنواته ومنصاته.
فما هي خريطة الصحافة السورية التي باتت ممزقة بين الممولين والأجندات المختلفة اليوم؟ وهل لا تزال الحرب الإعلامية بين منصاتها ومؤسساتها مستمرة، على الرغم من أن الحرب على الأرض قد وضعت أوزارها؟ فيما يبدو أن الانقسامات بين وسائل الإعلام السورية تجاوزت البعد المهني، لتتحول إلى معارك تعكس الولاءات السياسية والتمويل الأيديولوجي، ما يساهم في تعميق الشرخ بين العاملين في هذا المجال.
في هذا التقرير، يتوقف رصيف22 عند الشرخ الكبير بين الصحافيين السوريين أنفسهم، الذين وجدوا أنفسهم على طرفي نقيض بسبب المواقف السياسية أو التمويلات التي تفرض أجنداتها الخاصة. يُسلط الضوء هنا على العوامل التي قادت إلى هذا التمزق وأولها سياسات النظام السابق القائمة على التفرقة، وكيف أصبحت الأجندات الخارجية والتحزبات الداخلية أدوات لزرع الفرقة بين أبناء المهنة الواحدة. كما يناقش التقرير إمكانية تجاوز هذه الخلافات، واستعادة الإعلام السوري لدوره كرافعة للمجتمع ومصدر للمعلومات الموثوقة بدلاً من أن يكون ساحة لتصفية الحسابات السياسية.
تخوين وصراعات وتُهم
“لا يمكن إنكار وجود شرخ بين الصحافيين”، هذا ما يقوله الصحافي محمد سليمان من دمشق، ويشير في حديثه لرصيف22، إلى أن ذلك يعود إلى “عدم معرفتهم ببعضهم البعض. فالصحافيون القادمون من شمال سوريا يظنون أن جميع الصحافيين في مناطق سيطرة النظام موالون للنظام، بينما يرى من عملوا في مناطق سيطرة النظام أنهم تعرّضوا لسنوات من القهر في عملهم ريثما جاء الفرج بانتصار الثورة، وكلا الطرفين يرون أنهم تعرضوا لظلم كبير يستحقون أخذ الفرصة الكاملة بالعمل بعده”.
فهل يجب أن تكون هذه الفرصة على حساب الطرف الآخر وإقصائه؟
يروي سليمان: “عملت بأسماء مستعارة لسنوات طويلة، ضمن وسائل إعلام تابعة أو محسوبة على الثورة، لكن صحافيي الشمال لا يمكنهم معرفة ذلك. في المحصلة، الحل يجب أن يتم عبر دمج جميع العاملين عن طريق أجسام تمثلهم، ضمن ميثاق شرف للدفاع عن بعضهم البعض، وإيجاد حوار بين الصحافيين يوضح وجهات النظر. وفي النهاية، المهنة ستبقي على من يمارس عمله بمهنية حكماً”.
أما سرور سائد الزعبي، وهو صحافي هُجّر إلى إدلب ثم إلى تركيا، فيقول: “على مدار سنوات الحرب، كان إعلاميو النظام والعاملون في وسائل إعلام تابعة له أو تدعمه يغيبون الحقائق ويروّجون لرواية بشار وحاشيته، الأمر الذي أدى إلى تشكيل بيئة تستسهل قتل السوريين لمجرد كونهم ضد الأسد”.
ويضيف لرصيف22: “كان خطر هؤلاء الإعلاميين يعادل خطر الكتائب العسكرية. واليوم، بعد انتصار الثورة، يجب إتاحة الفرص لنا نحن الصحافيين الذين هُجّرنا وقُصفنا، وليس تكرار نماذج النظام السابقة تحت شعار التكويع أو المسامحة، فهذه المصطلحات لا تنفع مع من ارتكب الجرائم، وإذا لم تكن هناك نية لمحاسبتهم، فالأجدر بهم أن يلزموا منازلهم”.
الشرخ لا يقتصر بين الصحافيين
يقول الروائي والصحافي يعرب العيسى لرصيف22: “أفهم أن يكون هناك صراع أو خلاف بين صحافيي الشمال السوري والصحافيين العاملين ضمن سلطة النظام، نتيجة التباعد السياسي وتكوين صور مغلوطة عن الآخر. وما يحدث حتى الآن صحي وضمن الأطر المضبوطة”.
وعن هذا الشرخ، يقول مدير عام ورئيس تحرير تلفزيون “الخبر” عبد الله عبد الوهاب: “هذا التباعد هو انعكاس لشرخ أعمق في المجتمع السوري، شرخ لم يبدأ اليوم، بل هو نتيجة عقود من السياسات التي زرعت الانقسامات، ثم جاءت سنوات الثورة والحرب لتعزّزها وتكرّسها. معظم مكونات المجتمع السوري لا تعرف بعضها اليوم، والصحفيون ليسوا استثناءً من هذه القاعدة”.
ويسترسل: “الشرخ بين الصحافيين القادمين من مناطق مختلفة ليس نتيجة للخلفيات السياسية أو الإيديولوجية فقط، بل بسبب اختلاف التجارب المهنية، والمرجعيات الإعلامية، وحتى الظروف التي عملوا فيها. البعض يرى الآخر جزءاً من إعلام النظام، والبعض الآخر يرى الآخر إعلام معارضة ممول، وفي كلتا الحالتين يغيب الفهم المتبادل لصعوبة الظروف التي واجهها كل طرف”.
هل يوجد إعلام سوري محايد؟
في هذا السياق، يدق يعرب العيسى ناقوس الخطر بقوله: “أكبر تحدٍّ أراه اليوم هو عدم وجود إعلام سوري خالص خلال الفترة القادمة، لكون الإعلام الحكومي غير قابل للإصلاح. وبالنسبة للإعلام المحسوب على المجتمع المدني والممول من منظماته، فهناك خوف من عدم قدرته على الاستمرار بطاقاته الذاتية، في ظل عدم رغبة الدولة والشركات الحكومية أو الخاصة في الاستثمار في الإعلام. وضمن حدود فهمي، لا يوجد في الظروف الحالية رأس مال سوري يرغب بخوض تجربة الاستثمار في الإعلام، بسبب الظروف الاقتصادية التي تمر بها البلاد. ورغم ذلك، هناك فرصة لبناء إعلام سوري إذا تمكن الإعلاميون من استغلالها، وإلا لن تتكرّر لعقود قادمة من تاريخ البلاد”.
بدوره، يرى عبد الله عبد الوهاب أنه “لا يمكن الحديث عن مستقبل الإعلام في سوريا من دون التمييز بين سياقين رئيسيين: الإعلام الرسمي الحكومي، والإعلام الخاص والمستقل. من الواضح أن الإعلام، بوصفه سلطة رابعة، كان هدفاً للسيطرة من قبل السلطات دائماً. واليوم، لا يبدو أننا خارج هذا السيناريو. ولو افترضنا الرغبة في التطوير، فإنه أمر يرتبط بالإرادة السياسية أولاً، ثم بالقدرة على تنفيذ إصلاحات جوهرية ثانياً. حتى لو افترضنا وجود نية حقيقية لرفع سقف الحريات، فهل هناك اتفاق على مفهوم الحريات الإعلامية أو الحريات عموماً؟ أشك في ذلك”.
ويتابع: “التحدي الأكبر الذي يواجه الإعلام السوري، بمختلف أطيافه، هو أزمة الثقة بينه وبين الجمهور. فالإعلام السوري –إذا جاز استخدام المصطلح– لا يزال في طور التشكّل، كما هو حال معظم المؤسسات في البلاد. وهو اليوم يبحث عن أدوات حقيقية لإعادة بناء نفسه وحجز مساحة له في المشهد الإعلامي. لكن قبل كل شيء، عليه أن يثبت مصداقيته وكفاءته أمام الجمهور”.
وعن الأمل ببناء إعلام سوري خالص، يجيب: “الأمل دائماً موجود، لكنه وحده لا يكفي. الإعلام السوري اليوم ما زال في مرحلة ما قبل المخاض، محتجز بين قيود التمويل الشحيح والموجّه، وغياب التنظيم القانوني، وعدم توفر إرادة حقيقية لكسر هذه القيود. إنه يعيش، كغيره من القطاعات، تحت وطأة معادلة الغالب والمغلوب، ولم يصل بعد إلى نقطة النضج التي تمكّنه من أن يكون إعلاماً حراً ومسؤولاً يعكس واقع المجتمع ويؤثر فيه”.
ومن زاوية أُخرى، لا يمكن للإعلام السوري أن يستمر بالعقلية والإمكانات الحالية ذاتها إذا أراد البقاء والتأثير. عليه أن يتحول من مرحلة الأمنيات والهواية إلى مرحلة الاحتراف، وأن يدرك أنه ليس مجرد وسيلة لنقل الأخبار الموجّهة، بل هو صناعة قائمة على أسس اقتصادية وإعلامية متينة.
ويسترسل: “الإعلام، عندما يكون احترافياً ومستقلاً، يصبح مشروعاً استثمارياً جذاباً لرأس المال، وحينها لن يكون تمويله مغامرة، بل سيكون صفقة رابحة. لكن البيئة الحالية ما تزال غير مشجعة للاستثمار في الإعلام، سواء من حيث التشريعات أو المناخ الاقتصادي والسياسي. ولذلك، أي محاولة لإيجاد رأس مال محلي داعم، يجب أن ترافقها إصلاحات عميقة تضمن استقلالية الإعلام واستدامته”.
دور الإعلام الخارجي
يقول العيسى: “يوجد مؤسسات إعلامية غير سورية تهتم بالمسألة السورية وتعمل هذه الفترة على الأرض، ولكن استمرارها غير مضمون، لأن عملها مرتبط بظروف سياسية وإقليمية، على الرغم من تحكمها بالمشهد الإعلامي حالياً”.
بينما يعتقد عبد الله عبد الوهاب أن “السؤال ليس إذا كانت هناك جهات عربية أو أجنبية ستدخل للإشراف على الإعلام السوري، بل كيف سيتم ذلك؟ فهناك سيناريوهان: إما الاستحواذ المباشر، بحيث تصبح المؤسسات الإعلامية السورية مجرد أذرع لمشاريع إعلامية خارجية، وإما خلق شراكات تمويلية تتيح لهذه الجهات التأثير في توجهات الإعلام السوري. وفي الواقع، التمويل الأجنبي ليس ظاهرة جديدة على الإعلام السوري، بل هو جزء من مشهده الحالي، وهو الذي سمح بظهور العديد من المنصات الإعلامية المستقلة. يمكنه أن يكون فخاً ويمكنه أن يكون فرصة. وهذا يضعنا أمام سؤال جوهري: هل ستتمكن هذه المؤسسات من تحقيق الاستقلالية الفعلية، أم ستبقى رهينة للجهات المانحة؟”.
رأب الصدع السوري
يقول العيسى: “الإعلاميون هم أول من سيتجاوز الخلافات بين السوريين، بسبب طبيعة المهنة التي تقتضي انفتاحاً ومراجعة مستمرة للآراء والمواقف. الفئتان، المحسوبة على النظام وغير المحسوبة، تحتكمان لمواثيق شرف إعلامية ومدونات سلوك شبه متطابقة، يُفترض أن تساهم في تذليل المصاعب، وتساعدهم في كشف ألاعيب النظام التي زرعها بين السوريين. وبعد تقارب الصحافيين وحل الخلافات فيما بينهم، ستتأثر تباعاً مهن ومكونات أُخرى”.
لا يخالفه الرأي كثيراً عبد الوهاب، الذي يقول: “الإعلام ليس مجرد ناقل للأخبار، بل هو صانع للرأي العام. وهو قادر على أن يكون عاملاً مساعداً في تقليل الانقسامات وتعزيز قيم المواطنة إذا التزم بالمهنية والموضوعية. لكن الإعلام وحده لا يستطيع حل الأزمات العميقة، خاصة في بلد عاش سنوات من الصراع والانقسام. ما يمكن أن يفعله الإعلام هو أن يكون مساحة للحوار، وأن يسلط الضوء على القواسم المشتركة بين السوريين بدلاً من التركيز على نقاط الخلاف، وأن يساهم في إعادة بناء الثقة بين المواطنين، وبينهم وبين مؤسساتهم”.
ويرى أن جذر المشكلة يكمن في كون الإعلام السوري، في كثير من الأحيان، لم يكن طرفاً محايداً، بل كان جزءاً من الصراع، وهذا أفقده الكثير من مصداقيته.
يقول: “اليوم، أمام الإعلاميين السوريين فرصة لإعادة تعريف دورهم، ليس كأدوات للدعاية، بل كجسر للتواصل بين السوريين. وهذا يتطلب شجاعة مهنية واستقلالية تحريرية، والتزاماً بأخلاقيات المهنة؛ وقبل كل شيء، يتطلب إرادة حقيقية للخروج من مستنقع الاصطفافات والعمل لصالح الحقيقة والمجتمع، وليس لصالح طرف ضد آخر”.
جدلية القوانين الناظمة للعمل الإعلامي
وفي ظل المرحلة الانتقالية التي تعيشها سوريا، يبرز السؤال حول ماهية القانون الناظم لعمل الإعلام والصحافة، خاصة بعد أن أعلن العقيد حسن عبد الغني، ضمن ما بات يعرف بـ”مؤتمر النصر” الذي عُقد في دمشق بتاريخ 29 كانون الثاني/يناير 2025، إلغاء العمل بدستور سنة 2012، وإيقاف العمل بجميع القوانين الاستثنائية.
للإجابة عن هذه الأسئلة، تقول المحامية لمى الجمل: “القانون الاستثنائي هو تشريع يتم تبنيه في ظروف غير عادية، مثل الأزمات أو الحروب أو حالات الطوارئ، ويهدف إلى تنظيم الأوضاع التي لا تستطيع القوانين العادية التعامل معها بكفاءة. ويتميز عادةً بتعطيله لبعض الحقوق والحريات، أو بمنح صلاحيات واسعة للسلطات التنفيذية على حساب السلطة القضائية أو التشريعية”.
وتتابع لرصيف22: “لم يحدد رئيس المرحلة الانتقالية لسوريا أحمد الشرع، ما هي القوانين التي أعلن إيقاف العمل بها على وجه الدقة، ولكن تدور الأحاديث عن إيقاف العمل بقوانين مثل الإرهاب، والتعامل بغير الليرة السورية، ومرسوم حماية المستهلك وغيرها”.
وتشير إلى أن “قانون الإعلام السوري الصادر بالمرسوم التشريعي رقم 108 لعام 2011 لا يُعدّ قانوناً استثنائياً بحد ذاته، بل هو قانون عادي ينظم عمل المؤسسات الإعلامية وعمل الصحافيين. ورغم الانتقادات التي طالته بسبب القيود التي يفرضها على حرية الصحافة، إلا أنه ليس من القوانين التي تم تعطيلها أو إلغاؤها بشكل رسمي”.
حماية الصحافيين في المرحلة الانتقالية
وبخصوص حماية الصحافي لنفسه قانونياً خلال الفترة الانتقالية، تشير الجمل إلى أنه “يجب الالتزام بالقوانين النافذة مع توخي الحذر. فبعض القوانين قد تكون قيد التعديل أو غير مفعّلة. إلا أن الصحافي يجب أن يكون مدركاً لما هو سارٍ قانونياً، ولما يمكن أن يشكّل خطورة عليه. إضافةً إلى ضرورة الاحتفاظ بالوثائق والأدلة في حال تعرضه لأي انتهاك. فإن وجود أدلة قانونية مثل توثيق الانتهاكات أو الاستناد إلى القوانين المعمول بها، يمكن أن يساعد في تقديم دعوى قانونية لاحقاً”.
وتُذكّر بإمكانية الاستفادة من الحماية القانونية المتاحة؛ كالتواصل مع نقابات الصحفيين، أو المنظمات الحقوقية المحلية والدولية التي يمكن أن توفر دعماً قانونياً. كما أن التزام الإعلامي في عمله بمدوّنات السلوك والمعايير الدولية لحرية الصحافة يمكن أن يكون عاملاً مساعداً في حال تطلب الأمر اللجوء إلى الهيئات الدولية للدفاع عن الحقوق.
ورغم أن قانون الإعلام السوري لا يزال سارياً، إلا أن البيئة القانونية والسياسية تجعله غير كافٍ لحماية الصحفيين بشكل فعّال. ولذا، يجب على الصحافيين الاعتماد على مزيج من الحماية القانونية الداخلية والدولية، إلى جانب اتباع استراتيجيات السلامة المهنية والقانونية.
رؤية “إصلاح القطاع الإعلامي” واضحة، إلا أن منع انزلاقه نحو الاستقطاب الحزبي أو السياسي تبقى على عاتق أصحاب الصلاحيات والمراقبين للشأن العام، وهو الانزلاق الذي أبعده عن هدفه طوال فترة حكم البعث، وتركه يعزّز منطق العسكرة خلال سنوات الثورة السورية، فالإعلام يشكل رافعة ودعامة أساسية على طريق المصالحة الوطنية والسلم الأهلي.
رصيف 22
————————
قصة صناعة مصطلح “الشرق الأوسط”/ أحمد الدبش
16/2/2025
لا يوجد مكان آخر أهم من الشرق الأوسط لحفظ التوازن بين العناصر المختلفة لسياستنا الخارجية.. فيها مصالح اقتصادية وسياسية وحتى روحية..
بواسطة ألكسندر هيغ
أمْرَكّة الشرق
إن مصطلح «الشرق الأوسط»، ابتُكر في عام 1902 على يد الأدميرال الأميركي ألِفرد ثاير مِهان (Alfred Thayer Mahan) (1804- 1914). قبل ذلك، كان الأميركيون والأوروبيون يشيرون إلى المنطقة بمصطلح “الشرق”، وكان هذا المصطلح يشير، دون تحديد دقيق، إلى مساحة الأرض الممتدة ما بين المغرب ومصر، ثم تنحني عبر الجزيرة العربية نحو الشام قبل أن تصل في النهاية إلى تركيا.
ولكن هذا التقسيم لم يقم تمامًا على جغرافية المكان؛ فالدار البيضاء مثلًا تقع إلى غرب مدريد، ومارسيليا، وروما، لذلك يمكننا القول إن مصطلح «الشرق»، كان يصف إقليمًا تجمعه حضارة مميزة، وأساليب حكم وهياكل اجتماعية، وأنماط من العمارة، والملبس.
وكان سكان تلك المنطقة معروفين للغربيين بمسميات عدة: العربِ، وأهل الشام، والجزائريين، والأمازيغ، والأتراك. وكان الاعتقاد السائد أنهم معادون للغرب، ويتحدثون لغة ذات وقع غريب على الأذن الأميركية.
أما ما كان يميز الشرق أكثر من مواصفاته السياسية، والفنية، أو اللغوية، فكان هذا الدين المسمى الإسلام. كان الأميركيون في القرن الثامن عشر، ينظرون إلى أتباع تلك العقيدة باعتبارهم «الآخر» المختلف عنهم تمامًا. كانوا من وجهة نظرهم كتلة غريبة غير متناسقة، وينحدرون من حضارة عظيمة انهارت منذ زمن طويل، إلى جانب أنهم بدائيون، يتميزون بالعنف والقسوة.
قدم مِهان، المنظّر البحري الأميركي، رؤيته الإستراتيجية حول أهمية المنطقة، التي زارها عامي 1867 و1894، في كتابه “مشكلة آسيا”الصادر عام 1900.
حدد مِهان منطقة تقع بين خطي عرض 30 و40 شمالًا، تمتد من حوض البحر المتوسط غربًا إلى كوريا شرقًا، وأطلق عليها اسم “وسط آسيا”. أشار إلى أن هذه المنطقة تضم أراضي ذات أهمية إستراتيجية ستظل محل تنافس دولي مستمر في المستقبل المنظور.
قسم مِهان هذه المنطقة إلى جزأين رئيسيين: النصف الشرقي، الغني بالموارد الطبيعية، والنصف الغربي، الذي يحتضن أهم خطوط الاتصال ووسائل النقل، مثل قناة السويس، البحر الأحمر، والخليج العربي، إضافة إلى إمكانات إنشاء خطوط حديدية برية. اعتبر مهان أن هذه الممرات الحيوية ضرورية للوصول إلى الشرق، وتعزيز النفوذ الدولي.
في مقال نشره عام 1902 في دورية ناشونال ريفيو (National Review)، قام مِهان بمراجعة وتطوير أفكاره حول المنطقة التي كان قد أطلق عليها سابقًا اسم “وسط آسيا”. تناول المقال، الذي حمل عنوان “الخليج الفارسي في السياسة الدولية”، الأهمية الإستراتيجية للخليج العربي باعتباره نقطة محورية في شبكة خطوط الاتصال المستقبلية بين الشرق والغرب.
أشار مِهان إلى أن الخليج يمكن أن يصبح نهاية لخط سكة حديد مستقبلي يمتد عبر القارات، ليكون بديلًا محتملًا للطريق المائي الذي يمر عبر قناة السويس والبحر الأحمر.
في هذا المقال، قدّم مِهان مصطلحًا جديدًا للمنطقة، واصفًا إياها بـ”الشرق الأوسط”. وأوضح أن هذا المصطلح لم يكن مألوفًا له من قبل، لكنه اعتمده كجزء من رؤيته الإستراتيجية. استندت هذه الصياغة الجديدة إلى المفاهيم الغربية التي ركزت على أهمية الهند والخليج العربي كمحاور إستراتيجية ضمن شبكة المصالح الدولية.
شرق أوسط أم شرق أدنى!
في مقاله التحليلي، قدم مِهان رؤية استشرافية لأهمية “الشرق الأوسط” كمنطقة إستراتيجية في الصراعات العالمية المستقبلية. توقع مِهان أن المنطقة ستكون محور التنافس بين بريطانيا العظمى، التي ستشترك معها الولايات المتحدة في الحفاظ على مصالحها، وبين القوى البحرية المتصاعدة مثل ألمانيا الإمبريالية، إضافة إلى التهديد البري الذي تمثله روسيا.
اعتبر مهان أن إدراك أهمية هذه المنطقة يجب أن يكون جزءًا من إستراتيجية أميركية شاملة تؤهلها للعب دور أكثر تأثيرًا على المسرح العالمي.
بعد أن أبرز ألفرد ثاير مهان أهمية الشرق الأوسط المتزايدة، سارعت وزارة الخارجية الأميركية إلى إعادة تصور المنطقة، واعتبارها منطقة حيوية للمصالح الاقتصادية والإستراتيجية للولايات المتحدة.
في عام 1909، أنشأت الوزارة قسمًا خاصًا بشؤون الشرق الأدنى، والذي شمل في ذلك الوقت مصالح الولايات المتحدة في الإمبراطوريات العثمانية، والروسية، والألمانية، والنمساوية- الهنغارية، بالإضافة إلى مناطق أخرى مثل إيطاليا، واليونان، البلقان، الحبشة، فارس، مصر، ومستعمرات بريطانيا وفرنسا في حوض البحر المتوسط.
بيد أن سلسلة من إعادة التنظيم على مدى السنوات الخمس والثلاثين التالية نتج عنها إنشاء مكتب لشؤون الشرق الأدنى، وأفريقيا عام 1944، ثم تم تقسيمه بعد ذلك إلى ثلاثة أقسام:
شؤون الشرق الأدنى: وضم تركيا، العراق، فلسطين، شرق الأردن، سوريا، لبنان، مصر، السعودية، ودول شبه الجزيرة العربية الأخرى، إلى جانب اليونان.
شؤون الشرق الأوسط: شمل أفغانستان، بورما، سيلان (سريلانكا)، الهند، وإيران.
شؤون أفريقيا: ركز على بقية القارة الأفريقية.
مع تعمق مشاركة الولايات المتحدة في الحرب العالمية الثانية، اعتمدت على «مركز الإمدادات» البريطاني في القاهرة لتسهيل عمليات الإمداد والتموين في شمال أفريقيا، وجنوب أوروبا، وشبه الجزيرة العربية، وبقيه أنحاء ما كان يعرف سابقًا بالشرق الأدنى.
أدى هذا التعاون إلى ترسيخ استخدام مصطلحي «الشرق الأدنى»، و«الشرق الأوسط» بشكل متبادل في الأوساط السياسية والشعبية.
بعد الحرب العالمية الثانية، أصبح مصطلح «الشرق الأوسط» سائدًا (وفي الولايات المتحدة الأميركية، يستعمل أيضًا التعبير الصحفي المختصر له: Mideast)؛ وهو يتمتع الآن برنين أكثر معاصرة، بينما أصبح مصطلح «الشرق الأدنى»، يبدو كموضة قديمة، مثلما تقادم مصطلحا «الليفانت»، و«الشرق»، في فترة سابقة.
لا شك أن تسمية هذا الجزء من سطح الأرض بالشرق الأوسط، لا يقل تعسفًا عن تصويره كجزء من الشرق. فهو يضم مساحة واسعة ذات تنوع بيئي واسع، من جبال تحاصرها الثلوج إلى صحراوات قاحلة إلى وديان أنهار خصبة وسهول ساحلية تروى بالأمطار، ويضم مدنًا بالغة الضخامة إلى جانب عدد وافر من البنادر، والقرى، وتسكنه شعوب مختلفة كثيرة لها لغات، وثقافات، وطرق حياة متميزة.
ومعظم سكان هذا الإقليم مسلمون (ولكن من مذاهب مختلفة)، ولكنه يضم كذلك كثيرًا من غير المسلمين، ويعيش معظم المسلمين خارجه، في أرض ليست شرق أوسطية، مثل: إندونيسيا، والهند، وباكستان، وبنغلاديش، وبالتالي لا يصح الدين كسمة أساسية لتعريف الإقليم. وفي نفس الوقت تكشف تسمية هذا الإقليم بـ«الشرق الأوسط» بداهة عن منظور أوروبي المركز: فهو «متوسط»، و«شرقي»، فقط من حيث علاقته بأوروبا الغربية.
هكذا، تطور مصطلح «الشرق الأوسط» بشكل ملحوظ من كونه مجرد وصف جغرافي إلى مفهوم سياسي وإستراتيجي يعبر عن مصالح القوى الغربية، خاصة الولايات المتحدة.
وعلى الرغم من التحولات الدلالية التي مرَّ بها، فإنه لا يزال يعكس رؤية غربية تضع المنطقة في إطار يخدم الأجندات الدولية بدلًا من أن يعبر عن هويتها الحقيقية. ومع ذلك، يظل «الشرق الأوسط»، بتنوعه الثقافي والجغرافي، محورًا للتنافس العالمي، مما يجعل المصطلح أداة أساسية لفهم الديناميات الجيوسياسية الحالية.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.
كاتِب وباحِث فلسطيني في التاريخِ القديمِ أثارت أبحاثه في تفكيك التاريخ التوراتي عديداً من النقاشات. له عده مؤلفات في التاريخ القديم، وجغرافية الكتاب المقدس.
الجزيرة
————————————–
=======================