مشروع غوتنبرغ: أرشيف الكتب الخالية من حقوق الملكية الفكرية وأثره على الأدب العالمي/ إياد شماسنة

تحديث 16 شباط 2025
في عصر يتسم بالتوسع الرقمي والعولمة، يعدّ مشروع غوتنبرغ إنجازاً ضخماً في مجال نشر المعرفة المجانية. تأسس المشروع في عام 1971 على يد مايكل س. هارت، واحتفل بيوبيله الخمسيني عام 2021، وقد كان استجابة مبكرة للقيود التي تفرضها قوانين حقوق الملكية الفكرية على الوصول إلى الكتب والأداب. لقد غيّر مشروع غوتنبرغ، بشكل جذري، طريقة الوصول إلى الأدب؛ من خلال جهوده في رقمنة وتوزيع الكتب في الملكية العامة، ليصبح حجر الزاوية لحركة الوصول المفتوح، ويقدم فوائد جمة للقراء والباحثين والمعلمين على حد سواء. مع مجموعة تضم أكثر من 60.000 كتاب إلكتروني مجاني في مجالات متعددة، حيث فتح المشروع الأبواب على مصراعيها لأعظم الأعمال الأدبية العالمية، وضمن الحفاظ على الأعمال الخالدة للأجيال القادمة.
بداية المشروع
بدأ مشروع غوتنبرغ ببداية متواضعة. فقد أدرك مايكل س. هارت، صاحب الرؤية التي تقف وراء هذا العمل، إمكانيات استخدام الحواسيب كأدوات لتحرير المعرفة. وفي عام 1971، حصل على حق الوصول إلى جهاز الكمبيوتر الرئيسي بجامعة إلينوي، وعندما أدرك أن رقمنة الأدب ستمثل فرصة فريدة لجعل الكتب متاحة مجاناً للجميع، بدأ مشروعه الأول بنشر إعلان استقلال الولايات المتحدة الأمريكية، ليكون بداية لمبادرة تطورت لاحقاً لتصبح واحدة من أكبر المكتبات الرقمية في العالم.
كان الهدف الأساسي لمشروع غوتنبرغ هو جعل الأدب متاحاً للجميع مجاناً، وإزالة الحواجز الاقتصادية التي تحد من الوصول إلى الكتب. تتضمن الأهداف الرئيسية للمشروع:
1. رقمنة وحفظ الكتب التي تقع ضمن نطاق الملكية العامة أو التي انتهت حقوق الطبع والنشر الخاصة بها.
2. ضمان الوصول المجاني إلى الأعمال الأدبية من دون قيود من النماذج التقليدية للنشر.
3. تشجيع التعليم ومحاربة الأمية من خلال جعل أعمال الأدب الكلاسيكي متاحة عالميا.
ومن خلال التركيز على الأعمال التي دخلت الملكية العامة، يلتزم المشروع بقوانين حقوق الطبع والنشر بينما يتيح الوصول إلى نصوص كانت ستظل محجوبة في الأرشيفات المطبوعة. واليوم، يُعتبر مشروع غوتنبرغ أداة أساسية للطلاب والباحثين والقراء العاديين على حد سواء، مما يعزز بيئة يمكن فيها التعلم والإبداع الازدهار بدون قيود مالية أو جغرافية.
توسع نطاق مشروع غوتنبرغ بشكل كبير على مر السنين، إذ كان في البداية، يقتصر على الكتب باللغة الإنكليزية فقط، ولكن مع تحسن التقنيات الرقمية وتزايد المساهمات من متطوعين، نما أرشيفه ليشمل أعمالاً بلغات متعددة مثل الإسبانية والفرنسية والألمانية والصينية. لم يعد المشروع يقتصر على الكتب، بل شمل أيضاً مجموعة من النصوص في التاريخ والعلوم والفلسفة وغيرها من المجالات، ليصبح مرجعاً شاملاً لكل من يهتم بالإرث الأدبي والفكري للبشرية.
كانت الطرق الأولى للرقمنة بدائية، إذ كان المشروع يعتمد على إدخال النصوص يدوياً واستخدام تقنيات التعرف الضوئي على الأحرف «OCR» البسيطة. ومع تطور المشروع، سمحت التقنيات الحديثة بتوفير تنسيق أفضل ومراجعة لغوية أدق، لضمان أن النصوص الرقمية تكون دقيقة وجاهزة للاستخدام. اليوم، تُتاح النصوص في صيغ متعددة مثل النصوص البسيطة، HTML،EPUB، مما يوفر تجربة مستخدم سهلة تتناسب مع مجموعة واسعة من الأجهزة الرقمية.
أثر مشروع غوتنبرغ على الأدب العالمي
أحد أبرز إسهامات مشروع غوتنبرغ هو دوره في ديمقراطية المعرفة. قبل ظهور المكتبات الرقمية، كان لدى العديد من الناس، خصوصاً في الدول النامية، وصول محدود إلى الكتب. ومن خلال إزالة الحواجز المالية، يضمن مشروع غوتنبرغ أن أي شخص لديه اتصال بالإنترنت يمكنه الوصول بحرية إلى الآلاف من الأعمال الأدبية الهامة. هذا الانفتاح يوفر فرصة استثنائية للتعلم والاستكشاف الثقافي.
لعب المشروع أيضاً دوراً محورياً في رفع مستوى محو الأمية العالمية، من خلال توفير الأعمال الكلاسيكية التي كانت تعتبر غير قابلة للوصول بسبب تكاليفها متاحة للجميع. هذا التوفر أسفر عن ظهور حركة متزايدة تسعى إلى مشاركة المعرفة والثقافة بلا قيود.
وكان نجاح المشروع حافزاً رئيسياً في تطوير حركة الوصول المفتوح الأوسع. إن التركيز على توزيع المعرفة بشكل مجاني قد ألهم إنشاء مكتبات ومؤسسات رقمية مماثلة مثل:
• كتب غوغل: رغم طابعها التجاري، تشترك في الهدف نفسه وهو رقمنة الكتب وتوفيرها للقراء عبر العالم.
• المكتبة المفتوحة: تعتمد على توفير كتالوغ مجاني للإعارة من الكتب، مع التركيز على الأدب الحديث والكلاسيكي.
• يوروبينا: منصة رقمية توفر الوصول إلى التراث الثقافي لأوروبا، بما في ذلك الكتب والأفلام والموسيقى، مما يعزز التعليم والبحث في مجالات الفنون والعلوم الإنسانية.
لقد ألهم نموذج مشروع غوتنبرغ هذه المبادرات وغيرها، التي تهدف إلى توفير الوصول غير المقيد للمعرفة والثقافة. هذه الحركة المتنامية، المعروفة بحركة المعرفة المفتوحة، تتصور عالماً تكون فيه المعلومات متاحة بحرية لصالح الجميع، بدون القيود التي تفرضها حقوق الملكية الفكرية.
الحفاظ على التراث الثقافي
ساهم مشروع غوتنبرغ بشكل كبير في الحفاظ على التراث الثقافي العالمي من خلال توفير نسخ رقمية من النصوص النادرة والقديمة، والعديد من الأعمال، خاصة تلك التي تعود إلى القرون الـ18 والـ19، المهددة بالاندثار بسبب هشاشة الورق القديم. ومن خلال رقمنة هذه النصوص، ضمن المشروع الحفاظ عليها للأجيال القادمة، مما سمح للباحثين بالوصول إليها بدون القلق بشأن تدهور حالتها المادية.
إضافة إلى الحفاظ على الأدب الغربي، بدأ المشروع أيضاً في التركيز على النصوص غير الغربية، مما يشكل خطوة حاسمة في الحفاظ على التقاليد الأدبية للعالم النامي، ويجعل هذه النصوص أكثر وصولاً للباحثين والقراء حول العالم.
وساعد المشروع، من خلال جعل الكتب متاحة مجاناً، في تسهيل الترجمة والتبادل الثقافي بين الحدود اللغوية والثقافية. استخدم العديد من المترجمين مجموعات مشروع غوتنبرغ الرقمية كأساس لترجماتهم، مما أتاح تقديم أعمال أدبية هامة إلى جمهور جديد. هذا التبادل الثقافي العالمي أسهم في زيادة عالمية الأدب، حيث أصبح بإمكان القراء تجربة الأعمال الأدبية التي كانت محصورة في دوائر لغوية وثقافية محددة. بالإضافة إلى ذلك، ساهم المشروع في تنوع اللغات من خلال عرض أعمال بلغات متعددة، كما ساعد في إعادة إحياء الذكرى للكتاب المفقودين أو المهمشين، مما منحهم منصة للاعتراف بها قد لا تكون متاحة في صناعة النشر التقليدية.
تحديات مشروع غوتنبرغ
على الرغم من التزامه بنصوص الملكية العامة، يواجه المشروع تحديات قانونية كبيرة. فحقوق الطبع والنشر تختلف بشكل كبير من دولة إلى أخرى، ويجب على المشروع أن يتنقل بعناية عبر هذه التحديات القانونية. ففي بعض الدول، تكون مدة حقوق الطبع والنشر أطول مما هي عليه في دول أخرى، مما يصعب على المشروع تضمين بعض الكتب التي قد تكون ضمن الملكية العامة في دول معينة، لكنها محمية بحقوق الطبع والنشر في دول أخرى.
علاوة على ذلك، دخل المشروع في نزاعات قانونية مع شركات نشر ترغب في الحفاظ على حصريتها لبعض الأعمال، خاصة فيما يتعلق بالكتب المنشورة بعد عام 1923. تستمر هذه النزاعات في تقييد قدرة المشروع على جعل بعض النصوص متاحة عالمياً.
كذلك تعتمد دقة النصوص في مشروع غوتنبرغ بشكل كبير على العمل التطوعي. وعلى الرغم من أن المتطوعين يبذلون قصارى جهودهم في نسخ النصوص وتصحيح الأخطاء وتنسيقها بدقة، فإن الأخطاء لا مفر منها. هذا صحيح بشكل خاص في الأعمال القديمة التي قد تكون النصوص الأصلية غير واضحة أو تحتوي على أخطاء طباعية، أو عندما يتم مسح النصوص باستخدام تقنيات OCR التي قد تحتوي على أخطاء.
وبينما يعمل فريق مشروع غوتنبرغ جاهداً لضمان نزاهة النصوص، إلا أن غياب مجلس تحريري مركزي أو عمليات تدقيق لغوي احترافية يعني أن بعض الأعمال قد تحتوي على أخطاء طباعية أو إشكاليات دقة قد تؤثر على استخدامها في البحث الأكاديمي أو المهني. وخلاصة القول إن مشروع غوتنبرغ أحدث ثورة في مجال النشر الرقمي من خلال جعل الأدب العالمي متاحاً للجميع. لعب المشروع دوراً أساسياً في ديمقراطية الوصول إلى المعرفة، وتعزيز التعليم والحفاظ على التراث الثقافي. ورغم التحديات القانونية والعملية التي يواجهها، لا يزال المشروع يمثل خطوة محورية نحو المعرفة المفتوحة، ويستمر في كونه مصدراً هاماً للأدب العالمي على الإنترنت.
القدس العربي