الناسسقوط بشار الأسد، الرئيس الفار والمخلوع

حكاية مديرية صحة طرطوس وتَضخُّمها الإداري: نموذج عن مشاكل المؤسسات السورية والحلول المطروحة اليوم/ عبد الحميد يوسف

17-02-2025

«كنت إذا بتمرّ من قدّام مديرية الصحة، بتوصل ع بيتك موظف فيها».

        تنتشرُ هذه العبارة كثيراً في مدينة طرطوس للسخرية من مدير الصحة السابق خير الدين عبد الستار السيد، وهو شقيق وزير الأوقاف السابق محمد عبد الستار السيد. كان خير الدين السيد مديراً لصحة طرطوس منذ العام 2001 حتى أواخر العام 2012، وكان معروفاً بتوظيف أعداد كبيرة في المديرية وما يتبع لها من مؤسسات صحية وإدارية. وقد انفجرت مشكلة المديرية مؤخراً في طرطوس بعد سقوط نظام الأسد، ونستطيع القول إن خير الدين السيد كان منعطَفاً بارزاً في المسار الذي قاد إلى هذا الوضع، لكن الأمر لا يقتصر عليه، بل هو امتدادٌ لكل سياسات النظام السابق الإدارية قبل ذلك وبعده، وخاصة في السنوات الأخيرة من حكمه.

        يُشكّل حجم الترهُّل الإداري وفائض العمالة في أغلب المؤسسات السورية تحدياً هائلاً، تعاملت معه حكومة تسيير الأعمال حتى الآن بالتسريحات التعسفية، أو الإجازات الإدارية المأجورة المؤقتة التي توحي أن هناك تسريحاً بعدها، ما تسبب بتوترات واعتصامات مستمرة، و قرارات متضاربة متتالية كانت مديرية صحة طرطوس نموذجاً مكثفاً عنها.

        ويمكن تكثيف المشكلة الراهنة في مصطلح البطالة المقنّعة الذي استخدمته الوزارة الجديدة لوصف واقع القطاع الصحي في طرطوس، إذ لدينا فائضٌ من الموظفين الذين لا تحتاجهم المؤسسات، وبعضهم لا يتمتع أصلاً بالكفاءة اللازمة لشغل الموقع الذي يحتله على الورق، وبعضهم يشغل مواقع أقل من كفاءته الفعلية، بل وبعضهم يتقاضى راتبه دون أن يذهب إلى العمل أصلاً. يُشكِّلُ هذا عبئاً على الاقتصاد وهدراً للجهود البشرية والمالية، ويبدو نظرياً أنه لا حلَّ لهذه المشكلة إلّا بإنتاج مشكلة أخرى، عبر تسريح عدد من العاملين والموظفين بما يتناسب وحاجة كل مركز داخل كل قطاع إداري. لكن هذا قد يكون كارثة في الحالة السورية الراهنة، حيث يفتقدُ كثيرون لثمن رغيف الخبز في ظروف من الغياب شبه التام لفرص العمل.

        ثلاث مراحل عامة قادتنا إلى الوضع الراهن في مديرية صحة طرطوس

        المرحلة الأولى هي فترة إدارة خير الدين السيد وفريقه، وخاصة مدير مكتبه باسل عيسى، لمديرية الصحة. يصفهم كثرٌ في طرطوس بأنهم أصحاب أيادٍ بيضاء بسبب مساعدتهم في توظيف عدد كبير من الناس في مراكز قطاع الصحة. أبو علي موظف في القطاع الصحي داخل المدينة، فضّلَ عدم ذكر اسمه الصريح، يشرح لنا سبب هذا «الكَرَم» الذي كان يغدقه خير الدين ومدير مكتبه، إلى جانب سُمعتهما بالفساد داخل المديرية، إذ كانا يعملان على كسب قاعدة شعبية كبيرة داخل المدينة بسبب طموحاتهما في الوصول إلى مجلس الشعب: «استغلَّ باسل عيسى هذا النهج عند مديره خير الدين السيد ليوظٍّفَ عدداً كبيراً من أهالي منطقته في ريف طرطوس، فقد نُسِبَ له الفضل في المساعدة ومدِّ يد العون للناس، أما صفقات الفساد وسرقات دفاتر الوقود، فلم يكن يعلمها أحدٌ سوى الذين داخل العمل. كان باسل يؤسّسُ لطموحه في الوصول إلى مجلس الشعب بهذه الطريقة».

        لم تكن هذه المشاكل والأساليب استثنائية أو غريبة في عهد الأسد، فالفسادُ الإداري هو قلبُ المنظومة وخطُّتها الرئيسية. وقد استفاد خير الدين وفريقه في تلك الفترة من «الانفتاح» الذي شهدته سورية، إذ افتُتحت مراكز طبية كثيرة على أيامهم وتم اعتبار الأمر من إنجازاتهم، حالهم في ذلك حال غيرهم في القطاعات التي تطورت في «زمن الأتمتة» و«الدعم الخارجي» و«نشاط الجمعيات والمنظمات» الذي حظي به البلد في عصر الانفتاح الصغير ذاك.

        أُعفي خير الدين السيد من مهامه في إدارة مديرية صحة طرطوس في 14 كانون الأول (ديسمبر) 2012، وعيِّنَ في العام 2014 محافظاً إدارياً لإدلب حتى العام 2017، وفي عهده خرجت محافظة إدلب كلها تقريباً من سلطة النظام، لكنه نجحَ أثناء ذلك في انتخابات مجلس الشعب عن مدينة طرطوس، وبقى عضواً في المجلس من 2016 إلى 2020. كما نجح معه مدير مكتبه السابق باسل عيسى في الدورة ذاتها (2016 – 2020)، وعاد باسل ونجح في دورة 2024 الأخيرة قبل سقوط الأسد.

        المرحلة الثانية من رحلة التضخُّم في أعداد موظفي صحة طرطوس بدأت بعد اندلاع الثورة، وتحديداً بعد أن تحولت الثورة السلمية إلى حرب نتيجة عنف النظام الدموي. كان عناصر جيش النظام السوري يُقتَلون على الجبهات تاركين عائلات بلا مُعيل، وأخذ النظام يوزع «التعويضات على أهالي الشهداء» عبر توظيف أفراد منهم في القطاعات الحكومية.

        في العام 2014، وافقَ مجلس الوزراء في النظام السابق على مشروع القرار المُقدَّم من وزارة العدل، والذي يتضمّن التعليمات التنفيذية للقانون رقم 36 في 2014، المُتعلّق بـ«تخصيص نسبة 50% من شواغر الجهات العامة لتعيين ذوي الشهداء». يقول من تحدثتُ معهم في مديرية صحة طرطوس إن أكثرية العقود الممنوحة وفقاً لهذا الإجراء كانت لمُستخدَمين ومُستخدَمات في المشافي والمراكز الطبية، وكان هذا في الواقع «تَصدُّقاً» على العائلات بالفُتات، الأمر الذي يلتقي مع حكايات فساد «مكتب الشهداء» المعروفة في طرطوس. حتى مع عائلات جنود جيشه، لم تكن مؤسسات النظام السوري السابق أقلّ فساداً، ومن أمثلة ذلك تأخير شهادات الوفاة لتأخير تسليم الرواتب للأهالي وابتزازهم بهذا الأمر، وأغلبهم من العائلات شديدة الفقر التي كانت في أشد مراحل حاجتها لما يسدّ الرمق، وهو ما تؤكده شهادات عديدة من طرطوس.

        المرحلة الثالثة تتمثل في عقود التوظيف للمُسرَّحين من الخدمتين الالزامية والاحتياطية في الجيش، وتحديداً اعتباراً من العام 2019. في العام 2021 نشرت وكالة سانا الرسمية للأنباء: «في مجال دعم وتمكين المُسرَّحين من الخدمة العسكرية الالزامية والاحتياطية، أعلنت الوزارة في الـ13 من شباط الماضي نتائج مسابقة المُسرَّحين الذين تقدَّموا لأكبر مسابقة مركزية واختبار للتعاقد مع الجهات العامة، ضمن برنامج دعم وتمكين المُسرَّحين لسدِّ احتياجاتها من اليد العاملة بعقود سنوية من الفئات الأولى والثانية والثالثة والرابعة والخامسة وفي جميع المحافظات. وبلغ العدد الكُلّي للمُتقدّمين للمسابقة من جميع الفئات 27780، نجحَ منهم 27723 بنسبة نجاح 99.79 بالمئة».

        كانت تلك دفعة أولى من العقود فقط، إذ تتالت دفعات أخرى بعدها. تَوزَّعَ أكثر الناجحين في محافظة طرطوس على مؤسسات الصحة والكهرباء والدفاع المدني في المدينة وريفها. وطبعاً قبل ذلك وبعده، لا يمكن الإحاطة بأعداد من تم توظيفهم عن طريق المحسوبيات والرشاوى، أو عن طريق وضع أسماء وهمية لموظفين غير موجودين بشكل فعلي. كل هذا كان موجوداً دائماً في مديرية صحة طرطوس، كما يؤكد لنا أبو علي، ولكن أيضاً كما يعرف جميع السوريين عن أسلوب إدارة المؤسسات العامة في سوريا زمنَ النظام السابق.

        اللحظة الراهنة في مديرية صحة طرطوس

        فرَّ بشار الأسد في 8 كانون الأول (ديسمبر) الماضي، تاركاً خلفه بلداً مُدمَّراً على كل المستويات. دمَّرَ النظام شرايين البلاد الإنتاجية، واستنزفَ موارد الجميع بما في ذلك جمهور مواليه وأنصاره، ووضعَ المجتمع كله تحت سلطة الإتاوات بأشكال مباشرة وغير مباشرة، وخاصة بعد العام 2019، عندما حوّلَ دولته إلى مؤسسة لجباية الأموال من الناس القاطنين في مناطق سيطرته دون تفريق. كان حشو المؤسسات العامة بالموظفين سياسية لمنح ثمن رغيف الخبز لعائلات كثيرة، ولم تكُن المعاشات تكفي لأكثر من ذلك فعلاً. ولذلك استبشر أغلب الناس خيراً بسقوطه.

        استلمت القيادة العسكرية والسياسية لهيئة تحرير الشام زمام السلطة بزعامة أحمد الشرع، الذي عيّنَ الوزراء من حاشيته السابقة لتسيير الأعمال حتى تشكيل حكومة انتقالية، وتم تكليف شقيقه ماهر الشرع قائماً بأعمال وزارة الصحة. يتحدث الموظفون في المديرية عن أن متابعة العمل كشفت عن حاجتها لميزانية عالية جداً من أجل سدّ كتلة الرواتب فيها، وانتشرت أنباء عن أعداد كبيرة جداً من الموظفين في القطاع الصحي في محافظة طرطوس.

        تقول معلومة شاعت الشهر الماضي في طرطوس إن وزارة الصحة قدّرت عدد الموظفين في المشفى الوطني (الباسل سابقاً)، وهو أكبر مشافي المحافظة، بـ7063 موظفاً وعاملاً في مقابل 180 سريراً. ليس هناك مصدرٌ لهذه المعلومة على صفحات الوزارة ولا على صفحات مديرية الصحة على الإنترنت، ما يجعل الرقم الهائل هذا مجّرد شائعة، لكنها انتشرت كالنار في الهشيم، واستُخدِمَت في دوائر كثيرة لوضع أهالي المدينة جميعاً في خانة الفاسدين المتواطئين مع النظام السوري السابق. لكن مدير المشفى السابق، اسكندر عمار، أكَّدَ لموقع سناك سوري أن عدد العاملين في المشفى هو 2224 شخصاً في حين أن عدد الأسرّة 562 سريراً، نافياً صحة تلك الإشاعة. وعدد الأسرّة هذا مؤكَّدٌ في أكثر من مقال سابقٍ عن المشفى، آخرها في العام 2016 على موقع وكالة سانا، وقد وصل عدد موظفي المشفى بحسبه إلى 1700 في ذلك الوقت.

        يقول عماد (اسم مستعار)، وهو موظف في قطاع الصحة في طرطوس، للجمهورية.نت إن المعلومة الثانية هي الأدق، «لأن المشفى كبيرة، تتألف من خمسة طوابق بالإضافة إلى قسم الإسعاف الكبير. ويبقى رقم 180 سرير صغيراً جداً بالنسبة لمستشفى بهذا الحجم». يؤكد عماد أن عدد العاملين لا يتجاوز 2500، وأنه من الإجحاف أصلاً تقسيم عدد العاملين على عدد الأسرّة الموجودة كما شاع على وسائل التواصل الاجتماعي، لأن «المشفى يحتاج فنيين وحُرّاساً ومستخدمين ومَطبخاً، وغير ذلك من إداريين وممرضين وأطباء، كما أن عدد الذين أُعلن عن نية فصلهم من مشفى الباسل وصل إلى 1100، ما يضع المشفى في حالة نقص بالموظفين، وما يجعلني وزملائي نميلُ إلى تصديق الشائعة عن خطة إدخال كوادر جديدة من خارج المحافظة بدلاً عن المفصولين».

        جديرٌ بالذكر أنه في العام 2003 صدر المرسوم التشريعي الذي تم بموجبه اعتبار «مشفى الباسل في طرطوس هيئة عامة تتمتع بالشخصية الاعتبارية والاستقلال المالي والحقوقي»، أي أن إدارة المشفى تتبع لوزارة الصحة بشكل مباشر، وأنها لم تكن تابعة للمديرية في معظم سنوات إدارة خير الدين السيد. لكن العودة إلى تواريخ أسبق، تُظهِرُ أن خير الدين السيد كان مديراً للمشفى، ومعه نائبه باسل عيسى نفسه، قبل أن يصبح مديراً للصحة، ما يُرجَّح أنه كان يستخدم النهج نفسه هناك.

        وعلى كل حال، لا يُغير تصويب المعلومة بشأن عدد موظفي المشفى من حقيقة أن هناك عمالة فائضة، إذ لا يحتاج المشفى إلى 2500 موظف حسب تَقاطُع المعلومات التي أمكنَ جَمعُها، وقد كان يعمل بـ1700 موظف لعدد الأسرّة نفسه في العام 2016. كما أن هذا لا يُغيّر من حقيقة أن الأعداد في القطاع الصحي أعلى من حاجة مَلاك المديرية، نتيجة جميع الظروف السابق ذكرها، وهو ما تعاملت معه الإدارة الجديدة بالعمل على تقليل أعداد الموظفين.

        تظاهرَ عشرات من العاملات والعاملين أمام مديرية الصحة في 23 كانون الأول (ديسمبر) الماضي، بعد انتشار أخبار عن أنه سيتم فصل أعداد كبيرة منهم وإعطاء إجازة مدفوعة لمدة ثلاثة أشهر لأعداد أخرى، ريثما يتم النظر في الفساد الإداري وأسماء الموظفين الوهمية.

        في 8 كانون الثاني (يناير) نشرت مديرية صحة طرطوس، على صفحتها على فيسبوك، منشوراً يدعو المعترضين على فصلهم إلى تقديم اعتراض إذا استوفوا معايير حَدَّدتها الوزارة: «تتضمن معايير الإيقاف، كل من لم يلتزم بالدوام خلال الفترة الماضية، بمن فيهم من حصل على إجازة بلا أجر، وكل من لم يكن على ملاك مديرية صحة طرطوس، ومن تجاوز 30 سنة خدمة، كذلك من تجاوز عمره 55 عاماً على أن يكون قد أتمَّ 25 سنة خبرة باستثناء الأطباء، ومن لا يحمل شهادة علمية تُناسب المنصب الوظيفي».

        وتضمنت القائمة أيضاً معايير تفضيلية للموظفين الذين لم يتم استبعادهم وفق المعايير السابق ذكرها، وتتضمن المعايير كل من كان له «إجراءات انضباطية أقل»، ومن حقق نتيجة تقييم أداء أعلى بموجب نموذج التقييم، كذلك كل من كان مكان إقامته أقربَ للعمل، وتُعطَى 25 علامة لكل من البنود التفاضلية السابقة، كالتالي:

        -25 درجة لمن ليس له أي إجراء انضباطي وتنقص 5 درجات لكل إجراء خلال الخمس سنوات الفائتة.

        -25 درجة لمكان الإقامة وتنقص 5 درجات عن كل 25 كم بعداً عن مكان العمل بالسيارة».

        يرى كثير من العاملين الذين تحدثت الجمهورية.نت معهم، وكذلك من خلال التعليقات على وسائل التواصل، إجحافاً كبيراً في هذه المعايير، وخاصة بشأن مكان الإقامة، فهل بُعد منازلهم عن مكان العمل يعتبر سبباً كافياً لاستبعادهم من عمل التزموا به في أسوأ الظروف كما في وقت جائحة كورونا؟

        عاد عاملون وعاملات للاحتجاج أمام المديرية في 9 كانون الثاني (يناير)، بعد تأكيد أنباء التسريح والإجازات المدفوعة شفيهاً من قبل رؤساء الدوائر، بالإضافة إلى الإعلان عن إغلاق نحو عشرين مركزاً طبياً في الأرياف البعيدة عن المدينة. اعتبر الموظفون أن هذه الإجراءات استهدافٌ للقطاع الخدمي الصحي، الذي يؤمن، فضلاً عن الوظائف، خدمات طبية إسعافية في أرياف بعيدة لا يستطيع أهلها التوجه إلى المدينة بسبب غلاء المواصلات وبُعد المسافات.

        وما جعل الأمر أكثر صعوبة بالنسبة للموظفين، هو أنه جاء بعد تطمينات السلطة الجديدة بأنه لن يكون هناك انتقامٌ من أحد بما في ذلك من يُصنَّفون أنصاراً أو حاضنة للنظام السابق، وبعد إعلان حكومة تسيير الأعمال عن زيادة قادمة على الرواتب بقيمة 400 بالمئة. بدت هذه الإجراءات تراجُعاً عن التطمينات، واعتبرها بعض الموظفين استهدافاً لهم بسبب خلفيتهم الطائفية.

        أبو زياد موظف متقاعد من مديرية الصحة، يقول للجمهورية.نت: «بات معروفاً نهج نظام الأسد السابق في تفريغ الساحل السوري من المشاريع الاقتصادية التي تؤمن فرص عمل، من أجل ربط أبناء الطائفة العلوية به بشكل خاص وتكريس ولاءهم له. الوظائف مصدر دخل وحيد لأغلب الناس هنا، خاصة أن الأعمال الأخرى على قلّتها ما زالت متوقفة منذ فرار الأسد، ولم يتحرك السوق باستثناء سوق الغذائيات الذي لا استغناء عنه، وخاصة بعدما غرقت شوارع طرطوس ببسطات المعلبات والحبوب والوقود القادم من إدلب وبأسعار منافسة جداً، ما أغلق حتى باب المعيشة الصغير ذاك بالنسبة لكثيرين».

        تقول نهاد (اسم مستعار) للجمهورية.نت، وهي موظفة في مديرية الصحة، إن الوزارة الجديدة عيّنت الطبيب علاء برهوم مشرفاً على مديرية صحة طرطوس بعد كفِّ يد المدير السابق أحمد عمار: «علاء برهوم من الأطباء العاملين في مديرية صحة إدلب ومن ضمن لجنة أمنائها في آخر 4 سنوات، عينته الوزارة مشرفاً على مديرية صحة طرطوس في 29 كانون الأول الماضي، وقد طلبَ من رؤساء الأقسام تحديد العدد اللازم ضمن مَلاك كل قسم، واختيار أصحاب الكفاءة فقط، والذين على رأس عملهم، ما فتح الباب من جديد للمحسوبيات. لقد صدرت تعليمات كثيرة لموظفين كُفء وعلى رأس عملهم بالعودة إلى بيوتهم إلى حين صدور قرار فصلهم أو تسوية المشكلة». تؤكد نهاد أنها وأكثريةَ زملائها لم يلتزموا بالقرار، فالتخبُّط كان سيؤدي إلى توقف القطاع الصحي عن العمل لو امتثلَ العاملون جميعاً للقرار، وذهبوا إلى بيوتهم دون تعويض مكانهم.

        يؤكد من تحدثنا إليهم على وجود مشكلة إدارية أخرى، يبدو حلها صعباً دون «ظلم» على حد تعبيرهم، فالمدير الأسبق خير الدين السيد كان يوظف العاملين على مَلاك المستخدمين حتى لو كانت شهادتهم العلمية أو المهنية تؤهّلهم لما هو أعلى من ذلك، ما تركَ فجوة إدارية يصعب التعامل معها بشأن تقييم الكفاءة وتَناسُبها مع الموقع الوظيفي.

        يقول أبو علي إن آخر القرارات هي تسريح كل العاملين والموظفين ما قبل عام 2000، أي من أتمّ 25 سنة خدمة، وسيبقى العاملون والموظفون بعد العام 2000 ضمن معايير الكفاءة والحاجة. يؤكد أبو علي أن المشكلة تكمنُ في أن الموظفين ذوي النفوذ هم من سيقررون من يستحق، فالوزارة الجديدة لا تعرف العاملين ولا تستطيع تفنيد أعمالهم بدقة: «بعض من لم يتم استبعادهم لا يأتون إلى العمل أصلاً، بل وبعضهم لا يحتاج الوظيفة بسبب انشغاله بأعمال أخرى».

        ما زالت مديرية الصحة تعاني من إيجاد حل لهذه المشكلة الإدارية الكبيرة، ويبدو أنها تتخذ إجراءات غير مناسبة في الوقت «الخاطئ»، إذ لا يمكن رمي الناس عُرضة للجوع في ظل توقف اقتصاد البلد، ولا يمكن تدفيع أفراد تحت خطر الجوع ثمنَ منظومة فساد دمّرت البلد بأكمله، وخاصة أن هذه المشكلة ليست الوحيدة.

        يقول جميع من تحدثنا معهم في مديرية الصحة إن الدكتور علاء برهوم ألغى قرار الإجازة المدفوعة لثلاثة أشهر كمدة للنظر في حال العاملين، ودعاهم للالتحاق بعملهم، بعدما ظهر خطأ القرار، إذ طالما أن العاملين سيأخذون رواتبهم، لماذا يجلسون في بيوتهم وتتوقف مراكز ومواقع عن العمل بسبب ذلك؟ لكن هذا لا يعني تَراجُع الوزارة عن العمل على حل المشكلة، فقد أكدّت نهاد أن الأسبوعين القادمين سيشهدان قرارات غير شفهية هذه المرة، وخصوصاً مع قرب نهاية الشهر وخطورة نفاد المواد الأولية اللازمة للرعاية الطبية.

        أعادت مديرية الصحة جميع المفصولين الذين لم تشملهم المعايير، أو الذين أَوعَزَ لهم رؤساء أقسام بالبقاء في منازلهم في إجازة مدفوعة إلى حين البت في قضاياهم، كما أعادت المراكزَ الطبية في الأرياف إلى العمل، لكن كل هذه الإجراءات تم اتخاذها شفهياً، وبشكل يتفاعل مع الضغط الشعبي ويتأثر به.

        يترافق كل ذلك مع إجراءات مشابهة في أغلب المؤسسات العامة في محافظة طرطوس وغيرها، في سياق من تخبُّط الإدارات الحديدة في حلّ قضية الترهُّل الإداري، مع وجود أحاديث شائعة شعبياً عن عمل الإدارة الجديدة على «صبغ المؤسسات في الساحل بلون آخر»، وهو ما لا يمكن تأكيده قبل صدور قرارات مكتوبة ونهائية، لكنه يتوافق مع تعيينات «اللون الواحد» في حكومة تسيير الأعمال. بالمقابل يعتبر كثيرون أن ما يجري من تجاذبات وإجراءات وتَراجُع عنها عندما يثبت خطأها أمر طبيعي، على طريق تنظيف المؤسسات من أتباع الأسد الذين ينتهجون نهج نظامه في الفساد والمحسوبيات التي تقود إلى تدمير الاقتصاد والعملية الانتاجية.

        تبقى الأمور مُعلَّقة إلى حين تشكيل الحكومة الانتقالية الموعودة في الأول من آذار (مارس) القادم كما هو مُعلَن، وتبقى البلاد تنتظر حلّاً لا يقود أبناءها وبناتها إلى الجوع أو الاضطرار إلى الانقياد وراء من يطعمهم ويحميهم، في بلد يتمنى أهله أن يتخلّصوا من كل ما هو تعسّفي أو مُذلّ فيه.

موقع الجمهورية

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى