سوريا حرة إلى الأبد: مقالات وتحليلات 17 شباط 2025

حرية إلى الأبد: كل المقالات والتحليلات والحوارات التي تناولت انتصار الثورة السورية اعتبارا من 08 كانون الأول 2024، ملاحقة يومية دون توقف تجدها في الرابط التالي:
سقوط بشار الأسد، الرئيس الفار والمخلوع
————————————
سوريا.. ضرورة أن نتحدث/ موريس عايق
ليس من مصلحتنا أن نتحدث بلغتين، عامة وخاصة، ولا أن نخفي مخاوفنا ومطالبنا وراء لغة تقية لا تقول شيئاً، ففي هذه الحالة لن يجد أحد نفسه مضطراً للاستجابة لتلك المطالب
8 يناير 2025
ما تزل الأحوال بعد سقوط نظام الأسد غير واضحة، رغم التسارع الكبير للأحداث خلال الأيام القليلة بعد السقوط. فالسائد حالة من التوجس والترقب لما ستؤول إليه الأوضاع القابلة للتطور في كل الاتجاهات الممكنة والمتعارضة.
حينما أتحدث إلى سوريين في الداخل أو حينما يخبرني الأصدقاء عن أحاديثهم مع أهاليهم ومعارفهم في سوريا، تظهر أمور مشتركة بين جميع هذه الحوارات، مزيج من مشاعر التخوف والتوجس الممزوجة بالأمل بتحسن الأوضاع المعيشية والأمنية. الناس تعبت وارهقت من حرب امتدت على مدار 13 عاماً دون نهاية، رافقها انهيار اقتصادي كان أشد وطأة في السنوات الأخيرة حينما توقفت تقريباً الأعمال القتالية. فهم بحاجة أولاً وقبل كل شيء إلى الأمن والأمان، الاستقرار وتحسين أوضاعهم المعيشية البائسة وإعادة الإعمار. أمل يرافقه أيضاً التخوف والتوجس من القادمين الجدد إلى السلطة، الإسلاميين، وتحديداً هيئة تحرير الشام، وما قد يقومون به.
انطباعات شخصية
الصورة التي تقدمها الأحاديث الخاصة تبدو مغايرة لما تقدمه التقارير القادمة من سوريا، عندما تشاهد الناس يتحدثون علناً، وبخاصة حينما يكون هؤلاء من الأقليات الدينية، من مسيحيين وعلويين وإسماعيليين وغيرهم. أو حتى من بيئة سنية مدنية انحازت ضمناً إلى النظام، أو للدقة ضد الثورة، وهو الوصف الأدق لمجمل السوريين الذين اُعتبروا جمهور النظام.
لم اسمع أحداً يتحدث، على مستوى الأحاديث الشخصية التي تفترض حداً أدنى من الثقة، بشكل إيجابي عن النظام السوري. يعرف الجميع فساد النظام وسوئه، لكنهم كانوا يخشون الثوار أكثر. هذه كانت الوضعية السورية حقاً. وقدم هؤلاء مواقفهم بأشكال شتى، مع الدولة (وليس النظام الذي يعارضونه) في مواجهة الثورة الهادفة لإسقاط الدولة. أو بوضوح أكثر، أنهم ضد الإسلاميين الذين يشكلون الخطر الأكبر، وبالتالي عليهم أن يختاروا أهون الشرور. وغيرها من مواقف، أعتقد أن عرباً عديدين يعرفونها بدورهم بصيغ شبيهة.
لا يظهر الخوف والتوجس في التقارير القادمة من سوريا، حيث تبدو الصورة أكثر لطفاً عن الأمل والعيش المشترك واكتشاف المحبة الهابطة فجأة على كل السوريين. بالتأكيد، نحن بأمس الحاجة للأمل والمحبة والتمسك بهما مهما كان وجودهما الواقعي ضئيلاً. غير أن إخفاء مشاعر الخوف والتوجس والخشية يحيل إلى تقليد سوري عريق عن التباين الدائم بين العلني والخاص، وهو مكمن الخطورة.
هذا الإخفاء ليس مسؤولية وسائل الإعلام نفسها أو نتاج لسياسة إعلامية، رغم وجود سياسات إعلامية واضحة فيما يخص أموراً كثيرة. إنما يعود للسوريين أنفسهم الذين يتحدثون علناً، ويفعلون ما يفعلون بشكل ذاتي، وهو ما اعتادوه طوال عقود.
علناً تبدو كل الأمور جيدة، وخاصة فيما يتعلق بمسائل الانقسامات الأهلية، الأكثر كلفة حقاً على السوريين وعلى تاريخهم. علناً، تحب الطوائف بعضها البعض وتحيل إلى تقليد تعايش طويل الأمد قائم على الأخوة ووحدة الانتماء، لم يشوهه إلا فاعل خارجي (النظام السابق حالياً، وسابقاً الاستعمار وعملائه). إننا، كسوريين، اعتدنا إخفاء مشاكلنا ومخاوفنا تحت السجادة فلا نكشفها، باعتبار المكاشفة والمصارحة مسائل معيبة وربما تهدد العيش نفسه. لا يجب أن نتحدث عن الطوائف ومطالبها ومخاوفها لأن هذا أمراً معيباً، لا مكان للطائفية بيننا، رغم معرفتنا جميعاً بأن المسالة الطائفية تغرقنا حتى رؤوسنا. هذه الازدواجية اللغوية التي تتجنب الخوض والمصارحة لمصلحة لغة لا تقول شيئاً حقيقياً وتخفي ما تريد قوله حقاً خلف التوريات، ولكنها تتمنى أن تتغير الأمور وتصبح أفضل، وأن صاحب السلطة سوف يقوم بما يتمنونه.
كيف يمكن لنا عندها أن نحدد مشاكلنا، أن نحدد مطالبنا، أن نبني الثقة فيما بيننا؟
اجتماع هذه الخصلة مع السياق العام الممثل بالحاجة الماسة قبل كل شيء للأمن والأمان والاستقرار وتحسين الأوضاع المعيشية يجعل من المشهد عامة شديد الخطورة. خطورة نعرفها، مشهد يطلب حاكماً قوياً يستطيع أن يفرض النظام ويؤمن الحماية. الخطر لا يأتي من ممن يمسكون حقاً زمام الأمور، وهم خطرون على كل حال، إنما ينشأ عن ظرف الناس المنهكة والتي لا ترغب بالتحدث صراحة عما ترغب وتحمل أعباء ومسؤولية صراحتها ومطالباتها.
يُضاف إلى هذا غياب أي تقليد للحريات والديمقراطية في سوريا بشكل كامل. دعنا من الحديث عن الخمسينيات وهي سردية لطيفة، لكن لنتذكر أن من عرف الخمسينات وعايشها يجب أن يكون على الأقل من مواليد الثلاثينيات، أي تقريباً في العقد التاسع من عمره. كم يمثل هؤلاء من سوريا اليوم؟ ومن يرغب أساساً في الاستماع لمن بقي منهم؟ نحن السوريين لم نعرف حقاً سوى البعث، وغالبيتنا الساحقة لم تعرف سوى حكم آل الأسد. لهذا ليس مستغرباً ما نراه اليوم، على الأقل كما يأتينا على الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي، عهد جديد للمنحبكجية. “المنحبكجي” لايُعرف بمن يحب، بل بكونه “منحبكجي”. أنه “منحبكجي” سواء للأسد، أو للشرع، ولغيره لاحقاً. فجأة نرى عدداً هائلاً ممن “كوّعوا”، فجأة لم يعد هناك من وقف إلى جانب الأسد، الجميع كان ضد، ولا أحد يعرف حقاً من خاض الحرب طوال هذه السنين.
بالتأكيد، كما أسلفت، لا أحد -عدا أهل النظام أنفسهم- كان حقاً مع النظام، ولكن الخوف من الآخرين كان أكبر. لكننا نشهد الآن حالة تامة من الزيف، فقد أصبح الجميع أعداء للنظام الساقط، يتبارزون في مهاجمته وشتمه. التكويع الحاصل مذهل حقاً. ومن كانوا مصدر الخوف، الإسلاميين، صاروا أبطال. البعض صار يكتب شعراً بالشرع ويغني له. “المنحبكجية” كتقليد، تقليد أنتجه نظام الأسد نفسه على مدار عقود من الاستبداد وعبادة الشخصية طبعت حياة السوريين تماماً، باقية رغم سقوط الأسد. لا يعرف السوريون شيئاً آخر، لا يعرفون تقليداً سياسياً آخر.
لأجمع هذه الانطباعات الشخصية للأيام القليلة، مع التأكيد على كونها انطباعات خاصة: بيئة منهكة من الحرب الطويلة والانهيار الاقتصادي والحاجة لإعادة الإعمار. لغة تقية، لا تقول شيئاً صريحاً وتخفي مخاوفها وتوجسّاتها ومطالبها تحت ستار من الاستعارات الخفية، ثقافة “منحبكجية” لا نعرف غيرها. مزيج خطر، لا يقل عن خطر الإيديولوجية الإسلامية بنسختها السلفية الجهادية المنتصرة في البلاد. بل للحق، أنها أكثر خطراً منها. الخطر اليوم هو هذه البيئة التي يعيشها السوريين، وتشكل وضعية مثالية لمطلب الاستبداد، الاستبداد الحامي، الاستبداد الذي يبني البلد ويمنع الاقتتال. ولن يكون موضوعاً للمزاح أن نراهم يعمدون الشرع بطلاً حامياً لجميع السوريين من بعضهم البعض مرة أخرى، على نموذج الأسد ولكن ملتح. أن ترى الناس يخبرونك، أنهم تعبوا وأن الهيئة والشرع يحمونهم وإن ذهبوا فالقادم أسوأ.
بالمقابل ما نحتاج إليه شيء مغاير تماماً، هو السعي لتأسيس نواة مجال عام يستطيع السوريون أن يصيغوا ويقدموا مطالبهم عبره، أن يتفاوضوا ويتناقشوا سوية وبشكل علني فيما يخص شؤون حياتهم. من جهة، يقدم المجال العام حماية تجاه الاستبداد، ومن جهة أخرى يحمل مطالب السوريين بكل فئاتهم وانقساماتهم إلى الدولة لإبداء رأيهم وأخذ موافقتهم فيما يتعلق بالسياسات التي تقرّها، وأخيراً إمكانية لبناء الثقة وإعادة تأسيس الوطنية السورية نفسها.
اليوم لدى السوريين، مع انهيار النظام والدولة، الفرصة الحقيقية والفريدة لتأسيس هذا المجال العام عبر الحديث العلني والمطالبة بأخذ آرائهم و هواجسهم بعين الاعتبار، وهو ما يتطلب التعبير العلني عنها والنقاش حولها، والاستعداد للدفاع عنها في الشارع عبر التظاهر والإضراب في مواجهة احتمال الإقصاء والتهميش، وليس السلاح وهذا أمر هام. العالم كله ينظر إلى سوريا وإلى الممسكين بالسلطة، وهؤلاء في أمس الحاجة إلى اعتراف دولي، هذه الحاجة هي فرصة للسوريين للمطالبة ولتأمين الحماية لهم أيضاً. سيفكر مئة مرة من يقرر قمع مظاهرة، أو إسكات طرف عنوة، قبل أن يقدم على هذا وهو مدرك كلفة هذا القمع عليه.
ما يهم هنا ليست المطالب في ذاتها، إنما المجال العام المنبثق عن عملية المطالبة التي يقوم بها السوريون واستعدادهم لمحاسبة ومراقبة المسؤولين عن أمورهم. بالتأكيد، لا يمكن تلبية جميع المطالب، التي قد تكون متعارضة فيما بينها. لكن عن هذه المطالب ستنشأ الحاجة إلى الحوار والوصول إلى تسويات، وضرورة النقاش العلني لها وإخضاعها للنقد من جميع الأطراف.
“ليتحدث الجميع” هو أكثر شعار يمكن أن يعبر عن هذه الحاجة. الجميع، تعني حقاً الجميع. السوريون ليسوا فقط طوائف أو اثنيات أو قبائل، السوريون أيضاً طبقات، وأنماط حياة متنوعة ومختلفة، هويات عديدة يمكن لهم اختيارها. السوري، مثلما هو مسلم أو مسيحي، هو ابن مدينة أو ريف، هو مؤمن أو ملحد، هو ليبرالي أو اشتراكي، هو عروبي أو وطني سوري، هو محافظ أو تقدمي، هو أشياء كثيرة ممكنة. والجميع تعني كل هذه الإمكانيات. الطائفة والاثنية إحداها، إنها هامة حقاً ولكنها ليست الوحيدة.
أن يتحدث الجميع لا يعني اختزال المسألة السورية حصرياً في مسألة ترتيب تعايش الطوائف، ومن التجارب التي نعرفها، انتهت تجارب تعايش الطوائف إلى ما لايحمد عقباه. وما يصدق على تعايش الطوائف يصدق على تعايش الاثنيات وغيرها، حديث الجميع يعني أننا لا نقف أمام هوية واحدة علينا تنظيم البلاد على أساسها، إنما أن نأخذ بعين الاعتبار من لا يرون أنفسهم من خلال عدسة هذه الهوية.
المجال العام يفسح للناس فحص إدعاءات الآخرين ونقدها، هذا التمرين يدفعهم إلى تعلم فحص إدعاءاتهم ومطالبهم نفسها أيضاً. كما يدينون، سيدانون!، مطالبهم، مثل مطالب غيرهم، أصبحت مطالب تقدم للعموم لمناقشتها، وللإدلاء بآرائهم بصددها. فمطالب أي جماعة لا تحدد فقط كيف تحيا هذه الجماعة وحسب، إنما كيف يتعامل الآخرون معها، أي بالمحصلة كيف يحيا الآخرون بدورهم وهذا ما يجعل منها موضوعاً لنقاش عام يتجاوز أصحابها المباشرين أنفسهم.
مثلاً، موضوع القوانين الإسلامية نفسه يصير موضوعاً عاماً لا يقتصر على المسلمين، إنما مفتوحاً لنقاش عام من قِبل الجميع الذين يمكنهم الإدلاء بآرائهم عنه. لن يقتصر أثر القوانين الإسلامية، وليس العقيدة، على المسلمين وحدهم، بل يطال الجميع، ولهذا هي أمر مفتوح للجميع لمناقشته، و لإعطاء رأيهم به. حصر المسألة في المسلمين، وهؤلاء في السنة، وهؤلاء في المؤمنين منهم، وهؤلاء في أصحاب الرأي الصائب ينتهي به الحال إلى استبداد ضمني يتعلق بجماعة محدودة تُقرر عن الجميع ودونهم، وأهم ما تقرره من ينتمي إلى هذه الجماعة أساساً، وهو ما يفتح الطريق إلى الإقصاء واحتكار أمر السلطة.
المجال العام حماية السوريين الأولى من خطر الانزلاق إلى الاستبداد الجديد، أو حتى إلى الحرب الأهلية، حيث يتحدث الجميع، يعرضون أمورهم و يناقشونها، ويسعون إلى الوصول إلى تسويات واتفاقات بصددها. هذا بدوره يقدم فائدة أخرى، لا أمور مَخفية، وأيضاً من جانب الجميع!
لن يكون من مصلحة أياً كان أن يتحدث لغتين عامة وخاصة، أن يخفي مخاوفه ومطالبه وراء لغة تقية لا تقول شيئاً، لأنه عندها لن يضطر أحد لتلبيتها. هو لم يقل ما يريد، وبالتالي لا يمكن لنا أن نقدم له ما لم يطلبه ويسأل عنه. هذا يطال بالتأكيد لغة الوطنية السورية التي أنهكها استنزاف نظام الأسد لعقود طويلة، فلطالما قدم النظام نفسه من داخل لغة وطنية تترفع على الانقسامات الأهلية مُحيلة إلى دولة تنظر إلى المواطنين جميعاً بعين المساواة، مساواة تقوم على اغتيال فكرة المواطنة عبر نزع السياسة عنها. وهي اللغة نفسها التي اعتمدها السوريون للتعبير بوصفها اللغة الوحيدة المسموح بها، فصار يستخدمونها للتعبير عن كل شيء، بما فيها هواجسهم ومخاوفهم الطائفية، مما جعل منها لغة عديمة الدلالة، لغة تقية، وظاهر يمكن تأويله لقول أي شيء. من المؤسف حقاً، أن يكون هذا حال لغة “الوطنية السورية” التي يفترض حقاً أن تكون لغة موحدة وقاعدة لتلاقي السوريين جميعاً.
وبشكل أهم، لا يسمح المجال العام للسلطة أن تخفي بدورها شيئاً، لا أجندة سرية، لا ترتيبات غير علنية، لا تعيينات سرية وغيرها. السرّ سلطة، وعندما تنتفي الأسرار تنتهك قوة السلطة نفسها. اعتاد السوريون على التأكيد دوماً على السرّ المخفي للسلطة، الأشياء التي لا نعرفها، وهناك مركز السلطة الحقيقي. وهذا أمر عاينه السوريون بأشكال عديدة. لطالما عرفنا أن مكان السلطة الفعلي لا تصرح به التراتبية الرسمية، السلطة لها تراتبية خاصة، وذلك حتى في أشد المؤسسات هرمية وانضباطاً: الجيش. يمكن أن يكون أحدهم برتبة رائد ولكنه أشد نفوذاً وقوة من لواء. أن يكون وزيراً، لكنه يركض مهرولاً أمام مدير عام. حسابات الوزارات والعقود الكبرى، من شركة “سيريتل” للاتصالات إلى عقود النفط، لم تكن معروفة وعلنية، ومن طلب مناقشتها دفع ثمناً لهذا. لا مكان لمثل هذه الأسرار في المجال العام، وهذا في ذاته إضعاف حقيقي للسلطة لقوتها المخيفة والمغرية. وبقاء هذه الأسرار يعني بدوره انحسار وموت المجال العام.
أيضاً، اعتاد السوريون على موضوع الإدعاءات المزيفة، أن يقدم أحدهم وجهاً غير وجهه الحقيقي، حتى يتمكن ويظفر، وعندها يُظهر وجهه الحقيقي. أليس جزءاً من التخوف والتوجس السائد هو توقع مماثل تجاه الإسلاميين، الذين لا يقدمون وجههم الحقيقي، إنما وجهاً مزيفاً لإرضاء العالم وكي يتمكنوا من الظفر بالسلطة وترسيخ أقدامهم حتى يظهروا وجههم الحقيقي؟
ربما يكون هذا هو الواقع حقاً، وتجاربنا تدفع باتجاه هذا التوقع. لكن المجال العام هو حمايتنا أمام هذا الاحتمال. عندما يقدم أحدهم إدعاءً، فإننا نطالب بتثبيته، بتقديم ما يصادق على إدعائه، على ضمانات كافية للثقة والتصديق على ما يطلب. قد يكون كاذباً، لكن مع الوقت وأمام هذه المطالب فإنه سيصير ملزماً بالتزام ما إدعاه. ما بدا وجهاً مزيفاً سيتحول إلى وجه حقيقي، الوجه الوحيد الممكن ارتداؤه، القناع يلتصق بالوجه حتى يصيرا واحداً. والوجه الحقيقي المخفي، ربما يبقى وجهاً ذاتياً في الجماعة الصغيرة، لكنهم يعرفون أن لا مكان له في العام.
بالتأكيد هذا يتطلب مأسسة للمجال العام، ترسيخه وتعزيزه، وفرض قوته، وهذا بمجمله مسار طويل وعسير ويحتاج زمناً طويلاً. لكنها الآن الفرصة السانحة لتأسيسه والانطلاق باتجاهه.
قدمت مصر بعد الثورة، فترة المجلس العسكري ولاحقاً الرئيس مرسي، نموذجاً ملهماً ومفيداً للنظر فيما يتعلق بالمجال العام وصعوباته، وختاماً انهياره تحت وطأة تناقضاته الخاصة. فالمجال العام فُتح عنوة بفضل الثورة، واندفعت الجماهير لملئه. عرفت مصر مظاهرات عديدة من جميع الأطراف، الأقباط والإسلاميون، الأحزاب الوطنية، العمال والفلاحين، رجال الصناعة، وغيرهم. لقد فتحت الساحة العامة وسعى الجميع إلى دخولها.
خلال فترة المجلس العسكري والرئيس مرسي عرفت مصر عهداً من الحريات الواسعة لم تعهده سابقاً، فظهرت وسائل إعلام عديدة من جرائد ومجلات إلى محطات تلفزيونية، والقديمة منها تحولت بشكل كبير متأثرة بالحريات التي انتزعها المصريون خلال الثورة. ظهرت أيضاً المنتديات ونشأت أحزاب سياسية جديدة، والقديمة منها انتعشت. تناولت هذه الوسائط المواضيع السياسية والاقتصادية والاجتماعية، كما أنها تناولت أيضاً أصحاب السلطة، المجلس العسكري ولاحقاً الإخوان والرئاسة. ساعدت هذه الوسائط في إيصال أصوات الجميع ممن خرج ليتظاهر أو يحتج ويقدم مطالبه، حيث صار الاحتجاج وسيلة أساسية وثابتة بفضل الثورة.
بالتأكيد، عملت وسائل الإعلام في اتجاهات متعاكسة ومتناقضة، فمثلاً الاحتجاجات العمالية لم تنل دعماً، بل سعى الجميع من المجلس العسكري حتى الإخوان ومن ورائهم عموم وسائل الإعلام إلى ضبطها ورفضها تحت مسمى المطالب الفئوية، وباعتباره أنها فئوية فإن الوقت ليس وقتها وهي تضر بالإصلاح الاقتصادي والأمن عامة وهما مطلبان أساسيان في هذا الوقت. رغم هذا، فإن صوت هذه الاحتجاجات والمطالب وصل. الحال كان شبيهاً مع مظاهرات الأقباط، خاصة ماسبيرو. لكن، عموماً وبفضل مجال الحريات الجديد فإن المظاهرات كانت وسيلة فعالة وناجحة في إيصال أصوات المحتجين ومطالبهم والضغط على أصحاب السلطة، بما فيها السلطة الكنسية في حالة الأقباط، من أجل الاستماع إلى المحتجين والسعي للوصول إلى تفاهمات واتفاقات معهم وتلبية جانب من مطالبهم.
شكل النقاش المفتوح والواسع، الذي انخرط فيه عموم المصريين بكل تنوعهم واختلافهم، حائط صد أمام محاولات المجلس العسكري للاستئثار بالأمور، حتى لحظة الانتخابات الرئاسية ومواجهة أحمد شفيق مع محمد مرسي. لم يقدم المجال العام الحماية فقط في مواجهة المجلس العسكري، إنما في مواجهة محاولات الإخوان أنفسهم للتحالف مع المجلس العسكري. ولاحقاً، كان للمجال العام دوراً حاسماً في مواجهة استئثار الإخوان أنفسهم بالسلطة وأسهم في رسم حدود فعالة لممارسة السلطة، كما حصل في مواجهة الإعلان الرئاسي الذي أصدره مرسي. لقد لعبت البرامج التلفزيونية، والفكاهية منها، في تحطيم أية إمكانية لرسم هالة حول السلطة، وجعلتها موضوعاً للتندر والمزاح والمناقشة والاعتراض، مما أضعف إمكاناتها في الضبط والإخضاع.
غير أن المجال العام المصري عرف تناقضاته العديدة، فالجماهير التي لم تعتد على المجال العام ونقاشاته، أتت إليه بكل مخاوفها، بكل أساطيرها وخرافاتها، بكل تطرفها، وبكل الكراهيات الأهلية. لقد صار بإمكان الجميع الحديث، فصاروا جميعاً يتحدثون بكل شيء دون مراعاة لأية اعتبارات تتعلق باللياقة والاحترام، والأهم عدم خضوعها لمعايير عمومية، بمعنى أن البعض صار يطالب بأشياء لا يريد هو نفسه أن يُطالب بها. فصار الهجوم على الأقباط وتخوينهم وإزدارئهم والاعتراض على كنائسهم أمراً شائعاً على سبيل المثال. كما ظهرت نقاشات حول حفظ النظام العام ومنع طيف من الآراء كونها تضرّ النظام العام والقيم والتقاليد الاجتماعية المعرفة ضمناً بالموقف الإسلامي المحافظ.
وزاد الطين بلة مزايدات اُبتلي بها المجال العام وخاصة من جهة الإسلاميين، فالسلفيون صاروا يزايدون على الإخوان في كل الأمور، فحينما يسعى الإخوان إلى تحقيق تسويات مع الآخرين، يزاود عليهم السلفيون باسم الإسلام والدين، هكذا أثار حزب النور نقاشاً مراً حول المادة الثانية من الدستور والشريعة الإسلامية وهوية الدولة، وهو موضوع لم يختلف فيه أحد أساساً. وقامت القنوات السلفية بتأزيم الأوضاع مع الآخرين عبر إثارة مواضيع غريبة، فظهر مشايخ يناقشون ثياب الممثلات ويخضعونهن لحملات تفتيش، وآخرين يهاجمون الأقباط ومحاولة قوننة بناء الكنائس.
عانى المجال العام المصري الحديث الولادة من التعثر في التفاهم وإثقاله بآراء لا يمكن التوسط بينها، وعوضاً عن حوار للوصول إلى حلول واتفاقات، صار المجال العام مسرحاً للتعبير عن الرفض والخوف والإنكار. فصارت المزايدات السياسية فرصة للأكثر تطرفاً لتقديم أنفسهم بوصفهم الممثل الحقيقي للجمهور والحقيقة والضغط على أية طرف سياسي سعى للوصول إلى تسوية عامة يمكن قبولها من أطراف مختلفة ومتنوعة.
لم يعرف المصريون سابقاً مجالاً عاماً مفتوحاً، لكنهم عرفوا هامشاً واسعاً من الحريات لم يعرفه السوريون، ولهذا دخلوا إلى المجال العام الوليد بنقص الخبرة والمعرفة، لينقلوا إليه أمراضهم. بالمقابل، فشلت النخب السياسية المصرية في الوصول إلى تسويات حقيقية، فاستنزفت في مواجهة المزاودة الحاصلة من قبل أطراف أخرى عليها، فصار على الإخوان ليس فقط الوصول إلى تسوية مع غير الإسلاميين، بل مقارعة حزب النور والتيارات السلفية على تمثيلية التيار الإسلامي.
أُثقل المجال العام بهذه التناقضات وغياب الثقة، وضعفت القدرة على تحصينه من الانهيار تحت وطأة هذه التناقضات. بل عاش المجال العام تهديد الانهيار تحت استبداد الأغلبية الديمقراطي، وهو ما كان مصدر فزع حقيقي. فكلما اُختلف في موضوع، اٌقترح أن يتم التصويت عليه. لم تكن هناك مبادئ أساسية تحفظ حداً من الحريات والحقوق التي لا يمكن المساس بها. وبهذا صارت الديمقراطية وحكم الأغلبية شعاراً يسمح بانتهاك ومهاجمة الحقوق الأساسية وحتى المجال العام نفسه. صارت الخشية من الديمقراطية أن تتحول إلى استبداد أغلبية، كانت بدورها جاهزة لممارسة هذا الاستبداد، كما عبر عنه الشيخ السلفي محمد حسين يعقوب عند حديثه عن غزوة الصناديق.
ازداد الخوف من الإخوان والإسلاميين عامة وخاصة مع فشلهم الكارثي في الإدارة، وتخبطهم في تحديد استراتيجية تسوية حقيقية تسمح بتأسيس جديد للجمهورية، فانتهز الجيش الفرصة وانحاز إليه قسم كبير من المعارضة السياسية التي سبق وخرجت إلى ميادين الثورة وقسم كبير من المجتمع الذي فضل الجيش ووعده بالأمن والاستقرار والحريات الشخصية على الإسلاميين، وكانت الخاتمة الانقلاب العسكري ووأد التجربة الديمقراطية والعودة إلى السلطوية العسكرية مرة أخرى.
ليست التجربة المصرية أمراً فريداً، ويمكن النظر إلى التجربتين الألمانية والنمساوية في فترة بين الحربين العالميتين من زاوية مشابهة. فقد عرف البلدان مجالاً عاماً وليداً بعد الحرب العالمية الأولى وحظيا بحكم جمهوري بقوانين ديمقراطية متقدمة، لكن بانقسامات اجتماعية وسياسية حادة دون قدرة النخب السياسية على الوصول إلى تسويات سياسية مقبولة من الجميع. وعلى العكس غلبت الخشية وعدم الثقة بين الأطراف التي صارت تنظر إلى الديمقراطية كوسيلة للظفر بالسلطة. وعند عجزها فإنها تمترست بالخنادق، خاصة مع وجود تيارات أكثر راديكالية على كل طرف، الشيوعيين على يسار الحزب الاشتراكي الديمقراطي والنازيين والضباط على يمين الأحزاب المحافظة.
عدم القدرة على الحكم كان وضع الجمهوريتين اللتين عاشتا ما يشبه حرباً أهلية منخفضة الحدة بعد قمع انتفاضة سبارتاكوس ومحاولة انقلاب الضباط في ألمانيا. في النهاية انهارت الجمهوريتان تحت وطأة هذه التناقضات التي عاشتاها، وانتصر النازيون. وهو ما تم تفاديه بعد الحرب العالمية الثانية، عبر تسويات بين الأطراف السياسية وتشكيل حكومات وحدة وطنية، كما في النمسا، تمثل فيها الاشتراكيون مع المحافظين الكاثوليك كتسوية تاريخية تسعى لتجسير الهوة بين الانقسامات الاجتماعية الحادة.
يظهر المجال العام كاندفاع شعبي من أجل التعبير والحريات، وستجد كل الآراء طريقها إلى العموم مهما كان تطرفها وغلوها. الشكوك الكبيرة والمخاوف من الآخرين، والرغبة في فرض تصورات معينة وتحقيق سيادتها. هذا ما يفعله الناس وهو أمر مهم وضروري، ولكنه أيضاً يحمل مخاطره الذاتية من أن يتحول المجال العام من ساحة للنقاش العمومي إلى مكان للإقصاء والقمع وانهيار الثقة وذلك باسم الديمقراطية نفسها، خاصة في غياب تقاليد النقاش العام.
هنا، تبرز أهمية النخب السياسية وقدرتها على الوصول إلى تسويات. بقدر ما يلعب الناس واندفاعهم للتعبير دوراً في خلق المجال العام، فإن النخب السياسية هي التي تصون المجال العام وتمنع انهياره تحت وطأة تناقضاته الخاصة، خاصة أنه لم يزل غضاً وهشاً، وما يحمله الناس إليه -في هذه اللحظات- هو خيبة وانكسارات ومخاوف وعقلية عقود من الاستبداد والقهر.
يتمثل التحدي السوري اليوم في الحاجة إلى خلق مجال عام لمواجهة أي استبداد جديد، ولكن الأهم في مواجهة عقلية وتقليد سياسي يعزز الاستبداد والحاجة إليه باسم الأمن والاستقرار وعبادة الشخصية والحاجة إلى البطل الحامي. كما يتمثل الجزء الثاني من هذا التحدي في قدرتهم على الوصول إلى تسويات تأسيسية لضمان استقرار هذا المجال العام وعدم انهياره تحت وطأة تناقضاته الخاصة.
تبدو المهمة شديدة الصعوبة، وخاصة مع بدء القوى السورية بوضع تابوهات أمام المنخرطين في النقاش العام والحوار الوطني، مثل إقصاء الأكراد وفرض تصور موحد ومركزي لسوريا، أو اختزال التنوع السوري في بعده الطائفي وبالتالي تحويل المسالة الطائفية إلى كامل المسألة السورية، وهي المختزلة بدورها في “أمن الطوائف” لا أكثر.
إن مسائل الدستور أو انتخابات جمعية تأسيسية، على أهميتها، تبدو أمور لا يمكن للسوريين حقاً القيام بها بغياب مجال عام يسمح للسوريين بالنقاش والتعبير عن أنفسهم، مجال عام يشكل إطار عام تأسيسي لكل حوار وتسوية واتفاق، بما فيها الدستور أو نظام الانتخابات للجمعية التأسيسية. الاستعجال في التأسيس للجمهورية بغياب المجال العام لن ينتج جمهورية للسوريين، بقدر ما سينتج جمهورية قوى الأمر الواقع في هذه اللحظة، وهي أساساً قوى اقليمية ودولية من ناحية وقوى الأمر الواقع على الأرض في لحظة غياب الثقل والتنظيم عن الآخرين.
على الجميع أن يتحدث، أن تتحدث الطوائف عن نفسها كطوائف (وليس كأخوة مع اعتادوا فعله على عهد البعث، الخوري مع الشيخ)، لكن أيضاً، أن يتحدث سوريون آخرون عن أنفسهم كما يرغبون خارج الطوائف وحصريتها، خارج القوميات وحصريتها. وبشكل أساسي، أن يتحدث السوريون عن أنفسهم كأفراد ومواطنين. لا شيء يجب أن يلغي شيئاً آخر، لسنا مواطنين وحسب، بل نحن قوميات وطوائف وطبقات، ولكننا لسنا أيضا طوائف ومواطنين وطبقات وحسب، بل أفراداً ومواطنين.
كيف نكون كل هذا، دون أن نكف عن الحديث سوية؟ هو تحدي على السوريين خوضه ولا ضمانة لهم بالنجاح سوى المحاولة نفسها. ومعها نتعلم أن نتحدث عن كل شيء، ولكن هذا بدوره يعني أننا لن نحصل على كل شيء، بل على ما يمكن لنا جميعاً قبوله وبشكل مشترك.
خطــ٣٠
——————————–
سورية من التحرير إلى تأسيس الحرّية/ طارق عزيزة
12 فبراير 2025
تنتمي كلمتا تحرير وحرّية إلى الجذر اللغوي نفسه، ورغم ما بينهما من ترابط ظاهر، إلا أنّهما تشيران إلى معنيين مختلفين، في حياة الدول والمجتمعات والأفراد. يعني التحرير، في ما يعنيه، تخليص الإنسان (والبلاد) من سطوة احتلال أو استبداد، وإزالة ما ترتّب عليهما من قيود واستلاب. وتعني الحرّية، من حيث المبدأ، القدرة على اتخاذ قرارات والتعبير عن مواقف، أو الامتناع عن ذلك، بلا إكراه أو قيد خارجي، ومن دون خشية على الأمان الجسدي والنفسي للشخص المعني، في السياسة والفكر والفن والحياة الشخصية، وغيرها من حقول النشاط البشري. أكّدت الفيلسوفة الألمانية حنة أرندت على هذا التمييز المفهومي في كتابها “في الثورة”، بقولها “إنّ التحرّر شرط الحرّية، ولكنه لا يقود إليها آلياً”، وميّزت بين التمرّد والثورة من حيث المآل، فكتبت: “نهاية التمرد هي التحرير، في حين أن نهاية الثورة هي تأسيس الحرّية”.
على هذا الأساس، وبعد إنجاز عملية تحرير سورية من طغيان نظام الأسد الفارّ، يُفترض الشروع في التأسيس لحرية المجتمع السوري، وتعزيزها، وصونها، لا الاكتفاء ببناء السلطة الجديدة وتقويتها. السلطة ركن أساسي لقيام الدولة، تعبّر عن سيادتها على أراضيها، وترعى مصالح المواطنات والمواطنين جميعاً بلا تمييز، وفق القانون، ويستدعي إنفاذ القانون وحماية الأفراد استخدام “القوة” أحياناً، وهو ما يُعبّر عنه بـ”احتكار العنف” وتقنينه من قبل سلطة الدولة. لكن اختلال التوازن بين قوّة السلطة وقوّة المجتمع باب من أبواب الاستبداد، وقوّة المجتمع تكمن في حرّيته، التي تجسّدها حرّية أفراده، وهذه لا تتحقق إذا قامت السلطة على الغلَبة لا التوافق، وسطوة القوة لا حكم القانون، وإخضاع المجتمع لا حمايته، وبذلك تنمسخ السلطة ومعها الدولة إلى محض قوّة غاشمة، فينشأ الاستبداد، وهو مرض قاتل من أمراض السلطة، وليس من خصائصها الطبيعية. وعندما يحلّ منطق الإكراه والقوة تتغول “ثقافة الاستبداد”، فتفرغ الدولة من مضمونها العمومي التشاركي الشامل، وتضمحلّ فاعلية المجتمع، وتتبعثر طاقاته، ويفقد قدرته على المبادرة، ويغدو أسير المستبدّ وأهوائه.
تشكّل قوى المجتمع المدني الحرّة والفاعلة ضمانةً حاسمة للحفاظ على التوازن الضروري بين السلطة والمجتمع. ليس المقصود هنا المنظمات الممولة غير الحكومية فقط، على أهمية دورها، وإنما المجتمع المدني بمفهومه الواسع، المتمثّل في جماعات مستقلة ينشط أفرادها طوعاً من أجل تحقيق مصالحهم المهنية والثقافية والمطلبية وسواها، وهو ما يستوجب إمكانية المناقشة الحرّة والعلنية لمختلف قضايا السياسة العامة، لأنها شأن يمسّ المجتمع بكلّيته، ولا تختصّ به نخبة السلطة فحسب، على نحو ما تضمر عبارة “من يحرّر يقرّر”. ولمّا كانت مسألة القضاء على المجتمع المدني، والتحكم بما تبقى من مظاهره واحدةً من أدوات التسلّط والاستبداد الأسدي، يجدر بالسلطة الجديدة الابتعاد عن هذا النهج، إلا إن كانت ترى في التحرير وإسقاط نظام الأسد مسألة استبدال سلطة بأخرى لا أكثر، وليس هذا ما بُذلت من أجله تضحيات الشعب السوري المهولة.
لا يكون الخلاص من نظام الأسد وآثاره بمحاكاة سياساته الإقصائية وتبنّي أساليبه القمعية، ولا يقتصر تحرير الناس من قبضة نظام مجرم على تحطيم قيودهم، بل يستدعي تمكينهم من عيش حياة طبيعية، تكون فيها كراماتهم وحرياتهم مضمونة ومصونة. وأياً تكن نوايا حكّام دمشق الجدد، ثمة مسؤولية على عاتق السوريين أنفسهم في التأسيس للحرية والدفاع عنها، من خلال المبادرة والمثابرة على ممارستها. قد يتذرّع أهل السلطة أو موالوها بعدم وجود قوانين ناظمة لعمل الأحزاب والمنظمات المدنية وتنظيم التظاهر، وغيرها من أشكال الحراك المجتمعي، لتبرير منعها أو التضييق عليها. الرد المنطقي على ذريعة كهذه أنّ غياب القوانين الإجرائية التي تنظم الحريات العامة والحقوق المدنية والسياسية لا يعني إسقاط هذه الحقوق نفسها، فهي تتأسس على مواثيق دولية لحقوق الإنسان صادقت عليها الدولة السورية، فضلاً عن أنّ الأصل في الأفعال الإباحة، ويأتي القانون ليرسم الضوابط ويحدّد المحظورات.
وإذا كانت السلطة الجديدة معنية فعلاً بتجاوز الاحتقان الطائفي الذي كرّسته سياسات النظام البائد وممارساته، ستجد في المجتمع المدني الحرّ خير سبيل لمعالجة هذه المعضلة، فالنشاط المدني عابر للهويات الدينية والمذهبية، ويرتبط بقدرة الأفراد على المبادرة، وتبنّي مواقف تنبع من ذواتهم الحرّة المستقلّة، فلا يمنعهم اختلاف انتماءاتهم من العمل معاً، انطلاقاً من حقيقة ظروفهم وأوضاعهم الاقتصادية والاجتماعية المتشابهة، من أجل تحقيق مصالح مشتركة.
تبدو المرحلة الانتقالية حبلى باحتمالات شتى لما سيكون عليه مستقبل سورية، وسيكون السيناريو الأشدّ خطراً نزوع السلطة الجديدة إلى التفرّد بالحكم، واعتماد الولاء والطاعة العمياء معياراً لازماً في تشكيل الأطر اللازمة لدولة ما بعد الأسد. لقد أُنجزت المهمّة الثورية الأولى بإسقاط الديكتاتور وتحرير سورية من طغيانه وظلمه، وحان وقت العمل على تأسيس الحرية وتحقيق العدالة بعد طول صبر وانتظار.
العربي الجديد
————————-
عن نخبويّة الحوار الوطني السوري وتوصياته/ سميرة المسالمة
17 فبراير 2025
يمكن، من تصريحات لأعضاء في اللجنة التحضيرية لمؤتمر الحوار الوطني، استخلاص أن الشعب السوري لا يمتلك رفاهية فرض مخرجات هذا الحوار مباشرةً، فهي توصياتٌ غير مُلزمة، لكنها في حقيقة الأمر تعبّر عن مضمون مستقبل العلاقة بين الشعب والحكومة، وهي قد تصبح معيار التلاقي بينهما، ما يجعل لهذه المخرجات دوراً محورياً في تعزيز مكانة السلطة وقدرتها على حل الخلافات الداخلية ضمن البيت السوري، بتفعيل المجتمع المدني ليكون عنصراً فاعلاً في تحقيق التوافق الوطني وتعزيز الاستقرار.
وفي هذا السياق، يغدو العمل على ما بعد المؤتمر له أهمية العمل على ما قبله، إن لم نقل الأهم، وذلك لتشكيل رأي عام واسع يدعم مخرجات الحوار، وهذا أحد العوامل الأساسية في تحقيق هذا التأثير، من خلال جعل المطالب المنبثقة من الحوار جزءاً من الخطاب العام، وليس مجرّد توصيات نخبوية، أو “تنفيسية”. ولكي يصبح من الممكن تحويل هذه المخرجات إلى قضايا جوهرية، لكونها تمسّ حياة الناس اليومية، وتحويلها إلى برنامج عمل حكومي، مثل تحسين الظروف الأمنية والمعيشية، معالجة الأزمة الاقتصادية، وضمان الحرّيات، ومنها أن يكون الإعلام سلطة رقابية مستقلة، وهو ما يعزّز الوعي العام لأهمية المشاركة الشعبية، ويدفع باتجاه إيجاد حلول مشتركة مع الدولة لاحتياجات المجتمع السوري.
علاوة على ذلك، يمكن أن يشكل الحوار الوطني فرصة لتعزيز التناغم داخل مؤسّسات الدولة المختلفة، كذلك فإنه قد يرسم الطريق نحو تحريرها من مركزية القرار، ويوضح أهمية الشراكة بين المجتمع المدني والحكومة التنفيذية في تسيير الشؤون المحلية، ما يتيح للمجتمعات المحلية أن تتقاسم مسؤولية إعادة بناء سورية مع مؤسّسات الدولة، ويرفع من مستوى التنافسية بين المواطنين، إذ إن التوافق على قضايا معينة، مثل ضرورة الإصلاح الإداري أو مكافحة الفساد، قد يسهم في توحيد الجهود الوطنية لتحقيق الأهداف المشتركة، حيث تسهم هذه التفاهمات الداخلية في تعزيز فاعلية الإدارة العامة، وتحسين مستوى الخدمات المقدمة إلى المواطنين.
وعلى المستوى الدولي، لا يمكن إغفال الدور الذي قد يلعبه المجتمع الدولي في دعم جهود سورية للخروج من عزلتها، وتحقيق التكامل مع المجتمع الدولي، بعودة سورية إلى ممارسة دورها الطبيعي والمأمول منها في صناعة السلام المحلي، الذي ينعكس على السلامين، الإقليمي والدولي. وقد رأينا أهمية سقوط النظام القمعي الأسدي في سورية ومنعكساته الإيجابية على لبنان والأردن ودول المنطقة، ففي ظل التنافس بين القوى الإقليمية والدولية على النفوذ في سورية قد تجد بعض الأطراف في هذه المخرجات أساساً لمفاوضات أو تفاهمات جديدة، خصوصاً إذا قُدِّمَت بديلاً أكثر استقراراً واستدامة من الواقع الذي يهدّد بنشوب صراعات قومية في الشمال الشرقي، أو محلية في الجنوب والساحل. وبناءً على ذلك، قد يكون التنسيق مع الجهات الدولية والإقليمية الفاعلة إحدى الأدوات المهمة التي تساعد على تهيئة الظروف المناسبة لرفع العقوبات الغربية، وتعزيز فرص التعافي الاقتصادي المبكر.
إلى جانب ذلك، يلعب المجتمع المدني دوراً محورياً في تبنّي مخرجات الحوار والدفع نحو تنفيذها من خلال مبادرات اجتماعية وتنموية تعزز التعاون بين مختلف الأطراف، فالتركيز على المبادرات المحلية، والحملات الإعلامية التي يمكن للتلفزيون السوري (سيعاود بثه قريباً) والإعلام المحلي أن يسلط الضوء عليها، ما يعزّز مفهوم الحوار أداة لحل المشكلات وتعزيز الاستقرار الوطني، وهذا منوط بمساحة حرية تتيح للجميع التعبير عن رأيهم بصراحة، ومن دون أية عواقب محتملة على ذلك، كذلك إن استخدام المنصّات الرقمية لنشر الوعي بشأن هذه المخرجات يمكن أن يسهم في توسيع دائرة الدعم الشعبي لها وتحقيق توافق أوسع حولها.
أدركت حكومة تسيير الأعمال التي تنتهي أعمالها قريباً حجم التحدّيات التي تنتظر الحكومة المقبلة بعدها، ولهذا قد لا يعوّل كثيراً على تفنيد إنجازات الحكومة، بما يتعلق بتحسين مستوى المعيشة خلال أقل من ثلاثة أشهر، نظراً إلى حجم الملفات المعقدة التي تعاملت معها إثر سقوط نظام الأسدين، إلا أنه يمكن الاستماع منها إلى حجم التحدّيات الكبيرة في التعامل مع المطالب الشعبية المحقّة، ما يستوجب تهيئة بيئة تفاعلية تعتمد على الحوار والتفاهم المشترك، لتحقيق خطوات ملموسة نحو تحسين الوضع العام، وفق الممكن والمتاح، فالأنظمة التي تواجه ضغوطاً كبرى تجد نفسها أمام ضرورة التكيف مع التغيرات الحاصلة، وهو ما يجعل الحوار الوطني فرصةً لتعزيز الاستجابة المتبادلة بين المواطنين والحكومة، وتعزيز الثقة بين الدولة والمجتمع.
… يتعلق السؤال الأهم بكيفية توحيد الجهود المختلفة لجعل مخرجات الحوار الوطني أداة فاعلة تساهم في تعزيز الاستقرار الوطني، وليس مجرّد وثيقة تضاف إلى أرشيف المبادرات غير المنفذة؟ وللحقيقة، يحتاج تحقيق ذلك وعياً سياسياً حادّاً، وتنسيقاً بين القوى الفاعلة، واستخداماً ذكياً للأدوات المتاحة، داخليّاً وخارجيّاً، لضمان أن يكون لهذا الحوار، وما يليه من متابعات وحوارات مستمرّة، فلا يغلق باب الانفتاح على المواطنين مع إعلان المخرجات، ولا تكمّم أفواه النقد والنقاد، لما لذلك من تأثير إيجابي ومستدام في رسم ملامح الحاضر والمستقبل السوريين، وعلى أمل عقد مؤتمر وطني والشعب السوري بخير.
العربي الجديد
————————
هذا الدور الفرنسي في سورية الجديدة/ عمر كوش
17 فبراير 2025
سارعت فرنسا إلى إرسال وزير خارجيتها، جان نويل بارو، إلى دمشق، في إشارة أولى إلى قبولها التغير في سورية، وبما يتسق مع وقوفها ضد ممارسات نظام الأسد البائد، ودعمها تطلعات الشعب السوري. ثم بادر الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون إلى تأكيد رغبة بلاده في أن تلعب دوراً بارزاً في التحوّل السوري، حيث بادر إلى الاتصال بالرئيس السوري أحمد الشرع، وهنأه بتوليه قيادة المرحلة الانتقالية، ووجه له دعوة إلى زيارة فرنسا، الأمر الذي أكّد مضيّ فرنسا في دعمها الكامل المرحلة الانتقالية في سورية، وبذلها جهوداً لرفع الاتحاد الأوروبي العقوبات الاقتصادية عنها، وبما يفتح الطريق أمام التعافي وإعادة ما دمره نظام الأسد.
تكلل الدور الفرنسي الجديد برعاية ماكرون مؤتمر باريس حول سورية، الذي تمكن من حشد دعم كبير، تجسد في حضور وزراء خارجية وممثلين عن 20 دولة، إلى جانب ممثلين عن الاتحاد الأوروبي، والمبعوث الأممي إلى سورية غير بيدرسون، والأمين العام لجامعة الدول العربية أحمد أبو الغيط، والأمين العام لمجلس التعاون الخليجي جاسم البديوي. وقد نجح المؤتمر في الحصول على تعهد دولي بدعم الانتقال السياسي في سورية، وتأكيد الوفود المشاركة “اعترافها بالحكومة الانتقالية السورية ودعمها في التزامها حماية حقوق الإنسان والحريات الأساسية لجميع السوريين”. إضافة إلى تعهد المشاركين في المؤتمر بدعم آليات الحوار الشامل بين السوريين التي أعلنت إطلاقها الإدارة السورية، وصولاً إلى إعلان دستوري يحدد شكل الدولة ونظامها السياسي، ويمهد لإجراء انتخابات حرّة ونزيهة في سورية. والأهم تأكيدهم دعم الاحتياجات العاجلة لعملية الانتقال السلمي الذي يحترم سيادة سورية وأمنها، ومعالجة قضايا العدالة وتعزيز مكافحة الإفلات من العقاب.
يبدو أن فرنسا تسعى من خلال حراكها السياسي النشيط حيال سورية لرغبتها في لعب دور فاعل في إعادة تشكيل ملامح التغيير الحاصل فيها بعد الخلاص من نير نظام الأسد الاستبدادي، وبما يعكس محاولتها انتزاع هذا الدور في ظل محاولة لاعبين دوليين وإقليميين تثبيت حضورهم في المشهد السوري الجديد، حيث جذب التغير الجديد في سورية لاعبين كثراً تقاطرت وفودهم إلى دمشق منذ إسقاط نظام الأسد في ديسمبر/ كانون الأول الماضي. ولعل محدّدات الدور الفرنسي الجديد في سورية، تكمن خلفها دوافع عديدة، منها ما يتعلق بسعي الساسة الفرنسيين لإعادة تقوية حضورهم في السياسة العالمية، خصوصاً بعد خفوت في دورها وحراكها في دول منطقة الشرق الأوسط وأفريقيا، إضافة إلى مسألة مكافحة الإرهاب وما يتصل بها بمصير معتقلي داعش الفرنسيين وعوائلهم في سجون تشرف على حراستها قوات سوريا الديمقراطية في مناطق شرق الفرات، وملف اللاجئين السوريين في فرنسا وأوروبا عموماً، وصولاً إلى مسألة إعادة الإعمار وارتباطها بنجاح عملية الانتقال السياسي في سورية، وعلاقة ذلك كله بالعلاقات الفرنسية في المنطقة وتأثيرها في المشهد السوري الجديد.
الواقع أن الخطوات التي اتخذتها الإدارة الجديدة في سورية هي التي شجعت قوى دولية وإقليمية على إرسال وفودها التي تقاطرت بغزارة إلى دمشق، وأفضت إلى إخراج البلاد من عزلتها الدولية والعربية، والحصول على دعم قوي لعملية الانتقال السياسي التي ينتظرها السوريون قبل غيرهم، وقد حددها الرئيس أحمد الشرع في عدة خطوات، تجسدت أولاها بإعلان تشكيل لجنة تحضيرية لمؤتمر الحوار الوطني، حظيت بقبول واسع من السوريين، وضمت سيدتين من المجتمع المدني، في إشارة إلى مراعاة ما تطالب به الوفود الغربية حول مشاركة المرأة. إضافة إلى أن بداية الشهر المقبل (مارس/ آذار) ستشهد إعلان حكومة انتقالية، تراعي التنوع المجتمعي، والأمل معقود على أن تكون حكومة تمثيلية، وبما يزيد من طمأنة السوريين والقوى الدولية.
غير أن تركيز الرئيس الفرنسي على ضرورة انخراط سورية في التحالف الدولي لمحاربة تنظيم داعش، وعلى ضرورة دمج حلفائه في قوات سوريا الديمقراطية في العملية الانتقالية، أظهر أن محاربة الإرهاب ودمج الأكراد في العملية السياسية الانتقالية، من أهم أولويات السياسية الفرنسية، لذلك لا يزال ساستها يصرّون على ضرورة وفاء حكام سورية الجدد بوعودهم حول انخراطهم بمكافحة الإرهاب وسعيهم لعملية انتقال شامل لكل مكونات الشعب السوري، فضلاً عن أن المسؤولين الفرنسيين لا يخفون مطالبهم بضرورة بقاء سورية بعيدة عن نفوذ النظامين الروسي والإيراني، وهو ما ذهب إليه إيمانويل ماكرون حين دعا الإدارة السورية الجديدة إلى “التعاون مع التحالف الدولي لمحاربة داعش ومنع سورية من أن تتحول مرة أخرى منصة للمليشيات الإيرانية لزعزعة استقرار المنطقة”. ولا شك في أنه يقصد منع وصول الأسلحة إلى حزب الله اللبناني، منعاً لأي تهديد لأمن إسرائيل، لكنه صمت عن الاعتداءات والتوغلات الإسرائيلية في الأراضي السورية واحتلالها المنطقة العازلة على الحدود.
المشكلة أن فرنسا، ومعها دول الغرب، دعمت التحول في سورية، لكنها، في الوقت نفسه، لا تزال تدعم قوات سوريا الديمقراطية (قسد) التي تستقوي بهذا الدعم، وترفض الاندماج إلا ككتلة صلبة موحدة في الجيش السوري الجديد، وبما يمنح إدارة المناطق التي تسيطر عليها في شرق الفرات خصوصية وتفرّداً ضمن الجسم السوري الجديد. وهو أمر ترفضه السلطات الجديدة، وإن كان الحاكمون الجدد في سورية قد استطاعوا انتزاع تأييد واعتراف أجنبيين واسعين، إلى جانب احتضان عربي خليجي غير مشروط، الأمر الذي منح النظام الجديد نوعاً من الشرعية الخارجية، إلا أن هذا النظام لا يزال تحت المراقبة، ومطالب بتنفيذ شروط عديدة، حيث لم يحصل إلا على وعود برفع مشروط للعقوبات المفروضة على سورية، التي تشكل أكبر عقبة أمام تعافي البلاد وتحسين شروط عيش السوريين، فضلاً عن ملايين اللاجئين السوريين الذين ينتظرون توفير بيئة ملائمة لعودتهم إلى بلادهم، ولا تمتلك السلطات الجديد القدرة على تقديم الخدمات والاحتياجات الضرورية، خصوصاً أن نسبة الفقر تجاوزت 90% بين السوريين.
العربي الجديد
—————————–
«المسألة الكردية ـ العربية» بين أنقرة ودمشق وبغداد
تحديث 17 شباط 2025
ينتظر الأكراد، في تركيا خصوصا، ومناطق تواجدهم في سوريا والعراق وإيران عموما، رسائل زعيم حزب العمال الكردستاني عبدالله أوجلان بعدما أجرى وفد حزب «المساواة وديمقراطية الشعوب» المؤيد للأكراد، سلسلة مباحثات معه في سجنه خلال الفترة الماضية عقب دعوة دولت بهتشلي، زعيم حزب الحركة القومية اليميني وحليف الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، لأوجلان بإلقاء كلمة في البرلمان التركي يعلن فيها عن حل الحزب وإلقاء السلاح.
حسب الرئيس المشارك لحزب المساواة للشعوب والديمقراطية (حزب الشعوب الديمقراطي سابقا) فإن الزعيم التاريخي لحزب العمال الكردستاني عبد الله أوجلان كان «سيوجه نداء تاريخيا في الأيام المقبلة» لحل القضية الكردية في تركيا يتوقع أن يدعو فيها إلى إنهاء الكفاح المسلح في الذكرى السنوية لأسره في عام 1999 في نيروبي، عاصمة كينيا، بعد إخراجه من سوريا وخلال عملية استخباراتية معقدة شاركت فيها عدة دول، لكن هذه الرسائل أجّلت، كما يبدو، انتظارا لمباحثات مع أطراف عديدة معنية، منها إقليم كردستان العراقي، الذي شهد زيارة أمس، لوفد من حزب المساواة.
سبقت ذلك زيارة للرئيس السوري أحمد الشرع إلى تركيا ولقاؤه رئيسها رجب طيب أردوغان الذي شدد في تصريحاته على أن النقاش تمحور حول «أهمية الحفاظ على وحدة الأراضي السورية»، وجهوزية أنقرة، كما قال، لمساعدة سوريا «في محاربة التنظيمات الإرهابية التي تحتل شمال شرق سوريا»، في إشارة طبعا إلى حزب العمال الكردستاني وواجهته «قوات سوريا الديمقراطية»، فيما تحدث الشرع عن «شراكة استراتيجية»، وبحث اتفاقية دفاعية تشمل إنشاء قواعد جوية وسط سوريا.
تمثل دعوة أوجلان المتوقعة قريبا إلى إنهاء الكفاح المسلح تطورا مهما، لكن أهمية هذا النداء ستتوقف، بشكل رئيسي، على رد فعل الدولة التركية، وهل ستعتبر الدعوة اللحظة المناسبة لحل هذه الإشكالية الكبرى التي تمثلها «المسألة الكردية»، بادئة مجددا، خطوات سياسية جدية لبدء محادثات سلام مع الحزب، في استئناف للمحادثات السابقة التي بدأت عام 2009 وانهارت عام 2015.
تتوقف أهمية خطوة أوجلان أيضا على رد فعل القيادة الميدانية لحزب العمال الكردستاني، أو ما يسمى «قيادة قنديل»، التي يرأسها جميل بايق، والتي سبق لها أن ردت على إبداء أوجلان استعداده للسلام، في أواخر شهر أكتوبر/تشرين أول 2024، بطريقتين، الأولى كانت بإعلان أن «القرار الحزبي هو في قنديل» (الجبال التي يسيطر عليها الحزب في العراق) و«ليس في سجن إيمرالي» (الذي يقبع فيه أوجلان)؛ والثانية كانت بعملية قام بها عنصران من «الكردستاني» على مقر الشركة التركية لصناعات الطيران والفضاء قرب العاصمة أنقرة أودت بحياة 5 أشخاص، وقام الحزب بالإعلان عن مسؤوليته عنها صراحة.
يبلغ تعداد الأكراد في تركيا قرابة 20 مليون مواطن (من أصل 85 مليونا، أي أقل من ربع عدد سكان البلاد) ومن الطبيعي أن ينعكس الحجم السكاني الكبير للكتلة التركية من الكرد على باقي الأكراد الموزعين في العراق وسوريا، وأن يتجاوز تأثير «الكردستاني» حدود تركيا، الذي أدى قراره بالكفاح المسلح، إلى امتداد نفوذ مقاتليه إلى سوريا والعراق.
أدت المعارك الطائفية الدموية في العراق التي تلت سقوط صدام حسين في العراق عام 2001، إلى ظهور تنظيم «القاعدة» ثم «الدولة الإسلامية»، وتراكب ذلك مع قمع نظام الأسد الوحشي للثورة السورية بعد عام 2011، ليؤدي الحدثان إلى تداعيات كبرى فتحت أبوابا غير متوقعة لحزب «الكردستاني»، حيث قام نظام الأسد بتسليمه مناطق شاسعة من سوريا لمنع انضمام الكرد السوريين للثورة، ثم قامت أمريكا وشركاؤها، باستخدامه في الحرب ضد تنظيم «الدولة الإسلامية» الذي دخل سوريا عام 2014، وأدت هذه التداخلات الجغرافية ـ السياسية لـ«المسألة الكردية» إلى نشوء «مسألة عربية» في المناطق العربية الكبيرة التي يسيطر عليها حزب العمال.
أضافت هذه القضايا الكثيرة تعقيدا هائلا على الأوضاع في مجمل دول المنطقة، ولكن مع سقوط نظام الأسد، وتراجع أسباب العقوبات السياسية والاقتصادية على سوريا، وبدء حلحلة الأوضاع السياسية في لبنان مع انتخاب جوزف عون رئيسا، وتشكيل نواف سلام للحكومة، والدعوات التركية لحل المسألة الكردية، تبدو الأمور في المنطقة متجهة نحو تسويات، لكن الأمور معلقة على إدراك الأطراف المعنية، بأن هذه اللحظة تاريخية فعلا، وأن أوان حل هذه الإشكاليات المتراكبة في المنطقة قد اقترب.
لكن ما يعكر صفو التحركات لتسويات في المنطقة، هو استمرار التصعيد الإسرائيلي ضد الفلسطينيين في قطاع غزة والضفة الغربية، والدعم الأمريكي اللامحدود للحكومة اليمينية المتطرفة في إسرائيل، والذي كان آخر فصوله، وصول سفينة تحمل كميات كبيرة من القنابل طراز «إم. كيه84» التي يبلغ وزن الواحدة منها 2000 رطل (نحو 1 طن) إلى ميناء أسدود.
القدس العربي
——————————–
الانتقال الديمقراطي في سورية ودروس مصر وتونس/ سامي حسن
17 فبراير 2025
فتح سقوط نظام الأسد باب انتقال سورية من نظام مستبدٍّ، حكم سورية أكثر من نصف قرن، إلى نظام يقوم على أسس الديمقراطية والتعدّدية والمواطنة واحترام الحريات. وهو ما انطلقت من أجله ثورة الحرية والكرامة في مارس/ آذار 2011. في أحيانٍ كثيرة، تكون الفترة الانتقالية محفوفة بالمخاطر، ومفتوحةً على احتمالات عديدة، منها فشل عملية الانتقال والعودة إلى الاستبداد كما حصل في مصر وتونس. لا شكّ أن لكل حالة من حالات ثورات الربيع العربي خصوصيّتها. بالتالي، هناك سياقات وشروط مختلفة لعمليات الانتقال في كل دولة، لكنْ ثمّة قواسم مشتركة فيما بينها أيضاً، وثمّة دروس يمكن لسورية الاستفادة منها، من تجارب الآخرين وإخفاقاتهم.
بعد 18 يوماً من اندلاعها، أجبرت الثورة المصرية الرئيس حسني مبارك على التنحّي. وكان لامتناع الجيش عن التدخّل لقمع المتظاهرين دورٌ رئيسيٌّ في ذلك. بعد فترة انتقالية، كان لهذا الجيش دورٌ أساسيٌّ فيها، تمكّن الإخوان المسلمون، عبر صناديق الاقتراع، من السيطرة على البرلمان، والوصول إلى سدة الرئاسة. لكن أجهزة الدولة العميقة، سيّما الجيش، حافظت على استقلاليتها بعيداً عن سيطرة “الإخوان”. ما سهل نجاح انقلاب الجيش بقيادة عبد الفتاح السيسي، مستفيداً من أخطاء “الإخوان”، لا سيّما محاولات “أخونة” الدولة والمجتمع، ومدعوماً بحراك الشارع الذي بدأ يعاني من أزماتٍ معيشية، لم يكن الجيش المعروف بنفوذه الاقتصادي بريئاً منها. فضلاً عن ذلك، آثر “الإخوان المسلمون”، من موقع الثقة بقوتهم السياسية والمجتمعية، استبعاد فكرة التشارك مع القوى السياسية والمجتمعية، التي اتّصفت بضيقِ أفق عبّر عنه تفضيلها دعم الجيش والتحالف معه على حكم “الإخوان”، الأمر الذي نتج عنه في المحصلة نجاح الثورة المضادّة في إجهاض التجربة الديمقراطية في مصر، وعودة الاستبداد، بل بمستوى أعلى مما كانت عليه الحال في عهد مبارك.
أما في تونس، فقد أدّى تصاعد الاحتجاجات الشعبية، وامتناع الجيش عن قمعها، إلى التعجيل بفرار الرئيس بن علي (بعد أقل من شهر على اندلاع الثورة). بعدها ولتسعة أشهر، جرت عملية التأسيس للمرحلة الانتقالية، التي توّجت بانتخابات المجلس الوطني التأسيسي. تصدّرت النتائج حركة النهضة الإسلامية بحوالى 41% من المقاعد، وحقّقت القوى الديمقراطية والعلمانية نتائج جيدة أيضاً. وتشكل تحالفٌ من القوى الفائزة، فذهبت رئاسة الحكومة إلى حركة النهضة، والرئاسة إلى حزب المؤتمر من أجل الجمهورية، ورئاسة المجلس إلى حزب التكتل الديمقراطي من أجل العمل والحريات. كانت مهمة المجلس وضع دستور جديد للجمهورية الثانية، إضافة إلى مهامه التشريعية، وكان منها إصدار قرار حل حزب التجمع الدستوري الحاكم. وخلال هذه المرحلة، كان موقف “النهضة” متقدّماً بأشواط على موقف “إخوان مصر” لجهة عدم الميل إلى سياسات الأسلمة، وقبول “النهضة” بالشراكة مع القوى الأخرى، ناهيك عن المشاركة الواسعة للمرأة في الحياة السياسية. وفي نهاية المرحلة الانتقالية التي استمرّت ثلاث سنوات، جرت صياغة الدستور والموافقة عليه في يناير/ كانون الثاني 2014. ثم أجريت الانتخابات التشريعية التي جاء فيها حزب نداء تونس، حديث التأسيس، أولاً، بينما حلّت “النهضة” في المرتبة الثانية، وفاز في الانتخابات الرئاسية زعيم حزب نداء تونس، الباجي قائد السبسي، المحسوب على نظام بن علي. كان ذلك إيذاناً ببدء العد العكسي للثورة المضادة، إذ بدأت فلول النظام، ومراكز قوى العهد البائد، تدريجياً بتنفيذ انقلابها على التجربة الديمقراطية، الأمر الذي تحقق فعلاً بعد انتخاب قيس سعيّد رئيساً للجمهورية في العام 2019. صحيح أنه لا يمكن مقارنة مستوى القمع الذي حصل في مصر(مجزرة ميدان رابعة العدوية، اعتقالات واسعة في صفوف الإخوان المسلمين طالت الرئيس المنتخب محمد مرسي وقيادات “الإخوان”، … إلخ) مع ما حصل في تونس، لكن الواضح أننا بتنا أمام نسخة جديدة من نظام بن علي الاستبدادي، وإنْ بوجوه أخرى، وسياسات قمعية مختلفة.
بالانتقال إلى سورية، اندلعت الثورة في أواسط مارس/ آذار على شكل تظاهرات سلمية امتدّت واتسعت لتشمل كل سورية، غير أن مستوى التوحش والقمع الذي قوبلت به من النظام، دفع بالثورة نحو العسكرة. تماسكُ النواة الصلبة للنظام، وفي مقدّمها الجيش والأجهزة الأمنية، والممارساتُ الاجرامية بكل أشكالها، من القتل المباشر إلى القتل تحت التعذيب، واستخدام السلاح الكيماوي وتدمير البيوت والقرى والمدن الذي راح ضحيته مئات آلاف السوريين، حالَ، ذلك كلّه، دون سقوط النظام، وكان لروسيا ولإيران ومليشياتها دورٌ حاسم في ذلك. أما التدخّل الخارجي لصالح المعارضة السورية، فكان دوره، كما بات معلوماً، كارثياً على الثورة، وأضرّ بها ولم ينفعها. كان من نتائج الصراع المسلح بين النظام والمعارضة المسلحة، أنْ قسّمت سورية إلى مناطق يهيمن عليها النظام، وأخرى تحت سيطرة الفصائل المسلحة، العربية والكردية.
قبيل انطلاق عملية ردع العدوان في 27 نوفمبر/ تشرين الثاني 2024 التي شاركت فيها الفصائل المسلحة، بقيادة هيئة تحرير الشام، كانت الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية في سورية قد وصلت إلى الحضيض، والنظام وجيشه في حالة ترهّل، وكانت روسيا مشغولة بحربها ضد أوكرانيا، أما حزب الله وإيران، فكانا في حالةٍ يُرثى لها، بعد ضربات إسرائيلية قاسية إن لم تكن قاصِمة. مهّد ذلك كلّه الأرضية لذلك الانهيار المدوّي للنظام السوري، الذي عبّر عنه هروب رأس النظام بشار الأسد في 8 ديسمبر/ كانون الأول، أي بعد أحد عشر يوماً من انطلاق عملية ردع العدوان.
ها نحن إذن أمام نجاح جديد، وإن تأخر 13 عاماً، لأحد ثورات الربيع العربي في الخلاص من أحد أعتى أنظمة الاستبداد في المنطقة العربية. وها هي سورية أمام استحقاق الانتقال من نظام مستبد إلى نظام ديمقراطي يحقق الحرية والكرامة التي ثار من أجلها السوريون. فكيف يمكن ضمان النجاح في ذلك؟ وكيف يمكن الاستفادة من تجربتي تونس ومصر لتجنّب ما آلت إليه ثورتاهُما؟
كما أشير أعلاه، كان من أسباب نجاح الثورة المضادّة في مصر عدم التشارك في الحكم وإدارة شؤون البلاد بين المكونات السياسية والمجتمعية التي أطاحت بمبارك، وهو الأمر الذي يمكن ملاحظته في سورية اليوم، من خلال تركيز السلطة الانتقالية على الانفتاح الكبير على الخارج، عربياً وإقليمياً ودولياً، في مقابل انغلاقها على الداخل. فهناك إصرار غريب من هذه السلطة على رفض الحوار مع مكوّنات المجتمع السوري، السياسية والاجتماعية والفكرية، حول تحديد الأولويات ورسم السياسات، واستبعادها من المشاركة في إدارة المرحلة الجديدة. وكان من نتائج ذلك اتخاذ قرارات خاطئة في مجالات عدة، وقضايا بالغة الحساسية. هنا يصح التساؤل: لماذا التسرّع في تبني سياسات اقتصادية غير مدروسة، من دون الرجوع إلى أهل الخبرة والاختصاص، ومن دون مراعاة لأوضاع الناس المعيشية؟ كيف وعلى أيّ أسس اتُّخذ قرار إغلاق بعض مؤسّسات القطاع العام، وأُعلنت النية بخصخصة بعضها الآخر، وفَصل عاملين كثيرين في مؤسساته؟! أليس طبيعياً القول إن لما يحصل ارتدادات سلبية وخطيرة ويتسبب بانقسامات في المجتمع، ويوفر تربة خصبة لمن يريد، من داخل سورية أو خارجها، الانقضاض على ما حصل من تغيير، وإجهاض عملية التحوّل نحو الديمقراطية؟
كان من الأخطاء القاتلة في تجربتي مصر وتونس عدم استبعاد رموز النظام من مراكز القوى، ومؤسّسات الدولة العميقة، والاستخفاف في التعامل مع استحقاقات العدالة الانتقالية، ولم تحصل محاسبة فعلية لمرتكبي الانتهاكات من النظامَين البائدين، الأمر الذي مهّد لنجاح الثورة المضادة. صحيحٌ أن مراكز قوة نظام الأسد الهارب، لا سيّما المؤسّستين العسكرية والأمنية، لم يعد لها وجود، لكن ثمة ثغرات في هذا المجال، منها عدم التركيز على ملاحقة قيادات النظام البائد، ذات القدرة على الفعل والتأثير والتحشيد، وأيضاً تسوية أوضاع بعض الشخصيات المعروفة بإجرامها بحقّ السوريين. هنا لا بُدّ من التأكيد على ضرورة الإسراع في تشكيل هيئة العدالة الانتقالية، بحيث يشارك فيها مختصّون أكفاء في مجال القضاء وحقوق الإنسان، وممثلون عن أهالي الضحايا. وإنّ أخذ القانون باليد، والانتهاكات من عناصر الإدارة الجديدة، وعدم الإسراع في محاكمة مجرمي الحرب، سوف يشكّل تهديداً حقيقياً للاستقرار الأمني والسلم الأهلي، وهو الأمر الذي ينتظره أعداء الثورة السورية، ودعاة الثورة المضادّة، داخل سورية وخارجها.
أيضاً، كان من أخطاء تجربتي مصر وتونس استرخاء القوى السياسية والمجتمعية عموماً، وتريّثها في التصدّي للممارسات الاستبدادية في بداياتها، ما صعّب من مواجهتها بعد استفحالها، واشتداد عود السلطة الحاكمة. من هنا تأتي أهمية تصاعد الحراك السياسي والمجتمعي في سورية، وتفعيل مؤسّسات المجتمع المدني، وتوسيع مساحات حضور السوريين في المجال العام، وأن تكون مقاومة الاستبداد بكلّ أشكاله، والرفض القاطع للعودة إلى الوراء، واحداً من القواسم المشتركة للسوريين.
يبقى التأكيد، مرّة أخرى، على ضرورة أن تبادر الإدارة الانتقالية إلى إشراك جميع المكونات السياسية والمجتمعية في رسم ملامح النظام القادم، والانفتاح على الشعب والاعتماد عليه في تحصين الوضع الداخلي، وليس الاتّكاء على رضا الخارج ومباركته. فالشرعية، أولاً وأخيراً، تأتي من الداخل لا من الخارج، وإنّ القطعَ مع الاستبداد، بكلّ أشكاله، وإقامة نظام يقوم على الديمقراطية والمواطنة والعدالة والمشاركة واحترام الحرّيات هو الضمانة لاستقرار سورية وتطورها.
إنْ سارت السلطة الانتقالية في هذا الطريق، فسيكون النجاح حليف عملية الانتقال الديمقراطي، ووصول سورية إلى بر الأمان، أما سياسات الإقصاء، والاستئثار بالسلطة، والتمسّك بمقولة “مَن يحرّر يُقرر”، فهي وصفات مجرّبة للفشل الذريع.
العربي الجديد
———————–
سوريا.. هل نريد ذلك حقاً؟/ أشرف أحمد
10 فبراير 2025
هل سنسمع كلّ يوم عن مقهى جرى إغلاقه، أو عن شبّانٍ قُتلوا تحت التعذيب، وعن المضايقات المؤذية للآخر المختلف في التوّجه الديني أو الجنسي؟.. هل سنعيد ترداد مقولة “هوي منيح بس اللي حواليه عرصات” التي كانت تُستخدم للإشارة إلى أنّ شخص الرئيس وسياساته لا غبار عليهما، وأن المشكلة تكمن فقط في الحاشية؟
نعم هرب الأسد الابن. لاذ بالفرار كقطٍ خائف، ضارباً عرض الحائط الروايات التي تناقلت حديث أبيه في إحدى المقابلات، حين قال إنّ القطط إذا ما حُشرت في الزاوية، تهجم بشراسة، فتخيّل رد فعل الأسود!
نعم، ويا لسعادتي وسعادتنا .. سقط الأسد، تم خلعه وتعريته، لكن وللأسف، نظامه لم يفعل. أو وفقاً للسردية الشعبية – المتهكمة حيناً والجادة حيناً أُخرى – التي كنت تسمعها في الأحاديث اليومية عند البعض في السابق، وتحديداً بعد العاشر من حزيران/يونيو عام 2000، والتي تقول “حافظ الأسد صح مات، بس لسا عم يحكم بقبرو”. النظام ما زال باقياً وحتى الآن يبدو أنه يتبدّل بالشكل واللهجة، ويا لتعاستنا إن تمدد.
أقول كلامي هذا ها هنا، على ضوء شمعةٍ واحدة، أُحاول الكتابة متجاهلاً البرد الذي يلِّفني، والطنين المستمر في أذني (سببته لي نزلة برد، أو الكثير الكثير من الضجيج في الشارع، وصفحات التواصل الاجتماعي)، أجلس في غرفةٍ رطبة كالسقيفة، مليئة بصناديق الكرتون، ومفروشةً ببطانيات المعونة من الأمم المتحدة، والعنوان: دمشق، مدينة جرمانا، حي مزارع الروضة المليء بأكوام القمامة.
تأملات في القمامة
عدت إلى دمشق (بعد سنتين ونصف قضيتها في قريتي الساحلية) في العاشر من تشرين الأول/ أكتوبر 2024، وكلّي رغبة بخوض مغامرةٍ جديدة، علّني أُحقق فيها ما عجزت عن تحقيقه، بعد المحاولات الكثيرة التي بذلتها خلال الثلاثة عشر سنةٍ الماضية .. أن أفعل ما أوّد فعله حقاً وما يُمثّل الحبل الوحيد الذي يربطني بمعنى ما، معنى من حياتي ربما، أو معنى من حياتي هنا على وجه التحديد .. معنى لكل ما نشهده ونعيشه في هذه البقعة الملعونة من الأرض، وكأنه إصرارٌ على الحياة، محاولة بائسة لتحقيق شيءٍ من الاستقرار، والوقوف ولو بشبه ثبات.
سكنت – مفترضاً أن الأمر مؤقت وإسعافي – شقةً في المناطق الشعبية العشوائية المنتشرة بكثرة على أطراف مدينة جرمانا، حالها حال أطراف العاصمة التي سبق لي وعشت في معظمها.
الشقة في الطابق الخامس، وللبناء إطلالة خلفية على ساحة (200*150 متر) تتجمّع فيها أكوامٌ من القمامة، وتتوسط عشرة أبنية تقريباً، لا يقل ارتفاع الواحدة منها عن 6 طوابق – وكما القمامة – تتجمّع فيها شققٌ صغيرة يغلب على معظمها عُريّ كامل من طبقة الاسمنت والدهان، واكتساءٌ رث بأغطية بلاستيكية أو قماشية عوضاً عن النوافذ والأبواب.
ولأنّ الشمس لا تدخل معظم هذه الشقق، فإن جزءاً كبيراً من العائلات المتزاحمة، يتعاملون مع ساحة القمامة هذه – إضافةً لواحدة أصغر منها على الجهة المقابلة من الشارع – وكأنها حديقة عامة، الأطفال يركضون ويلعبون بالدّحل وكرة القدم ويتعاركون ويتصايحون ويضحكون، والنّسوة يجتمعن جالساتٍ على الأرض، يتحدثن عن الطبخ والأسعار والهموم وأخبار الجارات وأفعال الرجال، والرجال يفعلون المثل تقريباً، وجميعهم مع بيوتهم يبدون لي – أنا الواقف أتأمّل المشهد من الطابق الخامس صباح وظهر كل يوم طلباً لدفء الشمس التي أفتقدها في بيتي – وقد تماهوا مع أكياس القمامة المنتشرة حولهم وبينهم ..
أُدرك بعد أيام أنني أنا مثلي مثلهم، منهم وفيهم، فأُعيد التأمّل في المشهد، وأراه صورةً مجازية عن وجودي أنا في دمشق بشكلٍ خاص وسوريا بشكل عام، ومجازاً آخر لوجود الإنسان السوري في ظل حكم الأسد، وتزيد قناعتي باللا جدوى من عيش حياة كهذه، واللا جدوى من أي محاولة للتغيير في الظرف الشخصي والعام، ويستحضرني ما كنت اُفكّر به دائماً في السنوات الأخيرة، وهو فظاعة ما ارتكبه نظام الأسد، الأب والابن، بترويجه للهزائم التي لحقت بالإنسان والوطن السوري، على أنّها انتصارٌ للهوية السورية، ومحور المقاومة في وجه العدو والمؤامرات.
البعض كان مؤمناً بالأمر أو مسلّماً له، وكنت تراه يحتفل في الساحات، ويقيم المهرجانات، ويصوّر المسلسلات والأفلام وإعلانات اليوتيوب، من أجل الترويج للنصر العظيم والفرح بعودة الحياة. البعض الآخر كان مدركاً للكذبة الكبيرة، ولكنّه مع ذلك يقول لنفسه: “الحمد لله توقفت المعارك والقذائف، وعاد للموت شكله الاعتيادي”.
في حين أنّ أفظع ما ارتكبه البعض الكثير من كلا الطرفين، كان الإنكار التام للهزيمة، وخصوصاً بعد عام 2018، كان يقول لنفسه: “خسرنا الثورة، خسرنا المعركة أمام النظام، لكننا ما زلنا أحياء، وهذا نصرٌ عظيم”، ونحن في الواقع، كنّا نموت كثيراً في كلّ يوم، حتى صرنا أجساداً ميتة تهيم في الشوارع وتبحث عن قبرٍ دافئ، في المدن التي صارت مقابر موحشة وباردة.
واليوم أُعيد تأمّل مشهد القمامة مرة أخرى، فأرى فيه مجازاً عمّا خلّفه النظام وراءه، من قمامة وتخبّط وأزمات على كلّ الأصعدة، الشخصيّة منها والعامة، وأشدّ ما يُخيفني، ألّا نعمل على تنظيف أنفسنا والسّاحات بقدر ما نرمي المزيد من القمامة فيها، مُضاعفين بذلك اللّا جدوى من أيّ محاولة لاستغلال الفرصة المعجزة، لإحياء وإعادة تشكيل الهوية السورية.
فرح ناقص
في السابع من كانون الثاني/ يناير 2024، وفي الساعة الحادية عشر قبل منتصف الليل، قبل ساعاتٍ من إعلان هروب الأسد وسقوط النظام بشكل رسمي، كان الحال في جرمانا يؤكّد الحدث قبل وقوعه، وكنت وقتها أُوّثق في ساحة الروضة، مشهداً لشبّان يتسلقون عمودين حجريين بارتفاع مترين تقريباً، تعلوهما صورة رخامية لبشار الأسد، يطرقونها بالصخور المدببة لتحطيمها.
كنت أُنقّل نظري بتردّدٍ لاهف بين شاشة الهاتف والحدث الذي يقع أمامنا. كان المشهد بواقعيته وسينمائيته جميلاً ومفرحاً بكثافةٍ لا تُصدق، ومع ذلك كان للخوف والقلق من الأسئلة التي تقفز في رأسي حول ما ستؤول إليه الأمور لاحقاً، حضوراً مشابهاً.
تجلّت صورة هذا الخوف واضحةً جليّة، ومرة ثانية أمام كاميرا هاتفي المتواضع، بعد يومين من التحرير، وقبل دقائق من خروج جثمان الشهيد والمعتقل السابق في سجن صيدنايا مازن حمادة من باب مشفى المجتهد، ملفوفاً بالعلم الجديد ومحمولاً على الأكتاف، ليصير له تشييعٌ مهيب استمر لساعتين، وانتهى في ساحة الحجاز وسط العاصمة.
ورغم الحزن الكبير، أستطيع القول أنّ الفرح كان طاغياً وقتها، تعالت أصوات التكبيرات وتعددت الهتافات والشعارات، ومع ذلك كانت وكأنها تقول بلسانٍ واحد: “فلتفرح روحك يا مازن، صوتك ودمك لم يذهبا سدى”، وتجاهلتُ حينها، الوقع الثقيل والمثير للغضب في نفسي، للصورة المخيفة التي رأيتها قبل ذلك.
على امتداد الجدار الغربي لمشفى المجتهد، تزاحم الكثير من الناس، وعيونهم إمّا دامعة، أو تتفتّح على اتساعها من هول الصدمة والرعب الذي تنظر إليه، تتنّقل بثقلٍ أجوف بين صورةٍ وأخرى، من عشرات الصور المعلّقة على الجدار، وكلّ واحدة منها تحمل رقماً، وتتوزع إلى فئاتٍ مرقمّة أيضاً، تشترك بعنوان رئيسي “برادات سجن صيدنايا” ويظهر في الصور، وجوه الجثامين التي وُجدت في معتقل صيدنايا الوحشي.
وإذ بأبٍ لا يجد أي دليلٍ عن مكان ابنه، أو جثته على الأقل، بدأ يصيح في الشارع بأعلى صوته: “جيش حر! هذا كلام فارغ .. أين أولادنا أين أولادنا؟ فلُنعلنه جهاداً على كل الملل الكافرة، لنذبح كل من يقول إنه غير مسلم .. هل سيقولون عنّي داعشي؟ دعهم يقولون ما يشاؤون .. سأصير مجاهداً في سبيل الله”.
على صعيد الصورة كان المشهد غريباً بشدة. رجلٌ يقول بكلّ حرية ما يقوله على الملأ، وقت الظهيرة وسط العاصمة دمشق، ولكن على صعيد الخطاب والذهنية، فقد كان ظهوره متوقعاً، وأظن أننا نتفق على إدراك وجوده عند فئة لن أتجرأ على تقدير نسبتها من المجتمع السوري.
تعاطيت معها وقتها، على أنها ردة فعل غاصبة لأبٍ مكلوم، لكنّي لم أنسَ ما طرحَته من سؤالٍ مخيف، بدأتُ باسترجاعه في الأسبوعين الأخيرين .. أليس هذا الدافع الانتقامي، الذي لا يدفع لقتل المجرم فحسب، بل لقتل عائلته أيضاً، وربما أصدقائه وجيرانه، وأبناء قريته، هو ذاته الذي دفع الكثيرين للتطوّع في جيش النظام وعصاباته وعصابات حلفائه، من أجل الانتقام ممن “قتلوا أو أخفوا أولادهم وإخوتهم وأبناء عمومتهم” باسم القتال في سبيل الوطن بدلاً من اسم الله؟
ألم يكن هذا الدافع الانتقامي بالنكهة الطائفية، واحداً من الأسباب التي أودت البلاد، لبحرٍ كبير من الدماء؟
أفعال فردية
منذ أن باشرت القيادة الجديدة تسيير أعمال الدولة وهي تثير الجدل بعددٍ من القرارات، كالتوّجه العجول لشكل السوق الحر والخصخصة في السياسة الاقتصادية، من دون فهم أو إفهام الناس ما الذي يعنيه هذا، أو تعيينها مجموعة من “الدائرة الضيقة” في أبرز المناصب الرسمية محافظين ووزراء، وترفيعها مقاتلين غير سوريين إلى رتب عسكرية عليا في وزارة الدفاع، والسماح لأفراد أجانب بالتواجد مع سلاحهم ضمن القوّات المنتشرة في المدن والقرى، وكذلك التعديلات التي أعلنت عنها وزارة التربية على بعض الفقراتٍ والدروس في المناهج التعليمية، والتي تعكس ذهنيّة إسلامية متشددة، إضافةً للتصريحات المستفزة حول دور المرأة، وحول النموذج “المتفرّد” الذي ستُبنى عليه الدولة والمجتمع السوريين، ناهيك عن الموقف الخجول إزاء التوّغل الإسرائيلي في الجنوب السوري، ووصول قوات الاحتلال لمدينة القنيطرة وأرياف درعا.
جدلٌ بدأ يحمل في طيّاته قلقاً من المستقبل الجديد في ظل القيادة الجديدة، أخذ بالزيادة تدريجياً خلال الأيام الأخيرة، حتى استحال لخوفٍ ورعب بالنسبة لكثيرين، مع تصاعد وتيرة الأعمال الانتقامية والطائفية التي تُرافق العمليات العسكرية لملاحقة “فلول النظام”، أو تتم بمعزلٍ عنها وبلا صفةٍ رسمية، خصوصاً في بعض المناطق “العلوية” التي صارت اليوم تلعب دور “البيئات الحاضنة للخلايا المجرمة النائمة”.
وخلال كتابة هذه المادة، ظهرت هذه الانتهاكات، بشدّة أعنف، راح ضحيتها ما يقارب الـ 50 شخصاً في أجزاء متفرقة من ريف حمص الغربي .. أمرٌ اعترفت بوقوعه إدارة الأمن العام في حمص، والتي كررت بعد ذلك اعترافها بمقتل الشاب “محمد لؤي طيارة” تحت التعذيب على يد العناصر الأمنية، مع عدم وجود أي دليل يؤكد اتهامه بالانتماء لأي جهة أو عصابة أمنية من بقايا الأسد.
على وسائل التواصل الاجتماعي، أخذ الرأي العام يتناقل أخبار هذي الانتهاكات .. بعضهم بخوفٍ وقلق وترقّب، والبعض بنقد شرس لإدارة العمليات. هناك من حاول تهدئة النفوس، منعاً للإنجرار وراء أي فتنة، وآخرون كذّبوا الأخبار الواردة وخوّنوا مروّجيها، والمحزن أن هناك من تناقلها ساخراً فرحاً بالانتقام، ومتوّعداً بالأفظع. وازداد الجدل الافتراضي، بعد أن نشر المدعو “نور حلبي” تغريدة عبر منصة إكس، تحدّث فيها عن عودة ماهر الأسد للساحل السوري، ما سبّب اضطراباً في بعض مناطق الساحل، بعد أن قامت مجموعات متفرقة من فلول النظام السابق، بإطلاق النار الطائش، احتفالاً بعودة “المخلّص”.
في العاصمة لم يصل الأمر حد القتل، لكن يتواجد أفراد وتجمّعات تحمل السلاح بصفة “لجان شعبية للأحياء” تملك صلاحية ضبط الأمن في الحي وحمايته مما قد يُعرض الناس لخطر، دون الإلزام بمعايير واضحة يتم على أساسها التعامل مع نشاطات أو مجموعات وأفراد، باعتبارهم “خارقون للقانون أو يشكلون تهديداً للأمن والسلم الأهلي“. وعليه مثلاً، تم التهجّم والاعتداء مؤخراً، على مقهى “جُوين” في حي البرامكة وسط العاصمة، من قبل “شبّيح سابق” يُتابع عمله اليوم بصفة “رئيس اللجنة الأمنية في الحي” ويتكلّم باسم “قيادة الأمن العام“، ويقود مجموعةً من شبان الحي الملّثمين والمزوّدين بالسلاح، وقد أقدموا على طرد الشباب المستثمرين للمقهى وضرب أحدهم، ثمّ أغلقوا المكان بحجة مخالفات قانونية وأخلاقية، لعدم رضا أهل الحي عن وجود تجمّع شبابي منفتح في بيئتهم المحافظة، الملاصقة لكلية الفنون الجميلة في جامعة دمشق.
ما أن بدأت قوات المعارضة تقدّمها باتجاه حلب، والزمن يجري في سوريا بعبثيةٍ مطلقة، وبكثافة أحداثٍ ومتغيرات، تحتاج ربما عاماً كاملاً – بالمفهوم الطبيعي للوقت – كي تصير، فما كُدت أُنهي هذه المادة، حتى تم الإعلان عن تسلّم أحمد الشرع للرئاسة السوريّة.
جاء الإعلان على شكل رسائل عبر قناة التيلغرام لوكالة سانا الإخبارية، في ظل غياب قناة إعلام رسمية باسم الدولة السورية. احتوت الرسائل على مقتطفات البيان، الذي ألقاه الناطق باسم إدارة العمليات العسكرية خلال مؤتمر جمع معظم القادة العسكريين في فصائل المعارضة باستثناء قوات “قسد” وعدد من فصائل الجنوب، وقد أعلن فيه إلغاء العمل بدستور عام 2012 مع إيقاف العمل بجميع القوانين الاستثنائية، وحل جيش النظام، ومجلس الشعب، وحزب البعث، وأحزاب الجبهة الوطنية التقدمية، وحل جميع الأجهزة الأمنية والميليشيات التابعة للنظام، لتصل بعدها مقتطفات من “خطاب النصر” والذي تم بثه لاحقاً بالصوت والصورة عبر وسائل التواصل الاجتماعي، أكدّ فيه الرئيس الجديد – بين مقدمةٍ وخاتمةٍ شِعريتين– على ضرورة معالجة ما خلّفه نظام الأسد.
قد لا يُجيد الشرع الخطابة، لكنّه كما في اطلالاته المصوّرة السابقة وتصريحاته إضافةً للخطاب الذي وجهه للشعب في اليوم التالي لتوليه الرئاسة، يبدو أنّه يجيد طمأنة الرأي العام، وقد أشار إلى الأولويات في فترة حكمه الانتقالية، بما فيها ملء فراغ السلطة، والمحافظة على السلم الأهلي، وتحقيق عدالة انتقالية ومنع مظاهر الانتقام، وبناء مؤسسات الدولة وعلى رأسها الجيش والأمن والشرطة، والعمل على إرساء بنية اقتصادية تنموية، ويظل الأمر جيداً إلى أن يبقى قولاً غير مقرونٍ بالفعل فيأخذ شكل التخدير.
ومع أنني لا أجد من المنصف حقاً، تقييم الإدارة الجديدة للبلاد الآن، وإطلاق الأحكام عليها وأخذ مواقف ثابتة منها، فهي “آخر” وأرى أنّ علينا فهمه كما عليه أن يفعل ذلك أيضاً، والأمر يحتاج للوقت، لكن يجب الإعتراف أن كلّ ما يحصل في الشارع حتى الآن من أعمالٍ انتقامية، كان متوّقع الحدوث منذ الساعات الأولى للتحرير، حتى أن معظم التوّقعات كانت تُرّجح حصول حرب أهليةٍ شاملة، نحمد الله أنّها حتى هذه اللحظة بعيدة عن الاشتعال، كما يجب الاعتراف أن تسلّم الشرع للرئاسة قد يكون ضرورياً للمرحلة الانتقالية، أقلّه لجمع سلاح الفصائل التي كانت قبل وقتٍ ليس بطويل تتقاتل بين بعضها وعلى أراضيها.
ولكن هل يعني ذلك، أن نعود إلى دورنا القديم في عهد الأسد، كمراقبين ينتظرون فرج الله؟
فعل المعارضة لا يقتصر على النشاط والموقف السياسي، بل يتعدّى ذلك ليكون تواصلاً مع السلطة، تواصلٌ ينطلق من كل فرد وبيت وشارع، ليكشف الأخطاء ساعياً للحفاظ على المكان وعلى أسس الحياة الكريمة العادلة فيه، وفي ظل ما نشهده أعتقد أن هذا التواصل، أو هذه المعارضة، عليها أن تكون حاضرة على جبهتين؛ في وجه السلطة القائمة ووجه النظام المخلوع.
من الضروري الإصرار على محاسبة مُجرمي نظام الأسد وعصاباته وكل من كان شريكاً في سفك الدماء وقهر الشعب السوري، ولكن بعد اتفاقٍ واضح وشامل على الزاوية التي يجب علينا النظر منها لمفهوم العدالة والمحاسبة، وعلى المعايير التي تحدّد تعريفنا لمن هو المجرم، وهل سيقودنا هذا الطريق لمحاسبة من تلطّخت أيديهم بالدماء ممن يتواجدون اليوم في السلطة السياسية والأمنية كوزير العدل الحالي مثلاً شادي الويسي، الذي انتشر فيديو يُظهره وهو يُشرف على تنفيذ حكم إعدام ميداني رمياً بالرصاص بحق امرأتين متهمتين بالتخابر لصالح النظام في العام 2015، أم سيكون هناك فرق بين دمٍ ودم؟
علينا طرح أسئلتنا عن البيئة الاقتصادية السورية اليوم، وهل هذه البيئة بعد حكمٍ “اشتراكي” على المنهج الأسدي، وبعد حربٍ دامت 13 عاماً، تسمح بانتقال فوري لسياسة السوق الحر التي تعلن عنها الحكومة مع وعودها بخصخصة الموانئ والمرافق الكبرى، أم أنها أيضاً انتهاج لسياسة البعث والأسد في اتخاذ قرارات غير مدروسة، تهدم أكثر ما تبني، وتجوّع أكثر ما تُشبع، وقد تكون مجدداً بيعٌ للسيادة لأطرافٍ أخرى وبأثمانٍ جديدة؟ وهل تسمح هذه البيئة أصلاً برفع الدعم المباشر عن المواد الأساسية، وإيقاف رواتب آلاف الموظفين، فضلاً عن إيقاف أعدادٍ كبيرة منهم أو تسريحهم؟
وكاسترسال في الأسئلة التي نطرحها يومياً، همساً أو بصوتٍ عالٍ، هل سنسمع كلّ يوم عن مقهى جرى إغلاقه، أو عن شبّانٍ ورجال قُتلوا تحت التعذيب، وعن فتياتٍ ونساء، أمهات وعاملات ومعلّمات، يُخطفن ويقتلن؟ وعن المضايقات المؤذية للآخر المختلف في التوّجه الديني والجنسي والفكري والسياسي؟
هل سيُعاد تفعيل جماعة “الخط الحلو” ممن يجيدون كتابة التقارير للسلطة، ويتّخذونها وسيلةً للانتقام من أفراد بسبب خلافاتٍ شخصية بحتة، من خلال تلفيق تهمةٍ ما لهم، فتكون الدليل الوحيد، الذي على أساسه يتم الاعتقال والتعذيب والقتل ربما. وهل سنكرر مظاهر التشبيح وممارسات الأفرع الأمنية المُذلّة في التعامل مع المعتقلين؟
وبالحديث عن هذه الممارسات المتفرقة الكثيرة جداً، واليومية، هل سنعيد ترداد مقولة “هوي منيح، بس اللي حواليه عرصات” التي كانت تُستخدم للإشارة إلى أنّ شخص الرئيس وسياساته لا غبار عليهما، وأن المشكلة في الحاشية؟.. هل نريد ذلك حقاً؟
ليست هذه الأسئلة المرتبكة دعوة لنقد ومعارضة السلطة فحسب، بقدر ما هي أيضاً دعوة لتأملّ المشهد بكل كثافة عناصره، وغزارة التأويلات الفكرية والحسيّة فيه، فالنظام لم يسقط بعد، وما حصل في الثامن من كانون الأول/ ديسمبر يمكن اعتباره فرحةً عظيمة بتحررٍ من وحش وطاغية، لكنه نصرٌ غير كامل، وأظنّ من الخطأ أن نُكرر حماقتنا في التماهي معه، دون التفكير بما يحصل.
قد يكون كلّ هذا الكلام “تشاؤمياً” بالنسبة للبعض. نعم ممكن، وقد يكون محض هراء، “أيّ كلام”، أو قد يكون كأيّ بيان أو تصريح يكتبه أحد ما، يوّقع عليه مائة، مائتان، ألف، ويصير باسم الشعب السوري، كلّ شيء ممكن، لكنّه كلامٌ يُقال وتفكيرٌ موجود، على شكل وجهة نظر لشخص عادي في هذا المكان المعقّد .. يرى، يسمع، يؤثّر، ويتأثر بكل التغييرات السوريالية والفوضى التي تحدث في المكان وشخوصه.
وقد بدأتُ في الأيام الأخيرة أجد أنني أشترك بهذه النظرة مع كثيرٍ ممن يشعرون أنّ النظام الأسدي ما زال قائماً في كثيرٍ من أدوات تواصلنا وتفاصيل حياتنا اليومية، ولا يزال متحكّماً في كثيرٍ من ذهنياتنا، وهو أثرٌ تراكمي مستمّر منذ تفرّد حزب البعث بالسلطة بقيادة الأسد الأب .. كنّا سابقاً نقول: “نحن مريضون من الحرب والبلد وحكم الأسد”، وأجد اليوم ضرورة الإدراك والاعتراف بأننا لم نُشفى بعد.
“إننا محكومون بالأمل، وما يحدث اليوم لا يمكن له أن يكون نهاية التاريخ”؟
قطعت كتابتي، وقمت مسرعاً لأتمكّن من شحن الهاتف والحاسب المحمول والبطارية الصغيرة لإضاءة اللدّات، ولأستطيع تسخين دلوين كبيرين من الماء، لغسل الصحون والكاسات، وللحصول على حمّامٍ أُزيل به عنّي رائحة الأدخنة المنبعثة بكثافة خانقة في الحي، نتيجة إشعال الحطب وأوراق الكرتون والقماش والمازوت المغشوش والرخيص طلباً للدفء.
عملية التسخين هذه تتطلّب استخدام سلكٍ كهربائي موصولٍ بوشيعة كهربائية خطرة الاستخدام، لكنها تضمن إتمام العملية بسرعة قبل مُضي النصف ساعة القادمة، وانقطاع الكهرباء بعدها لخمس ساعاتٍ ونصف أو أكثر، وفقاً لسياسة التقنين الكهربائي الجديدة، وهي في الأساس سياسةٌ بدأ باعتمادها نظام الأسد منذ سنينٍ طويلة.
أتّلقى اتصالاً هاتفياً من صديقتي، التي تزور أهلها في منطقة “الدعتور” في مدينة اللاذقية، تُخبرني عن مقتل زوج صديقتها – وهو مدني لا علاقة له بأجهزة نظام الأسد وأبٌ لطفلين – خلال مداهمة قوات الأمن العام للمنطقة من أجل اعتقال شابَين لحيازتهما السلاح، سُمع خلالها إطلاق نارٍ كثيف استمر لعشر دقائق تقريباً.
تقول لي: “هذه ليست اللاذقية التي أعرفها .. المدينة ساكنة وشبه فارغة معظم الوقت، بشكلٍ يثير الحزن والخوف، الناس هنا قلقون وخائفون جداً، حالهم كحال معظم المناطق الجبلية والساحلية، والخوف يزداد مع ازدياد الانتهاكات، والأعمال الانتقامية، والتشبيح، وعمليات الخطف والقتل التي تتكرر كل يوم .. والفقر يكاد يأكل الكثيرين.. هل هذه هي النهاية؟ ..أو أننا سنشهد نهايةً أفضل وأجمل وأكثر سلماً وأماناً؟ أم أن لا نهاية لكل ما يحصل؟“.
خط 30
—————————
عمارة “الجحيم” السوري.. القيد الذي لم يضعه السجّان/ حنان الأحمد
5 فبراير 2025
هل تخيّل مصمّمو السجون السوريّة أنفسهم مكان المعتقلين؟ أم أنّ المستخدم الأهمّ بالنسبة إليهم كان السجان؟ هل تبقى الجدران مجّرد كتلٍ اسمنتية حياديّة بعد تجربة الاعتقال؟ أم أنها تكبر وتتضخّم لتلتهم الداخل إليها؟
“الداخل إليها مفقودٌ والخارج مولودٌ” هي المرادف السوري لما كُتِب على مدخل جحيم دانتي: “أيها الداخلون إلى هنا، اتركوا كلّ أملٍ وراءكم.” ولأنّنا لم ندخل ونختبر، فنحن لا نعرف. ولأننا لا نعرف، فلن نفترض. كلّ ما يحقّ لنا فعله أن نرافقهم إلى جحيم ماضيهم الحاضر بكلّ قوةٍ. نطرق أبوابه معهم، لاستعادة ذاكرة زنازين المعتَقَل التي لا تكفّ عن استحضار الأسئلة حول الإخضاع والعمارة وهندستهما.
عمارة الإخضاع.. السجن كـ “بناءٍ”
على مدى أيامٍ، تسمّر السوريون أمام شاشات الأخبار، لمراقبة هذه البقعة السوداء في التاريخ السوري وتاريخ البشرية على السواء. العيون انتظرت خلع أبواب السجون الحديدية لتحرير المعتقلين.. عشرات السجون باختلاف أنواعها ومناطقها ومساحاتها، وتحديدًا سجن صيدنايا أو كما يسمّى المسلخ البشري، الذي بقي كلغزٍ محجوبٍ في السابق، اعتدنا رؤيته من الأقمار الصناعية وعبر شهادات المعتقلين المحرّرين.
عليك أن تتّجه شمالاً من العاصمة دمشق. تقطع حوالي 30 كيلومترًا لكي تصل إلى سجن صيدنايا الواقع على هضبة صيدنايا ضمن سلسلة جبال القلمون. شيّدت عمارة السجن عام 1987 تحت حكم حافظ الأسد، وهي عبارة عن بنائين: البناء الأول يسمّى بالسجن الأبيض مؤلف من ثلاثة طوابق وكان بالأصل مخصصاً للسجناء القضائيين، أما السجن الأحمر فيمكن اعتباره حاضنةً لعدّة مبانٍ منفصلة داخله.
للسجن تصميم معقّد مروحيّ الشكل، بمركز سلطويّ يسمح بأكبر قدرٍ من المراقبة للسجناء المشابه لمبدأ “المراقبة المركزية” أو “مراقبة الكلّ” الذي اخترعه الفيلسوف البريطاني جيريمي بنثام. يتيح هذا المبدأ مراقبة جميع السجناء من نقطة مركزية واحدة دون أن يكونوا قادرين على معرفة ما إذا كانوا يخضعون للمراقبة في لحظات معيّنة. يعتبر البرج هيكلًا إنشائيًّا ومعماريًّا مستقلًّا عن البناء، لكنه يتموضع في ساحة سداسية الشكل في مركز التقاء الكتل الثلاثة للسجن الأحمر. كان يستخدمه الحرّاس المسلحين، يعبرون إليه من خلال مدخل من خارج السجن منفصلٌ عن أيّ مدخلٍ آخر. بشرفاته المحيطة المفصولة عن هيكل السجن الأساسيّ، يكشف البرج الامتدادات الثلاثة لأجنحة المهاجع بشكلٍ كاملٍ، مما يجعل بضعة حراسٍ فقط قادرين على السيطرة على السجن، مع استحالة وصول السجناء إليه. في الطوابق الثلاثة فوق الأرض، تقسّم كلّ كتلة إلى جناحين يساري ويميني، مما يشكّل 18 جناحًا. لكلّ جناح مدخله ودرجه الخاصّ الذي لا يتقاطع مع مسار حركة السجناء في الأجنحة الأخرى. أما الطابقان الواقعان تحت الأرض، فهما مخصّصان للمنفردات وغرف الإعدام والحمامات والمطابخ.
هذا هو التوصيف الهندسي الحيادي لسجن صيدنايا الذي لم أستطع التوقّف عن التفكير في أنّه لم يُخلَق من العدم. لا يمكن تجاهل حقيقة كونه “بناءً”، له مخطّطات ودراسات تنفيذية أنجزها مصمّمون بكامل إرادتهم. في ألف باء الهندسة المعمارية، يعلّموننا أنّ الخطوة الأولى للتصميم الناجح، وتخطّي العقبات هي “التعاطف” وفهم احتياجات مستخدم الفضاء. تقتضي الخطوة الأولى أن يتخيّل المصمم نفسه مكان المستخدم، وكلّما كان المهندس قادراً على الخروج من ذاته، كلّما كان عمله مستجيبًا أكثر لحاجة المستخدمين.
“ليست مجرد خطوطٍ على ورقٍ، أنت تقوم بتشكيل حياة البشر ضمن هذه الفراغات”، كان يقول أستاذ مادة التصميم في سنوات الجامعة. لذا أتساءل من باب الفضول المرضيّ ربما: هل تخيل مصمم سجن صيدنايا – الذي يقال إنّه ألماني – نفسه مكان المعتقلين؟ أم أنّ المستخدم الأهمّ بالنسبة له كان السجان؟ ماذا كانت الـ”لماذا” التي طلب منه على أساسها تصميم المبنى، أي أهداف البناء؟ وكيف بنى عليها الـ”كيف” بأفكاره؟
ألا يعتبر المصمم شريكًا في الجريمة؟ وهل هذا ما يدفع بالكثير من المهندسين المعماريين ربما إلى رفض تولّي تصميم السجون رفضاً قاطعاً؟
بناء سجن صيدنايا، ليس سوى نموذجًا معقّدًا لعمارة السجن السوريّة التي تعدّ بدورها نموذجًا صلباً عن لا حياديّة الفضاء في العمارة بشكل عام، كونه وسيلة فعّالة لنقل السلطة وممارستها. من خلال تصميم الفضاء والفراغات المعمارية باعتبارها الكيان غير المادي الذي يتشكّل نتيجة التفاعل بين العناصر المادية مثل الجدران والأرضية والأسقف والواجهات، يتمّ ترتيب الأجساد البشرية والتحكّم فيها، ليكون إخضاعها وإدماجها مندرجاً ضمن نظامٍ يفرض الانضباط. فالجدران، والحواجز، والأبواب، والنوافذ ليست مجرّد عناصر معمارية؛ إنّها أدوات تبسط سلطتها على أجساد الأفراد.. تقسّمهم، وتعزلهم وتقود حركتهم.
لا يقتصر توزيع الفضاءات على تنظيم الحركة فحسب، بل يسهم أيضًا في تشكيل طريقة التفكير وتوجيه المشاعر، مما يؤدّي إلى إنتاج أنماط سلوك محدّدة تدفع الأفراد للعيش وفق القواعد المفروضة عليهم. يجعل التصميم المعقّد للسجون من البناء جزءًا من عملية فرض القهر على السجناء: السراديب العشوائية المتتالية، انعدام الإضاءة الطبيعية، الانتقال إلى تحت الأرض. “أنا متأكدٌ أنّ موضوع الفراغات تحت الأرض ليس لأسبابٍ أمنيةٍ أو لمنع أصوات المعذبين من الوصول للخارج؛ فهناك الكثير من الأساليب الأخرى لتحقيق هذه الأهداف، لكنهم يدركون تمامًا مدى تأثير البناء وصعوبة وقسوة فكرة أن يكون الإنسان تحت الأرض لتحطيم تماسك المعتقل وكسر إرادته“، يخبرنا سامر (فضّل عدم ذكر عائلته)، وهو مهندس معماريّ ومعتقل سابق قضى حوالي سنة وشهرين بين فرع الأمن العسكري في دمشق وسجن عدرا عام 2013.
السجين (لا) يرى سجنه
رأينا في التقرير التفاعليّ الصادر عن “منظمة العفو الدولية” بالتعاون مع مجموعة “الهندسة الجنائية” كيف تمّ الاعتماد على شهادات خمسة ناجين لإعادة بناء سجن صيدنايا رقميًّا وباستخدام تقنية التشكيل الصوتيّ لبناء نماذج ثلاثية الأبعاد تصوّر هيكل السجن الداخليّ، بهدف تقدير أحجام الفضاءات وتصميمها. قدّم الناجون تفاصيل دقيقة عن تصميم المبنى، والأصوات، والإضاءة، وحتى الروائح، مما ساعد الفرق العاملة على توثيق الفظائع التي ارتكبت في صيدنايا. وتحت الظروف القاسية التي عاشوها، لا بدّ أن نسأل “كيف أدرك السجناء الفراغ؟”.
“كنّا نرى بآذاننا”، يخبرنا، ماهر اسبر الحقوقي والمعتقل السابق الذي قضى حوالي ستة أعوام في سجن صيدنايا، بين عامي 2006 و2011.
في حالات كثيرة، يُحجب نظر السجين منذ اللحظات الأولى للاعتقال، وطوال الطريق المؤدّية إلى السجن. مقابل شلّ حاسة الرؤية بسبب عتمة الزنازين أو لفّ العينين، يُطوّر السجين حساسية الحواس الأخرى مثل السمع والشمّ. يعدّد ماهر إسبر الأصوات التي اعتاد على سماعها “صوت فتح الأقفال، خشخشة السلاسل، صراخ فجائي لأحدهم، الارتطام بالجدران”، مضيفًا: “كنا نستطيع التمييز بين الحراس المتجولين في الممرات من اختلاف دعسات أقدامهم”.
أمّا سامر فقد استطاع وصف مساره ضمن البناء من المدخل والفراغات المضيئة الأولى التي تسمح للمعتقل بالقليل من التماسك، قبل أن يتضاعف الضغط النفسيّ إلى حدّ الانهيار مع التقدم ضمن السراديب المتشابكة. يمرّ السجين بين أجساد المعتقلين المفترشين أرض المفترج أو “الشبك”، وهو فراغٌ بأبعاد 6×10 مترٍ أو أقلّ، يفترض أن يكون متنفس المساجين. سقفه مغطى بشباكٍ معدنيٍّة وطبقة من البلاستيك شبه الشفاف التي تسمح بمرور القليل من الضوء، ويكون ممتلئاً بأجساد المعتقلين المتراصّين غير القادرين حتى على الوقوف.
تصل “الشبك” بالزنازين تحت الأرضية، دهاليز عشوائيةٌ غير منتظمةٍ، الأرجح أنّها أضيفت تباعًا خلال الزمن، تتبعها فتحة في الأرض ثمّ درج عشوائيّ نحو العالم السفليّ يبدو كأنّه حفر لاحقًا ضمن الأرض، وممرات أخرى كالمتاهة تؤدي إلى فراغاتٍ وزنازين تحت الأرض لا ترى الضوء ولا الهواء.
حين سألته كيف أدرك المكان وهو مغمض العينين، شرح لي ببعض الأمثلة: “أدركت أنّ التحقيق معي يجرى في ممرٍّ لأنني أثناء الضرب كنت أرتطم بالجدار الأول على يميني ثمّ الثاني على يساري بالإضافة إلى صوت الصدى“. أما بالنسبة لأبعاد الزنزانة التي قضى فيها حكمه: “من شدة التعب كنت أحيانًا أستغني عن الفرصة الثمينة للخروج لشرب الماء من أجل الاستلقاء لبضع دقائق، فيكاد جسدي يلامس جداري الزنزانة معًا، إنّها بطول المترين تقريبًا، ولم يكن عرضها يتسع إلا لشخصٍ آخر مستلقيًا، أي أنّها تعادل 120 سم تقريبًا“.
جدران تتمدّد.. وأبواب تلتهم الداخلين
ليست الذاكرة المكانية التي يشكّلها عقل الإنسان واقعيّة تمامًا، إنّما هي انعكاس للتجربة الشخصية. تؤثّر التجربة الحسية والحالة النفسية للسجين بشكل كبير على إدراكه للفراغ المكاني، وتبتكرانه أحياناً. تعيد مشاعر الخوف والتوتر، أو حتى الشعور بالأمل المحدود تشكيل الطريقة التي يرى بها السجين المحيط من حوله. ومن شأن القهر والخوف أن يضغطا الأماكن، فيجعلان زواياها أكثر حدّة.
قد يشعر السجين أنّ الزنزانة أصغر ممّا هي عليه في الواقع أو أن الجدران تضغط عليه حتى لو كان الفراغ واسعًا، كما سيبدو مخطط السجن أكثر تعقيدًا. وانطلاقًا من المبدأ الذي يجعل الشخص الهارب من خطر ما يشعر أن المسافات أطول، فإن الممرّ المؤدّي إلى غرفة التحقيق أو التعذيب قد يبدو لا نهائيًا. يُضاف إلى ذلك الضغط النفسي الذي يشوّش على التركيز أيضاً، فتصبح الذاكرة المكانية مضطربة. التفاصيل البسيطة ستحفر في الرأس كعلاماتٍ أبدية، بينما تُطمس مشاهد أخرى بالكامل تحت وطأة الرعب.
هذا ما قد يفسّر اختلاف الآراء بين الناجين عن أماكن الأبواب أو الممرّات في سجن صيدنايا. اختبر ماهر إسبر هذا الاختلاف في إدراك المكان خلال فترة اعتقاله في سجن صيدنايا، خصوصاً أنّه عاش فيه فترة العصيان الداخلي عام 2008، حين تمكّن السجناء من السيطرة على السجن لحوالي تسعة أشهر. قبل العصيان “كنت أعتقد أنني أعرف البناء جيدًا. ولكن حين تجوّلت فيه طوال تلك المدّة، وفي اللحظة التي رأيت البناء للمرة الأولى من الباحة الخارجية حين خرجنا مستسلمين بعد المجزرة، شعرت بالصدمة لمدى ضخامته ولشعور الرهبة الذي يبعثه في النفس بتموضعه على قمة هضبةٍ وغيوم الغبار حوله تشكل امتدادًا للسماء بطريقةٍ ما“، كما يخبرنا إسبر. من جهته، يتحدث سامر عن اختلاف تجربته في سجن عدرا (الأقل إجرامًا) عن تجربته في فرع الأمن العسكري قائلًا:” كان هناك حماس لحدوث أي شيء في أي لحظة حول السجن. لذا بدافع الغريزة لا شعوريًا استعددت ذهنيًا لتكوين فكرة عامة عن السجن، أماكن الدخول والخروج، نقاط الضعف. كنت أدرك مخطط المكان بشكل عفوي. لا أدري إن كان هذا بسبب تركيزي الدائم أو بسبب كوني متخصصًا في الهندسة المعمارية“.
فراغٌ بأبعاد 120× 200 سم، بسقفٍ منخفضٍ مع سقيفة مغلقة تسمح بمرور ضوءٍ عبر فتحة سقفٍ لا تتجاوز 10 سنتم. مصدر الضوء هو مصباحٌ معلقٌ على السقف الثاني وغير موصولٍ بأيّ منافذ تهويةٍ سوى فتحةٍ صغيرةٍ ضمن الباب تفتح لأوقاتٍ محددةٍ. الفراغ ممتلئٌ بأشخاصٍ يجلسون القرفصاء عراةً متلاصقين برؤوس حليقة. أو كما يقول السجناء: لكلّ شخصٍ “بلاطةٌ” يجلس عليها، حوالي 30× 30 سم.
قضى سامر فترة اعتقاله في هذه الزنزانة التي يفترض أنّها انفراديّة، مع 13 شخصًا آخر في فرع الأمن العسكري في دمشق. يتشابه هذا الوصف مع ما ذكره المعتقل السابق بسام يوسف عن فرع فلسطين، في مذكّراته “حجر الذاكرة – بعض من جحيم السجون السوريّة” (2018) التي كتبها بالاستناد إلى تجربة اعتقال امتدّت لعشر سنوات بين عامي 1987 و 1997 وتنقّل خلالها بين الأفرع الأمنية وسجن صيدنايا: “رأيت مشهدًا سيظلّ حاضرًا في ذاكرتي ما حييت، هل تتخيل قطعة أرضٍ صغيرةً مزروعةً برؤوسٍ بشريةٍ حيةٍ؟ رؤوسٌ ولا شيء إلا الرؤوس، رؤوسٌ مصفّفة متلاصقة، بعيونٍ مفتوحة متفحّصة تنظر إليك.” وفي مقطع آخر من مذكّراته، يذكر يوسف الأيام الخمسة التي قضاها في فرع التحقيق العسكري قبل نقله إلى سجن صيدنايا، مع ستة وعشرين مسجوناً من حزب العمل الشيوعي. في مساحة ضيّقة “قسّم المسجونون أنفسهم إلى ثلاث دفعات: دفعة تقف لثماني ساعات، ودفعة ثانية تجلس خلال الوقت نفسه في مساحة من المهجع، ودفعة ثالثة تنام بطريقة “التسييف” (أي على جانب الجسد) في المساحة المتبقّية”.
في هذه الحالة غير السوية، يصبح “الآخر” جزءًا من المحيط المكاني الشخصي للسجين، ليغرق في حالةٍ متناقضةٍ بين الفراغ المطلق الذي يشعر به نتيجة العزلة النفسية والحرمان، وبين الفراغ المشبع قسرًا بأجساد الآخرين كلّ الوقت. تلاصق الأجسام هكذا يشكل “إطارًا” يعيد تعريف الفراغ. ولن نتحدث هنا عن الصعوبة والألم الجسديّ لهذا الازدحام، خصوصاً حين كان السجانون يتفننون أحيانًا في وضع أشخاصٍ من خلفياتٍ وإيديولوجياتٍ مختلفة ضمن فراغٍ واحد، ليزيدوا العزلة عزلةً.
“أحيانًا يصبح الآخر هو الجحيم، حتى إنّ بعض السجناء قد يفتعلون مشكلةً عمدًا للحصول على وقتٍ من العزلة الحقيقية في الزنزانة المنفردة، رغم صعوبة وعذاب التواجد فيها”، يقول ماهر إسبر. تتمخّض هذه الحياة الجماعية الإجبارية عن حافزٍ قويٍّ للتباعد ولو لفترةٍ قصيرة كالتي كان يسترقها فيكتور فرانكل ليجلس مع أفكاره حتى بوجود عدد من الجثث بجانبه. الطبيب النفسيّ الذي خاض تجربة معسكرات الاعتقال النازية، تحدث عنها في كتابه “الإنسان يبحث عن المعنى“: “هذا الجسد هنا، جسدي، هو في الحقيقة جثةٌ بالفعل، ما الذي ألمّ بي؟ إنني لست إلا جزءًا ضئيلًا من حشدٍ هائلٍ من اللحم البشريّ”. أيّ وعي يلمّ بالجسد لدى وجوده بين جثث المساجين الذين سبقوه إلى حتفهم؟ فوجود الجسد بين عدد كبير من الأجساد حتى ولو كانوا أحياء سيخلق صورة كابوسية، كما في عمل الفنان الأميركي سبنسر تونيك بعنوان “كن مستهلكًا” (Be Consumed) في عام 2003، الذي حاول من خلاله التعبير عن فكرة ملء وإدراك الفراغ عبر الأجساد العارية المتلاصقة للمتطوّعين الذين دعاهم للمشاركة في الصعود والنزول على الأدراج الكهربائية لأحد المولات في لندن.
هنا “كلّ الأجسام متساويةٌ“، في سوق الاستهلاك الكبير، بينما السجن يقدّم صورة أكثر قتامة للأجساد العارية المتجاورة، حيث لا يمكن معرفة ما إذا كان السبات أو الجمود موتًا، أو تهيئة للموت.
القباحة والشعور بالتهديد
على جانبٍ آخر من القهر الذي يمارسه السجن كـ”بناءٍ”، تلقي القباحة بسطوتها على السجين. يبدو السجن كغابة من الإسمنت الأجرد، ممزوجاً بصلف المعادن والصدأ والعتمة وألوان الجدران الرماديّة. يتعامل السجين مع هذه القباحة بجسده وحواسه، يومياً، وأحياناً تصبح امتداداً لجسده نفسه، وتحديداً في الحالات التي يعاني فيها من التقرّحات والأمراض الجلدية التي يُجمع الكثير من السجناء على أنّها لطالما كانت مصيرًا محتّمًا للأجساد، بسبب الاكتظاظ وغياب مقوّمات النظافة، وندرة الاستحمام.
يوازي هذا القمع البصري ما يعانيه السجين من قمع جسديّ، ويؤدّي لاحقًا إلى إفقاده الأمل والمعنى. فهذه البنى المعمارية “تهندس الحواس” وفق الأكاديميّة الباحثة الأميركية غريتشن إي هندرسن في كتابها “التاريخ الثقافي للقباحة” الذي تشير فيه إلى أنّ الهندسة المعمارية القبيحة قادرة على توجيه “إهانة” لحواسنا بأكملها، منها الصوت والروائح والطعم والملمس، وليس البصر فحسب. تحاول غريتشن أن تجد معادلًا شعوريًّا للقباحة بالاستناد إلى بعض الدراسات العلمية والبيولوجية، لتخلص أخيرًا إلى أنّ “القبيح” هو “ما نخافه ونخشاه”. انطلاقًا من هذا التهديد، فإنّ القباحة نفسها تنتهك “الحدود الثقافية التي يقوم عليها تعريفنا لأنفسنا، كما أنّها تدفعنا إلى إعادة تعريف أنفسنا”.
القباحة في السجون السورية هي جزء من الذلّ الممارس على السجين، بزجّه ضمن غابة اسمنتيّة بائسة من المستثيرات المفزعة لكافّة الحواس، أبرزها أصوات الصراخ وروائح الدم والجثث التي تترك في الزنازين لبضعة أيّام أحياناً. تضاف إليها بالطبع الوجوه القلقة للمساجين، والتي تقبع وحدها في مجال الرؤية عندما لا تُعصب عيني السجين.
ومع ازدياد الحياة الداخلية للسجين قتامةً، تظهر النزعة القوية للجمال كردة فعلٍ تمرديةٍ ربما، كاحتجاجٍ على الموت الوشيك. يجد السجين نفسه في حالة بحث مستمرّ عن أبسط تفاصيل الحياة، عن الألوان والدفء. يحاول خلق مجالات رؤية جديدة للفراغات الباردة، عبر الرسم على الجدران باستخدام بذور الزيتون أو قطع صابون الغار أو الحفر بأي أداة صلبة. كلّ عنصر بديهي، سيكتسب طابع الدهشة الأولى داخل السجن، أمام الشوق العميق للحميمية الإنسانية والعاطفة التي تتضاءل شيئاً فشيئاً. هذا ما يستذكره إسبر، مستعيداً المرّة الأولى التي حصل فيها على حبّة بندورة داخل السجن، فيقول “نزعت وريقتها وجلست أتأملها، أنظر إلى شكلها ولونها، وأترك رائحتها تأخذني إلى زمنٍ بعيدٍ، إلى أرض أهلي و حريتي، حيث كنت أتناول البندورة الطازجة من الحقل مباشرةً“.
السجّان كمصمّم لاحق للزنازين
يعدّ السجّان ممثلاً للسلطة ضمن مؤسسة السجن، وفي ظلّ الأنظمة القمعية والسجون اللا إنسانية يصبح السجان امتداداً لهيكل السجن المادي والمعنوي على السواء.
في مقابلة أجراها معه “تلفزيون سوريا”، تحدّث الحقوقيّ أنور البني عن عمله شابًّا لفترةٍ قصيرةٍ في بناء سجن صيدنايا، المشروع الذي صمم بالأصل ليكون سجنًا أكثر إنسانيةً، فيقول ما يبدو صادمًا، خصوصًا بعد الصور والفيديوهات التي وصلتنا من السجن: “أحسست بالسعادة عندما رأيت المخططات، إذ لم يكن هناك شيءٌ تحت الأرض. جميع الغرف تدخلها الشمس والهواء، وهناك مكانٌ مخصصٌ لممارسة الرياضة، وملعبٌ لكرة القدم وآخر لكرة السلة”. يبدو البني في اللقاء كما لو أنّه يتحدّث عن سجنٍ آخر، ما يثير سؤالاً عمّا إذا كانت فكرة السجن الإنساني واقعيّة أم أنّها مجرّد خيال لا يتحقّق.
تناول العديد من الباحثين مفهوم السجون الإنسانية، معيدين “تعريف مفهوم الاحتجاز”، من كونه مجرد عقوبةٍ إلى كونه وسيلةً لإعادة تأهيل السجناء ودمجهم في المجتمع، وكيفية تجسيد مفاهيم الإنسانية، الكرامة، والتضامن في تصميم السجون كبناءٍ يعزز من الشعور بالانتماء ويقلل من العزلة النفسية.
ولكن ماذا عن إنسانية “السجان”؟ ركز مؤلفو كتاب “السجن، العمارة والإنسان” (Prison, Architecture and Humans ) على أهمية إنسانية السجان قبل تصميم السجن. أحد المعتقلين السابقين لخّص الأمر بقوله: “الإيمان بكرامة الإنسان هو الأهمّ. هذا كلّ ما يحتاجه الإنسان – فقط أن يعامل كإنسانٍ آخر. تتوق فقط لأن تعامل بشكلٍ طبيعيٍّ.” وهذا ما يؤكده حاضرنا المرير مع تجربة سجن صيدنايا، إذ إنّ انعدام إنسانية السجان كان له الأثر الأكبر على وضع المعتقلين ضمن هذا السجن “الإنسانيّ” حتى صارت الزنازين أرحم عليهم: “يحنو عليك.. جدار زنزانتك يحنو عليك..” هكذا ابتدأ ماهر اسبر قصيدته الوحيدة في السجن متوجّهًا لصديقه.
بعد نهاية عصيان عام 2008، أمر مدير سجن صيدنايا الجديد بطلاء البناء الأساسي باللون الأحمر، كنوعٍ من التهديد والتذكير بالمجرزة التي ارتكبت بحق المساجين وقتها و راح ضحيتها بين 60 و100 سجين. كما تم تصفيح الطابق الأرضي بشكل كامل لزيادة الوحشية والقهر على المعتقلين وإفراغ السجن من كل التجهيزات السابقة حتى الأسرة.
يملك السجّان، في المعتقلات السورية، سلطة هائلة على عمارة السجن. يشارك في تصميمها لكن في وقت لاحق، وفق ما يقتضيه الإمعان في العقاب. ففي بعض السجون أجرى السجانون تغييرات لوظائف الفراغات، مثل تحويل الزنازين الإنفرادية الى جماعية والحمامات الى زنازين إنفرادية، كما ابتكروا غرف الملح وأغلقوا ساحة التنفس بالشبك والبلاستيك، فيما حوّلوا ساحات السجون الى أماكن للتعذيب الجماعي وحفلات استقبال المعتقلين الجدد.
خطوات ضئيلة نحو العالم السفلي
منذ اللحظة الأولى لتسلّم حافظ الأسد السلطة بعد انقلابه، قرّر أن يكون السجن أداة حكمه الأولى لسوريا، مثلما أدار البلاد كلّها كسجنٍ معنويٍّ ضخمٍ، من خلال بنى اجتماعية واقتصادية وسياسية تقيّد الأفراد بطرقٍ غير مرئية. حوّل النظام السجون “المادية” من هدفها الإصلاحيّ إلى أداةٍ لإرهاب المعارضين السياسيين وقمع الحريات، متجاوزًا فكرة معاقبة الفرد إلى تهديد المجتمع بأكمله، بـ “قوّة” الدولة وهيمنتها. ورغم أن السجون تعدّ بديلًا “أكثر إنسانيةً” لوسائل العقاب القديمة مثل الإعدامات العلنية والتعذيب، فإن السجون السوريّة استحالت أمكنة لتنفيذ أساليب العقاب القديمة وحتى اختراع أساليب جديدةٍ أكثر إجراميةً ووحشيةً من كلّ ما عرفه التاريخ. أصبح السجن الماديّ، بكلّ تفاصيله من التعذيب والقهر، نموذجًا مكثّفًا وامتدادًا للمنظومة القمعية خارج جدرانه؛ من تقييد الأفكار والحريات والقهر النفسيّ للمواطنين، إلى الفقر والتهميش، وزرع الخوف من خلال فرض سطوة المراقبة بشكلٍ دائمٍ، إذ أنّ أيّ محاولة لمقاومة السجن الكبير ستؤدّي بالمواطن إلى اختبار السجن الصغير.
كثرَت الأقوالُ عن حقيقة السجون العلنية والسرية في سوريا، وتضاربت المعلومات. آلاف الشهادات والقصص والحيوات غيّبت وراء هذه الجدران، ولا يزال مصيرها معلّقًا. وما يثير الرعب حقًّا أنّ صيدنايا قد لا يكون الأكثر إجرامًا بينها. في كتابه، يتحدّث بسام يوسف عن سجينٍ جديدٍ انضمّ إليه في سجن صيدنايا قائلًا: “كنا نتحلق حوله ليحكي لنا عن سجونٍ أخرى، سجونٍ سيذكرها التاريخ يومًا على أنها الأبشع في تاريخ البشرية الحديث.”
يمكننا القول إنّ صيدنايا ربما الأكثر شهرةً من بين السجون المعلن عنها بعد سجن تدمر، “البعبع” الذي خلقه النظام المجرم، ليكون قعراً لمراتب الجحيم، المحطّة الأخيرة لأي معتقل قبل الموت. بينما في واقع الأمر، فإن جميع أجهزة المخابرات والأفرع الأمنية تمتلك سجونها ومعتقلاتها ومقابرها المخفية عن الأنظار والأخبار، لكنهّا لم تكن مخفية بالطبع عن شهادات الناجين منها.
ونحن إذ تحدثنا عن هذا الجحيم من وجهة نظر معمارية فإنّنا لم نذهب أبعد من بضع خطوات داخله، واصفين قهر الحجر لا البشر، فالسجون على اختلافها هي “أداة و وسيلة” في يد سلطة قمعية أعلى استخدمتها في “محاولات للترويض“، فشلت غالبًا، ولهذا لم يسمح بخروج معظمهم أحياءً. وما ساهم في تعزيز غيابهم، هو ضياع الوثائق وإتلافها، والذي قد لا يكون إلّا البداية للبحث في هذه القضيّة.
خط 30
————————————
«حراس الدين» وقد حلّ نفسه… فقاعة صوتية أم تهديد مبطن؟/ سلطان الكنج
دلالات البيان والعلاقة مع «تحرير الشام» من الولاء إلى العداء
16 فبراير 2025 م
في نهاية شهر يناير (كانون الثاني) الفائت، ومن دون مقدمات مسبقة، أعلن الفرع السوري لتنظيم «القاعدة»، المعروف بتنظيم «حراس الدين»، حلّ نفسه رسمياً، مؤكداً في بيان أن قراره جاء بعد ما وصفه بـ«تحقيق النصر المبين» بإسقاط نظام الرئيس السوري السابق بشار الأسد.
وأعاد هذا البيان تسليط الضوء على تنظيم يفترض أنه انتهى عملياً على الأرض، كما وأثار تساؤلات حول حجمه الفعلي، واختياره توقيت هذا الإعلان. فقد دعا التنظيم الإدارة الجديدة في سوريا إلى الحفاظ على السلاح بيد «أهل السنة»، ونصحها بـ«إقامة الدين وتحكيم الشريعة»، معتبراً أن سوريا لا تزال ساحةً للمعارك الكبرى ضد «الطغاة والمستعمرين»، وداعياً مقاتليه السابقين للاستعداد لأي استحقاقات مستقبلية.
كذلك شدد «حراس الدين» على أنه سيبقى مستعداً لتلبية أي «نداء استغاثة» في مناطق المسلمين، متمسكاً بـ«ثوابته الشرعية دون تغيير أو تمييع».
لكن هل لا يزال لتنظيم «القاعدة» أي وجود في سوريا؟ وهل فعلاً هناك أهمية لتوقيت البيان؟
تحدثت «الشرق الأوسط» إلى عدد من المصادر، بينهم قيادي سابق في «حراس الدين»، يكنّى بأبي عبد الرحمن الحلبي، التحق بصفوف «هيئة تحرير الشام»، بعد انتهاء التنظيم فعلياً في منتصف عام 2020.
قال الحلبي: «لا يتجاوز البيان كونه خطوةً إعلاميةً، فالتنظيم لم يعد له وجود حقيقي على الأرض، وهو يحاول فقط الإيحاء بأنه لا يزال حاضراً وفاعلاً في سوريا». وأضاف: «عملياً هناك بعض المتعاطفين لكن من دون انتماء تنظيمي. لذا، يمكن اعتبار البيان بمثابة تعزية للأنصار السابقين، وليس أكثر».
وأوضح الحلبي: «في بداية تشكيل (حراس الدين)، كانت لدينا قناعة بأن (تحرير الشام) تنحرف عن أهداف الجهاد وغاياته، بدءاً بقبولها بالوجود التركي وحماية نقاط الجيش التركي والتنسيق مع تركيا، ثم رفضها مطالب القادة العسكريين بضرورة فتح معركة ضد قوات النظام في ريف اللاذقية أو إدلب. وبرّرت قيادة الهيئة حينذاك بأن أي عمل عسكري ليس في مصلحة المعارضة، وكنا نرى هذا مجرد ذَرٍّ للرماد في العيون، وأن (تحرير الشام) كانت في الحقيقة ملتزمة باتفاق آستانة».
النشأة والشقاق
وكان تنظيم «حراس الدين» تشكل في فبراير (شباط) 2018 من عدة تجمعات صغيرة، مرتبطة ببيعة شرعية لأيمن الظواهري، لكن سرعان ما بدأ يظهر الشقاق بين تيارات متباينة داخل هذه الجماعات نفسها بين خط جهادي محلي مطالب بفك الارتباط عن تنظيم «القاعدة» وقيادة الظواهري (تحرير الشام)، وخط جهادي عالمي ومدافع عن البقاء تحت رايتها كحال «حراس الدين».
وشهدت الفترة بين عامي 2019 و2020 مواجهات متكررة بين «هيئة تحرير الشام» وتنظيم «حراس الدين»، وتصاعدت حدة الاشتباكات بين الطرفين، خصوصاً بعد تشكيل غرفة عمليات «فاثبتوا» التي قادها «حراس الدين». وبلغ هذا الصراع ذروته في مايو (أيار) 2020، عقب قيام «تحرير الشام» باعتقال أبو مالك التلي، الزعيم السابق لـ«جبهة النصرة» في القلمون، الذي كان قد انشق عن «تحرير الشام» وأصبح مقرباً من «حراس الدين»، إضافة إلى اعتقال القيادي أبو صلاح الأوزبكي.
على أثر هذه الأحداث، تمكنت «حراس الدين» من السيطرة على بعض مواقع «تحرير الشام» في ريف إدلب الغربي، لكن الأخيرة سرعان ما ردت باستخدام القوة العسكرية، ما أدى إلى تفكيك غرفة عمليات «فاثبتوا» بالكامل.
وبهذا الإجراء، أنهت «تحرير الشام» فعلياً وجود تنظيم «حراس الدين» ككيان عسكري مستقل.
جدير بالذكر أنه عندما كان قادة «حراس الدين»، ضمن «جبهة النصرة»، لعبوا دوراً كبيراً في المواجهات التي خاضتها الأخيرة ضد بعض فصائل «الجيش الحر» في إدلب وريف حلب.
وفي تلك الفترة استخدم أحمد الشرع (الجولاني) قادة «حراس الدين» وثقلهم في الوسط الجهادي لتحقيق مكاسب كبيرة، سواء في تصفية الفصائل المنافسة، أو في تثبيت حكمه في إدلب. ولكن، عندما رأى أنهم باتوا يشكلون خطراً على مشروعه، عمل على القضاء عليهم، مستغلاً فشلهم التنظيمي والإعلامي، بالإضافة إلى عدم قدرتهم على تكوين حاضنة اجتماعية في إدلب، مما جعلهم عرضة للتهميش والاستهداف. كما تعرضوا حينها لهجمات مباشرة ومؤلمة من التحالف الدولي اتهم الجولاني بالتنسيق فيها.
ويقول الحلبي: «قُتل بعض القادة، وسُجن آخرون، بينما اختار كثيرٌ من العناصر الصمت والعزلة تفادياً للصدام مع (تحرير الشام)، لأن ذلك لم يكن في مصلحة ما يُعرف بـ(الجهاد الشامي)، أي الثورة في سوريا».
ويضيف: «بعد انهيار (حراس الدين) كتنظيم على الأرض، عاد بعض عناصره – وأنا منهم – إلى (تحرير الشام)، لإدراكنا أن الارتباط بـ(القاعدة) لم يعد خياراً مجدياً، بل قد يضرّ بالثورة السورية والمشروع الجهادي ككل في سوريا».
من الجولاني إلى الشرع
يقول عروة عجوب، طالب الدكتوراه في جامعة مالمو، السويد، والمختص بشؤون الجماعات الجهادية، لـ«الشرق الأوسط»، إن تنظيم «حراس الدين»، «لم يعد له وجود فعلي منذ عام 2021، عندما شُكِّلت غرفتا عمليات (وحرض المؤمنين) و(فاثبتوا) بمشاركة عدة فصائل محلية غاضبة من النهج البراغماتي لزعيم (هيئة تحرير الشام) آنذاك أبو محمد الجولاني». ويشير عجوب إلى أن «الجولاني (أحمد الشرع)، شعر في ذلك الوقت بأن هذه الفصائل قد تشكّل تهديداً مباشراً لنفوذه في إدلب، ما دفعه إلى تفكيك هذه الغرف، ومنع أي محاولات لاحقة لتشكيل فصائل أو غرف عمليات جديدة».
ويعتقد عجوب أن العداء بين الجولاني وتنظيم «القاعدة» بدأ فعلياً منذ انفصال «هيئة تحرير الشام» عن «القاعدة» عام 2016، وأن الجولاني استطاع لاحقاً، بالتعاون مع التحالف الدولي، القضاء على تنظيمي «داعش» و«حراس الدين» داخل مناطق سيطرته.
ويرى عجوب أن الإعلان الجديد عن التنظيم يهدف بالدرجة الأولى إلى إثبات الوجود، لافتاً إلى أنه يستبعد أي مستقبل لتنظيم «القاعدة» في سوريا بعد تحوّل «هيئة تحرير الشام» إلى السلطة، ويقول: «عندما كانت الهيئة مجرد فصيل مسلح، كانت تتهم (القاعدة) بالغلو وتقوم بملاحقة عناصرها، فكيف وقد أصبحت اليوم السلطة الشرعية؟».
ويتفق الحلبي مع وجهة النظر هذه، قائلاً: «لن يكون لـ(القاعدة) أي مستقبل في سوريا بعد انتصار (تحرير الشام)، كما أن المجتمع السوري ليس مستعداً لقبول أي تنظيم فصائلي الآن. كذلك، فإن أحمد الشرع بات يتمتع برمزية كبيرة بين الفصائل والمقاتلين، ما يجعل من المستحيل على (القاعدة) إحياء نفسها حالياً».
شركاء النصر
في المقابل، يقول قيادي في «الجيش الحر» سابقاً، مفضلاً عدم ذكر اسمه، لـ«الشرق الأوسط»: «رغم الانهيار الميداني، سعى (حراس الدين) عبر إعلان حل نفسه إلى التأكيد على أن (القاعدة) لا تزال موجودة وفاعلة في سوريا، وأنها جزءٌ من (انتصارات الثورة) ضد النظام، في محاولة لإعادة إنتاج دورها في المشهد (الجهادي). كما أراد التنظيم تذكير خصومه، خصوصاً (تحرير الشام)، بأنه كان شريكاً أساسياً في مسيرتهم، وبأنه ساهم في توجيه زعيم (الهيئة)، أحمد الشرع أو أبو محمد الجولاني، نحو فك ارتباطه بـ(القاعدة) بدعوى مصلحة الثورة السورية».
ولفت المصدر إلى أن التنظيم يرى نفسه «المدبر الرئيسي لمشروع أحمد الشرع، وأنه هو من خلّصه من تنظيم (داعش) ومنحه الشرعية، وهذا البيان هو محاولة لاستثمار هذا القرار لصالحه عبر الإظهار أنه لا يعارض مصلحة الشعب السوري، بل كان جزءاً ممن قاتلوا لتحقيق مصالحه».
وتحدثت «الشرق الأوسط» إلى قيادي داخل «تحرير الشام» (سابقاً)، مفضلاً عدم ذكر اسمه، فاعتبر أن بيان «حراس الدين» هو محاولة من تنظيم «القاعدة» لتخليص السلطة الجديدة من تركتها لإتاحة المجال أمامها نحو نيل الشرعية الدولية كأن تزيح حملاً ثقيلاً ما زلت بقاياه ملقاة على كاهلها، وأن «القاعدة» ليست عثرةً في طريق إدارة أحمد الشرع الوليدة.
كذلك عدَّ القيادي السابق أن تنظيم «القاعدة»، «يسعى لتسهيل استقلال (هيئة تحرير الشام) بقيادة أحمد الشرع (أبو محمد الجولاني) فعلياً عن ماضيها، لكنه في المقابل، يدرك أهمية كسب المجتمع المحلي السوري، خصوصاً الحواضن الاجتماعية للثورة، من خلال إظهار نفسه أنه لا يعرقل مصالح سوريا الجديدة الإقليمية والدولية».
ويحاول تنظيم «القاعدة»، حسب المصدر أيضاً، إظهار قدرته على التعامل البراغماتي مع الواقع السياسي، وتبني تكتيكات مرنة خدمةً للمصلحة الكبرى، حتى لو تعارض ذلك ظرفياً مع مصلحة التنظيم نفسه. وكان أيمن الظواهري أشار في أحد خطاباته إلى هذه المقاربة عند تعليقه على انفصال «جبهة النصرة» عن «القاعدة» في صيف 2016، مؤكداً أن «القاعدة» ليست عائقاً أمام الثورة السورية.
هذا التوجه يهدف إلى تقديم «القاعدة» تنظيماً قادراً على التأقلم، خلافاً لتنظيم «داعش»، الذي يرفض تغيير استراتيجيته بغض النظر عن الواقع السياسي والعسكري. فـ«القاعدة» يرى أن المرونة في الوسائل يحقق أهدافه الاستراتيجية العامة، في حين أن «تنظيم الدولة» يعدُّ الوسائل جزءاً لا يتجزأ من العقيدة، ولا يقبل بتغييرها.
محاولة «القاعدة» نسب نجاح «تحرير الشام» إلى استراتيجيتها وسعيها إلى تجنب الاعتراف بأن استقلال «تحرير الشام» كان شرطاً أساسياً لنجاحها. لذلك، تحاول تصوير هذا الانفصال على أنه قرار استراتيجي مدروس من قِبَل قيادتها هي. وعلى رغم وجود جناح داخل «القاعدة» وقتها لم يكن راضياً عن انفصال «جبهة النصرة»، فإن النجاحات التي حققتها «تحرير الشام» دفعت «القاعدة» إلى اعتبار هذا القرار خطوة حكيمة أفرزت نتائج إيجابية، يجعلها شريكة في هذا النجاح.
وبهذا، تريد «القاعدة» أن تُشعر «تحرير الشام» أو السلطة الجديدة بأنها مدينة لها، ولهذه السياسة البراغماتية، وأن ارتباطهما ليس صفحة سوداء يجب طيّها، بل جزء من تاريخ «الجهاد» الذي أدى إلى انتصار مهم في سوريا.
تهديد مبطن
إلى ذلك، قد يحتوي موقف «القاعدة» أيضاً على تهديد مبطن للسلطة الناشئة، مفاده أن التنظيم قادر على إعادة تشكيل نفسه داخل سوريا إذا لم تحقق «تحرير الشام» بحلتها الجديدة الأهداف الكبرى، مثل تطبيق حكم إسلامي لا يخرج عن الإطار العام الذي تتبناه، وأن تتجاهل «تحرير الشام» هذا الخط بالتوسع في التنازل عنه، بحيث تبقى ضمن الهوامش التي يمكن التنازل عنها مرحلياً. ومن ملامح الخط العام هذا تجنب إشراك الليبراليين والعلمانيين بالمشهد السياسي الوليد.
وفي البيان تلويح بإمكانية شنّ حرب ضد أي ثورة مضادة تقودها الأقليات أو القوى العلمانية، وتراهن «القاعدة» على تبلور تيار متشدد داخل «تحرير الشام» وباقي الفصائل يعارض التوجه البراغماتي للقيادة الحالية، مما يفتح المجال أمام تشكيل تكتلات معارضة أكثر تشدداً.
وهنا، قد يلعب «القاعدة» دور المحرك لهذا الاستياء، خصوصاً إذا ابتعدت «تحرير الشام» عن الأسس العقائدية التي يتبناها الجهاديون المحليون، حتى وإن كانوا أقل تشدداً من الجهاديين التقليديين.
مستقبل «القاعدة» في سوريا
يعتمد مستقبل «القاعدة» في سوريا على عدة عوامل؛ أهمها احتمالات وقوع صراع طائفي. فإذا تطورت أعمال العنف المتفرقة التي تحدث في بعض المناطق إلى صراع طائفي واضح المعالم، نتيجة تحركات فلول النظام أو تدخلات إيرانية مباشرة، قد تجد «القاعدة» في ذلك بيئة خصبة لإعادة بناء نفوذها وتأجيج نزاع طائفي، لا سيما وأنها تملك باعاً طويلاً في ذلك. العامل الآخر أنه يمكن استغلال الانقسامات داخل «تحرير الشام» في حال نشبت خلافات تعارض براغماتية الإدارة الجديدة وتتربص بها؛ هنا تقدم «القاعدة» نفسها خياراً بديلاً للجهاديين المحليين. إلا أن نجاح هذا الخيار يتوقف أيضاً على تطورات الأوضاع الأمنية، وتعامل «هيئة تحرير الشام» مع الفئات الغاضبة أو الأكثر تشدداً من جهة، ورد فعلها إذا لمست تشكل نواة صلبة ضدها. فـ«تحرير الشام» تمتلك خبرة واسعة في مواجهة الجماعات الجهادية، مستفيدةً من معرفتها العميقة بأساليبهم الأمنية وطرق تشكيلهم للخلايا النشطة، وكانت إدلب المنطقة الأكثر نجاحاً في مطاردة «تنظيم الدولة» والمتعاطفين معه. هذه الخبرة نابعة من تجربة «الهيئة» نفسها في مراحلها الأولى، حين مرت بظروف مماثلة قبل أن تصبح القوة المهيمنة في إدلب. وعلى هذا الأساس، تمكنت من فرض قبضتها الأمنية ضد الجماعات الجهادية على نحو أكثر فاعلية من «الجيش الوطني» أو «قوات سوريا الديمقراطية» (قسد) على السواء.
الشرق الأوسط
—————————
دمشق في عهد الأسدين… صورة الابن تُخفي صورة الأب/ ميار مهنا
17 فبراير 2025
خلال الأيام الأولى بعد سقوط النظام السوري، تجمع عدد من الشبان لإزالة صورة ضخمة لبشار الأسد، متموضعةٍ على جدار كبير في مطار المزة العسكري في دمشق. وفي أجواء احتفالية، بدؤوا بإزالة الصورة وتمزيقها، ضمن حالة رمزية لا تكثف فكرة الانتصار السياسي فحسب، بل الرغبة العارمة في “تنظيف” عاصمتهم، وتخليصها من التشوه البصري والنفسي الذي أغرقها فيه النظام السابق. الطريف في الأمر هو أن عملية نزع الصورة الضخمة لبشار الأسد، سرعان ما كشفت عن صورة أخرى تحتها، بالقياس نفسه، لحافظ الأسد.
طرافة هذا المشهد، بمرارتها وسوداويتها، هي طرافةٌ موحيةٌ تعبّر عن تراكب طبقتين من التشوه فوق وجه دمشق، في عهد الأسدين الأب والابن، الذي استمر لـ54 عاماً. عهد غيّر ملامح المدينة وهويتها المعمارية، مروراً بساحاتها وحدائقها ونهرها الأهم، بردى، بتفرعاته السبعة، ووصولاً إلى أسماء الأزقة والشوارع والساحات، وليس انتهاءً بالطريقة الكاريكاتيرية لانتشار صور بشار الأسد في كل مكان، والعلم ذي النجمتين بوصفه طلاءً معتمداً للحواجز الإسمنتية ولواجهات المحلات التجارية، في عملية تسخيفٍ وامتهانٍ فظيعة لرمزٍ وطني تاريخي، عبّر عن مرحلة الوحدة بين سورية ومصر، عبر تحويله بالإرغام من علم لكل السوريين إلى علمٍ للنظام الحاكم، بل للسلطة الحاكمة تحديداً، وزعيمها بشار الأسد.
المخططات الأولى لتشويه الهوية المعمارية لدمشق، أقدم المدن المأهولة في العالم، لم يضعها بشار الأسد ولم يضعها أبوه من قبله، ولكنهما “أفضل” من حولها إلى واقع. دارسو العمارة الدمشقية يعرفون جيداً اسم ميشيل إيكوشار، المهندس الفرنسي الذي صاغ تصوراً محدّداً لإعادة رسم دمشق في ثلاثينيات القرن الماضي، خلال مرحلة الاحتلال الفرنسي لسورية. ضمن تصوره الهزلي عن العصرنة والتحديث، وضع إيكوشار تصوراً لشق المدينة القديمة عبر مجموعة من الشوارع العريضة المستقيمة، بينها ما بات يعرف لاحقاً بـ”شارع الثورة”، ونُفّذ نهاية ستينيات القرن. كان الغرض من تخطيط إيكوشار له، كما تبين الباحثة السورية ناديا خوست، شَقّ وتدمير أجزاء مهمة من الحي العربي في ساروجة، الذي كان معقلاً من معاقل المقاومة الوطنية ضد الفرنسيين.
الهوس الغربي في إعادة رسم بلداننا باستخدام المستقيمات، امتد من طريقة رسم خرائط سايكس بيكو إلى التنظيم الداخلي للمدن؛ مستقيمات وظيفتها شقّ المدن القديمة وتدمير هويتها وتبسيطها، عبر تفكيك تعقيدها وغناها وتداخلها المتناسب مع طبيعة الشعوب التي تسكنها، التي لطالما رأت في الأقواس والقناطر والدوائر تعبيراً أكثر دقة عن غناها ومرونتها وقدرتها على احتضان بعضها بعضاً، وعلى التفاعل المرن مع العواصف السياسية المستمرة عبر تاريخها الطويل، إذ تبتلع غزاتها وتعيد إنتاجهم، محافظة على جوهرها. لم يُقدَّر لمخططات الفرنسيين أن تتحول إلى واقع، إلا بعد أكثر من عشرين عاماً من جلائهم عن سورية، وعلى يد نظام البعث بأطواره المتعاقبة، خاصة الأسدين.
إذا حاولنا تقصّي التشوهات التي أحدثها الأسدان في وجه دمشق وعموم سورية خلال أكثر من نصف قرن، فسنجد أنفسنا، وكما مثال الصورة في مطار المزة، أمام عدة طبقات من التشوه متراكبة بعضها فوق بعض.
الطبقة السطحية الأولى، تتمثل بصور الأسدين وتماثيلهما والشعارات الموزعة على الجدران التي ما تزال عمليات إزالتها مستمرة وقد تأخذ وقتاً. الطبقة الثانية هي أسماء الشوارع والساحات والمرافق العامة؛ “جسر الرئيس حافظ الأسد”، و”مكتبة الأسد”، و”مشفى الباسل”، و”مدينة البعث”، و”شارع الثورة” نسبةً إلى ما يُسمّى ثورة الثامن من آذار التي استولى عبرها البعث على السلطة عام 1963 بانقلاب عسكري… وغيرها من الأمثلة التي قد تصل، من دون مبالغة، إلى عشرات الآلاف في مختلف محافظات سورية.
الطبقة التالية هي المناهج الدراسية في المدارس والجامعات، التي لا تقتصر على التمجيد المباشر للأسدين، وصولاً إلى تسمية حافظ الأسد بـ”القائد المؤسس”، وكأن تاريخ سورية قد بدأ بالذات من الانقلاب الذي قام به، بل تمتد إلى العبث بالتاريخ الوطني السوري. على سبيل المثال، يحدث ذلك من خلال تحويل قادة الثورة السورية الكبرى (1925 – 1927)، من قادة وطنيين إلى رموزٍ محلية وطائفية، بما ينسجم مع محاولة محو التاريخ وتقصير قامات كبرى فيه، لتأمين بروز عالٍ لقامة حافظ الأسد، ومن بعده بشار.
هناك طبقات أخرى أكثر عمقاً ورمزية، ربما يقدّم التحول الذي جرى على تمثالٍ شهير ليوسف العظمة مثالاً مهماً عنها. يوسف العظمة هو وزير الحربية الذي قاد معركة ميسلون ضد الغزو الفرنسي لدمشق عام 1920، واستشهد فيها، مثبتاً المقولة الشامية: “لا يدخلون إلا على جثثنا”، ممهّداً الطريق لـ25 سنة من المقاومة المستمرة للفرنسي في كل أرجاء سورية.
عرف السوريون تمثال يوسف العظمة للمرة الأولى عام 1938، وكان تمثالاً مشابهاً للتمثال الموجود الآن في ساحة المحافظة (ساحة يوسف العظمة)، وسط دمشق وقرب ساحة السبع بحرات. مع فارق مهم، التمثال الأول كان رافعاً سيفه، وأما الحالي الذي نُصب عام 2007، فسيفه موضوع في غمده.
للتمثال الأول قصة فريدة لن نطيل في تفصيلها هنا، ولكن مختصرها هو أن الجالية السورية في البرازيل، وفي ساو باولو تحديداً، هي من تبرعت لإنشائه وصُمّم في البرازيل وأُرسل إلى سورية في النصف الأول من عام 1938، وكان في استقباله كل من شكري القوتلي (وزير الدفاع آنذاك)، وفائز الخوري وفخري البارودي، النائبين عن دمشق في المجلس النيابي، وعادل العظمة مدير وزارة الداخلية.
المفارقة التاريخية هي أن التمثال شاهر السيف، نُصب واحتُفي به رغماً عن الفرنسيين، وخلال وجودهم بصفة انتداب على الأرض السورية. أما التمثال الحالي ذو السيف الموضوع في غمده، فنُصب عام 2007 بعد شهر العسل بين بشار الأسد والدول الغربية، خاصة فرنسا التي تولى رئيسها جاك شيراك مهمة تأمين حملة علاقات عامة لبشار الأسد في الدول الغربية عبر استقباله في الإليزيه.
الطبقة التالية هي الهوية المعمارية لدمشق خاصة، لأن نظام الأسدين لم يُعِر اهتماماً جدياً لأي من المحافظات السورية على مستوى التنمية.
وربما يمكن للمرء اليوم أن ينظر “إيجاباً” إلى هذه المسألة، لأن قلة اهتمام الأسدين بتنمية المناطق السورية، قد رحمتها في كثير من الأحيان من العبث المنظم الذي طاول دمشق؛ فإلى جانب السرقة الممنهجة لآثار المدينة والبلاد كلها، في عملية “تعفيش” كبرى استمرت طوال نصف قرن، فإن إصرار الأسدين على مركزة كل دوائر الدولة ضمن العاصمة دمشق، حوّلها إلى سجن كبير بأبنية إسمنتية باهتة وقبيحة. عملية التمركز هذه كانت تهدف قبل كل شيء، إلى تمرير كل شرايين البلد الاقتصادية تحت نظر المركز وتحكمه، فيتيح له ذلك امتصاص أكبر قدر ممكن منها. في حين تلجأ كل الأنظمة التي تحترم تراث بلدانها إلى الحفاظ على المدن القديمة وترميمها باستمرار، مع بناء مدن موازية وظيفتها استيعاب النمو السكاني، وتأمين الوظائف الإدارية والتنظيمية والخدمية، أو إيجاد حلول إبداعية بين هذه وتلك، تحافظ على التراث وتؤمن الخدمات.
يُعبّر كل من ساحة السبع بحرات، ومشروع “وردة أسماء”، تعبيراً مكثفاً عن مفاهيم “الحداثة والتطوير” من وجهة النظر عديمة الذوق للسلطة السابقة؛ فالسبع بحرات ساحة تاريخية مقابلة للمصرف المركزي السوري، وتمثل جزءاً من تاريخ المدينة وهويتها الشامية الممتدة من البيوت القديمة إلى وسط العاصمة. نسفتها أسماء الأسد قبل أكثر من سنة بقليل، وأعادت تصميمها لتظهر معدومةَ الروح. كُسرت الاستدارة الطبيعية للبحرة، الراسخة في وجدان الدمشقي، وتحولت إلى مستقيمات حادة هندسية تجعل من البحرة فكرة مجردة ومشوهة، وشبيهة إلى حد بعيدٍ بتنظيراتها وتنظيرات بشار الأسد المستمرة، وحربهما الشعواء في إعادة تعريف المصطلحات، انطلاقاً من ضرورة “تعليم الشعب الجاهل”.
كذلك الأمر مع مشروع “وردة دمشق”، أو “وردة أسماء”، كما يُطلق عليه السوريون، وهو مشروع غريب كل الغرابة وقبيح أشد القبح، أُنشئ عبر سنوات مكان مدينة المعارض القديمة، التي شكلت مع أغاني فيروز جزءاً من هوية سورية طوال عقود. “وردة أسماء” هي وردة إسمنتية ضخمة عديمة الوظيفة، وعديمة الجمالية، تعيد تأكيد الطريقة التجريدية المنفصلة عن الواقع التي سعت السلطة إلى فرضها على دمشق، وعلى السوريين.
الطبقات التي أشرنا إليها هنا، يمكن النظر إليها بمجموعها على أنها الطبقة الأولى فقط التي يحتاج السوريون إلى إزالتها عن وجه بلادهم. أما الطبقات الأخرى الأعمق، النفسية والفكرية والاجتماعية، فذلك حديث آخر أكثر عمقاً وهولاً في آن.
العربي الجديد
——————————–
عن “سياسة الاستيعاب” في سورية/ هيفاء بيطار
17 فبراير 2025
من أكثر قرارات حافظ الأسد خطأ اتخاذه قرار “سياسة الاستيعاب”. وهذا يشمل كل مؤسسات الدولة، لعدم وجود خطط مدروسة من قبل اختصاصيين عن حاجة كل قطاع من قطاعات الدولة إلى الموظفين. مثلًا، كانت أعداد طلاب كليات الحقوق في الجامعات السورية (خاصة دمشق وحلب) بالآلاف. وأعداد طلاب الطب في جامعات سورية أيضًا بالآلاف. كذلك بقية الاختصاصات، أي لم تكن هنالك دراسة دقيقة بشأن حاجة المجتمع السوري إلى خريجي الجامعات. وأذكر أن إسبانيا اتخذت منذ سنوات قرارًا بإغلاق كلية الطب لمدة خمس سنوات، لأن عدد الأطباء في إسبانيا صار كبيرًا وكافيًا للمجتمع.
أعداد كبيرة من الطلاب السوريين من خريجي الجامعات لم يجدوا وظيفة. مثلًا طلاب المعهد الطبي (وهم طلاب حققوا مجموعًا جيدًا في البكالوريا) كانت الدولة السورية غير مسؤولة عن توظيفهم وأعدادهم بالآلاف. وأنا درَّست لمدة ثلاث سنوات ثلاثة صفوف في المعهد الطبي. كانوا مُحبطين ويشعرون بالقهر والظلم لأن الدولة غير مسؤولة عن توظيفهم (رغم الراتب الهزيل). وكانوا قلقين من ألا يتمكنوا من إيجاد عقد عمل في دول الخليج، أو السعودية.
من خلال عملي كطبيبة اختصاصية في طب العيون وجراحتها لمدة ربع قرن في المشفى الحكومي الوطني في اللاذقية، كنت أرى خيبة كبيرة وقهرًا من “سياسة الاستيعاب” التي قررها حافظ الأسد. مثلًا، يحتاج قسم الجراحة العظمية لخمسة أطباء يقومون بعملهم بإخلاص. هذا العدد كاف لإجراء عمليات جراحية لمرضى الجراحة العظمية، ولكن “سياسة الاستيعاب” التي فرضها حافظ الأسد أمرت بتوظيف عشرين طبيبًا اختصاصيًا في الجراحة العظمية، أي بدل أن يكون راتب الطبيب كافيًا لعيش كريم في حال الاكتفاء بخمسة أطباء يتم توزيع الرواتب على عشرين طبيبًا. طبيب اختصاصي درس على الأقل عشر سنوات كان راتبه (في زمن حافظ الأسد، حيث كان الدولار بخمسين ليرة سورية فقط) لا يكفيه أربعة أيام ثمن طعام لأسرته، الأمر ذاته كان ينطبق على كل أقسام المشفى الوطني (وكل مشافي سورية الحكومية). في قسم العينية في المشفى الوطني في اللاذقية كان يكفي توظيف ستة أطباء اختصاصيين في طب العيون نسبة لعدد المرضى والمُراجعين، لكن تم توظيف خمسة عشر طبيبًا لا عمل لهم سوى الثرثرة، وشرب القهوة والشاي، والإسراع إلى عياداتهم الخاصة كي تؤمن لهم عيشًا كريمًا.
شملت “سياسة الاستيعاب” المستوصفات الطبية التابعة لوزارة الصحة، حيث تجد في كل مستوصف أكثر من عشر ممرضات، بينما تكفي ممرضتان ليسير العمل على أتم وجه، والطبيب الاختصاصي في المستوصف كان يبقى في دوامه ساعتين على الأكثر، ثم يُسرع إلى عيادته الخاصة. وأكثر الأطباء كانوا يدسون بطاقة العيادة في يد المرضى كي يراجعوهم في عياداتهم الخاصة. طبعًا، هذا سلوك غير إنساني، ومُعيب، ويتنافى مع قسم أبوقراط، وهو ظالم ومجحف في حق المريض (الفقير)، فمن يقصد المستوصفات عادة الفقراء، لكن لفهم أي سلوك، وقبل إطلاق الأحكام الأخلاقية، يجب أن نسأل عن الأسباب، فحين يجد الطبيب الاختصاصي نفسه، بعد أن درس أكثر من عشر سنوات، والغرق في القروض المصرفية من أجل عيادته الخاصة، سيشعر كم هو مُحتقر ومظلوم حين يكون راتبه يُعادل مثلًا راتب متخرج/ة من الصف الخاص، أي الذين يدرسون سنة فقط بعد البكالوريا. رواتب الاحتقار الهزيلة جدًا تضطر كثيرًا من الأطباء والمهندسين والأساتذة، وكل العمال في مؤسسات الدولة، إلى اتباع أساليب لا إنسانية، وإلى طلب رشاوى بطرق عديدة، إلى درجة أنْ ترسّخ في ذهن المواطن السوري أن الرشوة من أساس وضرورة إجراء أية معاملة في الدولة. لا أنسى منظر الممرضات، خاصة في المستوصفات البعيدة عن اللاذقية، كيف كن يحكن كنزات الصوف، ويشتركن في حفر الكوسا والباذنجان لتحضير المحاشي (يأخذونها إلى بيوتهم)، حتى أن بعض الممرضات كن يغرقن ساعات في نوم عميق على السرير المُخصص لفحص المرضى. ولم تكن هنالك للأسف أيه محاسبة، أو رقابة، لهذا الوضع المزري، الذي تسبب به قرار حافظ الأسد في “سياسة الاستيعاب”، التي شكلت، أو ورطت، معظم السوريين الموظفين لدى الدولة في مختلف أشكال الفساد، من إعطاء تقارير طبية كاذبة لموظف يحتاج إلى تقرير طبي وهو لا يشكو من شيء، يدفع للطبيب مبلغًا حسب مدة التقرير، إلى فساد مُروّع أحدث فضيحة مجلجلة في سورية حين اكتشف أن عددًا من الأطباء الاختصاصيين يعفون شبابًا سوريين من الخدمة الإلزامية (كي لا يلتحقوا بالجيش السوري). كان الأطباء المُخولون بإعفاء أولئك حصرًا من الأطباء المتعاقدين مع الجيش، أي ممن درسوا على حساب الجيش. كانوا يقبضون الملايين من أسر الشباب الذين لا يريدون الخدمة العسكرية. وبسبب تنامي هذه الظاهرة كسرطان في المجتمع السوري تفجرت فضيحة، وفعلًا تم شكليًا سجن بعض الأطباء، وحين كتبت مقالًا عن الفساد الطبي، وذكرت حالات الغش في إعفاء شباب أصحاء تمامًا من خدمه الجيش، رفضت جلّ جرائد سورية نشر مقالي (كنت أنشر قبل عام 2011 مقالًا أسبوعيًا في جريدة “الثورة”). تم رفض نشر مقالي بحجة أن الجيش وأطباء الجيش ومدربات الفتوة خط أحمر.
“سياسة الاستيعاب” هي بطالة مقنعة، وكم كان مُخجلًا منظر الأطباء بعد أن يخربشوا توقيعهم على دفتر الدوام ويتجهوا إلى الكافتيريا الخاصة بالمشفى ليشربوا الشاي والقهوة، ويثرثروا، ثم يتجه كل منهم إلى عيادته الخاصة، لأن عددهم زائد كثيرًا عن حاجة المشفى. ولا أنسى تلك الحادثة حين طلبت من ممرضة تعمل في قسم العينية في المشفى الوطني ألا تعطي المريض الذي سأجري له عملية ماء زرقاء (ساد) دواء، وكتبت هذه الملاحظة على إضبارة المريض، لكنها أعطته الدواء، وبمعجزة لم يتأذ المريض. يومها، قلت لها بلهجة قاسية: إهمالك كان يُمكن أن يقتل المريض. نظرت إلي بشيء من سخرية وغضب، وقالت لي جوابًا لا أنساه أبدًا: دكتورة، يعني من أهمية الراتب.
من الصعب، إن لم أقل من المستحيل، أن تطلب من إنسان أن تكون لديه قيم إنسانية وهو مسحوق، وكرامته مُهانة، جائع وراتبه راتب الاحتقار، إنسان مُهان مُحتقر بالكاد يؤمن لقمة العيش يصعب أن يكون إنسانيًا، لأن فاقد الشيء لا يعطيه.
“سياسة الاستيعاب” كانت حجر الأساس في الغش والرشاوى، وعدم احترام العمل، حيث يجد الموظف نفسه محشورًا في زاوية لا يستطيع الهروب منها، فهو موظف وهمي لا عمل له، لكن حافظ الأسد وظفه براتب لا يساوي شيئًا، وترك له حرية اختيار شكل الفساد المتناسب مع مهنته، سواء أكان طبيبًا، أو محاميًا، أو أستاذًا، أو ممرضًا… إلخ.
حافظ الأسد بـ”سياسة الاستيعاب” دمر إلى حد كبير احترام العمل، وكرامة العامل السوري، في كل المجالات، وزجّ بالموظفين في تنوعات لا تخطر على بال من طرق الفساد والرشاوى، وما من محاسبة، لأنه مهندس الفساد، والأذى، والقتل.
ضفة ثالثة
———————–
الشرع يرفع علم التحرير أمام مدرسة حافظ الأسد/ بثينة عوض
الأحد 2025/02/16
أنا طفلة من إحدى القرى الفقيرة في ساحل سوريا، حيث الجبال الشاهقة تحتضن بيوتاً بسيطة وأناساً بسطاء بكرمهم وأصالتهم. لم أعرف حتى سن السادسة سوى رائحة خبز التنور، وجمع البلوط، وقطف نبتة “الزوفا”، فيما كانت الجبال تمتد أمامي كعالم لا حدود له.
في ذلك العام، ركبت البوسطة الوحيدة في قريتنا لأول مرة، متجهة إلى مدينة اللاذقية. كانت دهشتي لا توصف أمام الكتل الإسمنتية الشاهقة، والسيارات المتدفقة، وذلك البناء الجميل الذي جذب نظري. التفتُ إلى عمي، الذي كان آنذاك شيوعياً، فسألته عن المبنى، فقال لي: “هذه مدرسة جول جمال، تقع في حي الشيخ ضاهر، عند أشهر ساحات المدينة. سُمِّيت تكريماً للبطل جول جمال، الذي استشهد في مصر خلال العدوان الثلاثي، وهو من الطائفة المسيحية الأرثوذكسية. كما أنها كانت مدرسة الرئيس حافظ الأسد” وخصصت قاعة منها لكتبه وقتها .. كما توسط تمثال ضخم له الساحة حطم يوم التحرير.
أقف اليوم أمام شاشة التلفاز، أراقب زيارة رئيس سوريا الحالي، أحمد الشرع، إلى المدينة التي لطالما كانت نموذجاً للتنوع الاجتماعي، حيث يرفع علم التحرير أمام مدرسة جول جمال، في مشهد يختزل رمزية سياسية عميقة.
هذا الموقع ليس عابراً في المشهد السوري؛ فهذه المدرسة التي تحمل اسم البطل جول جمال تحوّلت خلال سنوات الحرب إلى ثكنة عسكرية، وشهدت تواجداً إيرانياً، مما جعلها إحدى النقاط الرمزية للصراع. واليوم، تأتي هذه الخطوة في محاولة لإيصال رسالة واضحة لمكونات المجتمع السوري:
أولاً، أن هذه المدرسة، بتاريخها الوطني الموثّق، تعود إلى دورها المدني، في إشارة إلى نهاية حقبة عسكرية في هذا الموقع.
ثانياً، أن الحديث عن سيناريو التقسيم لم يعد مطروحاً، خاصة مع تركيز الشرع في معظم لقاءاته على وحدة سوريا، وهو خطاب يتكرر في هذه المرحلة الحرجة من إعادة رسم المشهد السياسي في البلاد.
رفع العلم هنا ليس مجرد بروتوكول رسمي لانه لم يفعله في زيارته لمدينتي إدلب وحلب ، بل تأكيداً على أن عهداً جديداً قد بدأ، يحمل معه رسائل واضحة إلى الداخل والخارج على حد سواء.. وتطمين للناس وضمانة وجود الدولة في هذه المدينة مع تزايد حالات الثأر والانتقام في المكان.
استقبال حافل
وسط جمهرة كبيرة من المواطنين، حظي الرئيس أحمد الشرع باستقبال حافل خلال زيارته إلى اللاذقية، حيث ترجل من سيارته، وصافح الحشود، قبل أن يغادر المدينة التي ترزح تحت وطأة أزمات متفاقمة.
ورغم المشهد الاحتفالي، إلا أن اللاذقية اليوم تعاني من تصاعد غير مسبوق في معدلات الخطف، والسرقة، والاعتداءات، إضافة إلى تفشي القلق والجوع والفقر، وهي أزمات تفاقمت بعد قرار الحكومة الحالية بإيقاف رواتب أسر الشهداء، علماً أن ساحل اللاذقية يكاد لا يخلو من العشرات منهم في كل قرية.
إلى جانب ذلك، لا يزال ملف العسكريين الذين سلموا أنفسهم في إطار التسويات يثير الجدل، حيث ظل العديد منهم قيد الاحتجاز، قبل أن يتم الإفراج عنهم على دفعات.
زيارة الرئيس تزامنت أيضاً مع وقفة احتجاجية أمام مديرية المرافئ في اللاذقية، نفذها عدد من العمال احتجاجاً على فصلهم من وظائفهم، ما يعكس حجم الاحتقان الشعبي في المدينة من جهة، وحرية التعبير التي لم نعتد عليها من جهة أخرى.
أي فقرٍ أحمق هذا الذي يُلاحق قرى اللاذقية، المدينة التي اعتاد سكانها على تلقي مساعدات أسبوعية من أفراد العائلة الحاكمة، قبل أن يتم نهب قصورهم المترامية الأطراف مقابل بيوت معدمة الفقر بعد رحيلهم في حين سعت أسماء الأسد، عبر جمعيات معينة، إلى امتلاك مساحات واسعة من الأراضي هناك والتي تعد مصدر الرزق الوحيد لأهالي تلك المناطق وسط خوفهم من رفض البيع، وتكهنات حول الأهداف الحقيقية وراء ذلك.
في المقابل، لا يزال الخوف والقلق يخيّمان على المشهد، رغم التطمينات الرسمية التي تصف تزايد الجرائم والانتهاكات بأنها “حالات فردية”. لكن تصاعدها دفع الأهالي إلى تشكيل مجلس يضم عدداً من المشايخ لمحاولة ضبط الوضع وحماية أنفسهم.
وما بين التهليل والترقب، عاشت المدينة اضطراباً كبيراً عقب انتشار شائعة عن عودة ماهر الأسد قبل أيام، سرعان ما تلاشت، تاركة خلفها شائعات أكبر عن احتمالية عودة أعتقد اليوم أنها قد تلاشت تماماً مع هذه الزيارة.
الخوف لا يتوقف عند هذا الحد، بل يمتد إلى دموع تُذرف بصمت، كما تفعل معلمتي في المدرسة ذات الغرفة الواحدة التي كانت تتناوب عليها الصفوف، وهي تترقب عودة ابنها العسكري الذي سلّم سلاحه منذ أشهر، لكنه لا يزال قابعاً في انتظار المجهول.
مجهول ذاته كان ينتظر من خرج على الطريق ذاته الذي عبره اليوم موكب الشرع الرئاسي متجهاً نحو طرطوس، محتجاً من مسجد في مدينة بانياس ضد نظام الأسد، في مشهد يجسد التحولات العميقة التي شهدتها سوريا خلال السنوات الماضية.
حدث أمني بارز
طرطوس، التي كانت بعيدة عن الفوضى والتفجيرات بفضل الوجود الروسي في مينائها خلال حكم الأسد المخلوع، وجدت نفسها مؤخراً في قلب حدث أمني بارز. فقد تعرض عناصر غرفة العمليات في بلدة خربة المعزة لهجوم من قبل أنصار النائب العسكري السابق محمد كنجو، المعروف بـ”سفاح صيدنايا”، في تصعيد يعكس حالة التوتر الأمني المتزايد.
وفيما تتردد أنباء غير مؤكدة عن إنهاء عقد الشركة الروسية المشغلة لميناء طرطوس، تبرز تساؤلات حول مستقبل المدينة التي طالما حظيت بحماية غير مباشرة من النفوذ الروسي. وبينما تتغير معادلات القوى على الأرض، يبقى إرث النظام السابق قائماً، ليس فقط في البنية الأمنية التي زرعها، بل أيضاً في التوازنات الاجتماعية التي حرص على تفخيخها، لتظل طرطوس—رغم كل المتغيرات—ساحة مفتوحة لصراع النفوذ والمصالح.
فهل تحمل زيارة الرئيس أحمد الشرع اليوم بارقة أمل؟
المدن
—————————————
في التعامل مع “بارونات” نظام الأسد/ إياد الجعفري
الإثنين 2025/02/17
قبل بضعة أشهر من سقوط نظام الأسد في 8 كانون الأول/ديسمبر 2024، صادف مرور 50 عاماً على “ثورة القرنفل” في البرتغال، والتي بدأت بانقلاب عسكري لمعارضي النظام داخل الجيش، سرعان ما تجاوب معه الشارع بصورة كبيرة جداً، أدت إلى وضع البرتغال على سكة التحوّل نحو الديمقراطية. تحوّلٌ واجهته تعقيدات نجمت عن المرحلة الانتقالية عقب السقوط المفاجئ للنظام، وكان قطباه، “التطهير” لنخبة النظام السابق، والأزمة الاقتصادية التي أعقبت ذلك.
يختلف المشهد الانتقالي في سوريا كثيراً عن نظيره في البرتغال، قبل نصف قرن. لكن يبقى لقطبي الانتقال المتعلقين بـ”التطهير”، ومشكلات الاقتصاد، كلمة جليّة فيه. ففي ذاك البلد الأوروبي، تأثرت النخبة الاقتصادية الموالية للديكتاتورية، بعيد الثورة، جراء عملية التأميم وتدخّل الدولة، مما أدى إلى هروب الصناعيين ورجال الأعمال من البلاد. وهي حالة قد تكون معاكسة لما حدث في سوريا. لكن مخرجات هروب نخبة اقتصادية متجذّرة في نظام سابق، قد تكون واحدة. ففي البرتغال، حاول قادة الانقلاب التواصل مع أباطرة الاقتصاد السابقين، لكن حركات الإضراب والضغط النقابي والشعبي أدت لإجهاض هذه المحاولات. بل ذهب المشهد إلى أبعد من ذلك، إذ حصلت عمليات “تطهير شعبية” بحق أعضاء النخبة الاقتصادية السابقة، على صورة عمليات تخريب وعنف طال مصالحهم -وهو ما لم يحدث في سوريا، حتى الآن- لكن بعد عامين من سقوط النظام البرتغالي الاستبدادي، بدأت معالم أزمة اقتصادية تتجلى. وهو ما دفع بالنخبة الجديدة الحاكمة إلى إتباع تدابير تقشفية شديدة، واللجوء إلى اتفاق مع صندوق النقد الدولي، وسط حالة ركود، وانخفاض حاد في القيمة الحقيقية للأجور. وهي ملامح بدأت مؤشراتها الأولية، تتجلى في سوريا، اليوم. أيضاً، أدى تفاوض البرتغال على استقلال مستعمراتها السابقة، إلى عودة مئات الآلاف من البرتغاليين من تلك المستعمرات إلى بلدهم الأم، وهو ما فاقم الأزمات الاقتصادية، وأدى بعد بضع سنوات فقط، إلى موجة حنين لعهد الديكتاتورية، وانقلب المزاج الشعبي بصورة حادة، إذ تم تحميل “الديمقراطية” مسؤولية تردي الوضع المعيشي. لكن ذلك لم يعرقل التحول نحو الديمقراطية، مع التراجع عن جملة إجراءات راديكالية، أبرزها، حملات “التطهير” ضد نخبة النظام السابق، بوصفها تجاوزت الهدف المطلوب منها، وهو تفكيك مؤسسات النظام الاستبدادي.
تفيد الدروس المستقاة من تجربة التحوّل إلى الديمقراطية في البرتغال، في فهم أن حملات “التطهير” ضد النخب المرتبطة بالأنظمة الاستبدادية، لا يجب أن تذهب إلى أقصاها. وإن كان لا بد منها. لكن، يجب أن تخضع لأولويات الانتقال الآمن، وتقليل الآثار السلبية لتفكك نظام سابق. في سوريا، تواجه الحكومة الانتقالية الآن، انتقادات شديدة، حيال تعاملها مع رموز من النظام السابق. وصلت هذه الانتقادات حد التظاهر في حي التضامن بجنوب العاصمة، قبل نحو أسبوع، جراء عودة أحد قادة “الدفاع الوطني” المتهمين بجرائم حرب، إلى الحي، بعد تسوية مزعومة مع السلطات. وهو ما يلقي الضوء على الأهمية الملحة لبدء النقاش المجتمعي حول أسس “العدالة الانتقالية” المطلوب اعتمادها، لتوفير انتقال آمن نحو المستقبل، بأقل قدر ممكن من الخضّات، في بلدٍ منهك إلى أقصى الحدود.
قبل أيام، نشرت “رويترز”، تقريراً حول محادثات أجرتها السلطات الجديدة في دمشق، مع “أباطرة” الأعمال المقربين سابقاً من نظام الأسد. وتم الحديث عن شخصين رئيسيين، هما، محمد حمشو، وسامر فوز. ويمكن الوقوف عند عدد من الملاحظات المثيرة للانتباه، في مجمل ما ورد في التقرير الذي بدا جلياً أنه يحمل رسائل من الحكومة الانتقالية في دمشق، لأطراف داخلية وخارجية، في آن. الملاحظة الأولى، الكشف عن أن سامر فوز أيضاً، إلى جانب محمد حمشو، يحمل الجنسية التركية. وكان الكشف عن جنسية حمشو التركية، قبل سقوط النظام ببضعة أشهر، في معرض إسقاط عضويته من “مجلس الشعب”، مفاجأة للكثيرين. وقبل أسابيع، ومع تداول أنباء عن “تسوية” يعمل حمشو على تنفيذها في دمشق، مع السلطات الجديدة، تمت الإشارة إلى دعم تركي يقف خلفه. واليوم، نكتشف أيضاً، أن فوز يتمتع بخلفية “تركية”. الملاحظة الثانية، هي إقرار مسؤولَين يمثلان السلطات الجديدة، بحجم النفوذ والأثر الاقتصادي لأباطرة الأعمال المقرّبين سابقاً من نظام الأسد. وأنه من غير الملائم لمصلحة البلاد الاقتصادية، أن يُطلب منهم الرحيل فحسب. وأن الحكومة الجديدة لا يمكنها تجنب التعامل معهم. وهو رأي اتفق معه خبير اقتصادي (كرم شعار)، عُرف بمناوئته طويلاً لنظام الأسد، تحدث في التقرير نفسه لـ”رويترز” أيضاً. أما الملاحظة الثالثة، فهي إشارة أحد المقرّبين من سامر فوز، إلى أنه فهم من تعاملاته مع السلطات الجديدة، أنهم يسعون لإتباع نهج “تصالحي”.
يثير “الحس التصالحي” مع حيتان الأعمال من عهد نظام الأسد، مخاوف كبيرة، خصوصاً لدى رجال أعمال ونخب اقتصادية لم تكن مقرّبة بالقدر نفسه من النظام السابق، أو كانت مناوئة له. ومرد ذلك أساساً يرجع إلى بعد تنافسي، وربما “ثأري”، من المنافسين السابقين الذين لم تكن المنافسة معهم عادلة في عهد النظام المخلوع. لكن جانباً آخر من مخاوف هؤلاء يشترك مع شريحة أكبر من السوريين، تخشى أن نشهد مجدداً تحالفات “فاسدة” بين حيتان أعمال وبين السلطات الجديدة، على غرار ما كان قائماً في العهد السابق، استناداً إلى خبرة “حيتان” الأسد السابقين، في نسج التحالفات “السوداء” مع المتنفّذين. جانب آخر من المخاوف يرتبط بأن تذهب تلك التحالفات إلى أبعد من ذلك، وأن تستفيد السلطات الجديدة من خبرة رجال الأعمال المقرّبين من النظام السابق، في الالتفاف على أنظمة العقوبات الغربية، التي لا يزال الكثير منها سارياً حتى الساعة على سوريا، وقد يبقى الكثير منها قائماً بالفعل، كعامل ضغط من الغرب على السلطات الجديدة. فيما قد تكون هذه الأخيرة في طريقها للبحث في سبل للتفلت من هذا الضغط. وهو ما قد يعني أننا في طريقنا لشكلٍ من أشكال الانعزال الاقتصادي مجدداً. أما أقل المخاوف جدّية، فهي انبعاث النظام السابق عبر نخبته من رجال الأعمال، على غرار “الثورات المضادة” في دول الربيع العربي.
وفيما تبدو المخاوف السابقة كلها مبررة، وإن بدرجات متفاوتة، يبقى السؤال: ما هي الوسيلة الأمثل للتعامل مع “حيتان” النظام السابق، من دون آثار سلبية على الوضع الاقتصادي المتدهور أساساً؟ ألا يمكن تفهّم “التسويات” التي تجريها السلطة الجديدة مع نخب النظام السابق، بوصفها المدخل الأمثل لتفكيك شبكاته الخفية لمنع انبعاثه مجدداً، أو تقليص قدرة بعض “خلاياه” المتبقية على القيام بأعمال “تخريبية” أمنية أو حتى اقتصادية؟
العصف الدماغي على وقع السؤال الأخير تحديداً، يحيل على الأرجح، إلى إجابة بالإيجاب. لكن تبقى العلّة في انعدام شفافية السلطات الجديدة، في الإقرار بدواعي هذه “التسويات”، ومآلاتها. وهو ما يجعل الضغط الشعبي، والنخبوي المعبّر عنه في “السوشال ميديا”، أمراً مفيداً لتقييد الحرية المطلقة للسلطات الجديدة، بصورة تقلل من احتمال الانزياح نحو تحقق المخاوف ذاتها التي تولّد هذا الضغط.
المدن
———————————
سوريا في الصحافة العالمية/ بشير البكر
الإثنين 2025/02/17
روى لي صديق سوري يعمل في صحيفة أميركية كبرى، أنها أوفدت فريقاً إلى دمشق بعد سقوط نظام بشار الأسد، بلغ تعداده 20 صحافية وصحافياً. وبقي الفريق يعمل على قضايا البلد السياسية والأمنية والاجتماعية لفترة تجاوزت الشهر. كتبوا تحقيقات عن حال سوريا الراهن، وما تعانيه من فقر وتردي خدمات، وزاروا السجون والمقابر الجماعية والتقوا بعض المعتقلين الناجين من سجون النظام السابق وأهالي المفقودين والمغيبين قسرياً، كما أجروا مقابلات مع مسؤولين من الإدارة الجديدة، سياسيين وعسكريين، وكذلك الأحزاب السياسية ومنظمات المجتمع المدني وشخصيات اقتصادية وثقافية، وغادر بعضهم دمشق، وتجولوا في المدن السورية الكبرى، حلب، حمص، واللاذقية.
انتهت مهمة هذا الفريق إلى استنتاج مهم، مفاده أنه عثر على كنز مدفون ومادة إعلامية غنية لها قراء ومتابعون في الغرب، يريدون أن يتعرفوا على ما حصل في هذا البلد خلال الأيام الـ12 من المعارك التي انتهت بسقوط النظام، والتركة الكبيرة التي خلفها حكم عائلة الأسد لسوريا لأكثر من نصف قرن، ومحاولة قراءة الخطوط العريضة لخريطة الطريق نحو المستقبل.
وتجدر الملاحظة هنا أن الغالبية العظمى من الصحافيين الأجانب حضرت إلى سوريا، رسمت سيناريوهات غير التي عاشوها حين وصلوا البلد، ولم يكن في الحسبان أن عملية سقوط النظام لن تولد حرباً أهلية طاحنة. وحين بدأ النظام يخسر المدن الكبرى، بدءاً من حلب، كان التقدير بأن المعركة المهمة سوف تكون في دمشق، كونها المعقل الكبير للنظام وقواته الأساسية مثل الحرس الجمهوري والفرقة الرابعة، كما أن العاصمة كانت مسورة بعد كبير من الأسلحة التدميرية. وحينما لم يحصل هذا السيناريو، بقي البعض يضع احتمال حصول مواجهات في محافظات أخرى، خصوصاً في منطقة الساحل التي هربت نحوها أعداد كبيرة من فلول النظام، وعزز من هذا الاعتقاد التركيز الأمني من قبل إدارة العمليات على هذه المنطقة، لجهة إجراء تسويات للعسكريين والأمنيين القدامى وسحب السلاح منهم، والقيام بعمليات تمشيط وملاحقة لتوقيف شخصيات ذات ماضٍ أمني اجرامي مثل قاضي صيدنايا محمد كنجو، الذي لم تكن عملية اعتقاله سهلة، وحصل اشتباك سقط فيه عدد من القتلى بين الطرفين.
رغم أن المهمة الكبرى تم إنجازها بأقل الأضرار، إلا أن هناك نقاطاً عديدة غير محسومة تتعلق بالوضع في شرق سوريا وجنوبها. في المحافظات الشرقية الثلاث، الرقة، دير الزور، الحسكة، ما زالت “قوات سوريا الديموقراطية” ترفض الدخول في عملية التحول السوري، وتحاول انتزاع امتيازات، منها الحكم المركزي. أما في السويداء فما زالت المرجعية، ممثلة بالشيخ حكمت الهجري، تعارض تسليم سلاح الفصائل، ودخول قوات “هيئة تحرير الشام” إلى هناك، وتتذرع بضمانات تحيلها على قيام دولة مستقرة. وفي الحالتين، تنتظر وسائل الإعلام حصول تطورات مثيرة، في حال لم يتم التوصل إلى تسويات سياسية تنزع فتيل التوتر والتصعيد.
الفترة المقبلة في سوريا لن تقل أهمية عما حصل حتى الآن، وابتداء من آذار المقبل سنشهد الدخول رسميا في المرحلة الانتقالية، التي لم يتم حسم مدتها حتى الآن. ومن المنتظر أن تتضح معالم خريطة الطريق إلى المستقبل السوري، وستكون نقطة البداية من تشكيل حكومة انتقالية تتولى قيادة البلد لمدة تتراوح بين 3 و4 أعوام، وفق الخطاب الأخير لرئيس الجمهورية أحمد الشرع، وتقديرات بعض الخبراء القانونيين. واعتباراً من هذا التاريخ ستأخذ التطورات منحى آخر لأنه سيتم وضع حجر الأساس للنظام السوري الجديد، وكتابة الدستور، والعدالة الانتقالية، وبناء جيش وطني، وبدء المؤسسات الإعلامية والثقافية عملها، التابعة منها للدولة، أو المجتمع المدني، والخاصة.
الملاحظة الجديرة بالاهتمام هي أن سوريا باقية في دائرة الضوء الإعلامي لمدة عام على الأقل، وذلك لأسباب متعددة. الأول هو أن المادة الإعلامية وجدت نسبة عالية من القراء والمشاهدين، وحسب تقديرات خبراء غربيين لم يتراجع الاهتمام بها. والسبب الثاني يتركز حول مراقبة التحول السوري ومدى توافقه مع جملة الشروط الغربية التي تم تبليغها للحكم الجديد، من أجل الانفتاح عليه، بما يساعد سوريا على السير في طريق التعافي السريع، ويتعلق ذلك بالتشاركية في الحكم، واحترام قواعد التمثيلية، وحقوق النساء، والحريات الفردية. والسبب الثالث يتعلق بأن النموذج السوري بتطبيقاته السياسية والاقتصادية والثقافية، محل اهتمام ومراقبة من الرأي العام الغربي.
المدن
————————–
تجميد المساعدات الأميركيّة: كيف تضرر شمال شرقي سوريا؟/ شفان ابراهيم
17.02.2025
رغم غياب الرقم الدقيق لعدد المنظمات الإنسانية الدولية، ولعدد شركائها المحليين المعتمدين على التمويل الأميركي في تنفيذ أنشطتهم ومشاريعهم، فإن العدد يُقدر بالمئات، ممن كانوا يتلقّون دعماً مباشراً في قطاعات الحماية والتعليم والصحة والبنية التحتية وسبل العيش والتماسك المجتمعي.
قالت “هيومن رايتس ووتش” إن هناك عشرات الآلاف من الأشخاص، ما يزالون عالقين في مخيمي الهول وروج في شمال شرق سوريا، في ظروف تهدد حياتهم، وسط تجدد الاشتباكات في المنطقة، إضافة إلى أن تعليق الحكومة الأميركية المساعدات للمنظمات غير الحكومية العاملة في هذه المخيمات، تسبب في تفاقم الظروف المهددة للحياة، وفي زعزعة الحالة الأمنية الهشة.
ووقّع الرئيس الأميركي دونالد ترامب الشهر الفائت، أمراً تنفيذياً، يقضي بتعليق جميع برامج المساعدات الخارجية الأميركية مؤقتاً ولمدة 90 يوماً، لحين إجراء مراجعات لتحديد مدى توافقها مع أهداف سياساته، ويستثني من ذلك المساعدات الغذائية الطارئة والتمويل العسكري لإسرائيل ومصر.
وقالت منظمة “BHA” في رسالة موجهة إلى كبار مسؤوليها إن “مكتب المساعدات الإنسانية الأميركية للتنمية، لم يقدّم تأكيداً بشأن استمرار دعم مشاريع المنظمة أو تعليقها، في حين لم تتلقَ المنظمة مبالغ كبيرة مستحقة الدفع”.
ويُقيم في مخيمي روج والهول الواقعين في محافظة الحسكة، عائلات مقاتلي “داعش”، إضافة إلى الهاربين من الحرب من دير الزور والرقة خاصة، والعراق أيضاً، حيث المناطق التي كانت تحت سيطرة التنظيم قبل الإطاحة به.
تهديد للخدمات الأساسيّة
وقال مروان خليفة أحد العاملين في مخيم الهول لــ”درج” إن “نتائج تأثير تجميد المساعدات الأميركية، انعكست بشكل مباشر على الخدمات الأساسية لسكان المخيم، وكل ما يتعلق بجوانب الاستجابة، سيكون تحت تأثير القرار، خاصة السلع الأساسية مثل المياه، والخبز، والكاز”، وأضاف خليفة أن منظمة “بلومونت” على سبيل المثال، كونها المسؤولة عن إدارة مخيمي روج والهول “تلقّت أوامر من مكتب السكان واللاجئين والهجرة التابع لوزارة الخارجية الأميركية، بوقف العمل منذ مساء 24 كانون الثاني/ يناير الماضي، ما دفع بالمنظمة إلى تعليق العمل وسحب موظفيها من إدارة المخيم”.
ووفقاً لخليفة فإن تداعيات الانسحاب وتوقّف التمويل “يؤثران على الحراس والمسؤولين عن مخازن ومستودعات المنظمات غير الحكومية، وعن حماية المخيم وتأمين الخبز ومياه الشرب لسكانه”، خاتماً حديثه أن “المنظمة عادت للعمل بشكل مؤقت لإنجاز بعض المشاريع ولإجراء بعض الترتيبات العالقة، ثم ستعود وتلتزم بقرار التوقّف”.
في حين قال أحد المدراء في منظمة “بلومونت” إن أنشطتهم الحالية “مستثناة من قرار وقف التمويل الأميركي”، وكانت المنظمة تعمل على تأمين “مازوت التدفئة، ووقود الغاز للطهي، وتوزيع الخبز والماء يومياً، ونظافة المخيمات”، وتعتبر أكثر المنظمات تأثراً وتأثيراً بالقرار، كونها تقدّم أغلب الخدمات في مخيمات العريشة، وروج، وتوينه، وسري كانيه، وتل السمن، والمحمودلي، والهول، وأبو خشب، عدا عشرات مراكز الإيواء الجماعية في الرقة والحسكة والطبقة، ويعمل إلى جانبها منظمات أخرى مثل Mercy Corps ,save the children , CARE”.
هذه المنظمات اضطرت لأنهاء عقود مئات الموظفين، علماً أنها تموّل شركاءها من المنظمات المحلية، التي تضم آلاف الموظفين الدائمين والمؤقتين. وبالعموم فإن أغلب المنظمات أوقفت عدداً كبيراً من مشاريعها، وخفضّت من تمويل بعضها الآخر، واستأنفت بعض أعمالها بعدد محدد من الموظفين.
رغم غياب الرقم الدقيق لعدد المنظمات الإنسانية الدولية، ولعدد شركائها المحليين المعتمدين على التمويل الأميركي في تنفيذ أنشطتهم ومشاريعهم، فإن العدد يُقدر بالمئات، ممن كانوا يتلقّون دعماً مباشراً في قطاعات الحماية والتعليم والصحة والبنية التحتية وسبل العيش والتماسك المجتمعي.
ووفقاً لمصادر خاصة حصل عليها معدّ التقرير، فإن كتلة الرواتب الشهرية الواردة لموظفي المنظمات الدولية المدعومة أميركياً والعاملة في شمال شرق سوريا، تتجاوز 3 ملايين دولار. وأكثر القطاعات المتضررة بالقرار هي المتعلقة بالزراعة والتنمية والصحة على المستويين القريب والبعيد.
كما أن الإدارة الذاتية نفسها ستتعرّض لعدد من المشاكل، فهي مثلاً تفرض ضريبة دخل نسبتها 5% من قيمة رواتب الموظفين العاملين في المنظمات الدولية، وهذا الأمر يقود إلى خسارة مئات الآلاف من الدولارات شهرياً. عدا أن بعض المؤسسات الخدمية في الإدارة الذاتية، تتلقّى دعماً مالياً دولياً، يساهم في توفير مئات فرص العمل بعقود مؤقتة، أو المرتبطة بعقود مع شركات اللوجستيات والخدمات الخاصة العاملة ضمن المخيمات.
ووفقاً لأرقام وزارة الخارجية الأميركية فإنها أنفقت قرابة 70 مليار دولار في عام 2023، مما يعني أن توقّف الدعم هو قطع شريان الحياة عن شمال شرق سوريا، حيث سيؤثر على الجانب الخدمي والمعيشي والأمني والعسكري والإنمائي وكافة القطاعات الأخرى.
أمريكا ومخيمات “داعش”
من جهتها قالت دوروثي شيا القائمة بأعمال السفيرة الأميركية لدى الأمم المتحدة أمام مجلس الأمن يوم الأربعاء الماضي، إن المساعدات الأميركية لإدارة المعسكرات في شمال شرق سوريا ودعمها، التي تضم سجناء مرتبطين بتنظيم الدولة الإسلامية “لا يمكن أن تستمر إلى الأبد”، مضيفة “تحمّلت الولايات المتحدة الكثير من هذا العبء لفترة طويلة للغاية، وفي نهاية المطاف، لا يمكن أن تظل المعسكرات مسؤولية مالية أميركية مباشرة”، وفي إشارة إلى مخيمي الهول وروج للنازحين، تابعت “بناء على ذلك نواصل حثّ الدول على استعادة مواطنيها النازحين والمحتجزين، الذين ما زالوا في المنطقة على وجه السرعة”.
هذه التصريحات تضع المنطقة والإدارة الذاتية تحت تأثيرات القرار وتداعياته، حيث من المتوقع أن تتضرر “قوات سوريا الديمقراطية” أيضاً، وهو ما يتطلّب تحركاً دولياً فورياً، لاستعادة الدول المعنية مواطنيها من السجون المخصصة لعناصر “داعش” وقياداته والمخيمات المُقامة لعائلات المقاتلين.
الوضع المعيشي في أدنى مستوياته
منذ اندلاع الحرب السورية وحتى لحظة سقوط النظام السوري السابق، كان الموظف السوري يعيش تحت خط الفقر، وبقاؤه ضمن دوائر المؤسسات الحكومية، ارتبط فقط بغياب البديل وفقدان فرص العمل الأخرى. إذ لا يتجاوز راتب الموظف 20 دولاراً أميركياً شهرياً، ولا يسد هذا المبلغ الضئيل ثمن الحاجات الأساسية.
قالت المدرسة شيرين هشام الدين لـ”درج” :”لم يكن أمامنا سوى البقاء في الوظيفة، فلا بديل ولا راتب إضافي، خصصنا هذا المبلغ الزهيد لتغطية نفقات اشتراكات الكهرباء والهاتف، ولولا مساعدة أخي وشقيق زوجي المقيمين في أوروبا لكان وضعنا كارثي”.
ومع سقوط النظام وسيطرة الإدارة الجديدة بقيادة أحمد الشرع على البلاد، اتّضح حجم الضغط والأزمات الكبيرة الموجودة، خاصة الاقتصادية والمعيشية. ومع إعلان وزير المالية محمد أبازيد زيادة للرواتب تبلغ 400% لموظفي القطاع العام، ورغم أن القرار كان خطوة مهمة على طريق تحسين شروط المعيشة، فقد عجز عن الوصول بالموظفين والعاملين إلى مرحلة الاكتفاء، فراتب الموظف أصبح يساوي مبلغ 100 دولار أميركي فقط، وفقاً لسعر الصرف المتقلب والمتغير.
يقول إسكان إسكان وهو موظف في مديرية الشؤون الاجتماعية والعمل السوربة في الحسكة “أساساً حالياً كل شيء متوقّف، الخلاف بين الإدارة الذاتية والإدارة العامة الجديدة في دمشق، ألقى بظلاله على مفاصل الحياة ومؤسسات الدولة المختلفة، من تعليم، وهجرة وجوازات، إلى مديرية الشؤون المدنية والنفوس، ومديرية الاتصالات… كما أن الزيادة لم تُصرف بعد، ورواتب موظفي محافظة الحسكة سواء العاملين أو المتقاعدين لم تُصرف منذ كانون الثاني/ يناير الماضي”.
يضيف إسكان :”موظفو الإدارة الذاتية يعيشون ظروفاً صعبة، رواتبهم لا تكفيهم لبضعة أيام، وموظفو الحكومة السورية في أسوأ أيامهم، حيث لم يقبضوا رواتبهم منذ أشهر، ولا أحد يعرف متى يمكنهم قبضها أساساً، ولطالما الخلاف والصراع موجود بين الطرفين فإن المواطن والموظف سيدفعان الثمن”.
من جهته، في حديثه مع موقع “درج” قال ميلاد حسن بائع لحوم في مدينة قامشلو: “إن تأمين اللحوم أصبح أمراً صعب المنال للموظفين وغالبية الناس، وتحوّلت اللحمة إلى رفاهية، من الصعب تأمينها إلا مرة واحدة كل ثلاث أشهر أو أكثر”.
وعن تدهور الوضع الاقتصادي قال عصام طاهر المتخصص في الاقتصاد والتجارة: “إن محافظة الحسكة شهدت تدهوراً اقتصادياً كبيراً منذ بداية الازمة، حيث تضررت الأسواق ومستويات المعيشة، وما ساهم في تمويل الأهالي كانت الحوالات الخارجية، ومع ارتفاع قيمة الليرة السورية، وبقاء الأسعار على حالها، أدى ذلك إلى التقليل من قيمة الحوالات، إذ لا تتجاوز المساعدات الشهرية 200 دولار أميركي في الغالب، ومع حساب فارق الصرف قبل سقوط النظام، إذ بلغت قيمة الدولار الأميركي الواحد 15 ألف ليرة سورية، في حين لا يتجاوز سعر صرف الدولار الأميركي حالياً مبلغ 9 آلاف ليرة فقط، مع بقاء أسعار المواد الغذائية والمستلزمات الضرورية والكماليات بسعرها السابق”.
لا يحتاج المتابع لبذل الكثير من الجهد والعناء، لمعرفة أن الدعم الأميركي شكل العمود الفقري للمعيشة وحركة السوق في منطقة شمال شرق سوريا، في ظل غياب شبه تام للشفافية المالية بالنسبة للواردات والصادرات والاقتصاديات الناشئة وحركة بيع النفط.
وتدير “الإدارة الذاتية” في شمال شرقي سوريا مخيمي روج والهول، ويضم المخيمان نحو 42500 شخص، معظمهم من أفراد عائلات مقاتلي تنظيم “داعش”، ومن بينهم قرابة 18 ألف شخص أجنبي من 60 دولة، وفق تقديرات دولية.
فيما لا يزال أكثر من تسعة آلاف معتقل من أكثر من 50 دولة، متهمين بانتمائهم إلى التنظيم، محتجزين في مرافق تحرسها “قوات سوريا الديمقراطية/ قسد”، ولم يُعرض المعتقلون الأجانب قط على المحاكم، ما يجعل احتجازهم “تعسفياً، وغير قانوني، وغير محدد الأجل” وفق “هيومن رايتس ووتش”.
– صحافي سوري كردي
درج
————————————————–
لماذا التحذير من تكرار السيناريو الليبي في سوريا؟/ فراس فحام
16/2/2025
صدر العديد من التحذيرات الدولية من احتمالية تكرار السيناريو الليبي في سوريا بعد سقوط نظام بشار الأسد، بعض هذه التحذيرات أطلقتها وزيرة خارجية الاتحاد الأوروبي كايا كالاس في وقت مبكر منذ منتصف ديسمبر/كانون الأول الماضي، بعد مضي قرابة أسبوع فقط على هروب الأسد إلى روسيا، حيث أكدت الوزيرة الأوروبية ضرورة تجنب العنف الطائفي، والابتعاد عن نماذج العراق وليبيا وأفغانستان.
وفي مطلع فبراير/شباط الجاري، أصدرت مؤسسة كارنيغي للسلام توصيات لتجنب تكرار سيناريو ليبيا في سوريا، واعتبرت في تقريرها الذي أصدرته أن التحذيرات في محلها، وسوريا تواجه صعوبات أكبر بكثير، حيث إن سوريا أكثر تنوعا وتفتتا من ليبيا.
وتعتبر مسألة انقسام السيطرة الجغرافية بين طرفين متباينين من أهم عوامل التشابه بين سوريا وليبيا، حيث تسيطر حكومة الوحدة الوطنية برئاسة عبد الحميد الدبيبة على العاصمة طرابلس بصفتها السلطة التنفيذية التي نتجت عن مؤتمر جنيف عام 2021.
بالمقابل احتفظ خليفة حفتر الذي يقود قوات عسكرية بعضها كان من ضمن المؤسسة العسكرية الليبية السابقة بالسيطرة على شرق ليبيا، وأجزاء من شمالها وجنوبها، حيث تعتبر هذه المناطق إستراتيجية بحكم شمولها للهلال النفطي شمال ليبيا والذي يضم ميناء رأس لانوف النفطي، بالإضافة إلى حقل الشرارة جنوب غرب البلاد أيضا.
وفي سوريا تسيطر الحكومة السورية المؤقتة على العاصمة دمشق، وعلى القرار السياسي، لكن في المقابل لا تزال قوات سوريا الديمقراطية (قسد) تستحوذ على مناطق واسعة من شمال شرق سوريا، وهي المنطقة التي تحتوي آبار النفط، وغالبية آبار الغاز في سوريا.
يحظى حفتر بدعم روسي واضح، فقد تمركزت طائرات روسية في قاعدة الجفرة وسط ليبيا منذ عام 2020، بالإضافة إلى تأسيس روسيا عام 2023 لما يعرف باسم الفيلق الأفريقي الذي اتخذ من قاعدة الخادم شرقي ليبيا أيضا مركزا له إلى جانب الجفرة.
وعلى غرار قوات حفتر، تحظى قسد هي الأخرى بدعم أميركي، حيث أقامت القوات الأميركية منذ عام 2015 إلى وقتنا هذا عدة قواعد في مناطق سيطرة قسد، هما قاعدتا خراب الجير ورميلان في الحسكة، بالإضافة إلى قاعدة حقل كونيكو.
فوارق بين سوريا وليبيا
يتصف الوضع الليبي بالتعقيد البالغ، على الرغم من عدم وجود فوارق دينية وطائفية بين المكونات الليبية، حيث إن الانقسام التاريخي بين الأقاليم الثلاثة (فزان– برقة– طرابلس) ينطلق من اعتبارات قبلية وتاريخية.
وبعد سيطرة الأسرة السنوسية على الحكم وإقامة الملكية عام 1951 اضطرت للإبقاء على عاصمتين سياسيتين للبلاد وهما بنغازي وطرابلس، وبعد وصول معمر القذافي إلى الحكم بقي العامل القبلي حاضرا، حيث اعتمد على التحالفات القبلية لتثبيت أركان حكمه.
وبعد سقوط القذافي ظهر في شرق ليبيا تيار ينادي بالفدرالية في مطلع عام 2012، ردا على ما اعتبره تهميش النظام السابق للإقليم والاستقواء بقبائل الغرب، ومع مرور الوقت تكرس الانقسام الجغرافي بشكل أكبر خاصة مع الخلاف على توزيع المناصب الحكومية بين إقليمي الشرق والغرب.
وحظي حفتر بتأييد مجلس النواب ويرأسه عقيلة صالح المنتمي هو الآخر لقبائل شرق ليبيا، حيث منح مجلس النواب لحفتر صفة قائد الجيش الوطني الليبي، مما أكسبه نوعا من الشرعية الداخلية والخارجية.
أيضا، لا يبدو أن كامل مكونات غرب ليبيا على توافق تام، خاصة الفصائل العسكرية المتحالفة مع حكومة غرب ليبيا، والتي تشهد حالة توتر فيما بينها كل فترة، كان آخرها صيف عام 2023 الذي شهد مواجهات بين جهاز الردع واللواء 444.
أما في سوريا، فيعود أساس الاضطرابات إلى العامل العرقي، حيث يقطن شمال شرق البلاد المكون الكردي الذي تتراوح أعدادهم بحسب التقديرات بين 1.5 و2.5 مليون نسمة، وتختلف هذه التقديرات بين جهة وأخرى بسبب غياب الإحصائيات الرسمية، وامتناع النظام السابق عن منح شريحة واسعة من المكون الكردي الجنسية السورية، وهذا ما سبب موجات احتجاج كردية في السابق، أبرزها انتفاضة القامشلي عام 2004 والتي تعرضت للقمع من قبل نظام الأسد.
لا يتبنى غالبية سكان شمال شرق سوريا مطلب الاستقلال أو الحكم الذاتي، بما فيهم قسم من المكون الكردي ذاته، حيث ترفض الأحزاب السياسية المنضوية ضمن المجلس الوطني الكردي السوري فكرة الانفصال، وتؤكد أنها جزء من الوطن السوري، وتنادي بمطلب اللامركزية مع الحفاظ على حقوق الأكراد ضمن الدولة السورية.
لا مطالبة بالفدرالية
وسارع المجلس الوطني الكردي السوري مطلع فبراير/شباط الجاري للاعتراف بتنصيب أحمد الشرع رئيسا مؤقتا للبلاد، على عكس قسد التي رفضت الإقرار بشرعيته، مما يعكس انقساما حادا داخل المكون الكردي، خاصة أن قسد منعت أحزاب المجلس طيلة السنوات الماضية من النشاط في مناطق سيطرتها بسبب الخلافات.
يضاف لذلك، أن شمال شرق سوريا يقطنه مكون عشائري عربي، اضطر بعضه للتحالف مع قسد لحماية مناطقه من نظام الأسد السابق، خاصة أن قسد لديها تنسيق مع القوات الأميركية التي ساهمت في منع النظام السابق من اقتحام المنطقة، لكن بعد سقوط الأسد تصاعدت الأصوات العربية الرافضة لهيمنة قسد على شمال شرق سوريا، ومطالبها بفرض الإدارة الذاتية أو الفدرالية.
وخرجت عدة مظاهرات في الرقة والحسكة ودير الزور في يناير/كانون الأول الماضي، كما أكدت مصادر خاصة لموقع الجزيرة نت أن قوات الصناديد التي تتألف من عناصر تتبع لقبيلة شمر، والتي كانت متحالفة مع تنظيم قسد، أجرت عدة لقاءات مع السلطات السورية في دمشق، وأكدت في هذه اللقاءات استعدادها للعمل مع الإدارة الجديدة لكن من دون الإعلان عن الانشقاق.
ولم تمانع محافظة السويداء من تعيين ممثل للسلطة السورية في دمشق وهو مصطفى البكور، على الرغم من وجود بعض الاعتراضات ضمن السويداء على الآلية التي تدار فيها المرحلة الانتقالية، والمطالبة بنظام حكم لامركزي على غرار ما يصرح به شيخ العقل حكمت الهجري المنتمي للطائفة الدرزية.
وعلى الرغم من التخوف في أوساط الطائفة العلوية من مرحلة ما بعد الأسد، لكن لم تصدر أي بيانات تطالب بالفدرالية أو الاستقلال عن حكومة دمشق، بل صدرت بيانات عديدة من وجهاء في الطائفة العلوية بعد سقوط الأسد تدعو لبناء سوريا الموحدة، وإصدار عفو عام عن كامل الشعب السوري.
وبالعموم فإن المنطقة الساحلية باتت تحت سلطة دمشق السياسية والأمنية، وتمكنت القوات الأمنية على مدار الشهرين الماضيين من تفكيك الخلايا العسكرية التي كانت تتبع للنظام السابق، واتخذت من مناطق الساحل مركزا لها.
ويقطن الساحل السوري قرابة 1.8 مليون سوري من الطائفة العلوية، ويتقاسمون محافظتي اللاذقية وطرطوس السوريتين مع السنة والمسيحيين، مع كثافة منخفضة في مركز محافظة اللاذقية.
وعلى عكس الأوضاع في ليبيا، التي تتمسك بعض الأطراف الدولية فيها بالعلاقة مع حفتر بصفته قائدا للجيش الليبي على غرار روسيا ومصر، فإن غالبية الدول وخاصة الفاعلة في الملف السوري تفاعلت مع إعلان قوى المعارضة العسكرية لأحمد الشرع رئيسا مؤقتا للبلاد وبعضها عقد لقاءات معه مثل قطر والمملكة العربية السعودية وتركيا، وبعضها الآخر أجرى اتصالات رسمية معه مثل روسيا والإمارات العربية المتحدة.
كما تستعد فرنسا لاستضافة مؤتمر حول سوريا في العاصمة باريس في شباط/ فبراير الجاري، وممثل سوريا سيكون وزير الخارجية السوري أسعد الشيباني وفقا لما أعلنت الحكومة السورية، من دون أي حديث عن حضور ممثلين عن قسد أو مجلس سوريا الديمقراطية الواجهة السياسية للتنظيم.
ويشكل الموقف التركي تحديا كبيرا أمام استمرار تنظيم قسد على شكله الحالي، وتؤكد التصريحات الرسمية التركية بأنه لا بد للتنظيم من إلقاء السلاح، واندماج الأكراد ضمن الدولة السورية، مع إخراج المقاتلين الأجانب من التنظيم.
كما ينفذ الجيش التركي هجمات جوية مستمرة ضد مواقع عسكرية لقسد قرب منطقة منبج بريف حلب، ومحافظة الرقة، وهذا ما دفع التنظيم فيما يبدو لرفع العلم السوري الموحد للمرة الأولى في أواخر ديسمبر/كانون الأول الفائت، والتأكيد مرارا في البيانات على عدم رغبته بالانفصال عن سوريا، لكنه بقي متمسكا بمطلب منحه خصوصية عسكرية.
التحدي الثاني الذي يواجه قسد المسيطرة على مساحات من شمال شرق سوريا، هو مستقبل وجود القوات الأميركية في المنطقة، خاصة أن وسائل إعلام نقلت -في نهاية يناير/كانون الأول عن مصادر في البنتاغون- وجود نقاشات لتنفيذ خطة انسحاب من سوريا في مدة تتراوح بين 30 و90 يوما، مما يعني أن التنظيم سيكون مكشوفا بالكامل أمام الضغوط العسكرية التركية، والجيش السوري الجديد.
بالمقابل، فإن موقف إسرائيل التي لديها نفوذ في الأوساط الأميركية يثير المخاوف بخصوص مستقبل سوريا، فقدت سربت صحيفة إسرائيل هيوم في منتصف ديسمبر/كانون الأول الفائت وجود مقترحات إسرائيلية لإقامة كانتونات أو مناطق حكم ذاتي في سوريا من خلال العمل مع الأكراد والدروز، بالإضافة إلى الرغبة بإنشاء منطقة نفوذ استخباراتي بعمق 60 كيلومترا داخل سوريا، كما أعلنت إذاعة الجيش الإسرائيلي في 11 شباط/فبراير الجاري أن بقاء النقاط التي أسسها الجيش داخل سوريا لم يعد مؤقتا، وستستمر طيلة عام 2025 على أقل تقدير.
وحتى هذه اللحظة، لا يوجد مؤشرات واضحة على السياسة التي ستنتهجها إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب تجاه الملف السوري، وما إذا كان الرئيس الجديد سيقوم بسحب قوات بلاده وترك الملف للفاعلين الإقليميين، أم ستبقى هذه القوات لفترات إضافية من أجل تحقيق بعض المكاسب.
وسربت صحيفة معاريف الإسرائيلية في يناير/كانون الثاني الماضي وجود مباحثات بين إدارة ترامب وتركيا، أكد من خلالها الرئيس الأميركي إمكانية سحب قوات بلاده من شمال شرق سوريا حال وافقت تركيا على إعادة العلاقات الدبلوماسية مع إسرائيل.
المصدر : الجزيرة
————————————-
التغيير السوري في بعده الفلسطيني/ ماجد كيالي
تأثير مجتمع فلسطينيي سوريا في الحركة الوطنية الفلسطينية، بات هامشيا
17 فبراير 2025
كانت الحركة الوطنية الفلسطينية منذ انطلاقها في أواسط الستينات، وجدت في سوريا ساحة لأنشطتها رغم القيود التي وضعها النظام على العمل الفدائي ضد إسرائيل من جبهة الجولان، أي إن ذلك الأمر كان مضبوطا وفقا للخطوط أو للتوظيفات، السياسية للنظام السوري والتي لا تنسجم مع حماسته أو ادعاءاته، بمقاومة إسرائيل.
في حينه، استثمر النظام السوري في صعود الحركة الوطنية الفلسطينية وأساسا حركة “فتح”، في منافسة مصر على قضية فلسطين، إذ كان الرئيس جمال عبد الناصر وراء ولادة “منظمة التحرير” (1964)، كما استثمر فيها للتغطية على هزيمة يونيو/حزيران 1967، وادعاء تبني نهج الكفاح المسلح وأن فلسطين قضيته المركزية، كغطاء لمصادرة الحريات والهيمنة على الشعب، ووضع اليد على موارد البلد، وتبرير تعثر عملية التنمية، وبناء سلطته الأمنية.
بيد أن كل ما تقدم، في الواقع، تم بالتوازي مع محاولة ذلك النظام، بشخص الرجل القوي فيه حافظ الأسد، آنذاك، الإمساك بالورقة الفلسطينية، بداية بمحاولته السيطرة على “فتح”، عبر شخصيات عسكرية موالية له، ثم عبر إنشاء، أو دعم إنشاء، منظمات فلسطينية، تكون بمثابة استطالة له في البيت الفلسطيني، مثل منظمة “الصاعقة” والجبهة الشعبية- القيادة العامة، إلى درجة أن شعار: “استقلالية القرار الفلسطيني” الذي صكه الزعيم الفلسطيني ياسر عرفات كان شرّع لصد تدخل نظام الأسد في الشأن الفلسطيني.
في السياق أيضا، شمل استثمار نظام الأسد للحركة الوطنية الفلسطينية الهيمنة على لبنان، ثلاثة عقود (1976-2005)، ما نجم عنه احتكاكات عسكرية مباشرة، تم فيها تدمير كثير من مخيمات الفلسطينيين في لبنان، جزئيا أو كليا، وكلها شهدت مجازر مروعة؛ يمكن معها اعتبار ما حصل في مخيمات سوريا، مؤخرا، وخاصة اليرموك، بمثابة امتداد لها.
الآن، يبدو أن التغيير السياسي التاريخي الكبير الحاصل في سوريا سيؤثّر حتما على دورها الإقليمي، وعلى مجمل منطقة الشرق الأوسط، وتفاعلاتها المحلية والإقليمية والدولية، وضمنها الشكل الذي سيتموضع عليه الصراع ضد إسرائيل، بقدر التأثير الذي كان للنظام الفارط، طوال أكثر من نصف قرن، تبعا لموقع سوريا المفتاحي في تلك المنطقة، وفي قضاياها.
وبغض النظر عما يريده النظام الجديد، أو ما يستطيعه، فإن تداعيات “طوفان الأقصى”، وحرب الإبادة التي شنتها إسرائيل على فلسطينيي غزة، والتي شملت لبنان، وأفضت إلى إنهاء هيمنة “حزب الله” فيه، وصولا إلى انحسار نفوذ إيران في المنطقة، لا بد ستؤثر على الحركة الوطنية الفلسطينية، وخياراتها السياسية والكفاحية، بل وحتى على شكل وجود الشعب الفلسطيني، في الداخل والخارج، وبخاصة على مجتمع الفلسطينيين السوريين (لاجئي 48).
وعلى الأرجح، فإن تلك التطورات والتغيرات ستفضي إلى انهيار، أو أفول، الخيار العسكري في مواجهة إسرائيل عربيا وفلسطينيا، لانعدام، أو للافتقار، لإمكانياته ومتطلباته، وأيضا بالنظر لتكلفته الباهظة، على ضوء ما حصل في غزة ولبنان، إضافة إلى أنه يكاد لا يوجد طرف عربي أو فلسطيني يدعو إليه بشكل جاد، أو مسؤول، في الظروف الراهنة، وفي المدى المنظور، علما بأن ذلك لا يفترض الخضوع لإرادة إسرائيل، أو لسياساتها، أو صرف النظر عن أشكال الكفاح الممكنة وفقا للوضع الراهن فلسطينيا وعربيا ودوليا. وقد يفيد هنا التذكير بأن إسرائيل ظلت تقصف مواقع الجيش السوري، قبل وبعد سقوط نظام الأسد، كما قصفت معها معسكرات ومقرات فصائل فلسطينية، وقامت باغتيال قياديين فلسطينيين، في سوريا ولبنان (وحتى في طهران)، الأمر الذي يؤثر على سوريا، كما على الفلسطينيين.
على ذلك، ربما لن يلحظ أي دور لسوريا في الصراع ضد إسرائيل مستقبلا، إذ جهود النظام الجديد ستتركز في تعزيز الاستقرار السياسي والأمني والاقتصادي والاجتماعي، واستعادة الدولة، وضمن ذلك معالجة آثار التركة الثقيلة التي تركها الرئيس المخلوع، كأولوية يحتاج إليها الشعب السوري للنهوض بأوضاعه واستعادة عافيته، علما أن كل مقدرات الجيش السوري باتت متهالكة، فضلا عن أن ما تبقى منها قامت إسرائيل بتدمير معظمه، في غارات متوالية شنتها بعد سقوط النظام مباشرة، كما قدمنا. لذا ليس من الحكمة، ولا بأي شكل، ولا تحت أي مبرر، التطلب من النظام الجديد أي شيء عملي على هذا الصعيد، في المدى المنظور.
وفي ما يخص سياسة النظام الجديد إزاء اللاجئين الفلسطينيين في البلد فهي على الأرجح ستتأسس على مساواتهم بالسوريين، باستعادة حقوقهم التي كانت قبل قيام النظام الفارط بالانقلاب عليها، وضمهم للقيود المدنية السورية، بعد أن كان لديهم قيود كلاجئين يتبعون لمؤسسة اللاجئين الفلسطينيين. التطور اللافت، الذي يجدر ذكره هنا، يتعلق بإنهاء الخدمة العسكرية الإلزامية في سوريا، ما يسقطها عن الفلسطينيين، وهذا يقضي بحل “جيش التحرير الفلسطيني” أيضا، الذي كان يعتبر جزءا من الجيش السوري. وعليه، فربما تفضي الأحوال إلى منح اللاجئين الفلسطينيين مكانة المواطنة، على غرار فلسطينيي الأردن؛ ما يعزز من مكانتهم، ويسهل حياتهم، دون أن يتعارض ذلك مع هويتهم الوطنية وانتمائهم لقضية شعبهم.
أما على الصعيد الرسمي فيبدو أن السلطة الجديدة، وتجاوزا لكل مداخلات علاقة النظام السابق بالفلسطينيين، تركز على إقامة علاقة مع “منظمة التحرير الفلسطينية”، كممثل للشعب الفلسطيني، وقضيته، وهذا أمر إيجابي مبدئيا، ويفترض تعميقه وتعزيزه، وهذه فرصة من أجل التأسيس لعلاقات فلسطينية-سورية سليمة، بعد قرابة ستة عقود من المداخلات الصعبة والتوترات المكلفة؛ وهذا ما تبين من التواصل الحاصل بين وفد الرئاسة الفلسطينية، التي تمثل المنظمة والسلطة و”فتح”، الذي التقى الرئيس السوري أحمد الشرع في دمشق مؤخرا.
علما أن السلطة الجديدة كانت وجهت رسالة معبرة بوضع يدها على معظم مقرات ومعسكرات الفصائل الموالية للنظام السوري (“الصاعقة”- “القيادة العامة”- “فتح الانتفاضة”)، ومطالبتها كل الفصائل بتسليم الأسلحة التي لديها، وقيامها باعتقال وملاحقة المتورطين من الفصائل، بالمشاركة مع النظام في قتل السوريين والفلسطينيين. وقد يجدر التنويه إلى أن معظم تلك الفصائل لا تتمتع برصيد شعبي أصلا، وهي غير مؤثرة على أي صعيد، وكانت تستمد نفوذها من الامتيازات التي كان يمنحها إياه ذلك النظام، ودعمها من قبل إيران، لذا فهي لن تجد مكانا لها في العهد الجديد، على الأغلب، ولا قبولا في مجتمع الفلسطينيين السوريين.
وعلى أية حال، فإن تأثير مجتمع فلسطينيي سوريا في الحركة الوطنية الفلسطينية، بات هامشيا، كغيره من مجتمعات اللاجئين الفلسطينيين، بحكم انتهاء الكفاح المسلح من الخارج، منذ أربعة عقود، ونقل مركز القيادة إلى الضفة والقطاع، وتحول الحركة الوطنية الفلسطينية إلى سلطة، منذ ثلاثة عقود، وبواقع تهميش منظمة التحرير، وتاليا الخضوع للدولة التي يعيشون بين ظهرانيها، فاقم من كل ذلك تحطيم أو تفكيك مجتمع اللاجئين الفلسطينيين في سوريا ولبنان والعراق، مع تهجير أعداد كبيرة منه إلى دول أجنبية، ما يمكن معه الحديث عن اختفاء، أو ضمور، مجتمعات اللاجئين الفلسطينيين من الخريطة الجغرافية والسياسية.
يبقى من الضروري لفت الانتباه هنا إلى أن مزاج معظم الفلسطينيين الناشطين سياسيا في سوريا، سيما من الأجيال الجديدة، منحاز إلى الوطنية الفلسطينية، وهو يرى أن النظام السوري السابق لطالما استهدف تلك “الوطنية”، وحاول تقزيم شأنها وتقييدها. ومعلوم أن هذه “الوطنية” تتمثل بشكل أكثر في “فتح”، أكثر من أي فصيل آخر، بيد أن ذلك لا يعني أن ثمة تطابقا تاما بين توجهات هؤلاء مع السياسات التي تنتهجها قيادات “فتح”. لكن مشكلة هؤلاء، من الذين يشكلون المزاج العام للاجئين غير المنتمين إلى الفصائل، افتقارهم لإطارات عمل منظمة، ولمنابر يمكنهم من خلالها التعبير عن ذاتهم، كما افتقادهم للشرعية والإمكانيات اللازمين للعمل في ظروف الساحة الفلسطينية، ما يضعف من تأثيرهم، مع ذلك من المنتظر أن هذا القطاع ربما يكون الأكثر استفادة من التغييرات التي قد تجري في سوريا.
وباختصار، ثمة مجال للجزم بأن وضع الفصائل الفلسطينية في سوريا، وضمنه نشاط “منظمة التحرير”، سيتحدد بحسب شكل النظام السياسي الذي سينشأ، بعد المرحلة الانتقالية، إذ على الأرجح ستختفي بعض الفصائل، التي كانت تعتمد في وجودها على نظام الأسد، وإن بقيت فهي لن تكون فاعلة أو ملحوظة، لا رسميا ولا شعبيا، وربما أنها لن تحظى بأية شرعية سياسية أو قانونية أو مجتمعية، سيما أن النظام الحالي حل حزب “البعث”، كما حل كل أحزاب “الجبهة التقدمية” في سوريا، والأحرى أن ذلك سيشمل الفصائل التي كانت تشتغل وفقا للوظيفة السورية، في الحالة الفلسطينية، في إطار النظام السابق.
المجلة
————————————-
حكاية مديرية صحة طرطوس وتَضخُّمها الإداري: نموذج عن مشاكل المؤسسات السورية والحلول المطروحة اليوم/ عبد الحميد يوسف
17-02-2025
«كنت إذا بتمرّ من قدّام مديرية الصحة، بتوصل ع بيتك موظف فيها».
تنتشرُ هذه العبارة كثيراً في مدينة طرطوس للسخرية من مدير الصحة السابق خير الدين عبد الستار السيد، وهو شقيق وزير الأوقاف السابق محمد عبد الستار السيد. كان خير الدين السيد مديراً لصحة طرطوس منذ العام 2001 حتى أواخر العام 2012، وكان معروفاً بتوظيف أعداد كبيرة في المديرية وما يتبع لها من مؤسسات صحية وإدارية. وقد انفجرت مشكلة المديرية مؤخراً في طرطوس بعد سقوط نظام الأسد، ونستطيع القول إن خير الدين السيد كان منعطَفاً بارزاً في المسار الذي قاد إلى هذا الوضع، لكن الأمر لا يقتصر عليه، بل هو امتدادٌ لكل سياسات النظام السابق الإدارية قبل ذلك وبعده، وخاصة في السنوات الأخيرة من حكمه.
يُشكّل حجم الترهُّل الإداري وفائض العمالة في أغلب المؤسسات السورية تحدياً هائلاً، تعاملت معه حكومة تسيير الأعمال حتى الآن بالتسريحات التعسفية، أو الإجازات الإدارية المأجورة المؤقتة التي توحي أن هناك تسريحاً بعدها، ما تسبب بتوترات واعتصامات مستمرة، و قرارات متضاربة متتالية كانت مديرية صحة طرطوس نموذجاً مكثفاً عنها.
ويمكن تكثيف المشكلة الراهنة في مصطلح البطالة المقنّعة الذي استخدمته الوزارة الجديدة لوصف واقع القطاع الصحي في طرطوس، إذ لدينا فائضٌ من الموظفين الذين لا تحتاجهم المؤسسات، وبعضهم لا يتمتع أصلاً بالكفاءة اللازمة لشغل الموقع الذي يحتله على الورق، وبعضهم يشغل مواقع أقل من كفاءته الفعلية، بل وبعضهم يتقاضى راتبه دون أن يذهب إلى العمل أصلاً. يُشكِّلُ هذا عبئاً على الاقتصاد وهدراً للجهود البشرية والمالية، ويبدو نظرياً أنه لا حلَّ لهذه المشكلة إلّا بإنتاج مشكلة أخرى، عبر تسريح عدد من العاملين والموظفين بما يتناسب وحاجة كل مركز داخل كل قطاع إداري. لكن هذا قد يكون كارثة في الحالة السورية الراهنة، حيث يفتقدُ كثيرون لثمن رغيف الخبز في ظروف من الغياب شبه التام لفرص العمل.
ثلاث مراحل عامة قادتنا إلى الوضع الراهن في مديرية صحة طرطوس
المرحلة الأولى هي فترة إدارة خير الدين السيد وفريقه، وخاصة مدير مكتبه باسل عيسى، لمديرية الصحة. يصفهم كثرٌ في طرطوس بأنهم أصحاب أيادٍ بيضاء بسبب مساعدتهم في توظيف عدد كبير من الناس في مراكز قطاع الصحة. أبو علي موظف في القطاع الصحي داخل المدينة، فضّلَ عدم ذكر اسمه الصريح، يشرح لنا سبب هذا «الكَرَم» الذي كان يغدقه خير الدين ومدير مكتبه، إلى جانب سُمعتهما بالفساد داخل المديرية، إذ كانا يعملان على كسب قاعدة شعبية كبيرة داخل المدينة بسبب طموحاتهما في الوصول إلى مجلس الشعب: «استغلَّ باسل عيسى هذا النهج عند مديره خير الدين السيد ليوظٍّفَ عدداً كبيراً من أهالي منطقته في ريف طرطوس، فقد نُسِبَ له الفضل في المساعدة ومدِّ يد العون للناس، أما صفقات الفساد وسرقات دفاتر الوقود، فلم يكن يعلمها أحدٌ سوى الذين داخل العمل. كان باسل يؤسّسُ لطموحه في الوصول إلى مجلس الشعب بهذه الطريقة».
لم تكن هذه المشاكل والأساليب استثنائية أو غريبة في عهد الأسد، فالفسادُ الإداري هو قلبُ المنظومة وخطُّتها الرئيسية. وقد استفاد خير الدين وفريقه في تلك الفترة من «الانفتاح» الذي شهدته سورية، إذ افتُتحت مراكز طبية كثيرة على أيامهم وتم اعتبار الأمر من إنجازاتهم، حالهم في ذلك حال غيرهم في القطاعات التي تطورت في «زمن الأتمتة» و«الدعم الخارجي» و«نشاط الجمعيات والمنظمات» الذي حظي به البلد في عصر الانفتاح الصغير ذاك.
أُعفي خير الدين السيد من مهامه في إدارة مديرية صحة طرطوس في 14 كانون الأول (ديسمبر) 2012، وعيِّنَ في العام 2014 محافظاً إدارياً لإدلب حتى العام 2017، وفي عهده خرجت محافظة إدلب كلها تقريباً من سلطة النظام، لكنه نجحَ أثناء ذلك في انتخابات مجلس الشعب عن مدينة طرطوس، وبقى عضواً في المجلس من 2016 إلى 2020. كما نجح معه مدير مكتبه السابق باسل عيسى في الدورة ذاتها (2016 – 2020)، وعاد باسل ونجح في دورة 2024 الأخيرة قبل سقوط الأسد.
المرحلة الثانية من رحلة التضخُّم في أعداد موظفي صحة طرطوس بدأت بعد اندلاع الثورة، وتحديداً بعد أن تحولت الثورة السلمية إلى حرب نتيجة عنف النظام الدموي. كان عناصر جيش النظام السوري يُقتَلون على الجبهات تاركين عائلات بلا مُعيل، وأخذ النظام يوزع «التعويضات على أهالي الشهداء» عبر توظيف أفراد منهم في القطاعات الحكومية.
في العام 2014، وافقَ مجلس الوزراء في النظام السابق على مشروع القرار المُقدَّم من وزارة العدل، والذي يتضمّن التعليمات التنفيذية للقانون رقم 36 في 2014، المُتعلّق بـ«تخصيص نسبة 50% من شواغر الجهات العامة لتعيين ذوي الشهداء». يقول من تحدثتُ معهم في مديرية صحة طرطوس إن أكثرية العقود الممنوحة وفقاً لهذا الإجراء كانت لمُستخدَمين ومُستخدَمات في المشافي والمراكز الطبية، وكان هذا في الواقع «تَصدُّقاً» على العائلات بالفُتات، الأمر الذي يلتقي مع حكايات فساد «مكتب الشهداء» المعروفة في طرطوس. حتى مع عائلات جنود جيشه، لم تكن مؤسسات النظام السوري السابق أقلّ فساداً، ومن أمثلة ذلك تأخير شهادات الوفاة لتأخير تسليم الرواتب للأهالي وابتزازهم بهذا الأمر، وأغلبهم من العائلات شديدة الفقر التي كانت في أشد مراحل حاجتها لما يسدّ الرمق، وهو ما تؤكده شهادات عديدة من طرطوس.
المرحلة الثالثة تتمثل في عقود التوظيف للمُسرَّحين من الخدمتين الالزامية والاحتياطية في الجيش، وتحديداً اعتباراً من العام 2019. في العام 2021 نشرت وكالة سانا الرسمية للأنباء: «في مجال دعم وتمكين المُسرَّحين من الخدمة العسكرية الالزامية والاحتياطية، أعلنت الوزارة في الـ13 من شباط الماضي نتائج مسابقة المُسرَّحين الذين تقدَّموا لأكبر مسابقة مركزية واختبار للتعاقد مع الجهات العامة، ضمن برنامج دعم وتمكين المُسرَّحين لسدِّ احتياجاتها من اليد العاملة بعقود سنوية من الفئات الأولى والثانية والثالثة والرابعة والخامسة وفي جميع المحافظات. وبلغ العدد الكُلّي للمُتقدّمين للمسابقة من جميع الفئات 27780، نجحَ منهم 27723 بنسبة نجاح 99.79 بالمئة».
كانت تلك دفعة أولى من العقود فقط، إذ تتالت دفعات أخرى بعدها. تَوزَّعَ أكثر الناجحين في محافظة طرطوس على مؤسسات الصحة والكهرباء والدفاع المدني في المدينة وريفها. وطبعاً قبل ذلك وبعده، لا يمكن الإحاطة بأعداد من تم توظيفهم عن طريق المحسوبيات والرشاوى، أو عن طريق وضع أسماء وهمية لموظفين غير موجودين بشكل فعلي. كل هذا كان موجوداً دائماً في مديرية صحة طرطوس، كما يؤكد لنا أبو علي، ولكن أيضاً كما يعرف جميع السوريين عن أسلوب إدارة المؤسسات العامة في سوريا زمنَ النظام السابق.
اللحظة الراهنة في مديرية صحة طرطوس
فرَّ بشار الأسد في 8 كانون الأول (ديسمبر) الماضي، تاركاً خلفه بلداً مُدمَّراً على كل المستويات. دمَّرَ النظام شرايين البلاد الإنتاجية، واستنزفَ موارد الجميع بما في ذلك جمهور مواليه وأنصاره، ووضعَ المجتمع كله تحت سلطة الإتاوات بأشكال مباشرة وغير مباشرة، وخاصة بعد العام 2019، عندما حوّلَ دولته إلى مؤسسة لجباية الأموال من الناس القاطنين في مناطق سيطرته دون تفريق. كان حشو المؤسسات العامة بالموظفين سياسية لمنح ثمن رغيف الخبز لعائلات كثيرة، ولم تكُن المعاشات تكفي لأكثر من ذلك فعلاً. ولذلك استبشر أغلب الناس خيراً بسقوطه.
استلمت القيادة العسكرية والسياسية لهيئة تحرير الشام زمام السلطة بزعامة أحمد الشرع، الذي عيّنَ الوزراء من حاشيته السابقة لتسيير الأعمال حتى تشكيل حكومة انتقالية، وتم تكليف شقيقه ماهر الشرع قائماً بأعمال وزارة الصحة. يتحدث الموظفون في المديرية عن أن متابعة العمل كشفت عن حاجتها لميزانية عالية جداً من أجل سدّ كتلة الرواتب فيها، وانتشرت أنباء عن أعداد كبيرة جداً من الموظفين في القطاع الصحي في محافظة طرطوس.
تقول معلومة شاعت الشهر الماضي في طرطوس إن وزارة الصحة قدّرت عدد الموظفين في المشفى الوطني (الباسل سابقاً)، وهو أكبر مشافي المحافظة، بـ7063 موظفاً وعاملاً في مقابل 180 سريراً. ليس هناك مصدرٌ لهذه المعلومة على صفحات الوزارة ولا على صفحات مديرية الصحة على الإنترنت، ما يجعل الرقم الهائل هذا مجّرد شائعة، لكنها انتشرت كالنار في الهشيم، واستُخدِمَت في دوائر كثيرة لوضع أهالي المدينة جميعاً في خانة الفاسدين المتواطئين مع النظام السوري السابق. لكن مدير المشفى السابق، اسكندر عمار، أكَّدَ لموقع سناك سوري أن عدد العاملين في المشفى هو 2224 شخصاً في حين أن عدد الأسرّة 562 سريراً، نافياً صحة تلك الإشاعة. وعدد الأسرّة هذا مؤكَّدٌ في أكثر من مقال سابقٍ عن المشفى، آخرها في العام 2016 على موقع وكالة سانا، وقد وصل عدد موظفي المشفى بحسبه إلى 1700 في ذلك الوقت.
يقول عماد (اسم مستعار)، وهو موظف في قطاع الصحة في طرطوس، للجمهورية.نت إن المعلومة الثانية هي الأدق، «لأن المشفى كبيرة، تتألف من خمسة طوابق بالإضافة إلى قسم الإسعاف الكبير. ويبقى رقم 180 سرير صغيراً جداً بالنسبة لمستشفى بهذا الحجم». يؤكد عماد أن عدد العاملين لا يتجاوز 2500، وأنه من الإجحاف أصلاً تقسيم عدد العاملين على عدد الأسرّة الموجودة كما شاع على وسائل التواصل الاجتماعي، لأن «المشفى يحتاج فنيين وحُرّاساً ومستخدمين ومَطبخاً، وغير ذلك من إداريين وممرضين وأطباء، كما أن عدد الذين أُعلن عن نية فصلهم من مشفى الباسل وصل إلى 1100، ما يضع المشفى في حالة نقص بالموظفين، وما يجعلني وزملائي نميلُ إلى تصديق الشائعة عن خطة إدخال كوادر جديدة من خارج المحافظة بدلاً عن المفصولين».
جديرٌ بالذكر أنه في العام 2003 صدر المرسوم التشريعي الذي تم بموجبه اعتبار «مشفى الباسل في طرطوس هيئة عامة تتمتع بالشخصية الاعتبارية والاستقلال المالي والحقوقي»، أي أن إدارة المشفى تتبع لوزارة الصحة بشكل مباشر، وأنها لم تكن تابعة للمديرية في معظم سنوات إدارة خير الدين السيد. لكن العودة إلى تواريخ أسبق، تُظهِرُ أن خير الدين السيد كان مديراً للمشفى، ومعه نائبه باسل عيسى نفسه، قبل أن يصبح مديراً للصحة، ما يُرجَّح أنه كان يستخدم النهج نفسه هناك.
وعلى كل حال، لا يُغير تصويب المعلومة بشأن عدد موظفي المشفى من حقيقة أن هناك عمالة فائضة، إذ لا يحتاج المشفى إلى 2500 موظف حسب تَقاطُع المعلومات التي أمكنَ جَمعُها، وقد كان يعمل بـ1700 موظف لعدد الأسرّة نفسه في العام 2016. كما أن هذا لا يُغيّر من حقيقة أن الأعداد في القطاع الصحي أعلى من حاجة مَلاك المديرية، نتيجة جميع الظروف السابق ذكرها، وهو ما تعاملت معه الإدارة الجديدة بالعمل على تقليل أعداد الموظفين.
تظاهرَ عشرات من العاملات والعاملين أمام مديرية الصحة في 23 كانون الأول (ديسمبر) الماضي، بعد انتشار أخبار عن أنه سيتم فصل أعداد كبيرة منهم وإعطاء إجازة مدفوعة لمدة ثلاثة أشهر لأعداد أخرى، ريثما يتم النظر في الفساد الإداري وأسماء الموظفين الوهمية.
في 8 كانون الثاني (يناير) نشرت مديرية صحة طرطوس، على صفحتها على فيسبوك، منشوراً يدعو المعترضين على فصلهم إلى تقديم اعتراض إذا استوفوا معايير حَدَّدتها الوزارة: «تتضمن معايير الإيقاف، كل من لم يلتزم بالدوام خلال الفترة الماضية، بمن فيهم من حصل على إجازة بلا أجر، وكل من لم يكن على ملاك مديرية صحة طرطوس، ومن تجاوز 30 سنة خدمة، كذلك من تجاوز عمره 55 عاماً على أن يكون قد أتمَّ 25 سنة خبرة باستثناء الأطباء، ومن لا يحمل شهادة علمية تُناسب المنصب الوظيفي».
وتضمنت القائمة أيضاً معايير تفضيلية للموظفين الذين لم يتم استبعادهم وفق المعايير السابق ذكرها، وتتضمن المعايير كل من كان له «إجراءات انضباطية أقل»، ومن حقق نتيجة تقييم أداء أعلى بموجب نموذج التقييم، كذلك كل من كان مكان إقامته أقربَ للعمل، وتُعطَى 25 علامة لكل من البنود التفاضلية السابقة، كالتالي:
-25 درجة لمن ليس له أي إجراء انضباطي وتنقص 5 درجات لكل إجراء خلال الخمس سنوات الفائتة.
-25 درجة لمكان الإقامة وتنقص 5 درجات عن كل 25 كم بعداً عن مكان العمل بالسيارة».
يرى كثير من العاملين الذين تحدثت الجمهورية.نت معهم، وكذلك من خلال التعليقات على وسائل التواصل، إجحافاً كبيراً في هذه المعايير، وخاصة بشأن مكان الإقامة، فهل بُعد منازلهم عن مكان العمل يعتبر سبباً كافياً لاستبعادهم من عمل التزموا به في أسوأ الظروف كما في وقت جائحة كورونا؟
عاد عاملون وعاملات للاحتجاج أمام المديرية في 9 كانون الثاني (يناير)، بعد تأكيد أنباء التسريح والإجازات المدفوعة شفيهاً من قبل رؤساء الدوائر، بالإضافة إلى الإعلان عن إغلاق نحو عشرين مركزاً طبياً في الأرياف البعيدة عن المدينة. اعتبر الموظفون أن هذه الإجراءات استهدافٌ للقطاع الخدمي الصحي، الذي يؤمن، فضلاً عن الوظائف، خدمات طبية إسعافية في أرياف بعيدة لا يستطيع أهلها التوجه إلى المدينة بسبب غلاء المواصلات وبُعد المسافات.
وما جعل الأمر أكثر صعوبة بالنسبة للموظفين، هو أنه جاء بعد تطمينات السلطة الجديدة بأنه لن يكون هناك انتقامٌ من أحد بما في ذلك من يُصنَّفون أنصاراً أو حاضنة للنظام السابق، وبعد إعلان حكومة تسيير الأعمال عن زيادة قادمة على الرواتب بقيمة 400 بالمئة. بدت هذه الإجراءات تراجُعاً عن التطمينات، واعتبرها بعض الموظفين استهدافاً لهم بسبب خلفيتهم الطائفية.
أبو زياد موظف متقاعد من مديرية الصحة، يقول للجمهورية.نت: «بات معروفاً نهج نظام الأسد السابق في تفريغ الساحل السوري من المشاريع الاقتصادية التي تؤمن فرص عمل، من أجل ربط أبناء الطائفة العلوية به بشكل خاص وتكريس ولاءهم له. الوظائف مصدر دخل وحيد لأغلب الناس هنا، خاصة أن الأعمال الأخرى على قلّتها ما زالت متوقفة منذ فرار الأسد، ولم يتحرك السوق باستثناء سوق الغذائيات الذي لا استغناء عنه، وخاصة بعدما غرقت شوارع طرطوس ببسطات المعلبات والحبوب والوقود القادم من إدلب وبأسعار منافسة جداً، ما أغلق حتى باب المعيشة الصغير ذاك بالنسبة لكثيرين».
تقول نهاد (اسم مستعار) للجمهورية.نت، وهي موظفة في مديرية الصحة، إن الوزارة الجديدة عيّنت الطبيب علاء برهوم مشرفاً على مديرية صحة طرطوس بعد كفِّ يد المدير السابق أحمد عمار: «علاء برهوم من الأطباء العاملين في مديرية صحة إدلب ومن ضمن لجنة أمنائها في آخر 4 سنوات، عينته الوزارة مشرفاً على مديرية صحة طرطوس في 29 كانون الأول الماضي، وقد طلبَ من رؤساء الأقسام تحديد العدد اللازم ضمن مَلاك كل قسم، واختيار أصحاب الكفاءة فقط، والذين على رأس عملهم، ما فتح الباب من جديد للمحسوبيات. لقد صدرت تعليمات كثيرة لموظفين كُفء وعلى رأس عملهم بالعودة إلى بيوتهم إلى حين صدور قرار فصلهم أو تسوية المشكلة». تؤكد نهاد أنها وأكثريةَ زملائها لم يلتزموا بالقرار، فالتخبُّط كان سيؤدي إلى توقف القطاع الصحي عن العمل لو امتثلَ العاملون جميعاً للقرار، وذهبوا إلى بيوتهم دون تعويض مكانهم.
يؤكد من تحدثنا إليهم على وجود مشكلة إدارية أخرى، يبدو حلها صعباً دون «ظلم» على حد تعبيرهم، فالمدير الأسبق خير الدين السيد كان يوظف العاملين على مَلاك المستخدمين حتى لو كانت شهادتهم العلمية أو المهنية تؤهّلهم لما هو أعلى من ذلك، ما تركَ فجوة إدارية يصعب التعامل معها بشأن تقييم الكفاءة وتَناسُبها مع الموقع الوظيفي.
يقول أبو علي إن آخر القرارات هي تسريح كل العاملين والموظفين ما قبل عام 2000، أي من أتمّ 25 سنة خدمة، وسيبقى العاملون والموظفون بعد العام 2000 ضمن معايير الكفاءة والحاجة. يؤكد أبو علي أن المشكلة تكمنُ في أن الموظفين ذوي النفوذ هم من سيقررون من يستحق، فالوزارة الجديدة لا تعرف العاملين ولا تستطيع تفنيد أعمالهم بدقة: «بعض من لم يتم استبعادهم لا يأتون إلى العمل أصلاً، بل وبعضهم لا يحتاج الوظيفة بسبب انشغاله بأعمال أخرى».
ما زالت مديرية الصحة تعاني من إيجاد حل لهذه المشكلة الإدارية الكبيرة، ويبدو أنها تتخذ إجراءات غير مناسبة في الوقت «الخاطئ»، إذ لا يمكن رمي الناس عُرضة للجوع في ظل توقف اقتصاد البلد، ولا يمكن تدفيع أفراد تحت خطر الجوع ثمنَ منظومة فساد دمّرت البلد بأكمله، وخاصة أن هذه المشكلة ليست الوحيدة.
يقول جميع من تحدثنا معهم في مديرية الصحة إن الدكتور علاء برهوم ألغى قرار الإجازة المدفوعة لثلاثة أشهر كمدة للنظر في حال العاملين، ودعاهم للالتحاق بعملهم، بعدما ظهر خطأ القرار، إذ طالما أن العاملين سيأخذون رواتبهم، لماذا يجلسون في بيوتهم وتتوقف مراكز ومواقع عن العمل بسبب ذلك؟ لكن هذا لا يعني تَراجُع الوزارة عن العمل على حل المشكلة، فقد أكدّت نهاد أن الأسبوعين القادمين سيشهدان قرارات غير شفهية هذه المرة، وخصوصاً مع قرب نهاية الشهر وخطورة نفاد المواد الأولية اللازمة للرعاية الطبية.
أعادت مديرية الصحة جميع المفصولين الذين لم تشملهم المعايير، أو الذين أَوعَزَ لهم رؤساء أقسام بالبقاء في منازلهم في إجازة مدفوعة إلى حين البت في قضاياهم، كما أعادت المراكزَ الطبية في الأرياف إلى العمل، لكن كل هذه الإجراءات تم اتخاذها شفهياً، وبشكل يتفاعل مع الضغط الشعبي ويتأثر به.
يترافق كل ذلك مع إجراءات مشابهة في أغلب المؤسسات العامة في محافظة طرطوس وغيرها، في سياق من تخبُّط الإدارات الحديدة في حلّ قضية الترهُّل الإداري، مع وجود أحاديث شائعة شعبياً عن عمل الإدارة الجديدة على «صبغ المؤسسات في الساحل بلون آخر»، وهو ما لا يمكن تأكيده قبل صدور قرارات مكتوبة ونهائية، لكنه يتوافق مع تعيينات «اللون الواحد» في حكومة تسيير الأعمال. بالمقابل يعتبر كثيرون أن ما يجري من تجاذبات وإجراءات وتَراجُع عنها عندما يثبت خطأها أمر طبيعي، على طريق تنظيف المؤسسات من أتباع الأسد الذين ينتهجون نهج نظامه في الفساد والمحسوبيات التي تقود إلى تدمير الاقتصاد والعملية الانتاجية.
تبقى الأمور مُعلَّقة إلى حين تشكيل الحكومة الانتقالية الموعودة في الأول من آذار (مارس) القادم كما هو مُعلَن، وتبقى البلاد تنتظر حلّاً لا يقود أبناءها وبناتها إلى الجوع أو الاضطرار إلى الانقياد وراء من يطعمهم ويحميهم، في بلد يتمنى أهله أن يتخلّصوا من كل ما هو تعسّفي أو مُذلّ فيه.
موقع الجمهورية
——————————
بعد سنوات من الركود.. أي القطاعات ستحمل لواء النهوض الاقتصادي في سوريا؟/ عبد العظيم المغربل
2025.02.17
بعد سقوط النظام المخلوع، برزت أسئلة كثيرة حول ماهية القطاعات الاقتصادية التي يمكن الاعتماد عليها في التنمية الاقتصادية والنهوض الاقتصادي في سوريا وإعادة الإعمار بعد سنوات من الحرب. وفي هذا الإطار، وضمن مقابلة مع تلفزيون سوريا بتاريخ 3 شباط/فبراير 2025، قال الرئيس السوري أحمد الشرع إنه يتم تشكيل فريق اقتصادي يضم خبرات سورية من داخل البلاد وخارجها. يعمل هذا الفريق على تحليل البيانات المتوفرة حول الاقتصاد السوري وإعداد خطة إصلاح اقتصادية تمتد لعشر سنوات، تهدف إلى تحويل سوريا إلى بيئة استثمارية جاذبة.
تتألف هذه الخطة من ثلاث مراحل: إسعافية على المدى القصير، متوسطة المدى، وبعيدة المدى، وتركز على إعادة هيكلة الاقتصاد وتعزيز الإنتاج المحلي. وأشار الرئيس الشرع أيضاً إلى أن الاقتصاد السوري يعتمد بشكل أساسي على الزراعة ثم الصناعة، إلى جانب أهمية العمل على تطوير البنية التحتية من اتصالات ونقل وكهرباء ومياه. كما أن تعزيز الإنتاج المحلي وتقليل الاعتماد على الاستيراد يعدان من الأولويات لتحقيق الاكتفاء الذاتي للاقتصاد السوري.
وشدد الرئيس على أهمية تعزيز الأمن، لما لهذا العامل من دور في جذب الاستثمارات إلى البلاد، حيث تأتي هذه الخطوات في إطار نهج مؤسسي يهدف إلى بناء اقتصاد مستدام لسوريا، ويسهم في تطوير القطاع الخاص وخلق فرص عمل جديدة تسهم في تخفيض معدلات البطالة.
وفي تعليقه على سؤال حول ماهية القطاعات الاقتصادية التي يمكن الاعتماد عليها في التنمية الاقتصادية لسوريا، قال الباحث الاقتصادي مخلص الناظر في حديث مع موقع تلفزيون سوريا: “يمكن الاعتماد على قطاعي الزراعة والصناعة كركيزتين أساسيتين في نهوض الاقتصاد السوري، ولكن بشرط تبني استراتيجيات تنموية فعالة. تاريخياً، كان هذان القطاعان يشكلان جزءاً كبيراً من الناتج المحلي الإجمالي لسوريا، حيث تمتلك البلاد موارد طبيعية وزراعية غنية، بالإضافة إلى قاعدة صناعية يمكن إعادة تأهيلها وتطويرها. ومع ذلك، فإن الاعتماد الحصري عليهما قد لا يكون كافياً، إذ يجب دمجهما مع قطاعات أخرى مثل التجارة والخدمات والتكنولوجيا لتحقيق تنمية شاملة”.
دور القطاع الزراعي في النهوض الاقتصادي
يعد القطاع الزراعي أحد الدعائم الأساسية للاقتصاد السوري، حيث كان يمثل أكثر من 19% من الناتج المحلي الإجمالي حتى عام 2011، وفقاً لمنظمة FAO، على الرغم من تقدم بعض القطاعات الأخرى. كما يعمل به أكثر من 25% من القوى العاملة في سوريا، وتبلغ مساحة الأراضي الصالحة للزراعة حوالي 32% من إجمالي مساحة البلاد، أي ما يعادل 6.5 ملايين هكتار، مما يجعله قطاعاً استراتيجياً في إعادة النشاط الاقتصادي وتحقيق الأمن الغذائي. إلا أن المساحات المستغلة فعلياً شهدت انخفاضاً ملحوظاً بسبب الأضرار التي لحقت بالبنية التحتية، وتراجع الدعم الحكومي خلال العقد الماضي، وهجرة اليد العاملة نتيجة للحملات العسكرية التي شنها النظام البائد على المدن والأرياف. كما يعد نقص الموارد المائية أحد أكبر التحديات التي تواجه القطاع الزراعي، حيث انخفضت حصة الفرد من المياه بنسبة 40% خلال العقدين الماضيين نتيجة التغيرات المناخية وتضرر شبكات الري، وفقاً لمؤسسة كارنيغي للسلام الدولي.
وفي تصريحه لتلفزيون سوريا، قال الدكتور مخلص الناظر: “تُقدَّر أهمية قطاعي الزراعة والصناعة بنسبة كبيرة في إعادة بناء الاقتصاد السوري، ولكن هذه النسبة تعتمد على مدى توفر الظروف الملائمة للاستثمار والإنتاج. يمكن تقدير أهمية هذين القطاعين وفق عدة معايير، فالزراعة يمكن أن تساهم في تنمية الاقتصاد السوري بنسبة 35-40%، حيث تعد من أكثر القطاعات الواعدة، خاصة أن سوريا تتمتع بتربة خصبة، ومناخ متنوع، ووفرة في الموارد المائية رغم التحديات المتعلقة بشح المياه في بعض المناطق. الاستثمار في هذا القطاع يعزز الأمن الغذائي، ويخلق فرص عمل، ويقلل الاعتماد على الاستيراد”.
ما هي مقترحات النهوض بالقطاع الزراعي في سوريا؟
يعد النهوض بالقطاع الزراعي في سوريا ضرورة اقتصادية واستراتيجية تتطلب معالجة شاملة لمختلف التحديات التي واجهها القطاع خلال سنوات الحرب. ولتحقيق ذلك، يجب تبني نهج متكامل يقوم على إعادة تأهيل البنية التحتية، وتعزيز القيمة المضافة عبر الصناعات التحويلية، وتحقيق الأمن الغذائي والاستدامة الاقتصادية. ويشكل كل محور من هذه المحاور ركيزة أساسية في استعادة الدور الريادي للزراعة في دعم الاقتصاد السوري، وذلك من خلال ما يلي:
إعادة تأهيل البنية التحتية الزراعية وتحسين الإنتاجية
تعرضت مساحات واسعة من الأراضي الزراعية في سوريا للتلف نتيجة للحرب، فقد تضررت شبكات الري التقليدية، وانخفضت كفاءة الأراضي المنتجة بسبب الإهمال وندرة المدخلات الزراعية. وفقاً للتقارير، فقد تضرر ما يقارب 50% من أنظمة الري بشكل جزئي أو كلي، مما أدى إلى تراجع الإنتاج الزراعي بنسبة كبيرة.
لذلك، فإن إعادة تأهيل شبكات الري وتحديثها باستخدام أنظمة الري الحديثة، مثل الري بالتنقيط والري المحوري، تعد خطوة أساسية لتحسين الإنتاجية الزراعية وتقليل الهدر المائي. بالإضافة إلى ذلك، يجب تقديم حوافز للمزارعين لتشجيعهم على العودة إلى العمل الزراعي، من خلال تيسير الحصول على البذور والأسمدة المحسنة، وإعادة تأهيل الطرق الزراعية لتسهيل نقل المنتجات من المناطق الريفية إلى الأسواق المحلية والموانئ التصديرية. كما أن إدخال التكنولوجيا الحديثة، مثل الذكاء الاصطناعي والاستشعار عن بعد، يمكن أن يسهم في تحسين التخطيط الزراعي، ورصد الإنتاج، وتوجيه الموارد بشكل أكثر كفاءة.
دعم الصناعات الزراعية التحويلية وزيادة القيمة المضافة
لا يقتصر تطوير القطاع الزراعي على زيادة الإنتاج فقط، بل يجب تعزيز الصناعات التحويلية الزراعية لتحقيق أقصى استفادة من المحاصيل المنتجة. تُعد سوريا غنية بالموارد الزراعية التي يمكن معالجتها محلياً بدلاً من تصديرها كمواد خام، فقد تراجعت صادرات المنتجات الزراعية بنسبة 60% خلال العقد الماضي نتيجة لانخفاض القدرة الإنتاجية وضعف سلاسل التوريد.
لذلك، يتعين إعادة تأهيل أو إنشاء مصانع للمنتجات الزراعية التحويلية مثل مطاحن القمح، ومعاصر الزيتون، ومصانع التعليب والتجفيف، بهدف زيادة القيمة المضافة وتعزيز القدرة التنافسية للمنتجات السورية في الأسواق الإقليمية والدولية. كما أن دعم الابتكار في الصناعات الغذائية، مثل إنتاج الأغذية العضوية والمنتجات الطبيعية الموجهة للأسواق الأوروبية والخليجية، يمكن أن يفتح فرصاً جديدة للصادرات ويخلق وظائف إضافية في الاقتصاد المحلي.
تحقيق الأمن الغذائي وتقليل الاعتماد على الاستيراد
يعد تحقيق الاكتفاء الذاتي الغذائي من الأولويات الاستراتيجية، لا سيما مع ارتفاع أسعار الغذاء عالمياً وتزايد الضغوط على الميزان التجاري السوري الخاسر منذ سنوات. ويكمن الحل في تعزيز زراعة المحاصيل الاستراتيجية مثل القمح، والشعير، والقطن، والذرة، والبقوليات، حيث تتمتع سوريا بقدرة إنتاجية عالية في هذه القطاعات، فضلاً عن الخبرات المحلية المتراكمة في زراعتها.
بالإضافة إلى ذلك، يمكن تبني سياسات زراعية داعمة، مثل تقديم الدعم المباشر للمزارعين، وضبط أسعار المدخلات الزراعية، وتحسين خدمات التسويق والتوزيع الداخلي. كما أن تنويع الإنتاج الزراعي ليشمل زراعات جديدة مثل النباتات الطبية والعطرية، والمنتجات العضوية، يمكن أن يعزز التنوع الاقتصادي ويوفر مصادر دخل إضافية للمزارعين.
خلق بيئة استثمارية جاذبة في القطاع الزراعي
يمثل تطوير القطاع الزراعي فرصة هامة لجذب الاستثمارات المحلية والأجنبية، خاصة في ظل الاهتمام العالمي المتزايد بالاستثمار في الزراعة المستدامة والتكنولوجيا الزراعية الحديثة. فهناك اهتمام متزايد من المستثمرين الدوليين بالمشاريع الزراعية التي تعتمد على التقنيات الذكية، مثل أنظمة الري بالطاقة الشمسية، والزراعة العمودية، والمزارع الذكية، التي تعزز الإنتاج وتقلل من استهلاك الموارد الطبيعية.
كما يمكن للحكومة السورية تقديم حوافز استثمارية، مثل منح تسهيلات ضريبية للمستثمرين في القطاع الزراعي، وتمويل المشاريع الزراعية عبر شراكات بين القطاعين العام والخاص، ودعم إنشاء مناطق زراعية متخصصة، مما يضمن استدامة الاستثمارات ويسهم في تطوير البنية الاقتصادية للبلاد.
ثانياً: دور القطاع الصناعي في النهوض الاقتصادي
يُعدّ القطاع الصناعي أحد أهم محركات الاقتصاد السوري، إذ كان يسهم بحوالي 34% من الناتج المحلي الإجمالي قبل عام 2010، ويُعتقد أنه انخفض إلى 24% عام 2021، ليتنافس مع القطاع الزراعي على المرتبة الأولى، في حين كانت نسبة العاملين فيه تشكل جزءاً هاماً من القوى العاملة، خصوصاً في المدن الصناعية الكبرى مثل حلب ودمشق وحمص. وتمتلك سوريا قاعدة صناعية متنوعة تشمل الصناعات التحويلية، والنسيجية، والدوائية، والبتروكيماوية، والصناعات الغذائية، والتي كانت تسهم في تأمين احتياجات السوق المحلي وتعزيز الصادرات.
إلا أن الحرب أدت إلى أضرار واسعة في القطاع الصناعي، حيث قدّرت وزارة الصناعة السورية في عام 2021 أن الخسائر التي لحقت بالمصانع والمنشآت الصناعية بلغت أكثر من 600 تريليون ليرة سورية (حوالي 150 مليار دولار). كما أن الأضرار المباشرة وغير المباشرة للقطاع حتى عام 2019 قُدّرت بحوالي 23.5 مليار دولار. هذه الأضرار شملت تدمير البنية التحتية، وتوقف الإنتاج، ونقص الإمدادات اللوجستية، وخسارة الأسواق التصديرية، مما أدى إلى تراجع كبير في القدرة الصناعية والإنتاجية للبلاد.
وفي هذا الإطار، يقول الدكتور الناظر لتلفزيون سوريا: “يمكن أن تلعب الصناعة دوراً بنسبة 30-40% في تنمية الاقتصاد السوري، حيث يمكن للصناعة، وخاصة الصناعات التحويلية والمواد الغذائية والنسيجية، أن تؤدي دوراً مهماً في تحريك عجلة الإنتاج وزيادة الصادرات، خاصة إذا تم توفير بنية تحتية حديثة وتحفيز الصناعات الصغيرة والمتوسطة”.
ما هي مقترحات النهوض بالقطاع الصناعي في سوريا؟
إعادة إحياء القطاع الصناعي تتطلب تبنّي سياسات شاملة تستهدف إعادة تأهيل البنية التحتية، وتحفيز الصناعات التحويلية، وتعزيز الإنتاج المحلي، وتحسين بيئة الاستثمار الصناعي، وذلك من خلال ما يلي:
إعادة تأهيل البنية التحتية الصناعية وتعزيز الإنتاجية: تعرضت آلاف المنشآت الصناعية لأضرار جسيمة، خصوصاً في المدن الصناعية الكبرى مثل حلب وريف دمشق وحمص، حيث تضرر أكثر من 50% من المصانع بشكل جزئي أو كلي، مما أدى إلى تعطيل سلاسل الإنتاج والتوزيع. ولإعادة تنشيط القطاع الصناعي، يجب إصلاح المدن الصناعية الكبرى مثل مدينة عدرا الصناعية (ريف دمشق)، والشيخ نجار (حلب)، وحسياء (حمص)، وذلك من خلال توفير البنية التحتية اللازمة، وإعادة تأهيل شبكات الكهرباء والمياه، وتحسين الخدمات اللوجستية التي تسهّل نقل المواد الأولية والمنتجات النهائية. كما أن توفير الطاقة بأسعار معقولة يُعدّ أحد العوامل الحاسمة في إعادة تشغيل المصانع، فقد أدى نقص الكهرباء والوقود إلى توقف العديد من خطوط الإنتاج. لذلك، فإن الاستثمار في الطاقة المتجددة مثل الطاقة الشمسية وطاقة الرياح يمكن أن يوفر حلولاً مؤقتة للمصانع ويقلل من تكاليف التشغيل.
تحفيز الصناعات التحويلية وزيادة القيمة المضافة: تعتمد سوريا على الصناعات التحويلية التي تشمل النسيج، والمنتجات الغذائية، والأدوية، والكيماويات، والإسمنت، إلا أن هذه الصناعات شهدت انخفاضاً حاداً في الإنتاج والتصدير بسبب الحرب. ولإعادة تنشيط هذا القطاع، يجب التركيز على تحفيز الصناعات التي تعتمد على المواد الأولية المحلية والتي يمكن الاعتماد عليها من القطاع الزراعي على سبيل المثال، مثل صناعة النسيج المستندة إلى القطن السوري، ومعاصر الزيتون، والمصانع الغذائية، مما يقلل الحاجة إلى الاستيراد ويعزز القيمة المضافة محلياً.
بالإضافة إلى ذلك، فإن تحديث خطوط الإنتاج عبر إدخال تقنيات حديثة في التصنيع، وتسهيل استيراد المعدات الصناعية، ودعم البحوث والابتكار في الإنتاج، يمكن أن يرفع جودة المنتجات السورية ويجعلها أكثر تنافسية في الأسواق الإقليمية والعالمية.
تعزيز الإنتاج المحلي وتقليل الاعتماد على الواردات: قبل الحرب، كانت سوريا تتمتع بقاعدة صناعية قوية توفر معظم احتياجات السوق المحلي، إلا أن تضرر الإنتاج أدى إلى ارتفاع نسبة الاستيراد إلى أكثر من 70% من إجمالي الاستهلاك المحلي، مما زاد من الضغط على الميزان التجاري الخاسر. لذلك، يجب التركيز على إعادة تشغيل المصانع المغلقة، ودعم إنشاء مصانع جديدة في القطاعات الأساسية مثل الحديد، والإسمنت، والبلاستيك، والبتروكيماويات، والصناعات الغذائية، وذلك عبر تقديم تسهيلات حكومية وخفض الرسوم الجمركية على المواد الأولية اللازمة للصناعة. كما أن دعم المشاريع الصغيرة والمتوسطة في المجال الصناعي يمكن أن يلعب دوراً مهماً في تعزيز الإنتاج المحلي، إذ تسهم هذه المشاريع في خلق فرص عمل جديدة، وزيادة مرونة الاقتصاد، وتحقيق الاستقرار الاجتماعي.
تحسين بيئة الاستثمار وجذب الاستثمارات الصناعية: لضمان استدامة الانتعاش الصناعي، لا بد من تحفيز الاستثمارات المحلية والأجنبية في القطاع، حيث إن العديد من المستثمرين يبحثون عن فرص صناعية جديدة في سوريا، خصوصاً في ظل الكلفة المنخفضة نسبياً لليد العاملة، ويمكن تحقيق ذلك من خلال تقديم حوافز استثمارية، مثل تخفيض الضرائب، وتوفير الأراضي بأسعار مخفضة، وإنشاء شراكات بين القطاعين العام والخاص، وتفعيل صناديق استثمارية. إضافة إلى ذلك، فإن إنشاء مناطق صناعية متخصصة يمكن أن يسهم في تنويع الاقتصاد، مثل مناطق التكنولوجيا المتقدمة، والصناعات الدوائية، والمعدات الطبية، وغيرها، مما يعزز قدرة سوريا على مواكبة التطورات التكنولوجية وجذب استثمارات نوعية.
ثالثاً: دور بقية القطاعات في النهوض الاقتصادي
إلى جانب الزراعة والصناعة، تلعب قطاعات التكنولوجيا، التعليم، النقل، الطاقة، السياحة، الصحة، الخدمات، والتجارة دوراً أساسياً في إعادة بناء الاقتصاد السوري وتحقيق التنمية الاقتصادية؛ إذ يُعدّ قطاع التكنولوجيا من أكثر المجالات الواعدة، نظراً للنقص الحاد في البنية التحتية الرقمية نتيجة للعقوبات المفروضة على البلاد، إضافةً إلى القيود التي فرضها النظام السابق على احتكار التكنولوجيا لصالحه.
لذا، يمكن للتكنولوجيا أن تسهم في رقمنة الخدمات الحكومية، وتطوير قطاع الاتصالات، وتعزيز ريادة الأعمال في البرمجيات والتجارة الإلكترونية، مما يرفع كفاءة الإنتاج ويفتح آفاقاً جديدة لسوق العمل، لا سيما مع تزايد الطلب العالمي على الحلول التقنية.
أما قطاع التعليم، فهو حجر الأساس لبناء رأس مال بشري مؤهل لقيادة الاقتصاد، إذ يتطلب الواقع الحالي إصلاحاً شاملاً للمنظومة التعليمية، وإعادة تأهيل المدارس والجامعات، وربط المناهج بسوق العمل الحديث. وهذا يسهم في رفع مستوى الإنتاجية، والحد من معدلات البطالة بين الشباب، وتحفيز البحث العلمي والتطوير، مما يعزز تنافسية الاقتصاد السوري في المستقبل.
من جهة أخرى، يُعد قطاع النقل عنصراً مهماً في تحفيز الأنشطة الاقتصادية، إذ إن إعادة تأهيل شبكات الطرق، وتحديث السكك الحديدية، وتطوير الموانئ والمطارات ستُمكّن من تقليل تكاليف الإنتاج، وتحسين تدفق السلع والخدمات، وتعزيز القدرة التنافسية للصناعات المحلية، مما يسهم في استقطاب الاستثمارات وزيادة حركة التجارة الداخلية والخارجية.
ويُعد قطاع الطاقة ركيزة أساسية لأي عملية تنموية، إذ إن إعادة تأهيل محطات الكهرباء، وتحسين شبكات التوزيع، والاستثمار في مصادر الطاقة المتجددة لا يضمن فقط استقرار الإنتاج الصناعي والزراعي، بل يعزز كذلك مناخ الاستثمار، ويقلل من الاعتماد على الوقود المستورد، ويخفف الضغط على خزانة الدولة.
أما قطاع السياحة، فهو من أكثر القطاعات الواعدة نظراً للإرث الثقافي والتاريخي الغني لسوريا، والذي يشمل مواقع أثرية مهمة في دمشق وحلب وحمص، ومناطق سياحية خلابة في الساحل السوري. لذا، فإن إعادة تأهيل البنية التحتية السياحية، وتحسين الأمن، وتشجيع الاستثمارات الفندقية يمكن أن يسهم في جذب السياح مجدداً، وزيادة العوائد المالية، وتنشيط قطاع الخدمات والتوظيف.
وفي هذا الإطار، يقول الدكتور مخلص الناظر لتلفزيون سوريا: “يمكن أن تساهم قطاعات أخرى مثل التجارة، السياحة، والخدمات بنسبة 20-30% في التنمية الاقتصادية، والتي يمكن أن تدعم الزراعة والصناعة من خلال توفير أسواق للمنتجات والبنية التحتية اللوجستية”.
بشكل عام، يعتمد النهوض الاقتصادي في سوريا خلال السنوات القادمة على ما تمتلكه البلاد من خبرات وإمكانات في قطاعات الزراعة والصناعة بشكل رئيسي، ثم على قطاعات التكنولوجيا، التعليم، والنقل. وعبر إعادة تنشيط هذه القطاعات، وإعادة تأهيل البنية التحتية، وتحفيز الاستثمارات، وتعزيز الإنتاج المحلي، وضمان الأمن والاستقرار السياسي، يمكن لسوريا إعادة تنمية اقتصادها، وتوفير فرص عمل، وتحسين مستوى المعيشة.
هذا يعتمد على سياسات اقتصادية متوازنة، ودعم القطاع الخاص، والاستفادة من الخبرات المحلية والدولية في بناء اقتصاد حديث للبلاد يعتمد على نموذج السوق الحر، بعيدًا عن النموذج الاشتراكي والمختلط الذي اتبعه نظام الأسد البائد في الاقتصاد السوري لعقود.
تلفزيون سوريا
—————————-
كيف يمكن للمؤتمر الوطني أن ينجح ويحقّق مصالح السوريين؟/ أحمد زكريا
2025.02.17
في ظل الظروف المعقدة التي تعيشها سوريا بعد سنوات طويلة من الأزمات السياسية والاقتصادية والإنسانية، يبرز المؤتمر الوطني كمنصة حاسمة لصناعة مستقبل البلاد.
هذا المؤتمر، الذي يتوقع عقده قريباً، ليس مجرّد حدث سياسي عابر، بل هو فرصة تاريخية لإعادة بناء الثقة بين مختلف مكونات الشعب السوري ووضع خريطة طريق للانتقال إلى دولة جديدة قائمة على العدالة والديمقراطية، ومع ذلك فإن نجاح هذا المؤتمر وتحقيق أهدافه لن يكونا أمراً سهلاً أو بدهياً، بل يتطلبان جهوداً كبيرة وإرادة حقيقية للتغيير.
المؤتمر الوطني يأتي في وقت حساس للغاية، حيث تتصاعد الجهود الدولية والإقليمية لإيجاد حلول للملف السوري، ومع اجتماع مجلس الأمن الدولي بشأن سوريا، وحديث المبعوث الدولي غير بيدرسن عن الإرث الثقيل الذي ورثته حكومة تصريف الأعمال، يبدو أن هناك رغبة حقيقية في التحرك نحو مرحلة جديدة من التحول السياسي.
السيد أحمد الشرع، رئيس الجمهورية الحالي، أكد أن المؤتمر سيكون منصة مباشرة للمداولات والمشاورات واستماع مختلف وجهات النظر حول البرنامج السياسي المقبل، لكن وعلى الرغم من هذه الطموحات، لا يوجد التزام رسمي باعتماد مخرجات المؤتمر من قبل الحكومة، مما يضع على عاتق القائمين عليه مسؤولية ضمان تحقيق نتائج ذات قيمة فعلية.
لكي ينجح المؤتمر ويحقق مصالح السوريين، يجب التعامل مع مجموعة من التحديات الجوهرية:
تمثيل عادل وشامل: أحد أكبر التحديات هو ضمان تمثيل عادل وشامل لجميع فئات المجتمع السوري، إذ يجب أن يحضر المؤتمر شخصيات مدنية سورية تمثل مختلف الطوائف والأعراق والفئات الاجتماعية. لتحقيق ذلك، يجب أن تكون اللجنة المنظمة للحدث مستقلة تماماً وغير مرتبطة بالسلطات القائمة.
وإذا جرى تعيين الشخصيات المشاركة من قبل الحكومة أو السلطات الحالية، فإن ذلك سيؤدي إلى فقدان ثقة العديد من الأطراف، وبالتالي إحداث انقسامات قد تفشل المؤتمر قبل أن يبدأ.
إجراء مشاورات مكثفة: لضمان نجاح المؤتمر، يجب أن تجري اللجنة المعينة مشاورات مكثفة مع الشخصيات والتجمعات السياسية داخل سوريا وخارجها.
هذه المشاورات يجب أن تكون هادفة وتركّز على ترتيب برنامج المؤتمر بدلاً من فرض مخرجاته مسبقاً، أي محاولة لفرض نتائج معينة ستؤدي إلى فقدان شرعية المؤتمر.
تجنب القضايا الهامشية: من الضروري تنظيم جدول أعمال توافقي يركز على القضايا الجوهرية التي تهم الجميع، فالدخول في قضايا هامشية سيؤدي إلى إضاعة الوقت وتفتيت الجهود.
ويجب أن تتضمن المناقشات قضايا مثل العدالة الانتقالية، الاقتصاد والتنمية الاقتصادية، صياغة الدستور الجديد، إذ إن هذه المواضيع هي الأكثر أهمية لتحقيق مصالح السوريين وبناء مستقبل مستقر.
ولتحويل هذه الرؤى إلى واقع، هناك خطوات عملية يجب اتباعها:
إشراك الخبراء والكفاءات: كما أشار حسن الدغيم (عضو اللجنة التحضيرية للمؤتمر الوطني)، يجب إشراك ذوي الخبرات والكفاءات الحقوقية والعلمية في الحوار الوطني، ما سيضمن أن النقاشات ستكون مبنية على أسس علمية وقانونية، مما يعزز من جدية المخرجات.
الابتعاد عن المحاصصة الطائفية: من المهم أن يكون الحوار بعيداً عن المحاصصة الطائفية التي كانت سبباً رئيسياً في تعقيد الملف السوري، والتركيز يجب أن يكون على الكفاءة والخبرة بدلاً من الانتماءات الطائفية أو الحزبية.
زيارة المحافظات: زيارة جميع المحافظات والاستماع إلى آراء المواطنين حول المؤتمر تعد خطوة أساسية، وهذا الأمر سيساعد على تحديد الأولويات الوطنية بدقة وفهم احتياجات الناس على الأرض.
استبعاد الجهات المثيرة للجدل: استبعاد “قوات سوريا الديمقراطية” (قسد) من الحوار، كما أشار حسن الدغيم، كان قراراً استراتيجياً لتجنّب الجدل والتوترات، ومع ذلك يجب أن يتم التعامل مع هذا القرار بحذر لضمان عدم إشعال فتيل جديد من الخلافات.
وإذا ما نجح المؤتمر الوطني في تحقيق أهدافه، من المتوقع أن ينبثق عنه لجان حقوقية وقانونية، بالإضافة إلى تيارات سياسية متعددة ستشارك في كتابة الدستور الجديد، وهذا الدستور سيكون حجر الزاوية في تحديد شكل الدولة السورية المستقبلية وهويتها، كما أن التركيز على العدالة الانتقالية والتنمية الاقتصادية سيخلق بيئة مواتية لعودة اللاجئين وتحقيق الاستقرار.
في المقابل، من المهم لنا كسوريين التمييز بوضوح بين نوعين من المؤتمرات التي يتم الحديث عنها في السياق السوري: المؤتمر الوطني العام ومؤتمر الحوار الوطني، فكل منهما يلعب دوراً مختلفاً في عملية إعادة بناء سوريا المستقبل.
المؤتمر الوطني العام هو منصة تهدف إلى تمثيل مكونات المجتمع الأهلي والمدني من جميع المحافظات السورية، بعيداً عن التمثيل السياسي أو الحزبي أو المؤسسي، وهذا يعني أن الأعضاء المشاركين لن يكونوا ممثلين لأحزاب سياسية أو تيارات فكرية أو تنظيمات، بل سيعكسون صوت الشعب السوري بكل تنوعه الاجتماعي والجغرافي.
على سبيل المثال، يمكن لكل محافظة اختيار عشرة ممثلين بطريقة انتخابية لضمان الشفافية والشمولية، والقرارات التي سيخرج بها هذا المؤتمر ستكون ملزمة للجميع، وستحدد الإطار العام للمرحلة الانتقالية، بما في ذلك الاستحقاقات الدستورية، وإعداد الأرضية المناسبة للمرحلة المقبلة، والإشراف على لجنة صياغة الدستور.
وهذا المؤتمر سيكون بمنزلة “الحاكم” المؤقت خلال المرحلة الانتقالية، وسيتحمل مسؤولية ضمان تحقيق العدالة والمساواة بين جميع السوريين.
أما مؤتمر الحوار الوطني فهو إطار مختلف تماماً، هذا المؤتمر يشمل الأحزاب السياسية والتيارات الفكرية والمؤسسات والمفكرين وغيرهم من الفاعلين في المشهد السياسي والثقافي، الغرض منه هو توفير منصة للنقاش والحوار حول القضايا الوطنية الكبرى، لكنه لا يملك صلاحيات إلزامية، والقرارات التي تصدر عنه ليست ملزمة وقد يتم اعتمادها أو تجاهلها بالكامل، وبالتالي فإن دوره يقتصر على تقديم رؤى وتوصيات قد تكون مفيدة لكنها ليست حاسمة في تحديد مستقبل البلاد.
التمييز بين هذين النوعين من المؤتمرات أمر بالغ الأهمية لتجنب الخلط بين أدوارهما وأهدافهما، إذ إن المؤتمر الوطني العام يمثل الشعب السوري بشكل مباشر، ويهدف إلى اتخاذ قرارات ملزمة ترسم خريطة الطريق للمرحلة الانتقالية، أما مؤتمر الحوار الوطني، مجرد منصة للنقاش والتداول ولا يمتلك السلطة التنفيذية أو التشريعية.
وإذا ما أُديرت هذه المؤتمرات بشكل صحيح، يمكن أن تكون خطوة كبيرة نحو تحقيق التحول الديمقراطي المنشود، ولكن إذا لم يتم التعامل معها بجدية فقد يؤدي ذلك إلى مزيد من الانقسامات والخلافات، مما يزيد من تعقيد الأزمة بدلاً من حلها.
نجاح أي من هذه المؤتمرات يعتمد على مدى التزام القائمين عليه بمبادئ الشفافية والعدالة والشمولية، ويجب أن يكون الهدف الرئيسي هو تمثيل مصالح الشعب السوري بكامله، وليس فقط فئات معينة أو جهات محددة، لأنّه فقط من خلال العمل المشترك والرؤية الواضحة يمكننا بناء سوريا جديدة تستحق التضحية والجهد.
في النهاية، المطلوب هو تقديم المصلحة الوطنية على المصالح الفئوية والحزبية، إذ يجب أن يشارك جميع مكونات الشعب السوري بحماس وإيجابية وإرادة حقيقية للتغيير، كما يجب أن يكون هناك إيمان من الجميع بمبدأ العدالة في المرحلة القادمة، وفقط من خلال الوحدة الوطنية والعمل المشترك يمكننا الانتقال إلى مرحلة مستقرة جامعة، وكلنا أمل في بناء مستقبل مشرق وواعد لسوريا.
المؤتمر الوطني ليس مجرد فرصة بل هو مسؤولية تاريخية، وإذا ما تم التعامل معه بجدية ومسؤولية، فإنه يمكن أن يكون الخطوة الأولى نحو سوريا جديدة، سوريا يسودها السلام والعدالة والازدهار، لكن إذا ما تم إهمال هذه الفرصة أو التعامل معها بسطحية، فإننا سنعود إلى المربع الأول، وستظل سوريا غارقة في دوامة الأزمات، الخيار بين النجاح والفشل يعتمد علينا جميعاً.
تلفزيون سوريا
——————————
بين العودة والترقب.. اللاجئون السوريون بعد سقوط نظام الأسد/ أحمد عيشة
2025.02.17
أثار سقوط نظام الأسد في سوريا سؤالاً مهماً: هل يمكن لملايين السوريين الذين تركوا بيوتهم نتيجة لقصف النظام والخوف من الاعتقال والتعذيب الذي تكشّف بعضاً من أساليبه، وانتشروا في بقاع الأرض تحت مسميات مختلفة: (ضيوف، طالبو لجوء، لاجئون) أن يعودوا الآن إلى ديارهم بعد أربعة عشر عاماً، ناهيك عن المهجرين في الداخل المنتشرين على طول المناطق الحدودية مع تركيا، حيث تنتشر المخيمات؟
بالطبع، لا تتوقف العودة على رغبة المهجّرين واللاجئين، وهي موجودة، لكن ثمة عوامل عديدة تتداخل في قرارهم، أولها حالة بيوتهم نتيجة للدمار الهائل الذي لحق بها، وحالة القلق السائدة نتيجة لغياب البنى التحتية الخدمية وانعدام فرص العمل وغيرها، ومقارنتها بالأحوال التي يعيشونها في بلدان اللجوء من دون إهمال خيارات اللاجئين الفردية، والأهم قضية الطلبة والتعليم، ومن جهة أخرى مواقف الدول التي استقبلتهم، إذ بدأت بمناقشة الآثار المترتبة على عودة اللاجئين، وهل ستكون طوعية أم قسرية؟
مع أن المشهد السياسي قد تغيّر بشكل جذري، هذا التغيّر الذي أثلج صدور السوريين عامة، إلا أننا لم نشهد بالمقابل خلال الشهرين سوى عودة نسبة قليلة من المهجرين (125 -150) ألفاً من العدد الكلي (6 -7) مليون في الخارج بنسبة (2) في المئة.
ويعود السبب في ذلك إلى أسباب عديدة، أهمها الظروف التي تعيشها سوريا من حيث نسبة الدمار التي أصابت بيوتهم (ثلث المنازل تقريباً)، وعدم قدرتهم على تحمّل إعادة إعمارها، ناهيك عن الدمار الهائل الذي لحق بالبنية التحتية الخدمية (شبكات المياه والصرف الصحي والكهرباء) التي تحتاج إلى أموال كثيرة لإعادة إعمارها أو تأهيلها، إضافة إلى الوقت اللازم لذلك، وبالتالي لن يكون لدى العديد من اللاجئين السوريين أي منزل أو وظيفة للعودة إليها.. فالبنية التحتية في سوريا متدهورة لدرجة أن الخدمات الأساسية غير كافية أو شبه غائبة.
تبقى حالة عدم اليقين والغموض، مع أنهما أمور تلازم عمليات التغيير الكبرى كما حدث في سوريا، أحد أهم العوامل التي لا تدفع كثيرين إلى التفكير بالعودة، فالإطاحة بنظام بشار الأسد لا يعني أن سوريا ستعيش في سلام، فغير الظروف الداخلية المرهقة جداً، يأتي استمرار عمليات القصف الإسرائيلية وما تشكله من ضغط على السلطات الجديدة، إذ تظهرها بموقع الجهة الضعيفة غير القادرة على الدفاع عن حدودها كأحد الأسباب التي تعيق عمليات الاستقرار والبناء.
داخلياً، ما تزال بعض المناطق خارجة عن السيطرة، خاصة الجزيرة السورية التي تضم أهم الثروات والتي يمكن أن تساعد على بناء البلاد، حيث تحتلها ميليشيا “الاتحاد الديمقراطي” تحت مسمى “قوات سوريا الديمقراطية” (قسد)، بما تمتلكه من قدرات عسكرية ودعم أميركيين بحجة محاربة تنظيم داعش، وهو ما يشكل مصدر توتر وتهديد لاستقرار البلاد، حيث خيارها السياسي على طريقة نظام الأسد و”حزب الله”: إما..، أو.. من جهة، ومن جهة أخرى تحريض الغير على اتباع النموذج القسدي: المواطنة المتميزة.
تختلف الظروف في البلدان المضيفة بشكل كبير، فقد أصبح بعضها يعتمد على القوى العاملة السورية، حيث يشغل اللاجئون السوريون وظائف في صناعات رئيسية كما في تركيا وألمانيا ومصر، ومن شأن الرحيل المفاجئ للعمال السوريين أن يؤدي إلى تفاقم النقص الحالي بالعمالة في قطاعات عديدة.
وحتى اليوم، لا تتبنى عموم هذه الدول سياسة الإعادة القسرية، أي أنها لن تعيد اللاجئين رغماً عنهم إلى منطقة لم يتم تصنيفها حتى الآن كمنطقة استقرار وربما تشجع على العودة الطوعية من خلال تقديم تسهيلات مالية وقانونية.
وبغض النظر عن الخطاب الشعبوي، فإن الدول المضيفة، خاصة أوروبا، لن ترحل اللاجئين السوريين لأن ذلك يشكل انتهاكاً القانون الدولي، فلجأت منذ سقوط الأسد إلى تجميد ملفات اللجوء لمدة ستة أشهر بانتظار التقييم السياسي للحكم الجديد، وتبقى حالات العودة منحصرة في طلبات العودة الطوعية التي تلقى بعض التشجيع.
تؤثر العوامل الفردية مثل العمر والجنس والوضع الاجتماعي والاقتصادي على قرارات العودة، فكثير من اللاجئين السوريين لا يرغبون في العودة إلى بلد يفتقد للحدود الدنيا للحياة، إلى بلد يذكرهم بالفظائع، خاصة بعد تكشف الوقائع بعد سقوط الأسد، حيث المسالخ والمقابر الجماعية، فحوالي نصف المهجرين هم من الشباب الذين ربما قضوا معظم حياتهم خارج بلدهم، وتعلموا أو عملوا في بلدان اللجوء، حيث الحريات الشخصية والخدمات متاحة ووسائل الراحة حتى، هذه الخدمات التي سيفتقدوها عند عودتهم إلى سوريا، ناهيك عن ظروف التعليم ومحدودية فرص العمل إن توفرت، وبالتالي ما لم يرَ هؤلاء الشباب البلد بحالة من الاستقرار يوفر لهم فرص الحياة، ستكون عودتهم محدودة جداً.
القضية المهمة جداً، وهي مسألة التعليم، حيث مئات آلاف الطلبة الذين تلقوا تعليمهم بلغات البلد المضيف، أو بلد اللجوء، فهناك جيل كامل من الطلاب قد تلقوا تعليماً وفق مناهج مختلفة، وبالتالي صار من الصعب عليهم متابعة تعليمهم أو استكماله باللغة العربية التي تحولت لديهم إلى لغة محكية، أما الكتابة والقراءة فقد صارت بحاجة إلى جهد كبير لمعرفتهما، أما الطلبة الجامعيين، إضافة لما سبق من مشكلات، حتى اليوم، لم تصدر أي تعليمات من الجهات المختصة بخصوصهم، بما يتعلق بتعديل شهاداتهم، أو موادهم، وغيرها، فضلاً عن أنهم درسوا في بعض الفروع غير الموجودة في الجامعات السورية، وكذلك مسألة المتابعة باللغة العربية، وهي مشكلات حقيقية تضع الطلبة وأهاليهم بحالة من عدم اليقين بخصوص مستقبلهم، أما عن فرص العمل للخريجين فهي في الوقت الحالي نادرة جداً، ومرهونة بتحسن الوضع الخدمي والاقتصادي المرتبط مباشرة برفع العقوبات والموقف الدولي.
ما خلّفه نظام الأسد يجعل من مستقبل سوريا لحظات قاتمة وخطرة، فالعقبات التي تعترض إعادة إعمار البلاد من بناء وتأسيس للدولة وحل للمشكلات الناتجة عنها هائلة.
ومن أهمها قضية اللاجئين الذين أُجبروا على الخروج من البلاد نتيجة للفظائع التي ارتكبها نظام الأسد، إذ تشكل عودتهم اليوم عبئاً كبيراً على إدارة البلاد في ظل استمرار تردد المجتمع الدولي ومراقبته للوضع في سوريا واشتراطاته على إدارتها، فالنسبة التي عادت قليلة (2) في المئة، وربما عاد بعض منهم بدافع الاطمئنان على ممتلكاتهم التي تركوها، أو الهروب من ظروف المعيشة والتمييز ضدهم في البلدان المضيفة، إذ جعلت المصاعب الاقتصادية وتكاليف المعيشة المرتفعة والفرص المحدودة الحياة غير محتملة بشكل متزايد، أو لرؤية عائلاتهم.
العائدون وجدوا بلدهم يختلف اختلافاً عميقاً عن البلد الذي غادروه، فقد أدى تدمير المنازل والبنية التحتية الأساسية، وفقدان أحبائهم، وانتشار الفقر على نطاق واسع، وحالة الغموض التي تحيط بمستقبل البلد ورؤية القيادة الجديدة إلى جعل الحياة لا تطاق بالنسبة للملايين الذين لا يزالون في سوريا، ومن شأن عودة اللاجئين الآخرين أن يخاطروا بتفاقم الوضع المتردي أساساً، بعد أن كانوا مصدر عون لأهاليهم في الداخل.
يعتمد مستقبل سوريا على قرار تاريخي، يشارك فيه المجتمع الدولي والمنظمات غير الحكومية، قرار يسهل عودة اللاجئين السوريين إلى ديارهم من خلال السعي لتلبية احتياجات السوريين، وأولى استحقاقات ذلك القرار، رفع العقوبات وتقديم الدعم اللازم لإعادة إعمار البلاد، ومن طرف الإدارة الجديدة، السعي إلى إصدار قوانين لحل مشكلات الملكية (البيوت والأراضي)، وتوفير فرص العمل وحل مشكلات التعليم الناتجة عن الفروق بين المناهج واللغات، إن سوء إدارة العودة الجماعية ستؤدي إلى استنزاف الموارد المحدودة أصلاً في البلاد، مما يسبب ضغطاً هائلاً على الإدارة الانتقالية ووكالات الأمم المتحدة والمجتمع المدني السوري للاستجابة لاحتياجات مواطني البلاد بطريقة تعزز الاستقرار وتوفر سبل العودة الكريمة، ورمي كل ذلك العبء على كاهل الحكومة الانتقالية يهدد بإثارة التوترات وتقويض الاستقرار الهش في أعقاب سقوط الأسد.
سيترتب على الفشل في تنسيق عودة اللاجئين السوريين عواقب وخيمة على سوريا وعلى البلدان المضيفة، خاصة المجاورة منها، وعلى اللاجئين السوريين أنفسهم.
ويتوقف استقرار سوريا على التعافي الوطني الذي يعتمد على رفع العقوبات المفروضة وانتهاج سياسة تشاركية تفسح المجال لجميع الخبرات والسعي لتحقيق العدالة، خاصة تجاه المهمشين، فمستقبل سوريا مرهون بقرار دولي ومحلي يسعى من جملة أمور إلى تحقيق العودة الآمنة والكريمة للاجئين الذين سيساعدون في إعادة بناء دولة دمرها نظام الأسد، وإلا فإنها قد تؤدي إلى إرباك الحكومة الجديدة والبلاد بمشكلات كبيرة، وبالتالي تفتح الباب لأن تنزلق سوريا من جديد إلى حالة من الفوضى وعدم الاستقرار، وهي كلفة كبيرة على البلاد وعلى اللاجئين يجب ألا نجربها مرة ثانية.
تلفزيون سوريا
————————————–
إلى ذكرى سنابل احترقت قبل الحصاد/ مصعب الحمادي
2025.02.17
عندما وقف مصطفى بباب مكتبي في قلعة المضيق، أواخر عام 2013، شعرت بالرّعب لأول وهلة، فقد رأيت مقاتلاً يرتدي اللباس الميداني الكامل لتنظيم الدولة (داعش)، وما إن اقترب الشاب وسلّم عليّ بأدب حتى تذكرته، إنّه مصطفى عطيّة، أحد طلابي النابهين في دروس اللغة الإنكليزية في ثانوية قرية الحوّاش بمنطقة سهل الغاب غربي حماة، عام 2008.
كان مصطفى تلميذاً وادعاً خجولاً، وذا بنيةٍ جسديةٍ رقيقة، وصوتٍ رخْوٍ ومتردّد، نظرت إلى الشاب الذي أمامي في المكتب فرأيتُ شخصاً آخر.. لقد كبر مصطفى! كبر وتغيّر حتى أصبح رجلاً بملامح ذكورية عنيفة، وعينان تبرقان بالغضب، كبر مصطفى وصار -كما قدّم لي نفسه- الأمير العسكري لتنظيم الدولة في ريف حماة الغربي.
بدا مصطفى مرتبكاً جداً في أثناء جلوسه معي، ففي قلعة المضيق حاجزٌ كبير لجيش النظام لم يبعد إلا مئات الأمتار عن مكتبي، كان في جعبة الفتى رسالةً أدّاها بسرعة وانصرف.
قال مصطفى إنّ لديه أمراً باختطافي على أحد الطرق خارج مدينتي تجنباً للبلبلة، وسبب هذا الأمر أن الدولة الإسلامية -كما أوضح الفتى- استفادت من تجاربها بالعراق ولن تتسامح مع المنتقدين لها أبداً، لكنّ مصطفى أردف أنه ما يزال يكنّ لي الحُبّ والاحترام، فنصحني هَمساً بالتزام الصمت أو مغادرة البلاد.
أخذت بالجزء الثاني من النصيحة وغادرت البلاد فنجوت، لكنّ مصطفى لم ينجُ! فقد قُتل بقصف للتحالف الدولي على قوات “داعش” في الرقة، عام 2015.
في عام 2010، انتقلتُ إلى ثانوية قرية الحويز في نفس المنطقة، كان الطلّاب هناك أقلّ تقبّلاً لتعلّم اللغة الإنكليزية من طلّاب قرية الحوّاش، باستثناء طالبٍ واحد هو علّام عبود الأخ الأصغر لـ حسّان عبّود مؤسس حركة أحرار الشام.
كان علّام تلميذاً حادّ الذكاء ومتفوقاً في كلّ الموادّ، حتى في اللغة الإنكليزية، وكان يحلم بأن يدرسها في الجامعة، وممّا حبّبني بعلّام أكثر أنه كان من بيت علمٍ وأدب، أخلاقه عالية، وثقافته أكبر من عمره.
أذكرُ أني طلبت من علّام، منتصف العام 2011، أن يصطحبني معه إلى بيت عائلته في جوار المدرسة لتهنئة أخيه الأكبر حسّان بالخروج من سجن صيدنايا، وأذكر أني رأيت في بيت العائلة المتواضع مكتبةً كبيرةً لم أر مثيلاً لها في كل بيوت سهل الغاب التي دخلتها.
لا أعلم كيف تتبدل مصائر الرجال بكل تلك الحدّة، فقد صار الأخ الأكبر لعلّام مؤسساً لأهم وأكبر تنظيم سلفي جهادي في الثورة السورية، وسحب معه إخوته وأقرباءه وجيلاً كاملاً من أبناء سهل الغاب وشباب سوريا، كان علّام تلميذي من بين أولئك، فقد تبوأ منصباً قيادياً في حركة أحرار الشام الإسلامية.
في شهر أيلول 2014، استهدف تفجيرٌ غامضٌ مقر قيادة حركة أحرار الشام في إدلب، قُتل علّام بالتفجير وقُتل معه أخوه حسّان، بالإضافة إلى نحو أربعين قائداً من قادة الصفين الأول والثاني في الحركة.. أذكر أن دمعةً نزلت من عيني حزناً يوم أتاني خبر مقتل علّام ذلك التلميذ النابه الذي كان يحلم بدخول قسم اللغة الإنكليزية في الجامعة.
عندما كنت أرتاد ثانويات الحوّاش والحويز وقلعة المضيق في منطقة الغاب بين عاميّ 2008 و2011، كنت أجد قبالتي فتياناً يملؤهم الطموح والأمل، وتحرّكهم طاقة الحياة الدافقة، وتسكن ملامحهم وداعة أبناء الحقول، وكرم طباعهم وسماحتهم، لم أكن أعلم أني أمرّ على كتائب من المقاتلين الذين سيبتلعهم أتون الحرب، وتنتهبهم الدعايات السلفية المتطرفة، تساعدها في ذلك مجازر النظام بحقّ أهلهم من جهة، وتخلّي العالم عنهم من جهةٍ ثانية.
بالإضافة لكلّ من علّام ومصطفى أذكر العشرات من تلاميذي ممّن ماتوا مقاتلين في صفوف جبهة النصرة، وتنظيم الدولة، وحركة أحرار الشام، منهم مَن مات بعملياتٍ انتحارية، ومنهم بتفجيراتٍ واغتيالات، ومنهم في ساحات المعارك، منهم مَن قتلهم النظام، ومنهم مَن قتلهم التحالف الدولي، ومنهم مَن قُتلوا في معارك داخلية بين الفصائل.
لم تكن شخصياتهم على مقاعد الدراسة تحمل أدنى خبرٍ عن مصائرهم المهولة، وحتوفهم التي كانت تترصد بهم، ولم يكن أحدٌ منهم يقصد أن يموت، فقد كنت أرى كيف كانت عيونهم السود تحدّق في حقول القمح الممتدّة إلى اللانهاية، كانوا يفرحون لمرأى السنابل وقد اصفرّ لونها واقترب حصادها، كانوا ينتظرون الموسم، لكن الحقول احترقت، والتهمتهم النيران.
فإلى ذكراهم الغالية نهدي انتصار ثورة الكرامة وولادة سوريا الجديدة.
تلفزيون سوريا
——————————
تلذذ الجلاد بتعذيب ضحيته/ محمد برو
2025.02.17
في المشهد السوري عامة وفي عالم المعتقلات والسجون على وجه أدق، لامست الغالبية العظمى من السوريين حكم الجلادين، وتحكمهم في مصائر الملايين الذين رزحوا تحت حكم دام زهاء خمسين سنة ونيف، مارس فيه الحاكم الفرد وزبانيته أشكالاً من القمع والتعذيب والتنكيل بالضحية، على نحو غير مسبوق.
فبالرغم مما شهده العالم على مدى تاريخ طويل يمتد إلى قرون من التوحش في مجالدة الخصم والعدو أو المعارض للحكم، إلا أن الشطر الأعظم من هذا التاريخ الدموي يتمحور حول تعجيل الجلاد بقتل ضحيته، وإنهاء وجودها بل وطمسه في كثير من الأحيان.
في المشهد السوري المعاصر نجد الأفانين في تعذيب الضحايا والإبقاء على حياة الآلاف منهم لغاية التلذذ بالتعذيب وحسب، ولا يفسر هذا إلا تمتع وتلذذ الجلاد بتعذيب ضحيته ورؤيتها تصرخ وتئن وهو ينظر إلى دمائها تنزف وعظامها تتحطم وإنسانيتها تسحق وتشوه، ليس هذا في أقبية التحقيق، فمعظم البلدان تمارسه بالخفاء للتحصل على معلومات قد تخفيها الضحية، إنما في الحالة السورية يستمر التعذيب من لحظة الاعتقال مرورا بمرحلة التحقيق وصولا إلى حبسه في مستودع بشري انتظاراً لصدور قرار العفو عنه، والذي لا يتعلق أبداً بالحكم الذي ناله سواء براءة أو مؤبد أو إعدام.
ربما يذكرنا هذا بمشاهد الجحيم الأسطورية التي تتمجد فيها ذات الآلهة وهي تسرف في تعذيب ضحاياها وعبيدها العاصين في جحيم لا تنطفئ ناره أو عذاب متكرر لا يتوقف، ليس للخلوص إلى نتيجة ما بل لمجرد العقاب، وجميعنا يذكر كيف عبّرت الأساطير اليونانية عن هذه الدائرة التي لا تنتهي من العذاب المتكرر برتابة تفوق استيعاب البشر وقدرتهم على التحمل.
وربما كانت هذه إحدى غايات العقاب الأسطوري في أن تكون حكاية التعذيب بهولها رادعا لا يمكن للنفس البشرية أن تتجاوزه بسهولة، فتنخلع مقاومتها من تخيل هذه الحكاية فلا تجازف في التمرد والعصيان.
في الأساطير اليونانية يصدمنا مشهدان لقسوة التعذيب وأبديته، صخرة سيزيف وهو يعالج عذابه الأبدي في رفع الصخرة إلى قمة الجبل بعناء مدمر ويعاود الكرة إلى الأبد بعد أن تتدحرج الصخرة منه في كل مرة إلى الأسفل، عقاباً له بعد تمرده على الآلهة وعصيانه المتكرر، كذلك أسطورة بروميثيوس الذي سرق نار الآلهة المقدسة وتشاركها مع البشر، فكان عقابه أن يبقى مقيداً إلى صخرة عظيمة في حين يقوم عقاب عظيم بنقر كبده كل يوم.
هذا النموذج من الانتقام المستمر يمنح آلهة التعذيب والجلادين لذة لا يعرفها الأسوياء من البشر، فهذا التشوه الناجم عن الولوغ في الدم واعتياد صرخات المعذبين بشكل مستمر يخلق لصاحبة متعة غريبة كما يتمتع الجرب بحك جربه وهو يدمي جلده بيديه.
الملفت للنظر وربما يكون مثيراً للدهشة أن الانحدار في سلم التوحش ارتبط تاريخيا مع صعود الحضارة أو تغولها، فالإنسان البدائي لم يعرف هذه الأشكال من التعذيب المديد لكنه عرف أشكالا من القتل البطيء الذي ينتهي على نحو قريب بموت الضحية، كأن يقيدها إلى جذع شجرة ويتركها فريسة للضواري أو النمل الأبيض.
وقديماً كانت العرب تعذب بعض العصاة بما سمته “غل وقمل” وهو أن يقيد الرجل بجلد له وبر يرتع فيه القمل فيعذب المقيد من دون أن يستطيع ذب القمل عنه.
حتى طقوس التضحية البشرية التي كانت تمارسها قبائل الأزتك، رغم عنفها البشع إلا أن الضحية تفارق الحياة خلال دقائق، كل هذا لم يرق إلى أفانين التعذيب المديدة التي اجترحها وتفنن بها الإنسان المتحضر على نحو وحشي غير مسبوق وما هذا إلا لإطالة أمد اللذة التي يتمتع بها الجلاد.
وطالما شهدنا وبشكل متكرّر كيف يأمر رئيس سجن تدمر الجلادين تحت إمرته أن يتوقفوا في يوم محدد عن تعذيب السجناء لأغراض إدارية، مهدداً إيّاهم بأقسى عقوبة إن هم خالفوه، ومع هذا كنا نراهم يترقّبون الساعة التي يغيب فيها آمرهم ليتمتعوا بالتعذيب الذي أدمنوه، وكيف كانوا يتلقون العقاب جلداً بالسياط حين يفتضح أمرهم، ومع هذا لا يفترون عن هذه المغامرة في كل مرة، وكأن إدمانهم لتعذيب الضحايا والتمتع بصرخاتهم يضارع إدمان متعاطي المخدرات.
جميعنا شاهدنا كيف كان مجرم مجزرة التضامن يتلذّذ وهو يلقي بضحاياه قتلى واحداً تلو آخر وهو يطلق رصاصته على رؤوسهم، وقد كان المجرم حافظ الأسد -كما أفشى قريبون منه- يسهر لياليه متمتعا بالأفلام التي سُجّلت له في ساحات تدمر والتي وثقت ملاحم التعذيب والإعدامات التي نكلت بخصومه ومعارضيه.
ومع سقوط نظام ابنه بشار تم الكشف عن طرق تصوير وتسريب أفلام التعذيب التي وثقت التنكيل المرير بمئات آلاف السوريين الأبرياء، وكيف كانت تُباع عبر “الإنترنت المظلم” لمرضى ساديين يتمتعون بهذه المشاهد الكارثية
هذه الممارسات تمنح صاحبها شعوراً عاتياً بالقدرة والتحكم والسيطرة وهي منازع تشاكل الصفات الأسطورية للآلهة المتخيلة، وتُخرج الجلاد من مصاف البشر الطبيعيين، هذا التشوه يستدعي جملة من التشوهات التي ترافق صاحبها إلى قبره، وكل حديث عن علاج هؤلاء المجرمين وإعادة تأهيلهم ما هو إلا ضرب من العبث وهدر الطاقات وإضاعة الوقت فيما لا طائل منه، والأولى دفع هذه الجهود والمقدرات للعناية بالضحايا ومحاولة انتشالهم من آثار ما لحق بهم من ضرر يصعب تخيله كما تصعب روايته.
يدرك المتتبع تلك العلاقة الوثيقة بين السلطة المطلقة والحكم الفردي من جهة وبين السعي المستمر للسيطرة وتلذذ الجلاد بتعذيب ضحيته، ولإتمام إحكام المشهد يعمد الحاكم أو الجلاد الأكبر إلى شيطنة الضحية كيما يقوم جلادوه بفعلهم الوحشي وهم مؤمنون بشرعية ما يفعلون بل بوجوبه.
لقد تناولت العديد من الدراسات في علم النفس الاجتماعي مفهوم “التجريد من الإنسانية”، حيث يسهل على الجلاد الإسراف في العنف تجاه ضحيته التي انحطت بنظره الى مستوى الحيوان أو الخائن، فينجو بذلك من احتمالات صحوة الضمير أو الإحساس بالذنب، وربما أخطر ما في هذه الظاهرة هو شيوع ثقافة اجتماعية تبرر هذا العنف وتشرعنه بل وتنادي به سبيلاً لإرساء العدل والاستقرار والأمن الاجتماعي، وسيكون هذا بمنزلة تفويض من السلطة والمجتمع لتطبيع هذا السلوك الجرمي، وهنا تتعقد المعضلة لأنها ستتحول إلى شكل من أشكال العقد الاجتماعي الذي يستعصي على المقاومة.
إلا أن الجلاد لا يملك فكاكا من جريرة جريمته وعواقبها الوخيمة، فأول ما يمسه من هذا السلوك تشوه ذاته وتمزقها بين شطره المتوحش وبقايا إنسانيته المتلاشية، وسيمضي الشطر الأكبر من حياته يصارع أشباح ضحاياه، وسيبقى في فصام نكد بين شخصيته السرية غالبا كجلاد متوحش، وبين شخصه العادي كإنسان ورب أسرة يعيش مع زوجة وأبناء.
وكثيرا ما ينتهي به المطاف إلى إدمان الكحول والمخدرات والعقاقير المهدئة، وسيسكنه الخوف والحذر المرضي والارتياب، طالما أن بعض ضحاياه ما يزال على قيد الحياة، وربما يكون القصاص العادل في بعض أوجهه رحمة له من هذا العذاب.
تلفزيون سوريا
——————————
عمال وعاملات في مرمى إجراءات تعسفية/ لمى قنوت
تحديث 17 شباط 2025
بعد حوالي أسبوع من تعيين وزير المالية في حكومة تصريف الأعمال، محمد أبازيد، في 30 من كانون الأول 2024، صرح بعدم وجود “أرقام حقيقية للموظفين، وأن الواقع يشير إلى وجود نحو900 ألف موظف فعلي من بين مليون و250 ألفًا في سجلات النظام السابق”، وأن بعضهم كان مسجلًا على الورق فقط لأخذ الراتب دون عمل”، وهناك أكثر من 300 ألف موظف أو نحو 400 ألف ستُشطب أسماؤهم، وسيُعاد توجيه قيمة رواتبهم لبناء الاقتصاد.
ووعد الوزير بزيادة الرواتب بمقدار 400% عن متوسط ما يحصل عليه الموظف والذي لا تتجاوز قيمته 25 دولارًا للفرد.
أما وزير التنمية، محمد السكاف، فقال إن الدولة ستحتاج ما بين 550 ألفًا و600 ألف عامل، وهو أقل من نصف العدد الحالي.
وقد يعود تخفيض العدد هذا، رغم أن تصريحي الوزيرين حصلا بنفس الفترة الزمنية، إلى سياسة الخصخصة أو التصفية المَنْوي اتخاذها لحوالي 107 مؤسسات حكومية.
وبشكل متسرع، قررت حكومة تصريف الأعمال إصدار قرارات تسريح وفصل وإيقاف عن العمل، وعدم تجديد عقود، وإجازات قسرية لعمال وعاملات، وعدم تشميل المتقاعدين والمتقاعدات من بعض القطاعات بقرار زيادة الأجور، دون دراسة قانونية وإدارية متأنية ودقيقة تتبين حاجة المؤسسات الفعلية من الموظفين وتكشف عن الوظائف الوهمية، وتفرز الموظفين الوهميين أو ما اصطلح على تسميتهم بـ”الموظفين الأشباح”، وأولئك الذين يتقاضون رواتب من عدة مؤسسات حكومية، وتقوم بعملية فحص سجلات الموظفين بهدف تنحية وعزل الفاسدين والمسيئين ومرتكبي الانتهاكات خلال إعادة هيكلة المؤسسات أو إصلاحها باعتبارها إحدى ركائز العدالة الانتقالية التي تُعيد ثقة المواطنين والمواطنات في مؤسسات الدولة.
يُعد “إصلاح التشريعات والمؤسسات أو إعادة هيكلتها” ركيزة أساسية من ركائز العدالة الانتقالية، ولكن في حال تأخر بناء مسار وطني للعدالة الانتقالية لحين إقراره في الدستور الجديد للبلاد، يجب أن تتم معالجة ملف مؤسسات القطاع العام ومكافحة الفساد والترهل المؤسساتي فيها عن طريق القضاء، وذلك عبر تشكيل لجنة محايدة ومستقلة، تضم قانونيين وممثلين عن النقابات والاتحادات المهنية وخبراء في العدالة الانتقالية، من النساء والرجال، تعمل وفق عدة مستويات، ويتقاطع عملها فيما بعد مع ركائز العدالة الانتقالية الأخرى المتمثلة في المحاسبة وكشف الحقيقة وجبر الضرر، وعلى اللجنة أن تتبع نهجًا شاملًا متكاملًا عبر مجموعة خطوات هي:
تعليق نصوص في قوانين العمل التي منحت امتيازات لحزب “البعث” المنحل، كمواد في “النظام الأساسي للعاملين في الدولة- القانون رقم 50 للعام 2004″، وتخليصه من التسييس الذي سلط فيه النظام البائد حزب “البعث” على موارد الدولة ومؤسساتها مثل “المادة 14– د” التي تعتبر بأن الخدمة التي يؤديها العاملون في منظمات الحزب “بمثابة خدمة فعلية لدى الجهات العامة التي تدخل في حساب المعاش”، و”المادة 16/1– 2/أ” من القانون نفسه التي تعطي امتيازات للمنتسبين إلى الحزب والعاملين في منظماته المختلفة، نساء ورجالًا.
فحص سجلات جميع الموظفين، وتحديد الوهميين منهم، ومطالبة المقتدرين باسترداد قيمة الرواتب التي قبضوها دون عمل.
عدم إجراء تسويات للموظفين المتورطين في الفساد الواسع النطاق والجرائم الاقتصادية لحين محاسبتهم، والعمل على استرداد الأموال العامة المنهوبة، فأثر هذه الجرائم يوازي أثر جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية.
التحقيق بشأن الموظفين المنتدبين إلى مؤسسات حزب “البعث”، وبشكل محدد الذين انتموا إلى “كتائب البعث” العسكرية ومحاسبة مرتكبي الانتهاكات والجرائم.
تطبيق العزل السياسي على موظفي الدولة من رموز النظام السابق، والذين تلطخت أيديهم بالدماء، والكشف عن تجاوزاتهم وانتهاكاتهم من أجل محاسبتهم، وضمان استبعادهم من العملية السياسية الوطنية أو أي مسؤولية حكومية أو دبلوماسية عليا في صلب الدولة، وهو إجراء يكفل توفير قدر من العدالة للضحايا وأسرهم.
إعادة الموظفين، نساء ورجالًا، ممن تم فصلهم عن العمل بسبب رأيهم وموقفهم السياسي ومشاركتهم في الثورة، وهو إجراء تعمل عليه وزارة التنمية الإدارية حاليًا.
“إعادة هيكلة الملاكات والموارد البشرية على قاعدة عدم التفريط بالعاملين والاستثمار بالكفاءات والاستمرار بإعدادهم وتأهيلهم لرفع الكفاءة والفاعلية”، وهو أحد المطالب التسعة المحقة التي أعلنت عنها رابطة عمال التغيير الديمقراطي، وهي تنسيقيات عمالية في جميع المحافظات لتنظيم الحراك العمالي.
إن التسريح التعسفي والإجازات القسرية وحرمان المتقاعدين من زيادة الراتب هو عقاب للعمال والعاملات، الذين سرق النظام البائد أجورهم بشكل دائم مع كل تعديل على سعر الصرف، ما أدى إلى إفقارهم بشكل ممنهج، وبدل أن يدافع الاتحاد العام لنقابات العمال عن حقوقهم بقي أداة لتعزيز هيمنة النظام، وتسويق سياساته النيوليبرالية الضارة بحقوقهم. وكي تستعيد النقابات استقلاليتها بعيدًا عن وصاية وهيمنة السلطة الحاكمة وتعييناتها، يجب إجراء انتخابات لتشكيل قيادات نقابية جديدة كما فعل اتحاد عمال السويداء مؤخرًا، واعترف بنتائجها الاتحاد العام للعمال.
عنب بلدي
———————————–
اتحاد الصحفيين السوريين.. حتى لا تضيع الفرصة/ علي عيد
تحديث 17 شباط 2025
يواجه قطاع الإعلام في سوريا تحديات كبرى تتعلق بتنظيم القطاع، وكذلك ما ينتج عن ذلك في إطار حرية الصحافة وممارسة المهنة، ولأن الإعلام كان ممسوكًا أمنيًا في فترة النظام السابق وما قبله بعقود، خلال فترة حكم “البعث”، فإن المشكلة لا تتوقف عند الإعلام المستقل، بل تنسحب على الإعلام الرسمي، وعلى العمل النقابي الذي يعبر عن مصالح الصحفيين ويدافع عنهم.
خلال الـ13 سنة الماضية، جرى التضييق على الحريات الصحفية في إطار خنق الحريات العامة، وتوجيه الإعلام نحو الدعاية الخاصة للنظام، وترويج روايته حول الأحداث في سوريا، كما جرى استخدام النقابات وعضويتها في منظمات دولية لتلميع صورة النظام، وهذا ما حصل في اتحاد الصحفيين السوريين.
السيطرة على القطاع الإعلامي نتجت عنها تشوهات طالت التمثيل النقابي، وتركيبة وسائل الإعلام، ولم يعد يمكن التمييز بين القطاعين العام والخاص وعمل النقابات المدني.
الاشتباك بمسألة الصحافة في سوريا وصل إلى حدود متقدمة، وتداخلت فيه المسألة المهنية بالجوانب القانونية والإدارية، وبناء عليه فإن جميع القرارات التي صدرت من الحكومة بخصوص العاملين في قطاع الإعلام والمؤسسات جاءت تحت ضغط دوافع طارئة، وهنا لا أبرر، لكن يمكن تفهّمها من باب خطر تسبب الانفلات الإعلامي بخلق فوضى أمنية قد تنتهي بمذابح وحرب أهلية، كما حصل في رواندا عام 1994.
في قرار حلّ اتحاد الصحفيين، كان يمكن إدارة العملية بشكل أفضل، وبمشاركة أصحاب الشأن أنفسهم، دون التقليل من قيمة واعتبارية الأشخاص الذين جرى تعيينهم بصفة “مكتب مؤقت”، وما زال الأمر متاحًا لتوسيع المشاركة، والمهمة صعبة.
يدافع كثيرون، وأنا منهم، عن قرار حلّ المؤتمر العام لاتحاد الصحفيين السوريين، وهذا يعني حلّ مجلسه ومكتبه التنفيذي، وهو قرار مشروع، ومن صلاحيات الجهة التي أصدرته وهي رئاسة مجلس الوزراء، بالاستناد إلى قوانين سابقة وضعها النظام “البائد”، لكن الاتحاد الدولي للصحفيين (IFJ)، اعتبر أن العهد الجديد كان يمكنه أن يلجأ إلى مشاورات مع ذوي الاختصاص أو الاستفادة من الأعضاء ذوي الخبرة، كما اعتبر أن القرار يعطي “ﻣﺆﺷﺮًا ﺧﻄﯿﺮًا” ﺑﺄن الحكومة “ﻣﺴﺘﻌﺪة ﻻﺳﺘﺨﺪام ﺗﺮﺳﺎﻧﺔ اﻟﻘﻮاﻧﯿﻦ اﻟﺴﯿﺌﺔ اﻟﺘﻲ أﻗﺮھﺎ اﻟﻨﻈﺎم اﻟﺴﺎﺑﻖ واﻟﻤﺼﻤﻤﺔ ﻟﺘﻘﯿﯿﺪ ﺣﺮﯾﺔ اﻟﺘﻌﺒﯿﺮ واﻟﺼﺤﺎﻓﺔ اﻟﻤﺴﺘﻘﻠﺔ”.
بيان الاتحاد الدولي (الفيدرالية الدولية) استند إلى اعتبار أن الاتحاد عضو فيه، مطالبًا بالسماح له بإدارة عملية تشاورية تشارك فيها المنظمات النقابية أعضاء الاتحاد الدولي للصحفيين في سوريا والهيئات النقابية الأخرى والصحفيات والصحفيين، وأقول هنا إن من واجب الاتحاد الدولي التعبير عن موقفه بهذا الشكل، لكن إدارة هذه العملية من قبل السوريين أنفسهم، ولديهم القدرة والخبرات للقيام بالمهمة، وهذا لا يمنع الاستعانة “الفيدرالية” وخبرتها الطويلة في هذا الشأن.
أتذكر أننا في رابطة الصحفيين خضنا جولات متعبة للانضمام إلى “الفيدرالية”، ونجحنا في ذلك، كما حاولنا تعطيل انضمام اتحاد الصحفيين الذي كان يمثل النظام، والمفارقة اليوم، أن الرابطة أصبحت عضوًا كامل العضوية بعد أن كانت تحمل صفة “عضو مشارك”، بينما أتلمس إشارات على أن “الفيدرالية” قد تتجه لتجميد عضوية الاتحاد إذا شعرت أنه سيكون خاضعًا لسلطة الحكومة الجديدة، وبرأيي أنه كان من المفترض أن تقوم بهذه الخطوة سابقًا، بل أن ترفض طلب انضمامه بالأصل، ومن ممارسته مثلًا أذكر أنني كنت عضوًا فيه قبل فصلي وزملاء لي لأننا رفضنا أن نعمل في خدمة دعاية النظام منذ بداية الثورة، وهو موقف مخزٍ يخرج الاتحاد عن دوره النقابي.
ما سمعته من أطراف مسؤولة في وزارة الإعلام، يشير إلى عدم رغبة الحكومة والإدارة السياسية في سوريا بالتضييق أو السيطرة على الاتحاد، لكن التعبير عن الرغبة يحتاج إلى خطوات عملية تثبت حسن النيات، وتبدد القلق، وتحول التهديد إلى فرص، واتحاد الصحفيين، إذا تم تحريره من عقلية الفترة الماضية، يملك مقومات النقابة التي تخدم أعضاءها، وتسهم في أمن الصحفيين، وتدافع عنهم، وهذا ما يجب العمل عليه حاليًا، كما يجب الحفاظ على وجوده عضوًا فاعلًا في “الفيدرالية الدولية” لما في ذلك من مكاسب للقطاع بأكمله، ولسمعة سوريا ومستقبل الحريات الصحفية فيها مستقبلًا.
أختم بأن النقابات هي ملك لأعضائها، ومال صناديقها يأتي من اشتراكاتهم، وينحصر دور الحكومة في منع انحرافها، أو سوء إدارتها، أو إثبات وجود فساد فيها، كما أنها لا تمارس السياسة إلا عندما تواجه خطر التسييس أو محاولات تجييرها لمصالح السلطة والسياسة.. وللحديث بقية.
عنب بلدي
————————
الفرصة السورية التي يتعين اغتنامها/ غزوان قرنفل
تحديث 17 شباط 2025
أما وقد تقادم النصر والانعتاق قليلًا، وزالت نشوة الانتصار، فإن السوريون يواجهون اليوم واقعًا صعبًا ومزريًا، واستحقاقات كبيرة وثقيلة ليس من اليسير عليهم وعلى السلطة الجديدة الاستجابة لها كما ينبغي أو كما يأمل السوريون عمومًا، وهي بصدق مسؤولية كبيرة جدًا لا نملك الكثير من الخيارات إزاءها إلا ربما الحاجة لتكاتف وتنظيم الجهود، عسى أن نتمكن جميعًا من أداء ما يجب علينا أداؤه والنهوض بمسؤولياتنا تجاهها.
اليوم 90% من السوريين، وخاصة المقيمين منهم داخل سوريا، لا يهتمون حقًا بمن يتولى شؤون الحكم والسلطة، ولا حتى بشكل الدولة ونمط الحكم بقدر ما هم مهتمون بقضايا توفير الدفء والكهرباء ولقمة الخبز وفرص العمل وتوفير الأمان والسلامة، وهم محقون في ذلك، لأن تلك المسائل على بساطتها اللفظية مسائل غاية في الأهمية لدوام العيش بالصيغة الآدمية في حدها الأدنى، فالسوري الذي دفع كل ذلك ثمنًا لخلاصه من سلطة الاستبداد ودفع معه استقراره وحياة مئات الآلاف من شبابه التي سفحت على مذبح حرية كل السوريين، يحق له الآن المطالبة باسترداد القليل مما أداه ليستعيد بشريته.
تلك الأشياء البسيطة التي يحتاج إليها ويطالب بها السوريون في الداخل اليوم هي جزء بسيط جدًا من استحقاقات الزمن السوري المقبل، فثمة تركة ثقيلة جدًا خلفتها سلطة العصابة التي حكمت ونهبت سوريا طوال عقود ولم تقدم لشعبها إلا الفقر والبطش والمهانة، وليس من اليسير أبدًا كنس كل هذا الركام وإعادة الحياة لطبيعتها قبل عقد أو حتى عقدين من الزمن إذا توفرت الأدوات وخلصت النيات.
ربما نلاحظ جميعًا أنك وبمجرد أن تنتقد اليوم إجراء أو قرارًا من قرارات السلطة الجديدة أو إجراءاتها فسرعان ما تتلقى هجومًا وانتقادًا شديدًا قاسيًا، وذلك في جزء كبير منه غير مرتبط بموقف مؤيد بالمطلق لتلك السلطة بما تمثله من توجه سياسي أو ديني أو غير ذلك، وإنما لأن الكثير من السوريين يعتقدون أنك تتشدق بما هو ليس في سلم أولوياتهم الآن، وأنك بتلك الانتقادات ربما تعطل أو تؤثر على عمل الحكومة والسلطة في محاولاتها الاستجابة لحاجات المجتمع الأساسية، فتكون القضايا التي تثيرها، من وجهة نظرهم، بمثابة حجر عثرة في طريق الحكومة يجعل خطواتها متعثرة ويؤخر استجابتها لاحتياجاتهم الملحة، بينما أنت ترفل في نعيم الدفء وتوفر كل أنواع الخدمات والأهم أنك تعيش آمنًا من الجوع والخوف.
أعتقد أن هؤلاء تحديدًا محقون نسبيًا في ذلك، لكنهم لا يستطيعون ربط طرفي المعادلة بين مطالبهم واحتياجاتهم في حدودها الدنيا من جهة، وبين ما تقوله أو تكتبه وهو بعيد في ظاهره عن مساحة همومهم من جهة أخرى، لكنه في باطنه يسعى لتعزيز فكرة بناء الدولة الخادمة والملبية لحاجات شعبها، والتي لا يمكن بحال أن تكون دولة معافاة اقتصاديًا ومقتدرة سياسيًا إلا إن ابتعدت عن العقائد والاصطفافات الدينية والمذهبية والعرقية، فالاستجابة والقدرة على توفير الأولى تقتضي بالضرورة الاستجابة للثانية أيضًا، فلا تستطيع الحكومة توفير فرص عمل أو رفع سقف المداخيل للناس أو حتى توفير الخدمات الأساسية لهم ما لم تكن لديها القدرة على الاستجابة لموجبات بناء الدولة وتنظيم ممارسة السلطة وتداولها والمشاركة فيها، وحسن استخدام الموارد الوطنية لمصلحة عموم السوريين.
اليوم نحن أمام استحقاقات وطنية بالمقام الأول، وهي بذات الوقت استحقاقات تتعلق في سبل خروج سوريا الدولة من إسار العقوبات الدولية وإعادة إدماجها ضمن المجتمع الدولي، وهذه الاستحقاقات تمت الإشارة إليها في خلاصات ثلاثة مؤتمرات دولية لأجل سوريا، في كل من العقبة الأردنية والرياض العاصمة السعودية وفي باريس العاصمة الفرنسية، ومؤداها أن تحقيق اختراق حقيقي وملموس في جدار العقوبات وكذلك في إعادة إدماج الدولة السورية ضمن المنظومة الدولية يقتضي وجود حكومة انتقالية ذات تمثيل وطني واسع، أو من التكنوقراط فحسب، وصدور إعلان دستوري يكسب شرعية للحكم الجديد وينظم ممارسة السلطة وتشاركيتها خلال المرحلة الانتقالية ويطوي مرحلة التفرد القائم الآن، وتشكيل لجنة وطنية لصياغة دستور دائم للبلاد… وكمدخل لكل ذلك لا بد من انعقاد مؤتمر وطني، تكون تلك القضايا على أجندة أعماله فضلًا عن قيام أعضائه المشاركين بانتخاب أو تعيين مجلس تشريعي مصغر ومؤقت، ليسهم بالوظيفة التشريعية في أضيق حدودها إن كان ذلك ضروريًا.
الفرصة الآن متاحة حقًا لفعل ذلك إذا ما خلصت النيات، باعتبار أنه تم الإعلان عن تشكيل لجنة تحضيرية لانعقاد المؤتمر الوطني المفترض أو حتى مؤتمر الحوار الوطني الذي يتعين أن تكون توصياته وقراراته ملزمة للسلطة التي هيأت لانعقاده، وأن تكون مخرجاته متسقة مع حاجات المرحلة التي أشرنا إليها حتى نتمكن جميعًا من تجاوز عتبات ألم المرحلة التي نعيشها الآن ونبدأ جميعًا ببناء الوطن السوري الذي يلبي احتياجات إيمان السوريين جميعًا كوطن نهائي لهم.
سأختم بالقول إننا نحن السوريين الآن قطعنا نصف المسافة نحو إمكانية بناء دولة ديمقراطية آمنة، يمارس فيها الناس حقوقهم وحرياتهم ويأمن فيها الناس على تلك الحقوق وعلى ممارسة الحياة والسياسة دون خوف ودون تنكيل، ولكن يجب أن نكون مدركين لمسألتين حتى لا نعود القهقرى.
الأولى أن المجتمع السوري اليوم يعيش 90% منه تحت خط الفقر بكثير، ولا يمكن نشوء وقيام نظام ديمقراطي إلى جانب الفقر والحاجة والعوز فالأمر لايستقيم أبدًا، والثانية أن القوى الممسكة الآن بتلابيب السلطة هي قوى مغرقة في سلفيتها وإسلامويتها وهي على الضد من فكرة الديمقراطية أو التداول السلمي للسلطة، بل هي ربما في حالة قطيعة حقيقية مع العصر والمستقبل، ومن الطبيعي أنه لا يؤمل من تلك القوى التي تعتقد أنها ظل لله ووكيل عنه في الأرض أن تتبنى خيارات بشرية في حين أنها تملك كما تعتقد خيارات إلهية أحق وأصوب… لذلك نحن مجبرون الآن على دعم عملية النهوض بالمجتمع وإخراجه من إسار الفقر والجوع، وأن نراهن على التمايزات والتحولات التي يمكن أن تحصل ضمن القيادة الحالية التي يتخذ مستواها الأول على الأقل خيارات وسياسات وخطابًا مغايرًا عن بقية المستويات ما يسهل ربما، أو كما نأمل، استيلاد فرصة جدية للتحول الديمقراطي.
عنب بلدي
——————————-
حوار علني لسرديتين في طرطوس/ أحمد عسيلي
تحديث 17 شباط 2025
تشهد طرطوس منذ انتصار الثورة حالة من الغليان، بالمعنى الإيجابي للكلمة، فقد عادت الحياة السياسية لهذه المدينة بعد عقود من الصمت والرضوخ التام لعائلة الأسد، واقتصار دورها على إمداد هذه العائلة المجرمة بالشباب ليكونوا وقود حرب.
منذ سقوط الحكم، تشهد المدينة الكثير من اللقاءات والمباحثات لتشكيل تيارات وأحزاب سياسية (تشكل حزب سياسي جديد مؤخرًا) بالتوازي مع احتفالات ووقفات احتجاجية بشكل شبه يومي، تطورت آخرها إلى تلاسن لفظي، وربما محاولة للتهجم، في أولى حالات التواصل الجدي والصريح بين أطراف المدينة، انتهت هذه الحادثة بجلسة صلح بين جميع الأطراف (رفضها بعضهم لرغبتهم في متابعة قضائية للحادثة).
للإضاءة أكثر على تلك المجريات، ولفهم أعمق لدوافعها، سأبدأ أولًا بسرد لقطتين من تلك الأحداث، الأولى كنت شاهدًا عليها في أثناء وجودي بالمدينة، والثانية حدثت في أثناء الوقفة الأخيرة، ونقلها لي أناس أثق بهم، ثم سنحلل بعدها العوامل التي أوصلت الحالة إلى ما نحن عليه.
اللقطة الأولى حصلت في أثناء وقفة دعت إليها مجموعة من أمهات الجنود في الجيش السابق، والمعتقلين لدى السلطة الحالية، جرت أمام قصر المحافظ، استوقفت هذه المظاهرة بعض المارة في المدينة، الذين استفزهم وجود احتجاج على “الهيئة”، وبدأ الطرفان بخوض حوارات ساخنة فيما بينهم، لكن ما لفت نظري أنه حين استرجع أحد الناس قصة بعض أهالي بانياس الذين أحرقهم الجيش في بيوتهم، ردت عليه إحدى أمهات المعتقلين: “ابني ليس له علاقة، ابني كان عنصرًا في جيش الوطن”. على كل انتهت هذه الوقفة بشكل راقٍ جدًا دعا فيها المحافظ جميع الأمهات للحوار معه في إحدى صالات مبنى المحافظة، وسمح لجميع وسائل الإعلام وقتها بالدخول والتصوير.
اللقطة الثانية، حدثت الأسبوع الماضي في نفس المكان، فقد نظمت مجموعة من الفعاليات السياسية والمدنية في المدينة وقفة احتجاجية، بمطالب مختلفة، مثل الاعتراض على تسريح الموظفين، أو تأخر الرواتب، والمطالبة بسرعة تحقيق العدالة الانتقالية، وتعمدت مجموعات أخرى من أبناء المدينة القيام بوقفة مؤيدة لـ”الهيئة” أيضًا أمام المبنى ذاته. حصل شجار لفظي بين المجموعتين حين قام أحد الأشخاص المؤيدين للهيئة بترديد شعار: “قائدنا للأبد سيدنا محمد”، فرد عليه آخر: “أنتم ارهابيون مثل قادتكم”، وقيل إن أحدهم هجم على بعض المتظاهرين وحاول تمزيق بعض لافتاتهم. لم يحدث ضرب أو أذية جسدية حسب علمي، لكن يبدو أنه حدثت محاولة الاعتداء على كاميرا، أو منع تصوير، وتناقلت كالعادة “السوشال ميديا” الكثير من الإشاعات، وكالعادة أيضًا حاول البعض استغلال هذه الحادثة للظهور بمظهر البطل، أو الضحية أحيانًا، وبدأنا نرى شلالات من الاتهامات والتبريرات، وتسجيلات مصورة يحاول كل طرف شرح القصة وفق وجهة نظره.
تعكس هاتان الحادثتان مشكلات أعمق من مجرد تلاسن بالكلمات، أولاها وأهمها هي حالة الانقسام الحاد في الموقف من الحكم الجديد.
فمنذ لحظة دخول سيارات “الهيئة” إلى المدينة صباح 8 من كانون الأول 2024، استقبلها البعض بالكثير من الترحاب، مع إضفاء هالة من القداسة والتبجيل على شبابها، بصفتهم أبطالًا استطاعوا الانتصار على أعتى الأنظمة الدكتاتورية، وخاصة أنه نصر جاء بعد سنوات من فقدان الأمل بأي تغيير، واستفحال همجية عائلة الأسد في المدينة، وصل لدرجة إرسالهم أوامر إخلاء لعدة بيوت في طرطوس القديمة، فقط لأن زوجة الأسد ترغب في بناء “مول” تجاري في تلك البقعة، دون أي مراعاة لمشاعر ساكني تلك البيوت، فجاء دخول مقاتلي “الهيئة” كفاتحين ومحررين لأبناء المدينة من سلطة الأسد الإجرامية.
بينما حمل البعض الآخر مشاعر كره وحقد لهذه السلطة، لأنها انتزعت القوة من أيدي الطائفة (حسب قناعتهم طبعًا)، وبالتالي مهما فعلت هذه القوات، فلن تواجه إلا بالرفض من هذه المجموعة، حتى لو حولت الساحل إلى جنة (حسب تعبير أحد أبناء الطائفة)، مشكلة هذه المجموعات أنها لم تتعود التعامل مع البقية (حتى من أبناء طائفتها) إلا من مبدأ سلطوي، وهنا نتحدث عن مجموعة صغيرة من الطائفة المحتكرة للقوة (وليس بالضرورة للمال) منذ سنوات.
وبين هاتين المجموعتين، أناس لا يحملون أي مشاعر متطرفة، حاولوا التأقلم سابقًا مع نظام الأسد، ويحاولون حاليًا التأقلم مع النظام الجديد، أفرح معظمهم سقوط الأسد، لكنهم لا يشاركون البقية حالة التقديس تلك للسلطة الجديدة، ولديهم تخوفاتهم واعتراضاتهم على بعض تصرفاتها.
المشكلة الثانية، هي ضعف التواصل سابقًا بين سكان المدينة، وحمل كل مجموعة سردية مختلفة عن التاريخ السوري في حقبة الأسد، وتاريخ الساحل خاصة، فهناك مجموعة ترى في الجيش السوري مجرد ميليشيا إجرامية، هدمت سابقًا حماة وحلب، وارتكبت الكثير من المجازر منذ الثمانينيات وصولًا لأحداث الثورة السورية التي دمرت السلطة خلالها الكثير من المدن، وما زالت مجازر البيضا التي وقعت في بانياس عالقة في ذاكرة أهالي المدينة، تلك التي استذكرها الرجل أمامي في أثناء الوقفة الأولى، بينما ترى مجموعة أخرى في أحداث حماة رئيسًا عبقريًا استطاع حفظ البلاد من حكم الإرهابيين، التي ورثت “جبهة النصرة” هذا اللقب منهم (كما عبر عن ذلك أحد المحتجين في الوقفة الثانية)، وتحمل هذه المجموعة حالة من القدسية للجيش الأسدي (جيش الوطن حسب قول تلك السيدة).
إذًا، هناك تفاوت كبير في المرجعيات الفكرية والنظرة للتاريخ والأحداث، ولمعاني الكلمات ووقعها النفسي على كل شخص. مشكلة عمرها عشرات السنين، لم يسبق وأن خاض المجتمع السوري خاصة في الساحل نقاشًا جديًا لنقد تلك المرحلة، بل كل طرف يحمل “كليشيهات” جاهزة من التصورات، نتيجة انعدام الحوار الحقيقي بين الناس.
رؤيتان متناقضتان للواقع والماضي، لم يسبق أن جرى أي حوار حقيقي حولهما، يمكننا القول إن ما يحدث في تلك الوقفات والوقفات المضادة، أحد أشكال الحوار واطلاع كل طرف على سرديات الطرف الآخر، مما قد يساعد في المستقبل على معرفة كل طرف للآخر بشكل أفضل.
ووقتها، ربما نكون قد أصبحنا جاهزين نفسيًا على الأقل، للسير في خطى العدالة الانتقالية، ورضا الأطراف كلهم بها.
عنب بلدي
——————————-
الديون البغيضة لحلفاء النظام السوري السابق وفرص التخلص منها/ عمر إدلبي
نشر في 17 شباط/فبراير ,2025
تمثّل الديون والالتزامات التي رتّبها النظام السوري السابق على الدولة السورية، لصالح حلفائه، إحدى أعقد التحدّيات التي يُتوقّع أن تواجه الاقتصاد السوري، بوصفها ديونًا بغيضة، اقترضها النظام لتمويل حربه ضدّ السوريين من أجل الحفاظ على السلطة، وذلك لما تمثله هذه الديون من عبء كبير وثقيل على الميزانية العامة للدولة الخارجة للتو من حربٍ امتدّت نحو أربع عشرة سنة، ولما ستتركه من أثر سلبي على النمو الاقتصادي، يعوق جهود استعادة الاستقرار المالي، وعملية إعادة الإعمار وتحقيق التنمية المستدامة.
تستعرض هذه الدراسة خلفية نظرية الديون البغيضة، في ضوء فقه القانون الدولي والسوابق التاريخية ذات الصلة، وتأثير الديون البغيضة في الحالة السورية وتداعياتها، وذلك بالاعتماد على المعلومات المتاحة من مصادر مفتوحة وتقارير إعلامية، في ظلّ غياب الشفافية من قبل النظام السوري السابق وحلفائه، وعلى تحليل معايير نظرية الديون البغيضة في السياق السوري، مقارنة بتجارب دول أخرى في التعامل مع هذه المشكلة، واستكشاف فرص التخلّص من أعبائها، واقتراح التوصيات المناسبة للحدّ من تأثير هذه الالتزامات والديون.
يمكنكم قراءة البحث كاملًا من خلال الضغط على علامة التحميل أدناه:
تحميل الموضوع
مركز حرمون
—————————–
مؤتمر الحوار الوطني السوري: فرصة لإنقاذ مستقبل سورية أم ساحة لصراع النفوذ!/ سامر بكور
نشر في 16 شباط/فبراير ,2025
تعدّ مؤتمرات الحوار الوطني آليات حاسمة للتحولات السياسية، من الأنظمة الاستبدادية إلى أنظمة حكم أكثر شمولية واستقرارًا. تهدف هذه الورقة إلى تقييم فعاليتها في بناء الدولة والمصالحة وترسيخ هياكل حكم مستدامة، مع التركيز على المؤتمر المزمع عقده في دمشق بعد سقوط نظام الأسد. ومن خلال تحليل دراسات حالة، مثل تونس واليمن، تسلّط الورقة الضوء على أن نجاح هذه المؤتمرات يعتمد على التوافق السياسي الواسع، ومعالجة المظالم التاريخية، والإدارة الفعالة للخلافات، ويواجه السياق السوري تحديات إضافية، أبرزها الجمود العسكري، وانعدام الثقة بين فواعل المجتمع، واحتمالية استحواذ القوى المسيطرة على العملية. وبناء على دراسات وحالات سابقة مماثلة، تؤكد الدراسة أن الدعم الدولي المتماسك ضروري لضمان حيادية الحوار وتطبيق نتائجه بفعالية. لذا، توصي الورقة بضرورة ضمان تمثيل شامل لجميع الأطراف بدون استثناء، حتى القوى السياسية والمدنية والفئات المهمشة، مع وضع آليات رقابة مستقلة لمنع احتكار جهة معينة للحوار، إضافة إلى ربط مخرجاته بعملية دستورية وإصلاحات مؤسسية واضحة لضمان استدامتها، وتشدد الورقة على أهميّة وجود دعم دولي متماسك عبر دور الأمم المتحدة والمنظمات الإقليمية وتوفير الضمانات السياسية واللوجستية لإنجاح الحوار، وتخلص الدراسة إلى أن نجاح مؤتمر الحوار الوطني في سورية سيتطلب تجاوز العقبات التقليدية التي واجهتها تجارب سابقة، من خلال نهج قائم على الشمولية والاستقلالية والدعم الدولي المستدام.
يمكنكم قراءة المادة كاملة من خلال الضغط على علامة التحميل أدناه:
تحميل الموضوع
مركز حرمون
————————————–
من أحضان «علي مملوك» والإسرائيليين إلى أحضان «الجولاني»/ جورج فاضل متى
لقاء المجرمين والقتلة و تجار السلاح والجواسيس : «الجولاني» و «وفيق رضا سعيد» و آكلة الأكباد … «هند بنت عتبة»!!
ـــــــــــــــــــ
كان لدي دوماً فكرة لطالما ذكرتها ودافعت عنها بطريقة أو بأخرى في أكثر من مناسبة، وهي أن مشكلة التطور في مجتمعاتنا لا تتعلق بالسلطات والأنظمة، مهما كانت فاسقة أو فاجرة أو مجرمة، بل بشعوبها؛ وأن مشكلتنا مع هذه الشعوب أكبر وأعمق بكثير من مشكلتنا مع هذه الأنظمة. و وصلت بي الجرأة الوقحة إلى حد الحديث عن «جينوم/ صبغية ثقافية» من نوع الصبغيات التي تنقل الشيفرة الوراثية الخاصة بلون العيون، لون الجلد، الطول، شكل الجمجمة …إلخ. وكما أن في هذه الأخيرة «صفات متنحية» و أخرى «سائدة»، كما تعلّمنا من« قوانين ماندل» في علم الوراثة، كذلك هي الحال في «الصبغيات الثقافية» التي قد تكون «سائدة» أو «متنحية» مثل الدين و الشعور بالانتماء القبلي أو العشائري أو الطائفي…إلخ، وتظهر من حين إلى آخر، في هذا الجيل أو ذاك، تِبعاً لظروف التلاقح والأطراف الداخلة فيه.
ورغم أن هذا يبدو نوعاً من تفكير و« تنميط استشراقي عنصري» للشعوب، إلا أني أتمسك به أكثر من أي يوم مضى، خصوصاً بعد أن رأيت ما رأيته ورآه غيري في سوريا وسواها من دول أطراف العالم المسماة بـ «الدول المتخلفة»، لاسيما منها «بلدان الشرق الإسلامي». وما حصل في سوريا خلال الأشهر الأخيرة لم يُزد قناعتي تلك إلا المزيد من الإيمان بها. فالعشرات من المثقفين والفنانين، أو ما يسمى «نخبة المجتمع»، الذين ادّعوا طوال سنوات طويلة ( وبعضهم دخل السجن بسبب أفكاره الشيوعية، مثل الفنان «عبد الحكيم قطيفان» ) أنهم يناضلون من أجل قيم مجتمع ديمقراطي ودولة وطنية علمانية، اكتشفوا فجأة أنهم «مسلمون سنة» قبل أن يكونوا سوريين! وهوما كان سبقهم إليه بسنوات طويلة مفكر كبير وقامة ثقافية فارعة مثل «صادق جلال العظم»، صاحب «نقد الفكر الديني» و«ذهنية التحريم» و «دفاعاً عن المادية والتاريخ»،الذي كان خلال ستينيات وسبعينيات القرن الماضي مرجعاً فكرياً حتى لـ«حركة القوميين العرب» و«الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين». فقد اكتشف بعد العام 2011 أنه ليس «مسلماً سنياً» فقط، بل ومن أصول تركية /طورانية أيضاً ، رغم أنه كان يكتب مقالات مدحية تقريظية في «نيويورك تايمز» عن «الإصلاحي الواعد بشار الأسد» كما وصفه، وكان المجرم «بهجت سليمان» جليسه المفضل و شفيع ابنه بالتبني «عمرو مؤيد العظم» يوم جرى ضبط هذا الأخير بقصة علماء الآثار الإسرائيليين الذين جرى إدخالهم إلى سوريا بهدف سرقة «رقيمات قطنة» و /أو التلاعب بترجمتها في مختبرات «جامعة بار إيلان» الإسرائيلية! وهي ما كانت عليه حال «برهان غليون» و«رياض الترك» أيضاً، اللذين اكتشفا فجأة أصلهما المشترك «التركي و السني»! وفوق ذلك كله ذهب «صادق العظم» إلى حد الإعراب عن إعجابه بشخصية عنصرية مجرمة مثل كلب الحلف الأطلسي «رجب طيب أردوغان»، والتأكيد للسوريين على أن تجربة هذا الأخير «يمكن أن تكون مثلاً يحتذى به»! فتصوروا انحطاط مفكر يكون «جورج حبش» أيقونته النضالية المفضلة، ينتهي به الأمر إلى أن يكون مجرد خزمتشي أخونجي وضيع عند «أردوغان»! وتلك هي «الصبغية الثقافية الوراثية» التي تحدثت عنها، والتي تكون أحياناً «سائدة» وأحياناً أخرى «متنحية» تظهر في أجيال لاحقة!
مقابل هؤلاء الشيوعيين و/أو العلمانيين الذين اكتشفوا فجأة أنهم «مسلمون سنة»، هناك شريحة أكثر منهم انحطاطاً وسفالة، وهم «الذميون» العلويوين والمسيحيون، وغيرهم من أبناء «الأقليات» الذين أصبحوا يتلذذون بذميتهم ويعتبرون إرهابياً مجرماً سفاحاً مثل «الجولاني» ،لا تعادل وحشية «بشار الأسد» إلا نقطة في بحر وحشيته وبربريته، «قائداً لثورتهم» و«محط آمالهم» في بناء الدولة المدنية الديمقراطية؛ فلا يكفّون عن إرسال الرسائل والبيانات والمناشدات إليه، ولكن بعد أن يفتتحوها بعبارات مثل «السيد القائد، السيد الرئيس»، كما يفعل الشيخ العلوي البهلول «م . الأحمد»! كل ذلك بالتزامن مع انتشار كلاب «الجولاني» في المساجد والشوارع وهم يلقون الخطب المستَدرجة من نصوص مفتي الإرهاب والعنصرية الأكبر في تاريخ الإسلام، الفقيه اليهودي – التلمودي المتأسلم «ابن تيمية»، التي تصفهم بالكفار والزنادقة!
هؤلاء الذميون لم يبق سوى أن يتباركوا ويتوضؤوا ببول «الجولاني» بعد أن عيّن ذمية حقيرة وساقطة تدعى «هند عبود قبوات» في اللجنة التحضيرية لمؤتمر الإرهابيين والجواسيس الوطني المزمع عقده الشهر القادم، وبعد أن استقبل سافلاً وحقيراً آخر من طينته يدعى «وفيق رضا سعيد» ليستأنس بأفكاره الاقتصادية ومشاريعه المافيوزية المجرمة! ( في الوقع ليس «الجولاني» هو من عيّن «هند قبوات» وزميلتها «هدى عبد الباسط الأتاسي»، ابنة شقيق الجاسوس العريق «فرحان الأتاسي» الذي أعدم في العام 1965؛ ولكن هكذا جاءت الأوامر له من رعاتها ورعاته وراء الحدود. وهذا ما يجب أن يكون واضحاً ومعلوماً للجميع).
هل يعرف هؤلاء «الذميون» العلويون والمسيحيون الأوغاد من تكون الساقطة «هند قبوات»، ومن يكون السافل «وفيق رضا سعيد»!؟
إذا كانوا لا يعلمون فتلك مصيبة، وإن كانوا يعلمون فالمصيبة أكبر وأعظم!
ليس هنا المجال الكافي لفتح ملفات هاتين الشخصيتين الحقيرتين على مصاريعها، ولهذا نكتفي بما قلّ ودل:
ـ «هند عبود قبوات»:
كانت كلبة من كلاب إدارة المخابرات العامة، لاسيما «علي مملوك»، على الأقل منذ العام 2006. فبعد اغتيال «رفيق الحريري» من قبل الإسرائيليين، وتلبيس طربوش التهمة للنظام السوري البائد ، ثم «حزب الله»، فرضت الولايات المتحدة والسعودية ، والغرب عموماً، عقوبات مختلفة على النظام السوري بصفته الاعتبارية وعلى عدد من ضباطه بصفاتهم الشخصية. وكما كان يحصل دوماً في مثل هذه الأحوال، وسعياً منه لامتصاص الغضب الأميركي والحصول على رضا واشنطن والغرب، كلف النظام عدداً من جراء وكلاب أجهزة مخابراته التواصل ليس مع الإدارة الأميركية فقط، بل حتى مع مؤسسة «آيباكAIPAC» ( الذراع الإسرائيلية الطويلة والباطشة في الولايات المتحدة)، فضلاً عن ضباط مخابرات إسرائيليين متقاعدين يعملون في الولايات المتحدة، أمثال جنرال الاستخبارات العسكرية المستعرب « ييغال كرمون Yigal Carmon » ( مدير مكتب «إسحاق رابين» و «إسحاق شامير» سابقاً ولاحقاً) و زوجته السابقة « ميراف وورمسرMeyrav Wurmser » التي كانت أصبحت يومها زوجة «دافيد وورمسر»، مستشار الإرهابي العنصري «ديك تشيني»، نائب الرئيس «جورج بوش»، قبل أن تصبح قناة تواصل بين «نبيل فياض» و «الموساد» و «ناتان شارانسكي»، رئيس مكتب «نتنياهو»! وكان «نبيل فياض» ينام في منزلها أحياناً حين يزور الولايات المتحدة في مهمة أمنية رسمية!
كان على رأس كلاب اللواء «علي مملوك» واللواء «بهجت سليمان» و اللواء «فؤاد ناصيف خيربك» يومها، الذين كُلفوا بمهمات التواصل مع الأميركيين والإسرائيليين كل من : صادق جلال العظم؛ الدكتور سمير التقي؛ المهندس أيمن عبد النور (الذي كان أصبح يومها كلباً محترفاً عند «أسماء الأسد»، متخصصاً بلحس وتذوّق ما تحبه من قنادر وفساتين وكلاسين وسونتيانات من الماركات العالمية قبل شرائها لها)؛ الصيدلاني نبيل فياض ( الذي لم يبق ضابط «موساد» ولا مسؤول سياسي إسرائيلي إلا وأصبح صديقاً له بغطاء من المخابرات العامة السورية، لاسيما «فؤاد خير بك» و«بهجت سليمان»!) الخبير المالي سمير سعيفان؛ والحكواتي النصاب الذي ينتحل صفة مؤرخ «سامي مروان مبيض». وبالطبع كانت «هند عبود قبوات» على رأس قائمة هؤلاء، وكانت مهمتها – بحكم دراساتها الدينية- شبه محصورة بالتواصل مع الحاخامات الإسرائيليين والأميركيين، أمثال الحاخام «مارك غوبين»، الذي تأبطته تحت ذراعها وأخذته إلى دمشق والقصر الجمهوري لكي تعرفه على « رائدة الإصلاح وصاحبة الأيادي البيضاء في سوريا، أسماء الأسد»، كما قالت في إحدى مقابلاتها!! ولكن هذا لم يمنع دون أن تجتمع ( كغيرها من موفدي «علي مملوك») مع ضابط أمن السفارة الإسرائيلية في واشنطن الرائد آنذاك في «الوحدة 8200 » في جهاز المخابرات العسكرية الإسرائيلية «أمان» ، «نير بومسNir Boms»، رغم أنه كان مشغولاً يومها بتجنيد الجاسوس «عمار عبد الحميد» (ابن فنانتنا الكبيرة السيدة «منى واصف»)، قبل أن يصحبه كضيف شرف إلى «مؤتمر هرتسليا الأمني» في فلسطين المحتلة! يومها، ولأن فنانتنا الكبيرة دافعت بشراسة عن علاقة ابنها بإسرائيل، واعتبرت الأمر «حرية رأي»، كافأها رئيس محفل الجواسيس «بشار الأسد» بأن منحها «وسام الاستحقاق من الدرجة الأولى» (أو «وسام أمية ذو …الخرية»، فلم أعد أذكر!).
كانت اجتماعات هذه العصابة المخابراتية المتصهينة تجري في الولايات المتحدة ولبنان والإمارات العربية والبحرين و مقر «الآيباك» في واشنطن، والسفارة الأميركية في دمشق، فضلاً عن منزل السفير السوري في الولايات المتحدة «الدكتور عماد مصطفى». وفي منزل هذا الأخير كانت «هند قبوات» تجلس في حضنه (بالمعنى الحرفي للكلمة، وليس بالمعنى المجازي. ولكن – كما يجب القول، ولئلا يذهب ظن البعض مذهباً خبيثاً – ليس بدوافع جنسية رخيصة. فقد كانت تفعل ذلك أمام زوجته وأولاده، بحكم علاقتها الوثيقة مع العائلة، كما أخبرني أستاذنا وصديقنا عالم الاجتماع الكبير «حليم بركات» في رسالة خطية). ومن مآثر هذا الخزمتشي الأميركي – المملوكي القذر «عماد مصطفى» أنه ، حين عُين سفيراً في واشنطن في العام 2004، لم ينسَ أن يأخذ معه كل أسرار «مركز البحوث العلمية» على أقراص « سي دي» ويسلمها للأميركيين، بحكم أنه كان يومها رئيس قسم الإنفورماتيك في «مركز البحوث»، ويعرف بالتالي أسراره وبرامجه العسكرية كلها عن بكرة أبيها. ومنذ ذلك الحين بدأ موسم الاغتيالات الأميركية والإسرائيلية للعاملين في المركز، فضلاً عن الأعمال التخريبية «المجهولة» التي طالت فروعه ومصانعه في المحافظات السورية المختلفة!!).
وكغيرها ممن جاءتهم «الثورة» على غفلة، كما تأتي العادة الشهرية للفتاة في بداية نضوجها، داهمت «الدورة الثورية» كلبة «علي مملوك» المزمنة ، «هند قبوات». فقد كان الثوار الجواسيس بحاجة لـ «ذميين» مسيحيين أوغاد مثلها، و«ذميين»علويين سفلة على شاكلتها وشاكلة «منذر بدر ماخوس» ، لكي يزينوا بهم أوكار وفاترينات دعارتهم السياسية. ومنذ ذلك الحين أصبحت «هند بنت عتبة القبواتية» إحدى كلابهم وكلباتهم، إلى جانب الذميين الآخرين أمثال «ميشيل كيلو» ( كلب «علي دوبا» العتيق، كما نشرنا وثائقه مؤخراً) و «جورج صبرة»، الذي كان أول ضابط ارتباط بين «رياض الترك» و وكالة المخابرات المركزية في خريف العام 1978 ، يوم كان موفداً في بعثة تدريبية لصالح وزارة التربية، تنفيذاً لاتفاقيات «حافظ الأسد» و«هنري كيسنجر» في مجال «التعاون العلمي والثقافي»!! ( هذا الملف الوثائقي الخاص بالذمي الوضيع «جورج صبرة»، بوثائقه السورية والأميركية والألمانية، سينشر لاحقاً كما آمل).
ـ المجرم السافل «وفيق رضا سعيد»:
بخلاف والده العظيم والشخصية الوطنية التربوية الكبيرة «رضا سعيد»، الذي أسس جامعة دمشق وترأسها، و واجه الفرنسيين بشجاعة حين أرادوا إغلاق الجامعة بدعوى أن السوريين «ليسوا بحاجة لها وبإمكانهم تحصيل علومهم في جامعات بيروت»، كان «وفيق سعيد» كومة خراء حقيقية ، انتشرت رائحتها المقززة من السعودية إلى كندا إلى فرنسا إلى بريطانيا إلى إسرائيل إلى بلدان أفريقيا جنوب الصحراء وسواها. فعدا عن عمليات النصب والاحتيال التي ضبطته بها الحكومة الكندية حين حصل على جنسيتها بالأونطة والتزوير، لم يترك جريمة من جرائم تجارة السلاح إلا ودس أنفه فيها، بدءاً من تجارة السلاح مع البلدان الأفريقية التي كانت تشهد حروباً أهلية، وليس انتهاء بـ «صفقة اليمامة» الشهيرة بين بريطانيا وآل سعود، التي تحولت إلى واحدة من أكبر قصص الفساد وأعمال المافيا الإجرامية في التاريخ! ولكن هذا كله لم يمنع «بشار الأسد» من أن يأمر جامعة دمشق في العام 2005 بمنحه دكتوراه فخرية ( في القتل والإجرام واللصوصية ، كما ينبغي القول)، وبأن يسمي قاعة باسمه في الجامعة بعد أن تبرع من عائدات تجارة السلاح لصندوقها! وهكذا أصبح طلابنا يدرسون على نفقة أرباح تجارة السلاح التي يجنيها هذا المنيوك المجرم الذي يقطر الدم من كل مسام جلده! ولم يكن تبرعه بالمال للجامعة سبباً وحيداً للتكريم الأسدي، ولكن ضلوعه في الاتصال مع إسرائيل ، كقناة خلفية، على غرار «عمران أدهم» و«رفيق الحريري» و «عثمان العائدي» و«إدمون صفرا» و«محمد العمادي» ثم «عبد الله الدردري»، ومحاولتهم شراء أرض «باشان / جيدور» في ريف درعا الشمالي لصالح شركة «تنوفا» الزراعية / الصناعية الإسرائيلية؛ وهي الجريمة الكبرى التي أحبطها «علي دوبا» (في عهد الأسد الأب) ثم «آصف شوكت» (في عهد الأسد الابن)، كما ينبغي الاعتراف دون أي خجل أو تردد. فمن شيمي التي أعتز بها أني أعترف لعدوّي وخصمي بأي فعل وطني يقوم به، حتى لو كان دمر حياتي الشخصية والمهنية!
حين انتشرت قبل أيام صور المنيوك المجرم «وفيق سعيد»، مع المنيوك المجرم الآخر «أبو محمد الجولاني»، وظهر اسم الذمية الساقطة «هند قبوات» في قائمة اللجنة التحضيرية «الجولانية» للمؤتمر الوطني المزعوم، رأيتُ عيون آلاف السوريين وهي تغرورق بدموع الفرح والاعتذار والإشادة بـ«الجولاني» الذي بلغت به سماحته أن عيّن «ذمية» في عداد لجنته التحضيرية، وبعقله الراجح حين استقبل «وفيق سعيد» ليستفيد من خبراته الاقتصادية … في تجارة السلاح طبعا!
أما قلت لكم إن مشكلتنا ومصائبنا كانت دوماً مع البغال والحمير أعضاء قطعان الرعاع والدهماء التي يسمونها «شعوباً»، وليس مع الأنظمة… مهما كانت هذه الأخيرة ساقطة وفاجرة وعاهرة!؟
ــــــــــــــــــــــــ
المرفقات :
ـ الصورة الرئيسية : «هند قبوات» في منزل السفير «عماد مصطفى» في واشنطن (شباط /فبراير 2006)، نشرها «نزار نيوف» على صفحته في «فيسبوك» قبل سنوات.
ـ «هند قبوات» مع الحاخام « مارك غوبين» في ضيافة «صاحبة الأيادي البيضاء أسماء الأسد» في القصر الجمهوري بدمشق.
ـ «عماد مصطفى مع مشغله المجرم «جورج بوش»: نشر «عماد مصطفى» هذه الصورة على «البلوغ» الخاص به، متباهياً باحتضان «بوش» له، وبصورتهما المشتركة التي أهداها له بتوقيعه!
ـ مذكرة من «مكتب الأمن القومي» تعود إلى العام 2006. وفيها يطلب رئيس مكتب الأمن القومي من «بشار الأسد» و «علي مملوك»، بناء على طلب رئيس شعبة المخابرات العسكرية «آصف شوكت»، تأكيد ما إذا كان المذكورون ( «هند قبوات» وعصابتها) مكلفين من قبلهما بالتواصل مع الأميركيين والإسرائيليين كما أفادوا!
ـ رابطان أحدهما لوثائق سرية بريطانية تتعلق بتورط المجرم «وفيق سعيد» (وآخرين مثل «أكرم العجة»، صهر «مصطفى طلاس») في «صفقة اليمامة»، والثاني لتحقيق صحفي كندي عن عملية النصب والاحتيال التي قام بها للحصول على الجنسية الكندية، رغم أنه يحمل الجنسية الفرنسية والسعودية والبريطانية ، فضلاً عن جنسيته السورية. وهذا غيض من فيض تاريخه المافيوزي الإجرامي القذر:
http://image.guardian.co.uk/…/2007/06/01/ch07doc05.pdf
الفيس بوك
———————————
ملاحظات
Joumana Seif
على هامش مؤتمر ميونخ للأمن دعيت للمشاركة كمتحدثة بحدثين جانبيين. الفعالية الاولى كانت طاولة حوار حول العدالة الانتقالية من وجهة نظر النساء والفعالية الثانية: دعوتنا انا وهند قبوات من قبل وزيرة الخارجية الالمانية أنالينا بيربوك مع وزيرات ووزراء خارجية عدد من الدول الاوربية على الافطار ، لمناقشة الوضع السوري والاستماع الى مواقف دولهم بعد الاستماع الى مداخلاتنا.
من وجهة نظري وكاستنتاج شخصي، يمكن تلخيص أهم الرسائل التي وردت في مداخلة الوزيرةبيربوك ومجمل مداخلات الوزيرات والوزراء بالنقاط التالية:
– الخارجيات الاوروبية تتابع بدقة مايجري في سوريا وقد عبر جميع الوزيرات والوزراء الحاضرين عن سعادتهم بتخلص الشعب السوري من نظام الأسد الديكتاتوري ولكنهم عبروا عن قلقهم أيضاً من أداء حكومة تصريف الأعمال بخصوص الاقصاء وعدم التضمين.
– بخصوص رفع العقوبات والدعم الاقتصادي، وهو المطلب الذي أكدنا عليه بشدة بعد شرح الوضع المعيشي للسوريات والسوريين والمعاناة الهائلة في كل تفاصيل الحياة اليومية، جاء جوابهم بأنهم يتفهمون كل ذلك ويحاولون المساعدة بأفضل طريقة ولكن من المنطقي أن تلبي السلطة في سورية معايير أساسية من جهة عدم التفرد بالحكم واشراك الجميع في رسم مستقبل بلدهم.
– قضية اشراك النساء بشكل حقيقي وفاعل في العملية السياسية بكل مستوياتها وفي المجتمع المدني ، هي قضية جوهرية وتتصل بشكل مباشر بالأمن العالمي.
– لدى الوزيرات والوزير الذين قابلو ا رئيس المرحلة الانتقالية السيد أحمد الشرع في دمشق، انطباع ايجابي عنه وعن وزير الخارجية السيد الشيباني ويأملون أن يعكس تشكيل الحكومة الانتقالية في ١ آذار نهج جديد يصحح الأخطاء السابقة ويكون بداية لمرحلة جديدة تؤسس بشكل متين لرفع العقوبات ولدعم اوروبي بكل المجالات وخصوصاً الصحة والتعليم وإعادة الاعمار.
– أكدت الوزيرات والوزراء على أهمية العدالة الانتقالية و انصاف الضحايا ومحاسبة المرتكبين من أجل الحفاظ على السلم ومنع التكرار.
– ختمت احدى وزيرات دول اوروبا الشرقية سابقاً، المداخلات بقولها: اعلموا أن الاهتمام الدولي بسوريا لن يستمر الى ما لانهاية، أقول هذا من خلال تجربتنا، نصيحتنا أن تعملوا وبسرعة على بناء الثقة بخطوات واضحة لكي تضمنوا الدعم واستمراره من أجل مستقبل بلدكم.
الصورة أثناء أخد سيلفي من قبل احدى الوزيرات بعد انتهاء النقاش.
الفيس بوك
————————–
ملاحظات
محمد ياسين نجار
الرئيس أحمد الشرع يبدأ زياراته داخل سورية في حلب بعد زيارة اطمئنان ووفاء إلى إدلب التي احتضنته وانطلق منها التحرير.
الرئيس الشرع طلب في البداية الاستماع إلى طروحات ممثلي حلب من الصناعيين والتجار والسياسيين.
تميزت كلمات المتدخلين بالجدية والرغبة بالعمل في بناء حلب التي تعتبر قاطرة سورية الاقتصادية.
مداخلتي في اللقاء ركزت على أربعة نقاط:
١- ضرورة اتباع اللامركزية الإدارية في الحكم.
٢- أهمية تشكيل هيئات لإعادة الإعمار والعدالة الانتقالية وأن إعادة الإعمار يتطلب هيئة محترفة موثوقة مستقرة بعيدا عن الوزارات المتغيرة لأنها ثقب أسود للفساد في حال عدم بناءها بشكل سليم.
٣- ضرورة وضع قاعدة بيانات بالكفاءات السورية والاستفادة من الكفاءات السورية الموجودة في بلاد الاغتراب والهجرة.
٤- ضرورة التحضير لمؤتمر اقتصادي في حلب مع بداية الصيف لإعلان إنطلاق عجلة الاقتصاد السوري.
أهم النقاط التي طرحت في اللقاء من قبل الحضور:
١- الإهتمام بالتعليم خلال المرحلة القادمة.
٢- الاهتمام باستقلالية النقابات.
٣- ضرورة ملئ الفراغ الدستوري والقانوني بأقصى سرعة ممكنة.
٤- تشكيل جسم قضائي محترف مستقل.
٥- الاهتمام بذوي الشهداء والجرحى.
٦- الاهتمام بعودة أهالي المخيمات إلى ديارهم.
٧- تشكيل هيئة مستقلة للغذاء والدواء.
٨- الإهتمام بتنمية الريف والمجالس المحلية.
٩- اعتماد بوزارة للشباب تكون ملبية لتطلعاتهم.
١٠- الاهتمام بملف الإعلام.
١١- ضرورة اعتماد الحكومة الإلكترونية للخروج من حالة البيروقراطية والفساد.
١٢- ضرورة التأكيد على أن غالبية من بقي في حلب هم مرابطون.
١٣- حلب كانت مزدهرة وقوضت نجاحاتها مع التأميم وانقلاب البعث وحكم عائلة الأسد وكان في حلب بورصة وشركات مساهمة فنرجو أن نتجاوز ذلك خلال المرحلة القادمة.
لاحقا تكلم الرئيس أحمد الشرع بعد كلمة للمفتي
د. إبراهيم شاشو رحب بها بالرئيس وذكر فيها مناقب حلب.
أهم النقاط التي ذكرها الرئيس الشرع:
١- سورية دولة مواطنة الجميع تحت سقف القانون وليست دولة طوائف ومكونات.
٢- أنه من الشعب، عانى ماعاناه منذ كان طفلا عندما كان يقف على طوابير الخبز ودرس في مدارس تشبه السجون، وكذلك تعرض للسجن وعانت والدته من فقدانه كما عانى السوريون من اعتقال وفقدان ذويهم.
٣- المعركة لم تنته بعد وأننا مازلنا في الفكرة وليس حالة نشوة النصر.
٤- أهمية حلب ودورها أهالي حلب وتجارها وصناعييها في إظهار سورية وأن التاجر الحلبي يتاجر بمواد يصنعها ويعرف أدق تفاصيلها.
٥- طالب السوريون أن يثقوا به في معالجة قضايا السلم خلال المرحلة الحالية كما وثقوا به في التخطيط للتحرير وتحقيق النصر.
٦- أعجب الرئيس الرئيس الشرع فكرة أن من بقي هو مرابط.
٧- قال بأن سورية الآن أكثر قدرة على التطور والازدهار من سنغافورة وماليزيا وراوندا والبرازيل عندما بدأوا بمشاريعهم النهضوية بفضل كوادرها البشرية المتميزة المتفاعلة الراغبة ببناء وطنها وارثها التاريخي الحضاري.
٨- ذكر أن مابين العدالة الانتقالية والسلم الأهلي شعرة يعمل عليها.
٩- ذكر أن قادة وممثلي الدول الذين يلتقون يسألون عن حلب وجاهزيتها للإقلاع وآخر من استفسر عنها الرئيس الفرنسي ماكرون في اتصاله الأخير معه.
١٠- قال أنه مهتم بأهالي المخيمات على رأس أولوياته لكن ضروري أن يُعطى الوقت الكافي لإعادتهم إلى بيوتهم ومناطقهم وقراهم.
١١- قال انه لاحظ بأن غالبية الحلبيين تكلموا عن المستقبل وهذا هام جدا ومبشر.
١٢- تكلم الرئيس الشرع عن تركيزهم بوضع خططه لعام ٢٠٢٥ و ٢٠٢٦ وبعد انتهاءهم من ذلك سوف يباشرون بوضع خطة استراتيجية لعشر سنوات قادمة.
أهم نقطة في اللقاء أن الرئيس الشرع اعتمد على نفسه في تدوين كافة الملاحظات التي تكلم بها المدعوون.
الشكر الجزيل للمهندس محمد مستت محمد أبو النصر الذي أدار اللقاء بكفاءة ولمحافظ حلب السيد عزام غريب على حسن الاستضافة وكذلك للفريق الأمني الذي حضّر للقاء على أكمل وجه بعيدا عن الفظاظة المعهودة من قرناءه كما عمل بذكاء على تغيير مكان اللقاء من مقر نادي الاتحاد – حلب الأهلي في الشهباء إلى فندق الميريديان.
لقاء هام لحلب وأهلها الذين يتطلعون لوضع أفكارهم ضمن أولويات برنامج القيادة الجديدة والحكومة الانتقالية القادمة لأنهم جاهزون وتواقون للقيام بدور فاعل في بناء وطنهم ورفعته.
ملاحظة: ماكتبته هو رسخ في ذاكرتي من اللقاء وهو بقلمي بعيدا عن دقة المفردات التي استخدمت لكنها ضمن أهم الأفكار الواردة من وجهة نظري المتواضعة حتى أجعل أهالي حلب على اطلاع وأكثر اطمئنانا بالغد، خاصة أن هناك الكثير من شخصيات حلب لم تحضر اللقاء بسبب سرعة التحضير، لكن الأهم أن نرى القيادة مهتمة بحلب ودورها القادم في نهضة سورية وأنها مهتمة بتحقيق العدالة للسوريين قاطبة.
الفيس بوك
—————————
ملاحظات
حسين احمد
لماذا أكتب ضد “الإدارة الذاتية”؟
يعاتبني بعض الأصدقاء الأكراد عندما أكتب ضد الإدارة الذاتية، متحججين بحجج بعضها يتعلق بكون الإدارة الذاتية كردية أو منجز كردي، وبعضها الآخر متعلق بالخوف من المستقبل بدون هذه الإدارة.
لا يقدم هؤلاء أية حجة تتضمن إنجازات هذه الإدارة؛ لأن الإدارة الذاتية لم تقدم أي شيء لمناطق سيطرتها، لا ماء، لا كهرباء، لا خدمات صحية، لا تعليم…. إلخ. كان يتم تفضيلها ليس لأنها الأفضل، وإنما لأنها أقل السيئين سوءاً. فالناس لم يتعودوا على أن ينتظروا شيئاً من السلطة، جل ما يريدونه أن تتركهم السلطة وشأنهم.
موقفي من الإدارة الذاتية موقف مبدأي، بغض النظر عن الذي يحكم، وتربيت على العداء لأية سلطة غير طبيعية، ولا تعبر عن السكان بشكل حقيقي، وتحكم بحكم الواقع، وتؤسس لنظام أحادي.
فالذي يحكم في الشرق -على الأقل- لا ينظر إلى المحكومين على أنهم مصدر السلطة، وأن مهمته خدمة الناس وتحسين مستواهم المعيشي وتحقيق ما يتطلعون له. هم وكما قال أتاتورك: “من أجل الشعب، رغم أنف الشعب”. هذا إذا كان لدى السلطة مشروع وطني أساساً.
تقوم أية سلطة مشكّلة بحكم الواقع بالعمل على ضمان عدة مستويات من المصالح، تكون على شكل هرمي، قاعدتها مصالح شريحة واسعة من السكان (على أساس قومي أو ديني أو مذهبي… إلخ) ثم تتوسع الامتيازات وتصغر الشريحة المستهدفة كلما صعدنا في الهرم، وصولاً إلى عصابة شرعية تحظى بامتيازات خاصة مقتصرة عليها فقط، ويقبع فوق الهرم شخص أو عدة أشخاص أحياناً يملكون كل مفاتيح السلطة.
شرعية هذه المنظومات تأتي من قمة الهرم، لا من قاعدتها. وللحفاظ على تماسك هذا الهرم تقوم برفع شعارات عريضة تنوميمية مأدلجة. وتعمل على خلق أعداء داخليين وخارجيين (أحياناً وهميين). وتغرق الفرد في صراع مع الحياة؛ من أجل البقاء. وتثير قضايا إشكالية بعيدة عن الواقع وغير ذات جدوى بين الناس؛ لإلهائهم. تخلق المشاكل، ثم تقدم الحلول. تتغاضى عن المرض، وتعالج الأعراض. لا تعترف بمسؤوليتها عن التقصير أبداً. وتقسم المجتمع إلى قسمين: موالٍ لها تمارس عليه السلطة، وعدوٍ يتم تجريده من الإنسانية ولا يستحق شرف تطبيق قوانينها العقابية عليه.
عندما تطورت البشرية، وبدأ الناس في التعرف على حقوقهم، عملت تلك السلطات على تحويل آلية الحكم والمشاركة فيه إلى إجراءات شكلية، خاصة مع تشكل منظمات دولية توزع صكوك الشرعية بديلاً عن الشعوب. وتحولت مفاهيم مثل الديمقراطية والعلمانية إلى أدوات يتم استخدامها شكلاً.
ولا ننسى أن الشخصيات والجماعات التي تدعي بأنها تنطق باسم الشعب، فهي إما ذيل للسلطة، أو طامحة لأن تكون ذيولاً. في غالبيتهم لا يعيشون تفاصيل حياة الإنسان العادي، عندما يكون هم الإنسان العادي الحصول على رغيف خبز، يخرج علينا مثقفٌ فذ بكتاب أو محاضرة عن تأثير الكرواسان في الثورة الفرنسية! ويعملون على تحقير الأولويات الملحة والنفخ في رماد الأفكار المجردة -غير العملية- لتعمية الناس.
حركة تطور الشعوب بطيئة، وذاتية، وتراكمية، ولا يستجيب واقعها للوصفات الجاهزة. وتميل السلطات الجديدة إلى إعادة إنتاج السلطة السابقة؛ لأن المواد الخام المتوفرة لن تشكل منتوجاً جديداً. فإذا كان للسلطة مشروع وطني -تراه كذلك- وتمكنت من تجييش أوسع شريحة ممكنة، فإنها تحصد نتائج عكسية في كثير من المجالات تؤدي إلى كوارث في بعض الأحيان؛ لأن أساليب الحكم وأدواتها تقع ضمن نطاق الفنون والعلوم الإنسانية غير محسومة النتائج. أو يعاد إنتاج السلطة السابقة بصورة أسوأ، ويعود بهم التاريخ خطوة إلى الوراء.
سلطات الأمر الواقع ليست غبية، وهي الأعلم بما هو كائن، وبما يجب أن يكون. لكن الحصانة الآنية، ونشوة السلطة، والاعتداد بالفكر والنفس، ومصدر شرعيتها، والخوف من خسارة الامتيازات، والانفصال عن واقع وأولويات الناس العاديين، واستشراء الفساد بالضرورة، وتشكل طبقات طفيلية على جميع المستويات، وحالة الانقسام المجتمعي (كسبب أو نتيجة)، وتحولها إلى أب أعلى متمتع بالقداسة في صورة أشخاص أو مؤسسات أو أفكار. يؤدي كل ذلك بالإضافة لعوامل أخرى إلى أن تصبح السلطة نفسها أسيرة لمؤسساتها وآلياتها، وغير قادرة على الإبداع والتطور، وتدخل في مرحلة الانحدار إلى أن تصير خارج التاريخ، وتصبح جسداً غريباً عن محيطها، ويشعر الناس بالاغتراب في بيوتهم وشوارعهم، وتتحول السلطة إلى نظير للعدو الخارجي الذي صنعته، ورديفاً للعدو الداخلي الذي اتخذته ذريعة للبطش بالناس.
يميل الناس آنئذٍ إلى استخدام كافة الوسائل المتاحة للتخلص من هكذا سلطات، بدءاً بالنكتة وصولاً إلى العمل المسلح. ولم يحدث في التاريخ أن قبلت السلطة المشاركة الفعلية في الحكم؛ للعبور إلى التحول الديمقراطي السلمي، إلا بعد أن تشرف على السقوط؛ أملاً في الحفاظ على ما يمكن من سلطة -ولو شكلية-، فالسلطة الساقطة تتحول بدورها إلى عدو داخلي. ويقول التاريخ بأن التيار الصاعد للسلطة -بحكم الآلية غير الطبيعية- هو الذي يبدأ برفض مشاركة السلطة الآيلة للسقوط؛ لذلك يطول أمد الصراع، يشد القوي، ويرخي الضعيف، إلى أن يسقط أحدهما.
سلطات الأمر الواقع ساقطة بقوة التاريخ، تبدأ بالسقوط الأخلاقي والقيمي، وتنحدر إلى أن تقتل إسماعيل فتاح عضو الأمانة العامة في المجلس الوطني الكردي، ثم تخرج علينا بتمثيلية كتمثيليات قناة الدنيا؛ متهمةً الضحية بأنه لم يكن ضحية آرائه السياسية، بل ضحية شذوذه الجنسي عندما أراد ممارسة اللواط مع فتىً بعد أن تحرش بوالدته.
أخيراً: لست بصدد بحث أو دراسة موضوعية عن سلطات الأمر الواقع بشكل عام، أو الإدارة الذاتية بشكل خاص. هي شذرات أؤمن بها. لكن مهما كان البديل سيئاً، علينا العمل على تغيير هذه الإدارة المتخلفة سياسياً وأخلاقياً؛ لأنها لا تعبر عنا، ولا تمثلنا. اليوم نستطيع المبادرة، وفي الوقت متسع، وللمتأخر عذر. لن نكون أسرى كالخراف المحتمية بالراعي؛ خوفاً من الذئب، يأكل الذئب خروفاً أو خروفين، لكن الراعي يذبحها كلها بالتقسيط. إما أن نكون خرافاً، أو شعباً يختار طريقه وفق مصالحه بعيداً عن التبعية. وأتمنى أن يصاب الكردي بالملل من ديباجة المظلومية، والمطالبة بالحقوق، والجلوس على أطراف الطاولة. بقية السوريين لم يسلبوك حقاً ليعطوك، إنما من سلبك حقوقك هو حافظ الأسد الذي عاش عبد الله أوجلان (ملهم الإدارة الذاتية) تحت جناحه أربعة عشر عاماً.
قد أستطيع العيش بكرامة مع أبو عمشة؛ لأنه ندٌ لي إذا صعد إلى مستواي أو نزلت إلى مستواه. لكني لن أعيش بكرامة مع آبوچي قضيته في تركيا ويستخدمني وقوداً لها، ويُغّربني عن سوريا، بينما أحد أعضائه نائب لرئيس البرلمان التركي ويدير جلسات مجلس الأمة التركي.
لماذا لا أتحالف مع أبو عمشة وفي رقبته بضعة دجاجات، بينما يتحالف الآپوچيون مع حزب الشعب الجمهوري الذي في رقبته ثلاثون ألف كردي ذبحوا في ديرسم فقط.
يشكل إقليم كردستان حليفاً نزيهاً للأكراد السوريين، ومقبولاً وذا مصداقية في الأوساط السياسية الإقليمية والدولية والسورية، نستطيع من خلاله تحقيق مصالحنا وتبديد مخاوفنا، دون تبعية أو ارتهان، إذا كان لدينا أزمة ثقة مع الإدارة السورية. وشتان ما بين إقليم معترف به وطنياً ودولياً، وبين منظمة على لوائح الإرهاب الدولية.
الفيس بوك
———————-
ملاحظات
خليل هواش
8 مارس 2022 ·
📕ذهب ميشيل كيلو ورياض الترك الى إلياس مرقص فى صلنفة بعد ثورة الخمينى وكانوا قد أرسلوا له مقالات ليطلع عليها !!!
قال لهم:
من كتب مقال ان ريح الحرية تهب من الشرق إشارة لثورة الخمينى ؟؟؟
قال كيلو: فايز فواز
قال إلياس: الله لا يعطيكم العافية، أى ريح حرية تهب من الشرق ؟؟؟
انا أعطيكم نصيحة:
بدأ زمن الذبح
يابتروحوا تحلو الحزب الشيوعى ياإما تتسلحوا !!!
فماعاد تشتغلوا سياسة اشتغلوا على مستوى الثقافة !!!
قلنا له: حافظ أسد يبني قصرا كبيرا على الربوة بكلفة 1.5 -2مليار !!!
فقال الياس تعليقا:
كيف سامح له الخمينى
سأله كيلو: ماعلاقة الخمينى ؟؟؟
قال: إذا ما بتعرف سوريا منذ انتصار ثورة إيران موضوعة تحت إشراف إيران إسمع منى ماعاد تحكى بالشأن العام !!!
ويستذكر ميشيل كيلو انه بعد إنقلاب البعث انهم كانوا متفائلين باتجاه يسارى فى سوريا، فقال له إلياس مرقص:
هناك إحتمال من ثلاثة إحتمالات والله يستر ما يكونوا الثلاثة معا:
● الإحتمال الأول جايين ينصبوا فخ لجمال عبد الناصر وبيقعدوا
25-30سنة،
اقول أنا وقد كان بتوريطه بحرب 1967 والنكسة !!!
● الإحتمال الثانى جايين ينصبوا فخا للعرب فبيقعدوا 200-300سنة !!!
● الإحتمال الثالث:
إنتهت مرحلة الإنسان العاقل وبدأت مرحلة الإنسان البعثى وفى هذه المرحلة تنتهى سوريا الى الابد ……… !!!
اقول: وهذا ما كان
الفيس بوك
—————————-
=======================