“لا تقل إنني لم أحذرك”: دروس مكثفة في الكتابة/ سارة عابدين

15 فبراير 2025
على مدار العقدين الماضيين عرف الجمهور تشاك بولانيك كواحدٍ من أكثر الروائيين إثارةً للجدل، خاصةً بعد عرض فيلم Fight Club عام 1999 حيث اعتبره الجميع صوت المهمشين والغاضبين والذين لا صوت لهم. حققت روايات بولانيك التالية إيراداتٍ كبيرةً وصنفت ضمن الروايات الأكثر مبيعًا، حيث يمزج بولانيك بين السخرية السوداء والتحليل النفسي العميق، لذلك أصبح كلٌّ من جمهور السينما والأدب ينتظر رواياته وأفلامه. لاقى كتابه الأخير “Consider This” الذي يُعتبر مذكراته الشخصية عن الكتابة رواجًا كبيرًا فور صدوره باللغة الإنكليزية عام 2020.
عن دار الكرمة للنشر بالقاهرة صدرت مؤخرًا الترجمة العربية لكتاب بعنوان “لا تقل إنني لم أحذرك… لحظات من حياتي الكتابية صار بعدها كل شيء مختلفًا” ترجمة أحمد الدخاخني. يقع الكتاب في 229 صفحة يتنقل خلالها بولانيك بين ذكرياته ككاتبٍ مبتدئٍ مع مدربي الكتابة وورش الكتابة التي يراها طريقةً ناجحةً لاستنزاف الراغبين في تعلم الكتابة ماديًا بدون أي استفادة حقيقية، بالإضافة إلى نصائح حقيقية من واقع تجربته الشخصية لكل من يريد أن يصبح مؤلفًا وصانعًا للقصص، ويؤكد أن القصص كلما كانت أكثر غرابةً كانت أفضل.
يمكن اعتبار الكتاب دليلًا من نوعٍ خاص يقدم نصائح حول فن الكتابة الأدبية، لكنه في الوقت نفسه لا يقتصر على إطلاع القارئ على أسرار صناعة الأدب، بل يتحدث أيضًا عن فلسفة بولانيك الشخصية في الكتابة، وطريقة بناء الشخصيات والحبكة، وعن كيفية خلق القصص التي تترك أثرًا عميقًا لدى القارئ.
يبدأ بولانيك كل قسمٍ من أقسام الكتاب ببعض المعلومات الأساسية عن حياته الشخصية، وينعطف بعد ذلك إلى جولات الكتابة ومجموعات الكتابة وورش الكتابة، ويقسم كل موضوع إلى مجموعة موضوعات فرعية مختصرة تنحدر من العنوان الأساسي.
الكتابة ليست رومانسية
يقدم بولانيك من خلال الكتاب الكثير من المساعدة لكل من يرغب في أن يكون كاتبًا، ويدفع الكتاب لبناء علاقة طيبة مع القراء عن طريق أمثلة ملموسة لطرق التواصل المختلفة التي أطلق عليها اسم “ملامس”، وهي تتنوع بين الوصف والتوجيه والتعجب، حيث يرى بولانيك أن الأدب الجيد يجب أن يمزج بين العناصر الثلاثة معًا؛ لصنع محادثات طبيعية كما يتحدث الناس في الحياة. لا تشبه نصائح بولانيك في هذا الكتاب نصائح الإلهام أو بناء الشخصية أو تتبع الحبكة، لكنها طرق وأساليب مباشرة للتعامل مع ما يشعر الكاتب أنه خطأ في عمله. نصائح واضحة ومحددة وهذا النوع من النصائح هو ما يميزه.
لا يقدم بولانيك النصائح بطريقة مدرسية، لكنه يقدمها في صورة سيرة شخصية، ليشرح للقارئ كيف يعيش الكاتب وكيف تدور الأفكار في رأسه وكيف تتحول تلك الأفكار إلى نصوص، كما يؤكد من خلال الحكايات الشخصية أن الكتابة ليست رومانسية وحياة الكاتب لا يمكن أن تتسم بالفوضى، كما يستبعد فكرة الإلهام التي يكرس لها عالم الأدب والأدباء، ويؤكد أن الكاتب عندما يقرر أن يصبح كاتبًا، تتغير حياته ولا تعود كما كانت من قبل.
لا يمكن لقارئ الكتاب إذا كان كاتبًا بالفعل أن يكمل قراءة الكتاب بدون أن يستعيد كتابته الشخصية، ليضعها تحت المجهر من جديد تبعًا لنصائح بولانيك، حتى أن إكمال فقرة كاملة من دون توقف أو استعادة يمكن أن يتحول إلى تحدٍّ بالنسبة للقارئ الكاتب. في القسم المعنون بملامس يتحدث عن التواصل مع القارئ، عن طريق وجهة النظر والصوت والصمت والتكرار، وكل ما يحدث بين الشخصيات. بينما في القسم المعنون بتأسيس سلطتك يبدأ بجملة توم سبانباور “أسسوا سلطتكم ويمكنكم فعل أي شيء”. في هذا القسم يشارك بولانيك القارئ أفكاره حول بناء الشخصية، ذلك البناء الذي يحولها إلى كيان يمكنه التحرك في الحياة بثقة وحرية يصدقها القارئ، كما يؤكد على أهمية السياق الذي يجب أن يكون صادقًا قدر ما يمكن.
التوتر يبني الحبكة
عند الحديث عن التوتر الذي يبني الحبكة، يستعرض بولانيك الفرق بين التوتر الأفقي والتوتر العمودي في القصة، حيث يشير الأفقي إلى تسلسل نقاط الحبكة، بينما يشير العمودي إلى زيادة التوتر العاطفي والجسدي والنفسي على مدار القصة.
يرى بولانيك أن التوتر هو اكتشاف ما لا يمكن البت النهائي في أمره، بمعنى ما لم يتم حله بوضوح، لتصبح معضلة الكاتب ليست حل المشكلة، إنما تصوير الموقف والاستفادة من التوتر الطبيعي الموجود في الحكاية أو الحدث أو الموضوع. يقول: “ككاتب، في أي وقت تريد تقديم تهديد، طمئن القارئ بأنه لن يحدث. عبّر عن مكنون قلبك واعدًا بأن هذا الحدث الرهيب الذي يلوح في الأفق، والذي لا يمكن تصوره، لن يحدث أبدًا. ارفض الاحتمال على الفور. يبدو هذا كضمان سلامة، ولكنه وسيلة رائعة لتقديم الوعد بالفوضى والكارثة”.
العملية “من أين تأتي بأفكارك؟”
في الفصل المعنون بالعملية، يحاول بولانيك الإجابة عن تساؤل مطروح دائمًا، وهو: من أين يأتي الكاتب بالأفكار؟ في أوقات كثيرة يشعر الكتاب برغبة في الكتابة بدون أن يكون لديهم ما يقولونه، أو بدون أن تكون لديهم حكاية ما لتحكى. لذا يُعد من أهم أقسام الكتاب، لأنه يتتبع كيفية خلق الكتابة من البداية، ويستعيد حكايات بولانيك الشخصية عن بداية عملية الكتابة، كما يشير إلى بعض الطرق والخطوات التي يعمل بها عقل الكاتب لخلق القصة.
من ضمن الأفكار التي تلهم الكتابة بالنسبة لبولانيك، ممارسة الفن التشكيلي بكل صوره، وقد استشهد بكتاب مارسوا الرسم وآخرين قاموا بتنفيذ لوحات الكولاج، وآخرين استعملوا الطلاءات والورنيش لصنع أشكال مختلفة من الفن المرئي. يرى بولانيك أن عالم الفنون البصرية، ينقل الكاتب من عالم اللغة المجردة المحدودة إلى عالم الألوان والأشكال الحسية.
يتسلل بولانيك في ذلك الفصل إلى وعي المتلقي ويحاول إطلاع الكاتب على ما يحدث داخله، ليخبره كيف يتكون مجتمع القراء حول كتاب معين. يحدث ذلك عندما يمنحهم الكتاب قصة لا يمكنهم مقاومة سردها أو مشاركتها مع الآخرين، لكنه في الوقت نفسه يؤكد على أهمية الترويج للكتاب كجزء أساسي من مهنة الكاتب، لذا يجب على الكاتب أن يبحث عن طريقة ليحبها، كما ينبغي أن يحب كل جانب من جوانب وظيفته ككاتب، سواء جولات توقيع الكتب أو الأسئلة المتكررة، أو الفعاليات المزدحمة.
لماذا تتكبد عناء الأمر؟
يعتقد البعض أن الكتابة مهنة سهلة يمكنه امتهانها والتكسب من ورائها، لكن في حقيقة الأمر ليست بهذه السهولة التي يظنها البعض، لأن امتهان الكتابة هو الطريقة الأصعب لتحقيق الأهداف، سواء مادية أو اجتماعية. يكتب الكاتب فقط من وجهة نظره، إذا كان يحب القراءة والكتابة. في هذه الحالة فقط سيجني الكاتب مكافآت تخصه وحده، أولها وأهمها العلاج. أو ما أطلق عليه توم سبانباور “الكتابة الخطرة” التي يستعملها الكاتب لاستكشاف بعض الجوانب المعقدة عن نفسه وعن حياته. يقول بولانيك: “ليس عليك أن تبدأ بأسوأ أسرارك، لكن ابدأ فقط بشيء تعجز عن حله”. بمجرد أن يبدأ الكاتب في الكتابة لاستكشاف قضية ما والنظر إليها من جميع الجهات، تتلاشى المشكلة التي لم يمكن حلها جذريًا بصورة مادية، بينما قامت الكتابة بحل الأمر.
في نهاية الكتاب يضع بولانيك قائمة ببعض الكتب الملهمة والقصيرة الغنية بالأحداث والتوتر، والتي تلائم النصائح التي قدمها في بداية كتابه، كما أنه يضع عدة جداول بالمشكلات التي يمكن أن يستكشفها الكاتب في عمله وطرق حلها، مثل الملل أو فشل بناء التوتر، أو عدم وجود لحظة ذروة وغيرها من المشكلات التي تواجه الكتاب في أثناء العمل على رواية ما، ليصبح الكتاب في النهاية أشبه بدرس كتابة وحياة مكثف، وكتاب نصائح عملية مجربة ومؤثرة للكتاب.
مصادر:
http://www.deadendfollies.com/blog/book-review-chuck-palahniuk-consider-thishttps://thereelbits.com/2020/01/22/review-consider-this-by-chuck-palahniuk/ https://www.nyjournalofbooks.com/book-review/consider-moments
عنوان الكتاب: لا تقل إنني لم أحذرك: لحظات من حياتي الكتابية صار بعدها كل شيء مختلفًا المؤلف: تشاك بلانيك المترجم: أحمد الدخاخني
ضفة ثالثة