سقوط بشار الأسد، الرئيس الفار والمخلوعنقد ومقالات

السخرية إذ تساهم في تشكيل صورة قادة/ سميرة المسالمة

18 فبراير 2025

على مرِّ التاريخ، استخدم العديد من الزعماء السخرية بطرق مختلفة، سواء في الحروب الكلامية أو لإضفاء الطرافة على المواقف الجادة، مما جعلهم شخصيات بارزة في المشهد السياسي. على سبيل المثال، كان ونستون تشرشل، رئيس وزراء بريطانيا خلال الحرب العالمية الثانية، من أكثر القادة شهرة بعباراته الساخرة. ومن أبرز مواقفه، عندما قالت له السياسية البريطانية نانسي أستور: “لو كنتَ زوجي، لوضعتُ لك السم في الشاي!”، فردَّ قائلًا: “ولو كنتِ زوجتي، لشربته فورًا!”. لم تكن هذه الردود مجرد نكات، بل عكست شخصيته القوية وبديهته الحادة والحاضرة.

في سورية أيضًا، استخدم الزعماء السخرية للتلميح إلى مواقف جادة أو سياسية مصيرية، ومن ذلك ما قاله الزعيم السوري شكري القوتلي لجمال عبد الناصر عند توقيع اتفاقية الوحدة بين مصر وسورية عام 1958 محذرًا له من صعوبة التعامل مع الشعب السوري وطموحاته: “أنت لا تعرف ماذا أخذت يا سيادة الرئيس، أنت أخذت شعبًا يعتقد كل فرد فيه أنه سياسي، ويظن خمسون بالمئة منهم أنهم زعماء!”. وقد نقل الصحافي محمد حسنين هيكل هذه المقولة في أحد مقالاته بعد ثلاثين يومًا من انهيار الوحدة، وللتأكيد على أن السوريين قد حذّروا عبد الناصر من أن قيادتهم ليست بالأمر اليسير عليه.

وعلى الرغم من أن السخرية يمكن أن تكون أداة ذكية في السياسة، فإن استخدامها غير المدروس قد يرتد على صاحبه. فقد حاول الرئيس السوري المخلوع بشار الأسد استخدامها كوسيلة “لتخفيف دمه”، لكن عباراته غالبًا ما تحولت إلى دليل على افتقاره إلى الحكمة. فعندما دعاه الرئيس التركي رجب طيب أردوغان إلى اجتماع لحل الأزمة السورية، ورفضها مرة ومرات، سأله صحافي من قناة “سكاي نيوز” عن سبب رفضه للقائه، فرد بعبارة غير مسؤولة: “لماذا نلتقي أنا وأردوغان؟ لكي نشرب المرطبات يعني مثلًا؟”. لم تكن هذه الجملة نكتة سياسية بارعة، بل كانت مثالًا على غياب الرؤية الاستراتيجية. والمفارقة أن معارضيه بعد أشهر قليلة، هم من احتفلوا لاحقًا بهروبه خارج البلاد، وربما جميع السوريين شربوا مرطبات النصر عليه، وإسقاط نظامه مع كل المسؤولين العرب والأتراك والغربيين الذين جعلوا من دمشق مزارًا لهم.

ما يعني أن السخرية المفيدة تعتمد على من يستخدمها، ومن يعرف حجم ما يستطيعه، وما يعجز عنه. فنابليون بونابرت استخدم السخرية بمهارة في الحروب والمفاوضات، وكان واثقًا من قدراته. مثال على ذلك، عندما تلقى رسالة تهديد من أحد خصومه كُتب فيها: “إذا هاجمتني، سأقضي عليك!”، فرد نابليون ساخرًا: “إذًا؟!”، في إشارة إلى يقينه بالانتصار، كما يقال إنه حين استعرض خارطة العالم، لم يتأخر عن البكاء عند رؤية موقع إنكلترا، لأنه كان يدرك أنها عصية عليه، فعبّر عن عجزه بدموع السخرية من نفسه، فالسخرية قد تكون أداة قوية، لكنها تحتاج إلى حكيم يدرك متى وأين يستخدمها.

لم تقتصر السخرية السياسية على الزعماء، بل كانت أيضًا وسيلة للنقد الشعبي، سواء علنًا أو سرًا. فمنذ العصور القديمة، استخدمت الشعوب السخرية للتعبير عن الإحباط والسخط من الحكام. في روما القديمة، انتشرت همسات التهكم حول فساد الأباطرة، وفي عهد الاتحاد السوفياتي السابق، كان المواطنون يتداولون السخرية عن جوزيف ستالين همسًا، خوفًا من بطشه. ومن الطرائف الشهيرة المتداولة في مصادر متعددة: “أحد المواطنين يسأل: هل صحيح أن ستالين يكافئ المزارعين على إنتاج القمح؟ فيرد الآخر: نعم، بالطبع! يرسلهم إلى سيبيريا ليزرعوه هناك”.

وفي العصر الحديث، استمرت السخرية السياسية كوسيلة للتعبير عن مشاعر الشعوب تجاه حكامها، ففي سورية، استخدم الباعة المتجولون وأصحاب “الدكاكين” عبارات تجارية ذات أبعاد سياسية خلال تسويقهم لمنتجاتهم، مثل “كل عضة بغصة يا سفرجل”، و”خلص موسمك يا أفندي”، و”حامض أكثر من عيشتي يا ليمون” للإشارة إلى المشاكل الحياتية في ظل الأنظمة الحاكمة.

وكذلك في مصر، انتشرت النكات السياسية خلال حكم جمال عبد الناصر، لكنها بلغت أوجها في عهدي أنور السادات وحسني مبارك، حيث أصبحت تعبيرًا عن الأوضاع الاقتصادية الصعبة. ومن النكات المصرية الشهيرة في عهد مبارك: “واحد يسأل صاحبه: لو مسكت عفريت المصباح، تطلب منه إيه؟ قال: أقوله شوف لي عفريت أكبر منه يشوف لي شغل” تعبيرًا عن واقع البطالة المزري الذي وصل إلى حد يفوق قدرة البشر على معالجته، وهو واقع ينسحب على بلدان جمهوريات عربية كثيرة.

صحيح أن السخرية تهدف غالبًا إلى التخفيف من عبء الواقع المثقل بالهموم، لكنها تبقى إحدى أدوات النقد القوية، وهي قد ترفع زعماء أو تسقط آخرين، كما ساهمت السخرية في تشكيل صورة بعض القادة كأذكياء ومحنكين، وكشفت عن سذاجة وغباء وسطحية آخرين. فبينما يمكن أن تكون السخرية علامة على الحكمة والدهاء، فإن استخدامها الأجوف قد يحوّل صاحبها إلى مصدر للسخرية بحدّ ذاته، كما حدث مع الأسد، الذي لم يفت الرئيس الحالي أحمد الشرع الإشارة إلى عبارته “هل نشرب المرطبات مثلًا”، واستذكرها أكثر من مرة تصريحًا، أو إشارة وهو يشرب الشاي مع ضيوفه من على جبل قاسيون، ولعل الهارب يشرب الآن “المرطبات” في منفاه، على نار الشك والخوف وبطعم الهزيمة والذل.

*كاتبة سورية.

ضفة ثالثة

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى