“الموت عمل شاق”: بانوراما الحرب والحب/ راسم المدهون

18 فبراير 2025
تبدو رواية الكاتب السوري الراحل خالد خليفة “الموت عمل شاق”- التي نستعيدها هنا- لهاثًا داميًا ينمو كعشب جهنمي في النفوس والأرواح، وينتقل بأبطاله في طرقات المدن السورية فيما يشبه رحلة تبدأ ولا تنتهي، نعيش خلالها ذروة حرب القتل الجهنمية التي عصفت بأرواح ما يزيد عن مليوني من البشر، ودمرت في طريق قتلهم الحجر والشوارع كما الأشجار. لكنها مع ذلك وبالرغم منه، فشلت تمامًا في تبديد روح البلاد التي سكنت عميقًا في نفوس أبنائها، ومشت معهم يدًا بيد ونفسًا لاهثًا بنفس لاهث، في أكثر سنوات الحرب عصفًا بالدم والقذائف والبراميل المتفجرة وحوادث “الإعدام الميداني” التي ظلت على مدار تلك السنوات الهمجية قانونًا يمارسه الطاغية وأدواته من الطغاة الصغار.
هي تجربة أخرى هامة وتحمل نضجًا أكبر في تجربة روائية لكاتب متميز عرفته قبل ثلاثين سنة من خلال روايته الأولى “حارس الخديعة”. وأتذكر أن من عرّفني إليه كان الروائي السوري المتميز هاني الراهب الذي قال لي يومها: “خالد خليفة هو أمل الرواية السورية القادم بقوة”، ومع ذلك فإن روايته الثانية “دفاتر القرباط” كانت البداية الحقيقية التي لفتت الانتباه له ككاتب روائي مهم.

خالد خليفة في “الموت عمل شاق” ينحاز للحياة حتى في غيابها، فهذا الكاتب الذي ظل في بلاده سنوات الحرب كلها نراه في الرواية كمن يتبع “خيط الدم” ويعيش مساراته المتعرجة بين المدن والقرى المدججة بالحواجز العسكرية التي يمرح فيها رجال الأمن وعصابات القتلة، ويحيلون المدن والشوارع إلى حقول قتل حصدت، بلا أسباب، وأشاعت مناخ الموت الذي تحوّل إلى شبح يطارد البشر، وحوّل البشر ذاتهم إلى مطاردين يلهثون تائهين في دروب التشرد والملاحقة والمعارك الحربية التي تناسلت وامتدت فرسمت لهم ولبلادهم سيريالية دموية بطلها الأكثر حضورًا هو الموت: الموت في رواية خالد خليفة يدفع أبطاله “قسرًا” لاكتشاف الحياة، فرحلة أبطال الرواية بجثمان والدهم هي “المأزق” الذي لا يشبه سوى اللامعقول، في مشاهد الوقوف الطويل والأسئلة العبثية عند الحواجز ونقاط التفتيش.
“الموت عمل شاق” تحمل الموت جثمانًا وذاكرة وتنتقل به ومعه في رحلة طويلة. يستعيد خالد خليفة أزمنة وحيوات كما علاقات حب وأيام فرح تبدو كلها خلال الرواية ومساراتها أهم ما ينتظم أحداث الرواية، ويؤثث مساراتها، بأن الموت كفكرة، وأيضًا كحدث واقعي بحضور طاغ ومسيطر، هو ذاته من يدفع الجميع نحو الحياة بقوة استثنائية خفية، ولكنها تدفع نحو نقيضها الذي يحضر بقوة في استعادة أبطال الرواية للحب لا كفكرة مجرّدة وحسب، ولكن أيضًا وأساسًا كبديل للموت. أبطال رواية خليفة يمزجون الواقعية بالرمزية، وينتصرون لفكرة أن تكون الحياة واستمرارها راية تلوح لهم وتدفعهم إلى مواصلة العيش رغم كل الدم الذي يطفو من حولهم وحتى فوق رؤوسهم. برهافة، وقد أقول بحبكة محكمة وبالغة السلاسة، يزج خليفة أبطال روايته في رحلة أخرى موازية لحدث الحرب وما فيها من موت شامل. هي رحلة اكتشاف حالة العشق واستعادة العشاق ذاتهم المحيطين بهم، والذين حتى وهم في شيخوختهم يتحركون في سطور الرواية وأحداثها كمن عثر على إكسير الحياة التي تستطيع وحدها أن تقهر القتل المجاني وفجائع الحرب الضروس التي تطاردهم. سنعثر في “الموت عمل شاق” على صعود درامي بالغ الرهافة، شامخ ويزدان ببهجة بعيدة، ولكنها حاضرة وبقوة، وتدفع العشاق حتى في أكثر اللحظات حلكة إلى مواصلة السير في اتجاه بقعة ضوء تلوح بعيدًا وتنتظرهم. قوة الحياة في هذه الرواية تتحد مع قوة الرغبة في تحدي الموت ومواجهته بشموخ وبثقة أن الحياة تنتصر.
يستعيد أبطال “الموت عمل شاق” صلاتهم الروحية والعاطفية (أحبتهم الذين عرفوهم في مراحل شبابهم الأول)، و”يكتشفون” أنهم يعشقونهم في مراحل شيخوختهم، وكأنهم باتوا رموزًا للحياة ذاتها، بل إن هذا العشق المتجدد يأتي في الرواية كحلّ لانتظام الحياة وذهابها في سيرورتها الراهنة، وكقوة دفع تمدهم بالأمل والانتماء. ولعل هذا السياق بالذات منح الرواية جاذبية خاصة امتزجت فيها لغة الحب بالمخيلة وبالتفاصيل الواقعية، وصنعت من كل ذلك نافذة على الراهن والمستقبل معًا، نافذة تكشف ما سوف يأتي وما يقاوم ويدفع لمزيد من المقاومة.
هي خطوط الحلم والرومانسية والعشق العميق، ولكنها أيضًا وفي الوقت ذاته خطوط ومسارات الرغبات والشهوات الإنسانية التي تكسر سطوة الحرب، وتنتصر على رماد الحرائق ولهيبها معًا وتذهب بنا نحو بهجة أخرى تنبت في العروق والقلوب وتدفع نحو مواصلة السير في اتجاه وطرق معاكسة للقتل والموت. وأعتقد أن هذه الرواية بالتحديد جاءت قالبًا ومضمونًا مختلفًا في تجربة الروائي المبدع خالد خليفة. وهي في تقديري الشخصي أهم رواياته فنيًا بعد روايته الشهيرة “مديح الكراهية”. وخليفة نجح في تأسيسها على وعي عميق لفهم الحرب، لا كحدث له مفرداته وتفاصيله الواقعية وحسب، ولكن أيضًا وأساسًا كفعل عميق يعيد تشكيل البشر ويدفعهم لتغيير شامل يطاول أرواحهم وأعماقهم. والرواية بهذا المعنى ذهبت بعيدًا في تحديقها في الحرب كحدث وكفكرة، بل هي واحدة من أهم الأعمال الروائية السورية التي تناولت الحرب، وتعمّقت في أبعادها الظاهرة والخفية معًا، لأنها اعتنت بفكرة اكتشاف البشر العاديين خلال الحرب، واستعادت صورهم وأفكارهم وبرعت في تصوير مشاهد الرعب والجوع وتعب المشي على الطرقات الخارجية والوقوف المرعب عند حواجز القتل والتفتيش، وقدّمت من هناك صورة سورية الحقيقية وما حملت من رعب وتشوهات خلال تلك السنوات السوداء.
إنها بانوراما الحرب والحب، وهي لذلك ومن أجله تحتفل بالحياة والضوء، وتذهب نحو مصائر أبطالها وشخصياتها في دروب القتل العبثي بما خبأته من مخاطر وأهوال نتذكرها اليوم، ونتذكر معها الراحل خالد خليفة “فتى الرواية السورية الجميل”.
ضفة ثالثة