صفحات الحوار

عبد اللطيف حاج محمد: الترجمة أداةٌ لتضييق نطاق المنفى

دارين حوماني

18 فبراير 2025

تتنوع اشتغالات الصحافي والمترجم السوري عبد اللطيف حاج محمد في المجال الثقافي والصحافي العالمي والعربي، فهو كاتب ومحرّر أول في المعهد السويدي بستوكهولم  AR.SWEDEN.SE ومراسل ومنتج مع راديو السويد ومع صحيفة سندسفال اليومية في سوندسفال، وصحافي استقصائي مع SVT UPPDRAG GRANSKNING /SVT VÄSTERNORRLAND في السويد، كما أنه المؤسس المشارك ورئيس التحرير لمنصة نبض الأوريسوند الإعلامية (AKTAR.SE) في السويد، وهو صحافي متعدد الوسائط مع شبكة الشرق الأوسط للإرسال (MBN) في واشنطن، ومدرب ومستشار وكاتب مع شبكة الصحافيين الدوليين في واشنطن، ومحاضر ضيف في جامعة “وسط السويد”، سوندسفال، بقسم الإعلام والاتصال، كما أنه صحافي تحقيقات مستقل مع صحيفة وموقع العربي الجديد، ومجلة الصحافة التابعة لمعهد الجزيرة، وصحيفتي الشرق الأوسط  والعرب، ومدرّب في مجال الذكاء الاصطناعي والابتكار العلمي في عدد من المنظمات الدولية.

ولعبد اللطيف حاج محمد عدد من المشاريع الثقافية بين السويد وسورية، منها “مشروع سورية 2040″ و”الخريطة من فوقنا” وهو مشروع رقمي تفاعلي مع المسرح الوطني السويدي، كما أنه مؤسس مشارك في معرض الكتاب العربي في الدول الاسكندنافية- السويد. وشارك في تأليف كتاب “الوجوه المتعددة الاستدامة” بجامعة السويد.

وعبد اللطيف محمد عضو مجلس الإدارة في نقابة الصحافيين المستقلين- اتحاد الصحافيين السويديين. كما كان عضو مجلس إدارة في جمعية المكتبات السويدية لمدة سنتين، وعضو مجلس إدارة في جمعية الفنون الأدائية في سوندسفال لمدة سبع سنوات.

ونقل حاج محمد مؤخرًا عددًا من الكتب الأدبية من العربية للسويدية ومنها، “أعرف وجه اليأس جيدًا” و”في الميزان” لحاتم الشهري، و”في ديسمبر تنتهي كل الأحلام” لأثير النشمي، و”ومضات سيرية” لنوال السويلم، و”مقام نسيان” لمحمد إبراهيم يعقوب، وأنطولوجيا أدبية جمعت عددًا من الشعراء، كما نقل “دليل صناعة الأفلام القصيرة” من السويدية للعربية.

وقد فاز عبد اللطيف حاج محمد بـ”جائزة ستوكهولم للثقافة العربية” عام 2024، و”جائزة مواطن العام في السويد” عام 2023.

عن ترجماته الأخيرة واشتغالاته المتنوعة، كان لنا معه هذا الحوار:

(*) نود أن نتعرف إليك صحافيًا ومترجمًا… وكيف بدأت لديك فكرة الترجمة؟

أنتِ تضعينني في موقفٍ صعبٍ بعض الشيء، أن أعرّف بنفسي. عندما كنتُ أصغر، عانيتُ كثيرًا من هذا الأمر. من الصعب أن يتكلم المرء عن نفسه. أنا وصديق لي لدينا فكرة لما قد نقول عن أنفسنا لو كنّا في مقابلة عمل: “أنا إنسانٌ يحمل وعاءً من الماء العكر بين يديه”.

أنا أتجوّل وأمثّل نفسي. أعرف تمامًا كيف أتصرّف في عشاءٍ أرستقراطي فاخر مثلما أعرف كيف أتصرّف عندما يلوّح أحدهم لي بعصا. عشت طفولة آمنة وسط عائلةٍ محبّة، ولكنها كانت أيضًا متنوّعة بما أتاح له الخوض في شرائح اجتماعية مختلفة، فضلًا عن فضول داخلي دائم الاكتشاف. كنتُ جاهلًا بشكلٍ صادم في تلك الفترة؛ فقد ظننتُ أنّ ألبير كامو (Albert Camus) كاتبٌ رومانيّ قديم! انظر للاسم: C A M U S – يبدو كأنه من العصر الروماني. بالمناسبة أنا أحب التاريخ. أكون أكثر ذكاءً عندما أجلس وأفكر ممّا لو كنتُ واقفًا وأفكّر. إنه أسلوبي في العمل. لو افترضنا أنني واقفٌ هنا وأفكّر— فلن تكون أفكاري مميّزة؛ هي أقرب لأفكار أي شخص آخر. لا أدري بمَ أفكّر وأنا واقف هكذا.

نشأت مولعًا بروايات ماركيز من ترجمة صالح علماني، بتشجيع من أستاذي ممدوح العبد الله، روايات ماركيز وكتب جبران خليل جبران شكّلت أولى طبقات افتتاني الأدبي. تأتي الطبقة الأعمق من عمالقة الأدب الروسي أمثال دوستويفسكي وتولستوي وتورغينيف.

كان الهدف أن أصبح طبيبًا، هذا كان حلم العائلة الكبيرة. لكنني أدركتُ على الأرجح أنني لست بارعًا في الرياضيات إلى هذا الحدّ، ووقعتُ في غرام الصحافة، في زمن كان مربكًا للمشتغلين في الثقافة في سورية، كان هناك قدر كبير من الخوف، في نظام  مهووسٍ بالموت (نيكروفيليّ). كل شيءٍ يدور حول الموت والعنف والقتل، لذلك لم يرحّب أحد بالفكرة، أن أصبح صحافيًا، لكن هذا ما جعل الأمر ممكنًا. أن تكون أنت كما تحُب.

لذلك لا أعتقد أنّي فكرت أن أصبح مترجمًا عندما بدأت الترجمة، بل أردت فقط أن أترجم. الترجمة بالنسبة لي أداةٌ لتضييق نطاق المنفى. لا أحب كرة القدم وهذا أمرٌ مريح.

عرفتُ أنني أريد أن أجعل الناس في السويد، يشعرون بما شعرتُ به لدى قراءتي. كنت وما زلت أقرأ أكثر من اللازم. تمرّ عليّ أيامٌ كاملة لا أفعل فيها شيئًا سوى الاستلقاء على سريري والقراءة والتفكير. كأن تتخيّلي مراهقين يدمنون ألعاب الفيديو. في حياتي يوجد قدرٌ من الفكاهة كما يوجد قدرٌ كبير من الجديّة. أتعامل معها كنوعٍ من المسرحية، فصار الأمر أسهل. إنّا أشبه بعرضٍ مسرحي.

(*) يُقال إن الترجمة لها دور في حوار الثقافات، وهو الأمر الذي ينقص عالمنا في ظل تفاقم الإسلاموفوبيا… كيف تقيّم دورها في عالمنا اليوم؟

أنا لستُ مجتهدًا في الحديث عن الإسلاموفوبيا، لأن هناك إشكالية في التعريف، ومتى يكون الأمر إسلاموفوبيًا، ومتى يكون عنصرية بناء على العرق أو لون البشرة، ومتى تستخدم الإسلاموفوبيا كأداة سياسية، لكن في ديناميّة العلاقة بين المهاجرين والمجتمعات المضيفة في الغرب بشكل عام، هيئةً تُشبه علاقة حبٍّ يكون فيها أحد الطرفين باردًا عاطفيًّا، أو علاقةً تلتبس فيها الخوف والحب. ومن سبق له الانغماس في دوّامة متابعة شخصٍ ما مع الحذر منه أو الخوف منه في الوقت ذاته وعجزه عن إيقاف تلك المتابعة، سيفهم جيدًا الفكرة.

كان الارتباط بالآخرين عبر الترجمة والنقل أمرًا قيِّمًا في السابق. أمّا اليوم، فلا نكاد نصل إلى بعضنا البعض لأنّ الخوارزمية هي كلّ شيء. نُشكل تصورات عن بعضنا البعض عن طريق الإنترنت، بدون اختلاط حقيقي. في هذا السياق تصبح الترجمة نوعًا من “أرض الأحلام” أو فضاء التهيئة قبل العبور إلى الضفة الأخرى. لأن الإنترنت باعتبارها استعارةً للجنون، عن تويتر (الذي صار اسمه X) الغضب والحماسة حاضران بوضوحٍ لا يعرف الرحمة، وعن دور الخوارزمية في تشكيل تصوراتٍ أسطورية قد تنحرف جذريًّا. صارت نظريات المؤامرة شائعةً بقوّةٍ وتتسلل للثقافة السائدة.  خذي مثلًا فكرة “أن المسلمين يحاولون أسلمة أوروبا”، إنها فكرة مجنونة وغير قابلة للتنفيذ تحت أي ظرف.

في مجتمعٍ يبدو أضيق وأكثر برودًا من أي وقتٍ مضى، مثل السويد التي لا تملك إرثًا استعماريًا، لكن يثير هوس المجتمع العلاقة مع الآخر، المختلف، حيث سؤال “من أين أتيت؟” هو السؤال الدارج في أول لقاء. سؤال مدفوع بالفضول، لكنه يشكّل هذا الطابع الفريد ملاذًا آمنًا للابتعاد قدر الإمكان عن العنصرية النيوليبرالية التي تبدو مُنفرَةً بالنسبة للمجتمعات غير البيضاء. فمن جهة، نجد أنفسنا غارقين في قواعد الاندماج الاجتماعيّة، ومن جهة أخرى ندرك البُنى المهيمنة التي تواجهها الفئات المُهمّشة ذات خلفيّةٍ مختلفة عن البيضاء المهيمنة التي يثير هوسها فكرة وجود طرف مقابل يمارس الخطيئة. كلاهما يقدّم هجاءً للمجتمع بكل توتّراته العِرقية والدينية والطبقية، ويفكّكان الآخر بأسلوبٍ فريد.

هنا تظهر أهمية الترجمة في نقل الذاكرة الجمعية، توحيد الحيوات المتعددة لنا، والتأكيد على استحالة اختصار إنسانٍ بهذه الطريقة التي يحاول اليمين السياسي دائمًا فعلها في الغرب، كل الغرب. أراه مهمةً مستحيلة أن تشرح إنسانًا كاملًا؛ فهو أشبه بعملية مستمرة، لذلك نترجم ونُترجم باستمرار.

(*) أوروبا تزداد يمينية، فماذا عن السويد، وكيف هي الأوضاع هناك؟

يصيبني شعورٌ بالاختناق عند التفكير بالأمر. إنه جزءٌ واضحٌ في أن تصبح منفى، حين تتذكر باستمرار أن الأمور ليست كلها “أبيض” و”أسود”، ولا الحلول كلّها سهلة. الأغلبية ربما غارقةٌ في سردية أن المهاجرين يرتكبون الأخطاء باستمرار، وأن الهجرة شكّلت عنصرًا مدمّرًا في السويد. من الأسهل لها لوم شخصٍ لا تلتقيه كل يوم.

سياسيًا أعتقد أن أقصى اليمين في السويد هو اليسار في مكان آخر. لا أدري ما إذا كانت الجملة نفسها تعبِّر عن رأيٍ سياسي، إذْ يتحتم علينا أن ندرك أن الحكي، مهما التزمنا بالصدق فيه، لن يُعيد خلق الواقع بالحذافير، لكن الواقع قلق، غير مستقر وغير ثابت.

الجرأة على أن تكون كما أنت، والجرأة على الاحتواء. أعتقد أن شيئًا جميلًا يحدث عندما تتقبّل الآخرين. وأظن أننا من خلال ترجمة هذه الأعمال فعلنا ذلك بشكلٍ ملحوظ؛ أشركنا كثيرًا من الأصوات.

(*) هل تمكن المثقفون العرب من الاندماج والتواصل مع البيئة الثقافية السويدية، أم أن هناك نوعًا من الانغلاق والتمييز في وجه العرب؟

شكرًا لسؤالك! أنا أفهم منطقك تمامًا. بعيدًا عني، في العموم وعند الحديث مع الآخرين المشتغلين في الثقافة، القادمين إلى هنا، هناك شعور سائد أن الوسط الثقافي السويدي يمارس نوعًا من الإقصاء الثقافي. ويمكن حتى أن نسميه شكلًا من أشكال التمييز الثقافي، حيث لا يُسمح لأصوات معينة بأن يكون لها مكان في المجال العام الأدبي السويدي.

بالإضافة إلى ذلك، هناك في كثير من الأحيان شعور بعدم المعرفة، حيث لا أحد يعرف الكثير عنك أو عن عملك، مما يزيد من تعقيد العملية. هناك أيضًا فرق طبقي واضح بين العاملين الثقافيين الوافدين حديثًا وأولئك الذين استقروا بالفعل في الحياة الثقافية السويدية، أو حتى أولئك الذين ينتمون إلى الجيل الثاني من العاملين الثقافيين. كشخص جديد في البلاد، غالبًا ما يشعر المرء وكأنه يعيش في وضع من الدرجة الثانية، حيث لا يفتقر فقط إلى الشبكات والاتصالات التي تعتبر بالغة الأهمية لكي يُرى ويُعترف به، بل ويضطر أيضًا إلى محاربة الأفكار المسبقة حول ما يعتبر فنًا وثقافة “عالي الجودة” أو “ملائمًا”.

بالنسبة للعاملين الثقافيين السويديين الراسخين، أو بالنسبة لأولئك الذين نشأوا في الثقافة السويدية، من الأسهل بكثير التنقل عبر هذه الهياكل لأنهم متجذرون جيدًا في المعايير الثقافية ولديهم إمكانية الوصول إلى الشبكات المطلوبة للنجاح. بالنسبة لأولئك منا الذين يأتون من خلفية مختلفة ويحاولون اقتحام هذا العالم بدون أن يكون لديهم بالفعل الاتصالات الصحيحة، أو الذين يفتقرون إلى الطابع الراسخ (أي لم يحصلوا على جوائز دولية، أو لا يتحدثون بنفس استشراقي) في أوساط ثقافية مرموقة، يبدو الأمر وكأننا نكافح ضد الرياح المعاكسة. في كثير من الحالات، لا يتعلق الأمر بنقص الموهبة أو الجودة، بل بعدم كونك جزءًا من المؤسسة الثقافية. ربما أكون مخطئًا.

نحن نعيش، بكل بساطة، في واقع موازٍ نشعر فيه وكأننا مواطنون من الدرجة الثانية في المجال الثقافي، مع مساحة أقل بكثير لعرض وجهات نظرنا وتعبيراتنا، وربما يعود ذلك جزئيًا إلى الجهل بالآخر وقيمته الثقافية، ولكن ربما سوق النشر، وواقع العلاقات التي تحتاج إلى وساطة أشخاصٍ من ذوي النفوذ الثقافي أو الناشرين المقربين القادرين على فتح الأبواب. في المقابل، تجد نفسك مضطرًا للكدّ، والاحتفال بأصغر الانتصارات. كيف للمرء أن ينشر كتابًا أصلًا؟ مَن الذي يجب الاتصال به؟

أن تُدرك أنك لن تُقبل في ذلك الوسط إطلاقًا، بل حتى لم نُرفَض؛ إذ لم يكن أحدٌ يعرف من نحن، هذا يمنحك شعورًا بالحرية. أن يكون لك فضاؤك الخاص.

(*) اخترت ترجمة الأدب بشكل عام، الرواية، الشعر… نود أن نتعرّف على مشروع الترجمة الذي انطلقت به وعلى ترجماتك، ولماذا تختار الرواية والشعر وأنت صحافي، هل تجد نفسك قريبًا من الفضاء الأدبي؟

كنت أعتقد أن الأدب شيءٌ كبيرٌ وعصيّ المنال، وأنه ينبغي ممارسته في عزلةٍ تامة؛ لذلك كنت أفكر أن أصبح موظف منارةٍ بحرية للكتابة بحرية، أو حارس أكواخٍ منعزلة في عمق الغابات- وكل ذلك سعيًا للبقاء وحيدًا.

أنا أترجم لشخصيات متعددة، فلكلٍّ طريقتها الخاصة في رؤية العالم. وفي العِلم، لو تحدثنا عنهم بتعميمٍ ما، نفتقد هذا المنظور الذاتي غالبًا؛ هناك منظور “موضوعيٌّ” لا غير. أما أنا فأسعى للمنظور الشخصي المتعدد، فمَن يشاهد الحدث مهمٌّ تمامًا كحدث المشاهدة ذاته.

أثير النشمي في رواية “في ديسمبر تنتهي كل الأحلام” لديها نظرة شديدة الدقّة، لا يفوتها شيء. أسلوبها ينطلق بلا هوادة، بدون زخارف أو التفافات، لكنه يملك قوةً عصية على التجاهل. لغتها هادئة، شبه تقشفية، بيد أن وراء كل جملة ضغطًا خفيًا- كأنها يدٌ خفية تجذب القارئ وتحكم قبضتها عليه في آن واحد. يبدو أن الزمن والذاكرة يلعبان أدوارًا جوهرية، حيث يُعاد النظر في الماضي باستمرار عبر الكتابة.

في “أعرف وجه اليأس جيدًا” لحاتم الشهري، الذي أدّعي أني أعرفه عن قرب، يعتمد في عمله على العفوية بدون هيكلٍ محدد؛ يبدأ نقطة ثم تتشكل القصيدة تلقائيًا. وفيما عدا العناصر الخارقة للطبيعة، يعتني حاتم بـ”الحياة العادية”، كما يصفها، عنايةً شديدة. بالنسبة له، تنبثق الأفكار الأكثر أهمية أحيانًا في لحظاتٍ عادية تمامًا، دونما قلقٍ حول البنية والأسلوب. ويؤكد أنّ النظرة الذاتية للأشياء تظلّ الأكثر أصالة، بل إن الكتابة والفهم ينطلقان منها.

في ديوان ” مقام النسيان” هناك منطقةٌ بين المألوف والغريب تجعل الأمور بالغة الإثارة في شعر محمد إبراهيم يعقوب،  أن تجد شيئًا مختلفًا عنك قليلًا، ليس نسخة عنك بالضبط. لكن لو كان مختلفًا أكثر من اللازم، لما تمكنتَ من فهمه. إنها منطقةٌ بين القريب والبعيد، وفيها تكمن المتعة الكبيرة. مظهر البريق من الخارج ينطوي، في الواقع، على الكثير من العمل الشاق.

اللغة في “ومضات سيرية” تصنع عالمًا قائمًا بذاته؛ له ألفاظه وأسماؤه المشابهة لعالمنا، لكنه مجرّد ظلٍّ له.  تشبه لوحةً حداثيّةً تمتزج فيها تقنياتٌ فنيّةٌ متعدّدة، ويتطلّب الأمر انتباهًا لأدق التفاصيل. الدكتورة نوال السويلم تمتلك مهارةً في تطويع اللغة المكتوبة، وقد صاغت هذا الإحساس على الورق. تتمتع الراويات المتعددات بقدرةٍ على رؤية الأمور من زوايا متعدّدة.  لم يسبق أن رأينا شيئًا مشابهًا في هذا القالب، لكننا لا نلبث أن نحبّ كل تلك الشخصيات الفريدة الداخلة في تأليف “ومضات سيرية” ، لأنّها رُسمت بروح مؤثرة، فيها قدْرٌ من التراجيديا، فارتبطت بها ثقافيًا.

محاولة توسيع حدود الثقافة

(*) كيف ترى حركة الترجمة من العربية إلى لغات عالمية؟

جزء مهم من عملنا كمشتغلين ثقافيين غير مؤدلجين هو الاستمرار في تقديم أصوات جديدة. في الأعمال التي قمت بترجمتها، هناك مستوى معيّن من التفرّد، كتب تنتمي  إلى الثقافة العالية. أعمال ذكية وممتعة غير زائفة ومصنوعة ببراعة.

في الترجمة وحول العملية الإبداعيّة عمومًا، أفكر دائمًا بمجموعتيْن: الرومانسيين الأوائل في القرن التاسع عشر، والحداثيين في القرن العشرين. ما يجمعهم هو محاولة توسيع حدود الثقافة ورفض تكرار الأعمال السابقة. وتتجلّى هنا رؤيةٌ أخلاقيّة: من الأفضل أن يتوقّف المثقف عن الإنتاج على أن يستنسخ نفسه بأعمالٍ جديدة متردّية الجودة.

ربما لهذا السبب أتمسك كثيرًا بالتمييز بين “الثقافة الرفيعة” و”الثقافة المتدنية”. مفهوم “الثقافة العالية والثقافة المنخفضة” يشير إلى ثنائيةٍ معروفة؛ إذ تناول الفيلسوف ثيودور أدورنو (Theodor Adorno)، أبرز المدافعين عن الحداثة  في القرن العشرين، التقابل بين “الصناعة الثقافية” والفن المستقل (Autonom). بحسبه، تنبع هذه الثنائية من واقعٍ ثقافيٍّ مبتور لا يمكن رأبه إلا بعد حلّ التناقضات الاجتماعية في المجتمع ككل. للترجمة دور يتجاوز الاستهلاك؛ إنّه نقدٌ للمسار التاريخي برمّته. بينما يعني طمس الفارق بين الرفيع والهابط، في نظر أدورنو، القضاء على ذاك الصوت الدالّ على إمكانية وجود واقعٍ بديلٍ لما هو قائم.

قد يبدو الأمر جدليًّا أخلاقيًّا بالنسبة للبعض، لكن لنتحدّث بشكلٍ عام: في السنوات الأخيرة، ظهر كتّابٌ ذائعو الصيت أضافوا شيئًا جديدًا إلى الأدب من دون أن يكونوا روائيين حقيقيين. قد يبدو هذا غريبًا، لكن لا يمكنك مقارنة بريت إيستون إيليس Bret Easton Ellis بألبير كامو أو بصامويل بيكيت. ما يكتبه إيليس هو أدب ترفيهيّ رفيع المستوى جدًا.

الفيلسوف بوريس غرويس (Boris Groys) ذهب مؤخرًا إلى ملاحظةٍ مماثلة بقوله إنّ زوال الحواجز بين الثقافة العالية والثقافة المتدنّية لن يرتقي بالثانية، بل سيصهرهما معًا في كتلةٍ متجانسة. والنتيجة: أعمالٌ تحصد ثلاث نجومٍ من خمس إلى الأبد.

يعني، نحن بحاجةٍ إلى ذلك! نريد كعرب أن نكون بوابةً للدخول إلى عالم الثقافة في الغرب، وأن نبيّن أن عتبة الدخول إلى هذا العالم ليست مرتفعة للغاية. الجميع مُرحَّب بهم، والأمر ليس بالصعوبة التي يتخيّلها البعض.

(*) كيف يتلقى المجتمع السويدي الترجمات من اللغة العربية بشكل عام؟

تؤكّد السرديّة السائدة (أو الأسطورة التي قبلتها الصفحات الثقافيّة) أنّ الأدب السويدي في السبعينيات كان قد ترسّخ في شكلٍ واقعيٍّ غالبًا ما اتّسم بالنزعة الأخلاقيّة والسياسيّة المباشرة. ثمّ جاءت مرحلة أدب الثمانينيات الذي ركّز على الجانب اللغويّ والطليعيّ (بحسب مناصريه)، أو المتشبّع بالعدميّة والانكفاء على الذات (بحسب منتقديه)، ويُسمّى أحيانًا – بتبسيطٍ مخلّ- ما بعد الحداثي.

هذا خلق قارئًا عنيدًا، ومتطلبًا. لا يقبل بأي شيء. يمجّد الخصوصية الفردية بوصفها هدفًا. لكن لا أظنّها هرمية ثابتة. ربما هي كذلك، لكنها متغيرة، يعني إذا كان الكتاب المترجم جيدًا بما فيه الكفاية، سيكون محل ترحيب كبير من قبل مجتمع القراءة في السويد. النجاح يتجلى في دفع الشخص إلى استعارة الكتاب، أو الانتظار على الدور للاستعارة، أو شراء كتاب في لحظةٍ معينة، لأن يعتقد أن كليهما الكتاب والكاتب يعملان على توسيع أفق تجارب القارئ.

في هذا السياق تغلق الكتب العربية المترجمة إلى السويدية الفجوة التي يسببها مفهوم “الثرثرة اللااجتماعية” الذي طرحه عالم النفس الاجتماعي يوهان أسبلوند (Johan Asplund). في التفاعل الاجتماعي، يفتقر الشخص “الثرثار اللااجتماعي” للشعور بالسياق، ولا يعير اهتمامًا لظروف المتلقي أو يحسّ باحتياجاته، فيخلق فجوةً في الحديث فيستسلم الآخر ويقع في الصمت، ولذلك هُناك ترجمات من العربية عبر لغة وسيطة أو بشكل مباشر تُشكل جزءًا من تراث القراءة الدائمة والمتفاعلة البعيدة عن الثرثرة.

(*) كصحافي، عملت على تغطية قضايا اللاجئين في السويد، ما هي أبرز ما يشغل بال اللاجئ في أوروبا بشكل عام وفي السويد بشكل خاص…

بعد إطلاق النار في مدينة أوربرو يوم 4 شباط/ فبراير ومقتل عشرة أشخاص: 7 سيدات و3 رجال من خلفيات مهاجرة، في مدرسة لتعليم الكبار في السويد، أصبح الهاجس الجمعي المسيطر، هو أننا لا نريد أن  نُقتل، فقط لأننا نبدو مختلفين.

أعتقد أنّ بعض السياسيين اختاروا مهاجمة شيءٍ ما معتقدين أنّنا  تبنّاه. فيما لا يفهم آخرون ماهية اللجوء أصلًا، ولا يدركون ماذا يفعلون هم أنفسهم. البعض من المواطنين يعاني تعميةً متعمدةً أو لاواعية. باستثناء ذلك، يلفت نظري نمطين متناقضين: إما أشخاص منفتحون وينشدون التواصل، أو أشخاص منغلقون وعاجزون عن الانفتاح. انغلاق ينعكس على أجسادهم بحيث لم يعودوا يفكرون بعقلانية؛ حتى الإمساك بكيس بلاستيكي يشكّل عبئًا عليهم. يعيشون على الحبوب المهدئة. يتابعون القنوات الناطقة باللغة الأم فقط. ويرفضون الحديث باللغة السويدية، بل ربما يمارسون عنصرية مضادة ضد المجتمع المضيف، أو ضد الآخر اللاجئ. هي مسطّحة، لا بالمعنى السلبي، لكنها لا تنمو وتتطوّر كتلك الشخصيات المعتادة.

أشعر بأن الأمر يصبح أصعب وأصعب مع الوقت في تفكيك بنية المجتمعات المهاجرة التي تعيش هنا. كلّما ازددتُ انغماسًا في المجتمع، أدركتُ تعدّد الطرق التي يمكن بها الكتابة عنا، كُلنا. وحين تفعل شيئًا لأول مرة، لا تجد ما تقارنه به كثيرًا. غير ذلك، أعتقد، ربما، لدينا حريةً كاملةً بالحركة والتصرف كيفما نشاء، لكن بوصفكَ مهاجرًا، منفيًا، لاجئًا، سمها ما شئت، لا يمكنك ببساطة أن تُقرِّر كلّ شيءٍ بنفسك. في نهاية المطاف “النظام” يمارس شكلًا من أشكال الهيمنة. دائمًا ما يشرح لنا “ما هو في صالحنا”، في إطارٍ من حسن النية. المهم بالنسبة للنظام أن كل شيءٍ يبدو جيدًا.

غالبًا لا يدرك القادم إلى هنا أنّ خطوط السلطة هنا نادرًا ما تكون واضحةً. لكن حين يجرؤ أحدهم على تجاوز ما يُسمّى بالخطوط الحمراء، يصير جليًا أنّه خارج المنظومة.

الذكاء الاصطناعي يكرّر بدون أن يبتكر…

(*) ثمة تأثيرات إيجابية للذكاء الاصطناعي تساعد الصحافيين والكتّاب بشكل عام في انشغالاتهم وابتكاراتهم، بحكم كونك مدرّبًا في مجال الذكاء الاصطناعي، هل ترى تأثيرًا سلبيًا للذكاء الاصطناعي في المجال الإعلامي، والأدبي أيضًا…

لم يعد بالإمكان تجاهل الدور المتنامي للذكاء الاصطناعي التوليدي (GAI) في صناعة النشر وسوق الكتّاب والإعلام. فمنذ إطلاق ChatGPT في تشرين الثاني/ نوفمبر 2022، أثارت إمكانياته وأساليبه في المعالجة اللغوية نقاشات واسعة في الأوساط الأدبية والإعلامية، شملت مجالات متعددة مثل التدقيق اللغوي، وتصميم الأغلفة، والمساعدة التحريرية، وحتى الكتابة الإبداعية نفسها.

هُنا، يتجلى سؤال محوري: هل يمكن للآلة أن تكتب كما يكتب الإنسان؟ وإذا كان الإبداع فعلًا قائمًا على التجربة، والحدس، والمعاناة، فإلى أي مدى يمكن للخوارزمية أن تستعير هذه العناصر بدون أن تسقط في فخ النمطية والتكرار؟ هل نحن مستعدون للتخلي عن القلق الجميل الذي يجعلنا كتّابًا، لصالح آلة لا تخطئ، لكنها أيضًا لا تحلم؟

إن الذكاء الاصطناعي، بطبيعته الاستقرائية، لا يولّد من العدم، بل ينهل من بحر النصوص السابقة، يعيد تشكيلها، يعيد ترتيبها، لكنه لا يكسر نسقها. إنه يكرّر بدون أن يبتكر، يحاكي بدون أن يشعر. فالخطر الحقيقي لا يكمن فقط في التوحيد النمطي، بل في إغواء الكاتب بآلية جاهزة تضمن له تدفقًا سلسًا، من دون أن تدفعه إلى التحدي. فكلما زاد الاعتماد على هذه التقنية، تقلّصت المساحة التي ينمو فيها الأسلوب الفردي، وتحوّل النص إلى امتداد لإحصائيات لغوية أكثر منه تعبيرًا عن ذات مستقلة.

ورغم قدرة الذكاء الاصطناعي على جمع الأفكار ومزجها، إلا أنه يظل أداة عاجزة عن اجتراح الفجوات التأويلية، عن استشعار الإيقاع الخفي بين الكلمات، عن التقاط ذلك الصمت الذي يضمر أكثر مما يقول. إنه يفتقر إلى ما يجعل الكتابة فعلًا إنسانيًا في جوهره: الهواجس، القلق، المخيلة المتوثبة التي تقتحم مناطق غير مكتشفة في اللغة والفكر. هنا، يتجلى قصوره الأعمق: النصوص التي ينتجها قد تبدو متماسكة، لكنها خالية من التوتر الداخلي، من الانكسارات التي تصنع المعنى، من المساحات غير المكتملة التي تتيح للقارئ أن يكون شريكًا في إعادة خلق النص.

وفوق ذلك، يطفو سؤال الملكية الفكرية على سطح هذا المشهد المتشابك. من يملك النص الذي تولّده خوارزمية تستمد وعيها من ملايين النصوص الأخرى؟ هل يمكن اعتباره عملًا إبداعيًا، أم أنه مجرد محاكاة إحصائية تعيد إنتاج أنماط لغوية مكررة؟ إن الذكاء الاصطناعي، بقدرته الهائلة على الاستعارة والتوليف، قد يقع في فخ التشابه المفرط، حيث تصبح حدوده مع السرقة الأدبية ضبابية، لا تُرى إلا حين يُفكك النص إلى جذوره الأولى.

وفي نهاية المطاف، ثمة خطر آخر أكثر خفاءً، لكنه أشد وطأة: الإدمان على السهولة. حين يتكئ الكاتب على ذكاء اصطناعي يمنحه إجابات جاهزة، يفقد تدريجيًا قدرته على مواجهة الصفحة البيضاء، على التنقيب عن صوته الخاص وسط الضجيج. فالذكاء الاصطناعي قد يكون أداة، لكنه ليس بديلًا. قد يسرّع العملية، لكنه لا يثريها. قد يمنحك نصًا، لكنه لن يمنحك شعور الانتصار حين تلتقط جملة لم يكن بإمكانك كتابتها أمس.

وبينما قد تبدو هذه التحولات مثيرة للقلق، إذ تهدّد مفهوم التفرد البشري في الإبداع، فمن الواضح أن هذه الأدوات أصبحت واقعًا لا مفر منه، مما يستدعي نقاشًا عميقًا حول تأثيرها وسبل تنظيم استخدامها بما يحترم حقوق الملكية الفكرية. كما تشير نيكولا سولومون، المديرة التنفيذية لجمعية المؤلفين البريطانية، لا يزال هناك وقت لضمان الاستخدام الأخلاقي للذكاء الاصطناعي ضمن الأطر القانونية السائدة.

(*) ما الشيء الذي منحتك إياه السويد؟

الأهم هو الكرامة، والأمان الشخصي. إنها مكانٌ يجمع الهدوء الشديد والتهديد الشديد في آنٍ واحد. بيئة فائقة الجمال، بمياهها الخطرة (السويد مليئة بالبحيرات) والتيارات القوية والأمواج العاتية، وصخور زلقةٍ مغطاةٍ بحشائش البحر، وقناديل النار. بيئةٌ صلبةٌ قاسيةٌ تعانقني حينًا وتصدّني حينًا.  هي الأكثر أمانًا والأكثر تهديدًا في الوقت ذاته. بالنسبة للسويديين هناك أهميةٌ بالغة في وضع المفاتيح في مواضعها الصحيحة ورسم هيكل الأحداث مسبقًا. أما بالنسبة لي، فجزءٌ أساسي من متعة العيش هنا، هو أن أتفاجأ طيلة الوقت. أجد نفسي فجأةً أمام شيءٍ لم أكن أخطط له بأي حال.

في السويد أنا أتغيّر من يومٍ لآخر. نظرتي لنفسي، أو إحدى نظراتي لنفسي، تارةً أراها شخصيةً تحمل اسمي ووظيفتي فقط، وتارةً أخرى أشعر أنها تجسّد نظرتي الشخصية ورؤيةً ما من داخلي إنها حقًا طريقةُ رؤيتي للعالم وأفكاري الداخلية، لكنّني تركتُ شخصيتي البديلة تعبّر عنها. ذلك النهج الملتبس هو ما اتبعته دائمًا للمحافظة على صحتي العقلية. فكرتي لحماية نفسي هي أنني أتعلّم باستمرار.

هنا أعيش حيواتٍ صغيرة متعددة في إطار حياتي الكبيرة؛ إذ تختلف حسب طبيعة العلاقات، والسنوات التي قضيتها في التجوال بشوارع معيّنة، أو في العمل/ عدم العمل، والطبخ، والانسحاب من دورات جامعية عشوائية، والاعتناء بالمظهر، والقراءة، والتذكّر، والنسيان. لا أدري أيًّا من حيواتي يشكّل الإطار الحقيقي. الأهم من هذا كله، أن السجنٍ بعيد جدًا من المدينة.

(*) تم منحك لقب مواطن عام في السويد، ما الذي يعنيه لك هذا اللقب وهل أثّر على مسيرتك المهنية؟

من الممتع الحصول على جائزة أو لقب، كل ما أحصل عليه  يفيدني في عملي بشكلٍ ما. ذلك الشعور كان مميزًا بالنسبة لي، لكن لا أريد أن أستوعب هذا. لو فعلتُ ذلك سأصبح شديد الوعي بنفسي وأضلّ الطريق.

في السويد، يُكافأ المرء إذا نجح في إبراز نفسه كشخصٍ جيّد (متضامن، ناقد، عادل، عطوف) معتمدًا على نهج أخلاقٍ “صحيح”. يتراوح بين المواجهة والاحتياج، البهجة والغضب، الخجل والاستئثار،  للبقاء على قيد الحياة- في صراعٍ مع الثقافة، والأصل والحضارة، والرغبات والتوق إلى المعرفة.

في المقابل، ربما يفيد المسيرة المهنية إن كنت تشعر أنك منبوذٌ أصلًا، إذ تعرف أنّ العالم لا ينهار لمجرّد ذلك. هذا يدفعك إلى التوغّل أكثر وأكثر نحو ما تريده، لأنني أرى المرء يتشكّل بفعل الأحداث والأماكن التي يعيشها، ولكن الأعمق من ذلك كلّه هم الأشخاص الذين يلتقيهم، من يمنحني اللقب المشبع بالتسامح والرحمة والمعرفة، أهم من اللقب ذاته.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى