“أنبوب الغاز” القطري: المشروع الذي حمّله النظام السوري مسؤوليّة “الثورة”!/ مصطفى الدباس

19.02.2025
يمثل مشروع خط الغاز القطري – التركي فرصة ذهبية لسوريا لإعادة بناء اقتصادها المتضرر، وسيحوّل سوريا إذا ما نُفِّذ، إلى مركز استراتيجي لنقل الطاقة، ما يدر عائدات مالية كبيرة من رسوم العبور. هذه العائدات يمكن استخدامها لإعادة إعمار المدن المدمرة وتحسين البنية التحتية. بالإضافة إلى ذلك، يمكن أن يوفر المشروع فرص عمل جديدة ويعزز من استقرار البلاد.
خرج السوريون إلى الشوارع في العام 2011، حاملين صرخات الحرية والكرامة، حينها سارع النظام السوري إلى تقديم رواية من عالم الخيال السياسي تستحق بجدارة أن تدرَّس كنموذج لنظريات المؤامرة. ووفقاً لهذا السيناريو العبقري، لم تكن التظاهرات الشعبية في درعا وحمص وحلب إلا جزءاً من مؤامرة كونية دُبرت في كواليس أنابيب الغاز الطبيعي المليئة بالمخططات الشريرة.
فجأة، تحوّل مشروع خط الغاز القطري إلى البطل الشرير في هذا الفيلم التراجيدي السوري، وطارد شبحه المتظاهرين في كل شارع وزقاق. وبكل براعة وخبث، ألقى النظام عليه كل اللوم، متجاهلاً بسلاسة لا متناهية استثنائية القمع الوحشي والفساد المتفشي وغياب الحريات والتهميش الذي دفع الشعب إلى الانتفاض. هكذا، وبتوقيع خيال النظام الخصب، أصبح خط الغاز ليس مجرد أنبوب محتمل، بل ذريعة سحرية تبرر كل طغيان ودمار.
في تلك الفترة، كانت وسائل إعلام النظام تتقن فن صناعة الأعداء، وتخرج مسرحية محكمة الحبكة تجعل قطر وتركيا محور الشر الكوني الذي لا شغل له سوى هدم “عاصمة الصمود والتصدي”، لمجرد أن الأسد قرر، “بشهامة نادرة”، أن يقول لا لمشروع خط الغاز القطري.
ووفقاً للرواية الرسمية التي لا ينقصها سوى بعض المؤثرات السينمائية، رفض الأسد المشروع حفاظاً على “مصالح روسيا المقدسة”، فجن جنون قطر وتركيا وقررتا الانتقام بإشعال الفوضى ودعم “الإرهابيين” في كل زاوية من سوريا. هكذا، وبلغة بسيطة مليئة بالهزل، اختُزل مشهد الشعب السوري وهو يصرخ من أجل الحرية إلى لعبة دولية ضد الأسد العظيم، وكأن سوريا، تحت حكم النظام الأسدي، لم تكن بالفعل مستباحة لكل من هب ودب من الروس والإيرانيين والميليشيات الطائفية، ناهيك بالقمع الدموي الذي مارسه الأسد نفسه على شعبه، وكان من أبرع المتآمرين ضد بلاده.
بداية قصة خط الغاز!
بدأ الحديث عن مشروع خط الغاز القطري في العام 2009، عندما اقترحت قطر إنشاء خط غاز يربط حقل الشمال، أكبر حقل غاز طبيعي في العالم، بأوروبا عبر السعودية والأردن وسوريا وتركيا. كان الهدف بسيطاً: توفير بديل لأوروبا عن الغاز الروسي، وبالتالي تقليل اعتمادها على موسكو. حينها، وبتوجيه روسي، رفض النظام السوري، الذي يحرَّك كالدمية بيدهم، المشروع بناءً على التزامات استراتيجية واقتصادية تجاه الكرملين، وأيد بدلاً من ذلك مشروع خط غاز مدعوماً من إيران وروسيا لنقل الغاز الإيراني عبر العراق وسوريا.
والحال أن هذا الصراع على مشاريع الطاقة كان حقيقياً ولا يمكن إنكاره، لكنه لم يكن السبب وراء خروج السوريين إلى الشوارع، كما أن الدعم القطري والتركي لم يأت للمعارضة إلا لاحقاً، بعدما رد النظام على الاحتجاجات السلمية بالرصاص والاعتقالات والتعذيب.
السردية الأسدية
استخدم النظام السوري رواية خط الغاز كوسيلة لتشويه الثورة وتحويل الأنظار عن الأسباب الحقيقية التي دفعت السوريين الى الانتفاض، بدءاً من القمع السياسي وتفشي الفساد وغياب العدالة الاجتماعية وليس انتهاءً بالتهميش الاقتصادي، بخاصة في المناطق الريفية مثل درعا، التي كانت نقطة انطلاق الاحتجاجات، حيث عانى السكان من الفقر والإهمال والتهميش لعقود. وعندما خرجوا للمطالبة بحقوقهم، واجههم النظام بالعنف، ثم ألقى باللوم على “خط الغاز القطري”.
كان من الملائم جداً للنظام أن يختلق مؤامرة خارجية تبرر كل ما حدث، وبدلاً من الاعتراف بمسؤوليته عن تدهور الأوضاع، صوّر نفسه كضحية لمخططات إمبريالية ذات أبعاد جيوسياسية للصراع، وهي حتى لو كانت السبب الأساسي لخروج الناس في الشارع للتظاهر، فهي لا تبرر القمع الوحشي الذي مارسه النظام ضد شعبه.
شهدت سوريا تحولات دراماتيكية بعد سقوط نظام بشار الأسد، الذي هيمن على البلاد لأكثر من خمسة عقود، ليصبح انهيار منظومة الأسد نقطة تحول جيوسياسية في منطقة الشرق الأوسط، أعادت صياغة علاقات القوى الإقليمية والدولية وفتحت الباب أمام فرص وتحديات جديدة لسوريا.
سيؤثر سقوط الأسد بشكل مباشر على موازين القوى في المنطقة، بدءاً من تقلّص نفوذ إيران وروسيا إلى صعود تركيا كلاعب محوري، بالإضافة إلى إعادة طرح مشروع خط الغاز القطري التركي الذي يمكن أن يعيد تشكيل مكانة سوريا الجيوسياسية.
على مدى عقود، كانت سوريا تحت حكم الأسد حليفاً استراتيجياً لإيران، إذ شكلت جسراً يربط طهران بلبنان لدعم “حزب الله”، وكان ذلك عاملاً حاسماً في تعزيز النفوذ الإيراني في المنطقة، ما مكن طهران من تقديم الدعم العسكري والمالي لحزب الله، والذي كان بدوره يشكل تهديداً دائماً لإسرائيل. إلا أن سقوط النظام السوري وجه ضربة قاصمة لهذه الاستراتيجية، إذ فقدت إيران القدرة على استخدام الأراضي السورية كطريق إمداد، ما أدى إلى عزلة إقليمية متزايدة لطهران، كما أن الضربات الإسرائيلية المكثفة التي دمرت جزءاً كبيراً من ترسانة حزب الله العسكرية جعلت الموقف أكثر سوءاً، إذ لم تعد إيران قادرة على مواجهة إسرائيل بالقوة نفسها.
إلى جانب إيران، كانت روسيا تعتمد بشكل كبير على وجودها في سوريا لتعزيز نفوذها الجيوسياسي، إذ امتلكت قواعد عسكرية حيوية في طرطوس واللاذقية، كانت تتيح لها الوصول إلى البحر المتوسط. ولم تكن هذه القواعد مجرد مراكز لوجستية، بل كانت تمثل رموزاً لنفوذ روسيا في المنطقة ودورها كلاعب رئيسي في السياسة الدولية. إلا أن تغيير النظام في دمشق وضع التمدد الروسي في مأزق، لأن فقدان روسيا وجودها في سوريا لن يؤثر فقط على عملياتها العسكرية في الشرق الأوسط وأفريقيا، بل سيؤدي أيضاً إلى تراجع قدرتها على مواجهة النفوذ الغربي في المنطقة.
أما تركيا، فقد استفادت بشكل كبير من سقوط النظام السوري، إذ دعمت أنقرة، منذ بداية الصراع، المعارضة السورية وسعت الى تعزيز نفوذها في البلاد، والآن أمام تركيا فرص جديدة لتوسيع دورها الإقليمي. ومع عودة الحديث عن مشروع خط الغاز القطري – التركي، أصبحت تركيا في موقع استراتيجي يمكنها من تحويل نفسها إلى مركز رئيسي لنقل الطاقة بين الشرق الأوسط وأوروبا.
سوريا: صراع أوروبي – روسي
يمثل مشروع خط الغاز القطري – التركي فرصة ذهبية لسوريا لإعادة بناء اقتصادها المتضرر، وسيحوّل سوريا إذا ما نُفِّذ، إلى مركز استراتيجي لنقل الطاقة، ما يدر عائدات مالية كبيرة من رسوم العبور. هذه العائدات يمكن استخدامها لإعادة إعمار المدن المدمرة وتحسين البنية التحتية. بالإضافة إلى ذلك، يمكن أن يوفر المشروع فرص عمل جديدة ويعزز من استقرار البلاد.
إلا أن تنفيذ مثل هذه المشاريع يتطلب بيئة سياسية وأمنية مستقرة، وهو ما قد يدفع القوى الدولية والإقليمية الى دعم استقرار سوريا، ويمثل هذا المشروع تحدياً كبيراً لروسيا، التي كانت تعتمد على صادرات الغاز للضغط على أوروبا سياسياً واقتصادياً، إذ سيمنح خط الغاز الجديد أوروبا بديلاً يعتمد على الغاز القطري، ما سيقلل من نفوذ موسكو. وإذا تحقق المشروع، قد تواجه روسيا صعوبة كبيرة في استعادة دورها كأكبر مورد للغاز إلى أوروبا، بخاصة في ظل العقوبات الدولية والضغوط الاقتصادية.
في السياق، وبعد تعيين أحمد الشرع رئيساً لسوريا خلال الفترة الانتقالية من المجلس العسكري للثورة، زار أمير قطر تميم بن حمد آل ثاني سوريا، وانتشرت صور على وسائل التواصل لاستقبال الشرع أمير قطر في المطار، وصور أخرى تجمعهما على جبل قاسيون. وتناول رواد مواقع التواصل الاجتماعي هذه الزيارة بين التفاؤل والسخرية، معلقين بعبارات مثل:”عطنا جعصة أبراج طال عمرك”، و”ماذا يفعلون هناك، يحتسون المرطبات؟”.
وكتب أحدهم ناقداً: “أمير قطر الذي لا يملك برلماناً ولا أحزاباً ولا حرية تعبير، ووصل الى السلطة بانقلاب، جاء إلى سوريا لدعم بناء دولة ديمقراطية تعددية!”، فيما قال آخر”جولاني سوريا ابتدي في توزيع الغنائم، تميم قطر في زيارة رسمية لسوريا واستقبله في مطار دمشق… طمنوني على خط الغاز والتحرر يا سوريين!”.
في المقابل، قال ناشطون على وسائل التواصل إن الزيارة تاريخية ومهمة جداً لإعطاء الشرعية للإدارة الجديدة، وتحقيق الاستقرار السياسي والأمني الذي سيساهم بدوره في تحسين صورة سوريا دولياً، ما قد يؤدي إلى رفع العقوبات الاقتصادية عنا في المستقبل القريب.
وكان رجل الأعمال محمد حمشو عاد إلى سوريا في 13 كانون الثاني/ يناير، بعد سنوات من الترحال بين تركيا وقطر، بوساطة قطرية، إذ يتّمتع أقرباؤه في قطر بنفوذ اقتصادي كبير. وتطرح هذه العودة تساؤلات حول مدى ارتباط قطر مجدداً بمشاريع إعادة الإعمار في سوريا، بما في ذلك إعادة تفعيل مشروع خط الغاز.
ويُعتبر حمشو واجهة اقتصادية لماهر لأسد، قائد الفرقة الرابعة في جيش النظام السابق، ومتهم بتمويل الفرقة ونشاطها العسكري، وشملت إمبراطوريته الاقتصادية مجالات الاتصالات والعقارات والإعلام والتجارة، وكان نائباً في مجلس الشعب السوري، وفُرضت عليه عقوبات من الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي منذ العام 2011، كما شملت العقوبات زوجته رانيا الدباس وولديه أحمد وعمر.
وتشير مصادر إعلامية إلى أن وجود حمشو في سوريا مرتبط بدولة قطر، نظراً الى وجود أولاد أخته هناك وحصولهم على الجنسية القطرية، ومن أبرزهم معتز رسلان الخياط، الذي ساهم في مشاريع عدة أثناء كأس العالم في قطر العام 2022، ما يثير تساؤلات حول دور قطر المحتمل في إعادة الإعمار في سوريا، بخاصة في ظل الحديث عن إعادة تفعيل مشروع خط الغاز القطري-التركي.
على رغم هذه الفرص، يواجه المشروع تحديات كبيرة، فالانقسامات الداخلية في سوريا تشكل عقبة رئيسية أمام تنفيذه، والتوترات بين الفصائل المختلفة، بالإضافة إلى التدخلات الخارجية، قد تؤدي إلى صراعات جديدة على النفوذ داخل البلاد. كما أن إعادة تأهيل البنية التحتية التي دمرتها الحرب تتطلب استثمارات ضخمة ودعماً دولياً مستداماً، وإذا تمكنت سوريا من تجاوز هذه العقبات، فإنها قد تستعيد دورها كفاعل إقليمي محوري.
هل كانت رواية النظام السوري عن خط الغاز القطري محقة؟ ربما، ولكن ليس بالطريقة التي أراد النظام تصويرها. فبينما كانت هناك أبعاد جيوسياسية حقيقية للصراع، إلا أن الثورة السورية كانت، في جوهرها، انتفاضة شعبية ضد القمع والفساد. حاول النظام توجيه الأنظار بعيداً عن هذه الحقائق باستخدام خطاب المؤامرة، لكن سقوطه أظهر أن القمع لا يمكن أن يستمر إلى الأبد، وأن التغيير قادم، حتى لو كان طريقه مليئاً بالمطبات.
يجب التذكير أيضاً بأنه عقب سقوط النظام، أكد المتحدث باسم وزارة الخارجية القطرية، أن الحديث حول بناء خط أنابيب لنقل الغاز إلى تركيا عبر سوريا لتزويد أوروبا، “تكهنات إعلامية”، وأن قطر تركز حالياً على “دعم الاستقرار في سوريا وتلبية احتياجات الشعب السوري من خلال المساعدات الإنسانية والتقنية”.
– صحافي سوري مقيم في برلين
درج