“الابن السيء”: ذاكرة الثورة السورية وعذابات السوريين/ سمر شمة

19 فبراير 2025
“الفيلم بالنسبة لي يتعدى كونه مجرد عمل فني جامد يُقدم مقولات سياسية. هو بوحٌ على امتداد مسيرة عمري. وأجزم أن هذا البوح يلامس حياة كل شاب وشابة في سورية ممن عاصروا عهد الأسدية”- هذا ما صرح به المخرج السوري غطفان غنوم حول فيلمه الوثائقي الطويل “الابن السيء” الذي عرض قبل أيام في دار الأوبرا السورية بدمشق بعد سقوط النظام المخلوع الذي حولها لسنوات طويلة إلى دار للأسد ونظامه ومواليه. وبعد أن طاف به في أصقاع العالم بعيدًا عن سورية التي تضم في كل ركن من أركانها بطلًا من أبطال الفيلم الحقيقيين، وحكاية من حكايا السوريين الذين فقدوا أبناءهم ومنازلهم وحقهم في العيش الكريم، وعذابًا من عذابات المعتقلين والمهمشين الباحثين عن لقمة العيش والأمان والكرامة والعدالة، وصوتًا من أصوات الأمهات وأنينهن الموجع وهن يبحثن بشتى الوسائل وأقساها عن أمل هنا وخبر هناك، وتوق إلى لم شمل العائلة والأبناء.
الفيلم سيناريو وفاء العاملي وغطفان غنوم، وقد استعرض خلال ساعتين ونصف الساعة ما شهدته سورية منذ الاستقلال، وما شهده العالم من صراعات وثورات وتحالفات وسياسات، إضافة إلى رحلة المخرج النضالية التي عاشها معظم الشعب السوري في ظل الحكم العسكري الشمولي للأسدين الأب والابن.
ربط “الابن السيء” بين الأحداث العامة والخاصة ربطًا فكريًا ومعرفيًا دقيقًا، وركزّ على أحداث الثورة السورية التي انطلقت في آذار/ مارس 2011، ولذلك كانت مشاهد القصف والتعذيب والانتهاكات الجسيمة التي تعرّض لها الشعب السوري قاسية وموجعة عادت بنا إلى حقائق مروعة لم يشهد العالم المعاصر لها مثيلًا.
العمل مشغول من آلام السوريين ومآسيهم، ومن دموع أمهاتهم وهلع أطفالهم، ومن دمار منازلهم وأحلامهم ودماء وأرواح أحبتهم، ومسكون بالفجيعة والذكريات المريرة على مدى سنوات طوال.
ضمّ الفيلم وثائق عن فترات زمنية مختلفة من عمر الثورة السورية وخصوصًا في سنواتها الأولى قبل مغادرة غنوم لبلاده هربًا من الاعتقال والتصفية الجسدية، وسلط الضوء بالصوت والصورة على عمليات القتل والمجازر والقصف وتدمير البنى التحتية والمستشفيات والمنازل ودور العبادة والمؤسسات والمواقع التاريخية والأثرية وأجمل المدن والبلدات بحبكة مدروسة قام خلالها المخرج بدمج سيرته الذاتية مع سيرة الثورة وكأنها هي التي خططت لأيامه القادمة ورسمت حاضره ويومياته.
قدم الفيلم سياقًا سرديًا لغطفان غنوم يترافق مع حوار موازٍ لبطله جابر أحمد، الرجل الهارب من اضطهاد الأقلية العربية في الأهواز بإيران، وهو والد زوجته الذي أصبح لاجئًا في فنلندا فيما بعد.
بدأ الفيلم بمشاهد حقيقية من الغزو الروسي لأوكرانيا ولقطات لوفاء، ابنة الثائر الأهوازي الذي شارك في الثورة الإيرانية التي أسقطت شاه إيران وفرضت حكمًا قمعيًا دينيًا شديدًا وقامت بالتنكيل والإقصاء والاعتقال التعسفي والإعدامات لمعارضيها. ومهد بذلك لدخول إيران وروسيا إلى سورية دعمًا لنظام بشار الأسد الديكتاتوري بعد انطلاق الثورة، ونقلنا من فترة الاستقلال عن الانتداب الفرنسي إلى انقلاب حزب البعث على حكومة الجمهورية السورية عام 1963، ثم استحواذ حافظ الأسد على السلطة بالقوة وتصفية زملاء السلاح واعتقال رفاق الحزب في 1970 تحت مسمى “الحركة التصحيحية”، ليبدأ بعد ذلك فصل دموي جديد من تاريخ سورية يقوم على القتل والاغتيالات والاعتقالات والتعذيب الممنهج في السجون وفروع الأمن المتزايدة يومًا بعد يوم، مرورًا بأهم محطات بطش النظام وبربريته حين قام نظام الأب بمجازر حماة ودمرّ المدينة بالكامل على رؤوس ساكنيها وقتل أكثر من 40 ألف مواطن من سكانها وأكثر من 17 ألف مفقود وذلك في شباط/ فبراير 1982 على أيدي فرق وألوية متعددة من الجيش وسرايا الدفاع التي يترأسها رفعت الأسد وسرايا الصراع والوحدات الخاصة. انتقل الفيلم بعد ذلك إلى مرحلة توريث الحكم لبشار الأسد بعد موت حافظ الأسد والانقلاب الدستوري الهزيل الذي تم لاستلامه السلطة ومن ثم وعوده للسوريين وعودًا كاذبة حول الإصلاحات الاقتصادية والسياسية والحريات واستقلالية الصحافة والبرلمان والقضاء وما تبعه من أحداث ومحطات تاريخية مأساوية وخصوصًا بعد انطلاق الثورة السورية. يقول غنوم: “نقدم خلال الفيلم حكايتنا حتى يعرفها جميع الناس. فنحن السوريون واهمون أحيانًا بأن روايتنا منتشرة في كل العالم” .
جسّد الفيلم حكاية وطن استبيح لعقود، وتاريخًا طويلًا من القمع الوحشي ونهب ثروات سورية ومواردها وإفقار الشعب السوري وتجويعه، وتوقف عند أهم المراحل المفصلية في حياة السوريين، وتناول أيضًا التدخل السوري في لبنان واستباحته وحكمه بالحديد والنار، وارتكاب نظام الأسد فيه للمجازر والاغتيالات بحق الفلسطينيين واللبنانيين، إضافة إلى التحالفات التي بناها نظام الأسدين مع الأنظمة الديكتاتورية في العالم وربط بين توجه الأب والابن لاستغلال حالة العداء للحركات الإسلامية في دول العالم تحت مسمى مكافحة الإرهاب للقضاء على المعارضين السوريين واللبنانيين من مختلف الأيديولوجيات.
ضمّ الوثائقي الطويل 25 فصلًا، وكل فصل يمثل مرحلة تاريخية وأحداثًا مترابطة ورسائل مختلفة، ويحمل عنوانًا لأفلام سينمائية بارزة في تاريخ السينما مثل: الديكتاتور العظيم – العراب – صائد الغزلان – قصة موت معلن – مضطرب العقل – صراع العروش – المنبوذ – من أجل حفنة من الدولارات – الأزمنة الحديثة – الرقص مع الذئاب – القيامة الآن – الجريمة والعقاب وذهب مع الريح.
استمر عمل المخرج على فيلمه عشر سنوات، حاول خلالها أن يبحث عن تفاصيل نضال الشعب السوري ضد جلاديه بالوثيقة والصوت والصورة ليرسلها إلى العالم. وعادت الوثائق الفيلمية فيه إلى فترات زمنية مختلفة من عمر الثورة السورية، ولذلك كان الفيلم حصاد عمل مضنٍ وشاق يترك الجراح كما هي دون ضماد، ولكنه، كما قال عدد من النقاد، استطاع ترسيخ السردية الحقيقية للثورة منذ بداية المظاهرات السلمية والهتافات المدوية حتى الانتهاكات وإطلاق الرصاص على المتظاهرين وبدء الكفاح المسلح الذي جاء ردًا على استخدام النظام للحل الأمني العسكري ضد المدن والبلدات الثائرة. واستطاع أيضًا دحض كل الأكاذيب، والتضليل الذي مارسه الأسد وحلفاؤه وذلك بالاعتماد على مشاهد موثقة من قلب الجرائم التي ارتكبت: اعتقالات وقتل في الطرقات وأثناء المظاهرات السلمية – تعذيب وحشي للمعتقلين حتى الموت – انتهاكات نفسية وجسدية مروعة – قصف بالصواريخ والبراميل المتفجرة والكيماوي.
سرد “الابن السيء” حكاية ثورة سورية وشعبها في شقيها الذاتي والموضوعي، وعرض مشاهد لا تحتمل لمتظاهرين تم سحلهم في الشوارع بدون أدنى رحمة، ومشاهد لأطفال يعيشون رعبًا وهلعًا أثناء قصف الطيران الروسي وطيران النظام للمدن والبلدات والمدارس والأسواق والمشافي وكل مكان.
عرض الفيلم أيضًا مشاهد حقيقية عن حي بابا عمرو، مسقط رأس المخرج، وهو أول الأحياء الثائرة في محافظة حمص والذي تعرض لدمار شامل وسويّت منازله بالأرض وتعرض لقصف متواصل براجمات الصواريخ لأكثر من ثلاثة أسابيع بعد أن كان يقطنه أكثر من مائة ألف سوري قُتل وجرح منهم المئات وجرت فيه معارك طاحنة بين النظام والمعارضة وتمّ فيه إعدام عائلات بأكملها داخل منازلها التي نُهبت وحُرقت في مجزرة بشعة من مجازر العصر الحديث.
كما عرض الفيلم وثائق عن علاقة مخرجه الخاصة بوالديه وعن بعض أبطال وشرفاء الثورة السورية الشهداء والمغيبين ومنهم: عبد الباسط الساروت حارس الكرامة والثورة – المناضل عبد العزيز الخيّر – الكاتب عدنان زراعي – الناشطة فدوى سليمان – الحقوقية رزان زيتونة وغيرهم من أسماء قائمة الشرف والتضحيات الجسام.
جاء الشكل الفني للفيلم ليؤكد ارتباط الماضي بالحاضر والذاتي بالموضوعي والمحلي بالدولي والإقليمي، وتم فيه توظيف عناوين أفلام سينمائية هامة ليشير المخرج إلى العلاقة بين فن السينما والحياة ودور هذا الفن في تشكيل وتعميق وعي المشاهدين وتحفيزهم على النضال من أجل الحرية والعدالة. ونجح الفيلم أيضًا في ربط الأحداث ببعضها وإعادة ترتيبها، وكانت الوثائق الفيلمية في غاية الأهمية، والتنوع في تقنيات السرد وتوزعها على أصوات السارد الأساسي -غنوم – والشهود كان موظفًا بعناية ومؤثرًا ويدل على أن المتحدثين جميعًا يشاركون بالحدث.
استطاع الفيلم عمومًا أن يعيدنا إلى قراءة تاريخنا المعاصر ودهاليز السياسة الإقليمية والدولية وتداعياتها على شعوب وسكان العالم الثالث.
نال الفيلم 16 جائزة سينمائية في مهرجانات دولية متنوعة حول العالم منها: ثلاث جوائز في مهرجان ماي السينمائي في الهند وذلك عن فئات أفضل فيلم وثائقي طويل وأفضل إخراج وأفضل سيناريو – جائزة أفضل فيلم في مهرجان ريو دي جانيرو الدولي في البرازيل – جائزة أفضل فيلم صادم وثائقي في مهرجان قلب أوروبا السينمائي في مدينة كوشيسته السلوفاكية – جائزة أفضل فيلم وثائقي في مهرجان بيرساموندا الدولي للأفلام – جائزة أفضل فيلم في مهرجان سانتا مونيكا في كاليفورنيا وفي مهرجان بالي في إندونيسيا؛ ورُشح أيضًا لجوائز عالمية هامة.
المخرج غطفان غنوم من مواليد حمص عام 1976، خريج الأكاديمية الفنية الحكومية في جمهورية مولدافيا الشعبية عن قسم الإخراج السينمائي، وعضو نقابة الصحافيين في فنلندا، شارك في مهرجانات محلية وسينمائية دولية عن أعمال مسرحية وسينمائية.
الجائزة الأخيرة للعمل حتى الآن كانت من خلال عرضه في قلب دمشق في دار الأوبرا السورية في ساحة الأمويين في سورية الحرة التي قاومت بعيون أبنائها وبناتها وأرواحهم قطاع الطرق الجدد ومجرمي العصر الحديث، وهذا ما جعل مخرجه يقول بعد العرض مباشرة: “أشعر بالفخر والامتنان لكل من ضحى لنكون اليوم في سورية الحرة. ونعرض الفيلم في مكان ثقافي هو ملك للشعب السوري الذي أسقط اسم عائلة الأسد عنه”، مشددًا على ضرورة الاهتمام بمأساة اللاجئين السوريين في المخيمات، وضرورة إيجاد الحلول السريعة لها لأنها أحد جراح الثورة السورية النازفة وغصة في القلب لا تبارحنا.
ضفة ثالثة