سوريا حرة إلى الأبد: مقالات وتحليلات 19 شباط 2025

حرية إلى الأبد: كل المقالات والتحليلات والحوارات التي تناولت انتصار الثورة السورية اعتبارا من 08 كانون الأول 2024، ملاحقة يومية دون توقف تجدها في الرابط التالي:
سقوط بشار الأسد، الرئيس الفار والمخلوع
————————————-
البلاد السورية: النظام الاتحادي ودستور 1920/ موريس عايق
18 شباط 2025
نصَّ الدستور السوري الأوّل (1920) على وجوب إقامة حكمٍ اتحادي في البلاد ومقاطعات تُدار باللامركزية الواسعة، كما أقرّ في المادة الثانية والثالثة منه. هنا إطلالة تاريخية على مصطلح “البلاد السورية” والنظام الاتحادي الذي أقره ذلك الدستور.
حتى بداية القرن العشرين، كان تعبير “البلاد السورية” متداولاً بين السوريين للإشارة إلى بلادهم، لكنه لم يعد قيد الاستخدام، ولم يبق منه إلا أُثرٌ يحفظه الفلسطينيون اليوم، يشيرون إلى فلسطين بتعبير الجمع: “البلاد”.
لا أعرف تماماً أصل هذا التعبير، لكنه كان مناسباً لوصف سوريا التي لم تعرف حكماً مركزياً وتوحيداً سياسياً من داخلها. فهذه البلاد، ومنذ الأزمنة القديمة، لم تعرف سوى دول-مدن عديدة تشبه اليونان القديمة أو الدول-المدن الإيطالية في العصور الحديثة المبكّرة. كان هذا منذ أيام الكنعانيين والآراميين، واستمرّ حتى أيام الإمارات العديدة في بلاد الشام، غداة بدء الحروب الصليبية، رغم واقع الوحدة الثقافية واللغوية التي تمتّعت بها البلاد السورية، والتي وصلت في عهد الامبراطورية الفارسية إلى حدّ فرضها لغتها الآرامية لغةً رسمية لها. أما الوحدة السياسية للبلاد السورية، فقد تحقّقت تحت حكم أجنبي، حكم المصريين والفرس واليونان والرومان ومن ثم العرب، ولاحقاً الأيوبيين والمماليك والعثمانيين أخيراً. جميعها إمبراطوريات كبرى تأسّست خارج الاقليم السوري وأخضعت الأخير لسلطانها ليحظى السوريون بسلطةٍ سياسية واحدة تحكمهم. وكان الأمويين استثناء لإمبراطوريةٍ مركزها في سوريا، دمشق.
يجد هذا الحال تفسيره في طبيعة البلاد السورية الجغرافية الممتدّة من الساحل إلى البادية، تفصل بينهما سلسلتا جبال تجعل الساحل نفسه ضيّقاً. كما أنّ أنهارها صغيرةٌ لا تصلح عموماً للملاحة، وليست هناك أراضي زراعية واسعة. في المحصلة؛ البلاد مقطّعة، وتحتاج إلى جهدٍ بشريّ كبير لبناء شبكة مواصلاتٍ بين أجزائها، وإدامتها وحفظها، كما أنّ مدنها أقرب إلى واحاتٍ لا تسمح بإنتاج فائض كبيرٍ يسمح بخلق جيش كبير، وجهاز دولة واسع، يمكّن مدينة من هذه المدن من إخضاع المدن الأخرى. كان على الدول الكبرى أن تنشأ في بلادٍ خصبة، ذات زراعةٍ واسعة وشروط طبيعية أنسب للاتصال تسمح للدولة الكبيرة بالنشوء لتغزو هذه سوريا وتوحدها، وهذا ما كانت تؤمّنه بلاد الرافدين ومصر وفارس والأناضول التي أتت من الإمبراطوريات الموحدة للبلاد السورية سياسياً.
في هذا السياق، كان تعبير “البلاد السورية” مناسباً، فالبلاد السورية كانت حقاً بلاداً عديدة، على رغم امتلاكها وحدةً ثقافية بدرجة عاليةٍ نسبيّاً. في نهاية العهد العثماني، لم تكن البلاد متنوّعة إثنياً ودينياً وطائفياً وحسب، إنما امتلك كلُّ إقليمٍ فيها شخصياته وذاكرته واهتماماته ومجالاته الحيوية المختلفة. حلب، التي حطمتها حدود الدول الحديثة، امتلكت ريفاً واسعًا يمتد إلى أضنة وعينتاب ومينائها البحريّ (اسكندرون) والبريّ (الموصل)، وكانت حلب بعيدة عن دمشق وريفها الجنوبي الممتد إلى حوران وفلسطين ومينائها (بيروت). حلب، المدينة الأكبر في سوريا، كانت عاصمةً اقتصادية للدولة العثمانية، فهي صاحبة تاريخٍ تجاري عريق مرتبط بخط الحرير، وصل وكلاء بيوتها التجارية يوماً إلى المدن الأوربية. فيما كانت دمشق مجرّد واحةٍ واسعة، ولها أهميتها الدينية أساساً. لم تصعد أهمية دمشق إلا متأخراً مع بناء بيروت وصعودها، وانطلاق الزراعة في حوران وفلسطين وبناء شبكة طرق تصل هذه الأقاليم بدمشق. رغم تشابههما الثقافي الكبير، حظيتْ حلب ودمشق بشخصيتين متغايرتين بسبب السياقات التاريخية المتباينة لهما، وهذه كانت حال سوريا بكلّ بساطة.
بانتهاء الحكم العثماني وتأسيس المملكة السورية، انطلقت أعمال المؤتمر السوري الأول الذي أصدر الدستور الأوّل لسوريا. ويبدو أنّ الرعيل الأول كان مدركاً حقاً لمعنى تعبير “البلاد السورية”، حيث نصَّ الدستور السوري على وجوب إقامة حكمٍ اتحادي (في نسخة القانون الأساسي للولايات السورية المتحدّة المقدمة إلى لجنة كينغ-كراين استخدم تعبير حلفي كترجمة لفدرالي، ووضعت “فدرال” -هكذا- بين قوسين. وفي النسخ المتداولة للدستور السوري اُستخدم تعبير اللامركزية الواسعة للإشارة إلى فدرالي) في البلاد، ومقاطعات تُدار باللامركزية الواسعة كما أقرّ في المادة الثانية والثالثة من الدستور، وخُصّص الفصل الحادي عشر من هذا الدستور للمقاطعات، وهو يحتوي على ثلاثٍ وعشرين مادةً تُحدّد مجالسها الانتخابية وشروطها وحقّها في إقرار القوانين وتشكيل المحاكم الخاصة بهذه المقاطعات ومسؤولية الوالي، المُعيّن من قبل الملك، أمام المجلس النيابي لهذه الولاية. ظهرت الفيدرالية في أوّل وثيقة سياسية أقرّها سكان البلاد السورية بأنفسهم، وتحديداً لحماية وتأكيد استقلالهم في مواجهة تهديد الاحتلال الغربي لهم.
لم يقتصر إدراك العديد من السياسيين والمثقفين السوريين وقتها على تنوّع البلاد السورية وتباين احتياجاتها، بل أدركوا ضعف الهُويّة الوطنية السورية في العموم، باعتبارها هوية حديثة وناشئة، مقارنة بالهويات التي اعتادها السوريون واعتادوا تنظيم حياتهم تبعاً لها، هوياتهم الدينية والمناطقية والعشائرية وغيرها من الهُويّات التي تنتمي إلى مجال الخبرة اليومية. لهذا يلحظ المرء في لغة ذلك العصر مفرداتٍ غابت لاحقاً عن قاموس الحياة السياسية والثقافية، مفرداتٌ تحيل إلى العمران والتنئشة والآداب والمدنية والتهذيب، وتأكيدهم على الوطنية وضرورة تربية النفس بها. وسوف يكون مغرياً ملاحقة هذا القاموس، كيف انتقى هؤلاء المثقفون والسياسيون مفرداته، وصاغوا لغته كتابةً وتحدّثوا بها، وكيف تحوّلتْ مع السنين، حتى لا تبقى مجرّد انطباعاتٍ خاصة يخرج المرء بها من قراءاته. كان لسان حال الطبقة السياسية والثقافية وقتها مثل حال نظرائهم الإيطاليين بعد تحقيقهم الوحدة الإيطالية، حيث كتب رجل الدولة الإيطالي ماسيمو دازجليو تعليقاً بليغاً في مذكراته: “لقد خلقنا إيطاليا، والآن علينا خلق الإيطاليين”. لكنّ مغامرة السوريين انتهتْ وقتها بالاحتلال الفرنسي، ولم يصدر الدستور السوري.
تضاءلت أهمية “الاتحادية” في خضم المواجهة الأولى مع الفرنسيين وتقسيمهم للبلاد، ومن ثم إعادة توحيدها 1930 مجدّداً، وغياب الفيدرالية عن التقليد الفرنسي المشبع بفكرة المركزية الصارمة. ولهذا شعرت الحركة الوطنية، وتحديدًا الحكومة الوطنية التي تولت الحكم بين عامي 36-39، بالحاجة إلى تأكيد سلطتها على سوريا، وخاصة على مناطقها الطرفية البعيدة عن مدن سوريا المركزية. وهنا كانت بداية التوتر مع مناطق عديدة، مثل الساحل وجبل الدروز والجزيرة، حيث انتهت المنافسة بين الفرنسيين والحكومة الوطنية والقوى المحلية في الجزيرة إلى ما يشبه ثورةً صغيرة انتهت بمذبحة عُرفت بـ طقّة عامودا. وساد توتر لن ينقطع مع نخب الساحل وجبل الدروز، حتى في عهد الاستقلال التالي. بعد الاستقلال صاغ السوريون دستوراً ثانياً (دستور 1950) غابت عنه الاتحادية، إنما بقيت الحقوق الشخصية والفردية وتقييد السلطة التنفيذية ومسؤوليتها أمام التشريعية واستقلال القضاء. كما بقيت اللغة ومفرداتها تقريباً كما يشهدها المرء، لدى المثقفين والسياسيين على السواء، كما تشهد بذلك مذكرات خالد العظم.
لم يطل المقام بهذا الدستور، الأكثر مركزيةً، طويلاً حتى انهار أمام الضربات المتلاحقة من الجيش، والتي بدأت مبكراً بعد الاستقلال مع انقلاب حسني الزعيم 1949. ربما حفظ النظام الاتحادي لسوريا، لو قُدّر بقاؤه، قدرتها على مواجهة الانقلابات التي لم يكن عليها سوى احتلال بضعة أبنية في دمشق حتى تُسقط البلد بأكمله. احتمالٌ لم يعد يجدي للماضي، لكنه قد يفيدنا الآن.
حكاية ما انحكت
———————————————-
أكبر مشكلة تواجه سوريا: سبل إعادة ملايين اللاجئين والنازحين إلى وطنهم/ جيسي ماركس و حازم ريحاوي
الأربعاء 19 فبراير 2025
عودة النازحين الجماعية بصورة غير منظمة تزيد ربما من استنزاف الموارد المحدودة أصلاً في البلاد، مما يفرض ضغوطاً هائلة على السلطات السورية الانتقالية ووكالات الأمم المتحدة والمجتمع المدني لتلبية حاجات المواطنين بطريقة تعزز الاستقرار والتعافي.
أثارت الهزيمة الصادمة لنظام بشار الأسد على يد الجماعات المتمردة بقيادة “هيئة تحرير الشام” موجة من التفاؤل المحلي والدولي. ومع ذلك، فإن مستقبل سوريا بعد الأسد يقف بالفعل على حافة الهاوية. والعقبات التي تحول دون إعادة إعمار البلاد هائلة، وعلى رأسها قضية اللاجئين الذين أجبروا على مغادرة البلاد خلال الحرب الأهلية السورية التي استمرت لعقد من الزمان. وقد تصبح عودة هؤلاء اللاجئين أكبر عملية إعادة توطين منذ عقود، مع وجود أكثر من ستة ملايين لاجئ سوري في الخارج، وسبعة ملايين نازح داخل البلاد. وعاد مئات آلاف السوريين بالفعل لوطنهم، مدفوعين برغبتهم في تفقد الممتلكات التي تركوها وراءهم، أو الهرب من الفقر والاضطهاد في البلدان المستضيفة، أو لمّ شملهم مع عائلاتهم، أو المشاركة في الفصل التالي من تاريخ بلادهم.
لكن البلد الذي يعودون له يختلف اختلافاً جذرياً عن البلد الذي غادروه. فدمار المنازل والبنية التحتية الحيوية وفقدان الأحبة، وانتشار الفقر وخطر اندلاع أعمال العنف مجدداً وعدم اليقين المحيط بقادة البلاد الجدد الذين يفتقرون إلى الخبرة، إضافة إلى الأزمة الإنسانية المستمرة منذ العقد الماضي، كلها أمور جعلت الحياة لا تطاق بالنسبة إلى ملايين السوريين الذين ما زالوا داخل البلاد. ومن الممكن أن يعود مئات الآلاف من السوريين الآخرين في الأشهر المقبلة، مما قد يؤدي إلى تفاقم الوضع المتأزم والمزري أساساً. ومن المعلوم أن عودة النازحين الجماعية بصورة غير منظمة تزيد ربما من استنزاف الموارد المحدودة أصلاً في البلاد، مما يفرض ضغوطاً هائلة على السلطات السورية الانتقالية ووكالات الأمم المتحدة والمجتمع المدني السوري لتلبية حاجات المواطنين بطريقة تعزز الاستقرار والتعافي.
إن مستقبل سوريا يعتمد على مهمة تاريخية، وهي تيسير عودة اللاجئين السوريين لديارهم في بلد غارق في الاضطرابات، وفي الوقت نفسه تلبية حاجات السوريين الذين ظلوا فيه. والتحدي الآن يكمن في تنسيق هذه العملية بصورة صحيحة. لذا يتعين على الدول المجاورة والمنظمات الدولية والحكومة الانتقالية السورية الجديدة أن تتعاون لإنشاء برنامج لإعادة اللاجئين قادر على إدارة عودتهم وحماية حقوق الفئات الضعيفة وحل النزاعات القانونية المتعلقة بالأراضي وإعادة تشكيل المجتمع السوري بعد الحرب. بطريقة موازية، يتعين على الحكومة الانتقالية والمنظمات غير الحكومية المحلية والدولية أن تعمل معاً، على رغم الشكوك المتبادلة بينها، لدعم الحاجات الإنسانية العاجلة والمستمرة للسوريين الذين لم يغادروا البلاد قط. فالتركيز على اللاجئين العائدين من دون إيلاء اهتمام كافٍ لمن بقوا من شأنه أن يخلق ظروفاً يمكن أن تدفع البلاد مجدداً إلى أزمة قبل أن تتاح لها فرصة إعادة البناء. هذه لحظة أمل بالنسبة إلى سوريا، لكن العمل الحقيقي لإعادة إعمارها بدأ للتو.
في حال تغير مستمر
شهد عام 2024 تحولاً كبيراً في أعداد اللاجئين العائدين لسوريا. فمنذ عام 2020، ظل عدد العائدين السوريين سنوياً أقل من 51 ألفاً، أي أقل من واحد في المئة من إجمالي 6.8 مليون لاجئ سوري في العالم، مما يمثل أكثر من ربع سكان سوريا قبل الحرب. وبحلول أغسطس (آب) 2024، عاد نحو 34 ألف لاجئ، ولكن بعد غزو إسرائيل للبنان في أكتوبر (تشرين الأول) 2024، فرّ 350 ألف لاجئ إضافي من لبنان إلى سوريا هرباً من الصراع. ومع عودة 125 ألف لاجئ آخرين منذ سقوط الأسد في أوائل ديسمبر (كانون الأول) من العام نفسه، بلغ العدد الإجمالي للعائدين عام 2024 ما يقارب نصف مليون شخص. ووفقاً للأرقام الصادرة عن الأمم المتحدة، عاد 125 ألف لاجئ آخرين عام 2025. ومن الممكن أن ينضم إليهم قريباً عشرات آلاف السوريين المعرضين للترحيل القسري من الدول المجاورة التي قد تستخدم رحيل الأسد كذريعة لطردهم.
لكن لا يمكن اعتبار أن كل من عاد ينوي البقاء بصورة دائمة. فكثير من السوريين يعودون لتفقد ممتلكاتهم وتقييم الأوضاع الأمنية والاقتصادية بعد انهيار النظام، أو للالتقاء بأسرهم. وبالنسبة إلى آخرين، فإن العودة هي الخيار الوحيد للهروب من الظروف المتدهورة في البلدان المستضيفة، حيث أدت الصعوبات الاقتصادية وارتفاع كلف المعيشة وتضاؤل الفرص إلى جعل الحياة صعبة أكثر فأكثر. وإذا استقرت الأوضاع في سوريا وتحسنت الظروف الاقتصادية في ظل حكومتها الجديدة، فمن المتوقع أن يزداد عدد العائدين الدائمين بصورة كبيرة.
ومن الممكن أن يواجه اللاجئون السوريون في البلدان المجاورة ضغوطاً للعودة قبل الأوان (أو حتى الترحيل الفوري) من البلدان المجاورة التي باتت أكثر مقاومة لاستضافة أعداد كبيرة من اللاجئين، وسط تدهور اقتصادي حاد وضغوط سياسية داخلية، وفي حالة لبنان، حرب خاصة به. وانعكست هذه الضغوط على اللاجئين السوريين في صورة قمع حكومي وحرمان من الإقامة القانونية وعدم منحهم صفة اللجوء وفرض قيود شديدة على الحقوق الأساسية والخدمات الإنسانية. ومما يزيد من تعقيد المشكلة الانخفاض الحاد في تمويل المانحين الدوليين للدول المستضيفة وبرامج إعادة توطين اللاجئين على مدى الأعوام الخمسة الماضية، نتيجة الإرهاق المالي للمانحين والتباطؤ الاقتصادي العالمي بعد جائحة كورونا، مما قلص موازنات المساعدات الإنسانية عالمياً. ويشكل هذا الضغط عبئاً إضافياً على حكومات تعاني بالفعل في تأمين حاجات مواطنيها، مما يغذي دعوات متزايدة من المجتمعات المستضيفة إلى إعادة اللاجئين لبلادهم. وبدأ كل من لبنان وتركيا بالفعل بترحيل اللاجئين السوريين على نطاق واسع منذ عام 2022، بالتالي العودة لوطنهم على رغم استمرار الحرب الأهلية. ومن شأن عمليات الترحيل الجماعي أن تقوض الاستقرار الذي تسعى هذه الدول المستضيفة إلى تحقيقه في سوريا.
وفي الوقت نفسه، لن يجد معظم العائدين مكاناً يعودون له داخل سوريا وستكون لديهم موارد محدودة لإعادة بناء حياتهم. وفي الواقع، لا تزال مساحات شاسعة من البلاد غير صالحة للسكن بسبب الدمار الذي خلفته الحرب، إذ بقيت أحياء بأكملها ضمن المدن الكبرى مثل حلب ودمشق والرقة في حال خراب وقرى بأكملها مدمرة. وانكمش الاقتصاد السوري بنسبة تزيد على 80 في المئة منذ بداية الحرب عام 2011. وأدى انتشار البطالة والتضخم المستشري إلى ارتفاع معدل الفقر إلى 90 في المئة. ويؤدي الافتقار إلى البنية الأساسية والمياه النظيفة والكهرباء والرعاية الصحية والمدارس إلى تعقيد إمكان إعادة الاندماج [أي عودة النازحين وانضمامهم إلى المجتمع بعد فترة من الغياب] على نطاق واسع. ووجد عدد كبير من العائدين أن منازلهم استولى عليها آخرون أو تعرضت للدمار الكامل، مما أدى إلى نشوب نزاعات على السكن والأراضي والملكية. وفي غياب هيئات رسمية قائمة للتوسط، فإن هذه الخلافات غير المحلولة من المرجح أن تؤدي إلى تصعيد التوترات وتزيد من تقويض الاستقرار الهش الذي نشأ بعد سقوط الأسد.
التعاون الجماعي يحقق النتائج
في سوريا، كما هي الحال في أي بلد بعد الصراع، فإن العودة الطوعية للاجئين تستلزم أكثر من مجرد عودتهم لديارهم. فهي تتطلب تحسناً شاملاً للأبعاد السياسية والقانونية والاجتماعية والاقتصادية المتشابكة. وفي حين أن العودة للوطن عملية مستمرة وثابتة، إلا أنها غالباً ما تُعامل على أنها مسألة ثانوية من الجهات الفاعلة الحكومية التي تعطي الأولوية لبناء الدولة وتحقيق الاستقرار والتعافي المبكر وإعادة الإعمار. ونتيجة لذلك، يمكن أن تحدث العودة بصورة فوضوية من دون أي هيكل أو تنظيم، مما يجعل العائدين عرضة للخطر ومنفصلين عن الجهود الأوسع التي تهدف إلى تعافي السكان الموجودين.
لتجنب الوقوع في هذا الفخ، تحتاج سوريا إلى وضع خطة متماسكة لإعادة اللاجئين المبكرة إلى الوطن من أجل ضمان دمج العائدين في عملية التنمية الطويلة الأجل وعدم تقويض عملية التعافي. ويمكن للحكومة الانتقالية السورية إنشاء إطار تعاوني من خلال التعامل مع مفوضية الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين، الوكالة الرائدة المعنية بإدارة عودة اللاجئين، ومع الدول المجاورة، بما في ذلك الأردن ولبنان وتركيا، لإدارة العودة المستمرة بصورة فاعلة وضمان وفاء الجهات الفاعلة الإقليمية بتعهداتها لمنع العودة القسرية. كما يجب على دول اللجوء أن تعِد بعدم دفع اللاجئين إلى العودة وأن تسمح للمفوضية السامية لشؤون اللاجئين UNHCR بإدارة عملية عودة طوعية تدريجية ومنظمة وأن تمنح حق العودة للسوريين الذين يختارون العودة موقتاً لسوريا في “زيارات استطلاعية” لتقييم الظروف. وينبغي للمفوضية والمجتمع الدولي تحفيز الدول على احترام هذه الالتزامات من خلال ربط المساعدات الإنسانية والتنموية بالامتثال. ويمكن استخدام حزمة مساعدات التنمية التي قدمها الاتحاد الأوروبي للبنان عام 2024 والمساعدات الإنسانية والتنموية بقيمة 1.2 مليار دولار التي يتلقاها الأردن من الولايات المتحدة سنوياً، كأدوات ضغط فاعلة بصورة خاصة.
واستطراداً، يمكن أيضاً الاستفادة من الدول المانحة غير التقليدية، بخاصة دول الخليج العربي، لتوفير موارد إضافية تحفز دول اللجوء على الامتثال. كذلك، يمكن في وقت لاحق توسيع إطار إعادة اللاجئين إلى وطنهم ليشمل الاتحاد الأوروبي ودولاً أخرى تستضيفهم خارج الشرق الأوسط، بحيث يمكن إدارة العودة الطوعية من أوروبا بصورة مستدامة بالتنسيق مع مفوضية الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين عندما تتحسن الظروف الاقتصادية والأمنية في سوريا. وإذا انزلقت سوريا مرة أخرى إلى الصراع، فإن العودة المتسرعة أو القسرية لن تؤدي إلا إلى موجات جديدة من تشريد العائدين الذين قد يفرون مرة أخرى إلى البلدان المجاورة بحثاً عن الأمان. لذا، فإن إنشاء نهج واضح ومنسق من شأنه أن يساعد في تجنب الدفع الخطر نحو العودة الجماعية قبل أن تكون البلاد مستعدة لذلك.
ستكون حكومة تصريف الأعمال في سوريا مسؤولة عن إدارة العودة على نطاق واسع، لكنها بحاجة إلى تعزيز قدرتها المؤسسية لتحقيق ذلك بصورة فاعلة. إن إعادة بناء مؤسسات الدولة أمر بالغ الأهمية لاستئناف تقديم الخدمات العامة وإعادة تأهيل البنية التحتية واستعادة الخدمات المدنية الأساسية، على رغم أن إعادة بناء قطاع عام قادر على تنفيذ هذه المهمات سوف يستغرق وقتاً طويلاً. وستتحمل هذه الحكومة الموقتة أيضاً مسؤولية معالجة التحديات التي سيواجهها العائدون، بما في ذلك ضمان حمايتهم وتعزيز عملية إعادة اندماجهم في المجتمعات المحلية واستعادة حقوقهم في السكن والأراضي والممتلكات وبناء مساكن ومجتمعات جديدة للسوريين الذين يعودون لديارهم ليجدوا أن الحياة التي تركوها وراءهم دُمرت بالكامل بسبب الحرب. وستحتاج الحكومة إلى تنظيم عملية توثيق الأحوال المدنية وإنشاء آليات قانونية شفافة لحل النزاعات على الأراضي والممتلكات وتوفير الحماية والدعم للفئات الضعيفة، بما في ذلك الأقليات والنساء والأطفال ذوي الإعاقة. وستحتاج أيضاً إلى تقديم مساعدات إسكانية ومالية للسوريين الذين قد يصبحون هم أنفسهم نازحين بعد استعادة العائدين ممتلكاتهم، وحل التوترات التي من المتوقع أن تنتج من ذلك.
ولكن لا يمكن للحكومة، ولا يجوز لها، أن تتولى بذل هذا الجهد الضخم بمفردها. وبمجرد تحسن الظروف في سوريا، ستكون المفوضية السامية لشؤون اللاجئين في وضع أفضل لتسهيل عودة اللاجئين الطوعية، ولكن يتعين عليها أن تبدأ بتوسيع نطاق مراقبة نوايا اللاجئين وتوثيق تدفقات العائدين وضمان حصولهم على الخدمات في المناطق التي يعودون لها. ويمكن للمفوضية أن تدعم جهود الحكومة الموقتة وترشدها في صياغة القوانين الوطنية وتعديلها بما يتماشى مع الحماية القانونية الدولية للنازحين. إلى جانب ذلك، يمكن للمفوضية دعم الحكومة في جهودها الرامية إلى تحسين إصدار الوثائق المدنية للسوريين النازحين داخل سوريا وخارجها، مثلما فعلت خلال أزمة اللاجئين في كل من العراق وأفغانستان.
خدمات إعادة بناء الوطن
سيعتمد نجاح إدارة عملية إعادة النازحين إلى الوطن على تحقيق الحكومة الانتقالية السورية لمستوى أساسي من الاستقرار وبناء قدرة محلية لمعالجة التحديات الإنسانية المتعددة القائمة بالفعل. ويظل خطر تجدد النزاع مرتفعاً، كما أن النزوح الداخلي مستمر منذ سقوط الأسد، بسبب الاشتباكات المستمرة بين الجماعات الموالية لتركيا و”قوات سوريا الديمقراطية” ذات الغالبية الكردية والمدعومة من الولايات المتحدة في شمال شرقي سوريا. وقد يؤدي الانسحاب الأميركي المحتمل من سوريا إلى تفاقم هذه التحديات. علاوة على ذلك، فإن تجميد إدارة ترمب للمساعدات الخارجية الأميركية وتقليص دور الوكالة الأميركية للتنمية الدولية (USAID) يهددان برامج المساعدات الإنسانية والتنموية في جميع أنحاء البلاد، بما في ذلك تمويل مفوضية الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين، في وقت لا يزال ملايين السوريين يعتمدون على المساعدات الإنسانية. وإن الحفاظ على الاستجابة الإنسانية في سوريا وتعزيزها، جزئياً من خلال توسيع دور منظمات المجتمع المدني التي تقود هذه الجهود حالياً، أمر بالغ الأهمية لتحسين الظروف على الأرض وتحقيق عودة واسعة النطاق للسوريين في نهاية المطاف.
وتعلم العاملون في المجال الإنساني من الصراع السوري أن الحفاظ على إمكان الوصول إلى جميع أنحاء سوريا خلال أوقات الأزمات يتطلب الإبقاء على طرق مفتوحة مع البلدان المجاورة. فإذا استؤنف النزاع، يبقى بإمكان وكالات الأمم المتحدة والمنظمات الإنسانية الوصول إلى المحتاجين عبر الحدود. وأثبت نهج “سوريا بأكملها” الذي أنشأه مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، أنه النموذج الأكثر فاعلية في إيصال المساعدات إلى سوريا. وفي الواقع ينبغي الحفاظ على هذا النموذج الذي يعتمد على شبكة من مكاتب الأمم المتحدة في الأردن وتركيا المجاورتين لتنسيق عمليات الإغاثة عبر الحدود ومراقبة الأوضاع من داخل سوريا وخارجها. أما مراكز الأمم المتحدة الرئيسة في عمان بالأردن وغازي عنتاب بتركيا التي تمتلك البنية التحتية المناسبة والقدرة اللازمة لتسهيل العمليات عبر الحدود على نطاق واسع، فيجب أن تظل مفتوحة وأن تستمر في إيصال المساعدات إلى سوريا وتنفيذ مهمات المراقبة، بخاصة في المناطق حيث تشتد الحاجة إلى المساعدات الإنسانية وحيث من المرجح أن يستقر عدد كبير من العائدين، لدعم جهود إعادة الاندماج.
ويتعين على المنظمات غير الحكومية التي يقودها السوريون أن تتولى دوراً موسعاً في تلبية الحاجات الإنسانية الفورية وجهود التعافي الطويلة الأمد. فقد شكلت هذه المنظمات العمود الفقري للاستجابة الإنسانية في البلاد طوال أعوام الحرب. فهي تمتلك معرفة محلية عميقة وشبكات قائمة تسمح بتسهيل جهود الإغاثة الفورية وإعادة الاندماج وإعادة الإعمار، كما أن لديها مرونة تشغيلية تسمح لها بالعمل بفاعلية في المناطق التي تعاني غياب مؤسسات الدولة. وتعمل منظمات المجتمع المدني أيضاً بصفتها جهات فاعلة محايدة قادرة على بناء جسور بين السوريين والسلطات الانتقالية، لا سيما في المجتمعات التي تشعر بالقلق تجاه الحكومة أو تلك المعرضة للتوترات الطائفية. ومن المرجح أن تحظى هذه المنظمات بثقة وقبول أكبر في المجتمعات المحلية، مما يقلل من احتمال نشوب صراعات محلية بسبب انعدام الثقة أو سوء الفهم. ولتعزيز تأثير المنظمات غير الحكومية وضمان فاعليتها، يتعين على الحكومة الموقتة وضع إرشادات قانونية وسياسات واضحة توجه أنشطة تلك المنظمات نحو سد الفجوات الأساسية في الخدمات، مع ضمان خضوعها للمساءلة والشفافية. فخلال الحرب، اضطلعت المنظمات غير الحكومية بدور القيادة الفعلية للقطاع العام في ظل غياب الدولة. لكن مع نضوج الحكومة الجديدة [مع اكتساب الحكومة الجديدة مزيداً من الخبرة والاستقرار]، ينبغي لهذه المنظمات أن تنقل إلى الدولة مسؤولية إدارة القطاع العام المعاد تنشيطه، مع الاستمرار في تقديم الدعم والخدمات لمجتمعاتها. ويمكن للجان المشتركة التي تضم السلطات المحلية والمنظمات غير الحكومية والقطاع الخاص ضمان أن تكون جهود التعافي شاملة ومتماشية مع الحاجات الخاصة بكل مجتمع محلي.
ينظر المجتمع الدولي إلى منظمات المجتمع المدني السورية بصورة أكثر إيجابية من الحكومة الموقتة التي صُنف قادتها على أنهم إرهابيون في البلدان من البلدان حتى وقت قريب. وعلى رغم أن الترخيص العام رقم 24 الصادر عن وزارة الخزانة الأميركية الذي يجيز مجموعة متنوعة من المعاملات في سوريا لتسهيل تدفق المساعدات والخدمات الإنسانية، يوفر بعض الاستثناءات من العقوبات المفروضة على الدولة السورية، فإن المنظمات غير الحكومية تظل قناة موثوقة يمكن للمانحين الدوليين استخدامها لمواصلة تمويل الاستجابة الإنسانية في سوريا بينما تظل العقوبات الأوسع سارية. ولكن ينبغي للعالم ألا يرى في المنظمات غير الحكومية بديلاً دائماً عن دور الحكومة، بغض النظر عن الخلافات الأيديولوجية مع “هيئة تحرير الشام” والفصائل المسلحة الأخرى. ولكي تمضي جهود التعافي قدماً بصورة مستدامة، يجب أن يُنظر إلى الحكومة على أنها شرعية وقادرة على إدارة عملية إعادة الإعمار.
نقطة العودة
إن الفشل في تنسيق عودة اللاجئين السوريين ستكون له عواقب وخيمة على سوريا والدول المستضيفة المجاورة واللاجئين السوريين أنفسهم. فاستقرار سوريا يعتمد على التعافي الوطني المستدام، ومن الممكن أن يؤدي تدفق العائدين إلى إرهاق الحكومة الناشئة، مما يقوض استقرار الدولة الهش. وقد تعاني الدول المستضيفة أيضاً إذا أثارت عودة اللاجئين بطريقة فوضوية أزمة أخرى في سوريا، مما قد يدفع آلاف اللاجئين الجدد إلى حدود تلك الدول سعياً إلى الدخول. وبالنسبة إلى اللاجئين السوريين، فإن العودة غير المنسقة أو المبكرة قد تعني الوقوع مجدداً في براثن الفقر المدقع ومواجهة خطر النزوح مرة أخرى، أو حتى الموت، على رغم أن الأوضاع بدت في طريقها إلى التحسن.
وعلى النقيض من ذلك، فإن عملية العودة وإعادة الاندماج المنظمة من شأنها أن تسمح لسوريا بتحقيق استقرار اقتصادي وسياسي دائم من دون تحميل مؤسسات الدولة أو المجتمع المدني السوري أو وكالات الإغاثة أعباء إضافية. وغالباً ما تكون عمليات العودة فوضوية، ولكن كما تبين من النجاحات في العراق وأفغانستان، فإن تنسيق العودة للوطن يمكن أن يعزز حماية المجتمعات النازحة ويقلل من احتمالات نزوحها مجدداً بعد العودة. وأنشأ الاتفاق الثلاثي لعام 2003 بين حكومتي أفغانستان وباكستان ومفوضية الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين إطاراً طويل الأمد لحماية حقوق اللاجئين العائدين ومراقبة عودتهم الطوعية وتسهيلها. وفي العراق، ساعد التعاون الحكومي المستمر مع مفوضية الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين في توفير الحماية والدعم لملايين العراقيين النازحين داخلياً وخارجياً الذين عادوا لديارهم في وقت لاحق وسط النزاع الداخلي. والدرس الذي يجب أن تتعلمه سوريا هو أن إشراك البلدان التي ينتمي إليها اللاجئون وتلك التي تستضيفهم مع مفوضية الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين في جهود التعافي لن يزيل بصورة كاملة الأخطار والأعباء المترتبة على إعادة اللاجئين إلى وطنهم، لكنه الطريقة الأكثر فاعلية لإدارة التعقيدات المتعددة التي من الممكن أن تنشأ.
إن مستقبل سوريا يتوقف على العودة الآمنة والكريمة للاجئين الذين سيساعدون في إعادة بناء أمة أنهكتها أعوام من الصراع. ويتعين على السوريين، بالتعاون مع الأمم المتحدة والمجتمع الدولي، اغتنام هذه اللحظة لوضع أسس السلام الدائم. وإذا لم يفعلوا ذلك، فإن سوريا تخاطر بالانزلاق إلى حال أعمق من عدم الاستقرار، مما يترك ملايين العائدين عالقين في بلد غير قادر على إعالتهم. إن نافذة الفرصة تضيق، وثمن التقاعس عن العمل سيلاحق السوريين لأجيال مقبلة.
مترجم عن “فورين أفيرز” 11 فبراير (شباط)، 2025
جيسي ماركس هو كبير المدافعين عن الشرق الأوسط في منظمة اللاجئين الدولية.
حازم ريحاوي هو كبير المسؤولين عن حملات الدعم والاتصالات في “الخوذ البيضاء” (الدفاع المدني السوري).
————————————
إدارة مؤسسات الخدمة العامة بعد سقوط نظام الأسد/ محمد بقاعي
19 شباط/فبراير ,2025
مقدمة
إن نجاح الحكومة في مجتمع ما بعد الصراع يعتمد على أداء مؤسسات الخدمة العامة في تقديم الخدمات الأساسية للسكان، واستعادة الثقة في الحكم، حيث إن تقديم الخدمات العامة بشكل فعال يُعَدّ عنصرًا أساسيًا في تنظيم المجتمع وإدارة الأموال وتقديم الخدمات، ولكن في بيئات ما بعد الصراع عادةً ما يكون هناك نوع من التوازن بين الهدف البعيد، المتمثل في بناء الدولة وتأمين السلام، والاستقرار في المدى القريب[1]، ولذلك تسعى النخب السياسية لإعادة توزيع الوظائف العامة وإدارة الموارد، بما يضمن بسط سيطرة فعلية على هذه المؤسسات، ويخفف من حدة الاحتقان لمن سيتم استبعادهم.
يتطلب إصلاح مؤسسات الخدمة العامة إصلاحَ الإدارة العامة، واختيار عمليات شاملة وتدريجية لهذا الإصلاح، وعادةً ما تتطلب عملية الإصلاح العملَ على تطوير ثلاثة أمور: الأساس القانوني الذي تقوم عليه حقوق وواجبات موظفي الخدمة المدنية؛ العلاقة بين فئات ودرجات التوظيف وهياكل الرواتب والمزايا؛ إجراءات التوظيف والترقية والإجراءات التأديبية وإنهاء الخدمة.
التحدي الرئيسي لا يكمن في تصميم مؤسسات جديدة بحد ذاتها، بل في تعزيز الآليات التي تضمن تصرّف الموظفين العموميين وفقًا للقواعد والقيم المتفق عليها. بمعنى آخر: يجب أن تكون القواعد الرسمية والقيم والنظم العقائدية الأساسية مفهومةً جيدًا، وأن تشمل جميع أصحاب المصلحة.
في السياق السوري بعد سقوط نظام بشار الأسد، واجهت الإدارة الجديدة في دمشق مجموعة من التحديات المعقدة التي تتطلب حلولًا فعّالة. من بين هذه التحديات، تبرز ضرورة تأمين الخدمات الأساسية والحاجيات الرئيسية للمواطنين. وتُعدّ إعادة تفعيل الخدمة العامة المدنية محورًا أساسيًا للتعامل مع هذه التحدي، وهو أمر يبدو نظريًا بسيطًا، لكنه عمليًا شديد التعقيد. وذلك بسبب مجموعة من التحديات التي واجهت إعادة تفعيل مؤسسات الخدمة العامة في الدول التي شهدت صراعات، وسورية ليست استثناءً من هذه القاعدة.
فمن خلال مراجعة الأدبيات السابقة، واستعراض تجارب الدول التي عاشت حالة صراع في كيفية تعاملها مع ملف تفعيل مؤسسات الخدمة العامة بعد مرحلة الصراع، يمكن تحديد أبرز هذه التحديات على النحو التالي:
إرث البيروقراطية السابقة.
القدرة على التحول.
حجم الهيكل الوظيفي.
دفع رواتب الموظفين الحكوميين.
الموارد البشرية التي يجب الاستناد إليها.
بناء هوية عمل مشتركة.
ضمان الاستقرار والسلام.
أولًا: إرث البيروقراطية السابق
تبني الأنظمة السياسية، سواء كانت ديمقراطية أو ديكتاتورية، بنى بيروقراطية تساعدها في تحقيق أهدافها. في ظل الأنظمة الدكتاتورية، يكون الهدف الأسمى هو المحافظة على النظام الدكتاتوري ومصالحه على حساب المصالح العامة، مما يؤدي إلى انتشار المحسوبية والفساد داخل البيروقراطية. وبناء على ذلك، تجد الإدارات الجديدة بعد نهاية الصراع نفسها مضطرةً إلى التعامل مع إرث بيروقراطي قائم على قيم وتوجهات موظفين مؤيدين للنظام السابق، مما يخلق تحديًا في إعادة بناء الموارد البشرية في الخدمة العامة بعد الصراع، وهو تعديل سلوك الموظفين العموميين. يقول مسؤول سيراليوني: “ما حصلنا عليه في نهاية الصراع كان إرث عشرين عامًا من دولة الحزب الواحد”[2].
وقد يمكن للبعض طرح فكرة الاستغناء عن هذه البيروقراطية واستبدالها، ولكن الأمر أكثر تعقيدًا، ومما لا شك فيه أن إلمام موظفي القطاع العام بالأنظمة القائمة قد يشكل مصدرًا لبناء القدرات. وعلى حد تعبير أحد قادة فريق عمل البنك الدولي: “إذا كان لديك نظام قائم، وكان الناس يفهمونه، فعليك توظيفهم. فلا جدوى من البدء من الصفر”[3].
يُعدّ النظام السياسي في سورية تحت آل الأسد نموذجًا لنظام سياسي دكتاتوري استطاع إعادة تنظيم الدولة ومؤسساتها لضمان استمرار بقائه، حيث كانت المصالح السياسية والمصالح الاجتماعية لنخبة النظام وحلفائه تتحكم إلى حد كبير في السياسات الاقتصادية[4]، حيث عمل النظام على تضخيم البيروقراطية الحكومية لدوافع سياسية.
فعدد الموظفين الحكوميين قد قفز قفزات سريعة، ولا يتسق هذا التضخم مع عدد السكان الذي تضاعف بأقل من ذلك، إضافة إلى أن النمو الاقتصادي المتواضع لا يُبرر هذا التضخم السرطاني في أجهزة الدولة الذي كان بدوافع سياسية، لتعزيز السيطرة على حساب الكفاءة والرشاد الاقتصادي، وهو ما أثقل كاهل الاقتصاد[5].
فيما يتعلق بتسكين الموارد البشرية في مؤسسات الخدمة، اعتمد نظام الأسد على مؤسسات حزب البعث، لضمان وصول الموالين له إلى تلك المناصب. أصبح حزب البعث العمود الفقري لهذه المؤسسات وسلَّمًا للتسلق الوظيفي. يقوم الحزب بتجديد طبقة النخبة بكوادر أيديولوجية ملتزمة[6]، ويصل نظام التوظيف التابع للحزب إلى المجتمع المحلي بطريقة منهجية، حيث يجذب عناصر بسيطة من الريف والمدن الصغيرة. ويعتمد الوصول إلى المناصب في الحكومة على شهادات أوراق اعتماد الحزب، مما مكن النظام من السيطرة على مؤسسات الخدمة العامة، من خلال استخدام الموارد البشرية والمالية[7].
ومن ثم، نجد أن الإرث البيروقراطي للنظام السابق يتمثل في بنية بيروقراطية مترهلة الحجم وضعيفة الكفاءة، إضافة إلى أن الثقافة الإدارية التي يحملها موظفو مؤسسات الخدمة العامة، وهي تقوم على استسهال التسيب في العمل العام وعدم الحفاظ على موارد الدولة وانتشار الفساد واستساغته، تعدُّ معطلة لأي خطة تغيرية يمكن للإدارة الجديدة العمل عليها.
ثانيًا: القدرة على التحوّل
يتوقف نجاح إضفاء الطابع المؤسسي على نظام جديد للإدارة العامة، في البلدان التي تمرّ بمرحلة ما بعد الصراع، على النهج الذي تتبعه الحكومة الجديدة في التعامل مع الإرث السابق، وخاصة الفساد والمحسوبية. في كل الأحوال، لا يؤدي العنف إلى تغيير أعداد العاملين في الخدمة المدنية فحسب، بل يشوّه أيضًا سلوك ودوافع من يبقون في الخدمة. على سبيل المثال، في البوسنة والهرسك، كانت الحرب بداية لممارسات غير مقبولة في القطاع العام، حيث عملت الأحزاب السياسية في السلطة على حماية مصالح عرقية ودينية معينة، وأدى ذلك إلى ازدهار الفساد والمحسوبية. وفي أوغندا عانت الخدمة العامة الفسادَ وعدم الالتزام. وقد استحدثت العديد من الدول التي تمر بمرحلة ما بعد الصراع مؤسسات جديدة، لكسر سلاسل التعاملات الفاسدة في مجال الحكم. على سبيل المثال، أنشأت أوغندا ورواندا مكتب المفتش العام للحكومة، على غرار مؤسسة أمين المظالم الإسكندنافية، لمحاولة كسر هذه السلسلة[8].
في السياق السوري، لم يكتفِ النظام بضمان ولاء الموارد البشرية من خلال التعيين والإقالة فقط، بل بنى معادلة مصالح دائمة مع موظفي مؤسسات الدولة. استخدم الأسد إدارة “القبض على المصالح”، لترسيخ سلطته وشراء الولاءات، حيث يُقال “الناس عبيد مصالحهم”، و “من يأكل من طبق السلطان يضرب بسيفه”. سعى الأسد إلى خلق مجموعات يرتبط مصيرها بمصيره، وترتبط مصالحها ببقائه، بحيث إذا ذهب، ذهبت معه. وبالتالي، تكون هذه القوى حريصة على بقائه بأي ثمن للحفاظ على مصالحها[9].
شكّل الفساد إحدى الأدوات الرئيسية لتنفيذ سياسات نظام الأسد وتحقيق أهدافه، إذ لم يكن لديه تمويل كافٍ لاسترضاء النخب الحاكمة والجماعات التي يسعى لكسب ولائها. لم تكن الرواتب ومزايا الدولة كافية لإرضاء الجهاز الحاكم أو لتكوين الثروات التي يطمحون إليها، لذا كان الفساد بأشكاله المختلفة الأداةَ الفعالة لربط كبار موظفي الدولة المدنيين والعسكريين بالنظام، من خلال المصالح المشتركة[10].
هذا السياق يفرض على الإدارة الجديدة تطوير استراتيجية جديدة للتعامل مع ملفّ الفساد، ويمكن للإدارة الجديدة إنشاء هيكل محاسبة خارج أطر المؤسسات السابقة، بما يسمح بكسر سلاسل الفساد القائمة.
ثالثًا: حجم الهيكل الوظائفي
تؤثر الصراعات في حجم الوظائف في مؤسسات الخدمة العامة، سواء كان ذلك بالنقص أو الزيادة. على سبيل المثال، فقدت تيمور الشرقية ما يقدر بنحو 7000 موظف مدني، بعد انهيار الحكم الإندونيسي في عام 1999، مما ترك فراغًا في جميع مجالات الحكومة. في المقابل، واجهت أوغندا مشكلة مختلفة تمامًا بعد انتهاء حربها الأهلية في عام 1986، حيث أصبحت الخدمة العامة في أوغندا بعد الصراع مكتظة بالموظفين الزائدين[11]. وتخلق حالة الفساد في هذه الدول ظاهرة “العمال الأشباح”، وهم موظفون مسجلون على كشوف رواتب الدولة من دون أي يكونوا موجودين عمليًا على رأس عملهم.
تعالَج هذه الظاهرة بالاعتماد على عمليات المسح، حيث تشير الدراسات الاستقصائية للتجارب الدولية إلى أن نتائج هذه العمليات كانت متباينة. في بعض الحالات، نجحت هذه العمليات في القضاء مؤقتًا على العمال الأشباح، وحققت بعض التوفير. على سبيل المثال، في سيراليون عام 2001، أسفر مسح موظفي الخدمة العامة عن شطب 6181 موظفًا من كشوف المرتبات، مما وفر للبلاد نحو 300 ألف دولار أميركي شهريًا. وأدى تدقيق الرواتب الناجح في سيراليون إلى إزالة 16 في المئة من موظفي الخدمة المدنية غير المؤهلين من جدول الرواتب[12]. ونظرًا لافتقار البلدان التي تمرّ بمرحلة ما بعد الصراع إلى الموارد اللازمة لمواصلة مراقبة عدد موظفي الخدمة العامة، فمن المرجّح أن يعود العمال الأشباح إلى كشوف المرتبات. ومن المفارقات في إعادة بناء الإدارة العامة بعد الصراع أن هذه البلدان تجد نفسها من ناحية تفتقر إلى العدد الكافي من الموظفين لإدارة الخدمة العامة، ومن ناحية أخرى، يكشف إحصاء بسيط للعاملين على كشوف المرتبات أن العدد أكبر مما تستطيع ميزانية البلاد تحمله.
من الأمثلة الناجحة لمثل هذا النظام المبسط، برنامج الرواتب الموثق في أفغانستان، الذي تم تجريبه لأول مرة في كانون الأول/ ديسمبر 2004، في 13 وزارة، في كابول. كان الغرض من برنامج الرواتب الموثق استعادة السيطرة الأساسية على من يحصل على راتبه في كابول، حيث يتم توزيع الرواتب نقدًا. يتطلب البرنامج من كل موظف أن يظهر شخصيًا أمام ممثل وزارة المالية، والبنك الذي يصرف الرواتب، والقسم المعني لتحصيل راتبه الشهري، حيث يتم التحقق من هوية المتلقي[13].
يشير الواقع السوري إلى وجود تضخم كبير في حجم موظفي الدولة. فقد كشف وزير المالية، محمد أبازيد، في تصريحات لوكالة (سانا)، أن الحكومة فوجئت بأن أعداد العاملين المسجلين في الجهات العامة أكبر بكثير من الأعداد الفعلية على أرض الواقع، مشيرًا إلى وجود خلل في القوائم المالية ووجود أسماء وهمية لأشخاص يتقاضون رواتبهم من المنزل من دون أن يسجلوا دوامًا فعليًا في مديرياتهم، نتيجة اتباع النظام السابق سياسة الوساطات والمحسوبيات. وأوضح وزير المالية أن الأعداد المسجلة للعاملين في الدولة تبلغ نحو مليون وربع المليون عامل، وهو رقم كبير جدًا، مقارنة بعدد السكان الذين كانوا تحت حكم نظام الأسد، ومقارنة بحجم الناتج الإجمالي للدولة السورية الذي يعدّ منخفضًا جدًا.
وعلى الرغم من هذا الحجم الكبير، قد تفتقد الإدارة الجديدة الثقة بهؤلاء الموظفين لإدارة الملفات والمناصب الحساسة في المرحلة الانتقالية، لذلك تفضل تعيين موظفين جدد أكثر موثوقية. يمكن ملاحظة ذلك من خلال إصدار الإدارة الجديدة عشرات القرارات لتعيين العديد من المسؤولين في المراكز الرئيسة، مثل الوزراء والمحافظين ومدراء المؤسسات المدنية والعسكرية. ولعلّ الرابط الرئيسي بين المعينين الجدد هو أنهم من المقربين للإدارة الجديدة، وكانوا مقيمين في مناطق سيطرة المعارضة سابقًا، ولكن هذا لا يلغي تعيين آخرين ممن كانوا يعملون في مؤسسات الدولة سابقًا.
رابعًا: دفع رواتب الموظفين الحكوميين
تواجه معظم البلدان التي تمرّ بمرحلة ما بعد الصراع ضغوطًا شديدة على قواعد الإيرادات وقدرات التحصيل. وفقًا لدراسة أجراها البنك الدولي شملت خمس دول خرجت من الصراع، بلغت النفقات على الأجور في أربع من هذه الدول ما يعادل أو يتجاوز 50% من إجمالي الإنفاق الحكومي[14]. وبناءً على ذلك، تتجاوز المشاكل التي تواجهها هذه البلدان في دفع رواتب موظفيها العموميين مسائل تحديد رواتب مختلفة لدرجات وظيفية مختلفة. غالبًا ما تكون البلدان التي تمر بمرحلة ما بعد الصراع غير قادرة على توفير أي أجور ذات معنى على الإطلاق. ولأن هذه البلدان تحتاج إلى اجتذاب أشخاص موهوبين إلى الخدمة العامة، فإن عدم القدرة على تعويضهم بشكل كافٍ يمثل تحديًا حقيقيًا.
الوضع في البلقان يوضّح ذلك، فعلى الرغم من ارتفاع مستوى البطالة، لم تفضل العديد من الكفاءات خيار الخدمة العامة الحكومية، بسبب انخفاض رواتبها. قد يُقرر الشباب الالتحاق بالخدمة الحكومية إذا كان بإمكانهم الاعتماد على العلاقات المناسبة، ثم يتركونها بعد فترة وجيزة للاستفادة، على نحو غير لائق في كثير من الأحيان، من المهارات والمعارف التي اكتسبوها حديثًا[15].
في السياق السوري، يُعَدُّ الوضع المالي المنهار للدولة السورية عائقًا أمام قدرتها على الاستمرار في الحفاظ على الكتلة البشرية الحالية من الموظفين. يأتي ذلك في ظلّ حديث الإدارة الجديدة عن خطتها لتحسين رواتب الموظفين وتحسين الخدمات. يبلغ متوسط راتب الموظف في سورية نحو 30 دولارًا أميركيًا، وفي حال تطبيق الزيادة المتوقعة، سيصل إلى 120 دولارًا. ومع ذلك، فإن هذا المبلغ لا يكفي لتلبية احتياجات الأسرة، ويشكل في الوقت نفسه عبئًا ماليًا على الإدارة الجديدة، قد لا تستطيع الوفاء به في ظل الدمار الاقتصادي الحالي.
خامسًا: الموارد البشرية التي يجب الاستناد إليها
السؤال المطروح يتعلق بمن ينبغي اختياره، وما هي صفاتهم، وما هي الأجور التي ينبغي أن يتقاضوها. على سبيل المثال، استوعبت جنوب السودان عشرات الآلاف من المقاتلين السابقين في الخدمة العامة لضمان السلام، ولكن ذلك قيد الحكومة بالتزامات الرواتب طويلة الأجل التي قد لا تؤدي إلى نتائج متناسبة.
وإضافة إلى عملية الاختيار، فإن تقديم أجور مناسبة في الخدمة العامة، لجذب الموظفين العموميين المهرة والاحتفاظ بهم وتحفيزهم، يُعدّ أمرًا بالغ الأهمية لبناء دولة قادرة. ومع ذلك، فإن الأدلة الدولية غير قاطعة فيما يتعلق بتأثير الأجر على نوعية المتقدمين الذين يختارون العمل في الخدمة العامة[16].
بعد انتهاء الصراع، لجأت الحكومات الجديدة إلى استخدام التمييز في الأجور كوسيلة للمحسوبية، حيث استهدفت الحكومة عددًا محدودًا من الوظائف ذات الأجور المرتفعة والتأثير الكبير لصالح دائرة ضيقة من النخب السياسية المرتبطة بها، فيما يعرف بـ “جزر الأجور المرتفعة” داخل الإدارة. وتُستخدم هذه الوظائف كمكافأة للموالين.
في السياق السوري، بدأت الإدارة الجديدة عمليات العزل السياسي للموظفين المعينين في مؤسسات حزب البعث، بالإضافة إلى الموظفين المعيّنين بمراسيم مباشرة من رئيس الجمهورية. لا توجد إحصائيات واضحة عن عدد الموظفين الذين تم إيقافهم عن العمل، ولكن بعض القرارات التي انتشرت على وسائل التواصل الاجتماعي أظهرت إيقاف وفصل مئات العاملين[17]. وبدأت الإدارة الجديدة عملية إعادة تقييم للموظفين في مؤسسات الدولة، لتحديد الموظفين الذين يمكن أن يستمرّوا في العمل.
سادسًا: بناء هوية عمل مشتركة
السؤال المهمّ الذي يواجه الإدارات الجديدة بعد الصراع هو كيفية إدارة الانقسامات بين موظفي الخدمة العامة وضمان عدم تسببها في شلل أو تعطيل المؤسسات. غالبًا ما تؤدي الصراعات إلى استقطاب الهويات بين الفصائل المتحاربة، سواء على أسس عرقية أو بين الفائزين والخاسرين في الصراع، أو بين النظام “القديم” والنظام “الجديد”، وكذلك بين العائدين من الشتات، وأولئك الذين بقوا خلال فترة الصراع. كثيرًا ما يُجبر الموظفون العموميون الذين يحملون هويات “عدائية” على العمل معًا، وتكون هذه الهويات أكثر بروزًا من هويات الخدمة العامة الناشئة وضعيفة التعريف. في ليبيريا، تم تقسيم الوزارات المختلفة بين الفصائل المتحاربة، فأدى ذلك إلى تعطيل التعاون اللازم لأداء الخدمة العامة بكفاءة[18].
في السياق السوري، تبدو الصورة أكثر وضوحًا، حيث يترك إرث الصراع الممتد لأكثر من 13 سنة، مع وجود انقسامات مجتمعية ولا سيما على المستوى الطائفي، أثرًا واضحًا في هذا المجال، ويمكن تلمّس حالة شك وريبة بين الموظفين السابقين والموظفين الجدد الذين تم تعيينهم[19]. هذه الحالة تستوجب العمل على بناء أرضية مشتركة وهوية عمل جديدة، ولعل أبرز دوافع الريبة والشك تعود لشعور الموظفين السابقين بأنهم تحت تهديد الفصل والاستغناء عن خدماتهم.
سابعًا: ضمان الاستقرار والسلام
النزاعات التي تؤدي إلى اندلاع العنف غالبًا ما تنطوي على قرارات سياسية تتعلق بتوزيع الموارد. يعتمد منع إعادة اندلاع الصراعات بشكل كبير على قدرة الإدارة الجديدة على إدارة التوترات، بين مختلف الجماعات العرقية أو الدينية أو الأطراف المهمشة. الهدف من منع الصراعات ليس القضاء على الصراع بحد ذاته، بل إدارة مواقف الصراع، بحيث لا تتصاعد إلى العنف أو القمع. تواجه الإدارة الجديدة عادة معضلة تفعيل مؤسسات الخدمة العامة وإعادة هيكلتها والتخلص من الفساد، من دون أن يؤدي ذلك إلى موجات عنف من قبل من سيتم الاستغناء عن خدماتهم. غالبًا ما تفضل الإدارات الجديدة الحفاظ على السلام في المرحلة الحالية، ريثما تتمكن من إعادة هيكلة مؤسسات الخدمة العامة.
على سبيل المثال، في جنوب أفريقيا، شكّل الموظفون البيض الغالبية في المراكز المهمة في مؤسسات الخدمة العامة، وشكّل ذلك تحديًا أمام السلطة الجديدة لإعادة التوازن، من دون أن يتحول ذلك إلى موجة اضطراب جديدة.
في سورية، صرح أكثر من مسؤول حكومي بأن الحكومة ستعمل على الانتقال بالبلاد نحو اقتصاد السوق الحر، لضمان انخراط سورية في منظومة الاقتصاد العالمي. يُعدّ هذا التحول ثوريًا في بنية الاقتصاد السوري القائم على التخطيط المركزي والمسؤولية الاجتماعية للدولة تجاه الفئات الاجتماعية المختلفة. وبالتالي، سيتم تقليص منظومة الخدمة العامة، وسيؤدي ذلك إلى فقدان عشرات الآلاف من الموظفين لوظائفهم، وتحولهم إلى عاطلين عن العمل، ومن ثم سيخلق هذا الأمر بيئات اجتماعية ناقمة على الحكومة الجديدة.
ستكون حكومة تصريف الأعمال بين مطرقة التحول الاقتصادي وسندان الاضطرابات الاجتماعية. تم تأجيل الحسم النهائي لملف عشرات الآلاف من الموظفين إلى ما بعد نهاية فترة حكومة تصريف الأعمال المقدرة بثلاثة أشهر، حيث صدرت قرارات عدة تنصّ على إعطاء إجازة مدفوعة الراتب لعدد من الموظفين ووضعهم تحت تصرف وزارة الشؤون الاجتماعية والعمل. من الضروري تجنّب فصل موظفي مؤسسات الخدمة العامة خلال المرحلة الانتقالية، على أن يترك ذلك لمعالجة شاملة وتشاركية تتسق مع منظور إعادة بناء مؤسسات الدولة وتمكينها. إن فصل الموظّفين حاليًا دون خلق خيارات اقتصادية بديلة سيعزز مخاوف الجهات المعنية ويخلق مظلوميات لديها، وسيضيف أعدادًا من العاطلين عن العمل إلى أولئك الذين خسروا وظائفهم من جراء انحلال المؤسسة العسكرية والأجهزة الأمنية، مما يزيد من فرصة تحولهم إلى مصدر عدم استقرار وتحدٍ للسلطة الجديدة[20]. حيث يُعدّ الراتب والمداخيل غير القانونية المتولدة عن الوظيفة العامة الدخل الرئيسي للقسم الأكبر من موظفي الخدمة العامة[21]. ولذلك يُعدّ دفاع هذه الشريحة عن وظائفهم هو دفاع عن مصدر رزقهم الرئيسي الذي يصعب الاستغناء عنه، ولا يمكن حصر ردود أفعال هذه الشريحة بدوافع سياسية أو طائفية، بل يمكن للعنصر الاقتصادي أن يكون هو الدافع الأبرز لهم للانخراط في موجة من عدم الاستقرار.
ثامنًا: احترام التنوع والاستفادة من فوائده المحتملة
في أغلب حالات ما بعد الصراع والأزمات، تنشأ توترات بين مختلف المجموعات العرقية أو الاجتماعية أو السياسية أو الثقافية أو الدينية. غالبًا ما تشعر مجموعة أو أخرى بأنها مستبعدة من عمليات صنع القرار، مما يتسبب في انعدام الثقة والاستياء الذي قد يغذي المزيد من الصراعات. إذا كان من المقرر أن يصبح التنوّع في السكان ميزة وليس عبئًا، فلا بدّ من معالجة تحديين: الأول، يجب أن تكون الخدمة العامة شاملة وأن تحتضن جميع الفئات في البلاد حتى لا يشعر أحد بالتهميش. والثاني، يجب أن يستفيد المسؤولون الحكوميون من إمكانات كل فرد للمساهمة في أداء الخدمة العامة.
غالبًا ما يكون تحقيق هذا الهدف أصعب من مجرد القول. ومع ذلك، نجحت جنوب أفريقيا في إدارة مثل هذا الوضع، واستغلت تنوعها الذي يبدو عرضة للصراعات في خلق قوة عاملة متعددة من الموظفين العموميين ذوي الأداء العالي. عندما تولى المؤتمر الوطني الأفريقي السلطة في جنوب أفريقيا، اختار أن يشمل صراحة جميع الأجناس والنساء والرجال.
في السياق السوري، خلقت قرارات الإدارة الجديدة بفصل عدد من موظفي الدولة المدنيين، كما حدث في مديرية صحة طرطوس، مخاوف لدى العلويين من إقصائهم من الدولة، باعتبارهم موالين للنظام السابق. هذا الإقصاء قد يؤدي إلى خسارة مصدر معيشتهم وامتيازاتهم الاقتصادية التي كانوا يحصلون عليها من خلال وظائفهم، مما دفعهم للاحتجاج ضد قرارات السلطة الجديدة[22].
يبقى التحدي الأكبر هو كيفية معالجة الإدارة الجديدة للوضع غير المتوازن الناتج عن التضخم الكبير في وجود العلويين في مؤسسات الخدمة العامة، من دون أن يؤدي ذلك إلى موجة استياء وشعور بالإقصاء من قبلهم.
تاسعًا: مسارات العمل الممكنة
تدرك الإدارة الجديدة في سورية صعوبة ملفّ إدارة مؤسسات الخدمة العامة بشكلها الحالي وتعقيده، ولكن هذا التعقيد لا ينفي وجود مسارات للعمل، يمكن الانطلاق منها على المدى القريب كما يلي:
تجزئة ملف العاملين في مؤسسات الخدمة العامة إلى مستويات متعددة، ومعالجة كلّ المشاكل في هذه المستويات بشكل متتابع، لا بشكل متوازي، يمكن أن تخفف من حجم الاحتقان المتوقع أن يتولد عن عملية المعالجة. على سبيل المثال، يمكن البدء بإلغاء حالات التجاوزات الواضحة، مثل فصل الموظفين الوهميين. وقد اتهم وزير المالية في حكومة النظام، محمد أبازيد، النظام السابق بالتعامل بالفساد والمحسوبية في تعيين الموظفين، مؤكدًا أن بعضهم كان مسجلًا على الورق فقط لأخذ الراتب دون عمل، وأن هناك 300 ألف موظف ستشطب أسماؤهم[23].
توفير دعم تمويلي خارجي من الدول الداعمة للإدارة الجديدة لمساندة خزينة الدولة، مما يسهم في توفير الموارد المالية اللازمة لدفع الرواتب بشكل مستمر ومستدام. ويعتبر الإعلان الأميركي عن بعض الإعفاءات من العقوبات عاملًا مهمًا في تحقيق ذلك.
سعي الحكومة الجديدة لإلغاء تجميد بعض الحسابات البنكية العائدة للحكومة السورية السابقة، مما يسهم في توفير بعض الموارد الأولية.
المضي في خطة رفع رواتب الموظفين الحكوميين، مما يخفف من حاجة الموظف الحكومي للجوء إلى وسائل الفساد لتأمين الحد الأدنى من المعيشة، مع ضمان وجود نظام موثوق لمنع ظاهرة الموظفين الأشباح.
فتح حوارات مع الأمم المتحدة والدول المانحة الرئيسية لتطوير برامج تمويل مخصصة للموظفين الذين سيتم الاستغناء عنهم، بما يضمن لهم وجود فرص عمل بديلة.
تقديم التسهيلات للقطاع الخاص، ولا سيما لرجال الأعمال السوريين في الخارج، لدفعهم لإعادة الاستثمار في سورية، مما يخلق فرص عمل جديدة تستقطب العاطلين عن العمل، نتيجة إعادة هيكلة القطاع العام. ويمكن ربط منح بعض التراخيص للقطاع الخاص بتشغيل بعض الموظفين الحكوميين السابقين مع مراعاة شرط الكفاءة.
إطلاق برامج بناء قدرات للموظفين الذين سيتم الاستغناء عن خدماتهم، مما يسهل دمجهم في سوق العمل الخاص.
إعادة إنتاج نظام ضريبي يشجّع على استقطاب الاستثمارات، مما يساعد في التنمية الاقتصادية وتوفير موارد مالية جديدة لخزينة الدولة.
تطوير استراتيجية وطنية لمكافحة الفساد مبنية على الاستفادة من تجارب الدول التي عاشت حالات مشابهة مع الحالة السورية، مع مراعاة السياق الخاص للحالة السورية.
أما على المدى الطويل، فيبدو أن سورية ستكون أمام مهمّة شاقة وصعبة، تتمثل في إعادة إنتاج المنظومة الاقتصادية للدولة بعيدًا عن الشكل الاشتراكي الذي كانت عليه سورية خلال ستة عقود. وسيترافق مع ذلك إعادة إنتاج المنظومة البيروقراطية للدولة على أساس الكفاءة والفعالية، وليس على أساس المحسوبية والمحاباة. هذه المهمّة لا يمكن أن تكتمل إلا بإنتاج ثقافة وظيفية جديدة تخلق حالة قطيعة مع ثقافة الوظيفة العامة السابقة، التي كانت قائمة على فكرة متأصلة لدى المواطن السوري، بأن الوظيفة العامة هي ملاذ آمن، وهذا الملاذ لا يرتبط بمعايير الإدارة الرشيدة.
خاتمة
إن جودة الموظفين العموميين تشكّل عنصرًا حاسمًا في تعافي الحكومة بعد الصراع وتعزيز ثقة الناس فيها. ويعدّ بناء القدرات في مجال الخدمة العامة ضرورةً أساسية للتعافي بعد الصراع. ويشمل ذلك تعزيز معارف الموظفين العموميين وأخلاقياتهم ومهاراتهم وشبكاتهم ومواقفهم، لأنهم هم الذين يقومون بالتخطيط للخدمات الحكومية وتقديمها، ويضعون تصوّرات للابتكارات الحاسمة ويحققونها، وينفذون الإصلاحات اللازمة، ويستعيدون الثقة في الحكومة.
وقد سعت هذه الورقة إلى استعراض واقع مؤسسات الخدمة العامة في سورية، حيث أظهرت أن إعادة تفعيل هذه المؤسسات تستوجب معالجة عدد من التحديات التي يمكن أن تضعف أي خطة للنهوض التنموي. وللمحافظة على هيكل الدولة ومنع اندلاع موجات احتجاج كبيرة ضدّ الإدارة الجديدة، وضعت الإدارة الجديدة في سورية خطة للتعامل مع البيروقراطية الحكومية لإصلاحها دون الاصطدام الكامل معها. ومع تبني الإدارة الجديدة لاستراتيجية السوق الحر، فإنها ستجد نفسها، عاجلًا أو آجلًا، في مواجهة عملية إعادة إنتاج البيروقراطية الحكومية بشكل كامل. وريثما يتم الوصول إلى ذلك، يمكن العمل على جملةٍ من المسارات في المدى القريب، يجب أن تُدمج بين استراتيجيات إعادة الهيكلة والتجزئة وتوفير الموارد وتوفير الفرص البديلة وبناء القدرات. أما على المدى الطويل، فيجب العمل على إعادة إنتاج بيروقراطية حكومية جديدة، بثقافة ومعايير تتناسب مع بنية الاقتصاد الحر.
المراجع العربية
باروت، محمد جمال، العقد الأخير في تاريخ سورية، ط1، بيروت، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، 2012.
بيرتس، فولكر، الاقتصاد السياسي في سورية تحت حكم الأسد، ترجمة عبد الكريم محفوظ، ط1، بيروت، رياض الريس للكتب والنشر، 2012.
الدسوقي، أيمن، احتجاجات طرطوس عقب سقوط الأسد أبعد من المقاربة الطائفية، مركز عمران للدراسات الاستراتيجية، 2/1/2025، الرابط: https://2u.pw/kKyyfSYh
سعيفان، سمير، حكم حافظ الأسد.. ودروس للمستقبل في سورية، العربي الجديد، 24/6/2015، شوهد في 28/1/2025، الرابط: https://2u.pw/YovePl
هينبوش، رايموند، سورية ثورة من فوق، ترجمة حازم نهار، ط1، بيروت، رياض الريس للكتب والنشر، 2011.
المراجع الأجنبية
Blumenstock, J. E.,M. Callen, T. Ghani, and L. Koepke. (2015). “Promises and Pitfalls of Mobile Money in Afghanistan: Evidence from A Randomized Control Trial.” In Proceedings of The Seventh International Conference on Information and Communication Technologies and Development.
Deserranno Erika. (2019). “Financial Incentives as Signals: Experimental Evidence from the Recruitment of Health Workers.” American Economic Journal: Applied Economics.
Katorobo James.(2007).Restoring the post-conflict public service to its position as the heartbeat of government. United Nations New York.
Mehchy Zaki, Haid Haid and Khatib Lina.(2020) Assessing control and power dynamics in Syria. Chatham House.
Rene Blum Jurgen , Daniel Rogger.(2020). Public Service Reform in Post-Conflict Societies. Oxford University Press..
René Blum Jürgen, Ferreiro-Rodríguez Marcos, and Srivastava Vivek.(2018). Paths between Peace and Public Service, A Comparative Analysis of Public Service Reform Trajectories in Post conflict Countries. World Bank Publications.
SIGMA (Support for Improvement in Governance and Management) (2004). “Public Administration in the Balkans: Overview”. Assessment report.
United Nations.(2010). Reconstructing Public Administration after Conflict Challenges, Practices and Lessons Learned .
[1] Jürgen René Blum; Rogger, Daniel. (2020) Public Service Reform in Post-Conflict Societies. Oxford University Press.P260
[2] Ibid, p265
[3] Jürgen René Blum, Marcos Ferreiro-Rodríguez, and Vivek Srivastava. (2018) Paths between Peace and Public Service, A Comparative Analysis of Public Service Reform Trajectories in Post conflict Countries. World Bank Publications. P14
[4] فولكر بيرتس، الاقتصاد السياسي في سورية تحت حكم الأسد، ترجمة عبد الكريم محفوظ، ط1 (بيروت، رياض الريس للكتب والنشر,2012)، ص81
[5] مرجع سابق، 360
[6] رايموند هينبوش، سورية ثورة من فوق، ترجمة حازم نهار، ط1، (بيروت ، رياض الريس للكتب والنشر، 2011)، ص 266.
[7] Zaki Mehchy, Haid Haid and Lina Khatib. (2020) Assessing control and power dynamics in Syria. Chatham House.P8
[8] James Katorobo.(2007)Restoring the post-conflict public service to its position as the heartbeat of government. United Nations New York.P63
[9] سمير سعيفان، حكم حافظ الأسد.. ودروس للمستقبل في سورية، العربي الجديد، 24/6/2015، شوهد في 28/1/2025، https://2u.pw/YovePl
[10] محمد جمال باروت، العقد الأخير في تاريخ سورية، ط1، (بيروت، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، 2012)، ص30.
[11] United Nations.(2010) Reconstructing Public Administration after Conflict Challenges, Practices and Lessons Learned. World Public Sector Report . P75
[12] Jürgen René Blum, Public Service Reform in Post-Conflict Societies, P265
[13] Blumenstock, J. E.,M. Callen, T. Ghani, and L. Koepke. (2015). “Promises and Pitfalls of Mobile Money in Afghanistan: Evidence from A Randomized Control Trial.” In Proceedings of The Seventh International Conference on Information and Communication Technologies and Development.
[14] Jürgen René Blum, Paths between Peace and Public Service, A Comparative Analysis of Public Service Reform Trajectories in Postconflict Countries, P45
[15] SIGMA (Support for Improvement in Governance and Management) (2004). “Public Administration in the Balkans: Overview”. Assessment report، P3
[16]Erika Deserranno. (2019). “Financial Incentives as Signals: Experimental Evidence from the Recruitment of
HealthWorkers.” American Economic Journal: Applied Economics, P281
[17] انتشر قرار رقم 45 لوزير الكهرباء ينهي بموجبه خدمة 200 عامل من وزارة الكهرباء، وقد توزع هؤلاء العمال على أكثر من محافظة، أبرزها دمشق وريفها.
[18] Jürgen René Blum, Public Service Reform in Post-Conflict Societies, P265
[19] في مقابلة مع موظفةٍ من منطقة الساحل بتاريخ 20/1/2025، عبر وسائل التواصل الاجتماعي، قالت: “لا أحبّذ التعامل مع من تم تعيينهم حديثًا، وأفضل التعامل مع من كنت أعرفهم سابقًا، خاصة أن أغلب من تم تعيينهم حديثًا هم من محافظة إدلب”. وفي مقابلة بتاريخ 13/1/2025، مع موظف تم تعيينه حديثًا لإدارة إحدى المؤسسات، قال: “أشعر بأن الموظفين السابقين يمتنعون عن المبادرة للقيام بأي عمل دون الرجوع لي، وفق قاعدة عدم المساعدة وانتظار أن أفشل في العمل”.
[20] أيمن الدسوقي، احتجاجات طرطوس عقب سقوط الأسد أبعد من المقاربة الطائفية، مركز عمران للدراسات الاستراتيجية، 2 كانون الثاني/ يناير 2025، شوهد في 20 كانون الثاني/ يناير 2025، الرابط: https://2u.pw/kKyyfSYh
[21] مقابلة من عدد من موظفي الدولة، حيث قال معظمهم إنهم لا يمتلكون أي مصدر دخل سوى الراتب.
[22] أيمن الدسوقي، احتجاجات طرطوس عقب سقوط الأسد أبعد من المقاربة الطائفية، مرجع سابق
[23] تلفزيون سوريا، وزير المالية السوري: نواجه تحديات اقتصادية كبيرة وسنشطب أسماء 300 ألف موظف حكومي، 8 كانون الثاني/ يناير 2025، شوهد في 21 كانون الثاني/ يناير 2025، الرابط: https://2u.pw/mWrbKGaB
مركز حرمون
—————————-
كيف غيّر سقوط الأسد وجه المشرق العربي؟/ مروان قبلان
19 فبراير 2025
إذا طُلب أن أُحدّد خمسة أحداث أو محطّات كبرى شكلت تاريخ المشرق العربي خلال المئة عام المنصرمة، فستكون على الأرجح: أولاً، الحرب العالمية الأولى (1914-1918) التي أنهت عهد الإمبراطوريات في النظام الدولي، ونشأ على أثرها الشرق الأوسط الحديث، وقوامه الدولة الوطنية. المحطة الثانية نكبة فلسطين، عام 1948، التي تسبّبت بإيجاد تهديد وجودي للعالم العربي (إسرائيل)، وفي إطلاق سلسلة انقلابات عسكرية، وثورات اجتماعية عربية تداخل فيها المحلي بنزعات التحرّر من التبعية للأجنبي، وكان من تداعياتها أيضاً وأد التجربة الليبرالية العربية الوليدة، والتأسيس لكل حروب العرب مع إسرائيل، وصولاً إلى آخرها وأطولها؛ حرب غزّة (2023 – 2025). المحطة الثالثة ارتبطت بأحداث 1979 الجسام، وكان قيام الجمهورية الإسلامية في إيران، التي تبنت نظام ولاية الفقيه، ورفعت شعار تصدير الثورة، بطبيعة الحال أبرزها. محاولات إيران التمدّد إقليميّاً أجهضت بفعل الحرب مع العراق (1980- 1988)، لكن نتائج تلك الحرب مهّدت أيضاً لغزو الكويت (1990)، وهي المحطّة الرابعة المهمة في تاريخ المنطقة، إذ قوّضت كل تصوّرات الأمن القومي العربي، وفتحت الباب أمام تصفية القضية الفلسطينية، عبر مسارات سلام فاشلة، وأعطت تنظيم القاعدة ذريعةً لشن هجماته في سبتمبر/ أيلول 2001، ليأتي الرد الأميركي عليها بغزو أفغانستان والعراق عامي 2001 و2003، وتلك هي المحطة الخامسة الكبرى في تاريخ المنطقة، نشأ على أثرها قوس نفوذ إيراني يمتد من غرب أفغانستان إلى شرق المتوسط.
لنحو عقدين تقريباً (2003-2023) سيطرت إيران فعلياً على المشرق العربي، وورثت الدورَ العربي في القضية الفلسطينية. استمرّ ذلك حتى عملية طوفان الأقصى (أكتوبر 2023)، التي أسهمت في إيجاد الظروف المساعدة لسقوط نظام الأسد في سورية، نوعاً من الأضرار الجانبية. يعد سقوط الأسد، أبرز محطّة في تاريخ المشرق العربي منذ الغزو الأميركي للعراق، وهو يُؤذن بتحوّلات كبرى فيه، بما في ذلك إنهاء أطول تحالف ثنائي عرفته منطقة الشرق الأوسط في آخر نصف قرن، وخسرت إيران، بسقوطه، أربعة عقود من العمل على مشروعها الذي أرادته مطلًا على المتوسّط، وأنفقت عليه في العقد الأخير فقط نحو ستين مليار دولار. ومع انهيار عقيدة “الدفاع المتقدّم” الإيرانية، صارت طهران أمام احتمالين: أن تذهبَ باتجاه الخيار النووي، أو التسليمَ بخسارتها، وانكفاءها من جديد نحو الداخل. في مقابل تراجع إيران، صعدت أدوار السعودية وتركيا. نظرياً، لم تعد السعوديةُ، مع انهيار المشروع الإيراني، بحاجة ماسّة لضمانات أمنية أميركية، أو مستعجلة لتطبيع العلاقات مع إسرائيل طريقاً للحصول عليها، فالسعودية تبدو اليوم، بسقوط الأسد، في وضعية جيوسياسية مريحة، خاصة إذا تحوّل النظام الجديد في دمشق إلى حليف. مع سقوط نظام الأسد، وانحسار النفوذ الإيراني، تصبح تركيا أيضاً القوة الإقليمية الأبرز في المنطقة، هذا يعزّز مواقعها التفاوضية في العلاقة مع روسيا والغرب وإسرائيل والعرب، وإذا تمكّنت من ترسيم حدودها البحرية مع سورية، فسوف تعيد تشكيل كل تحالفات المنطقة وموازين القوى فيها. سوف يتأثر بالتأكيد، هنا، التحالف القبرصي المصري اليوناني، ويصبح مستقبل “منتدى غاز شرق المتوسط” محلّ تساؤل. يرجّح أيضاً أن يُسهم سقوط الأسد في إعادة رسم خريطة نقل الطاقة، والمعابر الاقتصادية في المنطقة بعد إغلاق الطريق أمام مشروع “خط الصداقة” لنقل الغاز الإيراني عبر العراق إلى سورية، وفتح الطريق بين تركيا والخليج. قد تجري إعادة النظر، أيضاً، في مشروع “طريق التنمية” بين الخليج وتركيا عبر العراق، والذي يواجه تعقيدات، أصلاً، بسبب عدم حماسة إيران وحلفائها العراقيين له. والمعبر الهندي الشرق أوسطي الأوروبي قد يتعرّض أيضاً لإعادة تقييم. بسقوط نظام الأسد، انتهى دور حزب الله إقليمياً، وضعف لبنانياً، بعد أن فقد الحزب طريق إمداده الرئيس عبر سورية، وقد بدا هذا واضحاً في انتخاب رئيس للجمهورية، وتشكيل حكومة نواف سلام في لبنان. سقوط النظام السوري سوف يكون له تداعيات كبرى على الموقف الروسي في شرق المتوسّط، سواء في مواجهة تركيا أو “الناتو” أو وضعها كقوة مؤثرة في النظام الدولي، بما في ذلك في أفريقيا. القصة السورية لم تنته بعد، فصولها ما زالت تكتب، ويرجّح أن يكون لها تداعيات أبعد كثيراً مما خرجت به كل القراءات.
العربي الجديد
—————————–
المخاض السوري وسيزيف الكردي/ علي العبدالله
19 فبراير 2025
مرّ قرن ونيّف على محاولات الكرد الحديثة الحصول على كيان سياسي يجسّد تطلعاتهم وطموحاتهم القومية، وقد حققوا إنجازيْن مهمّين في هذا المجال: إقامة إقليم كردستان العراق، وإقامة الإدارة الذاتية في الجزيرة السورية وأجزاء من محافظة حلب. تحقّق الأول بجهود القوميين الكرد بقيادة مسعود البارزاني، وتحقّق الثاني بجهود حزب الاتحاد الديمقراطي، المرتبط عقائديا بفكر عبدالله أوجلان الأممي. وقد شكّل الإنجاز الأخير تجربة سياسية مختلفة عن تجربة الإقليم، ومنافسة لها، ما رتب انقسام كرد سورية إلى تيارين عريضين، على خلفية التباينات الفكرية والبرامج العملية والتصوّرات النهائية لأهداف النضال الكردي. تيار البارزاني، يجسّده المجلس الوطني الكردي، وتيار أوجلاني، يجسّده حزب الاتحاد الديمقراطي. وقد قاد هذا الانقسام إلى تنافس وصراع سياسي واجتماعي مرير. وجرت محاولات لرأب الصدع وتوحيد الجهود حيث عقدت مفاوضات برعاية رئيس إقليم كردستان العراق، مسعود البارزاني، في إربيل (عاصمة الإقليم) عام 2012، بين المجلس الوطني الكردي ومجلس الشعب لغرب كردستان، سلف “الإدارة الذاتية” التي شكّلها حزب الاتحاد الديمقراطي عام 2014، وجرى الاتفاق على صيغة للشراكة في الإدارة، اتفاقية هولير1 عام 2012، لكنها لم تدخُل حيّز التنفيذ، وقد تبادل الطرفان الاتهام بالتسبّب بذلك، وعقدت اتفاقية ثانية، هولير2 عام 2013، ولم تدخُل حيّز التنفيذ كذلك، رغم الاتفاق على وثيقةٍ سياسيةٍ وتشكيل مرجعية لتوحيد الرؤى السياسية. كما رعت الولايات المتحدة جلسات تفاوض بين المجلس الوطني الكردي، وهو يضم 12 حزباً وتنظيماً، وأحزاب الوحدة الوطنية، وهو تحالف يضم 25 حزباً وحركة سياسية بقيادة حزب الاتحاد الديمقراطي، عام 2020، اتفق فيها على عدة نقاط، وبقيت نقاط خلافية حالت دون توقيع اتفاق نهائي. وقد تجدّدت المحاولات برعاية أميركية فرنسية بعد سقوط النظام البائد لتوحيد الموقف الكردي، وتشكيل وفد موحد للتفاوض مع الإدارة السورية الجديدة، لكن الجهود لم تثمر. وقد فاجأ حزب الاتحاد الديمقراطي الجميع بالتحضير لعقد مؤتمر تحت عنوان “المؤتمر القومي الكردي”، سيجمع معظم القوى والأحزاب السياسية الكردية في شمال شرق سورية، لتوحيد الموقف واختيار وفد كردي واحد لمفاوضة النظام الجديد على حقوق الكرد في الدولة الجديدة، قالت مصادر بوجود توجه إلى استبعاد المجلس الوطني الكردي من المؤتمر، ما يعني، في حال صدقت الرواية، أن الهدف من عقد المؤتمر العتيد الالتفاف على المفاوضات مع “المجلس”، ما يشير إلى وجود تيّار داخل حزب الاتحاد الديمقراطي يرفض الاتفاق على شراكة سياسية مع المجلس الوطني الكردي من حيث المبدأ.
لم يقف ضرر انقسام الكرد بين هذين التيارين عند ارتباك النضال الكردي فحسب، بل قاد إلى تعميق التنافر وسيادة العداوة والكراهية بين أتباع التيارين عكستها هجمات منظمات تابعة للتيار الأوجلاني، حركة الشبيبة الثورية، على مقرّات أحزاب المجلس الوطني الكردي، وإتلافها محتويات هذه المقرّات وحرقها واعتقال قوى الأمن الداخلي (الأسايش) التابعة للإدارة الذاتية لقياديين من أحزاب المجلس، وخطف بعض كوادرهم وإعلامييهم وتصفيتهم جسديا. وقد زاد السجال الإعلامي الطين بلة باتهام كل تيّار الطرف الآخر بالارتباط بجهة خارجية، المجلس الوطني مع الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة، المرتبط بالعدو القومي للكرد: تركيا، والإدارة الذاتية بحزب العمال الكردستاني التركي المرتبط بالنظام البائد وبإيران، ومطالبة كل طرفٍ الطرف الآخر فك ارتباطه الخارجي، ما يعكس عقماً سياسياً لأن كل طرف يتهم خصمه بالارتباط وهو نفسه مرتبط.
قالت تقديرات سياسية لمحللين عرب وكرد إن عدم تنفيذ الاتفاقات المتتالية سببه رفض حزب الاتحاد الديمقراطي، بتوجيهٍ من حزب العمّال الكردستاني، إشراك المجلس الوطني الكردي في إدارة مناطق الإدارة الذاتية، ورفضه إدخال قوات البيشمركة التابعة للمجلس إلى مناطق الإدارة الذاتية، وقالت أخرى إن عدم الاتفاق سببه الاختلاف على أمور تفصيلية، وليس على المبدأ، وهذا من دون تقديم تفسير مقنع لعدم الاتفاق ودوافعه ومبرّراته.
واقع الحال أن ثمة توافقاً كبيراً بين التيارين على حقوق الكرد، والاختلاف، كما تعكسه المواقف والتصريحات، مرتبطٌ بتمسّك كل تيار بمواقفه من فكر الطرف الآخر وعمله، وبعدم تقديم تنازل له؛ لأن أي تنازل، مهما كان صغيراً، سيعني تسجيل نقطة ليس للمنافس المحلي، بل للتيار المنافس في كل الساحات الكردية. تنازل “المجلس” سيحسب لصالح الأوجلانية، وتنازل الإدارة الذاتية سيُحسب لصالح البارزانية، حيث جوهر الصراع، في رأي كاتب هذه السطور، صراع على قيادة الكرد عامة، صراع على الزعامة الكردية. زاد تعقيد الموقف تخوّف التيار الأوجلاني من أن يؤدّي تنازله لتيار البارزاني حصول إقليم كردستان العراق على موطئ قدم شرعي في مناطق الإدارة الذاتية.
يكمن المأزق القائم في الانعكاس السلبي للاختلاف والصراع بين التيارين على مسيرة النضال الكردي، بدءا باستحالة التنسيق والتعاون لتعزيز الإنجازيْن وتكريسهما، خاصة وأنهما هشّان ما جعلهما عرضة للانتكاس والتآكل، في ضوء التطورات الجيوسياسية والجيوستراتيجية العاصفة التي تشهدها المنطقة والعالم، فالظروف الاستثنائية التي سمحت بتحقيق الإنجازين، حرب الخليج الثانية، حرب تحرير الكويت، عام 1990، وفرض منطقة حظر طيران شمال خط العرض 32، عام 1992، الذي وفر لكرد العراق بيئة آمنةً وفرصةً لتأسيس بنى سياسية وعسكرية واقتصادية مستقلة عن بغداد، تكوين شبه دولة، والاحتلال الأميركي للعراق عام 2003، وفرضه نظاماً سياسياً اتحادياً حصل الإقليم بموجبه على شرعيةٍ سياسيةٍ عام 2005، بالنسبة للإنجاز الأول، والدعم والحماية التي وفرها التحالف الدولي لمواجهة تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام (داعش) بقيادة الولايات المتحدة لكرد سورية، بعد اعتماد “وحدات حماية الشعب” و”وحدات حماية المرأة”، الذراع العسكرية لحزب الاتحاد الديمقراطي، شريكاً محلياً في مواجهة التنظيم، و”الخلافة” التي أقامها على مساحات واسعة من أرض العراق وسورية، بعد نجاحهما في دحره في منطقة عين العرب (كوباني) عام 201. وبقي الإنجاز الثاني من دون شرعية سياسية، تلاشت مفاعيلها في ضوء التغيرات الإقليمية والدولية.
والإنجازان ليسا راسخين؛ وقد حصل ما يؤكد هذا في الإنجاز الأول، الإقليم، تجسّد في عدم حلّ الخلاف مع المركز بشأن المناطق المتنازع عليها بإجراء استفتاء تنفيذاً لفحوى المادة 140 من دستور البلاد، واستعادة بغداد السيطرة على محافظة كركوك المتنازع عليها، ومعاقبة مسعود البارزاني على إجرائه استفتاء الاستقلال عام 2017، ودفعه إلى الاستقالة من رئاسة الإقليم، وفرض قراراتٍ سياديةٍ على الإقليم من المركز، مثل فرض تصدير نسبة من نفط الإقليم عن طريق شركة التسويق الاتحادية (سومو) ووضع قيمة صادرات الإقليم من النفط في حسابٍ يخضع لرقابة ديوان الرقابة المالية الاتحادي، وحل هيئة انتخابات الإقليم، وإعادة النظر في عدد مقاعد برلمان الإقليم، وحصة الأقليات فيه، واشراف المفوضية العليا المستقلة للانتخابات العراقية على انتخابات برلمان الإقليم عام 2024، بالاستناد إلى أحكام من المحكمة الاتحادية العليا. في حين يعيش الإنجاز الثاني، الإدارة الذاتية، تحت ضغوط هائلة بدأت بتنفيذ عمليات عسكرية تركية، (غصن الزيتون عام 2018 ونبع السلام عام 2019)، أنهت وجودها في عدة مناطق، أهمها عفرين ذات الحضور الكردي الشامل، وهي (الإدارة)، حالياً تحت ضغط دعوات حلها في ضوء ما حصل في سورية أخيراً: سقوط النظام البائد والدخول في عملية تأسيس جديدة للدولة السورية تحت سلطة جماعات عسكرية سلفية التوجه، تحظى برعاية ومباركة من معظم الدول العربية، ومن تركيا التي تضغط عليها لدفعها نحو مهاجمة الإدارة الذاتية عسكرياً، والإجهاز على التجربة، ومعظم دول الاتحاد الأوروبي، والولايات المتحدة وإدارتها الجديدة التي قطعت تمويل السجون في شرق الفرات، وأعلنت أنها تعد لسحب قواتها من شمال شرق سورية، بين 30 و90 يوما، بالإضافة إلى وجود توجّه عربي وإقليمي ودولي، داعم لتوجه الإدارة السورية الجديدة، لبسط سيطرتها على كل الأراضي السورية، ما يثير احتمال فرض عزلة على الكرد، ما يضعف موقفهم التفاوضي، ويفقدهم القدرة على المناورة في المفاوضات معها، خاصة إذا دفع استمرار الاختلاف بين التيارين إلى عدم الاتفاق على موقف موحّد وتشكيل وفد موحد، والذهاب إلى المفاوضات بأكثر من وفد كردي سيُضعف موقفهم التفاوضي أكثر، لأنه يمنح الإدارة السورية الجديدة فرصةً لابتزاز كل طرف منهم بالتلويح بالاتفاق مع طرف كردي آخر.
لا تكمن المشكلة في عدم الذهاب بموقف موحد ووفد موحد فقط، بل وفي التصورات المطروحة لحقوق الكرد، وتمسّك الأحزاب والمنظّمات والمستقلين الكرد بتبنّي الدولة الجديدة نظاماً اتحادياً، حيث لا تكفي كلمة اتحادية لتحديد الموقف، فطلبات قوات سوريا الديمقراطية (قسد) الاحتفاظ بتركيبتها العسكرية، وربطها بوزارة الدفاع شكلياً يتجاوز الاتحادية، حيث ليس في الاتحادية جيوشٌ خاصة للأقاليم، كما أن النظم الاتحادية ليست على نمط واحد، من جهة، والاتحادية، من جهة ثانية، لا تضمن الحقوق والعدالة، إذا لم يكن النظام مبنياً بشكل فعلي على التشاركية والمساواة، ما يستدعي التركيز على قضايا أكثر أهمية من الاتحادية، من التعدّد السياسي، والحريات الخاصة والعامة، وحرية الرأي والتعبير، وحرية الإعلام، وسيادة القانون، والعدل والمساواة في الحقوق والواجبات والتنمية المتوازنة والخدمات الجيدة في المحافظات، والانتخابات النزيهة، وصولاً إلى الحق في التنظيم في أحزاب ومنظمات ونقابات… إلخ. كما أن مطالبة الكرد برفع كلمة العربية من اسم الدولة والاكتفاء بالجمهورية السورية ليست أكثر من جوزة فارغة، لأن عدم وجود كلمة عربية في اسم الدولة لا يلغي أنها عربية، العراق مثلا استبعد وصف عربية من اسم الدولة، لكنها بقيت في جامعة الدول العربية.
تستدعي اللحظة السياسية الدقيقة والخطيرة اعتماد المرونة والتركيز على الجوهر: الحقوق، والتنسيق مع جميع القوى السياسية السورية، للوصول إلى نظام ديمقراطي يوفر الحقوق ويحقّق العدالة والمساواة بين المواطنين، لأن الآتي أخطر في ضوء وجود احتمالين قادمين: انسحاب القوات الأميركية من سورية، كما أشار إلى ذلك الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، الذي تربطه علاقات جيدة مع الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، واتفاق تركيا مع عبدالله أوجلان على إلقاء السلاح والذهاب إلى تسوية سياسية معقولة. تحقّق الاحتمالين المذكورين سيُعيد الصخرة إلى أسفل الجبل، وسيضطر “سيزيف” الكردي إلى محاولة الصعود بها إلى قمة الجبل من جديد.
العربي الجديد
—————————–
من إمرالي إلى قنديل.. هل تؤثر رسائل أوجلان على مصير “قسد” في سوريا؟/ حمزة خضر
2025.02.19
دعا دولت بهتشلي، زعيم حزب الحركة القومية (MHP)، عبد الله أوجلان، زعيم حزب العمال الكردستاني (PKK)، إلى إلقاء السلاح وحل الحزب، مقابل الاستفادة من “حق الأمل” (العفو). هذه الدعوة، التي لاقت ترحيباً من الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، فتحت الباب أمام جولة جديدة من المفاوضات مع أوجلان، حيث التقى به نواب من حزب المساواة وديمقراطية الشعوب الكردي (DEM) في سجنه بجزيرة إمرالي خلال كانون الأول 2024 وكانون الثاني 2025، لبحث إمكانية إنهاء الصراع المسلح.
وبالتزامن مع هذه التطورات، شهدت سوريا تحولات سياسية مهمة، إذ دعا الرئيس السوري أحمد الشرع إلى الحوار مع قوات سوريا الديمقراطية (قسد)، مشدداً على ضرورة دمجها في الجيش السوري الجديد وحصر السلاح بيد الدولة. جاء ذلك وسط ترقب لتصريحات مرتقبة من عبد الله أوجلان، يُتوقع أن يدعو فيها مقاتلي حزبه وأذرعه الإقليمية، بما في ذلك قسد، إلى التخلي عن السلاح، وهو ما قد يعزز فرص المفاوضات بين “قسد” ودمشق.
تأييد تركي يعقبه تحذير
في مقابلة مع “تلفزيون سوريا” مطلع الشهر الجاري، أكد الرئيس السوري أحمد الشرع استمرار المفاوضات مع “قسد”، لكنه أوضح أن هناك خلافات في بعض التفاصيل، رافضاً الكشف عنها، مشيراً إلى أن نجاح المفاوضات يتطلب السرية بسبب وجود أطراف لا ترغب في التوصل إلى اتفاق. إلا أنه عاد في مقابلة لاحقة مع صحيفة “الإيكونوميست” ليعبر عن عدم تفاؤله بإمكانية التوصل إلى تسوية، موضحاً أن رفض الشعب السوري لفكرة الفيدرالية يمثل إحدى أكبر العقبات أمام الاتفاق.
وعقب زيارة الشرع إلى أنقرة، صعّد الرئيس التركي رجب طيب أردوغان من خطابه، مؤكداً أن تحقيق الاستقرار والوحدة في سوريا يتطلب فرض سيطرة الحكومة السورية على كامل أراضيها. وأضاف أن حزب العمال الكردستاني وفروعه يجب أن يدركوا أنه لا مكان لهم في سوريا، محذراً من أن تركيا لن تتردد في اتخاذ الإجراءات الضرورية إذا لم يتم التعامل مع هذا التهديد بجدية.
وأشار أردوغان إلى أن معالم الخطوات التي ستنفذها سوريا ضد “التنظيمات الإرهابية” باتت واضحة ومتفقاً عليها، قائلاً: “خلال اجتماعنا (مع الشرع)، تبادلنا المعلومات حول الإجراءات المقبلة ضد التنظيمات الإرهابية. ووجهنا تحذيراتنا بوضوح تام: إما أن يستجيبوا لهذا التحذير أو أن يُدفنوا مع أسلحتهم التي رفضوا التخلي عنها”.
سوريا موحدة ورسائل أوجلان الثلاث
وفي مطلع شباط أيضاً، أعلن القائد العام لقوات سوريا الديمقراطية (قسد)، مظلوم عبدي، رفضه لاختيار أحمد الشرع رئيساً لسوريا، مؤكداً أن القرار لم يُطرح للنقاش مع قواته. وأوضح أنه التقى بالشرع سابقاً، وأن مفاوضات تُجرى بين “قسد” والحكومة السورية بوساطة أطراف أخرى.
إلا أن موقفه شهد تحولاً في الآونة الأخيرة، متزامناً مع التصريحات التي أدلى بها عبد الله أوجلان قبل أيام عبر حزب المساواة الكردي في تركيا. ففي حديثه لوكالة “ميزوبوتاميا
“، أكد سري ثريا أوندر، نائب رئيس البرلمان التركي وعضو لجنة حزب المساواة والديمقراطية الشعبية (DEM)، أن أوجلان “يرى أن الحفاظ على وحدة الأراضي السورية وهيكلها كدولة، مع ضمان وجود الأكراد على أساس الديمقراطية داخل هذه الوحدة، أمر بالغ الأهمية”. كما شدد أوجلان، وفقاً لأوندر، على رفضه قيام أي كيان منفصل داخل الدولة السورية.
وأكد أوجلان موقفه الرافض تماماً للصراعات المسلحة، وأكدت المتحدثة باسم حزب المساواة والشعوب الديمقراطي (DEM)، عائشة غُول دوغان، أن أوجلان أرسل ثلاث رسائل إلى قيادات منظومة المجتمع الكردستاني (KCK) في قنديل، ومسؤولي قوات سوريا الديمقراطية (قسد) في شمال شرقي سوريا، وإلى مؤتمر المجتمع الديمقراطي الكردستاني (KCDK-E) والمؤتمر الوطني الكردي (KNK) في أوروبا.
وفي المقابل، يبدو أن أنقرة توظف ملف أوجلان كورقة ضغط على “قسد”، مستغلة تأثيره على التيارات الكردية المختلفة. وتسعى من خلال هذه الاستراتيجية إلى إعادة تشكيل مواقف “قسد” وإجبارها على إنهاء أو تقليص نفوذها في شمال شرقي سوريا، سواء من خلال العمليات العسكرية أو عبر التفاوض غير المباشر مع دمشق.
وهنا يبرز تساؤل حول مدى قدرة أوجلان على أداء هذا الدور والتأثير في حزب العمال الكردستاني وأذرعه الإقليمية، وما إذا كان ذلك قد دفعه إلى تأجيل خطابه الذي كان من المقرر أن يلقيه في منتصف الشهر الجاري. وهو خطاب يتوقع أن يدعو من خلاله إلى إلقاء السلاح والتوجه نحو الحوار كمسار بديل عن الصراع المسلح.
أوجلان وخطابه المنتظر.. هل يخشى تكرار سيناريو 2013؟
قبل أن يوجه عبد الله أوجلان خطابه، يُجري مشاورات مع أربع جهات أساسية، في محاولة لضمان تجاوبها مع خطوته. يبدو أن التطورات الأخيرة في سوريا قد وفرت أرضية مناسبة لإعلان التخلي عن السلاح، وهو ما يسعى أوجلان لتحقيقه عبر التواصل مع التنظيمات التي تعمل تحت مظلة اتحاد مجتمعات كردستان (KCK)، بما في ذلك حزب العمال الكردستاني ووحدات حماية الشعب، إضافة إلى الفصائل السياسية المرتبطة بها.
لكن التجربة السابقة خلقت تخوفات لدى أوجلان بعد الامتثال. ففي عملية السلام عام 2013، لم يستجب حزب العمال الكردستاني ولا حزب الشعوب الديمقراطي لنداء أوجلان، مما أدى إلى فقدانه النفوذ، بينما تبنت قيادة قنديل الخيار العسكري، ووقف حزب الشعوب الديمقراطي إلى جانبها في أحداث كوباني وحروب الخنادق.
وبحسب الصحفي التركي المقرب من الحكومة، عبد القادر سيلفي، يدرك أوجلان خطورة تكرار هذا السيناريو. فمع تقدمه في العمر والمتغيرات الإقليمية، يرى أن هذه قد تكون فرصته الأخيرة للانتقال من النضال المسلح إلى مسار سياسي وسلمي بعد عقود من العنف. لهذا، يحرص على الحصول على تأكيدات إيجابية قبل إطلاق ندائه لإلقاء السلاح.
ويبدو أن الوفد الذي يلتقيه في إمرالي يعمل على توسيع دائرة المشاورات، حيث تُجرى لقاءات مع صلاح الدين دميرتاش من جهة، ومسعود بارزاني من جهة أخرى، بهدف تعزيز شرعية المبادرة. وذلك وفق للصحفي سيلفي في مادة نشرها على موقع (Hürriyet
) التركي، مشيراً إلى أن أوجلان يستعد لإطلاق ندائه في أواخر شباط أو مطلع آذار، يدعو فيه حزب العمال الكردستاني إلى إلقاء السلاح وإنهاء أنشطته المسلحة.
خطوات تمهيدية في قنديل.. و”قسد” تعيد ترتيب أوراقها مع دمشق
قبل أيام، أعلن قائد عمليات (PKK) في جبال قنديل، مراد كارايلان، عن وقف العمليات العسكرية للحزب داخل تركيا، واصفاً ذلك بأنه خطوة تمهيدية لدعوة أوجلان المرتقبة لإلقاء السلاح. لكنه شدد في تصريحات نقلتها وكالة “فرات” على أن الحزب لن يحل نفسه ولن يلقي أسلحته عبر “مكالمة فيديو”، بل من خلال مؤتمر عام للحزب.
بالتوازي مع هذه التطورات، أعادت “قوات سوريا الديمقراطية” (قسد) ترتيب أوراقها في شمال شرقي سوريا، حيث عقد كبار مسؤوليها اجتماعاً مع “مجلس سوريا الديمقراطية” (مسد) و”الإدارة الذاتية” مساء الإثنين في قاعدة “استراحة الوزير” بريف الحسكة، تمخض عن قرارات تهدف إلى تعزيز الاستقرار وتوحيد الجهود العسكرية مع دمشق.
وقال القيادي في “قسد”، أبو عمر الإدلبي، إن الاجتماع أكد على “دمج قوات قسد والمؤسسات الأمنية التابعة للإدارة الذاتية ضمن هيكلية الجيش السوري”، كما شدد على ضرورة انسحاب جميع المقاتلين غير السوريين من المنطقة. كما نصت قرارات الاجتماع على “إعادة تفعيل المؤسسات المدنية والخدمية التابعة للدولة في شمال وشرق سوريا”.
لا يزال مستقبل العلاقة بين “قسد” وحكومة دمشق، وموقف حزب العمال الكردستاني من دعوة أوجلان ضبابياً. فبينما تسعى أنقرة إلى فرض واقع جديد يحد من نفوذ التنظيمات الكردية، تعمل دمشق على إعادة ترتيب الأوضاع في شمال شرقي سوريا. وفي ظل هذه التحركات، يبقى تأثير دعوة أوجلان محورياً في تحديد مسار الأحداث، سواء باتجاه تسوية سياسية أو استمرار التوترات القائمة.
تلفزيون سوريا
—————————————-
“أنبوب الغاز” القطري: المشروع الذي حمّله النظام السوري مسؤوليّة “الثورة”!/ مصطفى الدباس
19.02.2025
يمثل مشروع خط الغاز القطري – التركي فرصة ذهبية لسوريا لإعادة بناء اقتصادها المتضرر، وسيحوّل سوريا إذا ما نُفِّذ، إلى مركز استراتيجي لنقل الطاقة، ما يدر عائدات مالية كبيرة من رسوم العبور. هذه العائدات يمكن استخدامها لإعادة إعمار المدن المدمرة وتحسين البنية التحتية. بالإضافة إلى ذلك، يمكن أن يوفر المشروع فرص عمل جديدة ويعزز من استقرار البلاد.
خرج السوريون إلى الشوارع في العام 2011، حاملين صرخات الحرية والكرامة، حينها سارع النظام السوري إلى تقديم رواية من عالم الخيال السياسي تستحق بجدارة أن تدرَّس كنموذج لنظريات المؤامرة. ووفقاً لهذا السيناريو العبقري، لم تكن التظاهرات الشعبية في درعا وحمص وحلب إلا جزءاً من مؤامرة كونية دُبرت في كواليس أنابيب الغاز الطبيعي المليئة بالمخططات الشريرة.
فجأة، تحوّل مشروع خط الغاز القطري إلى البطل الشرير في هذا الفيلم التراجيدي السوري، وطارد شبحه المتظاهرين في كل شارع وزقاق. وبكل براعة وخبث، ألقى النظام عليه كل اللوم، متجاهلاً بسلاسة لا متناهية استثنائية القمع الوحشي والفساد المتفشي وغياب الحريات والتهميش الذي دفع الشعب إلى الانتفاض. هكذا، وبتوقيع خيال النظام الخصب، أصبح خط الغاز ليس مجرد أنبوب محتمل، بل ذريعة سحرية تبرر كل طغيان ودمار.
في تلك الفترة، كانت وسائل إعلام النظام تتقن فن صناعة الأعداء، وتخرج مسرحية محكمة الحبكة تجعل قطر وتركيا محور الشر الكوني الذي لا شغل له سوى هدم “عاصمة الصمود والتصدي”، لمجرد أن الأسد قرر، “بشهامة نادرة”، أن يقول لا لمشروع خط الغاز القطري.
ووفقاً للرواية الرسمية التي لا ينقصها سوى بعض المؤثرات السينمائية، رفض الأسد المشروع حفاظاً على “مصالح روسيا المقدسة”، فجن جنون قطر وتركيا وقررتا الانتقام بإشعال الفوضى ودعم “الإرهابيين” في كل زاوية من سوريا. هكذا، وبلغة بسيطة مليئة بالهزل، اختُزل مشهد الشعب السوري وهو يصرخ من أجل الحرية إلى لعبة دولية ضد الأسد العظيم، وكأن سوريا، تحت حكم النظام الأسدي، لم تكن بالفعل مستباحة لكل من هب ودب من الروس والإيرانيين والميليشيات الطائفية، ناهيك بالقمع الدموي الذي مارسه الأسد نفسه على شعبه، وكان من أبرع المتآمرين ضد بلاده.
بداية قصة خط الغاز!
بدأ الحديث عن مشروع خط الغاز القطري في العام 2009، عندما اقترحت قطر إنشاء خط غاز يربط حقل الشمال، أكبر حقل غاز طبيعي في العالم، بأوروبا عبر السعودية والأردن وسوريا وتركيا. كان الهدف بسيطاً: توفير بديل لأوروبا عن الغاز الروسي، وبالتالي تقليل اعتمادها على موسكو. حينها، وبتوجيه روسي، رفض النظام السوري، الذي يحرَّك كالدمية بيدهم، المشروع بناءً على التزامات استراتيجية واقتصادية تجاه الكرملين، وأيد بدلاً من ذلك مشروع خط غاز مدعوماً من إيران وروسيا لنقل الغاز الإيراني عبر العراق وسوريا.
والحال أن هذا الصراع على مشاريع الطاقة كان حقيقياً ولا يمكن إنكاره، لكنه لم يكن السبب وراء خروج السوريين إلى الشوارع، كما أن الدعم القطري والتركي لم يأت للمعارضة إلا لاحقاً، بعدما رد النظام على الاحتجاجات السلمية بالرصاص والاعتقالات والتعذيب.
السردية الأسدية
استخدم النظام السوري رواية خط الغاز كوسيلة لتشويه الثورة وتحويل الأنظار عن الأسباب الحقيقية التي دفعت السوريين الى الانتفاض، بدءاً من القمع السياسي وتفشي الفساد وغياب العدالة الاجتماعية وليس انتهاءً بالتهميش الاقتصادي، بخاصة في المناطق الريفية مثل درعا، التي كانت نقطة انطلاق الاحتجاجات، حيث عانى السكان من الفقر والإهمال والتهميش لعقود. وعندما خرجوا للمطالبة بحقوقهم، واجههم النظام بالعنف، ثم ألقى باللوم على “خط الغاز القطري”.
كان من الملائم جداً للنظام أن يختلق مؤامرة خارجية تبرر كل ما حدث، وبدلاً من الاعتراف بمسؤوليته عن تدهور الأوضاع، صوّر نفسه كضحية لمخططات إمبريالية ذات أبعاد جيوسياسية للصراع، وهي حتى لو كانت السبب الأساسي لخروج الناس في الشارع للتظاهر، فهي لا تبرر القمع الوحشي الذي مارسه النظام ضد شعبه.
شهدت سوريا تحولات دراماتيكية بعد سقوط نظام بشار الأسد، الذي هيمن على البلاد لأكثر من خمسة عقود، ليصبح انهيار منظومة الأسد نقطة تحول جيوسياسية في منطقة الشرق الأوسط، أعادت صياغة علاقات القوى الإقليمية والدولية وفتحت الباب أمام فرص وتحديات جديدة لسوريا.
سيؤثر سقوط الأسد بشكل مباشر على موازين القوى في المنطقة، بدءاً من تقلّص نفوذ إيران وروسيا إلى صعود تركيا كلاعب محوري، بالإضافة إلى إعادة طرح مشروع خط الغاز القطري التركي الذي يمكن أن يعيد تشكيل مكانة سوريا الجيوسياسية.
على مدى عقود، كانت سوريا تحت حكم الأسد حليفاً استراتيجياً لإيران، إذ شكلت جسراً يربط طهران بلبنان لدعم “حزب الله”، وكان ذلك عاملاً حاسماً في تعزيز النفوذ الإيراني في المنطقة، ما مكن طهران من تقديم الدعم العسكري والمالي لحزب الله، والذي كان بدوره يشكل تهديداً دائماً لإسرائيل. إلا أن سقوط النظام السوري وجه ضربة قاصمة لهذه الاستراتيجية، إذ فقدت إيران القدرة على استخدام الأراضي السورية كطريق إمداد، ما أدى إلى عزلة إقليمية متزايدة لطهران، كما أن الضربات الإسرائيلية المكثفة التي دمرت جزءاً كبيراً من ترسانة حزب الله العسكرية جعلت الموقف أكثر سوءاً، إذ لم تعد إيران قادرة على مواجهة إسرائيل بالقوة نفسها.
إلى جانب إيران، كانت روسيا تعتمد بشكل كبير على وجودها في سوريا لتعزيز نفوذها الجيوسياسي، إذ امتلكت قواعد عسكرية حيوية في طرطوس واللاذقية، كانت تتيح لها الوصول إلى البحر المتوسط. ولم تكن هذه القواعد مجرد مراكز لوجستية، بل كانت تمثل رموزاً لنفوذ روسيا في المنطقة ودورها كلاعب رئيسي في السياسة الدولية. إلا أن تغيير النظام في دمشق وضع التمدد الروسي في مأزق، لأن فقدان روسيا وجودها في سوريا لن يؤثر فقط على عملياتها العسكرية في الشرق الأوسط وأفريقيا، بل سيؤدي أيضاً إلى تراجع قدرتها على مواجهة النفوذ الغربي في المنطقة.
أما تركيا، فقد استفادت بشكل كبير من سقوط النظام السوري، إذ دعمت أنقرة، منذ بداية الصراع، المعارضة السورية وسعت الى تعزيز نفوذها في البلاد، والآن أمام تركيا فرص جديدة لتوسيع دورها الإقليمي. ومع عودة الحديث عن مشروع خط الغاز القطري – التركي، أصبحت تركيا في موقع استراتيجي يمكنها من تحويل نفسها إلى مركز رئيسي لنقل الطاقة بين الشرق الأوسط وأوروبا.
سوريا: صراع أوروبي – روسي
يمثل مشروع خط الغاز القطري – التركي فرصة ذهبية لسوريا لإعادة بناء اقتصادها المتضرر، وسيحوّل سوريا إذا ما نُفِّذ، إلى مركز استراتيجي لنقل الطاقة، ما يدر عائدات مالية كبيرة من رسوم العبور. هذه العائدات يمكن استخدامها لإعادة إعمار المدن المدمرة وتحسين البنية التحتية. بالإضافة إلى ذلك، يمكن أن يوفر المشروع فرص عمل جديدة ويعزز من استقرار البلاد.
إلا أن تنفيذ مثل هذه المشاريع يتطلب بيئة سياسية وأمنية مستقرة، وهو ما قد يدفع القوى الدولية والإقليمية الى دعم استقرار سوريا، ويمثل هذا المشروع تحدياً كبيراً لروسيا، التي كانت تعتمد على صادرات الغاز للضغط على أوروبا سياسياً واقتصادياً، إذ سيمنح خط الغاز الجديد أوروبا بديلاً يعتمد على الغاز القطري، ما سيقلل من نفوذ موسكو. وإذا تحقق المشروع، قد تواجه روسيا صعوبة كبيرة في استعادة دورها كأكبر مورد للغاز إلى أوروبا، بخاصة في ظل العقوبات الدولية والضغوط الاقتصادية.
في السياق، وبعد تعيين أحمد الشرع رئيساً لسوريا خلال الفترة الانتقالية من المجلس العسكري للثورة، زار أمير قطر تميم بن حمد آل ثاني سوريا، وانتشرت صور على وسائل التواصل لاستقبال الشرع أمير قطر في المطار، وصور أخرى تجمعهما على جبل قاسيون. وتناول رواد مواقع التواصل الاجتماعي هذه الزيارة بين التفاؤل والسخرية، معلقين بعبارات مثل:”عطنا جعصة أبراج طال عمرك”، و”ماذا يفعلون هناك، يحتسون المرطبات؟”.
وكتب أحدهم ناقداً: “أمير قطر الذي لا يملك برلماناً ولا أحزاباً ولا حرية تعبير، ووصل الى السلطة بانقلاب، جاء إلى سوريا لدعم بناء دولة ديمقراطية تعددية!”، فيما قال آخر”جولاني سوريا ابتدي في توزيع الغنائم، تميم قطر في زيارة رسمية لسوريا واستقبله في مطار دمشق… طمنوني على خط الغاز والتحرر يا سوريين!”.
في المقابل، قال ناشطون على وسائل التواصل إن الزيارة تاريخية ومهمة جداً لإعطاء الشرعية للإدارة الجديدة، وتحقيق الاستقرار السياسي والأمني الذي سيساهم بدوره في تحسين صورة سوريا دولياً، ما قد يؤدي إلى رفع العقوبات الاقتصادية عنا في المستقبل القريب.
وكان رجل الأعمال محمد حمشو عاد إلى سوريا في 13 كانون الثاني/ يناير، بعد سنوات من الترحال بين تركيا وقطر، بوساطة قطرية، إذ يتّمتع أقرباؤه في قطر بنفوذ اقتصادي كبير. وتطرح هذه العودة تساؤلات حول مدى ارتباط قطر مجدداً بمشاريع إعادة الإعمار في سوريا، بما في ذلك إعادة تفعيل مشروع خط الغاز.
ويُعتبر حمشو واجهة اقتصادية لماهر لأسد، قائد الفرقة الرابعة في جيش النظام السابق، ومتهم بتمويل الفرقة ونشاطها العسكري، وشملت إمبراطوريته الاقتصادية مجالات الاتصالات والعقارات والإعلام والتجارة، وكان نائباً في مجلس الشعب السوري، وفُرضت عليه عقوبات من الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي منذ العام 2011، كما شملت العقوبات زوجته رانيا الدباس وولديه أحمد وعمر.
وتشير مصادر إعلامية إلى أن وجود حمشو في سوريا مرتبط بدولة قطر، نظراً الى وجود أولاد أخته هناك وحصولهم على الجنسية القطرية، ومن أبرزهم معتز رسلان الخياط، الذي ساهم في مشاريع عدة أثناء كأس العالم في قطر العام 2022، ما يثير تساؤلات حول دور قطر المحتمل في إعادة الإعمار في سوريا، بخاصة في ظل الحديث عن إعادة تفعيل مشروع خط الغاز القطري-التركي.
على رغم هذه الفرص، يواجه المشروع تحديات كبيرة، فالانقسامات الداخلية في سوريا تشكل عقبة رئيسية أمام تنفيذه، والتوترات بين الفصائل المختلفة، بالإضافة إلى التدخلات الخارجية، قد تؤدي إلى صراعات جديدة على النفوذ داخل البلاد. كما أن إعادة تأهيل البنية التحتية التي دمرتها الحرب تتطلب استثمارات ضخمة ودعماً دولياً مستداماً، وإذا تمكنت سوريا من تجاوز هذه العقبات، فإنها قد تستعيد دورها كفاعل إقليمي محوري.
هل كانت رواية النظام السوري عن خط الغاز القطري محقة؟ ربما، ولكن ليس بالطريقة التي أراد النظام تصويرها. فبينما كانت هناك أبعاد جيوسياسية حقيقية للصراع، إلا أن الثورة السورية كانت، في جوهرها، انتفاضة شعبية ضد القمع والفساد. حاول النظام توجيه الأنظار بعيداً عن هذه الحقائق باستخدام خطاب المؤامرة، لكن سقوطه أظهر أن القمع لا يمكن أن يستمر إلى الأبد، وأن التغيير قادم، حتى لو كان طريقه مليئاً بالمطبات.
يجب التذكير أيضاً بأنه عقب سقوط النظام، أكد المتحدث باسم وزارة الخارجية القطرية، أن الحديث حول بناء خط أنابيب لنقل الغاز إلى تركيا عبر سوريا لتزويد أوروبا، “تكهنات إعلامية”، وأن قطر تركز حالياً على “دعم الاستقرار في سوريا وتلبية احتياجات الشعب السوري من خلال المساعدات الإنسانية والتقنية”.
– صحافي سوري مقيم في برلين
درج
———————————-
في تشريح التكتل الحاكم لمعظم الأراضي السورية/ إياد الجعفري
2025.02.19
في حديث مطوّل أجراه، عامر الشيخ، قائد “حركة أحرار الشام” -قبل حل الفصائل- مع مجلة “الفراتس”، بتاريخ 31 كانون الثاني 2025، قال: إنّ التقارب العسكري بين فصيله وبين “هيئة تحرير الشام”، والذي سبق معركة ردع العدوان، بعدة سنوات، صحِبَه تقارب فكري على مستوى القيادات.
لكنه الشيخ أقرّ بأنه لم يكن كذلك على مستوى المقاتلين “فأبناءُ الحركة يَرَوْن مقاتلي الهيئة غلاةً، ومقاتلو الهيئة يَرَوْن مقاتلي الحركة مميِّعة، لكنَّ طولَ الاحتكاك ورغبةَ القيادات بتوحيد الصفّ ساعَدا على تجاوزِ هذه المحنة الفكرية والخروجِ بنموذجٍ جديد”.
تضيء الإشارة السابقة على جانب من جوانب العلاقة المعقّدة التي تربط بين مكونات التكتل الحاكم اليوم لمعظم الأراضي السورية، حيث تتشكّل النواة الضيقة والصلبة لهذا التكتل من قيادات ورموز “هيئة تحرير الشام” المنحلة بموجب مخرجات مؤتمر النصر في نهاية الشهر الفائت، ويتسع هامش هذا التكتل، ليضم فصائل أخرى.
وإن أردنا تشبيه ذلك، بالهرم المؤلف من “مثلثات”، تتسع مساحتها من القمة إلى القاعدة، يمكن أن نقول إن تحت “القمة”، التي يتربع عليها رئيس الجمهورية، أحمد الشرع، يأتي المثلث الأضيق والأكثر التصاقاً بـ”الرئيس”، والذي يضم القادة الموثوقين من “هيئة تحرير الشام”، المقرّبين من الشرع، بدلالة أن المناصب الأكثر حساسية، في وزارة الدفاع، والاستخبارات، والخارجية، كانت من نصيبهم.
ويتلو ذلك، مثلث أكثر اتساعاً، وأقل درجة على صعيد النفوذ والتأثير، يضم الفصائل الحليفة لـ”تحرير الشام”. ونزعم، أن أقربها “أحرار الشام”، تتلوها فصائل “الجبهة الشامية” و”صقور الشام”، ثم تتلوها في القائمة فصائل أصغر أبرزها “حركة نور الدين الزنكي” و”فرقة السلطان سليمان شاه”.
معظم الفصائل الشريكة في السلطة اليوم، سبق أن انخرطت بنزاعات دامية، عديدة. أبرزها “أحرار الشام”، التي خاضت عدة جولات اقتتال مع “تحرير الشام”، ما بين عامي 2014 و2019، قبل أن تصبح حليفة للهيئة، في حالة أقرب للتبعية، بعد اتفاق عقده قائد “أحرار الشام” عامر الشيخ، بهندسة ودعم من القائد السابق للحركة، حسن صوفان، مع أحمد الشرع، عام 2021.
كذلك، خاضت “حركة نور الدين الزنكي” قتالاً دامياً ضد “هيئة تحرير الشام”، بين عامي 2018 و2019، انتهى بهزيمة الحركة، وبدورها انخرطت “الهيئة الشامية” بصراع مسلح مع “تحرير الشام”، عام 2022، تطلب وساطة تركية لوقفه.
جميع تلك الفصائل، وأخرى مضافة إليها، انخرطت في معارك عملية ردع العدوان، منذ أيامها الأولى بقيادة “هيئة تحرير الشام”، قبل أن تنضم إليها فصائل أخرى، في الجنوب والشرق، وصولاً إلى لحظة دخول العاصمة دمشق، ومن ثم، أجرى الشرع، ووزير دفاعه مرهف أبو قصرة، محادثات مطوّلة، قبل أن تبدأ ملامح التكتل القائم اليوم، بالتشكّل.
وفي حين ذهبت المواقع الأكثر حساسية إلى قيادات من “هيئة تحرير الشام”، ذهبت مواقع مهمة، وإن كانت أقل حساسية، لصالح قيادات من الفصائل الأكثر قرباً من الهيئة، والأكثر فاعلية عشية ردع العدوان.
ومن الملفت في توزيع مواقع المسؤولية، هو مراعاة الخلفية المناطقية للشخصيات، فقد أصبح عامر الشيخ –قائد أحرار الشام- المنحدر من قطنا في ريف دمشق الغربي، محافظاً لريف دمشق، فيما عُيّن حسن صوفان –القائد السابق لأحرار الشام- الذي ينحدر من مدينة اللاذقية، مسؤولاً عن الأمن والاستقرار في الساحل السوري، بحسب وصفه لمسؤولياته، في تصريحاتٍ أدلى بها لصحيفة “عكاظ” السعودية.
وعُيّن، عزام غريب –قائد الجبهة الشامية- بموقع محافظ حلب، ورغم أن غريب من مواليد سراقب شرقي إدلب، إلا أنه من سكان مدينة حلب قبل الـ2011، ومن المعلوم أن معظم مقاتلي فصيله ينحدرون من ريف حلب، كما أصبح أحمد عيسى الشيخ –قائد صقور الشام- محافظاً لإدلب، وهو ينحدر من ريف المحافظة.
أولى الملاحظات على تعيينات المحافظين تلك، هي أن الشرع خالف المبدأ الذي كان يعتمده نظام الأسد في تعيين المحافظين بمحافظات مختلفة عن خلفيتهم المناطقية -في معظم الحالات- كما لا يخفى على المراقب، البعد الأمني لأدوار المحافظ، مما يوحي بهدف آخر من هذه التعيينات -غير استرضاء الحلفاء- وهو توزيع المسؤولية الأمنية بين القوى المسلحة المنضوية تحت إدارة الشرع، والاستفادة من الخبرات الأمنية لدى الشخصيات المعيّنة.
وهو ما يؤشر إلى تقدم الهاجس الأمني، وهو أمر متفهّم، لكن، في الوقت نفسه، لا بد من الوقوف عند محدودية وزن “المحافظ” في تركيبة السلطة بسوريا، وفق المعتاد، وهو ما يجعل هذه التعيينات، في رأي الكثيرين، أشبه بجوائز ترضية لقيادات الفصائل التي قبلت حلّ فصائلها للانخراط في ظل سلطة الفصيل الأقوى “هيئة تحرير الشام”، وهو ما يجعل القدرة الذاتية لهذه الفصائل على التأثير في صنع القرار داخل هرم السلطة الجديد، محدوداً، وخاضعاً لتقبّل رأس هرم السلطة شخصياً.
وهي معادلة ارتضتها “حركة أحرار الشام”، منذ أكثر من ثلاث سنوات، تجنباً لانهيارها تحت وطأة صراعاتها وانقساماتها الداخلية، التي وضعتها في ميزان قوى غير متكافئ مع “هيئة تحرير الشام”، فتحوّلت “أحرار الشام”، على مدار 10 سنوات، من أبرز فصائل الحراك الثوري المسلح قوةً، إلى رديف لـ”تحرير الشام”.
ينطبق هذا التوصيف على فصائل أخرى كـ”الزنكي” مثلاً، لكن في المقابل لفصائل أخرى استقلالية أكبر كـ”الجبهة الشامية”، لكنها في الوقت نفسه، ستخضع للإرادة التركية بالانخراط في مشروع الدولة الواحدة، تحت قيادة الشرع، كما أنها مضطرة لمراعاة موازين القوى المختلة للغاية، بينها وبين الفصيل الأقوى في السلطة، خاصة مع الشرعية الإقليمية التي بات يتمتع بها، أحمد الشرع.
يعلم المتحالفون مع “هيئة تحرير الشام”، المعادلات التي تحكم العلاقة التحالفية مع هذا الفصيل وقائده، فهم خبروه جيداً على مدار سنوات من النزاع والتصفية التي أدت إلى اختفاء فصائل “ثورية” عديدة، لا يقبل الشرع بأي منافسة على “الشرعية”.
سابقاً، كان النزاع على “الشرعية الجهادية” سبباً للاقتتال الذي أدى إلى إجهاز “هيئة تحرير الشام” على أبرز منافسيها، وترويض آخرين، ومن ثم كان النزاع على “الشرعية الثورية” سبباً لاقتتال آخر، انتهى إلى ذات المآلات، أمّا “الشرعية” المستقاة من العلاقة مع قوى خارجية، فكانت سبباً عميقاً للكثير من صراعات الفصائل “الثورية” التي حسمتها “هيئة تحرير الشام” لصالحها.
واليوم، وبعد أن حصل أحمد الشرع على “الشرعية الرسمية” بوصفه ممثلاً للدولة السورية بإقرار الفصائل المجتمعة في مؤتمر النصر، قبل أسبوعين، وبقبول من قوى إقليمية ودولية فاعلة، من غير المتوقع أن نشهد أي تمردٍ من أي قيادة “فصائلية” سابقة.
وفي حين يعمل وزير الدفاع، أبو قصرة، على استكمال هرم السلطة الجديدة، عبر استمالة فصائل الجنوب لتصبح مثلثاً آخر داخله، تتعزز المعادلات الناظمة لعلاقات التكتل الحاكم لمعظم الأراضي السورية، اليوم، باتجاه نفوذ مركّز ومستقر، في قبضة الشرع، والمقرّبين منه.
تلفزيون سوريا
—————————————–
عن ضرورة تمكين الثقة بين القيادة الجديدة والشعب السوري/ سوسن جميل حسن
19 فبراير 2025
منذ سقوط النظام الأسدي في الثامن من ديسمبر/ كانون الأول الفائت، واستلام قيادة عملية ردع العدوان إدارة المرحلة، ومن بعدها مؤتمر الفصائل ومبايعة أحمد الشرع رئيساً مؤقتاً للبلاد، والشارع السوري لا يهدأ، إن في الواقع أو على صفحات مواقع التواصل الاجتماعي. بل يبدو، بعد انتهاء فورة المشاعر المحتفلة بسقوط الأسد، والخلاص من ديكتاتورية جثمت على صدور السوريين إلى حدّ أنهم لم يتخيلوا أنها يمكن أن تنهار، يبدو وكأن السوريين يلاحقون أداء الجهة الجديدة التي اعتلت سدّة الرئاسة والقيادة، بين غير مصدقين، أو مذهولين، أو حذرين ومتوجّسين، خاصة أن ماضي هيئة تحرير الشام وأداءها منذ أن كان اسمها جبهة النصرة، لم يغادرا ذاكرة السوريين بعد، على الرغم من الحقيقة الساطعة التي عليهم قبولها والتعامل معها، وهي أن لا مجال للاختيار بين هذا الواقع وواقع آخر، فالقيادة الجديدة صارت حقيقة ماثلة أمام الشعب السوري، علاوة على التحولات المتسارعة التي طرأت على القائد الجديد، والتي تقرّبه أكثر مما اعتاد عليه السوريون، لناحية مظهره، وصار خطابه أكثر اعتدالاً وهدوءاً، موجهاً إلى كل شرائح الشعب، على غير خطابه السابق منذ تأسيس جبهة النصرة، عندما كان إقصائيّاً وطائفيّاً أيضاً، تعزّزه مقاطع الفيديو والمقابلات السابقة معه، عندما كان اسمه أبو محمد الجولاني، هذه المقاطع التي يلجأ إليها المتشكّكون للبرهنة على شرعية هواجسهم، والتشكيك بكل ما يصدر عن الإدارة الجديدة. بالإضافة إلى ما ظهر عليه من اشتغال على النفس وتثقيفها، والاطلاع على تجارب شعوب ودول مرّت بأزمات عبر التاريخ، واستطاعت أن تنهض وترسم تجربتها الخاصة، بالإضافة إلى ما يبدو عليه من أداء سياسي براغماتي.
يعمل هذا التغير المترافق مع عمل حثيث على الصعيد الخارجي بشكل خاص، وهو ما تحتاج إليه سورية اليوم كي تنهض، فالعقوبات المفروضة عليها بسبب نظام الأسد وجرائمه تعرقل أي تعاون أو نيات للاستثمار في سورية ومساعدتها في إعادة إحياء اقتصادها، هذا التغير ربما جدير بالسوريين أن يأخذوه على محمل الجد، وأن يعطوا الفريق العامل وقتاً بانتظار أن تحصد النتائج.
لكن هشاشة الوضع السوري الحالي في كل جوانبه، وخاصة هشاشة السلم الأهلي، تجعل من السوريين متلهفين للوصول إلى مستقر يمنحهم الثقة والثبات، وخائفين على أحوالهم بسبب الهشاشة التي ذكرناها، وبالتالي فإن عامل الوقت يصبح مرفوضًا في هذه الحالة.
من الأهمية بمكان تعزيز ثقة كل شرائح الشعب بالإدارة الجديدة، خاصة وأن الثقة بالحكومات والنظام السياسي مشروخة ومتهالكة بسبب ممارسات النظام على مدى سنوات حكمه القمعي للشعب، ما أدى إلى انعدام الثقة بتمثلات السلطة، حتى لو كانت على مستوى رئيس مخفر شرطة مدنية. لذلك من المنطقي أن تكون هناك مبادرات من السلطة تكون بمنزلة حالة تأسيسية لهذه الثقة، ربما تكون الحكومة الانتقالية المزمع تشكيلها قريبًا عتبة دخول في هذه المرحلة الجديدة، بما تحمل من ملامح تنسجم مع تطلعات الشعب السوري، وتمثل شرائحه المتنوعة مجتمعة حول هدف تحقيق تطلعاته.
ومن المنطقي أيضاً أن تراجع الحكومة الحالية أداءها خلال الشهرين الماضيين، في محاولة تقويم أدائها ومعرفة النقاط التي أحدثت هذا الضجيج في الشارع، والدافع خلف الأصوات المستهجنة والرافضة، وهي أمور تأسيسية بالنسبة إلى المجتمع السوري وضرورية لاستقراره مستقبلًا، فبعد كتابة دستور للبلاد يحكم المستقبل، يصبح الرجوع عن بعض نصوصه أو تعديلها أمراً صعباً واستمراره بما قد يحمل من نقاط خلافية قد يؤدي إلى هدم ما تم بناؤه.
هذا الفوران المستمر في الشارع السوري، والانتقادات ومظاهر عدم الثقة التي يبديها قسم من الشعب، يمكن فهمها بما هي ظاهرة طبيعية بعد عقود من القمع وكم الأفواه وتلقي الأوامر والامتثال، من دون إشراك الشعب في أي قرار تتخذه الحكومة. لقد صادر النظام القمعي ألسنة الناس وإراداتهم، وعمل على فبركة صور له ولرموزه، اعتاد عليها السوريون إلى حدّ أنها صارت طبيعية وأي اختلاف عنها غير مألوف ومن الصعب قبوله، أو يحدث إرباكًا لدى العامة. وبعد هذه العقود من ممارسة السلطة على الشعب بآليات من هذا النوع وبهذه الطريقة، وما تركت خلفها من رواسب في قاع النفوس والذاكرة، من المنصف أن نفهم ردّات فعل الشعب حين يكون مبالغًا فيها في بعض الجوانب، تجاه قرارات وممارسات الإدارة الحالية، ومن واجب الإدارة أن تصغي، وتتفهّم أيضًا، وهي فعلت منذ استلامها السلطة، إذ تراجعت عن بعض القرارات التي أصدرتها بعد رفض الشعب لها.
لكن، غالباً ما يجلب التغيير معه القلق من الغد، وهذا مألوف، حتى لو كان بالنسبة إلى الحالة السورية مطلباً شعبيّاً دفع ثمنه الشعب أثماناً تفوق الخيال، لكن الحالة الجديدة بعد سقوط النظام فرضت إيقاعاً جديداً، فظهرت أولويات على السطح، الوضع المعيشي للسكان هو الشاغل الرئيس فيها، وفرضت مخاوف أيضًا، فالشعب السوري المتعدد لناحية الأديان والطوائف والقوميات، هو متعدد الثقافات أيضًا، ولقد رأت بعض المجموعات منه أن هناك اعتداء على هويتها ومحاصرة لحرياتها، وأما بالنسبة للحالة الراهنة فيمكن تصنيفها بأنها مرحلة تغيب عنها الدولة بمعناها الدقيق، ما دام أن الدستور معطل والأحزاب قد حلت، فلا حراك سياسيا في المجتمع، والنقابات أيضًا، وكثير من المؤسسات في حالة شلل، كذلك فإن المجتمع السوري تتمكن منه حالة ما قبل الدولة، أو حالة الهويات والانتماءات الضيقة، تجاه هذا الشعور بالإقصاء، خاصة في انعدام وجود جهات تمثيلية، إن كانت برلمانية أو مجالس أو مجتمعا مدنيا، لذلك يشعر كثير من السوريين بالقلق والخوف من الغد.
تقع على عاتق القيادة الجديدة مسؤولية ثقيلة، وتحمل إرثاً أثقل، من تركات نظام أوصل البلاد إلى الخراب، وهو، وإن فرّ خارج البلاد بجميع أدواته الرئيسة، فإن لديه بقايا وفلولًا تلعب بها أياد خارجية تسعى إلى عرقلة أداء القيادة الجديدة، وتهدد السلم الأهلي مما يزيد من أزمة الثقة. هذه البقايا تعيش في أوساط ومناطق بعض السوريين، وهي، وإن كانت مرفوضة غالبًا من قبل هذه الأوساط او البيئات، إلّا أن الحالات التي تهدد السلم الأهلي، وغياب تطبيق العدالة الانتقالية، كما يأمل السوريون، وتهميش بعض المجموعات من الشعب، سواء عن قصد أو من دون قصد، لكنها تهدّد الحالة الأمنية مثل قنابل موقوتة، تقع مسؤولية تفكيكها على الحكومة، تهدد أمن المجتمع، إن معالجة التجاوزات والحالات الانتقامية التي تمارس بين الحين والأخر بشكل مسؤول وعادل، تمنح القيادة قوة إضافية وتجذب السوريين إلى جانبها. في الوقت نفسه، لا يمكن تجاهل حقيقة أن يكون لهذه الإدارة الجديدة تحديات ومشكلات كبيرة، ربما لا يعرفها الشعب، أو لا تظهر إلى العلن، لكن تعزيز الثقة بينها وبين جميع شرائح الشعب يزيد من قوتها وثباتها وقدرتها على حل مشكلاتها وتجاوز عقباتها، فعندما تستمد السلطة قوتها من الشعب تستطيع أن تتمكن وتزيد من قدرتها على النهوض بالدولة وبناء المجتمع. هذه الإدارة، وعلى الرغم من محاولة رئيسها ووزير خارجيته تصدير صورة براغماتية تنسجم مع تطلعات الشعب، وتتوافق مع الإطار الذي تضعه الدول القوية التي تحتاج إليها في رفع العقوبات من أجل الانطلاق في عملية إعادة البناء، إلّا أنها ما زالت تتقدم ببطء في الطريق الشائك الذي تسير فيه، ولم تكسب ثقة الشعب إلى الحد الذي يمنحها دفعاً إلى الأمام. لذلك من المهم بمكان العمل على إعادة تمكين الثقة بينها وبين جميع فئات الشعب السوري، فمن دون هذه الثقة سوف يُهدَر كثير من الوقت والجهد في طريق شاقة وطويلة، طريق إعادة بناء الدولة وجبر التصدعات التي يعاني منها المجتمع. وعلى هذا الأساس فإن الاستماع إلى أصوات الشعب، وأخذ انتقاداته مأخذ الجد ضروري في هذه المرحلة، ربما تعلو أصوات تطالب بأن تُمنح الحكومة بعضاً من الوقت لأن ما تم الاشتغال عليه على مدى أكثر من نصف قرن، لا يمكن تفكيكه في شهور قليلة. ومع الأسف، ليس الوقت في صالح سورية، دولة وشعبًا، فهشاشة الوضع بلغت حدّاً لا يمكن معه الانتظار لسنوات كي يبدأ البناء السليم، الشعب بحاجة إلى الطمأنينة والشعور بالثقة مع قادته الجدد، وهو ينتظر أن تؤخذ احتجاجاته تجاه بعض القضايا بعين الاهتمام من القيادة وملاحظة هواجس بعض الشرائح وتطلعاتها بالنسبة إلى مستقبل سورية والعمل فعليًا على إنهائها، والاهتمام بتعددية المجتمع السوري وضمان حماية هذه التعدّدية، ما يمنحها دافعاً إيجابيّاً، خاصة إذا فسح لها المجال للتشاركية والإسهام في صنع القرارات. تمكين الثقة أمر مطلوب من أجل البناء السليم والتقليل من الأخطار المهددة بإطاحة ما تم إنجازه، ودخول البلاد في فوضى مدمّرة.
العربي الجديد
——————————–
مساجد الشام وجوامعها: ركوع لله وركوع للسلطة/ عبير داغر إسبر
الثلاثاء 2025/02/18
كل الذين أُحبهم… نهبوا رقادي واستراحوا…
الشام هي جوامعها، هي مساجدها لانهائية العدد. لطالما زُيّنت وتزيّنت حاضرة الأديان بتلك الجواهر العمرانية. فمنذ أول الوقت وهي تنذر نفسها للأديان، وتنذر نفسها سياسياً وعلنياً للإسلام، بحيث حمل أثيرها الصلوات خمس مرات يومياً، إضافة إلى “بِدَع” متعبّديها. لكننا سنترك التاريخ ليرتاح من تدقيقنا لوهلة، عله يتركنا بدوره لنغرق في الآن، واضعين أجسادنا وأرواحنا بين يدي الزمن في آنيته.
مساجد الشام وجوامعها، أرقام وفجيعة…
مساجد دمشق كثيرة، وبإحصائية معتدلة الدقة يقترب عددها من 2800 مسجد، تتفاوت وتتراوح بين عمارة عتيقة وأخرى حديثة، وما بينهما تستكين عمارة لا صوت لها سوى الجمال. مورس عليها الترميم والتعديل، للحكاية وللحجر، كأيقونتها الأشد حضوراً: الجامع الأموي. وإن أغوتنا الأنثروبولوجيا، سندرك من دون جهد أن تلك الأيقونة العمرانية، أي “المسجد” الدمشقي، مثّلت للباحثين ميزان حرارة غاية في الدقة، كميزان ذهب، عكس توازناً لم يكن تحقيقه هيناً أبداً، توازن رقصات بخطوتين إلى الأمام وواحدة إلى الخلف، بين رجال السلطة ورجال الدين. فعُمِّرت المساجد عبر تلمّس تلك الحساسية بين نقيضين بديا كذلك، لكن، ومثل كل السلطات القائمة على توازنات فساد وتبادل مصالح، لعَين مراقب مدرّب ومنتبه إمكانية قراءة ذبذبات تلك الرقصة وتتبع تاريخها بين التراجع والإقدام، والتراخي والتوتر، عبر حامل عمراني لم يكن له من اسم أحلى من المسجد الدمشقي.
ما بين المسجد والجامع، بين الركوع لله والركوع للسلطة…
لم تُقَم في مساجد الشام غير الصلوات، أما في جوامعها، فقد طُبخت السياسة، وجُنِّد الشبان والشابات، ومُسح ومسُخ عقلهم، وزُرعت الطائفية في حدقات عيونهم، وغُرست في وعيهم مطعّمة ببهارات بشرية مباركة. ففي تاريخ دمشق الحديث نسبياً، ومع قدوم البعثيين، وقبل تسلمهم النهائي والتام و”الأبدي” للسلطة في سوريا، لم يكتفِ حزب البعث “العلماني” بتجاهل تاريخ دمشق الديني بمكوناته كلها، وثنيته العتيقة، يهوديته، مسيحيته، وإسلامه، بل لم تشهد دمشق بناءً مضطرداً لجوامعها. تُركت تلك المهمة حتى مجيء الانقلاب “التصحيحي” وتكريسه للفَجَع الطائفي، حيث، منذ يومه الأول، ومنذ البداية، وعى ذلك النظام بشيء من الحذاقة “الممجوجة” معنى ورمزية وقيمة تلك المفردة في وجدان الدمشقيين، أهل الشام. فلم يتغاضَ عنها فحسب، بل يسّر، وبسّط، وأتاح بناء المساجد في دمشق، كلعبة مقايضة بغيضة، وترضية رخيصة عما فعله وظل يفعله من خزي في مدن حماة وحلب. فتكرِّست تلك المفردة العمرانية من جديد كإرث للهمجية السياسية التي حكمت سوريا والشام.
الشام وإخوانها المسلمون: رجال أعمالها وتجار الوطنية والسلاح…
منذ التسعينيات وصعوداً، عُقدت التسويات مع جماعة الإخوان المسلمين، وأُطفئت النيران بالدماء، ثم بدأ التغاضي عن دخول المال “الإخواني” أحياناً والمافيوزي بأشكال عديدة. أحد تلك التجليات أن سُمح لأفراد بأسماء مريبة، ليس فقط بتملك وإنشاء المشاريع الاقتصادية بشراكة معلنة أو مضمرة مع رجالات الدولة السورية مدنييها وعسكرييها، بل أيضاً منحوا فرصة تنقية وحول أسمائهم وزرعها في وجدان الدمشقيين، بإضافتها “كالعادة” إلى أماكن عبادتهم الأكثر فرادة وأيقونية. فأصبح من الطبيعي، بل المعتاد، أن يبني هؤلاء المساجد ويربطوها بأسمائهم. وهكذا، بتلك المهارات غير المعلنة، وبتواطؤ شيطاني بين العنف السياسي والديني، ستُرفع المآذن في سموات الشام، حتى تأتي المسألة السورية وتحتل بوطأتها الأرواح والأماكن، وتعيد تعريف العمارة الدمشقية ككل.
دمشق ومآذنها المجدولة بالإنشاد والعنف…
في 2011، أتى السوريون بأطيافهم ودياناتهم المختلفة إلى انتفاضتهم، ثورتهم، ببراءة واعتيادية، وعانقوا كرامتهم جيئةً من المساجد ورواحاً إليها. إذ لم يكن لوجود المسجد حينها ذاك الوقع المهيب أو المربك، أو الكابح لفعل العيش في حياتيته. ففي تاريخ الدمشقيين، في نهاراتهم ولياليهم، في تسكعهم في الأزقة، شرب السوريون في تاريخهم الأكثر حداثة بيرَتهم وكحولهم في أماكن تطل على حوائط الجوامع. حدث هذا في ساحة باب توما، وفي مقاهي باب شرقي. حدث أن اختلط صوت الأذان مع وقع الحياة، مع آثامها حتى، كما فعلت وتفعل الصلوات، وكما يفعل الضالون ومعتنقو الأخلاق، مشتبكين في حياة واحدة. نعم، حصل أن خرجت الثورة من الجوامع، خرج الجميع من أمام ومن داخل الجامع لأن هذا ما استطاعوا فعله، كونه الفعل الأكثر اعتيادية والأقل إثارة للانتباه. لكن حتى الحجارة والعمارة ستدفع ثمن تلك الانتفاضة.
سيأتي زمن يُرتكب فيه ما لم يكن مُتخيلاً. ستهدم مساجد سوريا، تلك التي سمح النظام بإنشائها لأسباب مغشوشة، فَيُحرق البلد بأكمله، ولا يُبقى إلا على مساجد دمشق، كحالة رمزية للسيطرة على العاصمة، على الشام. فتنهب القذائف مساجد ريف دمشق، ومدن حلب وإدلب وحمص وباقي المحافظات. ففي إحصائيات لم يخدّرها الألم، تم تدمير 700 مسجد، وإصابة ضعفها بأضرار فادحة داخل كل مدن سوريا على امتداد سنوات من العنف المسفوح.
مساجد دمشق ورمزية السلطة مجدداً…
ليس سراً ولا تهمة أن السنوات المقبلة ستعيد تعريف هذه المفردة العمرانية من جديد، وستُحمّل الجوامع والمساجد أدواراً كثيرة، وربما متناقضة. ستحمل تلك الماسة انعكاس ألف وجه ورؤية. ستحمل صورتنا، صورة حاضرنا، والمستقبل الذي نوينا أن نكون فيه. فهل ستتحول المساجد إلى مكان نافٍ لهويتنا الجمعية التي بنيناها كسوريين في أيام الثورة الأولى؟ هل ستنفي المسيحيين والعلويين والدروز والإسماعيليين وتحيلهم من سوريين إلى مجرد مسيحيين وعلويين ودروز وإسماعيليين؟ هل ستُبني تواطؤاً بدائرة شيطانية، لضحية لا تريد أن تكون ضحية، فتحالف جلادها، كأنها مستلبة لتروما الفقد؟ هل سيُشنَق السوريون بعمارتهم ذاتها من جديد؟ فهم لم يُقتلوا ويُعذَّبوا في المعتقلات فقط، بل فعلت بهم أيقونتهم الرمزية ذلك، بعدما نُصبت مشانق أحلامهم بالحرية أمام أبوابها، وعلى جدران مساجدها، جدران الشام.
المدن
—————————-
العالم وإيران وبينهما نحن/ حازم صاغية
19 فبراير 2025 م
قبل أيّام، بمناسبة الذكرى العشرين لاغتيال رئيس الحكومة اللبنانيّ رفيق الحريري، كرّر كثيرون من مُتذكّري الحدث أنّهم ظلّوا يستبعدون احتمال اغتياله إلى أن حصل. فهم رأوا أنّ علاقات الحريري الواسعة، العربيّة والدوليّة، وصداقاته الكثيرة، تحميه وتمنع قتله، وأنّ القاتلين المحتملين سوف يحسبون، من دون شكّ، «حساب العالم». لكنّ ما تبيّن، يوم 14 شباط (فبراير) 2005، أنّ القَتَلة، الذين لم يعبأوا بتلك العلاقات، نفّذوا فعلتهم.
وهؤلاء الذين آثروا أن لا يحسبوا «حساب العالم» خاطبوا ميلاً عميقاً في نظام قيمنا السائد، وفي فكر سياسيّ لا يزال قويّاً في منطقتنا، مفاده بالضبط أنّ «حساب العالم» ينبغي أن لا يُحسب. وبخليط من وعي فوضويّ (أناركيّ) ووعي ريفيّ، أبرشيّ وارتجاليّ، غالباً ما نُظر إلى «عدم الحساب» هذا بوصفه شجاعة ومصدر فخر لصاحبه، لا سيّما وأنّ «العالم» كائن آخر مُعادٍ لا يجوز أن يُحسب له حساب. ووفق تأويل شِعريّ للوطنيّة، وتحت وطأة كتابة ملتوية للتاريخ، أُدرجت أفعال القطع مع العالم في خانات التحرّر والاستقلال وكسر التبعيّة وتحدّي الإمبرياليّة…
وبدورهم نجح قاتلو الحريري في جعل اغتياله بداية لمرحلة معتمة عُزل فيها لبنان عن عالم قُرّر أن لا يُحسب له حساب، مرحلةٍ اقترنت بالفقر والتراجع الذي طال الأصعدة جميعاً. وما لبث بشّار الأسد، وهو أحد الضالعين في الجريمة إيّاها، أن غطس وغطّس بلده في عزلة أمرّ وأقسى.
لكنْ ممّا يُلاحظ الآن، بعد عشرين عاماً على ذاك الحدث، أنّنا باشرنا مجدّداً نأخذ العالم في حسابنا، لا يشذّ عن ذلك سوى بضعة أعمال حمقاء ومشبوهة ترتكبها بقايا «حزب الله» – الضالع، هو الآخر، في الجريمة إيّاها.
فالهمّ الطاغي في لبنان اليوم هو تحديداً كسب ثقة البلدان العربيّة والغربيّة القادرة وحدها على إقالة عثراته الاقتصاديّة ومساعدته على إنفاذ القرار 1701 وإخراج الإسرائيليّين من أرضه. وفي سوريّا، لا يكتم بعض قادة الوضع الجديد وبعض نقّاده على السواء تعويلهم على الخارج. فهو وحده يزيل العقوبات عن السوريّين ويضمن تدفّق الاستثمار إلى البلد المنكوب، كما يدفع النظام القائم إلى التقيّد بمعايير أكثر مقبوليّة واستواء وعصريّة.
يضاعف من إلحاح التعويل على الخارج وضرورة أخذ العالم في الحساب أمران، أوّلهما، أنّ «العالم» (كائنةً ما كانت القوى التي تمثّلَ بها) هو الذي أحدث التغيير الكبير الذي جسّده سقوط الأسد في سوريّا وضمور «حزب الله» في لبنان. والثاني، أنّ تَركنا وجهاً لوجه أمام دواخلنا الوطنيّة يعادل تَركنا تحت وطأة أوضاعنا الأهليّة القلقة والمُقلقة، من دون وجود قوّة قادرة تستطيع أن تكون مصدر تحكيم بيننا، ووسط ضعف في الإجماعات التي لا تُبنى من دونها مجتمعات ودول.
وحين نقول «العالم» نعني أشياء كثيرة، لكنّه في مردوده السياسيّ على بلد ما يعني من يملك شيئاً مفيداً للبلد، تُلمس فائدته وتُقاس تجريبيّاً، ما ينعكس على حرّيّات السكّان ومستوى معيشتهم وتعليمهم وصحّتهم… وإذا كانت الحكومات المعنيّة منتخبةً، زادت أهميّة الاعتبارات المذكورة لأنّ الناخبين سوف يحاسبونها تبعاً للإنجازات التي قدّمتها أو التي لم تقدّمها. لكنّ الشيء المؤكّد أنّ الاقتصار على تزويدنا بالسلاح (لأنّ صاحبه لا يملك سلعة أخرى) يُخرج هذا الطرف من مصطلح «العالم» في نظر الدولة طالبة العون.
وبالمعنى هذا فإنّ إيران اختارت بمحض إرادتها أن تكون طرفاً مضادّاً للعالم القادر على نفع سواه. وإذا كانت تشاطرها خيارَها دول قليلة ككوريا الشماليّة، فالواضح أنّ ذراع الأخيرة قصيرة نسبيّاً بالقياس إلى الدولة الخمينيّة.
والبائس بعدما صارت إيران مركز مناهَضة العالم، أنّ ثمّة من لا يزال يطالبنا باستبدال انفتاحنا المستجدّ على «العالم» بانفتاحنا الحصريّ عليها. وهذا إنّما يساوي إرجاعنا إلى أيّام العزلة «المجيدة» وإلى بيت الطاعة المقاوِم. لكنْ، وكما اكتشفنا حينذاك، سوف نعاود اكتشاف استحالة الجمع بين الأمرين. ولأنّنا سبق أن جرّبنا ذلك، وكثيراً ما جرّبناه، لن تستطيع تلطيفَ هذه الصورة أيّةُ «شنفخة» متورّمة في الوطنيّة والمقاومة والعداء لإسرائيل. فسياسة عدم الاكتراث بالعالم يمكن أن نرى نتائجها الصريحة في أحوال إيران نفسها، ولكنْ أيضاً في زمننا المعتم المنقضي حيث لم يعنِ عدم الاكتراث إلاّ ممارسة معمّمة للقتل وتحكّم الميليشيا واقتصاد التهريب، ممارسةً لم تُكتب نهايتها إلاّ مع المصير الذي لاقاه بشّار الأسد وباقي رموز المحور.
لهذا، وعلى الضدّ من ظنّ بعضهم أنّ الصلة بالعالم تحمي صاحبها، تختلف المعادلة في ظلّ أنظمة العزلة الموصوفة بالوطنيّة والمقاومة الفائضتين، فلا تفعل الصلات والصداقات سوى قتل صاحبها كما قُتل الحريري. وهذا ما يحضّ على ترميم مفاهيم كثيرة متداولة في ربوعنا، في عدادها كيفيّة فهمنا للوطنيّة وللمقاومة…
الشرق الأوسط
—————————–
مركز الجزيرة للدراسات يصدر تقريره الاستراتيجي حول تداعيات الحرب على غزة والتغيير في سوريا
16 فبراير 2025
أصدر مركز الجزيرة للدراسات تقريره الاستراتيجي السنوي لعام 2024-2025 تحت عنوان “مراجعة الاستراتيجيات المتصارعة في ضوء الحرب على غزة والتغيير في سوريا”، متناولًا بالتحليل استراتيجيات القوى الإقليمية والدولية المنخرطة في هذه الأحداث، بما يشمل الدول والجماعات والمحاور الفاعلة في المنطقة.
يستعرض التقرير بشكل معمَّق المرتكزات الأساسية لتلك الاستراتيجيات، وأهدافها وأولوياتها، مع تسليط الضوء على التطورات التي شهدتها المنطقة خلال العام الماضي، وتقييم قدرتها على تحقيق غاياتها أو اضطرارها لإعادة صياغتها في ظل المتغيرات المتسارعة.
ووفقًا للتقرير، أسفرت عملية “طوفان الأقصى” عن تحولات جذرية في المشهد الفلسطيني، حيث أثَّرت بشكل مباشر على مسار المقاومة الفلسطينية واستراتيجية الاحتلال الإسرائيلي، ودفعت “محور المقاومة” بقيادة إيران إلى إعادة ترتيب أولوياته، مع بروز أدوار مؤثرة لحزب الله في لبنان وجماعة أنصار الله في اليمن، ما أضاف مزيدًا من التعقيد إلى المشهد الإقليمي.
كما يناقش التقرير تداعيات التغيير السياسي في سوريا، معتبرًا أن هذه التحولات أعادت رسم خريطة التنافس بين القوى الإقليمية، لا سيما تركيا وروسيا وإيران، إلى جانب الولايات المتحدة، في مشهد يعكس تداخل المصالح وتشابك الاستراتيجيات الدولية في المنطقة.
وفي السياق ذاته، يلفت التقرير إلى استمرار الدعم الدولي لإسرائيل خلال الحرب، مقابل غياب رؤية عربية موحدة تجاه القضية الفلسطينية، مشيرًا إلى أن جميع الأطراف اضطرت إلى تعديل استراتيجياتها للتكيف مع المستجدات، وسط تأكيدات على أن نجاح تلك الاستراتيجيات مستقبلاً مرهون بقدرتها على استغلال الفرص وتقليل المخاطر في بيئة سياسية متقلبة.
يمكن قراءة التقرير وتحميله من خلال (هذا الرابط)
——————————-
وقائع رحلة إلى حماة بعد عشر سنين من الغياب: بعضٌ من مظلوميةٍ حمويّةٍ مُستحَقّة في ذكرى المذبحة/ كرم الحمو
19-02-2025
عدتُ إلى سوريا بعد أكثر من عشر سنين. لم أكن كالآخرين معنيّاً بعدّ الأيّام والأشهر. كنت أَقلِّبُ العدّاد كلّ نصف سنة، فأقول «أصبح لي في ألمانيا فوق الأربع سنوات» أو «كانت آخر مرة أزور فيها سوريا قبل قرابة التسع سنوات». يَعُدُّ الطّفل سنين عمره بدقّة. ولكن، ومع مرور الكثير منها ووصوله سن يأسٍ مبكر، يسأل نفسه: وما الفارق؟ لن أَعُدّ إذ لن أعود.
بيتنا في حماة ما زال هناك. أغلقناه بعد أن غادره والدايَ إلى خارج سوريا أيضاً. كان ذلك قبل سنتين (أو قرابة السنتين، لم يكن عدّاد نصف السنة قد قُلبَ بعد). وكانت تلك الشّعرة الأخيرة التي بانقطاعها أقرَرتُ بأنّ أيّ صلةٍ لي بسوريا انتهت. كما صرتُ أُمنّي نفسي، خاصةً بعد أن حصلت على الجنسية الألمانية منذ سنتين أيضاً، أنّني لا أحتاج إلى الانتماء أصلاً. أسميتُ الانتماء حاجةً غريزيّةً، ثم ترفّعتُ عنه. بقي مكانه فارغاً، وظننتهُ يشبه الفراغات الأخرى التي تتركها التقاليد أو القيم البالية عندما نتخلى عنها. ليس فراغاً حقيقياً، بل هو ألم المبتور.
وما البلاد على كل حال؟ هي مزرعةٌ للأسد. لم تكن يوماً لي. كنتُ مستأجراً بأجرةٍ قديمة، وقد حان وقت أن «أزوق على دمّي» وأترك المُلك لأصحاب المُلك. قررت في الخامس والعشرين من تموز (يوليو) 2014 أن أغادر البلاد. وفي سرعةٍ قياسية تيسّرت كل أموري بشكلٍ مريب. غادرت يومها عبر لبنان. كانت رحلتي في الأول من تشرين الأول (أكتوبر) 2014. تمنّعَ «الظابط» اللبناني بدايةً عن السّماح لي بالدّخول. خفتُ للحظةٍ ألّا أستطيع النّفاذ بجلدي، لكنّه أشار إليَّ بيده أن أَعبُر، وحولي عشرات السّوريين الآخرين ينتظرون منه الإشارة نفسها. عبرت، ثم اتّصلتُ بأمي وقلتُ لها: «صرْت بلبنان، وخراي عليي إزا برجع». لم أكن أقولها بغضب، بالرغم مما كنتُ أحمله في داخلي من بعض النقمة على كل بلاد العالم، أو كل النقمة على بعض دول العالم. بل قلتها بتسليم. ردّت عليّ أمي قائلة: «يه يه! لا تقول هيك لك إمي!».
ولكنني قلت وانتهى.
رأيتُ أهلي بعدها بستة أشهرٍ في تركيا، ثم غبت، أو غابوا. لا هم يستطيعون الخروج، ولا أنا أملك شجاعة أن أدخل. مرّت سبع سنوات عجاف أو ربما أكثر. عدّاد غياب أهلي مضروب، ولولا خروجهم من سوريا ما كنتُ لأراهم حتى اليوم. أصبحت ألتقي بهم مرّةً في السّنة، وكنت أكره أنَّ مكان اللّقاء لم يكن بيتهم/بيتنا في حماة، ولا بيتي في برلين، بل هو بيتٌ استأجروه في كندا، لا يشبه بيت فيروز الصغير في شيء، لكنني استسلمتُ لما فرضته الأقدار، كما استسلمتُ لكثيرٍ قبلها.
ثم سقطَ الأبد!
وبدأ الدمُّ يغلي داخلي. أريد أن أعود. أخاف العودة، ولكنّني لا أملك إلّا أن أعود. دعوني أعود ولو قليلًا. سأعود، ولو قليلًا.
انتابتني، كما انتابت الكثير من السّوريين غيري، كلّ أنواع الأرق في أسبوعَي تحرير سوريا، بل وفي الأسابيع التي تلت ذلك. كانت كل أحلامي، وكوابيسي، بل وتهيؤات يقظتي وهوالس نصف نومي، كلها عن سوريا. لم أكن أدري أنّ ارتباطي بسوريا بهذا العمق. أدركتُ أنني لن أسامح نفسي، بل ولن أستطيع الاستمرار في حياتي اليومية الرتيبة وسوريا على مرمى حجرٍ منّي. قرّرت.
وعُدْت.
حجزتُ تذكرة الطّيارة يوم الإثنين، وكان سفري يوم الخميس. تشجّعت في القرار عندما وافق أن يرافقني أحد أقرب أصدقائي، إلا أنّني، وبالرغم من ذلك، لم أكن لأرتجلَ قراراً بهذا الشكل في حياتي. لم أحجز تذكرة العودة حتّى، حجزت ومشي الحال، وقد أصبح الأمر الآن مقضيّاً.
واستبدلت كوابيس سوريا بكوابيس سوريا. تذكّرت وعيدي بألّا أعود، وعادت لي أشباح الخوف من «الوطن».
كانت الرحلة يوم السادس والعشرين من كانون الأول (ديسمبر) عبر إسطنبول تليها بيروت، ثم دمشق برّاً. رّحلةٌ موفّقةٌ بشكلٍ مريب. لم يبرأ صوت جدّتي المتوفية خلالها ينده في داخلي، لمَ كلّ هذه التّياسير؟ هل يُزعجني عدم التّعثر؟ تابعت، وأحشائي تتمزق من الخوف.
سألني «الظابط» اللبناني في المطار «ع سوريّا؟»، أجبتُ باقتضاب «نعم!». فأدخَل بعض المعلومات على حاسوبه ثم رد بحياديّة «موفّق»، وأعاد أوراقي مشيراً إلى بقية الطابور أن يتقدّم. انطلقنا باتجاه الحدود برّاً، فكان الأمر بالسهولة ذاتها؛ ختمٌ وإشارةٌ باليد لأن أعبُر، وحولي عشرات السوريين الآخرين يتلقون منه الإشارة نفسها. عبرت، وأرسلت رسالة لأمي تقول إنّني وصلتُ بالسلامة.
ثم دخلنا سوريا.
لعلّ أوّل ما فاجأني هو ارتخاء أحشائي عند ترحيب سوريا بي. كانت السخرية دائماً بأن نقرأ العبارة الإنجليزية فنقول «يا ويلْكَم تو سوريا»، نُداري بها خوفنا. تابعنا طريقنا البرّي ليزول الخوف كله بدخولنا أوّل دكّانٍ سوري، فتصدمُني رائحته التي كانت أُحفورةً مختبئةً في تلافيف دماغي؛ ذاك المزيج من رائحة الصابون والزعتر والأوراق العتيقة، وبعضٍ من رطوبةٍ يصعب تحديد مكانها.
أيقنتُ وقتها أنّني في سوريا بالفعل.
أُعرِّفُ عن نفسي دائماً بأنني حمويٌّ حمصي الهوى. فقد كان لحمص وأهلها الحصة الأكبر منّي. دائرة أصدقائي الأضيق يسودها الحماصنة. جامعتي كانت في حمص، ومراهقتي المتأخرة كانت في حمص. وذكريات الثّورة لديَّ معظمها في حمص. يحبّ أهل حمص حمصهم، ويسخرون من أنفسهم ومن أهل حماة. نُسمَّى لديهم ريفَ حمص الشمالي، أغضب، ثم أتذكّر كم أنا، كباقي الكثيرين من أهل حماة، أحبّ حماة كما يحب أحدنا «خالته مرة أبوه» أصلاً. ما زلتُ، بالطبع، لا أفهم كيف لحلاوة الجّبن أن تكون حمصيّة، وأظنّها لليوم نكتةً يسخرون بها منّا. بل لا أفهم حتى كيف للعاصي أن يكون في غير حماة. ولكن هوايّ يبقى حمصيّاً.
كنتُ أحاول أن أفهم سبب حبّ أهل حمص لحمص. عشت في المدينتين، ولم ألمس بشكلٍ مباشرٍ في حمص ما يجعلني أحبها أكثر من حماة، بل أكاد أقول إنّني أرى مدينتي حماة أجمل، ولكنني أحببتُ حمص رغماً عن ذلك. قلتُ أن أحداث حماة هي التي جعلتني… جعلتنا، أهل حماة، نمقت مدينتنا. ثم تذكّرت الدّمار الذي شهدته حمص اليوم. لم يزدهم ذاك إلا حبّاً بها.
تذكّرتُ بعدها حبَّ الحلبي لحلب، وافتتان الشّامي بدمشق. ومع أنني لم أخالط الكثيرين من غير مناطق في سوريا إلا متأخراً، وفي المُغترَب، إلا أنّني رأيت حبّ مدنهم فيهم، فلماذا لا تدعني حماة أحبها؟
يدعوا أهل حماة مدينتهم بـ«جورة الهم». فحماة في جوهرها مدينةٌ نشأت على ضفّتي العاصي المنخفضتين أصلاً، ما جعل منها «جورة». وأمّا الهمّ، فتُجسّده أغنيتها الأشهر السكابا الحزينة، ولو أن الحموية يغنّون اللّالا حزينةً بعض الشيء أيضاً، كما هو المشهد الأول في فيلم الطّحالب للمخرج الحموي ريمون بطرس. الخلاصة أنّه من غير الصّعب أن تجد منافذَ للهمِّ تسمح بأن تكنّي مدينتك به. ولكنني سأترك هذا الآن، فأنا أدخل حماة نفسها.
دخلنا حماة قادمين من حمص. كنّا قد عبرنا جسر الرّستن يومها، بالرّغم من فجواته العديدة. عند مدخل حماة، يواجهك «دوار الجّحش». نسرٌ خالٍ. كان يتوسط النسرَ تمثالٌ لحافظ الأسد كانت قوّات الأسد قد أزالته عند انسحابها من حماة قبل رمضان عام 2011. يومها، استبدلَ الحموية التّمثال بجحشٍ لكي لا يبقى خاوياً، فسُمّي، ولو سخريةً، بدوّار الجّحش. أعادت قوّات الأسد التّمثال بعد مجزرة جمعة أطفال الحرّيّة، ليسقطَه بعد ثلاثة عشر عاماً سقوطُ الأبد.
طلبتُ من صديقي الذي كان يقود السّيارة أن ينعطف إلى اليسار، ثم تردّدت، ثم طلبت أن نستشير الخريطة، ثم خجلت من طلبي. انعطفنا يساراً لندخل في «مجرى الزيادة»، ثم انعطفنا مُجدداً باتجاه شارع النّيل، قاصدين جامع بلال. يبدو أنّني لم أختر أقصر الطرق، ولكنَّ ذاكرتي لم تُحرجني بالقدر الذي كنت أخاف. وصلنا بيت خالتي عند جامع بلال، حيث أودَعتْ أمي مفتاح بيتنا.
لم أرَ خالتي منذ أكثر من عشر سنوات، كان قد تزوج خلالها من تزوج، وطلّق من طلّق، وكبر من كان طفلاً، ومات من أصبح كبيراً. تذكرنا ابن خالتي الأخرى، عبد القادر، شابٌ في الثامنة والعشرين من عمره، كان قد قُتل قبل تحرير حماة بسويعات. قتلته شظية قذيفة وقعت في حي الجّلاء. ترحّمنا عليه ودعونا على من قتله، وتلوّعنا بأنّه لم يذق لذّة النّصر معنا، وعزاؤنا، لمن يبحث عن عزاء، في سقوط الأسد. ثم ودّعتُها متّجهاً إلى بيتنا.
نزولًا باتّجاه «كراجات الأهلية» يصبح الطريق سهلاً. صعودٌ أوّلاً باتّجاه دوّار عين اللّوزة، ثم نزولٌ مرّةً أخرى باتّجاه ساحة العاصي. التّوجه إلى ساحة العاصي يعني دائماً النّزول. علّق صديقي الحمصي، والذي كان يقود السّيارة: «لم أكن أدري أنّ حماة كثيرةُ المنحدرات هكذا». لم أفكر بذلك يوماً. حماة هي حماة؛ جورةٌ قديمةٌ تحيط بها أحياءٌ أكثر ارتفاعاً. لأُدركَ بعدها أن هذا هو بالضبط تعريف المنحدرات. اعتادت عيني الكثير في حماة، فلم تعد تلحظ المألوف فيها.
لم يزر صديقي الحمصي حماة يوماً، باستثناء الفحص الطّبي في قيادة المنطقة الوسطى لشعبة التجنيد. لا يزور حماة إلا الحموي، أو من ناسَبَ الحموي، وهم قِلّة. فحماة لا تناسب الجميع. حماة لا تناسب إلا أهلها.
أكملنا متّجهين من دوّار عين اللّوزة، مروراً بنصب الجندي المجهول؛ «الطّريق نزول».
«طلعة العلمين» منحدرٌ باتّجاهين. «أظنّك تذكُر هذه الزّاوية ربما؟» أسألُ صديقي الحمصي، مشيراً إلى مبنىً تختبئ خلفه شعبة التجنيد. فيهزّ رأسه بالنّفي. أحزنني نفيه، دون أن أفهم في البداية ما المحزن في ذلك، ثم أدركني الفهم؛ ألم تقدر حماة أن تصمد في ذاكرتك حتى بشعبة تجنيدها؟ أخافُ على حماة من النسيان، وهي بالكاد محطةٌ على الطريق بين دمشق وحلب. دفع خوفي هذا عيوني لأن تتنقّل بين كلّ زوايا الطّريق لتسجيل الذاكرة، وتخليد المدينة. «المركز الثقافي! المالية! كلّية الأسنان! أجبان الدّريعي!»، أنظر مجدداً؛ بل هي كلّية البيطرة، ولكنّني كنت قد أقحمت ذاكرةً أخرى في الصّورة. كانت كلّية أسنان جامعة البعث بالفعل في حماة، ولو أنها كانت في حيٍ آخر. كان وجود كلّية الأسنان هنا يُجبر طلّاب الكلّية على القدوم إلى المدينة، بل وربما العيش فيها. كنتُ أدرك خيبتهم بأن ينتهي بهم المطاف في حماة، ولكنني كنتُ أرغب في أن يتعرّفوا هم أيضاً على الخالة «مرة الأب»، لعلهم ربّما يحبّونها.
ثم وصلنا ساحة العاصي.
في ساحة العاصي، شاركَ أحمد الفاخوري، أحد أشهر أبناء حماة اليوم، في إحدى احتفاليات سقوط النظام. احتفى به أهل حماة، واحتفى هو بهم. يملك فاخوري قناةً على اليوتيوب تحدّثَ في أحد فيديوهاته عليها عن مظلومية السّنّة، متنبئاً بأن الفيديو هذا «سيزعج البعض» لما سيتناوله من «حقائق مُجرَّدة». أدعوكم أن تلبّوا طلبه في أوّل الفيديو، وأن تشاهدوا الفيديو بأكمله. ولكنّني أكاد أجزم أنّني فهمت تلك الحقائق المُجرّدة، كما أسماها، على ما هي عليه. فما سمعته هو خطابٌ يلطم على ما حصل لأهل السّنّة في سوريا. فهل الضّحية في سوريا هي السّنّة وانتهى؟
وددتُ لو أن فاخوري استغلَّ منبره ذاك، فقال بأحقّيّة حمص بإعادة الإعمار، أو بضرورة توفير الدعم والتعويض لريف دمشق، أو بوجوب خروج حماة، وبقية أطراف سوريا «النائية»، من طرفانيتها التي عانت منها لصالح مركزية دمشقية-حلبية. مركزيةٌ بدأت في عهد الاستقلال، وبقيت في عهد الأسدين، وتبدو مستمرةً حتى اليوم. عندما حدّثنا الشّرع في خطاب النّصر، لم يتهيّأ لقائد الهيئة غير دمشق.
تكثرُ الأعين على دمشق حتى كاد يحسبها سكّانُها أنها لا الأفضل فقط، بل الوحيدة. ويكثر الاهتمام بها حتى كاد يحسب من يعيش فيها ألّا عيشَ في غيرها. دخلتُ الجامع الأموي في دمشق عدة مرات خلال زيارتي لسوريا، ولم أرَ ساحته تخلو من كاميرات تلفزيونات محلية وغير محلية ولو مرة واحدة، بينما كانت ساحة الجامع الأموي في حماة، والمسمى رسمياً الجامع الأعلى الكبير، واختصاراً الكبير، تُراقب كاميرة هاتفي النّقال التي رفعتُها في وجهها. تكاد ساحة الجامع تطلبُ منّي التمهُّلَ حتى يتسنى لها أن تغطي رأسها مني. شابهت تجربتي في حمص تلك في حماة، فلا كاميرات تراقب السلطة، ولا سلطة فوق سلطة السلطة في حماة. الجامع الكبير، كالكثير من الجوامع الشامية، كان كنيسةً بيزنطية، والتي بدورها، كالكثير من الكنائس البيزنطية، كانت معبداً رومانياً.
جامع حماة الكبير، يقع في حارة المْدينة. الحي المسيحي الأكبر في حماة. مسيحيو مدينة حماة مُوزَّعون على حارتين بشكل أساسي، حارة المْدينة ذات الأغلبية الأرثوذكسية، وحارة الشيخ عنبر ذات الأغلبية الكاثوليكية.
دخلنا حارة المْدينة، وكنا ثلاثة شباب شديدي السُّنية، إن صح التعبير. ولدينا ما لدينا من حماس بأن نسمع من الجميع. رأيناه على طرف الشارع الآخر، فاندفعنا نسأل «الأبونا» عن الحال بما يشبه التحقيق، وأبونا العجوز بالكاد يسمع، وبالكاد يجيب. جاء رجلٌ من أهل الحارة لينقذ الأبونا، فبدأ بأن طلب منه أن يُباركنا، ولكن عيوننا البليدة وشت له بما شُبِّه له من سُّنيّتنا. فسألنا الرجل إن كنّا من الحارة، في محاولة أخيرةٍ لإنقاذنا من المأزق المُتخيَّل، وعندما تفوهت بكلماتٍ ما لم تكن إجابةً مباشرةً بالإيجاب، كاد يدير وجهه وهو يسحب أبونا معه، فقررنا أن نترك الرجل والأبونا بحالهما ونُجرِّبَ حظنا في فهم «الأقليات» في شطر آخر من المدينة.
مررنا على كاتدرائية حماة للرّوم الأرثوذوكس، وهي كنيسةٌ بسيطةٌ في الحقيقة، تُجاور مبنى المطرانية. كنا قد سمعنا ما حصل للمطرانية في كانون الأول (ديسمبر) 2024 من هجمات على رموزها الدينية، واعتذارات من الهيئة، ووعود بالحماية، ولكن حوادث أخرى كانت قد حصلت في حماة أيضاً.
مع اقترابنا من المبنيين ودخولنا حرمهما، خرج علينا أحد موظفي المطرانية يسألنا عن حاجتنا، وقد شُبِّه له أيضاً.
كانت مدرستي الثانوية، مدرسة أبي الفداء، في حي المْدينة، مما سلّحني بمعرفة وثيقة بالحارة وأهلها. وأمّا عن اسم مدرستي، فكثيرٌ مما في حماة يسمّى على اسم ملكها المملوكي، أيوبي الأصل، أبي الفداء، الفيلسوف والجغرافي وصاحب كتابي التّاريخ الشهيرين: المختصر في أخبار البشر، وتقويم البلدان.
سبقتُ سؤال موظف المطرانية المُتوقَّع إن كنتُ من الحارة، بأن أسأله بنفسي عن أهل الحارة؛ عن عائلة العبد الله التي كانت تسكنُ قريباً من هنا، ثم عن بيت سمعان في الحارة المجاورة، ثم عن ابن كركور، وابن الكلّاس، وابن الويدات، وعن معلمة الفيزياء والكيمياء المعروفة في حماة من عائلة بشّور. وصرتُ أعيد الأسماء وأُكرّرها، رجالاً ونساءً، «عمو فلان، وخالة فلانة» لأستدركَ فأقول «طانط فلانة!» وأظنه غفرَ لي تلك الزّلة. في النهاية، سألتُ عن الفسيفساء المجاورة للمطرانية، والتي كانتْ أعمال التنقيب الأثرية تعمل عليها.
أزالتْ تلك المعرفة الحميمة بالحارة وأهلها ما كان ربما قد زاولَ نفسه من شكوك، فسمح لنفسه بأن يسترسل بالحديث معنا. أخبرني بدايةً أن الفسيفساء طُمرت ثم حَدَّثني عن محال بيع الكحول التي كسّرها مخرّبون مجهولون بُعيدَ تحرير حماة. قِيلَ يومها أن ممثلين عن الهيئة كانوا قد اعتذروا من مطران حماة عن تلك الأفعال الفردية، لكان المحال بقيت على حالها مغلقةً، بما يبدو أمراً مباشراً، أو غير مباشر، من السّلطات في حماة ببقائها مغلقةً، أو ربما هو سهوٌ مقصودٌ عن حل تلك المشكلة. قِيلَ إنّ أصحاب المحال تلك قد وُعِدوا بتعويض، وقِيلَ ترميم، وقِيلَ الاثنان معاً. ما زالت تلك المحال مغلقةً حتى تاريخ كتابة هذا النص.
توجد معظم محال بيع الكحول في المدينة عند مدخل حارة المْدينة، فسألتُ عن ذاك الذي كان في آخرها من طرف المغيلة، ليُجيب «تكسَّر وتسكّر». ثم تذكّرتُ ذاك خارج حي المْدينة، في أول طلعة الدباغة، عرفته؟ «إي إي، لكان! تكسّر وتسكّر كمان». «وهل ما زال بالإمكان أن تشرب في أي مكانٍ الآن!؟» سألت شبه مستنكر. ماذا عن الدريم؟ والنادي العائلي؟ فأجاب بالإيجاب؛ تستطيعُ الشرب هناك في كلا المطعمين.
تذكرتُ كيف كنا نقضي رمضان في حماة، وكيف قضيته لأول مرة في دمشق. يحدّثونك عن الصّدمة الثّقافية.
كنتُ للتو قد قدمتُ من دمشق، حيث شربنا، ورقصنا، وثملنا في شوارع باب شرقي. لعلَّ حمايةَ الأقلّيات تقتصر على ما تراه الكاميرات، أو لعلَّ مصير مسيحيي حماة في يد أكثرية حماة السُّنية، تلك السُّنية التي حان دورها اليوم بالمظلومية، لا لكونها حمويةً مهمشة، ولا لإرثها من الأحداث، ولا لدورها في الثّورة، بل لأن الظلم أمس وقع على سُّنيّتها، مما يستوجب رد الاعتبار لما فيها من سُّنيّة، وكفى.
ولكنني كنت شديد التّعطّش، وعاصي حماة كان من سيرويني، فمررتُ على نواعير حماة. للنّاعورة أنينٌ هو صوت احتكاك خشبها بخشبها. أقول، وأنا مدركٌ لما في حبيّ من إفراط، أنّني أَطربُ لسماع صوت الناعورة، بالرّغم من قِلّة تناسقه، وارتفاع نبرته، وعُلو صوته. وعند الاقتراب من النّاعورة، ترميك النّاعورة برذاذ ماء العاصي، تحمله ثم تطرحه عنها، لتحمله من جديد، عالقةً، ما سمح لها العاصي بأن تدور، في حلقةٍ شبه مَعيبة تدور على نفسها، وعلى العاصي تدور الدّوائر.
لست الوحيد المفتون بنواعير حماة، فالكثير ممّا في حماة يسمى باسم نواعيرها. والنّاعورة رمز للمدينة تجده عند مدخلها، وعند مخرجها، وعندما تُبعَث حية.
لم أشبع، كنت أريد أن أرى منها المزيد. فتوجّهنا إلى «المَرَابِط»، حيث عيادة أمّي ومكتب أبي. أكلت «كروسان بالجّبنة» لم أذق مثلها منذ غادرت سوريا. لا أفهم لمَ يصعب على الأوروبيين أن يحشوا الكروسان بالجبنة. عند مدخل البناء الذي يضم العيادة والمكتب سوقُ خضرة معروف، يسمى الحاضر الصغير، هو سوق خضرة «السوق».
يَقسِم نهرُ العاصي حماة إلى نصفين، الأجدر بهما أن يكونا متساويين. نصفها الجنوبي هو «السّوق»، كنايةً عن سوق الطّويل، سوق حماة الأكبر، والذي تقول الرواية إنه فقد سقفه في أحداث مذبحة حماة. أمّا نصف حماة الشّمالي فهو «الحاضر»، كنايةً عن كونه الجهة التي تواجه بدو حماة، التي كانت حاضرتهم. يسمّى ابن الحاضر حَوِاضْري، بِلَيِّ الألف ياءً، وترقيق الرّاء. كلمةٌ كَثُرَ استخدامها بين أهل السّوق، بل وأهل الحاضر ربما، كمُرادفٍ للتزمت، أو ربما، إن كنتم قساةً كما كنّا أحياناً، كان تعبير الحواضري مُرادِفاً للعقل «التنح». أما ابن السّوق، فهو «سُوَقي»، بضمّ السّين وفتح الواو. ومع أنني ربع سُوَقي وثلاثة أرباع حواضري، إلا أنني لا أعرف من الحاضر إلا بيت عمي في حي طريق حلب. ربما كنتُ أحاول الهرب من حماة بأن أهرب ممّا يجعلها حمويةً بشدة.
ليس لمن يذهب إلى حماة بدٌّ من أن يُعرّج على منطقة «الطّوافرة» الأثرية. تكثر الإشارة إلى العوائل في أسماء الأحياء في حماة. فالطّوافرة لعائلة طيفور، والبرازية لعائلة البرازي، والبارودية لعائلة البارودي، والكيلانية لعائلة الكيلاني، أما عائلة العظم فكان لها قصر العظم وحُكم الشام. ولو أن الكيلانية كانت قد هُدَّت على ساكنيها في أحداث حماة، ليبني الأسد الأب بدلاً عنها فندق أفاميا، وقيادة الشّرطة، وفرع الحزب.
كثيرٌ ممّا في حماة يسمى باسم أفاميا، المدينة الأثرية المذهلة المُكتشَفة شمال غربي حماة.
أتممنا رحلتنا السّياحية في حماة القديمة بأن خرجنا من عند جسر الكيلانية، لنعود أدراجنا من جانب الجامع الزّنكي، فنمرَّ من الباشورة،متّجهين إلى «أبو ربيع». ومن لم يذق «أفوكادو شوكالا» من عند أبو ربيع، فقد أضاع نصف عمره. جيدة هي «القشاطي» من عند «أبو عبدو» في دمشق، وأتفهّمُ من كان يُفضِّلُ «أبو شاكر» بالقرب منه. إلا أن أبو ربيع، في نظر كاتب النص الحموي، يتفوق عليهما كليهما. أقولها، وأنا مدركٌ لتحيُّزاتي، بل وأرى تَبدُّلَ لهجتي، وانفراجَ أسارير كلماتي عندما أتغزّلُ بأفوكادو شوكالا أبو ربيع.
وصلنا بيت أهلي. كانت أمي قد غطت كل العفش فيه قبل أن تغادر البلاد، بالتؤدة التي تُدبّر بها أي امرأةٍ سوريةٍ شؤون بيتها. كنتُ قد نسيت كم هو جميلٌ بيتنا؛ «طبعاً! هاد بيت أحلامي. بيت العمر» كانت تُعلِّقُ أمّي عندما أتغنّى بجمال بيتنا، بينما كنّا نقضي العمر بعيداً عنه.
في نهاية المطاف، كانت حماة، ورغم كل الرَمنسة التي أَضفيتُها عليها، قد أصبحت أكثر رماديةً حتى من لونها الرمادي الذي أذكر. متسخةٌ، ومُهملة. كانت أصغرَ مساحةً ممّا أذكرها أيضاً. ربما هي كالأب والأم العجوزين، يصغران عندما تكبر أنت. تفقد الخالة «مرة الأب» مكانتها. قبل أن تصبح «خالتك مرة أبوك» كانت حماة ابنةً يتيمةً كباقي اليتامى، وبقيَت كذلك حتى بعد أن كبُرت وشاخت. ليتني كنت أرى حماة كما يرى أهل دمشق شامهم. أم لعلّه من حسن حظّي أنّني لا أرى حماة كما يرونها؟
في جلسةٍ في قهوة الروضة في دمشق، صادفَ أن جلس على الطاولة المجاورة رجلٌ حمويٌّ كان للتو قد عاد إلى سوريا بعد أن غادرها في ثمانينيات القرن الماضي، أم أنها سبعينياته؟ لا أذكر، ولكن الإشارة واضحة لأحداث حماة بما سبقها وتلاها. عاد أمس من الولايات المتحدة الأميركية، بعد عقودٍ طويلةٍ، ليجد مدينةً لا يعرفها، وبيتاً غير بيته، يسكنه ناسٌ غير أهله. وريثما يستوضح الأمر قانونياً، دفعت به الأقدار لأن يلجأ إلى امرأة شامية من معارفه، كانت جليسَته في قهوة الروضة يومها. ما انفكَّت مُضيفته تُذكِّرنا، نحن القاعدين على طاولةٍ مجاورة، بشاميّتها. فعندما أخبرَنا الكهل الحموي بقصّته، وهي قصةٌ لا يخلو بيتٌ حموي من مثيلها، بدأتْ جلسيتُهُ تذكرُ لنا ما عانته دمشق من بطش النظام. ذَكَّرتُها، إن تنفع الذكرى، بدمار حمص، حيث أحياءٌ بأكملها سُوّيت بالأرض، ثم مُنع فوق ذلك سكّانها من العودة إليها. فذكّرتني، وكأنّ الشامي يترك لك أن تنسى، أن دمشق عانت أيضاً. قلت لها «ودمار حمص؟!» فقالت «ولك إنت ما بتعرف القبضة الأمنية»، فصرخت «والدّمار؟!» ونبرتي تعلو وأنا غير مُصدِّق ضعفَ حجتي هذه، فقالت تحاول مخاطبة عقلي وقلبي: «الشام!» لأوقنَ لحظتها أنّ العيب ليس في حُجَّتي. وعرفتُ لحظتها أنها ممّن كان يعنيهم فاخوري عندما تحدث عن «الضّحايا السّنة».
لذا، سأتحدث هنا أنا الآن عن بقية الضحايا. فقد نشر المرصد السّوري لحقوق الإنسان أعداد من ذهبوا ضحية عمليات قتلٍ انتقاميةٍ وطائفية منذ سقوط النّظام وحتى اليوم. كان نصفهم في حمص، فالدّمار لم يشفع لها. تليها حماة والتي كانت حصّتها من القتل تكاد تساوي حصّة ما بقي من محافظات البلاد مجتمعة. هل عبد القادر ابن خالتي محسوبٌ منهم؟
استمرت رحلتي في سوريا عشرة أيام، عدّتُ بعدها إلى حياتي في ألمانيا، لأكتب هذا النص في بيتي في برلين. تحدّثتُ فيه عن حماة، ولكنّ حماة ليست مدينة حماة فقط. حماة هي دوما ودرعا وطرطوس، حماة هي الرقة ودير الزور والقامشلي. حماة هي سلميّة ومصياف ومحردة والسّقيلبية والطّيبة وتيزين وكفربو.
حماة هي أيضاً كل بلدات سوريا وضِيَعها التي لم تسمعوا بها من قبل.
*****
كل الصور في هذا النص التقطها الكاتب خلال رحلته.
موقع الجمهورية
————————————
إرث الثورة.. ضرورة النقد والمراجعة/ حسن النيفي
2025.02.19
ثمة شغف متزايد لدى كثير من المثقفين والناشطين السوريين بالإصرار على مقاربة مسائل وقضايا دون غيرها، وجه الغرابة يكمن في أن تلك القضايا المُستهواة عند هؤلاء قد لا نلمس لها حضوراً متميّزاً في الواقع، ولكن بالتأكيد لها حضور قوي ومتجذّر في أذهان أصحابها حصراً، وهذا ما يجعلهم لا يرون الوقائع كما هي في العيان، بل كما هي مُتَخيّلة في تصوّراتهم وقناعاتهم، بل ربما جعلوا من تلك التصوّرات حقائق مطلقة تتجاوز حتميةُ وجودها أو حدوثها أيَّ نقاش أو مراجعة أو حوار.
وهكذا تعاطى معظم هؤلاء مع قضايا الثورة السورية ومفاهيمها طيلة أكثر من عقد، بل انتهى البعض منهم إلى حالةٍ من الاستعلاء وعدم مخاطبة الناس إلّا بلغة التقريع والاستخفاف، ليقينه المطلق بأنه يرى ما لا يراه الآخرون.
ولا شك أن حالةً كتلك من النرجسية تبدو أقرب إلى مهنة (الكَهَنة) منها إلى طرق التفكير السليمة، وسوف تُلمح هذه المقالة بإيجاز شديد إلى مسائل ثلاث شهدت جدلاً بين السوريين وجسّدت نمطاً من التفكير لدى طيف واسع من المثقفين والساسة طيلة سنوات الثورة.
أولاً – في جدوى عسكرة الثورة:
واجهت عملية ردع العدوان منذ انطلاقتها في السابع والعشرين من تشرين الثاني الماضي، انتقادات حادّة وصلت إلى درجة التجريم، ولا يحمل هذا الموقف الناقد أي جديد طالما أنه جسّد استمراراً لهجوم شديد على جميع مظاهر العسكرة في الثورة، لذلك لم يستند الناقدون للعملية العسكرية إلى معيار الربح والخسارة أو خطة المعركة أو توقيتها أو أهدافها، بل هم في الأصل رافضون لأي عمل عسكري يستهدف نظام الأسد، ليقينهم بأن من أفسد الثورة وأحدث فيها شروخات هائلة ومهّد لجميع أشكال التدخل الدولي هو جنوح الثورة من الحالة السلمية إلى طور الكفاح المسلّح.
ربما كان جزء كبير من هذه الآراء الناقدة صحيحاً، ولكن -بحسب رأي آخرين- ليس لأنّ الكفاح المسلّح أمر خاطئ من حيث المبدأ، بل بسبب تعدد الجهات التي حملت السلاح من جهة، وفساد الكثيرين من هؤلاء من جهة أخرى، وقد استند مؤيدو المقاومة المسلّحة إلى أن نظام الإبادة والتوحّش الأسدي لا يمكن إزالته إلّا بالقوّة، أمّا القول بأن المظاهرات السلمية كانت كفيلة بإسقاطه لولا عسكرة الثورة، فهي فرضية قائمة على مجرّد الوهم ولا تعضدها أي معطيات واقعية.
لقد سقط نظام الأسد نتيجة عملية عسكرية، استطاع القائمون عليها تحرير سائر المدن الكبرى والوصول إلى العاصمة دمشق، وربما كان من المُتوقع أن نشهد مقاربات فكرية وسياسية جديدة للتيار الثقافي والسياسي الناقد لعسكرة الثورة، تتجاوز هذه المقاربات مفهوم الخير المطلق والشر المطلق، لتكون أقرب إلى التفكير الذي يستلهم الواقع ويحكم على الأمور من خلال جوانبها المختلفة وليس استناداً إلى ذخيرة القناعات السابقة، إلّا أن شيئاً من ذلك لم يحدث، بل ربما نجد أن أشدّهم عداءً لمفهوم العسكرة هو اليوم أكثرهم حماساً وتنظيراً لمرحلة ما بعد الثورة.
ثانياً – جدوى الحل الأممي في الحالة السورية:
جسّد القرار الأممي (2254) مرجعية أممية باتت محطّ إجماع كل الأطراف ذات الصلة بالصراع في سوريا، إلّا أن نظام الأسد كان شديد الوضوح في رفضه لتلك المرجعية، كما كان شديد الوضوح في تبرير تفاعله الشكلي مع القرار الأممي من خلال مشاركته بمسار اللجنة الدستورية بأنه ليس أكثر من استثمار للوقت ومشاغلة للرأي العام.
ولعل عبارة (سنغرقهم بالتفاصيل) كانت تترجم مفعولاتها منذ صدور القرار المذكور في كانون الأول 2015 وحتى فرار الأسد، ولكن على الرغم من ذلك، ظلّ قسم كبير سواء من المعارضة الرسمية أو غير الرسمية وكذلك عدد كبير من فعاليات المجتمع المدني والشخصيات الفكرية والسياسية يعتقدون أن القرار المذكور هو السبيل لإنهاء مأساة السوريين، بل إن قسماً كبيراً من أصحاب هذا الرأي بات يرى أن استمرار الأسد في السلطة بات أمراً واقعاً، والتفاوض مع نظام دمشق ينبغي أن يتجاوز مفهوم التغيير، ليقف عند المسائل الإنسانية فقط، كعودة المهجرين والنازحين والإفراج عن المعتقلين، أي باتت الترجمة الفعلية لما يُدعى (السياسة الواقعية) هي مراسيم عفو يصدرها بشار الأسد، وعفا الله عما مضى.
جدير بالذكر أن الذين عملوا وبدأب وإخلاص على إيجاد مسارات نضالية أخرى لمواجهة نظام الأسد (كالمسار القضائي) هم من خارج الأطر الرسمية للمعارضة الرسمية والأحزاب السياسية، ولعل ما هو لافتٌ أن الذين يدافعون عن القرار الأممي المذكور حتى الآن يدركون جيداً أن هذا القرار، وطيلة تسع سنوات خلت، لم يفض إلى الإفراج عن معتقل أو معتقلة ولا استطاع حقن دم مواطن سوري ولا أعاد نازحاً إلى بيته، فكيف سيكون الضامن والناظم السليم لعملية انتقال سياسي يتطلع إليها السوريون في الوقت الحاضر؟
ثالثاً – فرضية تقسيم سوريا:
ركون الكثير إلى التسليم ببقاء سلطة الأسد نتيجة عدم توافق عربي ودولي على تغييره وكذلك نتيجة محاولات إعادة تعويمه عربياً ودولياً، دفعهم إلى التسليم -كذلك- بتكريس مناطق النفوذ التي تحكمها سلطات أمر واقع متعددة، ولكن تكريس هذا الواقع المُقَسّم يحتاج إلى شَرْعنة دستورية، الأمر الذي يستدعي المزيد من التفاهمات والحوارات بين السوريين، وبالفعل أصبح مفهوم (الفدرالية واللامركزية السياسية) الشغل الشاغل لكثير من ورشات العمل واللقاءات والمنتديات، فضلاً عن عدد من مراكز الأبحاث التي وجدت في تلك المفاهيم مادة دسمة للاشتغال عليها، إلى درجة يخيّل للمرء فيها أن جذر المشكلة السورية يتجسّد بصراع قومي وديني أو طائفي وليس بنظام الإبادة الأسدي.
وما هو جدير بالملاحظة أنه حتى بعد التحرير ما تزال طروحات التقسيم تُطرحُ كوصفة جاهزة لمواجهة أي مشكلة، ولعل من يطالب باستقلال ذاتي للجنوب السوري، أو للمحافظات الشرقية السورية، في الحالة الراهنة مثال شديد الوضوح على هذا المنحى من التفكير.
لعله من الصحيح أن عملية (ردع العدوان) جاءت متجاوزةً جميعَ التوقعات، بل ربما كان منجزها مبعث ذهول لأكثر السوريين، ولكنها في الوقت ذاته ليس فعلاً يُنسبُ إلى الغيب، بل هي ثمرة تفكير وتخطيط ثم تنفيذ، وبالتالي يمكن اعتبارها تجربة تحرّرية حقّقت الكثير ممّا تطلع إليه السوريون، وذلك رغم أنها جاءت خلافاً لما توقعه الكثيرون، أو من الذين يخالفونها -فكراً وممارسةً- في الأصل، فلم لا يتحوّل هذا الذهول إلى محاولات فكرية جادّة نحو إعادة مقاربة لجميع الأفكار السابقة بهدف المراجعة المستمرة والناقدة لكل ما اختزلته سنوات الثورة من أفكار وسلوك ومعاناة بغية تجديد الوعي وتطوير طرائق التفكير التي تبدو كضرورة مهمّة لسوريا ما بعد الأسد.
تلفزيون سوريا
———————————-
=====================