وقائع رحلة إلى حماة بعد عشر سنين من الغياب: بعضٌ من مظلوميةٍ حمويّةٍ مُستحَقّة في ذكرى المذبحة/ كرم الحمو

19-02-2025
عدتُ إلى سوريا بعد أكثر من عشر سنين. لم أكن كالآخرين معنيّاً بعدّ الأيّام والأشهر. كنت أَقلِّبُ العدّاد كلّ نصف سنة، فأقول «أصبح لي في ألمانيا فوق الأربع سنوات» أو «كانت آخر مرة أزور فيها سوريا قبل قرابة التسع سنوات». يَعُدُّ الطّفل سنين عمره بدقّة. ولكن، ومع مرور الكثير منها ووصوله سن يأسٍ مبكر، يسأل نفسه: وما الفارق؟ لن أَعُدّ إذ لن أعود.
بيتنا في حماة ما زال هناك. أغلقناه بعد أن غادره والدايَ إلى خارج سوريا أيضاً. كان ذلك قبل سنتين (أو قرابة السنتين، لم يكن عدّاد نصف السنة قد قُلبَ بعد). وكانت تلك الشّعرة الأخيرة التي بانقطاعها أقرَرتُ بأنّ أيّ صلةٍ لي بسوريا انتهت. كما صرتُ أُمنّي نفسي، خاصةً بعد أن حصلت على الجنسية الألمانية منذ سنتين أيضاً، أنّني لا أحتاج إلى الانتماء أصلاً. أسميتُ الانتماء حاجةً غريزيّةً، ثم ترفّعتُ عنه. بقي مكانه فارغاً، وظننتهُ يشبه الفراغات الأخرى التي تتركها التقاليد أو القيم البالية عندما نتخلى عنها. ليس فراغاً حقيقياً، بل هو ألم المبتور.
وما البلاد على كل حال؟ هي مزرعةٌ للأسد. لم تكن يوماً لي. كنتُ مستأجراً بأجرةٍ قديمة، وقد حان وقت أن «أزوق على دمّي» وأترك المُلك لأصحاب المُلك. قررت في الخامس والعشرين من تموز (يوليو) 2014 أن أغادر البلاد. وفي سرعةٍ قياسية تيسّرت كل أموري بشكلٍ مريب. غادرت يومها عبر لبنان. كانت رحلتي في الأول من تشرين الأول (أكتوبر) 2014. تمنّعَ «الظابط» اللبناني بدايةً عن السّماح لي بالدّخول. خفتُ للحظةٍ ألّا أستطيع النّفاذ بجلدي، لكنّه أشار إليَّ بيده أن أَعبُر، وحولي عشرات السّوريين الآخرين ينتظرون منه الإشارة نفسها. عبرت، ثم اتّصلتُ بأمي وقلتُ لها: «صرْت بلبنان، وخراي عليي إزا برجع». لم أكن أقولها بغضب، بالرغم مما كنتُ أحمله في داخلي من بعض النقمة على كل بلاد العالم، أو كل النقمة على بعض دول العالم. بل قلتها بتسليم. ردّت عليّ أمي قائلة: «يه يه! لا تقول هيك لك إمي!».
ولكنني قلت وانتهى.
رأيتُ أهلي بعدها بستة أشهرٍ في تركيا، ثم غبت، أو غابوا. لا هم يستطيعون الخروج، ولا أنا أملك شجاعة أن أدخل. مرّت سبع سنوات عجاف أو ربما أكثر. عدّاد غياب أهلي مضروب، ولولا خروجهم من سوريا ما كنتُ لأراهم حتى اليوم. أصبحت ألتقي بهم مرّةً في السّنة، وكنت أكره أنَّ مكان اللّقاء لم يكن بيتهم/بيتنا في حماة، ولا بيتي في برلين، بل هو بيتٌ استأجروه في كندا، لا يشبه بيت فيروز الصغير في شيء، لكنني استسلمتُ لما فرضته الأقدار، كما استسلمتُ لكثيرٍ قبلها.
ثم سقطَ الأبد!
وبدأ الدمُّ يغلي داخلي. أريد أن أعود. أخاف العودة، ولكنّني لا أملك إلّا أن أعود. دعوني أعود ولو قليلًا. سأعود، ولو قليلًا.
انتابتني، كما انتابت الكثير من السّوريين غيري، كلّ أنواع الأرق في أسبوعَي تحرير سوريا، بل وفي الأسابيع التي تلت ذلك. كانت كل أحلامي، وكوابيسي، بل وتهيؤات يقظتي وهوالس نصف نومي، كلها عن سوريا. لم أكن أدري أنّ ارتباطي بسوريا بهذا العمق. أدركتُ أنني لن أسامح نفسي، بل ولن أستطيع الاستمرار في حياتي اليومية الرتيبة وسوريا على مرمى حجرٍ منّي. قرّرت.
وعُدْت.
حجزتُ تذكرة الطّيارة يوم الإثنين، وكان سفري يوم الخميس. تشجّعت في القرار عندما وافق أن يرافقني أحد أقرب أصدقائي، إلا أنّني، وبالرغم من ذلك، لم أكن لأرتجلَ قراراً بهذا الشكل في حياتي. لم أحجز تذكرة العودة حتّى، حجزت ومشي الحال، وقد أصبح الأمر الآن مقضيّاً.
واستبدلت كوابيس سوريا بكوابيس سوريا. تذكّرت وعيدي بألّا أعود، وعادت لي أشباح الخوف من «الوطن».
كانت الرحلة يوم السادس والعشرين من كانون الأول (ديسمبر) عبر إسطنبول تليها بيروت، ثم دمشق برّاً. رّحلةٌ موفّقةٌ بشكلٍ مريب. لم يبرأ صوت جدّتي المتوفية خلالها ينده في داخلي، لمَ كلّ هذه التّياسير؟ هل يُزعجني عدم التّعثر؟ تابعت، وأحشائي تتمزق من الخوف.
سألني «الظابط» اللبناني في المطار «ع سوريّا؟»، أجبتُ باقتضاب «نعم!». فأدخَل بعض المعلومات على حاسوبه ثم رد بحياديّة «موفّق»، وأعاد أوراقي مشيراً إلى بقية الطابور أن يتقدّم. انطلقنا باتجاه الحدود برّاً، فكان الأمر بالسهولة ذاتها؛ ختمٌ وإشارةٌ باليد لأن أعبُر، وحولي عشرات السوريين الآخرين يتلقون منه الإشارة نفسها. عبرت، وأرسلت رسالة لأمي تقول إنّني وصلتُ بالسلامة.
ثم دخلنا سوريا.
لعلّ أوّل ما فاجأني هو ارتخاء أحشائي عند ترحيب سوريا بي. كانت السخرية دائماً بأن نقرأ العبارة الإنجليزية فنقول «يا ويلْكَم تو سوريا»، نُداري بها خوفنا. تابعنا طريقنا البرّي ليزول الخوف كله بدخولنا أوّل دكّانٍ سوري، فتصدمُني رائحته التي كانت أُحفورةً مختبئةً في تلافيف دماغي؛ ذاك المزيج من رائحة الصابون والزعتر والأوراق العتيقة، وبعضٍ من رطوبةٍ يصعب تحديد مكانها.
أيقنتُ وقتها أنّني في سوريا بالفعل.
أُعرِّفُ عن نفسي دائماً بأنني حمويٌّ حمصي الهوى. فقد كان لحمص وأهلها الحصة الأكبر منّي. دائرة أصدقائي الأضيق يسودها الحماصنة. جامعتي كانت في حمص، ومراهقتي المتأخرة كانت في حمص. وذكريات الثّورة لديَّ معظمها في حمص. يحبّ أهل حمص حمصهم، ويسخرون من أنفسهم ومن أهل حماة. نُسمَّى لديهم ريفَ حمص الشمالي، أغضب، ثم أتذكّر كم أنا، كباقي الكثيرين من أهل حماة، أحبّ حماة كما يحب أحدنا «خالته مرة أبوه» أصلاً. ما زلتُ، بالطبع، لا أفهم كيف لحلاوة الجّبن أن تكون حمصيّة، وأظنّها لليوم نكتةً يسخرون بها منّا. بل لا أفهم حتى كيف للعاصي أن يكون في غير حماة. ولكن هوايّ يبقى حمصيّاً.
كنتُ أحاول أن أفهم سبب حبّ أهل حمص لحمص. عشت في المدينتين، ولم ألمس بشكلٍ مباشرٍ في حمص ما يجعلني أحبها أكثر من حماة، بل أكاد أقول إنّني أرى مدينتي حماة أجمل، ولكنني أحببتُ حمص رغماً عن ذلك. قلتُ أن أحداث حماة هي التي جعلتني… جعلتنا، أهل حماة، نمقت مدينتنا. ثم تذكّرت الدّمار الذي شهدته حمص اليوم. لم يزدهم ذاك إلا حبّاً بها.
تذكّرتُ بعدها حبَّ الحلبي لحلب، وافتتان الشّامي بدمشق. ومع أنني لم أخالط الكثيرين من غير مناطق في سوريا إلا متأخراً، وفي المُغترَب، إلا أنّني رأيت حبّ مدنهم فيهم، فلماذا لا تدعني حماة أحبها؟
يدعوا أهل حماة مدينتهم بـ«جورة الهم». فحماة في جوهرها مدينةٌ نشأت على ضفّتي العاصي المنخفضتين أصلاً، ما جعل منها «جورة». وأمّا الهمّ، فتُجسّده أغنيتها الأشهر السكابا الحزينة، ولو أن الحموية يغنّون اللّالا حزينةً بعض الشيء أيضاً، كما هو المشهد الأول في فيلم الطّحالب للمخرج الحموي ريمون بطرس. الخلاصة أنّه من غير الصّعب أن تجد منافذَ للهمِّ تسمح بأن تكنّي مدينتك به. ولكنني سأترك هذا الآن، فأنا أدخل حماة نفسها.
دخلنا حماة قادمين من حمص. كنّا قد عبرنا جسر الرّستن يومها، بالرّغم من فجواته العديدة. عند مدخل حماة، يواجهك «دوار الجّحش». نسرٌ خالٍ. كان يتوسط النسرَ تمثالٌ لحافظ الأسد كانت قوّات الأسد قد أزالته عند انسحابها من حماة قبل رمضان عام 2011. يومها، استبدلَ الحموية التّمثال بجحشٍ لكي لا يبقى خاوياً، فسُمّي، ولو سخريةً، بدوّار الجّحش. أعادت قوّات الأسد التّمثال بعد مجزرة جمعة أطفال الحرّيّة، ليسقطَه بعد ثلاثة عشر عاماً سقوطُ الأبد.
طلبتُ من صديقي الذي كان يقود السّيارة أن ينعطف إلى اليسار، ثم تردّدت، ثم طلبت أن نستشير الخريطة، ثم خجلت من طلبي. انعطفنا يساراً لندخل في «مجرى الزيادة»، ثم انعطفنا مُجدداً باتجاه شارع النّيل، قاصدين جامع بلال. يبدو أنّني لم أختر أقصر الطرق، ولكنَّ ذاكرتي لم تُحرجني بالقدر الذي كنت أخاف. وصلنا بيت خالتي عند جامع بلال، حيث أودَعتْ أمي مفتاح بيتنا.
لم أرَ خالتي منذ أكثر من عشر سنوات، كان قد تزوج خلالها من تزوج، وطلّق من طلّق، وكبر من كان طفلاً، ومات من أصبح كبيراً. تذكرنا ابن خالتي الأخرى، عبد القادر، شابٌ في الثامنة والعشرين من عمره، كان قد قُتل قبل تحرير حماة بسويعات. قتلته شظية قذيفة وقعت في حي الجّلاء. ترحّمنا عليه ودعونا على من قتله، وتلوّعنا بأنّه لم يذق لذّة النّصر معنا، وعزاؤنا، لمن يبحث عن عزاء، في سقوط الأسد. ثم ودّعتُها متّجهاً إلى بيتنا.
نزولًا باتّجاه «كراجات الأهلية» يصبح الطريق سهلاً. صعودٌ أوّلاً باتّجاه دوّار عين اللّوزة، ثم نزولٌ مرّةً أخرى باتّجاه ساحة العاصي. التّوجه إلى ساحة العاصي يعني دائماً النّزول. علّق صديقي الحمصي، والذي كان يقود السّيارة: «لم أكن أدري أنّ حماة كثيرةُ المنحدرات هكذا». لم أفكر بذلك يوماً. حماة هي حماة؛ جورةٌ قديمةٌ تحيط بها أحياءٌ أكثر ارتفاعاً. لأُدركَ بعدها أن هذا هو بالضبط تعريف المنحدرات. اعتادت عيني الكثير في حماة، فلم تعد تلحظ المألوف فيها.
لم يزر صديقي الحمصي حماة يوماً، باستثناء الفحص الطّبي في قيادة المنطقة الوسطى لشعبة التجنيد. لا يزور حماة إلا الحموي، أو من ناسَبَ الحموي، وهم قِلّة. فحماة لا تناسب الجميع. حماة لا تناسب إلا أهلها.
أكملنا متّجهين من دوّار عين اللّوزة، مروراً بنصب الجندي المجهول؛ «الطّريق نزول».
«طلعة العلمين» منحدرٌ باتّجاهين. «أظنّك تذكُر هذه الزّاوية ربما؟» أسألُ صديقي الحمصي، مشيراً إلى مبنىً تختبئ خلفه شعبة التجنيد. فيهزّ رأسه بالنّفي. أحزنني نفيه، دون أن أفهم في البداية ما المحزن في ذلك، ثم أدركني الفهم؛ ألم تقدر حماة أن تصمد في ذاكرتك حتى بشعبة تجنيدها؟ أخافُ على حماة من النسيان، وهي بالكاد محطةٌ على الطريق بين دمشق وحلب. دفع خوفي هذا عيوني لأن تتنقّل بين كلّ زوايا الطّريق لتسجيل الذاكرة، وتخليد المدينة. «المركز الثقافي! المالية! كلّية الأسنان! أجبان الدّريعي!»، أنظر مجدداً؛ بل هي كلّية البيطرة، ولكنّني كنت قد أقحمت ذاكرةً أخرى في الصّورة. كانت كلّية أسنان جامعة البعث بالفعل في حماة، ولو أنها كانت في حيٍ آخر. كان وجود كلّية الأسنان هنا يُجبر طلّاب الكلّية على القدوم إلى المدينة، بل وربما العيش فيها. كنتُ أدرك خيبتهم بأن ينتهي بهم المطاف في حماة، ولكنني كنتُ أرغب في أن يتعرّفوا هم أيضاً على الخالة «مرة الأب»، لعلهم ربّما يحبّونها.
ثم وصلنا ساحة العاصي.
في ساحة العاصي، شاركَ أحمد الفاخوري، أحد أشهر أبناء حماة اليوم، في إحدى احتفاليات سقوط النظام. احتفى به أهل حماة، واحتفى هو بهم. يملك فاخوري قناةً على اليوتيوب تحدّثَ في أحد فيديوهاته عليها عن مظلومية السّنّة، متنبئاً بأن الفيديو هذا «سيزعج البعض» لما سيتناوله من «حقائق مُجرَّدة». أدعوكم أن تلبّوا طلبه في أوّل الفيديو، وأن تشاهدوا الفيديو بأكمله. ولكنّني أكاد أجزم أنّني فهمت تلك الحقائق المُجرّدة، كما أسماها، على ما هي عليه. فما سمعته هو خطابٌ يلطم على ما حصل لأهل السّنّة في سوريا. فهل الضّحية في سوريا هي السّنّة وانتهى؟
وددتُ لو أن فاخوري استغلَّ منبره ذاك، فقال بأحقّيّة حمص بإعادة الإعمار، أو بضرورة توفير الدعم والتعويض لريف دمشق، أو بوجوب خروج حماة، وبقية أطراف سوريا «النائية»، من طرفانيتها التي عانت منها لصالح مركزية دمشقية-حلبية. مركزيةٌ بدأت في عهد الاستقلال، وبقيت في عهد الأسدين، وتبدو مستمرةً حتى اليوم. عندما حدّثنا الشّرع في خطاب النّصر، لم يتهيّأ لقائد الهيئة غير دمشق.
تكثرُ الأعين على دمشق حتى كاد يحسبها سكّانُها أنها لا الأفضل فقط، بل الوحيدة. ويكثر الاهتمام بها حتى كاد يحسب من يعيش فيها ألّا عيشَ في غيرها. دخلتُ الجامع الأموي في دمشق عدة مرات خلال زيارتي لسوريا، ولم أرَ ساحته تخلو من كاميرات تلفزيونات محلية وغير محلية ولو مرة واحدة، بينما كانت ساحة الجامع الأموي في حماة، والمسمى رسمياً الجامع الأعلى الكبير، واختصاراً الكبير، تُراقب كاميرة هاتفي النّقال التي رفعتُها في وجهها. تكاد ساحة الجامع تطلبُ منّي التمهُّلَ حتى يتسنى لها أن تغطي رأسها مني. شابهت تجربتي في حمص تلك في حماة، فلا كاميرات تراقب السلطة، ولا سلطة فوق سلطة السلطة في حماة. الجامع الكبير، كالكثير من الجوامع الشامية، كان كنيسةً بيزنطية، والتي بدورها، كالكثير من الكنائس البيزنطية، كانت معبداً رومانياً.
جامع حماة الكبير، يقع في حارة المْدينة. الحي المسيحي الأكبر في حماة. مسيحيو مدينة حماة مُوزَّعون على حارتين بشكل أساسي، حارة المْدينة ذات الأغلبية الأرثوذكسية، وحارة الشيخ عنبر ذات الأغلبية الكاثوليكية.
دخلنا حارة المْدينة، وكنا ثلاثة شباب شديدي السُّنية، إن صح التعبير. ولدينا ما لدينا من حماس بأن نسمع من الجميع. رأيناه على طرف الشارع الآخر، فاندفعنا نسأل «الأبونا» عن الحال بما يشبه التحقيق، وأبونا العجوز بالكاد يسمع، وبالكاد يجيب. جاء رجلٌ من أهل الحارة لينقذ الأبونا، فبدأ بأن طلب منه أن يُباركنا، ولكن عيوننا البليدة وشت له بما شُبِّه له من سُّنيّتنا. فسألنا الرجل إن كنّا من الحارة، في محاولة أخيرةٍ لإنقاذنا من المأزق المُتخيَّل، وعندما تفوهت بكلماتٍ ما لم تكن إجابةً مباشرةً بالإيجاب، كاد يدير وجهه وهو يسحب أبونا معه، فقررنا أن نترك الرجل والأبونا بحالهما ونُجرِّبَ حظنا في فهم «الأقليات» في شطر آخر من المدينة.
مررنا على كاتدرائية حماة للرّوم الأرثوذوكس، وهي كنيسةٌ بسيطةٌ في الحقيقة، تُجاور مبنى المطرانية. كنا قد سمعنا ما حصل للمطرانية في كانون الأول (ديسمبر) 2024 من هجمات على رموزها الدينية، واعتذارات من الهيئة، ووعود بالحماية، ولكن حوادث أخرى كانت قد حصلت في حماة أيضاً.
مع اقترابنا من المبنيين ودخولنا حرمهما، خرج علينا أحد موظفي المطرانية يسألنا عن حاجتنا، وقد شُبِّه له أيضاً.
كانت مدرستي الثانوية، مدرسة أبي الفداء، في حي المْدينة، مما سلّحني بمعرفة وثيقة بالحارة وأهلها. وأمّا عن اسم مدرستي، فكثيرٌ مما في حماة يسمّى على اسم ملكها المملوكي، أيوبي الأصل، أبي الفداء، الفيلسوف والجغرافي وصاحب كتابي التّاريخ الشهيرين: المختصر في أخبار البشر، وتقويم البلدان.
سبقتُ سؤال موظف المطرانية المُتوقَّع إن كنتُ من الحارة، بأن أسأله بنفسي عن أهل الحارة؛ عن عائلة العبد الله التي كانت تسكنُ قريباً من هنا، ثم عن بيت سمعان في الحارة المجاورة، ثم عن ابن كركور، وابن الكلّاس، وابن الويدات، وعن معلمة الفيزياء والكيمياء المعروفة في حماة من عائلة بشّور. وصرتُ أعيد الأسماء وأُكرّرها، رجالاً ونساءً، «عمو فلان، وخالة فلانة» لأستدركَ فأقول «طانط فلانة!» وأظنه غفرَ لي تلك الزّلة. في النهاية، سألتُ عن الفسيفساء المجاورة للمطرانية، والتي كانتْ أعمال التنقيب الأثرية تعمل عليها.
أزالتْ تلك المعرفة الحميمة بالحارة وأهلها ما كان ربما قد زاولَ نفسه من شكوك، فسمح لنفسه بأن يسترسل بالحديث معنا. أخبرني بدايةً أن الفسيفساء طُمرت ثم حَدَّثني عن محال بيع الكحول التي كسّرها مخرّبون مجهولون بُعيدَ تحرير حماة. قِيلَ يومها أن ممثلين عن الهيئة كانوا قد اعتذروا من مطران حماة عن تلك الأفعال الفردية، لكان المحال بقيت على حالها مغلقةً، بما يبدو أمراً مباشراً، أو غير مباشر، من السّلطات في حماة ببقائها مغلقةً، أو ربما هو سهوٌ مقصودٌ عن حل تلك المشكلة. قِيلَ إنّ أصحاب المحال تلك قد وُعِدوا بتعويض، وقِيلَ ترميم، وقِيلَ الاثنان معاً. ما زالت تلك المحال مغلقةً حتى تاريخ كتابة هذا النص.
توجد معظم محال بيع الكحول في المدينة عند مدخل حارة المْدينة، فسألتُ عن ذاك الذي كان في آخرها من طرف المغيلة، ليُجيب «تكسَّر وتسكّر». ثم تذكّرتُ ذاك خارج حي المْدينة، في أول طلعة الدباغة، عرفته؟ «إي إي، لكان! تكسّر وتسكّر كمان». «وهل ما زال بالإمكان أن تشرب في أي مكانٍ الآن!؟» سألت شبه مستنكر. ماذا عن الدريم؟ والنادي العائلي؟ فأجاب بالإيجاب؛ تستطيعُ الشرب هناك في كلا المطعمين.
تذكرتُ كيف كنا نقضي رمضان في حماة، وكيف قضيته لأول مرة في دمشق. يحدّثونك عن الصّدمة الثّقافية.
كنتُ للتو قد قدمتُ من دمشق، حيث شربنا، ورقصنا، وثملنا في شوارع باب شرقي. لعلَّ حمايةَ الأقلّيات تقتصر على ما تراه الكاميرات، أو لعلَّ مصير مسيحيي حماة في يد أكثرية حماة السُّنية، تلك السُّنية التي حان دورها اليوم بالمظلومية، لا لكونها حمويةً مهمشة، ولا لإرثها من الأحداث، ولا لدورها في الثّورة، بل لأن الظلم أمس وقع على سُّنيّتها، مما يستوجب رد الاعتبار لما فيها من سُّنيّة، وكفى.
ولكنني كنت شديد التّعطّش، وعاصي حماة كان من سيرويني، فمررتُ على نواعير حماة. للنّاعورة أنينٌ هو صوت احتكاك خشبها بخشبها. أقول، وأنا مدركٌ لما في حبيّ من إفراط، أنّني أَطربُ لسماع صوت الناعورة، بالرّغم من قِلّة تناسقه، وارتفاع نبرته، وعُلو صوته. وعند الاقتراب من النّاعورة، ترميك النّاعورة برذاذ ماء العاصي، تحمله ثم تطرحه عنها، لتحمله من جديد، عالقةً، ما سمح لها العاصي بأن تدور، في حلقةٍ شبه مَعيبة تدور على نفسها، وعلى العاصي تدور الدّوائر.
لست الوحيد المفتون بنواعير حماة، فالكثير ممّا في حماة يسمى باسم نواعيرها. والنّاعورة رمز للمدينة تجده عند مدخلها، وعند مخرجها، وعندما تُبعَث حية.
لم أشبع، كنت أريد أن أرى منها المزيد. فتوجّهنا إلى «المَرَابِط»، حيث عيادة أمّي ومكتب أبي. أكلت «كروسان بالجّبنة» لم أذق مثلها منذ غادرت سوريا. لا أفهم لمَ يصعب على الأوروبيين أن يحشوا الكروسان بالجبنة. عند مدخل البناء الذي يضم العيادة والمكتب سوقُ خضرة معروف، يسمى الحاضر الصغير، هو سوق خضرة «السوق».
يَقسِم نهرُ العاصي حماة إلى نصفين، الأجدر بهما أن يكونا متساويين. نصفها الجنوبي هو «السّوق»، كنايةً عن سوق الطّويل، سوق حماة الأكبر، والذي تقول الرواية إنه فقد سقفه في أحداث مذبحة حماة. أمّا نصف حماة الشّمالي فهو «الحاضر»، كنايةً عن كونه الجهة التي تواجه بدو حماة، التي كانت حاضرتهم. يسمّى ابن الحاضر حَوِاضْري، بِلَيِّ الألف ياءً، وترقيق الرّاء. كلمةٌ كَثُرَ استخدامها بين أهل السّوق، بل وأهل الحاضر ربما، كمُرادفٍ للتزمت، أو ربما، إن كنتم قساةً كما كنّا أحياناً، كان تعبير الحواضري مُرادِفاً للعقل «التنح». أما ابن السّوق، فهو «سُوَقي»، بضمّ السّين وفتح الواو. ومع أنني ربع سُوَقي وثلاثة أرباع حواضري، إلا أنني لا أعرف من الحاضر إلا بيت عمي في حي طريق حلب. ربما كنتُ أحاول الهرب من حماة بأن أهرب ممّا يجعلها حمويةً بشدة.
ليس لمن يذهب إلى حماة بدٌّ من أن يُعرّج على منطقة «الطّوافرة» الأثرية. تكثر الإشارة إلى العوائل في أسماء الأحياء في حماة. فالطّوافرة لعائلة طيفور، والبرازية لعائلة البرازي، والبارودية لعائلة البارودي، والكيلانية لعائلة الكيلاني، أما عائلة العظم فكان لها قصر العظم وحُكم الشام. ولو أن الكيلانية كانت قد هُدَّت على ساكنيها في أحداث حماة، ليبني الأسد الأب بدلاً عنها فندق أفاميا، وقيادة الشّرطة، وفرع الحزب.
كثيرٌ ممّا في حماة يسمى باسم أفاميا، المدينة الأثرية المذهلة المُكتشَفة شمال غربي حماة.
أتممنا رحلتنا السّياحية في حماة القديمة بأن خرجنا من عند جسر الكيلانية، لنعود أدراجنا من جانب الجامع الزّنكي، فنمرَّ من الباشورة،متّجهين إلى «أبو ربيع». ومن لم يذق «أفوكادو شوكالا» من عند أبو ربيع، فقد أضاع نصف عمره. جيدة هي «القشاطي» من عند «أبو عبدو» في دمشق، وأتفهّمُ من كان يُفضِّلُ «أبو شاكر» بالقرب منه. إلا أن أبو ربيع، في نظر كاتب النص الحموي، يتفوق عليهما كليهما. أقولها، وأنا مدركٌ لتحيُّزاتي، بل وأرى تَبدُّلَ لهجتي، وانفراجَ أسارير كلماتي عندما أتغزّلُ بأفوكادو شوكالا أبو ربيع.
وصلنا بيت أهلي. كانت أمي قد غطت كل العفش فيه قبل أن تغادر البلاد، بالتؤدة التي تُدبّر بها أي امرأةٍ سوريةٍ شؤون بيتها. كنتُ قد نسيت كم هو جميلٌ بيتنا؛ «طبعاً! هاد بيت أحلامي. بيت العمر» كانت تُعلِّقُ أمّي عندما أتغنّى بجمال بيتنا، بينما كنّا نقضي العمر بعيداً عنه.
في نهاية المطاف، كانت حماة، ورغم كل الرَمنسة التي أَضفيتُها عليها، قد أصبحت أكثر رماديةً حتى من لونها الرمادي الذي أذكر. متسخةٌ، ومُهملة. كانت أصغرَ مساحةً ممّا أذكرها أيضاً. ربما هي كالأب والأم العجوزين، يصغران عندما تكبر أنت. تفقد الخالة «مرة الأب» مكانتها. قبل أن تصبح «خالتك مرة أبوك» كانت حماة ابنةً يتيمةً كباقي اليتامى، وبقيَت كذلك حتى بعد أن كبُرت وشاخت. ليتني كنت أرى حماة كما يرى أهل دمشق شامهم. أم لعلّه من حسن حظّي أنّني لا أرى حماة كما يرونها؟
في جلسةٍ في قهوة الروضة في دمشق، صادفَ أن جلس على الطاولة المجاورة رجلٌ حمويٌّ كان للتو قد عاد إلى سوريا بعد أن غادرها في ثمانينيات القرن الماضي، أم أنها سبعينياته؟ لا أذكر، ولكن الإشارة واضحة لأحداث حماة بما سبقها وتلاها. عاد أمس من الولايات المتحدة الأميركية، بعد عقودٍ طويلةٍ، ليجد مدينةً لا يعرفها، وبيتاً غير بيته، يسكنه ناسٌ غير أهله. وريثما يستوضح الأمر قانونياً، دفعت به الأقدار لأن يلجأ إلى امرأة شامية من معارفه، كانت جليسَته في قهوة الروضة يومها. ما انفكَّت مُضيفته تُذكِّرنا، نحن القاعدين على طاولةٍ مجاورة، بشاميّتها. فعندما أخبرَنا الكهل الحموي بقصّته، وهي قصةٌ لا يخلو بيتٌ حموي من مثيلها، بدأتْ جلسيتُهُ تذكرُ لنا ما عانته دمشق من بطش النظام. ذَكَّرتُها، إن تنفع الذكرى، بدمار حمص، حيث أحياءٌ بأكملها سُوّيت بالأرض، ثم مُنع فوق ذلك سكّانها من العودة إليها. فذكّرتني، وكأنّ الشامي يترك لك أن تنسى، أن دمشق عانت أيضاً. قلت لها «ودمار حمص؟!» فقالت «ولك إنت ما بتعرف القبضة الأمنية»، فصرخت «والدّمار؟!» ونبرتي تعلو وأنا غير مُصدِّق ضعفَ حجتي هذه، فقالت تحاول مخاطبة عقلي وقلبي: «الشام!» لأوقنَ لحظتها أنّ العيب ليس في حُجَّتي. وعرفتُ لحظتها أنها ممّن كان يعنيهم فاخوري عندما تحدث عن «الضّحايا السّنة».
لذا، سأتحدث هنا أنا الآن عن بقية الضحايا. فقد نشر المرصد السّوري لحقوق الإنسان أعداد من ذهبوا ضحية عمليات قتلٍ انتقاميةٍ وطائفية منذ سقوط النّظام وحتى اليوم. كان نصفهم في حمص، فالدّمار لم يشفع لها. تليها حماة والتي كانت حصّتها من القتل تكاد تساوي حصّة ما بقي من محافظات البلاد مجتمعة. هل عبد القادر ابن خالتي محسوبٌ منهم؟
استمرت رحلتي في سوريا عشرة أيام، عدّتُ بعدها إلى حياتي في ألمانيا، لأكتب هذا النص في بيتي في برلين. تحدّثتُ فيه عن حماة، ولكنّ حماة ليست مدينة حماة فقط. حماة هي دوما ودرعا وطرطوس، حماة هي الرقة ودير الزور والقامشلي. حماة هي سلميّة ومصياف ومحردة والسّقيلبية والطّيبة وتيزين وكفربو.
حماة هي أيضاً كل بلدات سوريا وضِيَعها التي لم تسمعوا بها من قبل.
*****
كل الصور في هذا النص التقطها الكاتب خلال رحلته.
موقع الجمهورية