السجناء السوريون في لبنان… الإضراب عن الطعام مستمرّ حتى العودة/ جودي الأسمر

20 فبراير 2025
معضلة العدالة والكرامة
تتفاعل في لبنان قضية السجناء السوريين، بفعل الإضراب عن الطعام الذي ترتفع وتيرته منذ انطلاقه في 11 فبراير/شباط، ويلتزم به أكثر من 120 سجينا. كما ينفذ بالتوازي أهالي السجناء اعتصامات على المعابر الحدودية بين البلدين.
ويطالب المضربون الحكومتين اللبنانية والسورية بـ”تنفيذ الاتفاق الذي تم الإعلان عنه رسميا إبان زيارة الرئيس ميقاتي الأخيرة إلى دمشق، حيث نص على “استرداد كافة المعتقلين السوريين في السجون اللبنانية”، وطالبوا البرلمان اللبناني بإقرار قانون العفو العام.
يأتي هذا التصعيد بعد سقوط نظام الأسد، وتولي القائد الثوري أحمد الشرع رئاسة سوريا في المرحلة الانتقالية، وانتشار مشاهد فتح أبواب المعتقلات السورية، وزيارة رئيس الحكومة اللبنانية السابق لقائد الإدارة السورية الجديدة في يناير/كانون الثاني الماضي، تلاها بيان من وزارة الخارجية السورية أعلنت فيه البدء بإجراءات استرداد كل المعتقلين السوريين في لبنان، فعقد هؤلاء آمالا كبيرة بتسريع الإفراج عنهم، وعودتهم إلى بلادهم.
يعكس المضربون عينة من السجناء السوريين في لبنان، سواء الموقوفين أو المحكومين بتهم الانتماء إلى الفصائل المسلحة للثورة السورية. وهم يشتركون مع الموقوفين الإسلاميين في وضعيتهم القانونية بتهمة الإرهاب، بالإضافة إلى ظروف إنسانية قاسية داخل السجون.
ويفيد مصدر من قوى الأمن الداخلي لـ”المجلة” ببيانات حول السجناء السوريين في لبنان لغاية 1 يناير 2025: “يضم سجن رومية 3469 سجينا، من بينهم 1120 سجينا سورياً، ما يعادل 32 في المئة من السجناء، كما تحتجز السجون الـ12 المنتشرة في لبنان 500 سجين سوري، و90 سجينة سورية، و55 في المئة من السجناء السوريين في لبنان موقوفون لم يحاكَموا. وتضم النظارات وأماكن الاحتجاز وقصور العدل في لبنان 470 موقوفا سورياً على ذمة التحقيق”.
ويشكل سجن رومية أكبر سجن في لبنان، وتوثق تقارير حقوقية بشكل دائم مشاكل الاكتظاظ، والتعرض للتعذيب، والتوقيف لسنوات طويلة دون محاكمة، وغياب الحقوق الإنسانية للسجين من مأكل وطبابة وشروط إقامة صحية، ووُثق موت سجناء سوريين بسبب غياب الرعاية الصحية.
شهادات السجناء عبر “المجلة”
تواصلت “المجلة” مع سجناء سوريين مضربين عن الطعام، في “المبنى بي” من سجن رومية، والذي يضم موقوفين إسلاميين ومتهمين بالعمليات الإرهابية والاعتداء على أمن الدولة.
وقد تداعت شهاداتهم وقصصهم المأساوية:
يتحدث السجين خالد (اسم مستعار) عن تطور الإضراب: “لم يتواصل معنا للأسف أي مسؤول حكومي أو سوري لبناني حتى الآن. ويعاني السجناء المضربون تدهورا في الوضع الصحي، وهبوطا في ضغط الدم، والحالة متأزمة لدى أصحاب الأمراض المزمنة وكبار السن”.
ويشرح خلفيات السجن “طوال الحرب السورية، كان يتم توقيفنا على الأراضي اللبنانية بعد لجوئنا إلى لبنان، على خلفية تقارير لمخبرين، وكنا نحاكم بقرار ظني، ونحال إلى المحكمة العسكرية بخلاف الأصول القانونية، وتلصق فينا تهمة الإرهاب، بينما لم تُصنف كل الفصائل المقاتلة في سوريا في القانون الدولي كمنظمات إرهابية، فقد كانت الإجراءات بحقنا تتخذ على قاعدة كيدية من السلطات وأجهزة أمنية حليفة لنظام الأسد”.
ويتابع: “إننا نعيش واقعا متناقضا، حيث وصل مشاركون في الثورة إلى الحكم في سوريا، والدولة اللبنانية تقيم علاقات دبلوماسية طبيعية معهم، فيما نقبع نحن داخل السجون اللبنانية بسبب انتمائنا للثورة، وبعضنا مسجون منذ عام 2014، والقسم الأكبر موقوف ينتظر حكما لسنوات تخطت مدة محكوميته لو أنها صدرت. كما أن معظمنا لا يمتلك الإمكانات لتعيين محامٍ”.
ويروي السجين حسن حربا: “لجأت مع عائلتي من القصير في عام 2013، بعدما نجونا بأعجوبة من فلول الأسد و(حزب الله)، وكنت أعمل في لبنان ببيع مشتقات الحليب. حين قصدت الأمن العام اللبناني في اللبوة لتسوية أوراق إقامتي، استدعاني ضابط للتحقق من هويتي، واتهمني بالمشاركة في معركة عرسال ضد الجيش اللبناني عام 2014. أكدت له أن ابن عمي الضابط المنشق عن النظام السوري السابق يحمل الاسم نفسه، وأنا لم أحمل السلاح بتاتا ولم أشترك في الثورة. لكنني أحلت إلى الأمن العام في بعلبك، ثم فرع المخابرات في أبلح، حيث حققوا معي تحت الضرب والتعذيب بالكهرباء طوال ثلاثة أيام، ثم نقلت إلى وزارة الدفاع، وأدماني تعذيبهم حتى تكسرت أسناني. من بعدها نقلت إلى المحكمة العسكرية حيث وضعوني في سجن انفرادي، وقلت هناك تحت التعذيب إنني اختطفت عسكريين لبنانيين، ومن بعدها نقلت إلى سجن رومية”.
يتابع: “خضعت لجلسة الحكم الأخيرة عام 2020 حيث حكم علي بالسجن المؤبد والأعمال الشاقة. ولم يرضَ القضاة النقض بالحكم، رغم كل محاولات محاميتي وإثباتها تشابه الأسماء من خلال شهود ووثائق”.
أما السجين م.ش. من حمص، فيقول بصوت متعب: “لجأت إلى لبنان عام 2014 في عمر الـ16 سنة، وحكمت عليّ المحكمة العسكرية بالسجن المؤبد بتهمة الإرهاب، ورفضت طلبي بتمييز الحكم، ولا أزال سجينا منذ 11 سنة. أصبت في السجن بالربو، ونحن محرومون من الطبابة، ولا تقدم لنا سوى حلة من الطعام كل يوم”.
ويؤكد: “أنا ممتنع عن الأكل والشرب والدواء، وحالتي الصحية تتدهور، ولكننا لن ننهي الإضراب إلا عندما ينقلوننا إلى سوريا. نحن لم نضرب عن الطعام لنموت أو لنلحق الضرر بأنفسنا، إنما ليهتم الشعب السوري بأمرنا، فنحن شاركنا في الثورة السورية لأجلهم، وعليهم اليوم الضغط للإفراج عنا”.
ويضيف أحد السجناء: “حين وصلتنا أخبار طلب استردادنا من سوريا، كنا نعتقد أن مأساتنا انتهت. اشترى أهلي السكاكر، واستعدوا للاحتفال بخروجي من السجن، لكنهم اليوم في الشوارع يقيمون المظاهرات بعدما غابت كل الأخبار عن ملفاتنا”.
في التفاعلات على المستوى اللبناني، أعلن رئيس الجمهورية اللبنانية جوزيف عون، يوم الثلاثاء، أن “التواصل قائم حاليا من خلال الأمن العام لمعالجة قضية الموقوفين السوريين في لبنان، والضغط لتسريع المعالجات داخل السجون”.
أما من الجانب السوري، فقد أشار فريق “أنقذوا المعتقلين السوريين في لبنان” في بيان، إلى أنه وفي زيارة لوزراتي العدل والخارجة في سوريا في اليوم الثامن للإضراب، أكدت السفارة السورية أنها ستتولى متابعة أوضاع السجناء السوريين في لبنان.
الصحافي المتخصص في الشؤون القضائية، يوسف دياب، يقول لـ”المجلة” إن “المدعي العام التمييزي في لبنان القاضي جمال حجار أقر في اتصال معه يوم الجمعة 14 فبراير أن الإجراءات القانونية توقفت بسبب توقف عمل مكتب الاتصال السوري. والمفترض إعادة تفعيل المكتب قريبا، لأن الجانب السوري مهتم باسترداد السجناء بسرعة، وسيستأنف أعماله وفقا لقرارات الحكومة السورية الانتقالية. وكان المكتب يتولى التنسيق مع لبنان عبر اللجنة الأمنية القضائية التي شكلها وزير الداخلية اللبنانية السابق بسام مولوي لهذا الغرض، عقب الزيارة الأخيرة لرئيس الحكومة اللبنانية السابق نجيب ميقاتي إلى دمشق”.
ويضيف: “في خطوة عملية، عكفت وزارة الداخلية ووزارة العدل في لبنان على دراسة ملفات السجناء السوريين في لبنان، وقد أحرزت تقدما في مرحلة أولى بشأن البت في 450 سجينا، ومعظمهم ممن انخرطوا في الثورة السورية. وكان الوضع يتطور في اتجاه استرداد السجناء وفقا للاتفاقية القضائية المبرمة بين البلدين في عام 1951، باستثناء المحكومين بدعاوي شخصية، الذين سيقضون محكوميتهم في لبنان”.
وتنص الاتفاقية على شروط عدة لتبادل السجناء بين لبنان وسوريا، من أهمها:
أن يكون الشخص المطلوب من رعايا الدولة المطالبة بالاسترداد، وأن يكون الحكم القضائي مبرما.
أن لا تقل المدة المتبقية من العقوبة عن ستة أشهر.
موافقة المحكوم عليه على نقله إلى بلده.
موافقة الدولتين على النقل.
أن تكون الأفعال المرتكبة جريمة تعاقب عليها قوانين الدولة المنفذة.
تمتلك الدولة المدانة الحق في رفض التسليم في حال رأت أن النقل سيمس بسيادتها أو أمنها أو نظامها العام.
سيناريوهات بديلة
المحامية السابقة في المحكمة الجنائية الدولية والخبيرة في القانون الدولي ديالا شحادة، تعلق لـ”المجلة” بالقول، إن “كل الاتفاقيات المعقودة بين لبنان ونظام الأسد طوال 54 عاما، بما فيها الاتفاقية القضائية عام 1951، تبقى سارية ونافذة إلى أن تقرر إحدى الدولتين إنهاءها أو فسخها أو تعديلها. ولقد أعلنت الحكومة السورية الانتقالية أنها تعيد النظر فيها، ما يطرح احتمال استرداد السجناء والموقوفين السوريين بموجب آلية مختلفة عن الاتفاقية القضائية”.
وبحكم متابعتها للملف، تتناول المحامية فرضية الإفراج عن الموقوفين والسجناء السوريين بموجب العفو العام المنتظر في لبنان، حيث يعول عليه ويكرره السجناء والأهالي المعتصمون، ويشددون على تقاطعاته مع قضايا الموقوفين الإسلاميين وسجناء فلسطينيين في لبنان. وتوضح قائلة: “لا يمكن أن يشمل العفو العام جميع السجناء في لبنان، سواء من السوريين أو من غير السوريين، لأن جميع مشاريع قانون العفو العام المطروحة تستثني المحكومين بجرم القتل أو قتل العسكريين. لكن المؤكد أن تسليم السجناء السوريين إلى دولتهم سيكون أكثر ملاءمة لهم من أي نسخة من قانون العفو العام، إذ إن سوريا قد فتحت أبواب معتقلاتها لجميع السجناء، من مبدأ أن أي حكم صدر في ظل نظام الأسد لم يكن عادلا”.
وتستدرك: “تمتلك الدولتان احتمالا قابلا للتطبيق بصرف النظر عن الالتزام بالقوانين والاتفاقيات السارية، ويقضي بإنجاز اتفاق سياسي جديد بين الطرفين، فهذا ما تتطلبه المصلحة العليا للدولة اللبنانية، والقاضية أولا بتخفيف الاكتظاظ في السجون، حيث يبلغ الاكتظاظ في سجن رومية ثلاثة أضعاف قدرته الاستيعابية، فضلا عن تسبب الأزمة الاقتصادية وتآكل ميزانيات السجون بتدهور كل ظروف البقاء في الصحة والمأكل والنظافة، كما خضع آلاف السجناء السوريين في لبنان لأسوأ أنواع التعذيب، خاصة في إجراءات التحقيق، وتخضع ملفاتهم لاتهامات نابعة من دوافع سياسية، ومعالجة قائمة على المعايير المزدوجة”.
وكانت منظمة العفو الدولية قد تناولت في تقرير مفصل عام 2022 بعنوان “كم تمنيت أن أموت”، مآسي لاجئين سوريين احتجزوا تعسفيا بتهم تتعلق بالإرهاب وتعرضوا للتعذيب في لبنان، وأساليب تعذيب في الاستجواب لم تستثنِ القاصرين والنساء، مثل: استخدام كابلات وأجهزة كهربائية تسبب الألم خلال الاستجواب، والضرب بأسلاك وأنابيب كهربائية، و”بساط الريح” أي ربط الوجه إلى الأعلى بلوح قابل للطي، وأسلوب “البلانكو” أي رفع المتهم في الهواء طوال ساعات من معصميه المقيدين خلف ظهره، وطريقة “الشبح”، أي تعليق الشخص من معصميه المربوطين بخطاف أو على باب أو أنابيب في السقف والتعرض للضرب، والضرب حتى الإدماء والإغماء، وعملية إعدام وهمية بالمسدس.
وتنهي شحادة بالقول: “إن رئيس الحكومة اللبنانية نواف سلام متمرس في القانون، ويمتلك كافة الأدوات والصلاحيات لتسوية المسائل القانونية والإنسانية داخل السجون اللبنانية. ولا شك أن مصلحة لبنان تقضي بإعادة تأسيس علاقات مميزة مع سوريا، ما يعززه الآن التعاون في استرداد السجناء السوريين. ودون الاستناد إلى شعارات النظام السوري السابق أو اتفاقياته الواهية، سوريا هي بالفعل المطل الوحيد للبنان إلى العالم فيما عدا البحر، كما أنها عنصر أساسي في الاستراتيجية الدفاعية للبنان، واقتصاده، وضبط حدوده، وهذه العوامل جميعها تشهد عملية إعادة تنظيم مع التحولات الكبيرة التي يشهدها البلدان”.