الناسسقوط بشار الأسد، الرئيس الفار والمخلوع

أطباء سوريون في عهد الأسد: أن تداوي الجرحى تحت أعين الأمن!/ غدير برهوم

21.02.2025

لم يكن سهلاً على أطباء كثر في سوريا ممارسة عملهم مع اندلاع التظاهرات في سوريا عام 2011، إذ تحوّلت مستشفيات كثيرة إلى مسالخ للموت، وأطباء كثر إلى جلادين، وشكّل عملهم امتداداً لعمل الأفرع الأمنية، وربما تعد قضية الطبيب علاء موسى الذي يحاكم في ألمانيا، أوضح مثال على ذلك، فهو متّهم بالقتل والتعذيب ومشتبه بارتكابه جرائم ضد الإنسانيّة.

تنازع الخوف من رجال الأمن السوري والواجب الطبي-الإنساني بإنقاذ حياة المرضى والمصابين، ترك الكثير من الأطباء أمام تحديات تهدد حياتهم أحياناً، بل اضطر البعض، تفادياً لأعين الأمن والرقابة، إلى اختراع شيفرات للتواصل، ناهيك بـ”التعذيب” الذي مورس على بعض المرضى.

الشيفرات الطبية: “مقادم وحفاتي”

يروي اختصاصي الجراحة العامة الدكتور محمد ماجد الشايب (62 عاماً) لـ”درج”، عن تجربته في علاج المتظاهرين في داريا في بدايات الثورة السورية عام 2012، قائلاً: “كان أحد المشرفين على علاج المصابين من المعضمية، ولديه إعاقة في أحد قدميه، يتصل بي يومياً ليخبرني عن الإصابات في المعضمية أو المناطق المحيطة بها”.

ولأنّ علاج المتظاهرين كان يعد جريمة توازي الإخفاء القسري والقتل في كثير من الحالات بنظر النظام، كان الطبيب يستخدم كلمات دلالية أخرى، إذ “كانت كلمة السر بيننا هي الدعوة إلى الطعام، يبين فيها مكان الإصابة ونوعها، ، كأن يقول: دكتور، عازمك على فطور مقادم عنا بالمعضمية، تعال شاركنا، فأعلم أنّ الإصابة في الأطراف والمصاب في المعضمية، أو يقول: عازمك على أكلة حفاتي بالمزة بساتين فأفهم وجود إصابة حشوية (في أحشاء البطن)، وفي بعض الحالات كان يأتيني المريض لابساً ملاية نسائية”.

وبسبب الشكوك حول معالجة الشايب المتظاهرين، كان عناصر المخابرات يراقبون عيادته وتحركاته، فكان يضطر أحياناً الى تغيير هندامه للتمويه. إذ يقول: “ذات يوم تحركت بسيارتي من داريا نحو المعضمية، وعند زاوية النادي الرياضي باتجاه الحاجز، لاحظ أحد عناصر الأمن العسكري ممكن كان يهددني باستمرار، ولتفادي المشاكل، كنتُ أغير هيئتي لتتماشى مع هيئة رجل أزعر، فأفك أزرار قميصي، وأضع نظارة شمسية وأمضغ العلكة، وكانت سيارتي جيب سوداء تراجيت، التي كانت بمثابة بطاقة مرور لشبهها بسيارات الأمن”.

 يقول الشايب: “كان ينتظرني طبيب أسنان من مديرية الصحة، يحضر كل أسبوع لينقل ما يحدث الى ضابط أمن المديرية، وأعتقد أنه السبب الرئيس بأن أصبحت مطلوباً لفرع الأمن السياسي، ما أدى الى رفض تجديد جواز سفري لأكثر من سنة ونصف السنة، ورفض الوكالة التي أجريتها لأخي ليتصرف بأملاكي، وبعد الكثير من التهديدات غادرت البلاد”.

شجار في العناية المشددة!

وعلى رغم أن معالجة المريض وإنقاذ حياته بغض النظر عن انتماءاته وتوجهاته، هما واجب إنساني يفرضه على الأطباء قسمهم الطبي ومبادئهم الأخلاقية والإنسانية، فقد استباح المتنفذون المرتبطون بالنظام البائد المستشفيات واعتدوا على كوادرها من أطباء وجهاز تمريضي.

يحكي الدكتور إياس ديوب (49 عاماً)، اختصاصي الصدرية من بانياس، لـ”درج”: “خلال دوام عملي في المستشفى الوطني باللاذقية في قسم العناية القلبية، أخرجنا معظم الزوار لفحص المرضى، وأغلقْنا الأبواب، وما هي إلا لحظات حتى اقتحمت ياسمين الأسد قسم العناية المشددة من دون أن تُعرِّف عن نفسها،  وشدّت ممرضة القسم من شعرها لأنها رفضت إدخالها”.

هنا تدخل الدكتور إياس محاولاً ثنيها “ليدخل زوجها قصي كنعان (ابن أخ غازي كنعان) مع شبيحته، ويحصل تعاركٌ بالأيدي. استطعتُ الدخول إلى إحدى الغرف، وطلبت من الممرضة الاتصال بالشرطة والمسؤولين في المستشفى”.

وبالفعل، حضر إلى المكان رئيس قسم الجنائية وقائد الشرطة، وكذلك يسار الأسد مع شبيحته الذين كانوا يفوقون تعداد الشرطة. يقول الدكتور إياس: “كنتُ مصمماً على الشكوى على رغم أنّ كلَّ من حضر ليحميني طلب مني التنازل، شارحين لي أن ‘يسار الأسد حقَّكْ عنده تِك’”.

ويتابع: “بعدها سألني أحد الزملاء ممن حضروا التعارك على انفراد إن شتمت آل الاسد، لأن المسؤولين في الخارج يتحدثون عن ذلك، فأجبته ‘لم أوفّر أحداً’، فنصحني بالسكوت، وانتهت الحادثة ‘بلفلفة القصة’ وكتابة محضر ‘إذعان’”.

يحكي الدكتور عمر محمد قريع لـ”درج” عن اعتقاله في كانون أول/ ديسمبر عام 2011 عن طريق عنصرين من مفرزة الأمن العسكري، وذلك في القطيفة مع المدعو علي ابراهيم الذي كان يقود السيارة، وهي سيارته الخاصة، إذ يقول “في الساعة التاسعة مساء بعد خروج آخر مريض من العيادة، طبعاً مطمش العينين ومكبل اليدين خلف الظهر والحمد لله بدون أي إساءة”.

ولما سألهم الطبيب عن سبب الاعتقال أجابوا “معنا أوامر من الفرع”، وصادروا جهاز اللابتوب والجوال. ويتابع: “وللمفارقة أنّ معظم عناصر المفرزة كانوا يتعالجون هم وعائلاتهم عندي منذ سنوات، وكان بجانب رئيس المفرزة أحد الأشخاص يفتش في حاسوبي المحمول، فسألني ‘هل لك علاقة مع كوريا؟’.

استغربت السؤال، وأجبت بالنفي، فأدار الشاشة باتجاهي، وقال ‘ما هذا؟’ فقلت له ‘يا أستاذ هذا اسم المستخدم الذي يختصر كنيتي؛ القريع وكتبتها باللغة الإنكليزية ‘korea’، وكان بريدي الاإكتروني هو kora***@hotmai.com، وعلى ما يبدو أنه اقتنع، وكانت هذه النقطة الوحيدة التي وقفوا عندها لأنهم لم يجدوا لا فيديوهات مظاهرات ولا أي شيء يدينني بنظرهم”.

بعدها انفرجت أسارير رئيس المفرزة، لأنه كان في ما يبدو محرجاً من الطبيب قريع، فقال له “الكتاب اجا من فوق، عكل حال أنا كتبت انك طبيب مخلص ومتفاني”.

وفي الفرع، سجلوا الأسماء مع البيانات الكاملة، بينما الوجوه باتجاه الحائط، يضيف قريع: “أخذونا إلى الممر عراةً ما عدا الشورت، مع حركتي أمان (قرفصاء ثم وقوف)، مع الكلام النابي، لبسنا ثيابنا، وأخذونا كل معتقل إلى غرفة تسمى ‘الجماعية’”.

يصف قريع الجماعية لـ”درج” قائلاً: “الغرفة هي 4 × 4، فيها حوالي 50 معتقلاً من جميع الأعمار، وعندما يسمعون صوت الباب، يلتمون عليه لمعرفة الأخبار التي تحدث في الخارج، لأنهم منعزلون عن العالم الخارجي، في غرفة معتمة، تحوي ‘قنينة بلاستيك مطعوجة’ نشرب منها ونملؤها من ‘حنفية التواليت’ الموجود في الغرفة ذاتها”.

ويختم قائلاً: “مشاهد تدمي القلب لمعتقلين أبرياء، حضرتها خلال فترة احتجازي ثلاثة عشر يوماً في الفرع 227، أحدهم كان مريض متلازمة داون اعتقلوه مع أشخاص آخرين، كنا نعتني به وننظفه لأنه بسبب وضعه كان يتبول في ثيابه، ولمدة شهر آخر في القيادة العامة للمخابرات، وفي التحقيقات كانت تهمتي بأنني أنوي معالجة المصابين والجرحى من المتظاهرين والثوار، وأني أتابع قناتي العربية والجزيرة”.

وبالحديث عن الفرع 227 أو فرع المنطقة، الذي أمضى فيه الدكتور القريع جزءاً من فترة اعتقاله، فهو أحد فروع شعبة المخابرات العسكرية في سوريا، ويقع في دمشق. يُعرف هذا الفرع بأنه من بين أكثر مراكز الاحتجاز قسوة ووحشية، إذ يُتهم بالقيام بانتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان، بما في ذلك الاعتقال التعسفي والتعذيب والقتل تحت التعذيب.

وبحسب تصريحات أسامة عثمان (سامي) الذي ساهم مع شخص آخر في تسريب صور قيصر، فإنّ ضحايا هذا الفرع من بين الأكثر فقداً لعيونهم نتيجة التعذيب والتنكيل الوحشي، وقد كان اللواء رستم غزالة هو رئيس هذا الفرع حتى عام 2012، وقد اتُّهم بارتكاب جرائم ضد الإنسانية خلال فترة رئاسته.

التعذيب بالموسيقى

عام 2014 وصل للدكتور سامي ياسين أبو زريق (60 عاماً) خبر إصابة ابن أخته في درعا البلد، فتوجه إلى هناك من مكان سكنه في درعا المحطة، وكان عليه المرور بحواجز عدة، وعلى أحدها اعتُقل مع الضرب والإهانات، لينتهي به الأمر في فرع الأمن العسكري ثمانية عشر يوماً. يقول أبو زريق: “قالوا لي صباحاً بدك تروح عالجوية، وهنالك أحصيت ثلاث عشرة تهمة وجهت إلي، أذكر منها: القتل العمد والتهاون في إسعاف العساكر، تهريب المسلحين من المشفى، إهانة هيبة الدولة، التمويل الخارجي، سرقة أدوية من المشفى لصالح المسلحين، إسعاف المسلحين، اتهام الدولة باستعمال رصاص متفجر وغيرها الكثير”.

وعن التعذيب الذي وجد فيه الطبيب شيئاً لافتاً، يلفت: “الغريب في الأمر أن المحقق معي كان يشغل أغنية (تعلق قلبي فيك طفلة عربية) لطلال مداح، ويعذبني على أنغامها، وتزداد شدة الضربات مع الموسيقى”.

ويكمل أبو زريق، وهو طبيب اختصاصي جراحة بولية وتناسلية والعقم عند الرجال: “في فرع الجوية نزع المحقق الطماشة عن وجهي، وكانت الصدمة الكبرى، كان شاباً في الثلاثين من عمره، كان مريضاً يراجع قسم البولية، وقد عالجته حتى شفي، فخاطبته ‘إذاً أنت من كان يحقق معي’، ليرد ‘نعم، ولم أقسُ عليك، سنحولك لمحكمة الإرهاب في دمشق وهنن يصطفلوا فيك’”.

محكمة الإرهاب في دمشق، التي تم تحويل الطبيب سامي أبو زريق إليها،  هي جزء من النظام القضائي السوري، الذي تم إنشاؤه عام 2012، بعد إلغاء محكمة أمن الدولة العليا التي أنشئت في 1968، وتعد هذه المحكمة أداة النظام السوري في قمع المعارضة السياسية والمدنيين الذين يُتهمون بجرائم إرهابية، وقد استخدمها لتحويل أي نشاط معارض أو حتى إنساني إلى جرائم إرهابية، كما هو الحال مع يارا فارس التي حوكمت بسبب مساعدتها النازحين، وبالتالي فهي تؤثر على حركة المجتمع المدني وتقيد أي نشاط يمكن اعتباره تهديداً للنظام.

البرد سلاحاً

في سجن عدرا، كانت ظروف الاعتقال أفضل، فنجح الطبيب عبر الرشى والأدلة بنيل حكم البراءة، لكنه خرج ليفاجأ بالطامة الكبرى، “دخلت منزلي لأتفاجأ أن أخي قد اعتقل من شهر وغير معروف مكانه، وأن ابني وهو طالب مدرسة في الصف العاشر (عمره قرابة 15 عاماً) قد اعتقلوه ليومين، وأن ابني محمد طالب في الثالث الثانوي (بكالوريا، 17 عاماً) قد اعتقلوه لمدة أسبوع في الأمن العسكري وأفرج عنه”. وقد تم فصل الدكتور  من وظيفته، بعدما عمل 15 عاماً كطبيب بولية في المستشفى الوطني بدرعا.

خرج الدكتور سامي أبو زريق من سجن عدرا لمدة 15 يوماً فقط، ليُعاد اعتقاله في فرع فلسطين، وهناك كانت العذابات الأشد. يذكر لـ”درج” نمطاً غريباً من التعذيب قائلاً: “كانت هنالك شفاطات كهربائية كبيرة تم تركيبها بالعكس، وعلى ارتفاع ثلاثة أمتار، وزر تشغيلها خارج المهجع، وعندما يسمع أحد السجانين صوتاً أو بدون صوت في بعض الحالات، يشغل الشفاطَين من الخارج، وهنا تتشكل زوابع من الهواء البارد جداً داخل السجن، لنصبح جميعاً متلاصقين في أحد الزوايا اتقاء للبرد القاتل، حتى نحافظ على حرارة أجسادنا ما أمكن، وحتى يحن علينا أحد السجانين، بعد عدة ساعات وأحياناً بعد يوم كامل ويطفئ تلك الشفاطات، طبعاً هذا كله في شهر كانون الأول المعروف بأنه أكثر الأشهر برودة”.

ويعد فرع فلسطين أو فرع 235 أحد أسوأ السجون سمعةً، يديره جهاز المخابرات العسكرية السوري في دمشق. وتأسس في عام 1969 وكان مرتبطاً بالجهات الفلسطينية العاملة في سوريا. وخلال الثورة السورية، استخدم هذا الفرع لتعذيب معارضين ونشطاء حقوق الإنسان، إذ كان يستقبل موقوفين بتهم “الإرهاب”. وبعد سقوط نظام الأسد، أحرقت قواته غرفه ومحتوياته قبل انسحابها.

درج

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى