سمر يزيك: أعيد بناء العالم المُدمَّر عبر الكلمات

بتول يزبك
الجمعة 2025/02/21
منذ انطلاق الثورة السّوريّة في العام 2011، شكّل الحراك الثقافيّ أحد الأدوات الأساسيّة لتثوير الحيز العام، حيث استُخدمت الفنون والممارسات الثقافيّة كوسائل توثيقٍ ونقدٍ وتخيُّل لحقّ السّوريّين في حياةٍ كريمة خارج قيود الاستبداد. ومع تسارع وتيرة الحرب وتدويل الصراع وارتفاع منسوب العنف والفقد، كانت المؤسسات الثقافيّة المستقلّة ومعها المثقفون والفنانون والكتّاب داخل سوريا وفي مهاجرها، بمثابة شريان حياةٍ عنيد، خلاّق في صنع سردياتٍ بديلة ومتعدّدة عن تلك الّتي فرضها المنتصرون – حينها – في المعركة العسكريّة، وبطرقٍ تتجاوز المنظور البعثيّ الداعي إلى “الصهر في بوتقةٍ واحدة”. اليوم، تتجلّى أسئلة مشروعة حول مدى تجذّر هذا الفضاء، وكيف قد يبدو مستقبله في المنافي وفي الداخل السوريّ، حيث بقيت إرادة الخلق والمقاومة تنمو ولو في التربة الأشدّ وعورةً. في هذا السّياق، تلتقي “المدن” عددًا من الفنانين والكتّاب السّوريّين، للوقوف على آرائهم حيال راهن المشهد الثقافيّ السّوريّ ومستقبله.
في هذه الحلقة، تحاور “المدن” الكاتبة والصحافيّة السورية، سمر يزبك، الصّوت الجريء الذي وثّق تفاصيل الثورة السّوريّة منذ بواكيرها، حين كان التوثيق مخاطرةً بحياة كل من حمل القلم أو الكاميرا في وجه القمع. ومنذ الأيّام الأولى لثورة العام 2011، برز اسم يزبك بوصفها إحدى أوائل اللواتي نقلن ما كان يحدث في ريف دمشق، حين انتفضت المُدن والبلدات كأنّها تكتشف فجأة حقّها في التعبير. لم يكن ذلك بالأمر الهين وسط تصاعد التهديدات والانتهاكات التي طاولتها شخصيًّا، وحملتها على مغادرة البلاد إلى باريس، حيث واصلت، من منفاها، الدفاع عن حقوق السوريّين، وحملت أصوات المقهورين والمنسيّين. اليوم، بعد سقوط النظام وعودتها إلى سوريا، يكتسب الحوار مع سمر يزبك أهميّةً مضاعفة: ليس فقط لاستعادة صورٍ من ذاكرتها حول الثورة، بل أيضًا للوقوف على رؤيتها لمستقبل البلاد عقب سنواتٍ من النفيّ والاشتباك مع القضايا الحقوقيّة. كيف ترى سوريا الآن؟ وما الذي تغيّر بعد أكثر من عقدٍ على لحظة الغضب العلانيّة الأولى؟ عن النضال والمنفى والعودة، مع سمر يزبك الكاتبة والإنسانة والسّوريّة، يأتي هذا الحوار:
– كيف تصفين التغيرات الّتي طرأت على المشهد السّوريّ اليوميّ قبل سقوط النظام وبعده؟
* أعتقد أنّ التغيرات الّتي رافقت الانهيار السّريع للنظام كانت مفاجئةً للغاية. أوّلًا، لا يمكننا إنكار الدخول المفاجئ للفصائل إلى مختلف المدن السّوريّة من دون إراقة الدماء، بمعنى ما كان مفترضًا. فعندما هرب بشّار، وسلّم الجيش سلاحه، ودخلت الفصائل، كنّا نخشى وقوع مجازر وقتال. ليست مجازر طائفيّة، لكن في أيّ انتقال للسلطة، وخصوصًا مع دخول هذه الفصائل المحسوبة على الإسلاميّين، كنّا نتوقّع نشوب حرب وسفك دماء. لكنّ المفاجئ أنّه لم تحدث مجازر استثنائيّة. وعندما دخلت “هيئة تحرير الشام” مع الفصائل الأخرى، وجدت أمامها حملًا ثقيلًا من الخراب. كانت هناك فصائل في الجنوب دخلت إلى دمشق، وكانت سوريا في ذلك الوقت في حالة دمارٍ كامل.
لكن عندما تسألونني عن سوريا، أيّ سوريا تقصدون؟ فقد دخلت الفصائل إلى مدن عديدة وكان ذلك بمثابة معجزة. الاقتصاد في الحضيض، البنية التحتيّة مدمّرة بالكامل، وأعتقد أن 90% من الشعب السّوريّ تحت خطّ الفقر. وهناك من لا يزالون في المخيّمات. لقد زرت ريف دمشق، وكان مدمّرًا، وهناك مناطق مدمّرة بالكامل مثل جوبر. الفصائل وجدت نفسها أمام فراغ رهيب وهائل. وعندما تولّت الحكم، وجدت نفسها أمام إرث ثقيل وصعب. بالتأكيد، حدثت تغيرات يمكن القول إنّها أعطت الأمل للسوريّين عندما هرب بشّار وسقط النظام، بأنّهم يستطيعون بناء مستقبل جديد. لكن أيّ مستقبل؟ هذا أمر آخر. نحن أمام تحدّيات كبيرة جدًّا، فهناك عقوبات اقتصاديّة، ونحن مقبلون على أزمة مجاعة. هناك انتهاكات كثيرة تحصل الآن، ولا أمان كاملاً. أعتقد أن تسلّم الحكم في بلد بأكمله كان يحتاج إلى استعدادات أكثر، إلا أن الأمر حدث بسرعة، ممّا أدّى إلى صعوبات شديدة. لذلك، فإنّ التغيرات تحدث يوميًّا بشكل مستمرّ. والآن، بعد حلّ الجيش ومحاولة توحيد الفصائل، ظهرت مشاكل أكبر بكثير من ذي قبل.
– طوال العقود الماضية، هيمنت سرديّات ثقافيّة وأدبيّة أحاديّة على قاعدة “الصهر في بوتقةٍ واحدة” في الداخل السّوريّ، فيما تعرّضت السّرديّات المناهضة للقمع المنهجيّ، وصولًا إلى منع نشر بعض الكتب. هل تعتقدين أن سقوط النظام يمكن أن يعيد التعدّدية إلى المشهد الثقافي السّوريّ؟
* أعتقد أن المشهد الثقافي السّوريّ متنوّع، إذ نشأت في الخارج سرديّة ثقافيّة غنيّة ومتعدّدة، بينما في الداخل كانت هناك سرديّة مقموعة، لم تكن هناك إمكانيات كافية، لكن كان هناك من يكتب ويعمل على توثيق الأحداث. وبعد سقوط النظام، ورغم الظروف الحاليّة، ظهرت تجمّعات ومنتديات ثقافيّة في دمشق، وريف دمشق، واللاذقيّة، وطرطوس، ومناطق أخرى، حيث يحاول المثقّفون إعادة تنظيم أنفسهم والعمل على هذا الجانب. إذا تابعنا ما حصل بعد سقوط النظام بأسبوع، نجد أن العديد من المثقّفين والناشطين المجتمعيّين وأصحاب المؤسّسات الثقافيّة أعادوا تنظيم أنفسهم مباشرة، وأقاموا أنشطة وأصرّوا على استمرار الحياة الثقافيّة، وأصدروا بيانات وعملوا بجدّ. وهذا أمر لا يمكن إنكاره. حتّى في الداخل، كانت هناك محاولات كثيرة للعمل، لكن بعد سقوط النظام، نشأت تجمّعات وحركات ثقافيّة متعدّدة. هناك أكثر من 95 طلبًا لترخيص جمعيّات مقدّمة إلى وزارة الشؤون الاجتماعيّة والعمل.
لكني أعتقد أن الحكومة المؤقّتة الحاليّة لا تضع الثقافة ضمن أولويّاتها، نظرًا للملفّات المعقّدة والهائلة التي تواجهها. حتّى وزيرة الثقافة لا نعلم بالضبط ماذا تفعل. على مستوى الإنتاج الثقافيّ والفنّي، لم يتوقّف السوريّون والسوريّات عن الإبداع في السينما، والفنّ التشكيليّ، والأدب، والتوثيق. هذه السرديّة الثقافيّة لا يمكن إنكارها. حتّى الآن، لا مؤشّرات على قمع هذه التجمّعات، لكنّ المستقبل غير واضح، وقد يحدث ذلك لاحقًا. رغم الضبابيّة، علينا المحاولة وعدم الاستسلام، فهذا جزء من معركتنا المقبلة.
– هناك مخاوف بين التيّارات العلمانيّة واليساريّة والديموقراطيّة من “أسلمة” الدولة. في رأيك، هل يمكن أن تنعكس هذه المخاوف على المشهد الثقافيّ، كما كان الحال في فترات سابقة؟
* هناك مخاوف من أسلمة الدولة، ونحن بانتظار مؤتمر الحوار الوطني بعد شهرين وإعلان الحكومة المؤقّتة. كلّ شيء ممكن. سوريا مفتوحة على كلّ الاحتمالات، إمّا بناء دولة حقيقيّة أو مواجهة نوع جديد من الدمار. لكن هناك أمل يجب العمل عليه، خصوصاً في ما يتعلّق بالتعدّدية الثقافيّة، وفي مواجهة أيّ احتمال لأسلمة الدولة، يجب أن نعمل على بناء دولة مدنيّة ديموقراطيّة.
– مع كلّ ما تشهده سوريا اليوم من تحوّلات، هل تعتقدين أن من الممكن ظهور أدبيّات جديدة مرتبطة بهذه القضايا (كقضيّة المخفيّين قسرًا وغيرها)، ربما على غرار “أدب الإبادة”، بحيث يتوسّع دور القضيّة السّوريّة في المشهد الأدبيّ العالميّ؟
* لديّ مشروع روائيّ عن الذاكرة، عملت عليه في كتاب “بوّابات أرض العدم”، وكتاب “تسع عشرة امرأة”، والآن سيصدر لي كتاب عن غزّة، وأعمل أيضًا على كتاب توثيقيّ عن سوريا لم أعلن عنه بعد. بالتأكيد، هناك العديد من المشاريع في هذا المجال، سواءً في السّرد، أو السينما، أو الفنّ التشكيليّ، أو المذكّرات الشخصيّة. هذه التجارب، رغم أنّها لا تزال في طور التكوين، ستتحوّل إلى سرديّة متكاملة مع الوقت. مشروعي الشخصيّ يهدف إلى إعادة بناء العالم المُدمَّر عبر الكلمات، وأطلق عليه اسم “أدبيّات الإبادة”، وهو شكل جديد من السرد التوثيقيّ. مع تطوّر وسائل التواصل الاجتماعيّ، تحوّل العديد من الأشخاص العاديّين إلى ناشطين يوميّين يوثّقون ما يجري في سوريا والمنفى، أو حتّى الغرق في البحر. هذه اليوميّات، إذا جُمعت، ستصبح سرديّة هائلة.
نحن بحاجة إلى مشروع يجمع هذه السرديّات معًا ويجعلها تعمل في إطار موحّد. أعتقد أنّه ستكون هناك أدبيّات عن الإبادة، لكنّها ستكون مختلفة عن الأشكال المتعارف عليها. نحن ما زلنا في حالة حرب منذ 2011، ونحتاج إلى وقت حتّى تتبلور هذه السرديّات بشكل واضح. على الصعيد العالميّ، هناك اهتمام بالقضيّة السّوريّة، لكن بشكل غير كافٍ. بعض الأعمال الأدبيّة السّوريّة تُرجم إلى لغات متعدّدة، وكانت هناك مؤتمرات عالميّة حول الأدب السّوريّ، لكنّها خفتت مع الوقت.
– كيف تقيمين المسار الذي سلكته القضيّة السّوريّة حتّى الآن؟ هل تعتقدين أنه وصل إلى مرحلة متقدّمة تتيح البناء عليه مستقبلاً؟
* القضيّة السّوريّة مرّت بمسارات معقّدة، وتداخلت فيها المصالح الدوليّة. بين العامين 2011 و2015، كانت القضيّة السّوريّة من أكثر القضايا التي تنال اهتمامًا عالمياً، لكنّها اليوم لم تعد تحظى بالزخم نفسه. الاهتمام الحاليّ بسوريا ضعيف، وهو مرتبط بمصالح الدول المتدخّلة فيها أكثر من كونه اهتمامًا حقيقيًّا بمصيرها. لكنّ السياسة هي فنّ استغلال الممكن، ويمكننا أحيانًا الاستفادة من مصالح الدول لبناء شيء يخدم مستقبل سوريا.
لا يمكن إنكار أنّ سوريا ما زالت تحت سيطرة قوى دوليّة مختلفة، رغم سقوط النظام. وحتّى الآن، لا فعل جدّياً على الأرض، ونحن في حالة انتظار، لكن يجب علينا العمل أثناء هذا الانتظار. القضيّة السّوريّة، بشعبها وإيمان أبنائها بها، وصلت إلى مرحلة متقدّمة، والتعويل الآن على ما سيحدث خلال هذه السنة.
المستقبل يعتمد على الوضع الاقتصاديّ، ورفع العقوبات، وتحقيق السّلم الأهليّ، لأنّ الاقتصاد والسّلم مرتبطان بعضهما ببعض. في حال لم تتحسّن الأوضاع، سيؤثّر ذلك في الفنّانين والمثقّفين، لكن رغم كلّ شيء، هناك رغبة لدى العديد من السّوريّين في العودة إلى بلادهم والعمل من الداخل، وهذا ما دفعني إلى العودة رغم أنّ لديّ حياة أخرى في مكان آخر، لكنّني قرّرت أن أبقى وأعمل من داخل سوريا استعدادًا للاستقرار النهائيّ.
– عملتِ لسنوات من المنفى على دعم المبادرات الثقافيّة السّوريّة والمساهمة في إيصال أصوات السّوريّين إلى العالم، فهل ينتقل هذا العمل إلى الداخل السّوريّ؟
* في تلك الفترة التي قضيتُها في المنفى اعتبرتُ أنَّ هذا الاغتراب القسريّ يشكِّل فضاءً يتيح لنا، نحن الذين خرجنا من البلاد، أن نكون جسرًا يصل الداخلَ بالخارج. وكنتُ أرى أنه ينبغي لنا السعي لإطلاق مشروعاتٍ مختلفة لا تقتصر على الكتابة الإبداعيّة أو الروائيّة أو السّرديّة، وإنما تمتدّ لتشمل الحشد الإعلاميّ في سبيل نقل حقيقة ما يجري في سوريا إلى العالم. وقد رغبتُ كثيرًا في تأسيس مبادراتٍ ثقافيّة ومؤسَّساتٍ مرتبطة بالمجتمع المدنيّ، كوسيلةٍ لتفعيل دور السوريّين والسوريّات في مجالات الإبداع والتطوير.
من بين تلك المبادرات، أطلقتُ مشروعًا باسم “النساء الآن من أجل التنمية”، وهي مؤسَّسةٌ كنت قد أسَّستُها قبل أعوام تقريبًا في العام 2012. وصارت هذه المؤسَّسة لاحقًا واحدةً من أكبر الشبكات النسويّة الناشطة في سوريا والعالم العربيّ، إذ انتشرت عبر بلدانٍ عديدة، واستطاعت أن توفّر دعمًا مهمًّاً للنساء على مستوياتٍ مختلفة. عملنا أوّل الأمر على التمكين الاقتصاديّ، ثم اتجهنا إلى الدعم النفسيّ والتعليميّ، وبعد ذلك ركّزنا على التمكين السياسيّ. وقد أسَّسنا شبكات تمكينٍ سياسيّ ومركزًا للأبحاث، كما عملنا على تنفيذ حملات مناصرة ودعم مبادراتٍ عديدة تختصّ بقضايا المرأة. وبهذا تحوّلت “النساء الآن من أجل التنمية” إلى شبكةٍ حيويّةٍ أشبه ببديلٍ للدولة في بعض المناطق، إذ وفّرت أنشطةً متنوّعةً في السياق الاقتصاديّ والنفسيّ، وساعدتنا في إنتاج معرفةٍ نوعيّة بالاستناد إلى أبحاثنا الميدانيّة. ثم جاء الوقت الذي شعرتُ فيه بأنَّه من الأفضل تسليم إدارة هذه المؤسَّسة للفريق النسائيّ بعدما اتَّسعت وازدادت فاعليّتها في الداخل السوريّ.
الآن، أرى بوضوح أنّنا نحتاج أكثر من أيّ وقتٍ مضى إلى أن نعود جميعًا إلى سوريا، ونعمل على تعزيز التنوّع الثقافيّ ودعم المجتمع المدنيّ بكلّ السبل الممكنة. أمّا في ما يتعلّق بكتاباتي، فأنا عادةً أجد صعوبةً في الحديث عن إنتاجي الذاتيّ، لكنّي أحاول تسليط الضوء على الأمور التي استطعت فعلها إلى جانب مشاريعي الكتابيّة، سواءٌ في مجال السرد أو التوثيق أو الرواية أو حتى العمل الإعلاميّ. لقد كنتُ أسعى دائمًا إلى مساندة المواهب والمبادرات الثقافيّة القائمة في الداخل، لأنّني آمنتُ بأهميّة توفير الدعم لمن يبذلون جهدًا ويحتاجون إلى من يؤازرهم في ظلّ ظروفٍ صعبة.
أذكر جيّدًا أنّنا حين كنَّا في الخارج، نحن الكتّاب والمثقّفين، حاولنا أن نكون على تماسٍّ مع قضايا الشعب في الداخل ومعاناته. فقد كان مجرّد بقائهم في الداخل، وسط تلك الظروف القاسية، ضربًا من ضروب المقاومة. وعندما عدتُ إلى سوريا، شعرتُ بحجم الخراب الذي حلَّ بالبلاد، فرأيتُ أنّ عليَّ الاستمرار في عملي ومساعيَّ الكتابيّة والإنسانيّة. ولهذا أقول إنّ نشاطي الأدبيّ والصحافيّ، إضافةً إلى جهودي في الدفاع عن حقوق المرأة والانخراط في الشأن السياسيّ، يشكِّل امتدادًا طبيعيًّا لالتزامي بقضايا مجتمعي.
– لطالما كان صوتكِ الأدبي ناقدًا وجريئًا في تناول المحرمات الاجتماعية والسياسية. كيف ترين دور الأدب اليوم في مواجهة الاستبداد؟ وهل تفكرين بالعودة إلى سوريا في المستقبل؟
* لم يتغيَّر الكثير بين الماضي واللحظة الراهنة. صحيحٌ أنّ الأولويّات تغيَّرت، لكنّني ظللتُ محتفظةً بروح التحدِّي والاهتمام بقضايا المرأة والمجتمع. قبل انطلاقة الثورة، كنتُ أُعبِّر في حياتي الشخصيّة وكتاباتي عن جرأةٍ اجتماعيّةٍ استثنائيّة، كان محورها السّؤال عن كيفيّة جعل المرأة إنسانةً مُفكِّرةً وصاحبة رأيٍ ومعرفة، وقادرةً على أن تكون مستقلّةً ومنتجةً ومؤثِّرةً في مجتمعها، بعيدًا من النظرة التقليديّة. كنتُ أرفض حَصْر الحديث عن حرّية المرأة في الحريّات الجسديّة، وأرى أنّ ثمّة منظومةً فكريّةً وثقافيّةً وفنّيّةً وأدبيّةً يجب أن تكون المرأة طرفًا فاعلًا فيها، يتمتّع فيها الجسد بحقّه من دون أن يُختزل في منظورٍ ضيِّقٍ يحرمه من المساهمة الإبداعيّة.
في المرحلة المقبلة، أرى أنّنا في أمسِّ الحاجة إلى استراتيجيّةٍ مختلفة، لا سيّما أنّ بلدنا يعاني الدمار ويبدأ من نقطةٍ أدنى من الصفر. لا أمتلك بعد خطةً واضحةً للكيفية الّتي سأكتب بها رواياتي المقبلة، لكنّني أعمل فعليًّا على روايةٍ جديدة، فضلًا عن كتابٍ توثيقيٍّ سيرى النور قريبًا ويتناول أحداث غزة، في إطار مشروعٍ توثيقيٍّ أشتغل عليه حاليًّا. تركتُ أموري مفتوحةً بلا قيودٍ رقابيّةٍ داخليّة، فأنا أُتيح لنفسي حريّة التعبير على المستوى الفنّي. أمّا في ما يتعلّق بالتوثيق، ما زال الهمّ السياسيّ والعدالة وإنصاف الضحايا يشغلني، خصوصًا أنّني بدأتُ مشروعًا منذ أعوامٍ حمل اسم “قاطع نيران”، وأواصل فيه الآن لإعداد كتابٍ بعنوان “ذاكرة النقصان”، يُعنى بتجربة غزة ويهدف إلى إعادة بناء العالم المُهدّم بالكلمات. ليست لديّ خطّةٌ محكمة، لكنّني على يقينٍ بأنّني لن أتوقّف عن التعبير عمّا يَعتمل في داخلي. لا أنوي تحديد استراتيجيّةٍ دقيقةٍ لأولويّاتي الروائيّة في هذه اللحظة.
عندما سقط النظام، رتّبتُ بعض شؤوني وعدت إلى سوريا. أدركتُ آنذاك أنّني لست وحدي في هذه الخطوة، فقد رجع كثيرون أيضًا، وقد تطلَّب هذا التحرّك وقتًا ومجهودًا لتنظيم أوضاعنا. والآن أنا في سوريا سعيًا لترتيب عودتي النهائيّة، على أمل ألّا يتحقَّق أيّ سيناريو أسوأ ممّا نعيشه. نحن اليوم في أمسِّ الحاجة إلى أدوارٍ فاعلةٍ على المستوى الثقافيّ والسياسيّ والمجتمعيّ، وأرى أنّ لدينا دورًا محوريًّا في العمل مع المجتمعات المحليّة، لا سّيما أنّني استفدت وتعلَّمتُ الكثير منها خلال تجربتي الطويلة. منذ سنواتٍ وأنا بعيدةٌ نسبيًّا من أجواء النُّخب التقليديّة، مركِّزةً جهودي في العمل مع الناس على أرض الواقع، لأنّني أعدّ أنّ فئات الشعب المحتاجة إلى ذلك العمل هي التي تستحقُّ أن نستمع إليها ونقترب منها لتحقيق التغيير المنشود.
أُراقب عن كثبٍ ما يجري منذ سقوط رأس النظام، وأرى أنّ دمشق أصبحت شاهدًا على عددٍ هائلٍ من الفعاليات الثقافيّة واللقاءات السياسيّة والمبادرات، وهو ما يعكس مدى عطش السوريّين والسوريّات للانخراط في حالةٍ نهضويّةٍ تبني مجتمعًا مدنيًّا قويًّا، وتدفع نحو إنشاء مشروعٍ ثقافيٍّ يستعيد دور الثقافة في التحليل والنقاش. قد تكون هذه فرصةً ذهبيّةً للنخب الثقافيّة للعودة إلى المشهد، وإن بصورةٍ مُغايرةٍ للنمط القديم.
– بعد سقوط النظام، ما هو الدور الذي ترغبين في أدائه على المستوى الثقافيّ؟ وهل لديك مشاريع أدبية مقبلة في هذا السّياق؟
* في الحقيقة، إنّ أكثر ما أعانني على الاستمرار والبقاء على قيد الحياة هو مشاريعي التي أحملها أينما رحلت. لا أظنّ أنّ ثمّة فارقًا بين ما كنتُ أطمح إليه قبل التغيير وما أصبو إليه اليوم، سواءٌ قبل سقوط النظام أم بعده، فما زال لديّ مشروعٌ أتمنّى إنجازه وأنا في سوريا. ولديّ أيضًا طموحٌ في أن نتكاتف ونعيد وصل ما انقطع، ونبني مؤسّسات مجتمعٍ مدنيٍّ ومؤسّساتٍ ثقافيّةٍ تجعل الثقافة بوصلةً للتجديد.
إنّ أحد الأسباب الرئيسة التي جعلتني أتّخذ قرار العودة هو رغبتي في ممارسة الكتابة من الداخل، لأنّ مشروعي يرتكز على الذاكرة وإعادة إعمار العالم المُدمَّر بفعل الحرب عبر الحروف والقصص والتوثيق. لديّ مشروعٌ توثيقيٌّ قيد التنفيذ بالتعاون مع مجموعةٍ من السوريّين، بالإضافة إلى عملٍ روائيٍّ أو روايتَين أطمحُ إلى استكمالهما هنا. لا شكّ في أنّ العودة من المنفى عمليّةٌ تحتاج إلى الوقت والتخطيط، وليست قرارًا يُنفَّذ بين ليلةٍ وضحاها. وأرى كثيرين مثلي يسعون إلى العودة أو عادوا بالفعل، من أجل المساهمة في إعادة بناء الحياة السوريّة على مختلف الصُّعُد.
المدن