«ما بتعرف أنّو هاد أخوه لرفعت؟»: النكتة السياسية السورية عبر نصف قرنٍ من التحولات/ ميّار مهنا

19-02-2025
* * * * *
«وَكَمْ ذَا بِمِصْرَ مِنَ المُضْحِكَاتِ وَلَكِنَّهُ ضَحِكٌ كَالبُكَا»
المتنبي
قصّة سورية شائعة لمن غُيِّبوا بين أفواجٍ من المعتقلين، قصّة من جَنت عليه نكتة رواها في مجلس، نكتة من جملةِ نكاتٍ مكررة شاعت في حقبة حافظ الأسد، وضاع مصدرها حتى بات مِن رُواتها مَن ينسبها لنفسه، من أشهرها: «أوقف شرطي مرور سيارة يقودها حافظ الأسد، وطلب رخصة القيادة، فأخبره السائق أنه حافظ الأسد، وأثنى على التزامه بعمله، لكن الشرطي – غير مصدّق – أبى أن يدعه يمضي، فاشتعل شجار بين الاثنين. لاحظ رئيس الدورية الأمر وهبّ راكضاً باتجاههما، أفسح المجال أمام الرئيس وقال للشرطي «يا حمار ما بتعرف أنو هاد أخوه لرفعت الأسد»، وكذلك حزّورة: «بتعرفوا ليش الرئيس رافع إيده؟ (في إشارةٍ إلى تمثال شهير لحافظ الأسد في السويداء يُحاكي صورته الشهيرة وهو يرفع يده تحية للشعب)، عم يوصّي على خمسة شاورما من عند أبو سليم».
راجت نكاتٌ من هذا النوع في الثمانينيات، في ظرف سياسي على صفيحٍ ساخن، سيّما أن هذه الفترة شهدت أحداث مجزرة حماة، وصعود نجم الشقيق الأصغر رفعت الأسد، وكذا محاولة الانقلاب التي قادها الأخير ضد شقيقه حافظ، وإرسال كتائب سرايا الدفاع إلى شوارع دمشق، ورد حافظ بعد صراعٍ دام ما يقرب العامين باعتقال مساعد رفعت سليم بركات، وإقصاء رفعت عن سرايا الدفاع، وتحويلها إلى الفرقة الرابعة، بحسب الكاتب والصحفي البريطاني باتريك سيل في كتابه الأسد.. الصراع على الشرق الأوسط: «ترك حافظ الحبل لرفعت بما يكفي لشنق نفسه».
يحتلُّ هذا العقد دائماً مكانة الصدارة لدى استذكار النكتة السياسية السورية، رغم أنها لم تقتصر عليه بالطبع، كانت امتداداً لشكلٍ من السخرية وُجِد قبله وأسست لشكل آخر تطور بعده، لكنّ الأحداث السياسية التي سادها القمع واشتداد قبضة الديكتاتورية التي أسفرت عن ازدياد الاعتقالات التعسفية وانتهاكات لا حصر لها، والظرف الاجتماعي المحتقن، جعل منها بيئة خصبةٍ لشكلٍ خاص من السخرية التي تتناسب عكساً مع حالة الاستقرار السياسي، ولا تشبه نظيرتها، السخرية التي تُبتكر في بيئة ديمقراطية، وفي حال رخاء ووفرة. مع الديكتاتوريات الشرسة والقبضة الأمنية، تنبثق النكتة من لا معقولية المشهد، والمفارقة الحادّة التي تتولد من سريالية الواقع، وقسوته التي تجعل من النكتة سبيلاً للمقاومة، والانعتاق.
إحدى أبرز التوليفات في النكتة السياسية هي أن حاكيها بل وحتى الضاحك عليها، يرزخ تحت تهديدٍ أمني، فهي لاذعة وتنتقد، أشد النقد، المعطيات السياسية التي يفرزها الوضع الراهن، وفي تلك المرحلة من تاريخ سوريا نالت النكتة من رأس هرم السلطة وما يأتي خلفه من كبار السياسيين حينها، وعلى رأسهم رئيس الوزراء عبد الرؤوف الكسم ونائب الرئيس عبد الحليم خدَّام، ووزير الدفاع مصطفى طلاس.
لاقت النكتة في حقبة الأسد الأب سبيلها للانتشار، ربما بشكلٍ يفوق ما حدث في زمن الابن، الذي راجت فيه نكات تتعلق بالتعديل الدستوري الشهير الذي سمح له بتولي مقاليد الحكم، ومن ثم علاقاته الأسرية، ومروراً بطريقة نطقه لبعض الأحرف.
مع سقوط النظام، وإفساح المجال أكثر بعد لسير الأهوالِ القمعية والمجازر، نشطت مرة أخرى نكاتٌ منسوخة عن تلك الثمانينية، مُستبدِلة اسم الأسد الأب بالأسد الابن.
في فترة حكم حافظ الأسد سعت النكتة السياسية للإضاءة على هزالة الديكتاتورية، محاولة قدر الإمكان أن تسخر من استبدادها، اتخذ استبداد بشار بعد الثورة شكلاً تفوق في البطش والوحشية على حقبة أبيه، لكنّه كان أيضاً أكثر كاريكاتورية، وتحوّل بشار بشخصه وسياساته خلال عقدين من حُكمه إلى مادة خصبة للتندّر والسخرية. كانّ الواقع ينتج مفارقاتٍ تراجيدية، تنطوي على جوانب كوميدية أحياناً، وتبدو في معظم الأحيان مأساةً صرفة يصعب إعادة صياغتها بمادة للضحك، يرى هنري بريكسون في كتابه الضحك أنَّ النكتة هي «محاولة قهر القهر وهتاف الصامتين ونزهة في المكبوت والمسكوت عنه». ما أن سقط النظام حتى تفجّرت الكوميديا والتراجيديا على حدّ سواء، فالواقع القاهر يفوق في عبثيّته أي نكتة، أو بالأحرى، الواقع بشكله الخام هو في حدّ ذاته نكتة طويلة لا مثيل لها، فسقوط الأبدية ومفردات القداسة التي أحاطت بحكم الأسد هي في حدّ ذاتها مثار تندر وضحك.
مع اندلاع ثورة 2011، أصبحت النكات تنتشر على السوشل ميديا على شكل «ميمز» (Memes)، ما أفرغ النكتة من طابعها القصصي السردي، وجردها من حبكتها، لكنه عجّل في انتشارها ووصولها إلى شريحة كبيرة من السوريين، ولعلَّ السخرية التي قدمتها صفحة لافتات كفرنبل المحررة هي خير مثال على السخرية المشتبكة بالواقع السياسي، حتى أنها باتت جزءاً من المشهد السياسي في الشمال عن سيطرة النظام.
في السنتين الأخيرتين اللتين سبقتا سقوط النظام، سادت حالة من اليأس والتأقلم أدت بدورها إلى ركود في النكات، ثبّت الابن الفارّ قدميه في البلاد وراح يعيث في الأرض فساداً، وينتهج سلوكاً دولياً خالٍ من أي مسؤولية، تبلور شكل البلاد كغابةٍ تحكمها علاقات سلطوية، تتعمد الإفقار والتجويع والترهيب، والغياب شبه التام للقانون.
في الانتخابات الأخيرة التي فاز فيها الأسد بنسبة 95.1 بالمئة، خرج الأسد بشعار «الأمل بالعمل»، حينها كان معظم الشباب السوري ينشد فرصة عمل أو عملين إضافيين لدفع أجار غرفة فقيرة، أو إعالة أسرة تحت خط الفقر بدرجات، لم يكن هناك أملاً على الإطلاق أما العمل فصار سبيلاً لاستغلال الفقراء. هذا الظرف المأساوي كان ليسمح بظهور نكات جديدة، إلا أن معظمها كانت تنصبّ على خفايا القصر الرئاسي وغراميات الأسد وعلاقاته السرية، وكذا ضحكة بشار البلهاء ومحاولاته المملة الخرقاء في تفسير الإرهاب أو الإمبريالية والنيوليبرالية.
لدى ميلان كونديرا رواية بعنوان المزحة تتبع مسار حياة بطلها لودفيك الذي قلبت دعابة حياته رأساً على عقب، وأودت به إلى معسكر إصلاحي، بعد أن طُرِد من الجامعة. يستعرض كونديرا في المزحة هشاشة الأنظمة الديكتاتورية وحالة العبث التي يعيشها الفرد المقموع تحت وطأة الديكتاتورية، التي تجعل من العالم عالماً ملتبساً أخلاقياً وقيمياً. كونديرا نفسه، في سياقٍ آخر، يعبّر عن دافع الفرد نحو السخرية بوصفها «يقينٌ بأنه لا يقين»، وبالطبع حالة اللاوثوقية هذه تعبر عن علاقة الفرد بالنظام، وعن المفارقات التي تكمن في جوهر النظام بعينه، وهكذا تولد السخرية من المفارقات، أو بالأحرى هي «فنّ المفارقات» حسب جيل ديلوز.
أُشيعَ أن البلدان العربية التي حكمتها الأنظمة الشمولية امتلكت أجهزة أمنية تعمل على مراقبة وجمع النكات، واستثمار بعضها لتغدو وسيلة للتنفيس السياسي، حالها حال مسلسل مرايا ومسرح دريد لحام. في العراق وتحديداً في السبعينيات، مُنعت النكتة التي تنتقد السلطة بأي شكل من الأشكال أشد المنع. من القصص الشائعة في هذا الصدد إعدام صدام حسين للطبيب إسماعيل التتار بسبب نكتةٍ رواها في منزله المزروع بأجهزة التنصت، أما جمال عبد الناصر فقد اتهم إسرائيل بالترويج للنكتة السياسية.
النكتة، هذه «الثورة الصغيرة ضد النظام» على حد تعبير جورج أورويل، تحمل في جوهرها مقاومةً للفكر الجاهز والبديهيات، وتكشف عن ما هو كامن وخفيّ، وبالتالي تشتبك النكتة السياسية مع السلطة، وتفضح ممارساتها، وتَستمدُّ من أكثر الممارسات السلطوية خطورةً مفردات سخريتها، وكلما انخفض رضا الشعب زادت النكتة من شراستها. ولعل النكتة بشكلها العام تتعلق بشكل أو بآخر بعوامل السياسة والمجتمع، فيحكي برهان غليون أنَّ الحماصنة على سبيل المثال روجوا لأنفسهم بين السوريين من خلال النكات، وربما جاءت النكات الحمصية لتقلل من هامشية المدينة، وكذلك يعتبر الباحث جورج كدر النكتة الحمصية «وسيلة مأمونة لنقد الواقع السياسي والاقتصادي والاجتماعي»، مؤكداً في كتابه النكتة الحمصية أنها دخلت في كثير من الأحيان إلى المحظورات، وهكذا يرتدي النقد لبوس النكتة ليلقى لنفسه قبولاً جماهيرياً واسعاً وليضمن التداول.
في بعض الأحيان، بيّنت النكتة السياسية في سوريا اتصال التاريخ بالراهن، وجعلت من ديكتاتورية الأسدين الأب والابن مادة كاريكاتورية، فمن بين النكات التي تناولت توريث حافظ الأسد البلاد لابنه، تداول الناس نكتة تقول: كان إبليس يوسوس لحافظ الأسد كي يزيد من وطأته على الشعب، ويغالي في قمعه وقهره وإذلاله، فاقترح عليه: ارفع الأسعار، ليرد حافظ: فعلت، يقترح إبليس: كثف اعتقالاتك، يقول حافظ فعلت، حتى ييأس إبليس أخيراً، فكل اقتراحاته نُفّذت مسبقاً… وأخيراً يهمس حافظ لإبليس: ما رأيك في أن أورث بشار الحكم؟… فقال إبليس: هيك كتير شو ما بتخاف الله!
وهذه النادرة الأخيرة تمتاز بخصوصيتها السوريّة، فهي وليدة واقع سياسي على جانب من الخصوصية، فيما اقتبست نكات أخرى كانت تحكى عن جمال عبد الناصر والهواري بومدين، وأُعيدت تبيئتُها لتناسب الطغاة الجدد، صدام حسين وحافظ الأسد، وبدت مناسبة لهم، إذ تتشابه ملامح الديكتاتوريات وبؤسها.
أُنتِجَ هذا المقال في إطار زمالة بداية المسار للصحفيات السوريات.
موقع الجمهورية