سوريا حرة إلى الأبد: مقالات وتحليلات 22 شباط 2025

حرية إلى الأبد: كل المقالات والتحليلات والحوارات التي تناولت انتصار الثورة السورية اعتبارا من 08 كانون الأول 2024، ملاحقة يومية دون توقف تجدها في الرابط التالي:
سقوط بشار الأسد، الرئيس الفار والمخلوع
———————————-
طيّع الدمع يوسف عبدلكي/ معن البياري
22 فبراير 2025
مجازاً، محبوبة أبي فراس الحمداني رأتْه، في أسرِه عند الروم، قويّ الصبر في محبسِه، قادراً على تحمّل البُعد عنها، وكأنّ العشقَ لا سلطانَ لهُ عَليه، فلا يبكي، ويعصى الدمعُ فيه. …ليس مجازاً، نراه طيّعاً، دمعَ التشكيلي السوري، يوسف عبدلكي (75 عاماً). نراه على شاشة تلفزيون العربي، في مقابلةٍ مع الرسام الحالم، بحسب صفته المستحقّة في عنوان “الوثائقي”، وقد حاورَه أنس أزرق في مرسمه في حارة الورد في ساروجة في دمشق. عصاهُ الدمع، لمّا تحدّث الرسام العنيد، بحسب صفة أخرى مستحقّة له (مستعارة هاتفيّاً من أنس)، عن سنتي اعتقاله إبّان زمن حافظ الأسد، في 1978، وعن 40 يوماً في معتقلٍ لنجل الأخير في 2013، ولا لمّا “فاضَل” (!) بين الاعتقاليْن، ورأى أن الثاني، على قصره، في زمن الأسد الابن كان أكثر تعاسةً وعُسفاً من ذاك الأطول. أمّا لمّا جاء على عذاب أمّهات المعتقلين وضحايا القتل السوريين، ممّن تظاهروا وهتفوا بمفردةٍ من أربعة أحرف (حرّية)، صار الدمع طيّعاً، فرأينا رسّام “أيلول الأسود” (لوحة له سرقها جيش الاحتلال الإسرائيلي في اجتياح بيروت 1982) تدمعُ عيناه، وهنيهاتٍ لا يقْوى على الاسترسال في الكلام، فأسىً مالحٌ نفَذَ إلى حواشيه ووجدانه لمّا جاءت إلى خواطره عذاباتُ الأمّهات السوريات، وهنّ يكابدن غياب أبنائهن في سجون الأسديْن. وقد قال شيخُ التشكيليين السوريين لصديقنا أنس (ولنا طبعاً نحن النظّارة) إنه، طوال مسيرته الإبداعية (منذ أزيد من 50 عاماً)، رسم عن آلام هؤلاء الأمّهات أكثر مما رسَم عن أبنائهن المعتقلين والشهداءِ الضحايا. وهذا هو يُخبرنا أنه يعكف على “استكمال” لوحةٍ لأمّهاتٍ على أبواب معتقلٍ سوريٍّ ينفتح بعد سقوط نظام الأسد. وعندما نرى رقم هاتفه، كتَبه على باب المرسم، فذلك ليُهاتفَه صديقُه ورفيقُه المغيّب، المناضل عبد العزيز الخيّر، إذا لم يجدْه عندما يأتي، إذا جرى إنقاذُه من أيٍّ من سجون الأسد بعد السقوط العظيم. … لم يأتِ صاحبُه بعد، ولكنّ الفنان، بوداعتِه العالية، ما زال ينتظره.
تحدّث يوسف عبدلكي عن الفظاعة في القسوة التي مورست على معتقلين في السجن الذي أودع فيه، في طرطوس قبل 11 عاماً، بتجريحٍ في جلودهم التي تزْرقُّ من شدّة الإيذاء. تحدّث عن غيرِه، في المقابلة التلفزيونية معه، ولولا محاوِره، لاسترسلَ في هذا، ولما أمكن أن نعرف من سيرته عن عودته في 2005 من باريس التي أقام فيها 25 عاماً إلى دمشق، وعدّها أكبر غنيمةٍ حصَل عليها في حياته. وكنتُ قرأتُ أنه لم يعمل، في سنوات مُقامه هناك، من أجل الحصول على الجنسية الفرنسية، فـ”المكان قاعة انتظار”، على ما كان يرى في مُغتربه ذاك. وقرأتُ أنه لمّا عاد، كان جمعٌ من المثقفين والفنانين في استقباله في المطار. يُسأل عمّا جعله يترك عاصمة الأنوار ويُؤثِرُ الإقامة في حي شعبي دمشقي عتيق، فيتداعى في كلامه شغفٌ غزيرٌ بدمشق (وهو قامشلي المولد والصبا الأول)، وعن ذاكرته فيها، وتَوْقه المقيم في حواشيه أن تظلّ حرّة. ولئن انحاز إلى الثورة منذ يومها الأول، إلا أنه كان قد انتقد ذهابَها إلى العسكرة (وهذا موضوع عويص)، وكان مع سلميّتها ومدنيّتها. ولكن ما صار صار، ومع انعتاق سورية وتحرّرها من آل الأسد الذين اختطفوها 54 عاماً، ومع أن من الطبيعيّ ألّا ينعقد أيّ تكريم له في بلده في ذلك الليل الطويل، أظنّه من شديد الوجوب أن يُسارَع إلى احتفالٍ كبير به، وهو الذي بقيت الحرّية ثيمةً كبرى في عديدٍ من أعماله ومنحوتاته ولوحاته وغرافيكاته، وقد اشتُهر بالرسم بالفحم، باشتباك الأبيض والأسود، فلا يعدّ نفسَه ملوِّناً وإنما رسّاماً، وإنْ جاء في المقابلة على أعمالٍ له سابقة بالألوان.
سأل أنس ضيفه المضيء، الذي وصفتُه في مقالة سابقة “متراساً باقياً في التشكيل العربي”، إن كان قد رسم لغزّة، وهو الذي أبدع في الموضوعة الفلسطينية لوحاتٍ ورسوماً كثيرة (إحداها عن تلّ الزعتر)، فأجاب إنه فعل هذا، وإنّ عملاً له عُرض في قطر. وهنا أَفتحُ قوْساً، إنّها لوحةٌ بالفحم رأيناها في معرض عربي مشترك، أخذَ عنوان “السماء فوق غزّة متخيّلة” وأخذتْ اسم “يوميّات غزّة”، وفيها جسدٌ مسجّى هناك يُرمى بقصفٍ من سماءٍ سوداء. … وثمّة لوحةٌ لن تغيب عنّا، نحن مَن شاهدنا “وثائقي” تلفزيون العربي، دمعَ يوسف عبدلكي طيّعاً، لا أحزنه الله ولا أصابه بأي كرْب.
العربي الجديد
————————–
“قسد” والاندماج في الجيش السوري.. عقدة التفاصيل الأخيرة/ ربى خدام الجامع
2025.02.22
، وفي مقالة كتبها الصحفي الأميركي تشارلز ليستر، وهو عضو رفيع ومدير للبرامج المعنية بسوريا ومكافحة الإرهاب والتطرف لدى معهد الشرق الأوسط، ترجمها لكم موقع تلفزيون سوريا، جاء ما يلي:
في رحلة قمت بها منذ فترة قريبة إلى سوريا، كان هنالك شيء واضح وضوح الشمس، وهو أن السوريين جميعهم مسرورين بتحررهم من القبضة الحديدية التي فرضها عليهم نظام بشار الأسد، ولقد تحولت حالة البهجة العارمة تلك في الوقت الراهن إلى شيء ملهم، وإلى منبع دائم للأمل وللوحدة الوطنية اللذين تبخرا طوال ثلاثة عشر عاماً من الحرب الآثمة.
بيد أن الانتقال السياسي في سوريا يقوم على أسس هشة، وتديره من على قمة الهرم هيئة تحرير الشام، وهي جماعة كانت جهادية في السابق، وما تزال متسلمة لزمام الأمور بعد شهرين واعدين قضتهما في السلطة التي تقوم على دولة محطمة، واقتصاد مدمر، وتحديات أمنية صعبة.
وفي ظل هذه الفرصة السانحة لإعادة رسم قلب الشرق الأوسط، تهافتت الدول الإقليمية، وعلى رأسها السعودية وقطر وتركيا، على العاصمة دمشق، وطرحت عشرات المشاريع الإغاثية والاستثمارية والتجارية وسواها. لكن العقوبات الأميركية والأوروبية التي فرضت بالأصل على نظام الأسد البائد ما تزال في مفروضة، وطالما بقيت كذلك، فإن فرصة الاقتصاد السوري في التعافي ستبقى ضئيلة.
“قسد” المعضلة المعقدة
وفي ظل هذه الدينامية الهشة الاستثنائية تبرز معضلة كبرى يتجاهل الكل الخوض فيها، ألا وهي قضية قوات سوريا الديمقراطية، حيث وبوصفها شريكاً قديماً للولايات المتحدة في حملتها ضد تنظيم الدولة، أثبتت قسد على الدوام ولاءها ومقدراتها، إذ يعود الفضل للجهود الجبارة التي قدمتها قسد على الأرض في دحر تنظيم الدولة وإخراجه من الأراضي التي احتلها في عام 2019، وخلال السنوات التي تلت ذلك، بقيت قسد تركز وبشكل كبير على احتواء فلول تنظيم الدولة وإذلالهم إلى جانب حراستها وتأمينها للآلاف من مقاتلي تلك الجماعة ومن يرتبط بهم من النساء والأطفال، وذلك داخل السجون والمخيمات التي أقيمت في شمال شرقي سوريا.
وعلى الرغم من أهمية “قسد” الواضحة بالنسبة للولايات المتحدة وللحلفاء ضمن التحالف الدولي، خلصت إلى نتيجة جلية بعد أن أمضيت أكثر من أسبوع وأنا ألتقي بسوريين من مختلف أصقاع هذا البلد، وهي أن قسد في سوريا اليوم بعد الأسد أضحت مشكلة بحاجة إلى من “يتخلص منها”.
إذ أجمع كل الرجال والنساء من مختلف المجموعات العرقية والدينية في سوريا ومن مختلف المحافظات السورية على ضرورة توحيد سوريا، ولهذا لابد بنظرهم اليوم من حل “الإدارة الذاتية” التابعة لقسد وذراعها العسكري في شمال شرقي سوريا ثم دمجها تحت قيادة الدولة السورية، كما يجب أن تخضع موارد الطاقة والزراعة الهائلة الواقعة تحت حكمها لسيطرة دمشق. وإلى أن تتخذ تلك الإجراءات، ستبقى النظرة لقسد في الداخل السوري على أنها جهة “محتلة” و”تهديد”، وذلك لأن حس العداء الجمعي تجاه شركاء قسد التابعين لواشنطن لا يمكن لأحد أن ينكره.
منذ كانون الأول لعام 2024، دخلت قسد في مفاوضات مع الحكومة المؤقتة بدمشق حول احتمال عقد اتفاق يقضي بخضوعها لسلطة سوريا الموحدة، ولكن لم تقم أي محادثات شخصية على مستوى رفيع منذ مقتل أكثر من عشرين شخصاً في مدينة منبج الواقعة بالشمال السوري في تفجير بسيارة مفخخة نسب إلى “قسد”، ومع ذلك بقي جميع من قابلتهم من السوريين يفضلون توقيع ذلك الاتفاق، في حين لم يعبر أحدهم عن تفضيله لأي خيار عسكري، على الرغم من أن كثيرين توقعوا بأن تصل الأمور إلى درب مسدود يضحي معه هذا الحل ضرورة.
على الرغم من أني لم أر أياً من الضباط العسكريين الأميركيين خلال رحلتي، سمعت بأنهم شاركوا بصورة فعلية في تسهيل قيام تلك المحادثات، وحضروا اجتماعات رفيعة المستوى في قاعدة الضمير الجوية التي لا تبعد كثيراً عن دمشق، كما أن القيادة الوسطى الأميركية أعطت الضوء الأخضر لقرار الجيش السوري الحر، الذي يعتبر القوة الأصغر الشريكة للولايات المتحدة في قاعدة التنف الواقعة على الحدود الأردنية، وذلك فيما يتصل بحل قوات ذلك الجيش بحيث تخضع لسيطرة الحكومة المؤقتة في سوريا.
وقد التقى جنرال أميركي رفيع المستوى برئيس سوريا المؤقت أحمد الشرع، وجلس معه على انفراد وأثنى على حملته العسكرية التي وصفها بـ”اللافتة” والتي جرى من خلالها عزل الأسد من منصبه، ثم قلده وساماً حسبما ذكر لي أحد السوريين الذين كانوا في القاعة لحظة تسلم الشرع لذلك الوسام.
نقاط التلاقي بين “قسد” ودمشق
إن الصفقة المطروحة على الطاولة اليوم بشأن قسد ليست سيئة، إذ في تغير شاسع عن حقبة الأسد، تعهدت الحكومة المؤقتة في دمشق بمنح كرد سوريا حقوقاً مساوية لجميع السوريين، وأعلنت عن تخطيطها للاعتراف باللغة الكردية كلغة ثانية في سوريا، كما ستحصل شخصيات من قسد ومن الإدارة الذاتية على مقاعد وعضويات في كل المجالس والهيئات الانتقالية في سوريا، وعلى رأسها البرلمان المؤقت واللجنة الدستورية. أما عائدات النفط والغاز السوريين، وكذلك القطاعات الزراعية فسيجري الاستثمار بالتساوي في شمال شرقي سوريا.
نقاط الخلاف بين قسد ودمشق
بعد مرور أسابيع على المحادثات، قبلت قسد بمعظم ما ورد في الاتفاق من حيث المبدأ، وذلك كما ورد في الاجتماع الذي عقد في السابع عشر من شباط بين قسد وجناحها السياسي وأذرع الحكم فيها. ولكن في الوقت الذي قبلت “قسد” بالسر وطوال أسابيع بأن تحل قواتها يوماً ما لتندمج ضمن القوات المسلحة في سوريا الجديدة، بقيت العقبة الكبرى في تلك المحادثات حول الطريقة التي سيتم بها كل ذلك. إذ في الوقت الذي انحازت “قسد” لجميع الفصائل المسلحة الأخرى الموجودة في سوريا وقبلت كغيرها فكرة حل قواتها في نهاية المطاف، أخذ زعيم “قسد” مظلوم عبدي، يطالب بأن يظل عساكر قسد ضمن تكتل متمايز داخل القوات المسلحة في سوريا الجديدة، وذلك حتى يبقى هؤلاء متمركزين في مواقعهم الحالية فحسب والواقعة في شمال شرقي سوريا.
وهذا غير مقبول بالنسبة لدمشق، وذلك لأن جميع الفصائل المسلحة الأخرى الموجودة في سوريا بدأت عملية حل نفسها، وتفرق مقاتلوها وقادتها بين مناطق أخرى في البلد، بعيداً عن مدنهم وقراهم الأصلية، إذ إن ذلك يعتبر خطوة إلزامية بنظر الحكومة المؤقتة والهدف منها الابتعاد عن حالة ظهور إمارات يحكمها أمراء حرب إلى جانب غرس الحس بخدمة الوطن بدلاً من الولاء للجغرافيا أو للطائفة أو للفصيل، ويعد ذلك خطاً أحمر لا مجال لتغييره على الإطلاق، ولكن من دون تحقيق أي تقدم بخصوص هذا الأمر، ستبقى مسألة التوقيع على تلك الاتفاقية بعيدة كل البعد عن التحقق.
مخاطر أخرى
تحتاج السياسة الأميركية المعنية بسوريا إلى تبني التغير الشاسع الذي شهدته سوريا منذ شهر كانون الأول عام 2024، إذ قبل ذلك التاريخ، أسس مجتمع الاستخبارات لحالة تبادل معلومات مثمرة مع الحكومة الانتقالية، وهذه الحالة تتمحور بشكل رئيس حول الهدف المشترك المتمثل بمحاربة تنظيم الدولة، وهكذا جرى إحباط ثماني مخططات لعمليات أزمع تنظيم الدولة على تنفيذها في سوريا جراء هذه الخطة الجديدة في تبادل المعلومات الاستخبارية بحسب ما أخبروني.
من الواضح أن الجيش الأميركي يبحث عن مفاتيح لحل هذه المشكلة المعقدة، ويعد التغير في موقفه الساعي لتشجيع “قسد” على التوصل إلى اتفاق مع دمشق خطوة إيجابية، لكن الوقت يمر، وكلما مر وقت أطول، من الممكن للرغبة بإبرام اتفاق مع “قسد” أن تنحسر، فعلى الحدود الشمالية السورية، توجد تركيا التي تتربص لسحق قسد في حال انهيار المحادثات تماماً معها، وفي حال ظهور ظرف كهذا، فلن يعترض سبيل تركيا من أجل تحقيق ذلك أي عائق، كما سمعت من مصادر في سوريا بأن العشائر العربية مستعدة للتعاون مع تركيا على تحقيق ذلك.
ما يزال لدى واشنطن مصالح مهمة في محاربة تنظيم الدولة الذي عاد للظهور في سوريا في عام 2024 لأول مرة منذ عقد كامل، ولدى الحكومة المؤقتة الجديدة سجل واعد في محاربة تنظيم الدولة، كما أنها تعتزم مواصلة ذلك، لكنها لا تمتلك الإمكانيات الاستراتيجية اللازمة للتعامل مع حركة متمردة موزعة على مناطق شاسعة في البادية السورية، ولهذا يبنغي على الولايات المتحدة أن تبذل قصارى جهدها للتوصل إلى تسوية عادلة تخلق حالة من الاستقرار بين “قسد” ودمشق، لأن هذا من شأنه تحقيق المنفعة لسوريا كما سيعود بالخير على قدرة الولايات المتحدة في تأمين مصالحها الأمنية القومية ضمن هذه المنطقة الهشة المحفوفة بالخطر من كل اتجاه.
تلفزيون سوريا
——————-
الهُويَّة السورية/ بشير البكر
22 فبراير 2025
تدور مناوشات في وسائل التواصل الاجتماعي بين فئات من السوريين عن هُويَّة الدولة السورية، تتم بصوت خافت، ولم تتبلور لتأخذ صيغة النقاش العام والمفتوح، لكن الزخم الذي تجري به، والحدّة في الخطاب الذي يُعبِّر عنها، ينبئان بأنه لن يطول الوقت حتى يتحوّل ذلك حواراً أهلياً، من بين موضوعات صياغة المرحلة الجديدة، المرتقب أن تتأسّس فيها الدولة السورية، للمرّة الأولى، على أسس دستورية راسخة، منذ تأسيس الكيان السوري قبل أكثر من قرن. والملاحظ أن ما يصدر من آراء لا يُفصح عن تصوّرات واضحة، بقدر ما يعكس وجود أزمة مواطنة لدى بعض السوريين في علاقتهم بالدولة السابقة، التي قامت على مفاهيم قومية، حسب منطلقات حزب البعث، الذي اعتمد عروبة شعاراتية.
أبرز النقاط التي تلقى تعارضاً في وجهات النظر هي الخاصّة بإطلاق صفة “العربية” على “الجمهورية”. ثمّة من يطالب بمحوها من اسم الدولة الجديدة لتصبح “الجمهورية السورية”. ولا يخفى على أحد أن هذه الدعوة تتوخّى تحقيق ثلاثة أهداف. الأول إسقاط الصبغة القومية عن سورية، بحيث لا تعود عربيةً. والثاني تحقيق المساواة بين العرب والمكوّنات الأخرى، من خلال إلغاء استثناء تمييز العرب في التسمية. والهدف الثالث، الاستجابة لما ينادي به بعض الأكراد حصرياً، إذ لم يسبق أن طالب به أحد من المكوّنات الأخرى. وبالتالي، يتوجّب ترجمة ذلك اعترافاً بالأكراد قومية سورية، على قدم المساواة مع العرب، في الحقوق السياسية والثقافية.
مساواة الأكراد بالعرب بالحقوق، وإلغاء التمييز، وتصحيح الأخطاء التي ارتكبتها سلطات الدولة السابقة أمر مشروع، وغير قابل للنقاش، ومن الضروري أن يتم ذلك على أسّس دستورية، وليس على سبيل التسوية السياسية الوقتية، التي تنطلق ممّا يمليه الأمر الواقع، أو من ضمن صفقة لإنهاء الأزمة الناجمة عن رفض قوات سوريا الديمقراطية (قسد) الانضمام إلى التحوّل السوري إلا بشروط تعتمد على المحاصصة، التي يتم استنساخها من الحالة العراقية. وهنا لا يصحّ قياس إقليم كردستان العراق على الجزيرة السورية، التي تسيطر عليها “قسد”، وتتشكّل من ثلاث محافظات، الرقّة ودير الزور والحسكة، وذلك بالنظر إلى التركيبة السكّانية لهذه المنطقة.
تكشف المناوشات عن ربط تعسّفي بين عدّة قضايا. بدايةً، بين العرب وحزب البعث، يصل عند بعضهم إلى أن اجتثاث البعث يجب أن يترجم اجتثاثاً للعروبة. صحيحٌ أن فكر “البعث” وتطبيقاته في أرض الوقع ابتذلا العروبة، وأساءا لها ثقافةً وحضارةً، واستخدماها في قهر الآخرين من غير العرب، لكن الربط من بعضهم تعسّفي، وسطحي، وغير منصف. والقضية الثانية هي الربط بين الدولة ونظام الحكم، وهناك من يسعى إلى صياغة دستور الدولة من منظور تثبيت المكاسب التي يسعى إلى تحقيقها في السلطة، عن طريق الضغط على إدارة المرحلة الانتقالية، التي لا تمتلك من الناحية الدستورية صلاحية ذلك، لأن الأمر من اختصاص برلمان يُنتخَب بعد إجراء إحصاء سكّاني، وليس على أساس تثبيت الأمر الواقع في الدستور.
المرحلة السورية الراهنة تأسيسية للدولة، وهي على درجة من الأهمية، يجب أن تبعدها عن حسابات فئوية، ولا يمكن لها أن تنجح إن لم تعتمد الحوار، من أجل الوصول إلى توافقات تحت سقف المواطنة الواحدة، يتنازل فيها الجميع عن شروطهم التعجيزية. ويشكّل ذلك فرصةً للسوريين، لن تتكرّر لبناء دولة تحترم التنوّع، وتحافظ على خصوصية مكوّناتها، وتلبّي طلباتهم وطموحاتهم، ذات هوية واحدة هي الهُويَّة السورية، فالدول المعاصرة تقوم على المواطنة بوصفها تمثّل الوضعيةَ القانونيةَ للفرد في الدولة، والمساواة في المكانة، والحقوق المدنية والسياسية والاجتماعية.
العربي الجديد
———————-
عن الحوار الوطني.. ضجيج عال لحوار بلا ملامح/ بسام يوسف
2025.02.22
أيها السوري:
يفضّل ألا تنتقد، وألا تعطي رأياً يتعارض مع السلطة المحبوبة، فـ “النصر” ما يزال طازجاً، وأغاني النصر ما تزال تسمع في كل مكان، وإن فعلت فمن المرجح أن تتهم بواحدة من التهم الجاهزة التي تتحدد تفاصيها أولا بالسؤال السوري الشهير (من وين الأخ؟) باختصار: عندما يصبح النقد أو الاختلاف موضع اتهام يصبح الحوار بلا معنى.
في غياب القدرة على تفهّم الاختلاف واعتباره ضرورة، وفي الحذر من ممارسة النقد المسؤول والصريح خوفا من اتهام الآخرين، تظهر المشكلة الأكبر، التي تواجه السوريين منذ زمن طويل، وتظهر اليوم واضحة، وهي انعدام قدرتهم على الحوار. فالسوريون لا يتحاورون، هم باختصار يتحاربون، لكن بلا أسلحة وعنف ودم، يتحاربون بعصبياتهم، وبلغة الاتهام، وبالتشكيك، وتسخيف أي رأي مخالف، لا ينتهي الأمر بقبول أو عدم قبول الرأي المخالف، بل يتعداه إلى اعتباره خطراً، وربما يذهب الكثيرون إلى اعتبار الرأي المختلف بمثابة تهديد وجودي وبالتالي فإن الصراع معه هو صراع لا ينتهي إلا بنهايته.
قد يبدو ما سبق تشاؤماً مبالغاً فيه، ومصادرة متعسّفة للمستقبل، وتجعل من قضية الحوار التي تشغل السوريين الآن مجرد محاولات شكلية لا طائل منها، ورغم أنها – أي المحاولات – ما تزال بالفعل حتى اللحظة شكلية، مهما حاولنا تزيين كلماتنا بالمشاعر والأمل، الأمر الذي يضطرك إلى قول ما ترى أنه واجب القول، حتى لو وقعتَ في تهمة “معاداة الثورة” أو “فلول النظام” الجاهزة.
بوضوح شديد لا جدوى من هذا الحوار إذا ما استمر العمل عليه بهذه الطريقة.
لماذا تنتقد الآلية التي يتم العمل بها من أجل حوار وطني حقيقي؟، لأنه ببساطة شديدة لا يمكن قيام حوار بخطة مرتجلة، أو بطريقة تجريبية، فالحوار أي حوار يتطلب أساساً ركائز يغدو دونها معلقاً في الهواء، وبلا أي معنى أو هدف.
يفترض أي حوار بداهة وجود مختلفين، فالحوار لا يكون إلا بين مختلفين بالرأي، وغاية الحوار قد لا تكون إنهاء هذا الاختلاف بنفي رأي وتكريس الرأي الآخر، بل تكون في الأغلب توافقاً بين الرأيين، أو استنباط مقاربات جديدة للحلول ولتعايش الرأيين.
أيضاً يفترض أي حوار بداهة تحديد محاور الحوار، ومواضيعه، فلا حوار بلا بنود محددة.
أيضاً يفترض أي حوار تحديد غايته، فلا حوار بلا هدف أو غاية، والهدف قد يتباين بين مرحلة وأخرى، وبين موضوع وآخر، فالحوار من أجل العدالة الانتقالية مثلاً، يختلف عن الحوار في شكل الدولة القادمة، إذ يرتكز الأول على الحوادث والوقائع، ودلالته غالباً الماضي ومجرياته، وكيفية منع حدوثه ومحاسبة المرتكبين، بينما دلالة الثاني هو المستقبل، وطريقة خلق اجتماع سياسي عام يلبي حاجة المجتمع والدولة وتطورهما.
الحوار يتطلب بداهة ممثلين عن الآراء التي هي موضع خلاف، إذ لا يمكن الحوار مثلاً حول نمط الاقتصاد الذي سيُعتمد في سوريا الجديدة بغياب اختصاصيين اقتصاديين يمثلون أنماطاً اقتصادية مختلفة.
كل هذه المحددات وغيرها تضع ما يجري اليوم حول مؤتمر الحوار الوطني في إشكال بالغ التعقيد، يدفع إلى الاعتقاد بأنه حوار لا طائل منه، وأن كل ما يهدف إليه هذا الحوار هو سد ذرائع بعض الجهات الخارجية، وتقديم بعض الشرعية للسلطة الجديدة.
في حديث للناطق الرسمي باسم اللجنة التحضيرية السيد “الدغيم” قال فيه إن ما سوف يصدر عن مؤتمر الحوار الوطني سيكون بمثابة “توصيات”، بعبارة أخرى فإن هذا الحوار لا نتائج ملزمة له، ويمكن للسلطة الجديدة أن تأخذ بها أو لا تأخذ، وهي من يقرر ذلك، وبالمقابل فهو يعتبر ما صدر عن المجتمعين في مؤتمر إعلان النصر “قرارات”، باختصار شديد، ما اتفق عليه قادة الفصائل المسلحة هو قرارات ملزمة، بينما ما يصدر عن مؤتمر الحوار الذي يفترض به أن يمثل السوريين هو مجرد توصيات.
هل يذكرنا هذه بحقبة البعث، فالبعث قائد الدولة والمجتمع، والفصائل هنا قائدة الدولة والمجتمع، والبعث من أجل تزيين هذا الاستبداد وتمريره اخترع كذبة “الجبهة الوطنية الديمقراطية” التي لا تغني ولا تسمن من جوع، واليوم يشبه مؤتمر الحوار الجبهة إياها، مجرد ديكور لشرعية شكلية!
نحن أمام معضلة حقيقية، وحلها ليس سهلاً أبداً في ظل تشظي المجتمع السوري وفي ظل تنامي خطاب الكراهية والعصبيات المنفلتة بلا أي ضابط، وأن الحاجة إلى حوار حقيقي بين السوريين بالغ الأهمية، وعليه فإن الذهاب إلى حوار وهمي، سيكون له تأثير سيئ على طريقة مواجهة التحديات التي تواجهها سوريا المدمَّرة.
لعل المشكلة الأكبر التي تواجه سوريا بسلطتها الجديدة لا تكمن في كثرة التعقيدات الداخلية والخارجية فحسب، ولا بخرابها الشامل اقتصادياً وسياسياً واجتماعياً.. إلخ، أيضاً، إنما تكمن في كيفية وضع خطط القادم، وتحديد الأولويات، والآليات، وفي مدى جدية اختيار الحلول الحقيقية مهما كانت صعبة، أما الحلول المؤقتة، والعلاجات المسكنة فإنها لن تفضي إلا إلى هدوء مؤقت يعقبه انتكاسة أخرى.
المشكلة الأخرى التي تواجه كل السوريين، وليس السلطة الجديدة فقط، والتي هي أيضاً بالغة الخطورة، تتجلّى في القياس على المرحلة السابقة، أي في الإحالة إلى الصيغة التي انتهجها حكم البعث عامة، وحكم عائلة الأسد خاصة، سواء في التعامل مع مؤسسات الدولة، أو في فهم السلطة، أو في علاقة الدولة والمواطن، وكلها أنتجها حافظ الأسد بدلالة احتكار السلطة، أي إنها لم تكن يوماً بدلالة مصلحة سوريا ومصلحة السوريين، وعليه فإن الخطوة الأولى التي يجب على السوريين عموماً العمل عليها هو التأسيس لسوريا مغايرة، سوريا لا يخاطب أفرادها قادتهم كما لو أنهم أنصاف آلهة، ولا يرون في النقد عامل هدم، ولا يرون في الاختلاف عداوة.
سوريا الجديدة تحتاج أول ما تحتاج إلى حوار سوري حقيقي بين نخب سورية كفؤة ومختصة، تضع واقع سوريا الراهن أمامها بكل تعقيداته، وتضع طريق الخروج منه نحو سوريا جديدة أهم وجه لها هو مواطنة حقيقية وفصل حقيقي للسلطات، واعتماد الكفاءات وليس الولاءات.
—————————
الجمهورية السورية الجديدة في خطاب الرئيس الجديد/ حسان الأسود
2025.02.22
بتاريخ 4/2/2025 وخلال المؤتمر الصحفي مع الرئيس التركي رجب طيب أردوغان تحدّث الرئيس السوري أحمد الشرع موجها بعض الرسائل المهمة، لكننا سنركز في هذه المقالة على نقطة واحدة من بينها، نراها أكثر أهميّة من غيرها، هذه النقطة هي اسم الدولة كما لفظه الرئيس، فقد ذكرها مرتين في معرضين مختلفين من حديثه بمسمّى “الجمهورية السورية”. وقد أثار استخدام هذه التسمية بعض النقاش في الفضاء العام السوري وخاصّة عبر وسائل التواصل الاجتماعي، مما يدلل على الأهمية القصوى للأمر من جهة، وعلى متابعة الناس كلام الرئيس وتصريحاته وتحركاته من جهة ثانية. لا يماري أحدٌ بأنّه ثمّة كثير من القضايا الخلافية في سوريا اليوم، ومعظمها ليست بالمسائل البسيطة التي لم نستطع نحن السوريين الاتفاق عليها، منها شكل الدولة وشكل نظام الحكم واللغة الرسمية للبلاد وتسمية الدولة والعديد من القضايا التي تشكل في مجموعها مضمون العقد الاجتماعي السوري قيد الإنشاء، والذي بالتوافق عليه نكون قد قطعنا شوطا كبيرا في بناء الهُويّة الوطنية السورية.
لقد مرّ اسم الدولة السورية بمراحل متعددة منذ انفصال البلاد عن السلطنة العثمانية واستقلالها، فقد كانت بداية تحت مسمى المملكة العربية السورية، وهذه لم تعش سوى عدّة شهور وسقطت مع الاحتلال الفرنسي عام 1920. ثم بات اسمها الجمهورية السورية واستمرت على هذا المنوال حتى العام 1950 حين أضيف لها صفة العربية بموجب الدستور الصادر في ذلك العام، ومع الوحدة بات اسم القطرين الشمالي والجنوبي معا “الجمهورية العربية المتحدة”، وبعد الانفصال عادت لتسميتها الراهنة، أي الجمهورية العربية السورية. وتثير هذه التسمية نقاشات مستفيضة بين السوريين والسوريات خاصّة بعد الثورة إذ طُرحت جميع القضايا علنا بينهم. لقد كانت إضافة الصفة العربية لاسم الجمهورية ضمن سياق المد القومي العربي والأحزاب القومية العربية، والآن وفي ظل انتعاش فكرة القوميات المختلفة في سوريا وأهمها القومية الكردية، فإنّ الأمر أصبح محل نظر وجدال.
اسم الدولة جزء من هويتها، والهُويّة الوطنية يجب أن تكون معبّرة عن جميع مواطني هذه الدولة، كما يجب أن تشمل هذه الهويّة جميع الهُويات الفرعية، بمعنى أن تكون غير متعارضة فيما بينها. ولأنّ الهويّة شعورٌ بالانتماء، فإنّ كثيرا من تعبيراتها تكون ذات طابع وجداني. فعلى سبيل المثال كان التنافس على أشدّه بعد الاستقلال بين حلب، باعتبارها أكبر ولاية في السلطنة العثمانية، وبين دمشق باعتبارها عاصمة قديمة وذات رمزية خاصّة لدى أهل بلاد الشام. وقد كانت حلب العاصمة الأولى لفترة بسيطة جدا، وقدّم أهل حلب تنازلا مهما بقبولهم تسمية البلاد باسم ولاية “سوريا” التي هي أصغر من ولايتهم وأقل أهمية.
عندما اتفق السوريون على اسم دولتهم بعد سقوط الإمبراطورية العثمانية أخذوا بعين الاعتبار التأثير العربي الكبير الذي تمثلت بعض أوجهه بدخول جيوش الفتح العربي بقيادة أبناء الشريف حسين. ووقتها كانت سوريا الكبرى تشمل غالبية عربية ساحقة من جهة، وكان الشعور القومي الكردي والتركماني والسرياني غير متبلورٍ بعد بقوّة تجعله ملحوظًا. وربّما كان اعتماد تسمية الدولة في أثناء الانتداب بمسمى “الجمهورية السورية” خطوة في اتجاه بناء الأمّة التي حاول الفرنسيون تمزيقها مجدداً بعد أن أخرجوا منها الأردن وفلسطين ولبنان وديار بكر ولواء اسكندرونة. قد يكون آباؤنا المؤسسون انتبهوا لموضوع التعدد القومي والإثني، وقد يكون ذلك مجرّد صدفة. لكنّ الصحيح أنّ أهل سوريا ليسوا جميعا من العرب حتى وإن كانت نسبة العرب منهم غالبية كبيرة. هذا يتطلّب نقاشًا مستفيضًا حول طبيعة الدولة وتسميتها من بين مواضيع النقاش المهمة هذه.
لو نظرنا إلى البلدان العربية لوجدنا منها قلّة فقط التي تضع هذه الصفة في تسميتها، وهي مصر والسعودية والإمارات وسوريا فقط لا غير، في حين بقيتها لا تأتي على ذكر العربية رغم أنّ بعضها لا أقوام فيها غير العرب. إذن فالإصرار على بقاء هذه الصفة في سوريا من قبل الغالبية العربية لا يلقى القبول ذاته الذي كان موجودًا خمسينيات القرن الماضي. أصبحت الطموحات القومية الكردية وغيرها في المنطقة واضحة ولا يمكن تجاهلها. إنّ الدولة باعتبارها الجهاز الحيادي الذي من خلاله يتم ضبط العلاقات الاجتماعية والحقوق والواجبات بين مواطني الدولة والجهة الوحيدة التي تحتكر العنف والعلاقات الخارجية، يجب أن تكون حيادية تجاه جميع مواطنيها، وبالوقت ذاته تمثلهم وتأخذ انتماءهم لها على أعلى درجات المسؤولية. لو نظرنا إلى السوريين لوجدنا الكثير مما يفرقهم حسب انتماءاتهم القومية والدينية والطائفية والمذهبية والسياسية والطبقية، لكنّ أهمّ شيء يوحدهم هو الهوية الوطنية السورية. يمكن لكل سوري وسورية أن يعتز بانتمائه الفرعي وبالوقت عينه بانتمائه الوطني السوري. إنّ القاسم المشترك بين السوريين والسوريات هو سوريتهم التي لا تعارض بينها وبين هوياتهم الفرعية المختلفة. هذا الأمر يجب أن يتجسّد في كل رموز الدولة من نشيدٍ وطنيٍ وعلمٍ وشعارٍ ومناسباتٍ وأعيادٍ وأهمها في اسم الدولة. الدولة السورية التي لا تستثني أحدا من أهلها.
لكل سوري وسوريّة الحق في أن يطلب تشميله في اسم دولته، وإذا أراد أتباعُ كل قومية نسبة البلد إلى قوميتهم سنجد حالنا أمام معضلة كبيرة. القضايا الوطنية الكبرى لا تؤخذ فيه القرارات بالأكثرية العددية، بل بالتوافق الذي أساسه الحوار الديمقراطي المنفتح على الجميع. ثمّة تجارب عديدة في التاريخ يمكن النظر إليها عند اجتماعنا للتداول في عقدنا الاجتماعي الجديد، والبشرية توصلت لمبادئ توضع في دساتيرها وتكون غير قابلة للتعديل، والأمثلة تعدّ ولا تحصى وأقربها لنا تجربة الدولة التركية التي اعتبرت جميع دساتيرها النظام العلماني من بين القضايا الوطنية التي لا يمكن الجدال فيها ولا تعديلها. كذلك لدينا تجارب كثيرة حول العالم من ألمانيا وفرنسا والولايات المتحدة وغيرها، وهذه بالحفاظ عليها خلقت استقراراً في بنى هذه الدول، وما كان بالإمكان الحفاظ عليها لولا أنّ الشعب قد توصل لإقرارها عبر الحوار واعتبرها غير قابلة للتغيير. صحيح أنّه صدرت تعبيرات مهللّة لاستخدام الشرع تسمية “الجمهورية السورية”، لكن ثمّة اعتراضات من فئات واسعة أيضًا اعتبرت الأمر خارج صلاحياته واختصاصاته. والحقيقة أنّ الطرفين المؤيّد للتسمية والمعترض عليها يحاول شدّ الحبل لجهته مستخدماً الأسس ذاتها التي يتخلى عنها عندما لا تأتي الأمور على هواه، وهذا يجعلنا نؤكّد على مرجعية لنا جميعاً إذا تمسكنا بها ستكون ناظم عملنا وستخرجنا من كل أزماتنا. هذه المرجعية هي الدستور التوافقي الذي من خلاله نضع أسس عيشنا القادم، وبغير ذلك سيبقى كل طرف متمترساً خلف مطالبه ولن نصل لحلول ترضي أحد.
تلفزيون سوريا
————————-
سارية السواس بعلم الثورة.. هرمنا من أجل هذه اللحظة/ عمر قدور
السبت 2025/02/22
في حفلتها في لندن، قبل قرابة أسبوع، وضعت سارية السواس علم البلاد الجديد على كتفيها، العلم المعروف بـ”علم الثورة” قبل سقوط بشار، وغنّت: “ارفع راسك فوق إنت سوري حر”. نشرت السيدة سارية المقطع المذكور على حسابها في فيسبوك، حيث لديها 3.7 مليون متابع، وكانت قبلها بيومين قد نشرت أيضاً مقطعاً وهي جالسة في مطعم رفقة أصحابها، تشاركهم فيه أداء الأغنية نفسها في جو من الضحك والابتهاج والعفوية.
سارية السواس بمثابة ظاهرة نالت اهتماماً واسعاً بين السوريين قبل الثورة، ومن أغانيها الشهيرة آنذاك أغنية يقول مطلعها: وين البارح سهرانة يا بنت الكلب.. بشارع مساكن برزة ولا بالتل؟ نامت عليك الحيطة.. شلون تنامين؟!..إلخ. نجومية السواس أتت من خارج الأقنية الرسمية، الإذاعية والتلفزيونية، فهي مغنّية الملاهي والمرابع الليلية التي يقصدها طالبو الترفيه، والذين يسعى معظمهم إلى سماع ما يحفّزهم على الرقص، أو الدبكة، أكثر من أي شيء آخر. أي أنها ليست مغنية سلطة ولا معارضة، بل هي خارج الانقسام الذي أحدثته الثورة.
صنعت السواس نجوميةً تجاوزت أصداؤها روّاد تلك الملاهي، وإن بدا غريباً خارجها ذلك المزيج من الأورغ والطبل والمغنّية الجريئة اجتماعياً. بالنسبة للمثقفين السوريين، يمكن الجزم بأن للسواس سمعة رديئة لديهم، فهي خارج الترسيمة الثقافية الفنية التي يحترمونها؛ هي بالأحرى رمز الابتذال الذي يأنفون منه، أو الذي يُفترض بهم إظهار تعاليهم عليه.
في استمرار لذلك التعالي، أظهر مثقفون استياءهم من وضعها العلم على كتفيها، وغنائها “ارفع راسك فوق”، فالسواس بحسب المستائين ابتذلت العلم والأغنية بإنزالهما إلى مستواها. وعلى صفحتها يحضر متدينون أكثر صراحة من أقرانهم المثقفين، إذ يتهمها أكثر من تعليق لهؤلاء بأنها “نجّست” العلَم “الطاهر”، إلى جوار تعليقات تفوقها بذاءة وتعريضاً بالسواس، بينما تحضر تعليقات تشجّعها بمرح واستخفاف ليس إلا.
ريم السواس مغنّية أخرى من العالم نفسه، لا تقل شهرة عن سارية، وهي صاحبة أغنية “أكبر غلطة بحياتي عَلّيت واحد واطي”، ظهرت مؤخراً بأدائها أغنية “أبو عمشة القيادة”، وهذه الأغنية انتشرت بسرعة شديدة بين عموم السوريين، ومنها: أبو عمشة القيادة.. تلبق له السيادة.. هذا اللي حرر بلاده.. بالضربة القاضية. أبو عمشة هو قائد فصيل العمشات المنسوب إليه، وعُيِّن مؤخراً قائداً للفرقة 25 في الجيش. أيضاً، نبّه ظهور ريم السواس بأغنية “أبو عمشة القيادة” أولئك المستائين إلى أن الأمر تجاوز الحد، فالأغنية التي اشتُهرت بين الجد والهزل تجاوزت الأوساط المعنية بها، وأصبحت تُغنّى في المرابع الليلية، وعلى نحو يخرج بها كلياً عن الأصل والسياق.
كنا قبل ذلك قد شهدنا تسجيلات من مطاعم دمشق، يرقص فيها شباب وشابات على أنغام “أبو عمشة القيادة”، أو “ارفع راسك فوق”، أو “مندوسهم مندوسهم.. بيت الأسد مندوسهم”، لا فرق. وهؤلاء المحسوبون على ثورة الأمس يشبهون ريم وسارية وصحبهن، من حيث الشكل ومن حيث الأداء. وقسم كبير منهم ساهم في ترسيخ هذه الرمزيات الاحتفالية التي تبدأ بالتقاط صورة مع السيف الدمشقي في ساحة الأمويين، ثم التقاط بعض الصور في مقهى معروف، وصولاً إلى مطاعم باب شرقي وباب توما، والعلَم يحضر في جميع المحطات السالفة الذكر.
وإذا كان حضور العلم مفهوماً في لحظات التحرير الأولى، فالكثافة التي بقي يظهر بها خلال شهرين لاحقين مثيرة للانتباه حقاً. لكن الإفراط في إبرازه صار سمة على نحو خاص في الاستعراضات التي تُقام في دمشق، ويتكرر فيها حضور فرقة العراضة الشعبية الدمشقية، ليُستحضر التراث أيضاً لإضفاء مزيد من الزخرفة والبهرجة عليها.
في المحصلة صار يمكن الحديث عن “كيتش التحرير”، وكيتش هي كلمة ألمانية يصعب ترجمتها بكلمة واحدة، فهي خلال حوالى قرنين من شيوعها اكتسبت دلالات عديدة، منها إعادة إنتاج فنون وأفكار جيدة على نحو سطحي مبتذل، ومنها ترويج الابتذال بحيث يصبح سمة غالبة تطغى عمداً على ما هو أصيل ومتفرّد. والكيتش هو مساحة سرعان ما تستقطب زبائن يرون فيه فرصة سانحة للاستثمار المعنوي أو المادي، فجزء من الاستعراضات التي أشرنا إليها هي على سبيل الترويج لأصحابها، ولأغراض معنوية أو سلطوية متعددة، إلا أنها أيضاً فرصة سانحة للاستثمار التجاري، وكثافة تواجد الأعلام في دمشق تشير إلى دخول التجار على خط الاستفادة من هذا الموجة.
ذلك لا يعني أن تجار دمشق (على نحو خاص) يركبون الموجة، فهم يفعلون ذلك بحكم وجودهم في العاصمة التي استقطبت فجأة نوعين من الوافدين؛ السلطة الوافدة من إدلب، بصرف النظر عن المناطق التي ينحدر منها أهل السلطة الجديدة، وإلى جوارها السوريون الآتون من مختلف دول الشتات ليحتفلوا بالنصر، وربما ليستكشف البعض منهم آفاق البقاء، أو آفاق الانخراط ضمن السلطة الجديدة. خلطة الوافدين هذه هي المعنية أولاً وأخيراً بكيتش التحرير كما رأيناه، ووسائل التواصل صارت بمثابة مجال حيوي لترويجه أو تسويقه.
وإذا كان الكيتش في العديد من الحالات موازياً شعبوياً لثقافة رسمية متعالية، ففي الحالة السورية الراهنة (والمفصلية) لا توجد منابر إعلامية تقليدية؛ التلفزيون الحكومي متوقف عن العمل والبث منذ إسقاط الأسد، والصحف الموروثة من زمن الأخير لا دور لها حالياً يُذكر. أما الإعلاميون المعتمدون من قبل العهد الجديد فهم موجودون على منصات السوشيال ميديا، ولم يأتوا أصلاً من الإعلام التقليدي.
واحد من هؤلاء ظهر مع رجال الأمن وهم يلقون القبض على مشارك في مجزرة التضامن الرهيبة، وكان الإعلامي يحمل عظمة قيل أنها من رفات قتلى المجزرة، بحيث صار ظهوره مسلّحاً بالمسدس يهون أمام ذلك المشهد. إعلامي آخر نشر على حسابه خبراً يتعلق بالقبض في اللاذقية على أحد سجّاني فرع فلسطين، الخبر الذي يتضمن ما يزيد عن 50 كلمة خلا تماماً من علامات الترقيم، فلا يعرف القارئ هل المقبوض عليه أم الفرع المذكور هو المعني بوصف “سيء السيط والسمعة” الذي ورد في النص. نعم، هكذا كتبها “السيط” ويقصد الصيت، والخطأ بحرفين يجعل احتمال وروده سهواً غير مرجَّح.
أما النموذج الأقسى على الابتذال فقدّمه صانع محتوى هو شيف مطبخ شهير، وكان قد دعا إلى وليمة، لمن يرغب، لمناسبة التحرير، في الجامع الأموي. بسبب تدافع المساكين الجوعى من أجل الوصول إلى الوليمة لقيت ثلاث نساء حتفهن، ولم تُعرف أية معلومات عن الجهة التي رخّصت لإقامة الوليمة في الجامع الذي له قيمة معنوية كبرى، وتم تناقل وعد رسمي بالتحقيق في الحادثة، وهو ما لم تظهر أية نتائج تشير إليه لاحقاً.
ولم يعد مستغرباً أن يستفيد الموالون الجدد من كيتش العهد البائد، فعاودت الظهور سريعاً مفرداتُ الولاء السابقة، وإن بدأ استخدامها بين الجد والهزل، وظاهرياً على سبيل النكاية بموالي الأسد رغم عدم وجود كتلة منهم بارزة وناطقة على قدر استخدام تعبير الفلول. هكذا عادت إلى التداول مفردات تقديس أو عبادة الفرد، ويُسجّل للعهد الجديد ملاحقته المظاهر التجارية في أسواق دمشق، حيث مُنعت الأعلام التي تحمل صورة الرئيس الجديد، أو تلك التي تحمل صورته وعبارة “منحبك في الله” التي تذكّر بصور المخلوع وعليها كلمة “منحبك” التي اشتُق منها لفظ المنحبكجية. لكن العهد الجديد يحتاج حزماً أشدّ إذا قرر النأي عن هذه الظواهر المبتذلة في العالم الافتراضي، ومنها شيوع استخدام توليفات من تسجيلات وصور السيد الشرع مع أغنية لكاظم الساهر تمتدح الدلع!
لقد وصل الأمر سريعاً بصفحات لموالين جدد إلى تسخيف أغنية راجت بعد إسقاط الأسد، هي أغنية “بالحب بدنا نعمّرها”، فراحوا يستخدمونها كـ”تريند” ساخر مرافق لما صار يُسمّى “تصرفات فردية” وينطوي على عمليات تنكيل أو انتقام ضد متَّهَمين من العهد البائد. الأسوأ أن هذا الابتذال لقي ويلقى تشجيعاً، أو صمتاً بمثابة التشجيع، بذريعة حاجة الناس إلى الاحتفال على سجيتهم، وبذريعة أن أولئك الإعلاميين لم تتِح لهم الظروف تعليماً أفضل، وبذريعة الديموقراطية حيث صارت تعني ادعاء المساواة بين الآراء بصرف النظر عن قيمتها المعرفية أو الأخلاقية. بل صارت القيمة في موقع الذمّ والاتهام بوصفها من علامات الثقافة والنخبوية، الثقافة التي يأبى التشبّه بها الشعبويون ودعاة الرداءة والاجتزاء والانتقائية، وما يلتحق بهم من أنصار.
من المستغرب، وسط هذه الأجواء، أن يُنظر باستياء إلى السيدة سارية السواس، أو إلى السيدة ريم السواس، على خلفية غنائهما الأغنيتين اللتين أشرنا إليهما، وأن يأتي الاستياء كأنّما من خلال النظر إليهما كنموذجين عن الابتذال، فقط لأنهما أصلاً في موقع ضعيف اجتماعياً ودينياً وثقافياً. ما فعلته الفنانتان لا يتعدى، في أسوأ الأحوال، الاستثمار في الابتذال الدارج، من دون أن يكون لهما السبق في اجتراحه، وإذا كان هناك ما يدعو إلى الخجل فالمساءلة يجب أن تذهب إلى موضعها الصحيح، رغم أن هذه المطالبة يُستبعد تحققها بسبب مجافاتها آلية الابتذال ذاتها.
المدن
———————–
طاولة اللجوء أم طاولة الوطن.. أيهما أقدر على جمع السوريين؟/ وفاء عبيدو
2025.02.22
على طاولة مستطيلة في أحد “الكامبات” أو مخيّم اللاجئين المؤقت، يجلس مجموعة من السوريين الذين وصلوا إلى بلاد اللجوء لا يملكون سوى أحلامهم في حقائب العمر وما يرتدون من ملابس تغطي جسدهم المرهق، وفي جعبتهم قصص لمحطات متفاوتة في الحياة يروونها على تلك الطاولة، فهم يتشابهون بالمعاناة ولكن تختلف التفاصيل والأحلام.
سوريون من أطياف متنوعة، يختلف كل منهم عن الآخر بالصفات والتصرفات والآراء والانتماءات والديانة، ولكنهم جميعا أبناء وطن منهك ومتعب، هجروه رغما عنهم بحثاً عن مستقبل أفضل.
يتحاورون ويتناقشون ويعبرون عن تنوع سوريا، يتحدثون تارةً عن رحلتهم إلى ألمانيا التي جمعتهم من أماكن بعيدة في قرية صغيرة، وتارة أخرى عن ثقافاتهم الاجتماعية أو عن الاقتصاد والسياسة وغيرها من الأحاديث التي تنسيهم انتظار البت في قرار الموافقة على منحهم الإقامة أو رفضها، عقب تعليق الدول الأوروبية النظر في الطلبات المقدمة من السوريين.
ويتسائل المجتمعون على طاولة “الكامب”، عن شكل طاولة الحوار التي من المفترض انعقادها في سوريا، وهل ستكون متنوعة وتمثل السوريين وفقا للخبرة والكفاءة والثقافة، ينصتون ويتناقشون ويتحكمون في زمام الأمور فهم أصحاب القلم الذي سيخط الطريق للنهوض بسوريا الجديدة، كما أنهم سيتأثرون بكل ما سيجري لاحقا رغم وجوهم في ألمانيا.
أبناء البلد
“نستحق الأفضل ونستحق وطنًا يعطينا شعور الانتماء الحقيقي له ويدعم الألفة بين أبنائه لمنع القيام بأي فعل مجحف وظالم فيما بيننا على هذا الأساس يجب أن يرتكز الحوار”، هكذا يصف كنان (26 عاما) خريج المعهد العالي للموسيقى قسم غناء أوبرالي، لموقع تلفزيون سوريا ما يجب أن يتضمن مؤتمر الحوار الوطني.
وصل كنان إلى ألمانيا مع صديقه طارق (28 عاماً) خريج كُلْيَة الطب قسم الأسنان من محافظة السويداء، إذ أوضح أنه أجبر على مغادرة الوطن حاله كحال معظم الشباب، لعدم وجود فرص تساعدهم على بناء المستقبل وإثبات أنفسهم، مما يدفع الجميع للبحث عن فرص في أماكن أخرى.
كما يرى أن فرصة الأمل في وطن أفضل وأجمل لم تعد مستحيلة كما كانت سابقًا، وأن النهوض بالوطن يقع على عاتق الجميع قيادة وشعب ولكن يبقى للحكومة دورها الأكبر في توحيد الجميع وأن تكون أكثر وضوحا. على حد قوله.
يجتمع كنان مع مجموعة من السوريين بشكل مستمر على طاولة في الكامب يتناقشون ويطرحون الآراء والآمال والخيبات، ويجد أنهم نموذج يحتذى به وهذا التنوع الثقافي والفكري والديني والسياسي فيما بينهم يميزهم كونهم يمثلون أفكارا وعقليات لبيئات مختلفة، ولكن تلك الطاولة تجمعهم دائما بحوارات لا خلافات وعلى هذا يتمنى أن تكون طاولة الحوار الوطني متنوعة ومجدية للنهوض بوطن أجمل.
أما طارق فلديه مخاوف حول تغير الأوضاع، وقال”لطالما كانت المناصب في وطننا سببًا لعسر مستقبلنا وقتل شغفنا وتحديد هدفنا بالسعي وراء لقمة عيش نكسبها من نقيض أحلامنا أحيانا، والتمييز على أساس الدين، الطائفة، المنطقة، النسب، الشكل”.
كما يرى أن السوريين أمام تحد في حال لم ينجحوا به فلن يكون هناك سوريا جديدة، ويرى أنه “يجب توحيد الجميع ومحاسبة من قتل السوريين ومن دمر أحلامهم ومستقبلهم وهجرهم”.
يتمنى طارق لو أنه يستطيع أن يقدم أصدقاءه وطاولته في الكامب كنموذج ليعتبر بها أصحاب القرار في طاولة الحوار، وقال”لا يوجد مثل حب السوريين لبعضهم بمختلف الطوائف والاتجاهات، وجودنا معًا ومحبتنا المتبادلة تخفف من أثار وألم الغربة لأننا نتشابه بهدف موحد البحث عن حياة آمنة مستقرة”.
سوريون يبحثون عن استقرار مفقود
“ليست الصعوبة فقط في الغربة وحدها ما يزيد صعوبتها الخوف من فقدان الأمل في العودة للوطن”، هكذا تصف ولاء (35عاماً) من محافظة درعا لموقع تلفزيون سوريا مخاوفها من الوضع الراهن.
وصلت ولاء مع زوجها وأطفالها الثلاثة إلى رومانيا وبقيت مع عائلة زوجها لفترة لكنها لم تشعر بالاستقرار وبعد معاناة قررت المغادرة مع عائلتها إلى ألمانيا علها تجد الاستقرار في وطن آخر.
تعتبر ولاء أن مؤتمر الحوار الوطني المرتقب هو الفرصة التي ينتظرها معظم السوريين لإعادة الاستقرار إلى حياتهم، وأنه حجر الأساس لبناء الثقة بين مختلف مكونات الشعب السوري وبين الحكومة الجديدة من أجل الوصول إلى وطن جديد قائم على العدالة والديمقراطية، وترى أن صعوبات وتحديات هذا المؤتمر ليست أمراً سهلاً، وأنه يتطلب جهوداً كبيرة وإرادة حقيقية للتغيير فهو أمل الجميع.
تتخوف ولاء من فشل المؤتمر كونها عاصرت العديد من الهيئات المعارضة التي أنشئت خلال سنوات الثورة وكان نصيبها الفشل وقالت “لا نملك الكثير من الثقة بين الشعب وسلطاتنا على مر السنوات السابقة ولكن الأمل في القادم أن يكون مختلفا وأفضل”.
أما بشير (26عاماً) من دير الزور جاء إلى ألمانيا ليكون مع إخوته وكانوا يعيشون في ولاية واحدة ولكن بعد أن قدم طلب اللجوء تم نقله إلى منطقة تبعد عن جميع إخوته لساعات ما جعله يشعر بالضياع حيث لا أهل ولا أقارب.
وبعد انضمامه إلى تلك الطاولة مع مجموعة الأصدقاء يعتبر بشير أن الأمان عاد له بوجود أبناء من وطنه محيطين به، موضحًا أنه اكتشف ثقافات وعقليات مختلفة عن مجتمعه فوجد بهؤلاء الأشخاص ما لم يكن على دراية به، مؤكدا أن احتكاكه الحقيقي بهم غير كثيراً من مفاهيمه المجتمعية.
وأضاف أنه يدور بينه وبين أصدقائه بشكل مستمر نقاشات وتساؤلات سياسية ودينية فيكون الحوار بينهم أكثر ليونة ووضوحا كما يشاركهم ما يدور في فكره من أسئلة ويبادرونه بالحوار أيضا، وقال “في جميع الحوارات نحن أبناء وطن نصحح لبعض ونحتوي بعضنا وسنبقى كذلك”.
وبحسب وجهة نظر بشير، فإن المؤتمر الوطني في حال كانت خططه واضحة تشاركية لكل الشعب فلن يفشل، ويضيف “على كل شخص صاحب قرار في هذا المؤتمر أن يعلم مدى المسؤولية التي تقع على عاتقه فسوريا تحتاج للوعي ولنا جميعًا عليهم جمع السوريون تحت راية العدالة والديمقراطية”.
طاولة الحوار السورية
يعدّ العامل السياسيّ من أبرز أسباب انقطاع العلاقات بين السوريين منذ اليوم الأول للثورة، إذ سرعان ما ظهرت انقسامات واضحة في الشارع بين موالاة في صفّ للنظام، ومعارضة على الطرف المقابل له.
ريما (37 عامًا) من معلولا أخصائية إرشاد نفسي، أوضحت لموقع تلفزيون سوريا أن غربة الوطن أصعب من الغربة خارجه وعلى هذا قررت الاغتراب البعيد علها تجد فيه أمال تتحقق كونها لم تجني من اغترابها داخل الوطن إلا الضياع.
“كنا صديقات مقرّبات في الجامعة، بعد تأييد اثنتين منّا للنظام ومعارضتي له لم نبقَ كذلك وافترقنا بسبب نقاشاتنا والآراء المختلفة”، في حين ترى أن في المجموعة التي تجمعهم يوجد وعي وترابط، رغم وجود الاختلاف في الآراء فإن وجد خلاف بينهم لا يصل إلى طريق مسدود.. وتضيف “لا مكان للحقد بيننا نحن ضماد لآلام بعضنا البعض”.
ترى ريما أن على السوريين لملمة جراحهم، وأن الأمل كبير اتجاه ما يحدث في سوريا من تطورات وخاصة ما يتعلق بالتحضير لمؤتمر الحوار الوطني وأنها تتطلع إلى دستور يصون الحريات والحقوق ويحقق العدالة والدولة المدنية الديمقراطية، إضافة إلى تحقيقه التعددية والتشاركية.
كانت فكرة السفر والابتعاد عن العائلة بالنسبة إلى كنز (31 عامًا) ابنة مدينة سلمية من المستحيلات فهي تنتمي لعائلة لطالما حافظت على ترابطها الأسري على الرغْم من النزوح والتهجير الذي مرت بها.
وعلى تلك الطاولة تتشارك مخاوفها مع أصدقائها من فشل مؤتمر الحوار الوطني، وتتشارك معهم النقاش في العوائق التي قد تطول المؤتمر.
كما ترى كنز أن الوضع في سوريا يشوبه الغموض وعدم الوضوح، وأن المؤتمر قد يقدم صورة أكثر وضوحا عن مجريات ما يدور فيمنحهم الأمل في مستقبل سوريا الجديدة التي يحلمون بها يوما.
تحاول كنز بين الحين والآخر إعداد وجبة ذات طابع سوري حين يجتمعون لتبادل الأحاديث والأفكار حول ما يجري في سوريا بما يعطيهم شعور العائلة والوطن، كما أوضحت أنهم يتناقشون عن العادات والتقاليد والسياسية والمعتقدات الدينية، ويشكلون عدة آراء ووجهات نظر ولكن لا يختلفون على ترابطهم وانتمائهم الذي يعلو على أي اختلاف.
“كأننا سوريا الجميلة المصغرة بأبنائها، نجلس على أي طاولة محيطين بعضنا البعض سوياً بشكل بات روتيني لا يفرقنا مذهب أو رأي أو انتماء، علها تكون طاولة الحوار الوطني متشابهة لابل أجمل وأسمى”، تقول لموقع تلفزيون سوريا.
يتطلّع السوريون بكثير من الأمل إلى المشاركة الفاعلة في جهود الحوار الوطني الذي تعتزم الإدارة الجديدة إطلاق مؤتمره الشامل والموسّع في دمشق.
وبحسب تغريدة على منصة (X) قال وزير الخارجية في الحكومة السورية أسعد الشيباني “تريثنا بالمؤتمر الوطني، حتى يتسنى تشكيل لجنة تحضيرية موسعة تستوعب التمثيل الشامل لسوريا من كافة الشرائح والمحافظات، والتي ستكون حجر أساس في إنشاء الهوية السياسية لسوريا المستقبل”.
تلفزيون سوريا
————————–
جلسات التحضير لـ”مؤتمر الحوار”.. تجربة سورية وليدة والعدالة على رأس الأولويات/ عز الدين زكور
2025.02.22
في مشهدٍ استثنائي يُعد الأول من نوعه في تاريخ سوريا الحديث، انطلقت جلسات التحضير لمؤتمر الحوار الوطني السوري، محمّلةً بأصواتٍ مرتفعة ونقاشاتٍ حادة تعكس عمق الغيرة الوطنية والرغبة الجامحة في الحفاظ على مكتسبات الثورة والنصر. وهي ليست مجرد جلسات حوار عابرة، بل مساحة حقيقية تُترجم أوجاع السوريين المكبوتة على مدار خمسة عقود من الاستبداد، إذ لم يعد الصمت خياراً، ولم تعد القضايا المسكوت عنها قابلة للتجاهل.
بين أروقة هذه الجلسات، علت الأصوات مطالبةً بالعدالة، رافضةً أي محاولة لتعويم رموز النظام المخلوع، ومصممة على صياغة مستقبل يليق بتضحيات السوريين وتاريخهم النضالي.
توجّه حمدو سلات من مدينته بنّش بريف إدلب، إلى المركز الثقافي في مركز المحافظة، حيث كان بانتظاره في 18 من شباط الجاري، حدثاً استثنائياً في العهد السوري الجديد، وفرصة لأول مرة يحظى بها المواطن السوري الذي نشط في مجال ذوي الإعاقة لسنواتٍ طويلة، ليتحدثَ في قضيةٍ شكلت هاجساً له على مدار سني عمره، إنها ـ أي الجلسات ـ “ترجمة حقيقية لأوجاع الناس المكبوتة على مدار خمسة عقود من الاستبداد” يقول “سلات”.
طبيعة المؤتمر
في ذات المكان الذي شهد “جلسة الحوار ضمن مسار الحوار الوطني” في مدينة إدلب، الذي شهد حضوراً كثيفاً من الأهالي والنخب الاجتماعية والثقافية في المحافظة، نادت سيدة بحدّة: “صار عمري 60 سنة لحكيت، بدي احكي، اتركوني احكي”، هذه العبارة التي تبرز رمزية الجلسات هذه وقدسيتها لدى السوريين، باعتبارها الفرصة التاريخية المنتظرة للحديث بسقفٍ عالٍ عن الشأن العام في سوريا، وهو ما ظهر جلياً في مداخلات المشاركين التي لم توفّر موضوعاً في السلم الأهلي، و”الأقليات” والانتخابات الرئاسية والإعلان الدستوري والحريات العامة والعدالة الانتقالية ومحاسبة المجرمين والمتورطين في قتل السوريين وإعادة الإعمار وشكل الحكم والدولة وهويتها، ومواضيع أخرى كان مسكوتاً عنها في جلسات علنية في سوريا.
تحدّث سلّات وهو بطل في رفع الأثقال من ذوي الإعاقة وممثل عن هذه الفئة في الجلسة، عن “إشراك ذوي الإعاقة في عملية الصنع القرار في سوريا، وضرورة أن يوجد تمثيل حقيقي لهم في مؤتمر الحوار الوطني”، إنها القضية التي حملها معه إلى الجلسة وحملته إلى “حوار حقيقي لا يشبه الحقبة السابقة التي كانت مليئة بالمسرحيات والتصفيق والتلقين فقط”، يضيف محدّثنا.
لم تهمل المداخلات المنوّعة حتى طبيعة المؤتمر المزمع عقده، وطرح الحقوقي محمد سلامة، ضمن مداخلة تساؤلاً فيما لو كان التحضير لمؤتمر حوار أو مؤتمر وطني، على اعتبار أن الأخير أكثر أهميةً فضلاً عن قراراته الملزمة، على خلاف ما قد يصدر من توصيات من “مؤتمر حوار”، كما عرّج عن إمكانية وجود إعلان دستوري مؤقت يقود المرحلة المؤقتة في سوريا.
“اذهبوا فأنتم السجناء”.. العدالة الانتقالية
حضر ملف العدالة الانتقالية بقوّة بين الحضور الكثيف في إدلب، الذي اضطر بعضهم في إثره إلى الاستعانة بكراسٍ إضافية من خارج القاعة، وآخرون للوقوف، وسط تهافت على “مايك التكلّم”، في هذا الاستحقاق الوطني، كما يصفه سوريون، وكانت المطالباتُ بضرورة محاسبة المتورطين في قتل السوريين من تشكيلات نظام الأسد البائد، وهو ما تجسّد في مداخلة مؤثرة للأستاذ الجامعي، أحمد نجيب، كان ضحيّة لقصف النظام بالبراميل والكيماوي، فقد في إثرها بصره وعُقد لسانه، أكد من خلالها على رفض مسامحة القاتلين والمجرمين وطالب بمحاسبتهم وختم كلامه بـ”اذهبوا فأنتم السجناء”.
لا شكّ أن المداخلات من هذا النوع، هي مرآة للمجتمع السوري وجمهور الثورة على وجه التحديد الذي يطالب بإلحاح وصرامة على المحاسبة والعدالة.
كانت المداخلات في هذا السياق من أقصى شمالي سوريا في إدلب، إلى أقصى جنوبها، درعا، متوائمة ومنسجمة، إذ لم يفوّت شاب من درعا، ضمن مداخلة، فرصة للتعبير عن رفضه إعادة تعويم شخصيات كانت على علاقة بالأجهزة الأمنية في درعا، أو “صالحت” وفق اتفاق “المصالحة” الذي جرى في درعا في العام 2018 برعاية روسيّة، ومتورطة في سفك الدم السوري، ودعا لضرورة محاسبتها.
التنوع والمحاصصة الطائفية
تشهد جلسات التحضير المعقودة بحضور اللجنة التحضيرية لمؤتمر الحوار الوطني المشكّلة في 11 شباط الجاري بقرار من رئيس الجمهورية، تمثيلاً واسعاً من الأطياف الدينية والعرقية والنخب الثورية والثقافية، ضمن جلسات المحافظات السورية، التي عقدت في حمص ودمشق وريفها وحماة وإدلب واللاذقية، وجلستين لممثلين عن محافظتي الرقة والحسكة عقدتا في دمشق، في وقتٍ ما زالت تسيطر “قسد” على المحافظتين في الشمال الشرقي في سوريا. ويبدو التنوّع الحاصل على الصعيدين الطائفي والسياسي في الجلسات محفزاً للطروحات والرؤى التي عرّجت إلى شكل الحكم وهوية الدولة، وهي واحدة من القضايا التي ما زالت تثير جدلاً غير مؤجل حتى تشكيل الدستور.
غادة دعبول، المنحدرة من مدينة محردة ذات الأغلبية المسيحية، تحدّثت في مداخلة تداولها ناشطون على نطاق واسع على مواقع التواصل، ضمن الجلسة في مدينة حماة المنعقدة في 18 من شباط الجاري، عن متاجرة نظام الأسد بـ”الأقليات” واللعب على هذا الوتر، ما جعلهم في مواجهة صريحة مع المحيط (السني)، وهو ما لم تقله السيدة صراحةً، لكن أشارت إليه، وفيما بعد تحوّلوا إلى محط عداء مع باقي المكوّنات السورية، رغم محاولاتهم بـ”عدم السماح له في ذلك، عبر عدة طرق”.
قالت السيدة في المداخلة: “نريد سوريا حرة، نريد سوريا تعددية، سوريا ما فيها كفاءة لمسيحي لأنه بمثل المسيحي، اللي بمثلني كسوريّة هو الكفء”. هذه المداخلة لاقت تفاعلاً لأنها تحدّثت بصراحة ولأول مرة عن موضوع إشكالي لدى السوريين في الاصطفاف الطائفي سواء مع نظام الأسد أو خصومه، وتوظيف “الأقليات/ المكوّنات” في حربه ضد السوريين.
وتبدو مداخلة السيدة منسجمة مع توجّه لجنة الحوار التي كررت في عدة جلسات رفضها التمثيل على أساس طائفي، خشية الوقوع في فخ المحاصصة الطائفية في استعادة لسيناريوهين مدمّرمين في المنطقة، لبنان والعراق، كما جاء على لسان حسن الدغيم، المتحدث باسم اللجنة التحضيرية في جلسة نقاشية عقدت في دمشق في 17 من شباط الجاري مع وسائل الإعلام ـ حضرها موقع تلفزيون سوريا ـ واعتبر أن المحاصصة الطائفية تفرض على المناضلين الوطنيين التطييف ورفع الراية الطائفية للدخول في المعركة، في وقتٍ رفض فيه الاعتماد على جداول مسبقة بالنسبة المئوية للطوائف، مع الحرص على مراعاة التنوع الديني والطائفي في الصورة النهائية لمؤتمر الحوار، مؤكداً أن واحداً من المبادئ الخمسة للثورة السورية هو رفض المحاصصة الطائفية والعرقية في البلاد.
وفي جلسة ريف دمشق يوم أمس رفع الباحث أسامة أبو زيد ابن مدينة داريا صوته عالياً مطالباً بالشفافية من السلطات، وشدد على تحصيل العدالة للضحايا ومحاسبة المجرمين، وعدم القفز فوق الماضي، مشيراً إلى أن السوريين يستوعبون التحديات الأمنية التي تواجه الحكومة وربما اضطرارها إلى عدم القبض على مجرمي حرب مقابل الاستفادة منهم في القبض على مجرمين أكبر، إلا أن ذلك لا يكون على حساب حقوق الضحايا.
بحسب ما رصد تلفزيون سوريا من مداخلات في الجلسات الحوارية، تتطابق المطالب والتأكيدات عند ملفي العدالة الانتقالية ومنع مشاركة المحسوبين سابقاً على النظام المخلوع في السلطات وفي المؤتمر الوطني المرتقب.
وطرحت اللجنة التحضيرية لمؤتمر الحوار الوطني تصويتاً إلكترونياً على مواقع التواصل الاجتماعي، بهدف مشاركة جميع السوريين في الداخل والخارج من إبداء آرائهم حول القضايا المراد مناقشتها في مؤتمر الحوار.
وجاء ملف العدالة الانتقالية في المرتبة الأولى بنسبة 41%، ثم البناء الدستوري للدولة بنسبة 29%، ثم الإصلاح الاقتصادي بنسبة 20%.
خلاصة حديث موقع تلفزيون تلفزيون سوريا مع عدد من المدعوين للجلسات التحضيرية والناشطين يُلخّص بنقاط رئيسية تتطابق عند الأكثرية، وهي أن جلسة ساعتين لكل محافظة غير كافية على الإطلاق للحديث في الملفات الرئيسية، واقترح البعض أن يكون لكل محافظة 3 أيام من النقاشات قابلة للتمديد، وأشار من التقاهم موقع تلفزيون سوريا إلى أن نسبة المتحدثين من المدعوين قليلة، في حين يجب أن يتحدث كل مدعو لأنه من المفترض أن يمثل فئة من المجتمع السوري، وأوضحوا أن الحديث يكون بناء على رفع الأيدي مع وجود شخص مساعد للجنة يوزع دور الحديث وينتقي من الأيدي المرفوعة.
وبالإضافة إلى ذلك، انتقد كثيرون غياب معايير انتقاء المدعوين، وأجمع من التقاهم تلفزيون سوريا وشددوا على عدم دعوة المرتبطين بالنظام المخلوع، والتعامل مع الجلسات التحضيرية على أنها اللحظة التي يرسم فيها المجتمع علاقته بالسلطة، ويحدد فيها أولوية المطالب، ويعبر الجميع عن رأيه بشكل سوريا الجديدة.
——————————
“أردوغنستان”… أو محور “الشرّ الجديد”/ توفيق شومان
22 فبراير 2025
منذ خروج رئيس النظام السوري السابق بشّار الأسد من المشهد العام، يطغى مصطلح “العثمانية الجديدة” على الخطاب الأمني والإعلامي في إسرائيل، وفي مستوىً تتكوّن حوله قناعة ملؤها احتمال الصدام بين أنقرة وتلّ أبيب، تتحوّل سورية خلاله ميدانَ نزاعٍ بين الطرفَين، اللذَين أصبحا “جارَين”، بعد لجوء الأسد إلى موسكو.
ما بين العاشر من ديسمبر/ كانون الأول الماضي (2024) و19 فبراير/ شباط الجاري، يمكن الاستناد إلى عشرات المواقف والمقالات الإسرائيلية التي تتقاطع حولها التحذيرات من التمدّد التركي في سورية، واقتراب القوى السورية الحليفة لأنقرة من هضبة الجولان وجبل الشيخ، ما يضيف إلى التحدّيات الاستراتيجية الإسرائيلية عاملاً لم يكن في دائرة الحسابات، وذاك العامل يتمثّل بانبعاث “العثماني المرقّط”، الذي يحمل في دواخله وسرائره شرّاً مستطيراً، قد تضطرّ إسرائيل إلى مواجهته عاجلاً أو آجلاً، مثلما يكاد يُجمِع المعلّقون الإسرائيليون.
من جديد التصريحات المندرجة أخيراً في سياقات التحذير من الخطر التركي في سورية موقف أطلقه وزير الخارجية الإسرائيلي جدعون ساعر (18/2/2025)، قال فيه “إن تركيا تتعاون مع إيران لتهريب الأموال إلى حزب الله في لبنان”، ليعقبه بعد يوم تقرير نشرته صحيفة جيروزاليم بوست، تضمّن توضيحات حيال القلق الإسرائيلي والغربي من الطموحات التركية في سورية، والشرق الأوسط عموماً، فيما التحذير الأكبر، بحسب شبكة البثّ الإسرائيلية (6/1/2025)، ورد في الخلاصة التي قدّمتها لجنة ناغل إلى حكومة نتنياهو، أوصت فيها بضرورة “التحضير للحرب مع تركيا، فالقوى المتطرّفة الحاكمة في دمشق هي جيش متقدّم لأنقرة أخطر بآلاف المرّات من المشروع الإيراني”.
سيتحدّث عن هذا المضمون نفسه اللواء إسحاق بريك في مقالتَين، واحدة نشرتها “معاريف” (23/12/2024)، والأخرى أدرجتها “هآرتس” (11/2/2025). في الأولى يقول بريك: “بعدما سيطر المتطرّفون على سورية، صدح المستويان السياسي والأمني بصيحات الفرح المهلّلة بالأضرار الكبيرة التي أصابت محور الشرّ الإيراني، تلك الصيحات تذكّرني بغرور وغطرسة كانا قبل الهجوم على مستوطنات غلاف غزّة، بإمكان أيّ عاقل أن يُقرّ بأن محور الشر الإيراني تلقّى ضربةً، لكن هناك محور شرّ أكثر خطورة قد ينشأ في سورية، ويقوده الأتراك”. وجاء في المقالة الثانية أن “التهديد الوجودي الحالي لإسرائيل لا يُقارَن بالتهديد الوجودي المستقبلي، فالجيش الإسرائيلي البرّي هو جيش صغير، ولن يتمكّن من خوض الحرب على خمس جبهات في المستقبل، من ضمنها جبهة الدولة الجهادية في سورية المدعومة من تركيا”. وليس بعيداً من ذلك، كتب رامي سيمني في “يديعوت أحرونوت” (31/12/2024): “بعد إيران، يأتي التهديد الأكبر لإسرائيل من نظام رجب طيّب أردوغان، الذي يعمل لإقامة سلطنة عثمانية جديدة، ويتحدّث عن احتلال إسرائيل. وأردوغان لا ينفكّ يتحدّث عن سورية الواحدة، وفي طريقه لاحتلال الشرق الأوسط، يحتاج أردوغان إلى الهدوء على حدوده، فيما المصلحة الإسرائيلية مغايرة تماماً، وتقتضي اختفاء سورية من الوجود”.
بعد يومين من مغادرة الرئيس السوري السابق بشّار الأسد بلاده، كتب يوآر ليمور في صحيفة يسرائيل هيوم، المقرّبة من نتنياهو: “من كان يظنّ أن المحور الإيراني يشكّل التحدّي الأكبر، عليه أن ينتظر تحدّياً إضافياً يمثّله أردوغان، سيّد الثوار في سورية”. وأعقبه يعقوب عميدور، في “معاريف” (14/12/2024)، فقال: “تركيا هي المستفيد الأول من الحدث السوري، وهذه الاستفادة تتماشى مع الرؤية العثمانية ـ الإسلامية للحكومة التركية الحالية، وهي التي بذلت جهوداً كبيرة لتوسيع دائرة نفوذها في العالم العربي. إن وصول التنظيمات المدعومة من تركيا إلى هضبة الجولان، يمكن أن يزيد الاحتكاك والتوتّر بين تركيا وإسرائيل، فالأخيرة تعادي إسرائيل بشدّة، لكنّها لم تواجهها بصورة مباشرة حتى الآن، ويتوجّب علينا عدم السماح بتشكيل محور تكون سورية في قلبه، وهو محور لديه قدرات تلحق أضراراً غير قليلة بإسرائيل”.
وعن تلك “العثمانية الجديدة”، كتب كلٌّ من إيال زيسر في “يسرائيل هيوم”، وعاميت ياغور في “معاريف”، فرأى الأول في مقالته (21/12/2024)، أن “سورية هي جزء من الصورة الكبيرة (الشرق الأوسط)، وكما كان لإيران طموح كبير، فإن لأردوغان أيضاً طموحاً كبيراً باسترجاع أمجاد السلطنة العثمانية التي حكمت الشرق الأوسط كلّه، والعداء لإسرائيل هو الشماعة التي يحاول أردوغان من خلالها لصق كلّ أجزاء الأحجية الشرق أوسطية لضمان سيطرته عليها”. وتحدّث الثاني (28/12/2024)، عن تسلّل تركيا “إلى حدود إسرائيل، ففي هذه الأيام نشهد عمليةً استراتيجيةً مهمةً للغاية، فسيطرة تركيا على سورية، تنذر ببداية صوغ نظام إقليمي جديد، ومعنى ذلك أننا نشاهد بأم العين نموذجاً للإمبراطورية العثمانية، وفق الصيغة الأردوغانية، أي منطقة يقودها ويهيمن عليها محور الإخوان المسلمين، الذي يحلّ محلَّ محور المقاومة”.
ومع بداية العام الحالي (2025)، تكثّفت النقاشات الإسرائيلية المرتبطة بالمتغيّرات السورية وصلتها بالدور التركي، مثلما أوردت “يسرائيل هيوم” (9/1/2025)، وتلاه تقرير في “جيروزاليم بوست”، بعد يومَين، انطوى على توصيات محذّرة من التحالف بين دمشق وأنقرة… ويطرح ذلك كلّه سؤالاً إسرائيلياً استراتيجياً: كيف يمكن أن تواجه إسرائيل هذا التحدّي، أو ما يسمّيه عاميت ياغور “أردوغنستان”؟
الإجابة عن هذا السؤال تكمن في ثلاث رؤى، تتمثّل الأولى بمزيد من قضم الأراضي السورية، والثانية تسدّ السُبل أمام توحيد سورية عبر ترسيخ مناطق النفوذ الأمنية، والثالثة تشدّد على بلورة حلف إقليمي ينازع الدور التركي في العالم العربي، ويناهض في الوقت نفسه الاتجاه العقائدي للإدارة الجديدة في سورية.
قبل تسعة أعوام (وبالتحديد في 19/12/2016)، وحين كانت الحرب السورية في ذروتها، ناشد وزير الدفاع الإسرائيلي موشي يعلون الرئيس دونالد ترامب، المنتخب حديثاً آنذاك لولاية رئاسية أولى، أن يعمل لتقليم أظافر رجب طيّب أردوغان، لأنه هاجم حلفاء الولايات المتحدة في شمال شرقي سورية، واستضاف قادة “حماس” في إسطنبول. وبعد تحوّلات الحُكم والسلطة في سورية، وفوز ترامب بولاية رئاسية ثانية، كتبت الخبيرة الإسرائيلية بالشؤون التركية إفرات أفيف: “ثمّة احتمال نشوب مواجهة تركية ـ إسرائيلية، وهذا وضع غير مسبوق”.
ماذا في جعبة الأيام؟… الله أعلم.
العربي الجديد
—————————–
ضمان حقوق الأقليات في الدستور السوري المستقبلي/ إبراهيم جبر
21 فبراير 2025
بعد نجاح الثورة السورية في القضاء على نظام الأسد، تبرز قضية حماية حقوق الأقليات ركيزةً أساسية لإعادة توحيد النسيج الاجتماعي المُمزّق. فسورية، بتركيبتها الغنية من الأعراق والأديان والثقافات، تمتلك إرثاً غنياً يشكّل مصدراً للقوة والإبداع. ومع ذلك، فإنّ السنوات الطويلة من حكم النظام السابق زادت من التهميش والتمييز، مما يستدعي معالجة هذه التحديات عبر دستور جديد يعزّز العدالة والمساواة، ويضمن لكلّ مواطن دوراً فاعلاً في بناء المستقبل.
أهمية حقوق الأقليات في سورية
تُعدّ سورية بتنوّعها العرقي والديني والثقافي الفريد أنموذجاً حيّاً لتلاقي الحضارات، إذ تعايشت عبر التاريخ مجموعاتٌ مثل الأكراد، والأرمن، والآشوريون، والتركمان، والدروز، والعلويون، والمسيحيون، وغيرهم، جنباً إلى جنب مع الأغلبية العربية السنية، أسهموا معاً في تشكيل الهُويّة الوطنية السورية، إلّا أنّ السياسات التمييزية التي انتهجها النظام السابق أضعفت هذا النسيج الاجتماعي ممّا قد يؤدي إلى تفاقم الانقسامات وزعزعة الاستقرار.
اليوم، وبعد اندحار هذا النظام تبرز أهمية حماية حقوق هذه الأقليات، ليست مسألةً أخلاقية أو قانونية فحسب، بل شرطاً أساسياً لتحقيق السلام الدائم والاستقرار السياسي أيضاً. فحين تُكفل حقوق الأقليات، تتعزّز المشاركة السياسية والاجتماعية، ما يعزّز شرعية النظام ويقلّل من مخاطر الصراعات المستقبلية. كما أنّ ضمان هذه الحقوق يساهم في معالجة الأسباب الجذرية للتمييز والإقصاء، مما يحدّ من احتمالية العنف الطائفي أو العرقي ويعزّز التعايش السلمي بين جميع المكوّنات.
بالإضافة إلى ذلك، فإن التزام سورية بحماية حقوق الأقليات يعكس احترامها للمواثيق الدولية لحقوق الإنسان، ما يعزّز مكانتها على الساحة الدولية ويفتح آفاقاً للتعاون العالمي. باختصار، فإنّ ضمان حقوق الأقليات هو استثمارٌ في مستقبل البلاد، يحوّل التنوّع من مصدر للصراع إلى مصدر للقوّة والوحدة الوطنية، ويضع الأساس لسورية جديدة قائمة على العدالة والمساواة، تتعايش فيها جميع المكوّنات في إطار من الاحترام المتبادل والتكامل الوطني.
التحديات التي تواجه حماية حقوق الأقليات
رغم الإجماع الواسع على أهمية حماية حقوق الأقليات في سورية، إلا أنّ الطريق نحو تحقيق هذه الغاية محفوف بتحديات عميقة ومعقّدة. يأتي في مقدّمة هذه التحديات إرث الطائفية السياسية الذي استُخدم لعقود أداةً لتعزيز سلطة النظام السابق، ممّا خلق حالة من انعدام الثقة بين المكوّنات المجتمعية المختلفة. هذا الإرث لا يمكن تجاوزه إلا من خلال جهود جادّة لتعزيز المصالحة الوطنية وبناء هُويّة وطنية جمعيّة تُعلي من قيم المواطنة المشتركة فوق الانتماءات الفرعية.
إلى جانب ذلك، يُعدّ غياب التوافق حول تعريف مصطلح “الأقلّية” في السياق السوري تحدياً آخر يعيق تحقيق العدالة والمساواة. فبينما تطالب جماعات مثل الأكراد بالاعتراف بهم بوصفهم جماعةً عرقيةً ذات حقوق محدّدة، بما في ذلك الحفاظ على لغتهم وثقافتهم، تركّز الأقليات الدينية على ضمان حمايتها من التمييز، وضمان حرية ممارسة شعائرها الدينية. ولذلك، فإنّ إيجاد توازن بين هذه المطالب المتباينة، مع الحفاظ على وحدة الدولة وسيادتها، يمثل معضلة تحتاج إلى حلول مبتكرة وحوار شامل.
ولذلك فإنّ التغلب على هذه التحديات يتطلّب إرادة سياسية حقيقية، وحواراً وطنياً شاملاً، ورؤية واضحة تعترف بالتنوّع قوّةً دافعةً لبناء مستقبل أكثر استقراراً وعدالة لسورية.
المبادئ الأساسية لحماية حقوق الأقليات في الدستور السوري
لضمان حماية فعالة لحقوق الأقليات في الدستور السوري المستقبلي، يجب أن تُبنى هذه الحماية على أسس دستورية راسخة تعكس التزاماً حقيقياً بالعدالة والمساواة. أول هذه الأسس هو مبدأ “المساواة أمام القانون”، الذي يجب أن ينصّ عليه الدستور بصراحة ووضوح، بحيث يُعامل جميع المواطنين، بغضّ النظر عن خلفياتهم العرقية أو الدينية أو الثقافية، على قدم المساواة. هذا المبدأ يجب أن يكون حاضراً ليس في نصوص الدستور فحسب، بل في ديباجته أيضاً، ليعكس التزام الدولة بعدم تهميش أيّ مجموعة.
ثانياً، يجب أن يتضمّن الدستور مبدأ “حظر التمييز” بكلّ أشكاله، سواء كان على أساس العرق أو الدين أو اللغة أو الجنس. هذا الحظر يجب أن يُترجم إلى مواد دستورية واضحة، مدعومة بآليات قانونية فعّالة لضمان تطبيق قوانين مكافحة التمييز ومعاقبة المخالفين، ممّا يخلق بيئة آمنة وعادلة للجميع.
ثالثاً، نظراً للتنوّع الثقافي واللغوي الغني في سورية، يجب أن يكفل الدستور “الحقوق الثقافية واللغوية”، هذا يشمل الاعتراف بحقّ كلّ مكوّنات الشعب السوري في الحفاظ على تراثها الثقافي ولغاتها، بالإضافة إلى تعزيز المؤسسات الثقافية التي تحافظ على الهُويّة الفريدة لكلّ مجموعة.
رابعاً، إنّ “سيادة القانون واستقلال القضاء” بوصفهما مبدئين يجب أن يكونا ركيزتين أساسيتين لحماية حقوق جميع المواطنين بما فيهم الأقليات. لذلك، يجب أن ينصّ الدستور على آليات تضمن استقلال القضاء، وإنشاء مؤسسات حقوقية قوية قادرة على مراقبة الانتهاكات ومعالجتها بعدالة وفعالية.
خامساً، لمعالجة إرث الصراع والانقسامات الطائفية، يجب أن يتضمّن الدستور آليات “للمصالحة والعدالة الانتقالية”. يمكن تحقيق ذلك من خلال إنشاء لجان للحقيقة والمصالحة، وبرامج جبر ضرر للضحايا، وتدابير تعزّز الوحدة الوطنية، مما يساعد على بناء جسور الثقة بين المكونات المجتمعية المختلفة.
دور المجتمع الدولي
في هذه المرحلة الحرجة من حياة سورية، يمكن للمجتمع الدولي أن يلعب دوراً داعماً من خلال تقديم الخبرات الفنية والمساعدة اللازمة لضمان تضمين أفضل الممارسات في الدستور. ومع ذلك، يجب أن تبقى عملية صياغة الدستور بقيادة سورية خالصة، من دون فرض أجندات خارجية قد تعيق التوافق الوطني أو تُضعف السيادة السورية.
في النهاية، ورغم التحديات الجسيمة التي تواجهها البلاد، من انقساماتٍ اجتماعية عميقة إلى تدخلات خارجية معقدة، فإنّ سورية لديها القدرة على تجاوز أزمتها الحالية. ذلك يتطلّب إرادة سياسية حقيقية، ودعماً دولياً ذكياً يراعي خصوصية الوضع السوري، وحواراً وطنياً شاملاً يضمن مشاركة جميع الأصوات. بهذه الأدوات، يمكن لسورية أن تتحوّل من دولةٍ ممزّقة بفعل الصراع إلى دولة تحتفل بتنوّعها وتضمن حقوق جميع مواطنيها، بغضّ النظر عن انتماءاتهم العرقية أو الدينية أو الثقافية. هذا ليس حلماً بعيد المنال، بل هو طريق ضروري نحو مستقبل أكثر أماناً وازدهاراً للجميع.
العربي الجديد
—————————–
الثامن من آذار السوري.. هل نعود للاحتفال بالاستقلال والدستور؟/ محمد م. الأرناؤوط
22 فبراير 2025
كان الثامن من آذار/ مارس عام 1920 يوماً بارزاً في تاريخ دمشق والمشرق، حيث شهد إعلان المؤتمر السوري استقلال “المملكة العربية السورية”، وانتخاب الأمير فيصل بن الحسين ملكاً دستورياً. جاء ذلك بعد تحوّل المؤتمر السوري إلى مجلس النوّاب، الذي منح الثّقة للحكومة التي يرشّحها الملك بناءً على البرنامج الذي تقدّمه في المجلس. في تلك الأثناء، سارع المجلس إلى مناقشة وإقرار مشروع الدستور، حتى وصول القوات الفرنسية إلى مشارف ميسلون في تموز/ يوليو 1920.
وعلى الرغم من أنَّ القوات الفرنسية تقدّمت واحتلّت دمشق في ذلك العام، وأقصت الملك فيصل، إلّا أنّ “يوم الاستقلال” في الثامن من آذار/ مارس بقي حيّاً في الذاكرة، نظراً للاحتفال به كلّ سنة في سورية وحتّى في الأردن (الذي كان ضمن المملكة السورية حتى تموز/ يوليو 1920) إلى أن حدث الانقلاب العسكري في اليوم نفسه من عام 1963 ضدّ الحُكم الديمقراطي. سُوّق الانقلاب باعتباره “ثورة” ضدّ “الانفصال” لإعادة الوحدة مع مصر التي لم تعد، بل تحوّلت إلى “نشر غسيل” بين الدولتين حتى 1967.
وكما هو معروف، فقد شاركت في هذا الانقلاب العسكري قوات تمثّل المستقلّين وقوات تمثّل الناصريين (جاسم علوان وغيره)، وقوات تمثّل “اللجنة العسكرية” (محمد عمران وصلاح جديد وحافظ الأسد وغيرهم)، التي حكمت لاحقاً باسم حزب البعث بعدما تشتّتت بين العفلقيّين والحورانيّين، وبين القوميّين والقُطريّين.
وهكذا، بعد حركة الثامن عشر من نيسان/ إبريل الفاشلة عام 1963، أُقصي الناصريّون والمستقلّون عن الحُكم، وأصبح الثامن من آذار “ثورةً قادها حزب البعث”، ليتحوّل منذ 1964 إلى “عيد الثورة”، مغيّباً بذلك عيد الاستقلال الذي بقي عطلة رسميّة في الأردن حتّى عام 1962.
ومع احتكار السلطة باسم “ثورة 1963″، أصبح المنهج الجديد للعام الدراسي 1963 – 1964، يُغيّب الثامن من آذار السوري لصالح الثامن من آذار البعثي، واستمرّ هذا التوجّه يتعمق أكثر بعد 1970 ليكرّس “القيادة التاريخية” للأسد الأوّل، وليفتح الباب في عام 2000 للأسد الثاني، وينتهي الأمر بدكتاتورية العائلة الأسدية التي حكمت سورية خلال 1970 – 2024، وخلّفت مجازر وتشوّهات عميقة في المجتمع السوري كأيّ دكتاتورية.
وكان من الطبيعي مع احتكار السلطة وفرض رؤيتها من خلال الأجهزة على المناهج التعليمية أن ينشأ جيلان لا يعرفان من تاريخ سورية سوى حكم آل الأسد، حتّى أنَّ أحد زملائي ألقى مرّة محاضرة في الألقاب التي خُلعت على الأسد الأوّل، وبلغت 99 لقباً فقط. وفي هذا السياق، لم يكن من المفاجئ أن تتجاهل دمشق تماماً (التي كان يسوقها النظام باعتبارها “قلب العروبة النابض”) مئويّة الحكومة العربية في دمشق في 2018، ومئويّة إعلان الاستقلال في الثامن من آذار/ مارس 1920، ومناقشة الدستور الجديد للبلاد في الوقت الذي كانت تقام فيه حول ذلك ندوات في لبنان والأردن!
ولذلك يبدو اليوم، مع سقوط الدكتاتورية الأسدية، والحديث عن الهوية الوطنية السورية الجامعة، أنّه قد آن الأوان لاستعادة سورية لتاريخها الحديث الذي يبدأ مع “الحكومة العربية” في دمشق التي أعلنها الأمير فيصل في عام 1918، وقامت بإنجازات كبيرة يكفي أن نذكر منها ما بقيّ حتى الآن، مثل: “مجمع اللغة العربية”، الذي كان أول مجمع في المنطقة العربية، و”الجامعة السورية”، التي تأسّست نواتها في 1919، مع كليّتي الطب والحقوق، وكانت أوّل جامعة حكومية في المشرق العربي.
في هذا السياق، من الضروري إعادة الاعتبار إلى أمرين رئيسين: الثامن من آذار السوري، المعروف بيوم الاستقلال في عام 1920، ليحلَّ محل الثامن من آذار البعثي الذي اختزل تاريخ سورية منذ عام 1963 في حزب قام بانقلاب عسكري على نظام ديمقراطي، وتحوّل لاحقاً إلى حكم دكتاتوري تحت قيادة الأسدين. يمتدّ هذا التاريخ من إقرار الدستور السوري الأول في عام 1920 حتى وصول القوات الفرنسية إلى مشارف ميسلون.
وتجدر الإشارة هنا إلى أنَّ الأمير فيصل في افتتاحه للمؤتمر السوري في عام 1919، كان قد ركّز على دوره لوضع دستور جديد للبلاد، وهو ما قام به المؤتمر خير قيام مع تشكيل لجنة لوضع الدستور رأسها هاشم الأتاسي وكان سكرتيرها عزت دروزة. ويذكر دروزة في مذكّراته أنَّ اللجنة استأنست بدساتير كثيرة لوضع مشروع دستور سوري خلال ستّة أشهر فقط، بينما جرى نقاشه وإقراره مادة مادة خلال آذار/ مارس – تموز/ يوليو 1920.
وبروح هذا الدستور أُعلن المؤتمر السوري الأمير فيصل ملكاً دستورياً في الثامن من آذار/ مارس 1920، ثم نوقشت وأُقرّت حوالي نصف موادّه بينما كانت القوات الفرنسية بقيادة الجنرال غورو من بيروت تهدّد وتُنذر وصولاً إلى تحرّكها باتجاه دمشق في الأسبوع الأخير من تموز/ يوليو 1920. ومن المُثير أنّ المناقشات الغنيّة التي جرت في المؤتمر السوري، التي أصبحت الحكومة مسؤولة أمامه، حول مشروع الدستور كانت تُثمر أفضل دستور في المنطقة سواء بنظام الحُكم الذي أُقرّ في البند الأول الذي يتعلّق بنظام الحُكم أو في البنود الكثيرة المرتبطة بالحُكم اللّامركزي وحقوق الأقليات.
كانت النخبة السورية واعية آنذاك إلى أنّها في سباق مع الزمن، خاصة بعدما أعلن مجلس الحلفاء في اجتماعه بسان ريمو خلال نيسان/ إبريل 1920 توزيع الانتدابات على بلاد الشام، وتقنين التدخّل باسم “حماية الأقلّيات”. ولذلك حاولت النخبة السورية الواعية إعطاء الأولوية لإقرار بنود الدستور التي تتعلق بنظام الحُكم والنظام اللامركزي، الذي اعتُبر مناسباً للتنوع السكاني في سورية، لقطع الطريق على أيّ تدخّل خارجي باسم “حماية الأقلّيات”. وهكذا حسم إقرار المادة الأولى من مشروع الدستور الأمر بأن وجّه رسالة إلى “العالم المتحضّر” بأن “حكومة المملكة العربية السورية حكومة مدنية نيابية عاصمتها الشام ودين ملكها الإسلام” وأن “المملكة السورية تتألف من مقاطعات ذات وحدة سياسية لا تقبل التجزئة” (المادة الثانية)، وأن “المقاطعات مستقلّة استقلالاً إدارياً ويسن المؤتمر قانوناً خاصاً يبين فيه حدود هذه المقاطعات” (المادة الثالثة).
وقد أُعطيت الأولوية في المؤتمر لإقرار الموادّ التي لها علاقة باللّامركزية الإدارية (الفصل الحادي عشر) التي شكّلت 22 مادّة من أصل 148 مادة للدستور. فقد أوضحت المادة 123 أن “المقاطعات تدار على طريقة اللامركزية الواسعة في إدارتها الداخلية ما عدا الأمور العامة التي تدخل في خصائص الحكومة العامة”، وأنه “لكل مقاطعة مجلس نيابي يدقق ميزانية المقاطعة ويسنّ قوانينها ونُظمها المحلّية وفقاً لحاجاتها ويراقب أعمال حكومتها” (المادّة 124)، و”لا تقلّ مساحة كلّ مقاطعة عن 25 ألف كم” (المادّة 125).
هل نُصدّق أن كلَّ ما ورد في موادّ دستور 1920 قد أُقرّ في الوقت الذي كان يرأس فيه المؤتمر السوري شيخ مُعمّم هو محمد رشيد رضا، ونحن نسمع الآن ما يدور في دمشق من نقاش وتشكيك في هذه الأمور الأساسية التي اتفق عليها آباء الدستور السوري الأول وأعضاء المؤتمر السوري قبل 105 سنوات؟
* كاتب وأكاديمي كوسوفي سوري
العربي الجديد
—————————-
الإعلام السوري زمن الحرية… كتابة بيد هجرتنا/ سنان ساتيك
22 فبراير 2025
تصل ورقة من وزارة الدفاع السورية إلى الناطق باسم وزارة الخارجية جهاد مقدسي في مايو/أيار 2012، ليخرج في مؤتمر صحافي يدحض فيه وقوع مجزرة الحولة (20 كيلومتراً شمال غرب مدينة حمص وسط سورية)، ولاتهام قوات “المعارضة المسلحة” بأنها من ارتكبتها. بتلك الطريقة، يدار الإعلام في بلاد الظل، فهناك أشخاص مخفيون دائماً يرسلون برقيات وتعليمات وبيانات لقراءتها على مسامع الشعب، وإيصال أفكار خدّاعة.
لا يحتاج السوريون إلى معرفة تلك المعلومة كي يدركوا الخط الإعلامي وسياساته التحريرية في بلدهم المنهك بإيجازات وبيانات ونشرات أخبار، وسماع بيانات انتصار “الجيش العربي السوري” في حربه على “المجموعات المسلحة”، فهم لا يلزمهم تأكيد المؤكد، لأن إدارة الإعلام في الأنظمة السلطوية والديكتاتورية معلومة، فما بالنا في بلد مثل سورية كل شيء محسوب فيه؟
الإعلام السوري كان دائماً مقيداً موجهاً عبر صحفه الرسمية الثلاث (البعث، تشرين، الثورة)، ووسائله المرئية والمسموعة. في مطلع الألفية، ظهرت محاولات فردية بـ”دعم” من رئيس النظام المخلوع بشار الأسد، وناورت في هوامش “الحرية والانفتاح” التي ادعاها لما صعد إلى سدّة الحكم، لكنها سرعان ما اصطدمت بالعراقيل الأمنية والتضييقات، ما اضطرها إلى الإغلاق، حتى إن الرئيس الفارّ صم أذنيه عن المناشدات لإعادتها إلى العمل، فقضى بذلك على “مشروعه الإعلامي الذي وعد به من حرية تعبير وانفتاح آراء…”.
لم يكن الإعلام في الخمسين عاماً الأخيرة يوماً حراً إلا بما تريد السلطة تمريره، وما تبتغي خلفه من رسائل ترصد ردات الفعل عليها. لقد جعل النظام الحاكم الرأي مكتوماً وانطلق بعالم الإعلام في رحاب الأدلجة حتى يضخ في وعي ولاوعي الجمهور ما يريد أن يسمعه للناس، ويلقنهم ما يحب أن يسمع وما يرغب في بثه فيهم كي يرددوه تلقائياً، فكثرة ترداد الشعارات والخطاب تجعلهما ينسلان إلى النفس ويترسخان فيها ويمسيان الرأي الذي تنطق به العامة قصداً أو عفو الخاطر.
سقط النظام السوري في الثامن من ديسمبر/كانون الأول 2024. ما الذي تغير في الخطاب الإعلامي السوري بعد ذلك التاريخ؟ ما مصير حرية التعبير؟ كيف سيكون التعاطي الرسمي مع الانتقادات؟ أسيكون نسخة عن إعلام النظام؟ هل سيتبع الوسائل نفسها من تمجيد وتستر على الأخطاء؟ إلامَ يستند في رؤيته المستقبلة؟
حتى الآن، لا يزال التلفزيون السوري الرسمي موقوفاً عن البث (يقال إنه سيعاود البث بداية مارس/آذار المقبل)، كون بنيته التحتية متهالكة ومعداته قديمة وهناك عملية إعادة هيكلة في كوادره، والصحف معطلة عن الصدور. الخطاب الرسمي غير موجود فلا نستطيع تقييم السلطة الجديدة وتعاطيها الإعلامي. كل ما يصدر عنها من قرارات وتعيينات غامض، يسعى خلفها متلقو الأخبار في وسائل التواصل الاجتماعي وقنوات “تليغرام”، وكثيراً ما يحدث تضارب في نقل المعلومة فيقع الناس في حيرة من أمر الخبر إن كان صحيحاً أم لا. الإعلام الرسمي هو وجه الدولة وصورتها، لا ينبغي أن يكون خارج الصفوف. لا بد أن يكون في الصف الأول يتابع ويراقب وينقل الحدث.
السلطة الحالية مقصّرة إعلامياً، فهي لا تقدم رواية تؤرخ ما يحدث في البلاد وتبين طرق المعالجة. إنها تتبع الغرف المغلقة في “تليغرام” ونشطاء ينقلون أخباراً، قد تكون أحياناً غير مؤكدة، متجاهلة مركزية الإعلام بأنه خط معرفي يفتح الآفاق والمجالات لإيصال المعرفة/ المعلومة/ الخبر، فهو يتقصاها ويلملمها حتى تغدو أمام العامة يستطلعونها ويعرفونها.
كثيراً ما ترد أخبار عن “تجاوزات وانتهاكات ترتكبها عناصر متفلتة وخارجة عن السيطرة” (بحسب توصيف جهاز الأمن العام)، ما يحدث حيرة وارتباكاً إن كانت تلك الحوادث صحيحة أو فيها تضخيم أو تهويل، فلا يزال أشخاص يسعون إلى زرع الفرقة والفتن في المجتمع، والسلطة الجديدة تعاونهم في ذلك بغياب إعلامها الرسمي الذي ينبغي أن يخرج على الملأ ويوضح الصورة. مرحلة الحرب انتهت فلا داعي لأن يكون الإعلام الحالي حربياً يجعل مريد المعلومة يتقصاها عبر حسابات ناشطين ومؤثرين قد يخطئون أو يصيبون.
من تلك الانتهاكات ما حدث في قريتي مريمين وفاحل في ريف حمص الغربي أواخر الشهر الماضي (تكررت منتصف الشهر الحالي ثم دخل الأمن العام إليها في التاسع عشر منه)، ثم في قرية أرزة التابعة لمحافظة حماة وسط سورية، ثم في حي الورود في ريف دمشق. ما يهم هنا ضياع الرواية، فلم تبيّن السلطة ما يحدث، وتركت الأمر نهشاً لوسائل التواصل الاجتماعي، فوقع الناس في حيص بيص، لكن كثيراً من الإعلاميين كانوا سلطويين أكثر من السلطة، فلقد انبرى معظمهم، وهم من المحسوبين على الثورة، ليقدموا صورة منافية للواقع تناقض رواية الأهالي، لكن جاءهم الجواب من السلطة، تحديداً من محافظ حمص الذي زار منطقتي مريمين وفاحل وأقر بالتجاوزات ووعد بمحاسبة المسؤولين.
لقد تبنوا الصورة ونقلوها عبر ما شاهدوه في مواقع التواصل الاجتماعي. لم يصلوا إلى أماكن تخدم أخلاقيات المهنة وإيصال المعلومة من أرض الواقع، لم يرافقوا إدارة العمليات والأمن العام، ما خلا عدداً بسيطاً منهم. لا يزالون يهللون للسلطة ولقراراتها وإن كانت غير صائبة وتحتاج إلى مراجعة أو تعديلات. الإعلام “الثوري” لم يعد ثورياً. لقد بات الآن إعلاماً سلطوياً ينافح عن الإدارة الحالية. لم ينتقد السلطة وبعض ممارساتها ولم يقوّمها، فالوظيفة الأساسية هي النقد وتصويب الخطأ وكشف المناطق المخفية، والعثور على الحقيقة في لحظات يعز على الآخرين كشفها. يمشي الإعلام الفردي الحالي (ليس كله) في سياق السلطة ويمتدحها. قد يكون ذلك خوفاً لكنه سلوك غير مبرر من المؤسسات المحسوبة على الثورة السورية ودعم الشعب السوري، فمن لم يهب الأسد لا ينبغي له أن يكون خائفاً اليوم من سلطة توفر “حيزاً مقبولاً لحرية التعبير والعمل الإعلامي”.
مقابلة مع وزير الإعلام في الحكومة الانتقالية السورية محمد العمر/ العربي الجديد
يقتضي العمل الإعلامي المهنية في نقل الحدث وألا يقحم ناقل الخبر نفسه فيه كي لا يكون جزءاً منه وتحكمه أهواؤه. هذه المهنية تأتي مترافقة مع الناحية الأخلاقية، وهذان شيئان أساسيان لا بد من توفرهما في نقل الخبر، هما شرطان لم يتحققا في تلك الحواث، فكأنما أولئك يريدون أن يكونوا سلطويين أكثر من السلطة نفسها، ويرغبون في أن يدافعوا عنها وهي من تعترف بالأخطاء وتعد بتصحيحها. إن قامت تظاهرات ضد السلطة الحالية، كيف سيكون رد فعلهم؟
إعلاميو الثورة كثيرون نشطوا في سورية كلها وبرعوا، إما عبر مبادرات فردية أو مع المؤسسات التي يعملون فيها، فالإعلام يزيل الضغائن وينحّيها عندما ينزل إلى موقع الحدث، وينقل الصورة الحية الحقيقية مسكتاً كل الأقاويل والتهويلات والتنبؤات التي تنتشر عبر السوشال ميديا (وما أكثرها!).
إذاً، يعتمد الإعلام حالياً على ناشطين ومؤثرين ذوي أهواء ومصالح محددة، قليلون منهم مستقلون، فالحالة السورية تحتاج إلى خطاب إعلامي جامع، ذي توجه وطني موجه إلى الناس عامة، إلى السوريين جميعاً، يصيغ محاور عديدة ويتبنى معايير تخدم قضاياهم الحياتية وتطلعاتهم المستقبلية، كي لا يصبح نسخة عن إعلام النظام الذي كان موجهاً ومداراً بحنكة وفق مفردات تلائمه وتخدم توجهاته وسياساته. لا يجب أن تترك الصورة قاتمة غائمة، فلا مناص من نقلها فوراً وتوضيحها وعرضها كما هي، فـ”السوشال ميديون” اليوم ليسوا على سوية واحدة، فكثيرون منهم يبررون قتل مدنيين، وأنه طبيعي، متبنين خطاباً انتقامياً تحريضياً.
لا ريب أن طريق الإعلام وعر، وفي المنطقة العربية أشد وعورة، لكنه أخّاذ جذّاب، فالإعلاميون المحسوبون على الثورة أصابتهم الحماسة ونشوة الخلاص من بشار الأسد وهتفوا لذلك. حتى لو لم يكن الخبر في صالح السلطة ينهض أولئك “السوشال ميديون” ويقولون إنه عين الصواب، وإن كان ضدها يقولون إنه مبالغة وتهويل، مستخدمين تعابير وألفاظاً لا تليق بالنفس البشرية وبالعمل الإعلامي.
المعركة السورية الآن معركة وعي، سلاحها الإعلام الوطني المدني المستقل، فله الدور الأهم فيها لينقل الواقع كما هو من دون برامج مهيئة وأفكار معدة أو أهداف قد تتكرر فيها الأخطاء السابقة وتصبح الكتابة بأيدي من سبقونا.
العربي الجديد
——————————————-
كيف تستعيد سوريا توازنها الديموغرافي المفقود؟/ اسماعيل درويش
يشترط مراقبون خلق دولة جديدة تبتعد من ثقافة المجتمع المتجانس وتعمل نحو خلق آخر متناغم قوامه الوحدة في التعدد والتنوع
السبت 22 فبراير 2025
ملخص
أنفقت إيران مليارات الدولارات لدعم عمليات التهجير ونشر التشيع والتغيير الديموغرافي في سوريا، واضطر الملايين للنزوح، لكن غالبية النازحين واللاجئين كانوا من السنة، وتعرض بعض الطوائف والأعراق الأخرى للنزوح، فيما غادر كثير من مسيحيي سوريا البلاد أو أوروبا وأميركا، واليوم ينتظر السوريون دولة مدنية تخلصهم من براثن الطائفية.
لم يكن التدخل الإيراني في سوريا مشابهاً للتدخل الروسي، لا من حيث النوعية ولا من حيث الأهداف، إذ إن كلا الطرفين دخلا لدعم نظام الأسد عسكرياً وسياسياً ومحاولة منع سقوطه، إلا أن موسكو بدت أهدافها مختلفة عن طهران، كما أن الطرفين تنافسا في قطاعات مختلفة خلال وجودهما في سوريا بعد عام 2011.
بالنسبة إلى إيران، كانت تريد من سوريا أن تكون ضمن “المحور الإيراني” والذي يسمى “محور المقاومة” بهدف تحقيق نظرية “وحدة الساحات”، بحيث يسهم نظام بشار الأسد في تسهيل دخول الأسلحة والدعم لـ”حزب الله” اللبناني، وفي المقابل قدمت له آلاف العناصر من الميليشيات الطائفية لمواجهة السوريين، أما الهدف الثاني ولعله الأهم إحداث تغيير في التركيبة السكانية لسوريا.
وفي عام 2011، كانت الغالبية العظمى من سكان سوريا هم من العرب المسلمين السُّنة، ويشكلون أكثر من 70 في المئة من إجمال سكان البلاد، أما الباقون فهم طيف واسع من مختلف الطوائف والأعراق، وهي صورة عكست فسيفساء سورية لها إيجابياتها وقت السلم، وسلبياتها وقت الحروب، وهنا عملت إيران على محاولة تغيير مسار الثورة، التي كانت في البداية تطالب بإصلاح سياسي في البلاد على أساس وطني، إلى مسار طائفي.
عمل قائد فيلق القدس السابق في الحرس الثوري الإيراني قاسم سليماني على محاولة اختزال الثورة الطائفية في “التكفيريين”، وأسهم في نشر التشيع وعقد اتفاقات التهجير التي نقلت عشرات الآلاف من سكان الغوطة الشرقية في دمشق، والجنوب السوري ومدينة حمص إلى الشمال السوري بالباصات الخضراء الشهيرة.
اللافت للانتباه أن كثيراً من قوافل باصات التهجير الخضراء كانت عندما تنطلق من غوطة دمشق إلى حلب لا تسلك مسارها الطبيعي، فكانت تجري في بعض الأحيان جولة على بعض القرى العلوية في الساحل السوري قبل أن تذهب إلى الشمال، وهو ما عد محاولات إيرانية أخرى لزيادة الشرخ الطائفي داخل البلاد.
خلال الثامن من ديسمبر (كانون الأول) 2024، سقط نظام الأسد وكان هذا الحدث التاريخي إعلاناً بخسارة إيران لسوريا، وبهذه الخسارة تحطم جميع المشاريع الطائفية التي أنفقت لأجلها إيران مليارات الدولارات، وقتل بسببها كبار قادة الحرس الثوري ومئات العناصر، لكن هل خروج طهران من سوريا يعني انتهاء قضية التغيير الديموغرافي؟ وهل يعود التوازن الديموغرافي للبلاد؟ وهل تختفي الطائفية من سوريا بعد هذه الملحمة؟
أهداف التغيير الديموغرافي
الدكتور نجيب جورج عوض هو باحث أكاديمي وأستاذ جامعي سوري وبروفيسور اللاهوت المسيحي ورئيس برنامج الدكتوراه في كلية هارفرد للدراسات الدينية وحوار الأديان في ولاية كونيتيكت الأميركية، يقول في حديثه إلى “اندبندنت عربية”، إن “التغيير الديموغرافي في سوريا لم يكن مقترناً شرطياً بوجود إيران في البلد، بل كان نتيجة سياسة ممنهجة مارسها النظام من أجل خلق ما تحدث عنه بشار الأسد من خلال مفاهيم (سوريا المفيدة) و(المجتمع المتجانس)… عودة التوازن الديموغرافي تعني خلق سوريا جديدة تبتعد من أيديولوجية (المجتمع المتجانس) وتعمل نحو خلق (مجتمع متناغم) قوامه (الوحدة في التعدد والتنوع)، هذا وحده هو الكفيل بجعل جميع أطياف وجماعات وشعوب سوريا تشعر بأنها تنتمي للبلد وأنها جزء لا يتجزأ من كيان سوريا البشري”.
بخصوص مشاريع نشر التشيع والتغيير الديموغرافي التي عملت عليها إيران في سوريا، يؤكد البروفيسور جورج عوض أن “تلك المشاريع تركت آثاراً جانبية وتأثيرات سلبية في البلد وفي بنية المجتمع، وإن كانت لم تحقق أهدافها وغاياتها بصورة كاملة وكلية”. وينوه عوض إلى أنه “علينا فقط أن ننتبه هنا إلى أن مغادرة المسيحيين واليهود للبلد لم تبدأ فقط مع تنامي الوجود الشيعي فيها، التناقص الديموغرافي المسيحي واليهودي له تاريخ قديم يعود إلى مرحلة ما بعد الاستقلال، ومعظم يهود سوريا هاجروا إلى إسرائيل مع تأسيس دولة لليهود في فلسطين بدءاً من خمسينيات القرن الـ21، والمسيحيون كانوا وما زالوا يعيشون حال هجرات متتالية ومستمرة من سوريا ومن المشرق العربي عموماً نحو الغرب منذ عقود طويلة تعود لبدايات القرن الماضي، وتنامت وتزايدت مع وصول الأسد و’البعث‘ للسلطة ومن ثم اندلاع الثورة السورية الأخيرة والحروب بين القوى الأممية والإقليمية داخل سوريا”.
ويرى البروفيسور السوري أن “مشروع النظام الأسدي البعثي للتغير الديموغرافي فشل، ولكن هناك تغييرات ديموغرافية بنيوية ما زالت تعانيها سوريا، مثل التغيير الديموغرافي الذي حدث في محافظة إدلب وشمال سوريا ومنطقة الجزيرة، نعلم أن معظم أهل إدلب من كافة الخلفيات غادروا مناطق عيشهم بسبب دخول جبهة النصرة و’هيئة تحرير الشام‘ إليها، وهم لم يعودوا بعد إلى بيوتهم ومناطقهم ليعاودوا العيش فيها، نعلم أيضاً أن كثيراً من أهل الجزيرة اضطروا إلى النزوح من مناطق عيشهم بسبب الهيمنة الكردية والوجود الداعشي، وهم كانوا من كل الخلفيات ولم يعودوا بعد إلى مناطق عيشهم الأصلية، نعلم كذلك أن سوريا اليوم تحوي أكثر من 40 ألف متطرف إسلاموي أجنبي غير سوري، وأن هناك رغبة بتوطينهم ومنحهم جنسيات سورية، من ثم توطينهم في مناطق كانت تعود لسوريين من أهل الأرض… هذه كلها أمثلة تغييرات ديموغرافية عميقة وحقيقية ما زالت موجودة في المشهد وهي لم تفشل أو تنتهي بعد”.
خطوات تغيير التركيبة السكانية
من جهته، رأى الباحث السوري المتخصص في الشأن الإيراني ضياء قدور أن “قضية التوازن الديموغرافي في سوريا تعد واحدة من أبرز الملفات التي شغلت الاهتمام الإقليمي والدولي، وبخاصة مع الوجود الإيراني في البلاد الذي كان يسعى إلى إحداث تغيير ديموغرافي في بعض المناطق السورية. وسعت طهران منذ بداية تدخلها في سوريا إلى تغيير التركيبة السكانية في مناطق كانت تعد معظمها سنية، عبر تشجيع توطين عائلات شيعية في هذه المناطق وتحقيق نفوذ طويل الأمد، لكن على رغم الجهود الكبيرة التي بذلت فشل هذا المشروع في تحقيق أهدافه بصورة كاملة”.
وقال قدور إن “أحد الأسباب الرئيسة التي أدت إلى فشل هذا التغيير هو عامل الزمن، إذ إن عملية التغيير الديموغرافي التي قادتها إيران كانت تحتاج إلى فترات طويلة لتتمكن من التأثير بصورة كبيرة على التركيبة السكانية، وشكل انتصار الثورة السورية أهم العوائق أمام تحقيق أهداف إيران في تغيير التركيبة السكانية بصورة دائمة، واستطاع الثوار في كثير من الأحيان الحفاظ على مناطقهم وإعاقة الخطط الإيرانية التي كانت تسعى إلى تحويل بعض المناطق إلى مناطق ذات غالبية طائفية معينة”.
وعدَّ أن “الظروف الاقتصادية المتدهورة كانت عاملاً مساعداً لمشروع إيران، بل يمكن القول إنها وفرت أرضاً خصبة لهذا التغيير، إذ إن فقدان الثقة بالنفس في ظل الحرب المستمرة والتدهور الاقتصادي جعل عدداً من المواطنين السوريين، خصوصاً في المناطق الفقيرة، يلجأون إلى معتقدات دينية جديدة كانت توفر ملاذاً آمناً في وقت كانت فيه الحياة اليومية تتسم بالاضطراب وعدم الاستقرار، وكان هذا التدهور الاقتصادي يسهم في تقوية النفوذ الإيراني الذي كان يستخدم الحوافز المادية والدينية لتوطين عائلات شيعية في مناطق معينة، من ثم وعلى رغم المحاولات المستمرة لتغيير الواقع السكاني لم يتحقق التوازن الديموغرافي بالصورة الذي كانت إيران تأمل فيها، في ظل الظروف السياسية والعسكرية التي لا تزال تعيشها البلاد، ومع مرور الوقت أصبح واضحاً أن تحقيق التغيير الجذري في التركيبة السكانية يحتاج إلى زمن طويل، وهو ما يصعب تحقيقه في سياق الأحداث السريعة التي شهدتها سوريا خلال عام 2024”.
هل تختفي الطائفية من البلاد؟
من وجهة نظره، ذكر البروفيسور نجيب جورج عوض أنه “لا يوجد طائفية في سوريا، بل يوجد طوائفية وهناك فرق بنيوي وعميق وصارخ بين الحالتين. سوريا فيها تعدد طوائفي وهذا أمر صحي وبناء، وفيه غنى وعمق مجتمعي للبلد، ما لم تعان سوريا منه في الماضي هو الطائفية، وهي أيديولوجية سوسيولوجية تقوم على تصنيف الذات قيمياً وشيطنة الآخر والانعزال عنه والتعادي التضادي معه، نحن لم نكن كلبنان، إذ أصيبت طوائفها بمرض ’الطائفية‘ ودخلت في حرب أهلية، أما سوريا فلم تصب بمرض الطائفية، ولهذا ما حدث فيها في السنوات الماضية لم يكن حرب أهلية على الإطلاق ومن الخطأ العلمي والتحليلي والموضوعي أن نقول إن ما حدث في سوريا كان ’حرباً بين الأهالي‘ أو ’حرباً بين الطوائف‘، بل كانت ’حرباً ضد جميع الأهالي‘، و’حرباً على كل الطوائف‘ شنها نظام مجرم بربري سفاح”.
ومضى في حديثه “أخاف من تفشي مرض الطائفية بين طوائف سوريا الآن في هذه المرحلة، بسبب الأعمال الفردية الانتقامية والعنفية والعدائية والتكفيرية والأصولية التي تمارسها فئات معينة مسلحة باسم الإدارة الحالية وتحت غطائها التسامح معها ضد شرائح مجتمعية أخرى في المشهد السوري، وكذلك فإن غياب تطبيق العدالة الانتقالية والإمعان في احتضان مجرمي النظام السابق وفاسديه وأتباعه قد يدفع الشارع السوري إلى التشظي والتفكك طائفياً، بعد أن كان يتمتع بالتنوع والتعدد والتناغم طوائفياً”.
قدور نبه إلى أنه “مع استمرار الصراع، بات من المؤكد أن الطائفية لن تختفي بسهولة من المشهد السوري، لكنها قد تظل موجودة تحت سطح الأحداث في صورة متفاوتة، لكن ما يمكن أن يتغير هو وعي المجتمع، إذا توافرت فرص للمصالحة الوطنية، وإعادة بناء البلاد على أسس أكثر شمولية، وتتطلب هذه العملية عدالة اجتماعية وتعاملاً دقيقاً مع جميع المكونات الاجتماعية والطائفية بما يضمن السلام والاستقرار طويل الأمد”.
هل يعود مسيحيو سوريا؟
الحرب التي شنها النظام السابق في سوريا ضد شعبه من مختلف الأعراق والطوائف، تسببت أيضاً بهجرة لعدد كبير من مسيحيي سوريا والآن بعد سقوط النظام يسأل كثر في ما إذا كان مسيحيو سوريا سيعودون إلى وطنهم. وهنا يجيب البروفيسور جورج عوض بقوله إن “المراقب العلمي لا يستطيع أن يتنبأ بالمستقبل ولا يجب أن يفعل ذلك، المؤشرات الموجودة اليوم في الساحة والمتوافرة بين أيدينا تقول إن إمكانية العودة ضعيفة إن لم تكن غير واردة، كما نسمع من كثير من المسيحيين في الخارج، هناك أفراد باتوا يودون بشدة زيارة البلد والتردد عليه من جديد، وبخاصة الذين لديهم عائلات ما زالت تحاول النجاة في أرض سوريا المحروقة… ولكن، هل يعني هذا أنهم سيعودون للاستقرار داخل البلد من جديد؟ هذا سؤال مفتوح وبرهن تطورات الوقائع على الأرض في سوريا، إن تحولت سوريا إلى نموذج سني معادل للنظام في إيران، فلن يعود المسيحيون (وربما كثير من المسلمين السوريين أيضاً) إلى سوريا، ولكن إن تحولت سوريا المستقبل إلى نموذج يشبه تركيا أو الإمارات فأعتقد أن هذا سيشجع كثيراً من المسيحيين على العودة والمساهمة في بناء البلد”.
يختلف الباحث السوري حسام جزماتي مع عوض وقدور، معتبراً أن ما جرى من تغيير للتركيبة السكانية في سوريا كان “هدفه قمع الثورة وتغيير الوجه السياسي بالمنطقة، فالسكان السوريون كانوا رافضين لوجود بشار الأسد بالسلطة، فتم تهجيرهم لرفضهم النظام، وبالمعنى الاصطلاحي لم يكن هناك تغيير ديموغرافي بقدر ما كان هذا التغيير سياسي، أما بالنسبة إلى الذين تهجروا واللاجئين فهؤلاء عودتهم مرتبطة بإعادة الإعمار، أو في الأقل وجود حد أدنى من الخدمات الأساس”.
وقال جزماتي إن “المشاعر الطائفية في سوريا كانت موجودة حتى قبل الثورة، لكنها لم تكن متأججة، والآن هي تحتاج إلى وقت طويل كي تختفي، ومما سيسهم في اختفاء الطائفية في سوريا هو تحقيق العدالة في البلاد”.
وفي المحصلة النهائية يبدو أن جميع ما أنفقته إيران من أجل إحداث تغيير ديموغرافي في سوريا تلاشى كلياً، أما في ما يتعلق باختفاء اللغة الطائفية من البلاد فقد يكون ذلك مرهوناً بقيادة سياسية تراعي التنوع الذي تمتاز به سوريا عرقياً وطائفياً، والحل في ذلك يكمن بدولة مدنية.
—————————–
مجزرة حماة 1982.. هل تعيد الحكومة السورية الجديدة فتح التحقيق؟/ فضل عبد الغني
22/2/2025
تُمثِّل مجزرة حماة عام 1982 واحدةً من أفظع الجرائم الجماعية التي شهدتها سوريا في تاريخها الحديث، حيث أودت بحياة عشرات الآلاف من المدنيين، وتركت في الذاكرة الوطنية جرحًا عميقًا لم يلتئم بعد.
وقد اكتسبت هذه المجزرة أبعادًا إضافيةً في ضوء التطورات السياسية الأخيرة التي شهدتها البلاد، والمتمثِّلة بسقوط نظام الأسد وتشكيل حكومة انتقالية جديدة. ففي ظل هذا التحول الجوهري، يصبح فتح ملفّ المجزرة واستجلاء حقائقها ومحاسبة المتورطين فيها شرطًا أساسيًا لبناء دولة قائمة على سيادة القانون واحترام حقوق الإنسان.
ولا يمكن فهم ضرورة إعادة فتح ملف مجزرة حماة بمعزلٍ عن مبادئ العدالة الانتقالية، تلك المنظومة التي طُوِّرت خصيصَى لمساعدة المجتمعات الخارجة من نزاعاتٍ داخلية أو أنظمةٍ حكمٍ استبدادية على تجاوز إرث الماضي القمعي، والانتقال إلى مرحلة جديدة قوامها الحقيقة والمحاسبة وجبر الضرر وضمان عدم تكرار الانتهاكات.
ومن منطلق هذه المبادئ، يغدو الاعتراف الرسمي بالجرائم السابقة والانتهاكات الممنهجة خطوةً مفصليةً في تحقيق المصالحة الوطنية والسِلم الأهلي.
سياق سياسيّ مختصر
شكّلت تجرِبة استيلاء حزب البعث على السلطة في سوريا عام 1963 نقطةً مفصلية في التاريخ السياسي المعاصر للبلاد، إذ أُجهِضت حينها كلُّ الآمال ببناء نظامٍ دستوريٍّ برلمانيٍّ تعددي، وجاء “انقلاب الثامن من مارس/ آذار” ليضع مقاليد الحكم بشكلٍ شبه مطلق في يد اللجنة العسكرية لحزب البعث.
وفي خضمّ التغييرات التي أعقبت تلك المرحلة، برز حافظ الأسد بوصفه أحد أبرز أعضاء هذه اللجنة، ثم انتزع السلطة لنفسه عام 1970 فيما عُرف بـ«الحركة التصحيحية»، ليحكم قبضته على المؤسسات الرئيسة، مُحكِمًا السيطرة على مفاصل الدولة والمجتمع.
خلال تلك الحقبة، أحكم نظام الأسد سيطرته على السلطات الثلاث: (التنفيذية والتشريعية والقضائية) عبر منظومةٍ من القوانين والإجراءات الأمنية المكثفة. فقد جرى ضرب ركائز الحياة السياسية الحقيقية بمؤسساتها وأحزابها المستقلة، ودمج النقابات والاتحادات المهنية ضمن أُطُر رسمية حزبية.
وفي ظلّ هذا المناخ الخانق، هيمن نمط “حزبٍ واحدٍ، قائدٍ واحد”، وتلاشت أيّ منافذ للمعارضة السياسية أو للتعبير الحرّ.
ومع انعدام الرقابة الدولية الفعّالة وتداعيات الحرب الباردة، وجد نظام الأسد نفسه مطلق اليد في التعامل مع من يعتبرهم خصومًا، الأمر الذي مهّد الطريق لوقوع انتهاكات كبرى على غرار مجزرة حماة عام 1982، والتي ما كانت لتصل إلى هذا المستوى من العنف المنهجي، لولا استقرار نظامٍ يفتقر إلى أي التزام حقيقي بحقوق الإنسان، أو بالضوابط الدستورية والرقابية.
مجزرة حماة فبراير/ شباط 1982
على وقع التوترات السياسية والأمنية التي شهدتها البلاد أواخر السبعينيات ومطلع الثمانينيات، اندلعت في مدينة حماة مواجهات عنيفة بين قوات النظام السوري ومسلحين معارضين (بينهم من انضوَوا تحت جماعة الإخوان المسلمين أو تعاطفوا معها).
وقد استغلَّ النظام هذه المواجهات المحدودة ليشنَّ حملةً أمنيةً وعسكريةً واسعة النطاق على المدينة بأسرها، بدءًا من مطلع فبراير/ شباط 1982، واستمرت نحو شهرٍ كامل، مُوظِّفًا أقصى درجات العنف والتوحش.
حجم القوات المشاركة والطابع “الممنهج” للهجوم
وجَّه النظام السوري آنذاك تشكيلات عسكرية ضخمة نحو مدينة حماة، شملت قوى الوحدات الخاصة وسرايا الدفاع وبعض ألوية الدبابات، إضافةً إلى أجهزة الأمن والمخابرات.
فرضت هذه القوات حصارًا خانقًا على المدينة، فقطعت عنها الماء والكهرباء وخطوط الاتصال، لتتحول حماة إلى منطقةٍ معزولةٍ عن العالم الخارجي. وفيما كان الدافعُ المعلن هو القضاء على “جيوبٍ مسلحةٍ”، فإنَّ حجم الانتشار العسكري والأساليب المتبعة أظهرا أن الهدف الحقيقي كان معاقبة المدينة وسكانها، وذلك بالنظر إلى استخدام أساليب، مثل: القصف بالمدفعية والطيران، وعمليات الإعدام الميداني، والنهب المنظَّم للأحياء السكنية.
تكشف الشهادات التي جمعها باحثون وحقوقيون (انظر تقرير الشبكة السورية لحقوق الإنسان بمناسبة الذكرى الأربعين لمجزرة حماة في فبراير/ شباط 2022)، خلال السنوات اللاحقة – على ندرتها وصعوبة التحقق منها آنذاك بسبب التعتيم الإعلامي – عن نهجٍ ممنهجٍ في الهجوم، اتُّبع فيه نمط “التدمير الشامل” للأحياء التي عُدّت حاضنة للمعارضة المسلحة، دون تمييزٍ فعليٍّ بين مدنيين ومسلحين. وبذلك تحوَّل ما وُصف أول الأمر بـ”عملية أمنية محدودة” إلى أضخم الحملات القمعية في تاريخ سوريا الحديث.
تقديرات الضحايا وحجم الانتهاكات
يصعب الوصول إلى أرقامٍ دقيقةٍ بشأن حصيلة القتلى والمفقودين جراء التعتيم الشديد الذي فرضه النظام على المدينة. ومع ذلك، تتقاطع التقديرات الحقوقية والدراسات اللاحقة لتشير إلى مقتل ما بين 30.000 و40.000 مدني خلال تلك الحملة، علاوةً على نحو 17.000 شخصٍ يُرجَّح أنهم تعرّضوا للاعتقال التعسفي أو الإخفاء القسري، ولا يزال مصير معظمهم مجهولًا حتى اليوم. وانتشر في المدينة العديد من المقابر الجماعية.
الدمار الشامل ونهب الممتلكات
لم تقتصر الانتهاكات على القتل والاعتقال الواسع فحسب، بل شملت أيضًا التدمير الكبير لقطاعاتٍ واسعةٍ من أحياء المدينة، خاصة الأحياء التاريخية في مركزها وأطرافها القديمة.
وقد تصاعدت عمليات القصف المدفعي والجوي لتسوِّي مبانيَ بأكملها بالأرض، ومنها مساجد وكنائس وأسواق تقليدية تُمثِّل ذاكرةً تراثيةً طويلة للمدينة.
وبالتوازي مع ذلك، سُجِّلت حوادثُ كثيرةٌ للنهب المنهجي، حيث جُرِّد العديد من المنازل والمتاجر من محتوياتها على يد عسكريين أو عناصر ترتدي بزّاتٍ مدنية تابعة لأجهزة الأمن، ثم جرت عمليات إحراقٍ متعمدة في بعض الأسواق والمحال والمنازل.
تركت هذه الحملة العسكرية المدمرة تأثيراتٍ بعيدة المدى على النسيج الاجتماعي والاقتصادي للمدينة؛ إذ نزحت عائلاتٌ بأكملها من حماة؛ هربًا من العنف، وصودرت منازل ومحال تجارية، واختُبِرت أجيالٌ عديدةٌ بمشاعر الخوف والصدمة والإحساس بالظلم.
تجاهل المجزرة دوليًا ومحليًا
رغم ضخامة الجرائم التي ارتُكِبَت في حماة عام 1982، لم تشهد تلك الفترة أي تحرّك رسمي أو دولي يمكن وصفه بالفاعل؛ إذ غاب تمامًا عن المشهد أي تحقيق أممي مستقل لتقصي الحقائق، بل حتى في المنظمات الحقوقية الدولية كان التناول شبه معدومٍ. ففي ذروة المجزرة، كانت سوريا تخضع لتوازناتٍ إقليمية ودولية متشابكة: إذ انقسم العالم بين معسكرين أثناء الحرب الباردة، ما جعل كثيرًا من الانتهاكات الحقوقية في الشرق الأوسط تمرّ دون مساءلة حقيقية.
وعلى الصعيد المحلي، فرض النظام السوري تكتيمًا إعلاميًا مُحكَمًا؛ أغلقت الصحف المستقلة في وقت مبكر من عهد البعث، وسيطر الخطاب الرسمي على المنافذ الإعلامية القليلة المتبقية.
ومع استمرار قانون الطوارئ المفروض منذ عام 1963، ضاقت إلى الحدّ الأقصى مساحة أي حراك سياسي مستقلّ يمكنه أن يُطالب بالتحقيق أو المحاسبة. ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد، بل تحوّل الحديث عن مجزرة حماة إلى “تابو” يُعرِّض مَن يتجاوزه للملاحقة والاعتقال. وهكذا تعذّر على الناجين أو أهالي الضحايا إيصال معاناتهم، وفقد الكثيرون الثقة بإمكانية تحصيل العدالة في ظل هيمنة السلطة المطلقة على القضاء والبرلمان والإعلام.
أسهم هذا التجاهل، محليًا ودوليًا، في ترسيخ ثقافة الإفلات من العقاب على مدى العقود اللاحقة. فقد وجّه النظام رسالة مفادها أنه قادر على ارتكاب انتهاكات جسيمة ضد المدنيين دون خشية من أي عقابٍ داخلي أو دولي. وخلَق هذا الوضع فراغًا استمرت تبعاته مع تفاقم انتهاكاتٍ مشابهة، حيث افتقد السوريون – ولا سيما أبناء حماة – إلى أي فرصة للمساءلة أو جبر الضرر.
لقد أدّى هذا التجاهل إلى تشجيع نظام الأسد على ارتكاب مزيدٍ من الانتهاكات في السنوات والعقود اللاحقة، مستندًا إلى التجربة السابقة في الإفلات من العقاب.
فحين يغيب الردع الخارجي تزداد الجرأة لدى السلطة الحاكمة على توظيف الوسائل العنيفة كلما ارتأت في ذلك صيانةً لبقائها. ولم يكن لقضية حماة أن تظلّ عالقةً في الذاكرة السورية كجرحٍ مفتوحٍ فقط، بل تحوّلت أيضًا إلى نموذجٍ يذكرُ من خلاله المواطنون والمعارضون على حدٍّ سواء، كيف يمكن للنظام أن يستخدم قوته المطلقة في غياب المحاسبة الدولية.
أهمية استعادة هذا الملف اليوم
عندما اندلعت الاحتجاجات الشعبية عام 2011، عادت ذاكرة حماة لتطفو على السطح، سواء على مستوى المجتمع الذي استحضر ماضي المجزرة كرمزٍ للبطش السلطوي، أو على مستوى السلطة الأمنية التي لجأت مجددًا لمنهج القمع العنيف.
وبهذا المعنى، يمكن القول إن أحداث 2011 لم تكن سوى استمرارٍ لتاريخٍ قمعيٍّ ظلَّ بلا رادع، نتيجة التقصير الدولي، وغياب المساءلة عن الجرائم الكبرى لنظام الأسد، بدءًا من حماة وصولًا إلى الانتهاكات الموثّقة حديثًا.
في ظل التحولات السياسية الراهنة وسقوط نظام الأسد، تصبح إعادة فتح ملف مجزرة حماة خطوةً ضروريةً لأجل إنصاف الضحايا، ولضمان عدم تكرار مثل هذه الممارسات مستقبلًا.
وعلى المستوى الدولي، يتطلَّب هذا التصحيح تحرّكًا فعليًا من قِبَل المنظومة الأممية ومنظمات حقوق الإنسان، سواء عبر تشكيل لجان تحقيق دولية مختصة قادرة على الوصول إلى الحقائق، أو من خلال دعم الحكومة السورية الجديدة في إرساء أسسٍ قانونيةٍ وإداريةٍ للتعامل مع إرث المجزرة.
دور الحكومة السورية الجديدة
تواجه الحكومة السورية الجديدة مسؤولية تاريخية في إرساء أسس العدالة الانتقالية، والتي تبدأ بإلغاء القوانين التي كرّست ثقافة الإفلات من العقاب، لا سيما تلك التي منحت عناصر الأجهزة الأمنية حصانة قانونية ضد الملاحقة القضائية.
فالمراسيم التشريعية، مثل المرسوم رقْم 14 لعام 1969، منعت أيضًا تحريك أي دعوى ضدهم دون إذنٍ رسميٍّ من القيادة العليا، مما أدى إلى ترسيخ شعورٍ بالحصانة المطلقة لدى الجهات الأمنية والعسكرية.
وقد انعكست هذه القوانين سلبًا على بنية النظام القانوني، حيث أصبح من شبه المستحيل فتح أي تحقيق جادّ في الجرائم والانتهاكات الجسيمة التي وقعت خلال العقود الماضية. وعليه، فإن أحد أهم الأدوار التي يجب أن تضطلع بها الحكومة الجديدة، هو إصدار تشريعات صريحة تُبطل مفعول هذه القوانين وتعيد للقضاء استقلاليته، بحيث يصبح من الممكن محاكمة المتورطين في الجرائم الكبرى، وفق معايير المحاكمة العادلة.
إلى جانب الإصلاحات التشريعية، يبرز دور التوثيق وجمع الشهادات كركيزة أساسية للوصول إلى الحقيقة. فالانتهاكات الجسيمة، مثل مجزرة حماة، لا يمكن التعامل معها بفاعلية دون جمع الأدلة وإجراء تحقيقات شفّافة ومستقلة.
في هذا السياق، يصبح تشكيل لجنة وطنية للتحقيق أمرًا بالغ الأهمية، على أن تضم قضاة وخبراء قانونيين مستقلين وممثلين عن أهالي الضحايا، مع منحها صلاحيات واسعة للوصول إلى الوثائق الأمنية، واستدعاء الشهود، وتحليل الأدلة.
إنّ التحديات التي تواجه عمليات التوثيق، مثل: التقادم الزمني، وندرة الوثائق الرسمية، تجعل شهادات الناجين وعائلات الضحايا والمطلعين على الأحداث مصدرًا لا غنى عنه لإعادة بناء الحقيقة.
لذا، فإن الحكومة الجديدة مطالبة بتوفير بيئة آمنة لحماية الشهود، إضافةً إلى دعم إنشاء أرشيف وطني يحفظ شهادات الضحايا والأدلة المتوفرة لتوثيق ما حدث ومنع طمس الحقائق أو تحريفها مستقبلًا.
إلى جانب التحقيقات القضائية والتوثيق، يعد الكشف عن الحقيقة الكاملة لمصير آلاف المفقودين أثناء مجزرة حماة عاملًا حاسمًا في تحقيق العدالة وردّ الاعتبار لعائلات الضحايا.
فخلال الحملة العسكرية، اختفى ما يقارب 17.000 شخص، ولا تزال عائلاتهم تجهل مصيرهم حتى اليوم، مما يجعل البحث عنهم واستعادة رفاتهم مطلبًا ملحًّا. يتطلب ذلك تشكيل فرق مختصة في البحث والتحرّي، تضم خبراء في الطب الشرعي والتعرف على الحَمض النووي، بهدف تحديد مواقع المقابر الجماعية، وتحليل الرفات لتحديد هوية الضحايا.
إن تسليم رفات الضحايا لعائلاتهم هو خطوة أساسية في مسار الاعتراف الرسمي بالجرائم المرتكبة، ويساهم في التخفيف من معاناة العائلات التي ظلت لعقود تعيش في حالة من الألم والانتظار.
إضافةً إلى ذلك، فإن اعتراف الحكومة الجديدة بمجزرة حماة ودمجها في السجل التاريخي الرسمي من خلال المناهج التعليمية والمناسبات الوطنية يمثل بُعدًا هوياتيًا ضروريًا، يمنع طمس الحقائق أو تحريفها في المستقبل، ويضمن أن تكون هذه الأحداث درسًا للأجيال القادمة.
علاوة على كشف الحقيقة، يتعين على الحكومة الجديدة اتخاذ تدابير ملموسة لجبر الضرر الواقع على الضحايا وعائلاتهم، سواء على المستوى المادي أو المعنوي. فالخسائر التي تسببت بها المجزرة لم تقتصر على فقدان الأرواح، بل امتدت إلى تدمير الممتلكات ونهب المنازل وتشريد الأسر، مما يستوجب وضع برامج تعويض تعيد بعض الحقوق المسلوبة.
ويشمل ذلك تقديم تعويضات مالية عادلة لعائلات الضحايا والناجين، إضافةً إلى إعادة الممتلكات المصادرة أو تعويض أصحابها وفق قيمتها السوقية. كما ينبغي أن تشمل عمليات جبر الضرر تقديم اعتذار رسمي من الدولة، وإقامة نصب تذكاري تخليدًا لذكرى الضحايا، وضمان تقديم دعم نفسي واجتماعي للناجين وأسر المفقودين، الذين لا يزالون يعانون من آثار الصدمة.
أما على مستوى الضمانات المستقبلية لمنع تكرار مثل هذه الجرائم، فإن الإصلاح المؤسسي يمثل أحد المحاور الأساسية التي يجب أن تركز عليها الحكومة الجديدة. فمن دون إصلاح جذري للأجهزة الأمنية والقضائية، سيظل خطر إعادة إنتاج الاستبداد قائمًا.
يتطلب ذلك إنشاء آليات رقابية مستقلة للإشراف على أداء الأجهزة الأمنية، واستبعاد المسؤولين المتورطين في الانتهاكات الجسيمة من مواقع السلطة، وتعزيز استقلال القضاء ليتمكن من محاسبة أي تجاوزات مستقبلية. كما ينبغي إدماج مبادئ حقوق الإنسان في المناهج التعليمية، لضمان نشوء جيل جديد أكثر وعيًا بقيم العدالة والمساءلة.
إضافةً إلى ذلك، يتعين وضع إطار تشريعي يجرّم بشكل واضح الجرائم ضد الإنسانية، بما يشمل التعذيب، الإخفاء القسري، والاستهداف الجماعي للمدنيين، مع توفير آليات قانونية تتيح ملاحقة المسؤولين عن هذه الجرائم بغض النظر عن مناصبهم. وإلى جانب هذه الإصلاحات الداخلية، ينبغي تعزيز التعاون مع المنظمات الحقوقية الدولية لضمان حيادية التحقيقات، والاستفادة من الخبرات العالمية.
خاتمة
يمثّل ملف مجزرة حماة 1982 اختبارًا حقيقيًا لمدى جدية الحكومة السورية الجديدة في النهوض بمسؤولياتها حيال الماضي وطيِّ صفحته على أساسٍ عادل. فمن دون الشروع في تحقيقٍ شفافٍ وتفعيل آليات محددة لمساءلة المسؤولين وتعويض المتضررين، سيظل الإرث القمعي لنظام الأسد والموالين له حاضرًا، وستتعذر أيّ مصالحةٍ وطنيةٍ.
وفي هذا الإطار، لا بدّ من مدّ جسور التعاون بين الجهات الرسمية السورية الجديدة والهيئات والمنظمات الدولية، بحيث تزوّد الأخيرةُ تلك الجهات بالدعم الفني والقانوني اللازم، وتضفي شرعيةً دوليةً على أي خطواتٍ تُتَّخذ على المستوى الوطني.
وتظلّ هذه الإجراءات مجتمعة السبيل الأمثل لردم الفجوة التاريخية الناجمة عن “التقصير الأممي” في الثمانينيات، والدليل العملي على أن سوريا تختار اليوم مواجهة ماضيها بشكلٍ مختلف.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.
مؤسس ومدير الشبكة السورية لحقوق الإنسان، حاصل على الماجستير في القانون الدولي، ومتوّج بالجائزة الفرنسية الألمانية لحقوق الإنسان عام 2023
الجزيرة
————————————-
متوجسة وخائفة وعاجزة/ رشا عمران
21 فبراير 2025
أنا أعيش صدمة ما بعد التحرير وسقوط النظام. لا أعرف كيف أشرح هذا، لكنني منذ لحظة سقوط النظام وأنا أعيش في دوامة تدور بي بقوة بحيث بتّ عاجزة عن إيقافها أو عن إيقاف كتلتي عن الدوران معها لأبحث عن منفذ ما للخروج منها. أنا عاجزة عن فعل أي شيء خارج المتعلق بسورية، رغم أنني لم أذهب بعد إليها كما فعل الكثير من الأصدقاء، ليس فقط لأسباب لوجستية تتعلق بالأوراق الرسمية وثبوتيات الإقامة في مصر، أو تتعلق أيضا بالوضع المادي، حيث الحديث عن غلاء المعيشة في سورية هذه الفترة يجعل امرأة مثلي تتريث قليلا ريثما يتاح لها أن توفر ما يكفي لهذه الرحلة، خصوصا أنه لا منزل لي في دمشق، ولم يعد لي فيها أصدقاء يمكنني أن أتطفل عليهم، كلهم خارج سورية، وكلهم لم يعودوا بعد، لأسباب تشبه أسبابي. أنا لم أذهب حتى الآن لأنني مرتبكة وخائفة ومتوجسة، ولأنني لا أعرف إن كنت سأحتمل صدمة رؤية دمشق بعد كل هذا الوقت. ولأنني، أيضا، وقد تستغربون ذلك، خائفة من أن أتعرض لأي سؤال أو لأية مشكلة بسبب الطائفة التي أنتمي لها! خائفة أن لا يشفع لي تاريخي الطويل في معارضة النظام، ولا يشفع لي اسمي المطلوب لعدة فروع أمنية سابقة، ولا تشفع لي آلاف المقالات والمنشورات التي كتبتها في صحف العالم عن إجرام نظام الأسد. أنا خائفة ومرتبكة، وحين أقرر السفر إلى سورية يجب أن أتشارك هذه التجربة مع صديق ما، يخفف عني صدمة الوصول ويطمئن مخاوفي التي تزداد يوما بعد يوم كلما أجلت موعد العودة أكثر.
أعرف أن مخاوفي هي نتيجة هوسي اليومي بتصفح وسائل التواصل الاجتماعي، حيث التهويل والتحريض لا يتوقفان، وحيث الأخبار المضخمة والأخبار المزيفة تتوالى كل ساعة، وحيث خطاب الكراهية يكفي ليشعل حربا أهلية لو أنه يحدث على الأرض. يقول لي الأصدقاء الذين زاروا سورية وعادوا إن وسائل التواصل لا تعبر عن حقيقة ما يجري، نعم هناك توتر طائفي على الأرض لكنه أقل بكثير مما هو على وسائل التواصل، وهناك انتهاكات طائفية لكنها ليست مطلقا بحجم ما يروّج لها على وسائل التواصل، يقولون إن السوريين في الداخل مشغولون حاليا بتأمين معيشهم اليومي، فالوضع الاقتصادي والمعيشي والخدمي هو ما يخلق هذا التوتر حيث كل طرف يحمل المسؤولية لطرف آخر. يقولون لي أيضا إن ما يريده سوريو الداخل اليوم هو أن يعيشوا فقط، وأن يعيشوا تعني أن يأكلوا ويشربوا ويذهبوا إلى أشغالهم وأن يتسوقوا ويتزاوروا، هذا ما يريدونه حاليا وهذا وحده ما سوف يخفف تلك التوترات الطائفية التي يستغلها من لا يريد لسورية أن تستقر وتهدأ وتُبنى من جديد.
لكنني فعلا مصابة بصدمة ما بعد التحرير بعيدا عن كل ما سبق؛ أنا اليوم عاجزة عن قراءة أي كتاب، عاجزة عن كتابة الشعر، عاجزة عن كتابة مقالات لا تتعلق بسورية، عاجزة عن متابعة فيلم سينمائي، عاجزة عن الجلوس مع أصدقاء يتحدثون بغير الشأن السوري، عاجزة عن التفكير بغير حاضر سورية ومستقبل سورية ووضع سورية، عاجزة عن استعادة روتين حياتي. أشعر كما لو أن الحياة التي عشتها خلال الأربعة عشر عاما الماضية قد تركزت الآن حول محور وحيد تلف حوله؛ أو كما لو أن حياتي كانت معتقلة في معتقل سوري وخرجت منه إلى الفراغ، حيث كل شيء قد تغير وحيث عليها التدرب من جديد على كل شيء كي تستمر.
أشعر أن حياتي كائن منفصل عني، أراقب قلقه وتشتته وحيرته وأنا عاجزة عن طمأنته ووضع مسار له يستهدي به. أشعر أن حياتي أشبه بكرة هشة ستنفجر في وجهي في أية لحظة دون أن أتمكن من منع هذا.
أفكر بما الذي يربكني هكذا. لقد تحقق الحلم الذي انتظرته منذ عام 2011، سقوط نظام الأسد إلى الأبد، صارت عودتي إلى سورية ممكنة وسهلة ومتاحة، لماذا أنا مرتبكة إذًا؟ لقد استقرت حياتي خلال الخمس عشرة سنة الماضية، صارت لها هيكلية وثوابت: أنا مقيمة في مصر بعد أن أسست حياتي فيها من الصفر، وبنيت صداقات وعلاقات حميمة استلزمت مني جهدا ووقتا حتى أنجزتها. أنا ضد النظام الحاكم في سورية الذي أجبرني على مغادرتها ويمنعني من العودة إليها تحت طائلة الاعتقال، أصدقائي وحاضنتي الاجتماعية التي كنت أعيش ضمنها في سورية تشتت وتفرقت. صارت لي علاقات وصداقات وحاضنة اجتماعية جديدة في مجتمع آخر دخلت فيه في مرحلة الكهولة التي هي أصلا تجعل الروح أكثر استقرارا وركونا لفكرة الاقتراب من النهاية من دون خوف الشباب. ولأنني لن أتمكن من العودة إلى سورية فأنا مشغولة بفكرة أين سأعيش شيخوختي، وكيف سأعيشها وأنا لا دخل لي سوى عملي في الكتابة التي لن تمكنني من امتلاك منزل يحمي شيخوختي، والتي يمكن أن تتوقف لأسباب ذاتية أو خارجية. هذه كلها ثوابت تترافق مع روتين يومي وحياة صحية أعيشها منذ أن تم إنقاذي من الموت بعد جلطات متواصلة أوصلتني إلى إجراء عملية خطيرة في القلب في القاهرة، الجراح الذي أجرى لي العملية هو صديقي ومالك البيت الذي أستأجره وعيادته في نفس الطابق الذي أسكن فيه. المعالج النفسي أيضا الذي ساعدني علي تخطي ما أصابني طيلة هذه السنوات هو صديقي. هكذا تدور حياتي في مصر، ضمن أطر واضحة ومحددة، حسناتها واضحة ومساوئها واضحة، وأنا أتعامل مع هذا الوضوح بحسب المُتاح. لا أعرف إن كان سهلا على الآخرين فهم هذا الروتين حتى في الشكوى. ذلك أن شكواي أيضا هي روتينية. تتعلق بالورق الرسمي وتفاصيل الإقامة والدخول والخروج من مصر، والتي أيضا باتت من اليوميات المنغصة التي سوف تحل بوقت ما عن طريق أحد ما. كل ما سبق هي ثوابت شكلت هيكلية محددة لحياتي التي كانت تبدو كما لو أنها سوف تستمر هكذا إلى أن تحين ساعتي. لكن لحظة الإعلان عن سقوط نظام الأسد والفرح العظيم الذي شعرت به ونوبة البكاء الكبيرة التي دخلت بها خلخلت كل تلك الثوابت وفككتها وألقتها جانبا. خصوصا وأنني لم أكن في بيتي في مصر، بل كنت وحيدة في مارسيليا حيث كانت مصر قد أصدرت قرارا بمنع دخول السوريين كلهم دون استثناء إلى مصر إثر تغير النظام، جاء القرار قبل موعد طائرة عودتي بست ساعات، فبقيت في مارسيليا أنتظر الفرج.
ها أنا الآن إذًا وحدي أواجه الفراغ الهائل الذي خلفه سقوط تلك الثوابت وتفكك الهيكلية التي كانت تحدد مسارات حياتي وتجعلني متوازنة بعد أن تأقلمت معها بشكل كبير وأعيش حياتي بناء على وجودها بدون أن تعطل شيئا من سبل عيشي. ها أنا الآن وحدي أواجه فراغا يصعب وصفه أو فهمه، فراغ أول ما يفعله هو تثبيت العجز عن استعادة بعض التوازن المبعثر اللازم لاستعادة تفاصيل حياتي اليومية وروتينها. مع أنني عدت إلى القاهرة، إلى بيتي الذي أحبه، وإلى دائرة أصدقائي ومعارفي، وها قد مضى أكثر من شهرين على تلك اللحظة ومع ذلك أبدو كما لو أنني ما زلت أعيشها مع فارق أن الفرح قد زال وحلّ مكانه الترقب والقلق مما سيأتي. ورغم يقيني الكامل بأنني لم أعد قادرة علي تقديم ما هو مفيد لسورية خارج الكتابة وأن من عليه الفعل الآن هم شباب وصبايا سورية إضافة إلى أصحاب رؤوس الأموال، إلا أنني لا أستطيع، حتى اللحظة الإتيان بأي فعل خارج التفكير أو متابعة ما يحدث في سورية، كما لو أنني عالقة هناك، وهو تماما يشبه ما حدث لي قبل أربعة عشر عاما حين خرجت من سورية في اتجاه مصر، وبقيت وقتا طويلا عاجزة عن التأقلم مع حياتي الجديدة. أنا الآن كما لو أنني أستعيد الزمن بظروف لوجستية مختلفة لكنها علي المستوى النفسي تكاد تكون متطابقة. كنت أود أن أسمي ذلك لعنة الانتماء إلى سورية، لكنني لست غيبية، أنا امرأة تؤمن بالمنطق، وما يحدث لي هو المنطق الذي يسيّر منطقة بلاد الشام ويحكم شعوبها منذ ما يقارب قرنين من الزمن.
ضفة ثالثة
———————————
هل تكفينا العدالة القادمة من الأعلى/ فدوى العبود
21 فبراير 2025
في كتابه “الجمهورية” يقول أفلاطون لكل من غلوكون وأديمنتس: “إنّ العدالة ليست فرديّة، وإنما هي عدالة مرتبطة بشكل مباشر مع العدالة العامة”. وفي المجازر الكبرى تواجه العدالة صعوبات كثيرة ولا يخلو طريقها من تحديات.
تجاوز تعبير “العدالة الانتقالية” الهيئات الحقوقية ومنظمات المجتمع المدني إلى تفاصيل الحياة اليومية للسوريين على اختلاف توجهاتهم وتوجُّساتهم، إذ يحدثك بائع البن واللحام وسائق التاكسي عن تصوره للعدالة التي لم تكن لتتحقق لولا سقوط النظام السوري الذي جثم على قلوب السوريين لنصف قرن.
وفيما يخص أولياء الدم فالتوقعات كبيرة والآمال كثيرة ومثلها المخاوف، وفي مقابلها تشعر فئة من السوريين أنها – بطريقة أو بأخرى- وقفت في صف الجاني أو صمتت عما جرى فحامت حولها الظنون. إذ ورّط النظام قسمًا كبيرًا من السوريين، أوغل بعضهم في الدم وشعر بعضهم الآخر بالعار رغم براءته من هذا الدم.
وهناك من يرى أن العدالة تتطلب وقتًا لفداحة المجزرة والعدد الهائل للضحايا، وثمة من لا يملكون الصبر غافلين عن النتائج الكارثية للانتقام، بينما يطالب قسم كبير الإدارة الحالية بتسريع تحقيق العدالة حتى لا تخرج الأمور عن السيطرة. والأخيرة – أي الإدارة- ومع التركة الثقيلة والعدد الكبير للمنتهكين تعرف ولا شك حجم التحديات التي تنتظرها.
لا شك في أن سردية الألم السوري عميقة، وعلى كافة الأصعدة، فالسوريون على قناعة أن كلًا منهم تعرض إلى الظلم بطريقة ما، فالوعي المجتمعي ما يزال عالقًا عند سرديات اتهام متبادلة، بعضها محق والآخر خلقته أجهزة النظام السابق وإعلامها ودعايتها الرسمية وغير الرسمية.
وبعض هذه التحديات لم ينشأ الآن، بل تجذّر على مدار أكثر من خمسة عقود تمت خلالها شيطنة صورة الآخر. فالسرديات التي تشكلت على مدى 54 عامًا شكلت حاجزًا من سوء الفهم الذي ضخمته الإشاعات وبناء صورة غير واقعية عن الآخر، تداولها الشارع السوري كالنكتة، غافلًا عن أنها لم تكن سوى وسيلة لتعميق الشرخ الذي ملأته الدماء في الـ13 سنة الأخيرة من حكم بشار الأسد. فقد لعبت حقبة والده في تخويف السوريين من بعضهم عبر تغذية سرديات مناطقية أو طائفية أو إثنية، بعضها يشيطن الآخر وبعضها ينال من وجوده عبر السخرية أو التقليل (حكايات يعرفها السوريون جيدًا).
أن نقول الحقيقة على نحو أفضل يعني أن نعترف بكوننا مختلفين، وهذا الاختلاف هو بالضبط ما ضخمه الطابور الخامس للسلطة، فجعله منطلق عداء لا نقطة ثراء. وقد ساعد جهل السوريين ببعضهم في خلق هذه الفجوة بين من يفترض أنهم شركاء وطن واحد. وفي جولة صغيرة يمكنك أن تسمع سرديتين للظلم – مع التأكيد أن لا ظلم يعادل ظلم الأسد ولا مجازره- لكن كل السوريين نالوا حصتهم من “سرديات الألم”.
وإذا كانت التدابير القضائية والمصالحة الوطنية وتخليد الذكرى وغيرها من شروط العدالة الانتقالية، فما ينتظر الإدارة الحالية كثير، لعل أحدها تفكيك هذه السرديات عبر المعرفة (أن يعرف السوريون بعضهم)؛ ما يعني أن أمامهم عملًا كثيرًا. فالظلم ليس ما يقع عليك بل ما توقعه بنفسك حين تظلم غيرك، وكي لا يتكرر ما حدث فمن أهم أولويات العدالة الانتقالية ترميم العلاقات الاجتماعية التي طاولها شرخ أفقي على مستوى الحاضر وعمودي على مستوى الذاكرة.
إذ لم يخرب الأسد حاضر السوريين فقط بل عبث بذاكرتهم وشوّه ملامح ماضيهم ليستأثر بمستقبلهم ويمحوه. يقول بعض السوريين بضرورة النسيان، وفي هذه الحالة ربما علينا أن نتذكر، بل من الضروري أن نتذكر. وفي لغة رواندا “كيوكا” تعني في المحلية “التذكر”، ونحن الآن نتذكر أن كل من ظلمونا لا يختلفون عن حسن نجيزي، مهندس الإبادة الجماعية في رواندا، الذي قال عند محاكمته أمام محكمة الجنايات إنه إنما كان “ولد شوارع”.
لقد عبث بحاضرنا مجموعة من الأوغاد وتركوا مستقبلنا مثل قصعة في العراء. لذلك فثمة حاجة عميقة لدى السوريين ليرووا سردياتهم، بدون أن يعني ذلك التنازل عن تبيان حقيقة ما حدث ومحاسبة المسؤولين وجبر الضرر للمكلومين. لكن خصوصية الجرح السوري الغائر تضعه على المحك بين الإخفاق أو أن يكون نموذجًا ملهمًا مستمدًا من خصوصية الواقع السوري.
ثمة تجارب كثيرة في مجال العدالة الانتقالية، بعضها كان نموذجًا يحتذى وبعضها الآخر لم يستطع أن يؤتي كامل وعوده والمتوقع منه (رواندا، جنوب أفريقيا وتشيلي). وفي تجربة رواندا حول العدالة الانتقالية، ثلاث فئات: “من شاركوا في عمليات القتل الفردي والشروع فيه والأذى الجسدي. والثانية من تورطوا باعتداءات على الآخرين وممتلكاتهم بدون النية أو التسبب في القتل. أما الفئة الأخيرة فلجرائم النهب والتهريب. تدرجت العقوبات تنازليًا”. لكن رواندا استفادت من تاريخها القديم في محاسبة الفئة الثالثة أو الأقل جرمًا من خلال ما سمي بـ”الجاكاكا” وهو يعني “العشب القصير”، فكانت فيها محاكم تقليدية تعتمد على العرف وتستهدف تحقيق العدالة السريعة للتعافي المجتمعي. تشجع هذه المحاكم على المواجهة بالحوار بين الجاني وذوي الضحايا، وقضاتها من شيوخ القرية أو المجتمع إذ يفترش القضاة الأرض في الساحات العشبية ويستمعون لذوي الضحايا وأقوال الجناة.
إن تضميد الجراح الاجتماعية يحتاج إلى أن يفترش السوريون هذا العشب القصير، مع التأكيد على محاسبة الجناة وتعويض ذوي الضحايا، لكن على المستوى الاجتماعي فالطريق طويل. إذ يقع على عاتق السوريين وحدهم تحقيق عدالتهم، مع التأكيد على أن ضريبة تأخر العدالة الانتقالية باهظ الثمن. لكن ثمة تحديات كثيرة وأسئلة يطرحها السوريون، منها ما يتعلق بضرورة أن يخضع الجميع للعدالة ومنها مخاوف أن تقتصر على الأضعف بين الجناة. ما هو النموذج الأنسب؟ هل سنترك للمجتمع الدولي أن يتولى ذلك؟ وهل ستكون عدالة تصالحية أم عقابية؟ هل سيكون العدل شاملًا؟ هل يمكننا أن نتعلم مما حدث وألا نسمح له بتدمير حياتنا وأخذنا إلى دائرة الثأر والانتقام؟
تتأرجح السردية السورية بين قميص يوسف الذي أرسله إلى يعقوب – عليهما السلام- من الجنة، وهذا هو السر أن يعقوب ارتد بصيرًا من ساعته، وقميص عثمان الذي كان يعرض على رؤوس الأشهاد للتحريض على الأخذ بالثأر.
وفي كل حال تصور العدالة بامرأة معصوبة العينين، لأنها تقتضي المساواة بين الخصوم بدون تمييز، أما الميزان الذي تحمله فهو إحقاق الحق وفق القانون من دون أن يميل إلى كفة ما، بينما السيف هو العقوبة الرادعة والقصاص من الجاني الذي أخل بميزان الوجود. والعقوبة هي إعادة كفتي الميزان لتكونا متساويتين. ويواجه السوريون اليوم طريقًا محفوفًا بالتحديات، أحدها ألا نترك جراحًا غائرة ومظلوميات جديدة في طريقنا لتحقيق العدالة.
*كاتبة سورية.
إحالة: رحلة رواندا من آلام الإبادة الجماعية إلى تجربة المصالحة والعدالة الانتقالية، عماد ناصف، مجلة الفراتس، 16/7/2024.
ضفة ثالثة
==
رحلة رواندا من آلام الإبادة الجماعية إلى تجربة المصالحة والعدالة الانتقالية/ عماد ناصف
تجاوز كثيرٌ من الروانديين اليوم الألم وعبروا إلى عهدٍ جديدٍ بعد عقودٍ أثقلها الانقسام والصراع وانتهت بإبادةٍ جماعيةٍ أزهقت أرواح مليون إنسان
2024-07-16
بينما كان رئيسُ رواندا “بول كاجامي” وزوجتُه “جانيت” يضيئانِ شعلةَ إحياءِ الذكرى الثلاثين للإبادةِ الجماعية في رواندا في السابع من أبريل 2024 كانت “نورا” تجلس في بيتها مع صديقتَيها يشاهِدْن الاحتفالَ على التلفاز كما اعتَدْن كلَّ عام. تتذكر نورا “أيام الدم” عندما هاجمَها وعائلتَها مئاتٌ من قبيلة “الهوتو” حاملِين السكاكين والمناجل والعصيّ، لكنها نجت مع خالتها “أوتشي” في رحلة هروبٍ مريرةٍ تعيش قسوةَ ذكراها كلَّ عام. تقول أوتشي: “نجوتُ من المجزرة مع ابنة شقيقتي نورا … فقدتُ في ليلةٍ واحدةٍ كلَّ عائلتي وشاهدتُ دفنَ أمي وشقيقتي وأخي في مشهدٍ لم يفارق ذاكرتي لحظة”. لم تعثرْ أوتشى على باقي عائلتِها فقد اختفت جثامينُهم مع مئات الآلاف من قبيلتها “التوتسي”. نظرةُ طفلَيها الأخيرةِ اختفت مع عيون مئاتِ الأطفال الآخَرين في حرب إبادةٍ جماعيةٍ عصفَت برواندا “بلد الألف تلّ”.
في دراسةٍ أعدَدْتُها سنة 2018 عن إعلام الموت عنوانها “مليون قتيل والفاعل معلوم”، عن المذابح التي ارتُكِبَت بحقّ الروهينجا في بورما، عرّجتُ على التجربة الرواندية نموذجاً للقتل الجماعي. ومع الذكرى الثلاثين للإبادة الجماعية أَقتربُ أكثر من الحكاية لأرويَ تفاصيلَ أُخرى من القاهرة بمعيّةِ صديقٍ سودانيٍ يعيش في رواندا فضّل حجبَ اسمِه، ساعَدَني على الترجمة في تواصلي الهاتفي مع أبطال القصة. أعيدُ رسمَ صورةِ ما حدث برواية هؤلاء الأبطال والوثائق الرسمية. فببذرةِ فُرقةٍ زرَعَها الاستعمارُ الألماني ثم البلجيكي، وبأخطاءِ المجتمع الدولي، وبتحريضٍ إعلاميٍ شرسٍ، انقلبَ الوطنُ الروانديُ وحشاً على نفسه. فالْتَهمَ أبناؤه بعضَهم وقُتِل مليونُ إنسانٍ في مئةِ يوم، وعُدَّت من أَسوأِ جرائم الإبادة في التاريخ الحديث. اليومَ وقد مرّت ثلاثونَ سنةً على المجزرة، تجاوزَ كثيرٌ من الروانديين تِلالَ الألمِ ليعيدوا تشكيلَ بلادِهم في تجربةٍ فريدةٍ انتقَلوا بها من الدم إلى المصالحة، تعافت رواندا على إثرها وتغيّر وضعُها من أفقرِ دول إفريقيا وقتَ الإبادة إلى أكثرِها نموّاً اليوم.
في القرن التاسع عشر وفي ظلِّ حُكمٍ ملكيٍ، سادَ رواندا نظامٌ عشائريٌ من عدّة قبائلَ أكبرُها التوتسي والهوتو. كانت الطبقاتُ العليا في البلاد من التوتسي وتعملُ في رعاية الماشية، بينما عمل الهوتو في الزراعة وهُم الطبقاتُ الدنيا. أحكمََ الاستعمارُ الألماني قبضَته على رواندا إبان الحرب العالمية الأولى ثم انتقل الإقليمُ بعدها لسيطرة البلجيكيين الذين عدّوا التوتسي متفوقين عرقياً على الهوتو فحظوا بالوظائفِ وفرصِ التعليم. عمّقت المفاضلةُ العرقيةُ حنقَ الهوتو ثم ما لبث أن تحول هذا الحنقُ لأعمال عنفٍ ضد التوتسي سنة 1959. عبَرَ التوتسي الحقولَ والغاباتِ والتلالَ هاربين وقُتِلَ الآلافُ منهم، بينما وصل آخَرون بوروندي وتنزانيا والكونغو بعد مطاردات دامية، وقد استقبلت أوغندا أكثرَهم.
في سنة 1961 استقلّت رواندا وتولّى رئاستها في صيف العام التالي غريغوري كابيندا، الذي بدأ حياتَه المهنيةَ صحفياً في صحيفة “كينا ماكيتا” التي كان لها بعد ذلك شأنٌ في التحريض. بدأ كابيندا حُكمَه على نهج المستعمرين الألمان والبلجيكيين بالتقسيم والتفريق مشجِعاً الهوتو على حرب التوتسي، وكان أولَ من شبّهَ التوتسي بالثعابين. لتشهد رواندا في 1963 و 1964 أحداثَ عنفٍ جديدةً طالت التوتسي، ففرَّ بعضُهم إلى دول الجوار مجدداً.
“اذهبوا إلى المستنقعات، مكانُكم هنا” هكذا كتبَت صحيفةُ كينا ماكيتا وردّدت إذاعةُ رواندا في خطابٍ موجّهٍ إلى التوتسي.
لم تكُن أوتشي قد وُلدَت عندما فرّ عشراتٌ من جيرانها مع آلافٍ من التوتسي في المرة الأولى بعد أن أحرَقَ الهوتو بيوتَهم وأبقارَهم ومزارعَهم وطارَدوهم في كلّ مكان. لكنها كانت في الخامسة من عمرِها عندما رأت مئاتٍ من قبيلتها يُطرَدون جماعياً للمرة الثانية، يسوقهم الدَرَكُ – وهُم قوّةٌ أمنيةٌ شبهُ عسكرية – ومئاتٌ من الهوتو إلى الغابات على حدود رواندا.
تُعلِّقُ نورا أن معلمتها في المدرسة قالت لها إن الاستعمار البلجيكي أكملَ مسيرةَ العصفِ برواندا وبدأ الوقيعةَ بين قبائلها. فحرَّضوا الهوتو على التوتسي. لم تسمع أوتشي ولا نورا عن الاعتذار الذي قدّمَته بلجيكا قبل أربعة أعوامٍ على لسانِ رئيسِ وزرائِها تشارلي ميشيل عن بعض صورِ العنصرية أيامَ الحقبةِ الاستعمارية في إفريقيا، ولا عن اعتذارِ الكنيسة الكاثوليكية سنة 2016 عن الفظائع المرتكَبة في تلك الحقبة.
استمراراً في التصدعات بين أبناء الوطن الواحد، قاد جوفينال هايباريمانا من الهوتو سنة 1973 انقلاباً عسكرياً سيطرَ فيه على مفاصل السلطة في البلاد. وعلى إثر ذلك شكّلَ لاجئو التوتسي بقيادة بول كاغامي الجبهةَ الوطنيةَ الروانديةَ في نهاية الثمانينيات، لتبدأَ الجبهةُ حرباً أهليةً ضدّ حكومة هايباريمانا في 1990. ثم تبعَها وساطاتٌ دوليةٌ للسلام انتهت بتوقيع اتفاقِ “أروشا” في تنزانيا بين الحكومة والجبهة الوطنية. لكن الاتفاقَ فشلَ ممهّداً الطريقَ لكارثة الإبادة في 1994.
وصلَت التراكماتُ التاريخيةُ ذروتَها المرعبةَ بعد سويعاتٍ من إعلانِ سقوطِ طائرةِ الرئيسِ الرواندي هابياريمانا في مساء السادس من أبريل سنة 1994 في ظروفٍ لا تزال غامضة. بدأتْ عملياتُ قتلٍ منظّمةٌ استهدفَت التوتسي والقليلَ من الهوتو المعتدلين، خاصّةً في العاصمة كيجالي. في فجرِ اليوم التالي توسّعَتْ دائرةُ البطشِ فأقيمَت الحواجز على الطُرقِ وبدأَ التفتيشُ على الهوية وانتشر القتلُ الجماعيُ بالفؤوسُ والمناجلِ والأسلحة النارية. مع نهايةِ الأسبوع الأول باشرَ الهوتو استهدافَ النساءِ والأطفالِ وكبارِ السن، وأصبحَت المدارسُ والكنائسُ والطرقاتُ والحقولُ مسارحَ للقتل. استمرَّت الفاجعةُ مئةَ يومٍ حتى التاسع عشر من يوليو مُخلِّفةً عشراتِ المقابرِ الجماعيةِ في جميع أنحاء البلاد. ناهيك من آلاف الجثث التي أُلقيَت في الأنهار، خاصةً نهر نيابا رونجو (النهر الأسود) الذي حملَ الجثث إلى بحيرة فيكتوريا. آلافٌ أُخرى من الجثث أُلقيَ بها في الطُرقات والحقول، غير مئاتٍ أُحرقَت.
يتذكر “أوبنجو” أحدُ المشاركين في الإبادة الجماعية ما حدثَ بعد عشرين عاماً من اندلاع شرارة الموت. وفي واحدةٍ من مئات جلسات الصفح والمصالحة التي عقدَتها جمعياتٌ ومنظماتُ مجتمعٍ مدنيٍ أُسِّسَتْ لهذا الغرض سنة 2014 قال: “كنتُ أمسك بالمنجل وأَقتلُ كأنني أطارد الثعابين، قتلتُ الأولَ والثانيَ ولم أكترث، كنت شَرِهاً للذبح … كلُّنا الهوتو نمسك بالسكاكين والمناجل والعُصيّ نَهِمِين للدم. إنهم صراصيرُ عفنةٌ تستحق الموتَ، هكذا كنا نطاردهم تحت المطر في كل مكان”. يستطرد: “صدقَ نيلسون مانديلا؛ إن الإبادة الجماعية في رواندا وصمةُ عارٍ على جبينِ البشرية”.
كان أوبنجو واحداً من مئات الآلاف يحملون المناجل والسكاكين والعُصيّ ويحزّون الرؤوس في كل مكانٍ في رواندا، في العاصمة كيجالي وفي القرى والغابات والكنائس والمدارس وحتى الحقول.
ولكن ما الذي حدثَ لينفجرَ بركانُ الكراهية هكذا؟ ألان ميلي صحفيٌ عاصَرَ الإبادةَ، قال في ندوةٍ عُقِدَت في العاصمة الرواندية عن أثر الإعلام في الإبادة الجماعية بمناسبة مرور ثلاثين عاماً على الكارثة: “لقد كان لوسائلِ الإعلام أثرٌ مهمٌ في التحريض على الإبادة الجماعية في رواندا”. أوبنجو يعترف: “تحوّلتُ إلى إنسانٍ وحشيٍ من الدعاية التي كنا نسمعها في إذاعةِ الألفِ تلّ … كنا نَقتلُ بحماسةٍ وجنونٍ، كأننا نَقتلُ الصراصيرَ أو الثعابين”. كانت إذاعةُ الألفِ تلٍّ والمعروفةُ محلّياً بـ “أر تى أل أم” قد دُشِّنَت قبل تسعةِ أشهُرٍ من حمْلةِ الإبادة وأُغلقَتْ بانتهائها. نُسبَ إليها قدرٌ كبيرٌ من التحريض واعتُبِرَت الذراعَ الإعلاميَ غيرَ الرسميَّ للحكومة ولبعض رجال الأعمال من الهوتو. في بداية يونيو 2024 عقدتُ استطلاعاً للرأي لأسبابٍ تدريبيةٍ على هامش ورشةِ عملٍ لصحفيين من اتحاد الإعلاميين الأفارقة والآسيويين في القاهرة، ضمَّ اثنين وأربعين صحفياً فيهم عشرون صحفياً إفريقياً، رأى 85 في المئة أن الإعلام كان مسؤولاً مباشراً عن الإبادة، في حينِ رأى 15 في المئة أن الإعلامَ كان مسؤولاً غيرَ مباشر.
وفي مقابلةٍ هاتفيةٍ سألتُ رئيسةَ الاتحاد الدولي للصحفيات العاملات بالإذاعة والتلفزيون جولا ديونز مامنجون عن مسؤوليةِ الإعلام في رواندا عن عمليات الإبادة الجماعية. قَرنتُ سؤالي بتسجيلٍ صوتيٍ لإذاعة الألفِ تلٍّ قُبَيْلَ المجازرِ وحينَها جاء فيه: “هؤلاء القوم قذرون”، “علينا أن نُبيدَهم، يجب علينا التخلصُ منهم، هؤلاء الصراصيرُ متى سيرحلون؟” وتسجيلٍ ثانٍ بعد أغنيةٍ ألحانُها وكلماتُها مثل طبولِ الحرب: “علينا أن نُبيدَ الصراصير، لو أَبدناهم سنكون المنتصرين”. أجابتني السيدةُ مامنجون: “الإعلام وفي القلب منه الإذاعةُ كان سبباً مباشراً لما حدث. عملُ الإعلامِ منعُ الكراهيةِ لا نشرُها، نشرُ ثقافةِ التسامح والإخاء والتعاون في المجتمعات لا الحضُّ على القتل والعنف، نشرُ الطمأنينةِ في المجتمع لا إشاعةُ الخوف والفزع”. استطردَت: “تركَ الإعلامُ الميكروفونَ وأمسكَ بالسكين، واستبدلَ الصحفيُّ المنجلَ بالقلمِ وسارَ خلفَه مئاتُ الآلاف. أشرفتُ على تجاربَ إذاعيةٍ في العالم. ولنا في الاتحاد الدولي للصحفيات العاملات بالإذاعة والتلفزيون في إفريقيا فروعٌ. ونعرفُ تأثيرَ الإذاعة في الجمهور خاصةً إذا كان لا يجيد القراءةَ والكتابةَ كما كان الجمهورُ الرواندي حينئذٍ قبيلَ جرائم الإبادة المرعبة”.
انتهجَتْ إذاعةُ الألفِ تلٍّ نشرَ ثقافةِ الكراهيةِ بفجاجةٍ مع بدءِ مفاوضاتِ أروشا للسلام في 1993. بدأت المفاوضاتُ في تنزانيا وكان الهدفُ وضعَ حدٍ لصراعٍ مسلحٍ مستمرٍ منذ أكتوبر 1990 بين الجبهة الوطنية الرواندية في أوغندا والحكومة الرواندية والهوتو. كانت الأممُ المتحدةُ حاضرةً في المفاوضات، وكذلك قواتُ حفظِ السلام والفرقاءُ والمعارضةُ المعتدلةُ من الهوتو. جاء الاتفاقُ في الرابع من أغسطس سنة 1993 على ترتيباتٍ لتقاسم السلطة وإنشاءِ حكومةٍ انتقاليةٍ وجمعيةٍ وطنيةٍ وجيشٍ روانديٍ موحّدٍ بنسبة ستين إلى أربعين بين القوات الحكومية والجبهة الوطنية الرواندية.
كان السلام قريباً وباليدِ منعُ الكارثةِ، لكن المفاوضاتِ فشلَت. رصدَ اللواءُ روميو دالير، قائدُ قوةِ حفظ السلام في رواندا التابعةِ للأمم المتحدة، ما حدثَ بقوله: “كان في التواصل خللٌ حتى داخل المؤسسة الواحدة، بين مجلس الأمن والأمانة العامة للأمم المتحدة … بل داخل مكتب الأمين العام للأمم المتحدة بطرس غالي وإدارة عمليات حفظ السلام”. ويقولُ مايكل باريب ممثلُ الولايات المتحدة في بعثة الأمم المتحدة في رواندا زمنَ الإبادة، إن المفاوضاتِ في أروشا كانت “بيتاً مِن ورق … الدبلوماسيون كانوا وكأنهم سَلّموا قنبلةً موقوتةً للأمم المتحدة”.
ضاعفَ الإعلامُ فرصَ فشلِ الاتفاق مع هذه التجاذبات الدبلوماسية بين الأطراف. كانت المفاوضاتُ في تنزانيا ولكن لم يكن أحدٌ في رواندا يعلمُ عنها شيئاً، فلم يكتفِ الإعلامُ بالحضِّ على الكراهية، بل صمتَ ولم يُذِعْ أيَّ خبرٍ عن مفاوضات السلام في أروشا. “كلاهما خطأٌ فادحٌ … التحريضُ والتعتيم” هذا ما قالته لي د. عبير سعدي الباحثةُ في جامعة دورتموند الألمانية، والتي درّبَت كثيراً من الصحفيين في إفريقيا. أضافت: “لو تابَعَ الجمهورُ الروانديُ مفاوضاتِ السلام التي كانت تضم كافةَ الأطراف المتصارعة بمشاركة الأمم المتحدة، ولو استقبلَ الجمهورُ الرسالةَ الإعلامية التي تنقل صورةً إيجابيةً للواقع في أروشا بدلاً من سماع رسالةٍ إعلاميةٍ سلبيةٍ تدعو إلى القتل والدم لكانت النتيجةُ حتماً ستختلف”. الاستنتاجُ ذاتُه وصلَت إليه فينوس نستمانا، وهي مسؤولةٌ إعلاميةٌ للأمم المتحدة في رواندا وقتَ المفاوضات، فقد صرّحَت أمام مؤتمر صُنعِ القرار الدولي في عصر الإبادة: “الإعلامُ لم يقدّم سوى القليل جداً من المعلومات إلى الشعب الرواندي عن مفاوضات السلام. وأيضاً الصراعُ المعلوماتي مَكّنَ مُتطرفي الهوتو من العمل بحُريةٍ لتنفيذ مخطط القتل”.
كان أوبنجو حينها يتابعُ الإذاعةَ بحماسٍ مثل جموع الهوتو، وأوتشي تتابعها بخوفٍ مثل باقي التوتسي، مستذكرةً ما حدث لقومها من تنكيلٍ وتهجيرٍ في العقود السابقة. كانت إذاعة الألف تلٍّ تحثُ الهوتو على عمليات القتل ليس بالتحريض المباشر فقط بل بإمدادهم بالمعلومات عن عناوين التوتسي وبياناتهم تسهيلاً لاستهدافهم. كان المذيع يصرخُ في نشوةٍ حتى مع بداية اليوم الأوّل للدم: “دعونا نغنّي، دعونا نفرح أيها الأصدقاء … الصراصير ليسوا كثيرين”. ووصفُ الصراصير له دلالتُه الشعبيةُ في العرف الاجتماعي، فالفردُ الرواندي يقدّر الحليبَ وأكثرُ ما يكدّره سقوطُ صرصارٍ فيه، فكان يعمد إلى قتله حيثما وُجد.
بالتوازي مع تلك الكراهية المحمولة على موجاتِ الأثيرِ كانت صحيفةُ كينا ماكيتا تحرّض على الكراهية كتابةً ومعها أكثرُ من عشرين صحيفةً صدرت ما بين أعوام 1991 و1993 في زمنٍ عرف بـ”فوضى الحريات” بدأ في أول التسعينيات مع الضغوط الدولية من أجل التحول الديمقراطي. فقد خُفّفت القيودُ على حرية التعبير وظهر عددٌ لم يسبقه مثيلٌ في رواندا من الصحف. كان المعلَن أنها مستقلةٌ ولكن الواقع أن معظمَها كانت تتحدث بِاسم الحكومة وبِاسم متنفّذين من الهوتو مثل صحيفة كينا ماكيتا. من الصحف التي ظهرَت حينها أومليزا (الصاعقة) وأموسيسو (الضوء أو الشروق)، وكانجورا (استيقظوا)، وهي الأجرأُ في التحريض فقد نشرَت غيرَ مرّةٍ رسوماً للتوتسي على هيئة ثعابين مُعَلِّقةً: “ثعابينُ تستحقّ القتلَ”. دُمّرَت مقارُّ هذه الصحف بعد الإبادة الجماعية.
ترى عبير سعدي أن خطورةَ الرسالة هنا أنها موجّهةٌ إلى جمهورٍ يرى أن إعلامَه هو الحقيقةُ. فلم يكن الجمهور متعلماً أو مثقفاً، بل كان يتلقى الرسالةَ وينفّذها موقِناً أنها الصواب. سألتُ سعدي: هل أَسهمَ الإعلامُ في عملية الإبادة الجماعية في رواندا؟ فأجابت: “نعم بالقَطع، أَسهمَ الإعلامُ وبقوةٍ وبدرجةٍ غيرِ معقولة”.
أَصدرَت المحكمةُ الجنائيةُ الدوليةُ حُكماً على أربعةٍ وثلاثين من مهندسي الإبادة الجماعية، بينهم صحفِيّان. الأوّل حسن نجيزي، مؤسسٌ وناشرٌ ومحررٌ في صحيفة كانجورا، وهو أوّل من وَصَفَ التوتسي بالصراصير وجرّدَهم من إنسانيتهم في عشرات المقالات. والثاني فرديناند ناهيمانا مذيعُ الألفِ تلّ. وقد أُدينَ كلاهما بالتحريض المباشر والعلني في وسائل الإعلام على الإبادة الجماعية. لم يكن العمل الصحفي والإعلامي مهنياً في رواندا حينها، بل يمكن لأيّ شخصٍ أن يكتب ما يريد طالما كان تحريضاً على التوتسي. فحسن نجيزي كان مثل غيره من زملاء المهنة حينها غيرَ مُدرَّب. قال عند محاكمته أمام محكمة الجنايات إنه إنما كان “ولد شوارع”.
اعترفَ سيرج دو يوسى، المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية في تصريحٍ له سنة 2016 :”لَم يُحاسَبْ كلُّ المسؤولين عن الإبادة الجماعية في رواندا”. ما زالت المقابرُ الجماعية تُكتشَف كلَّ يومٍ لضحايا الإبادة الجماعية، وآخِرُها مقبرةٌ تحوي مئةً وتسع عشرة جثةٍ اكتُشفَت وقتَ الاحتفال بالذكرى الثلاثين أسفل أحد المنازل في قرية نوكبا في جنوب شرق رواندا.
يُصرُّ الروانديون مع ذلك على استكمال الطريق، فكان “كويوكا 30” وهو مسمّى إحياء الذكرى. وكيوكا تعني في اللغة المحلية “التذكّر” تعبيراً عن أهوال الإبادة التي يجب أن لا تُنسَى لئلّا تتكرّر. وعلى درب “التذكّر” أعلنَت مديرةُ اليونيسكو أودري أوزلاي على هامش إحياء الذكرى الثلاثين للإبادة الجماعية إدراجَ أربعةِ نُصُبٍ تذكاريةٍ تضمّ رفاتَ مئاتِ الآلاف من الضحايا على قائمة التراث العالمي، وهم “نياماتا” و”مورامي” و”جيسوري” و”بيسيسرو”. لكلٍّ منها قصصٌ وحكاياتٌ مزلزلةٌ نقترب منها عند معرفة معاني أسماء النُصُب. فنياماتا في شمال رواندا يعني “أعطهم الكرامة” ودُفِنَ فيه أكثر من أربعين ألف ضحية. ومورامي في العاصمة كيجالي يعني “تذكّرني”، ودُفنَ فيه عشراتُ الآلاف من الضحايا. جيسوري في جنوب رواندا يعني “لا تنسَ أبداً”، دعوةً إلى العالَم أن لا ينسى ما حدث. وفي شرق رواندا الرابع بيسيسرو يعني “الأمل”، ورسالته أن الحياة مستمرةٌ مع رفاتِ أكثر من خمسين ألف ضحيةٍ بين جانبيه.
ما كان للذكرى أن يكونَ لها صدىً ذو معنىً إلّا بإقرار نظامٍ للعدالة الآنيّة والانتقالية، يعاقَب فيها المجرمون والمتورطون في الإبادة ويُعوَّض الضحايا عن آلامِهم وفقدِهم. بعد الإبادة، أَطبقَت يدُ العدالة على ما يقاربُ مئةً وعشرين ألف شخص. وأمام هذا العدد من القضايا، قُسّمَت الإجراءاتُ القضائيةُ لثلاثة مستويات. الأولُ هو المحكمة الجنائية الدولية لرواندا، وهي جهةٌ محسوبةٌ على الأمم المتحدة أُنشئَت بعد عمليات الإبادة مباشرةً في نهاية 1994. تكفّلَت المحكمةُ بملاحقة الشخصيات البارزة المسؤولة عن القتل، ومنها رئيس الوزراء “جان كامباندا” فترةَ المجزرةِ الذي أُدينَ بجريمة الإبادة الجماعية وحُكمَ عليه بالسَجن المؤبَّد. مَثَّلَت المحاكمُ الحكومية لرواندا المستوى الثاني وتولّت قضايا المخطّطين للإبادة والقادةِ ممّن ارتكبوا أعمالَ قتلٍ جماعية. بحلول 2006، حُوكم عشرةُ آلاف شخصٍ بالسجن أو السجن المؤبد أو الإعدام، وإن كانت الحكومةُ الرواندية قد أَلغَت عقوبةَ الإعدام في 2007.
أقرّت الحكومةُ ما سُمّيَ “لجنة الوحدة والمصالحة الوطنية” ومهمّتها التصالح والتسامح، لأن العدالةَ القادمةَ من الأعلى – محاكم دولية أو محلية – لا تكفي لرأبِ الصدوعِ في جسمِ المجتمع الرواندي من الداخل وتوحيدِ عناصره. ثم برزَ نظامٌ تشاركيٌ يمثل المستوى الثالثَ للعدالة ويسمّى محاكم “جاكاكا”، وهو نموذجٌ فريدٌ ومميزٌ أُنشئ في 2001 وفُعّلَ في العام الذي يليه. “جاكاكا” يعني “العشب القصير”، واستُدعيَ هذا النموذجُ من التاريخ الرواندي القديم، فكانت في رواندا محاكمُ تقليديةٌ تعتمد على العرف وتستهدفُ تحقيقَ العدالة السريعة للتعافي المجتمعي. تشجعُ هذه المحاكمُ على المواجهة بالحوار بين الجاني وذوي الضحايا، وقُضاتُها من شيوخ القرية أو المجتمع. يفترش القضاةُ الأرضَ في الساحات العُشبية يستمعون لذوي الضحايا وأقوال الجناة. حاكمَت الجاكاكا المتورطين في أعمال القتل والإبادة وصنّفتهم ثلاثَ فئات: الأولى مَن شارَكوا في عمليات القتل الفردي والشروع فيه والأذى الجسدي. والثانية مَن تورّطوا باعتداءاتٍ على الآخَرين وممتلكاتهم دون النيّة أو التسبّب في القتل. أما الفئةُ الأخيرةُ فلجرائم النهب والتهريب. تدرّجَت العقوباتُ في الجاكاكا تنازلياً: خمسٌ وعشرون أو ثلاثون سنة سجنٍ لأصحاب الفئة الأولى، وخمسُ سنواتٍ أو سبعٌ للثانية، بينما حَكمَت على المُدانين من الفئة الثالثة بتقديم خدماتٍ اجتماعية. خُفّفَت أحكامُ مَن اعترفَ بجُرمه قبل مُثوله أمام القضاة.
حُوكِمَ أوبنجو أمام الجاكاكا وكان من الفئة الأولى وعوقب بالسجن. كان قد أقرّ بجُرمه وندمَ وطلبَ الصفحَ من أوتشي بعدما لقيَها مصادفةً في أحد برامج المصالحة فتصافحا وتعاهدا على الغفران. ولكن نورا ما زالت حزينةً كما تقول خالتُها أوتشي. تتذكر أوتشي كلماتِ رئيس أساقفة جنوب إفريقيا ديزموند توتو: “الغفرانُ ليس نسيانَ ما حدثَ بل هو رفضُ السماح لما حدثَ أن يدمّرَ حياتَنا”.
أوجزَت أجاثا أزهيانا وزيرةُ العدل في رواندا قصةَ العدالة في تصريحٍ لها بقولها: “لقد تعلّمنا من دروسِ الإبادة الجماعية في رواندا “. هو المعنى ذاتُه الذي سمعته من دان موينوزا، سفيرِ رواندا في مصر، في تصريحٍ في الاحتفال بالذكرى الثلاثين لعملية الإبادة الجماعية بالسفارة الرواندية بالقاهرة في أبريل 2024 قال فيه: “لقد أعدنا البناءَ من الصفر، فالدرسُ الأولُ أننا كنّا وحدَنا”.
فَعّلَت رواندا مبادراتِ تسامحٍ كثيرةً بعد نجاحها في ترسيةِ مبادئَ عدالةٍ راسخة. منها مبادرةُ “غرنيكا” والاسمُ مأخوذٌ من اسم اللوحة التجريدية الشهيرة للفنان العالمي بابلو بيكاسو التي رسمَها سنة 1937 بتكليفٍ من الحكومة الإسبانية، وهي جداريةٌ تصوّرُ أهوالَ الحرب أُعيدَ استخدامُها مبادرةً تستهدف بناءَ السلام الأهلي. مبادرةٌ ثانيةٌ سمّيَت “بقرة من أجل السلام” مستدعيةً ثقافةً قديمةً من التراث الرواندي سمّيَت بـ”غوتاتغا إينكا”، وتعني “إبرام عقد صداقة”، يُهدي فيها الشخصُ بقرةً لشخصٍ آخَرَ تعبيراً عن الاحترام أو الصداقة أو الامتنان أو مهراً للزواج. تُمنَحُ البقرةُ لمن عقدوا العزمَ سلفاً على التصالح مع الماضي وتربطُ المانحَ والممنوحَ، الجانيَ والضحيةَ، برباطِ صداقةٍ ومصلحةٍ قد يحول دون تكرارِ المأساة مستقبلاً. انتشرت هذه المبادراتُ في كلّ قريةٍ وكلّ حيٍّ في رواندا، يجتمع فيه الروانديون من ذوي الضحايا والجناة. قال فيها توني بلير رئيسُ وزراء بريطانيا الأسبقُ في مقالةٍ في “الغارديان” عنوانها “رواندا أصبحَت منارةً للأمل”: “الروانديون هُم أنفسُهم من أسهَموا في صياغة السياسة اللازمة لشفاءِ بلدِهم، لتصبحَ رواندا بتجربتِها في التسامح والعدالة منارةَ الأمل”.
وصفَ الأمينُ العام للأمم المتحدة كوفي عنان ما حدثَ في رواندا أنه “كان إبادةً للروح الإنسانية”. تُرِكَ الروانديون وحدَهم فانقلبَ وطنُهم على نفسِه وبات مسرحاً لواحدةٍ من أبشع مشاهد الإبادة الجماعية في التاريخ الحديث. فالعالم زمنَ الإبادة “كان نائماً في جميع أنحائه … وهناك أشخاصٌ مثلي يجلسون في مكاتبهم يوماً بعد يومٍ ولَم يفعلوا شيئاً”، والقولُ هنا للرئيس الأمريكي الأسبق بيل كلينتون. وعن هذا العبءِ قال روميو دالير قائدُ قوة الأمم المتحدة لحفظ السلام في رواندا وقتَ الإبادة: “لقد خَذَلْنا شعبَ رواندا …”.
وفّرَت الجهودُ الذاتية سُبلَ العدالةِ والعدالةِ الانتقاليةِ والمصالحةِ الأهليةِ فانتشلَت كثيراً من الروانديين مثل أوتشا وأوبنجو من متاهات الماضي ومآسيه، ممهدةً الطريقَ لبلدِ الألف تلٍّ لينفضَ الغبارَ عن نفسه ويسيرَ للأمام. تتصدر رواندا اليوم دولَ إفريقيا في معدلات النمو بالغة 8 في المئة سنوياً في العقدين الأخيرين، أي أعلى أربعَ مرّاتٍ من حقبة ما قبل الإبادة. برزت رواندا مؤخّراً سوقاً صاعدةً إفريقياً في التقنية الحاسوبية المتقدمة. وشهدَ البلدُ انخفاضاً لافتاً في معدّلات الفقر وموت الأطفال، وارتفاعاً ملحوظاً في المعدّل العامّ لعمر الفرد. وتشهد اليومَ النسبةَ الأعلى عالمياً في تمثيل النساء في الجهات التشريعية للدولة.
برأيِ بعضِ من حادثتُهم، يُخيّمُ مستقبلُ السلام في هذا القُطر الإفريقي على مخيالِ كثيرين داخل رواندا وخارجها، خاصةً الجيل الجديد من الروانديين الذين وُلدَ أكثرُهم بعد فاجعةِ الإبادة الجماعية قبل ثلاثين عاماً. متسائلين هل ستبقى رائحةُ أشجار الليمون وعطر الورود أَمْ ستَخرجُ شياطينُ من تحت الأرض بلونِ الدمِ مِن جديد.
كاتب صحفي مصري
الفراتس
————————————-
إسرائيل تثبت أقدامها في جنوب سوريا.. خطوة استباقية لمواجهة النفوذ التركي
عربي بوست
2025/02/21
صعّد الاحتلال الإسرائيلي وجوده العسكري في جنوب سوريا، مستكملاً بناء مواقع عسكرية جديدة وزيادة انتشار قواته، في خطوة تعكس توجهاً استراتيجياً لتعزيز نفوذه الأمني والاستخباراتي. يأتي هذا التحرك في ظل مشهد إقليمي متغير، مع سقوط نظام الأسد وتصاعد التنافس الجيوسياسي بين القوى الفاعلة في المنطقة، لا سيما بين الاحتلال الإسرائيلي وتركيا. في هذا الإطار، يسلط موقع “أسباب” لدراسات الجيوسياسية في هذا التحليل الضوء على أبعاد هذه التطورات وانعكاساتها على المشهد الإقليمي ومستقبل التوازنات في المنطقة.
الاحتلال الإسرائيلي عزز تواجده في الجنوب السوري
كشفت إذاعة جيش الاحتلال الإسرائيلي أن الجيش انتهى من بناء 9 مواقع عسكرية على طول المنطقة العازلة داخل جنوب سوريا، يقع اثنان منها في جبل الشيخ فضلا عن 7 مواقع أخرى في مناطق متفرقة من المحافظات الجنوبية خاصة القنيطرة، مع نشر 3 ألوية عسكرية مقارنةً بكتيبة ونصف قبل السابع من أكتوبر/ تشرين الأول 2023. كما أشارت الإذاعة إلى أنّ جيش الاحتلال يخطط للبقاء في جنوب سوريا خلال 2025 على الأقل ودون سقف زمني محدد، وهو ما يمثل تراجعا عن تصريحات إسرائيلية سابقة بأن تواجد قواته داخل المناطق المحتلة حديثا في الجنوب السوري سيكون مؤقتا.
تسعى “إسرائيل” إلى فرض حضور في المعادلة السورية التي لا تزال قيد التشكل في واقع إقليمي معقد، ولذا فإن الاختراقات الإسرائيلية وفرض الواقع يمنح الاحتلال وضعية تفاوضية جيدة ضمن أية تسويات مستقبلية لهذا الواقع المعقد. فبعد ساعات من سقوط نظام بشار الأسد في 8 ديسمبر/ كانون الأول 2024، توغلت قوات جيش الاحتلال داخل المنطقة العازلة المحددة وفقا لاتفاقية فض الاشتباك عام 1974.
خريطة توضح مناطق التوغل الإسرائيلي في سوريا/ عربي بوست
ثم نفذ سلاح الجو الإسرائيلي ما وصفه بأنها أضخم عملية عسكرية في تاريخه، شملت مئات الغارات الجوية على امتداد الأراضي السورية، استهدفت القطع البحرية العسكرية في موانئ الساحل الغربي، والمطارات العسكرية، ومخابئ الأسلحة ومرافق إنتاجها، ومواقع الأسلحة الكيميائية. وقالت “إسرائيل” إنها دمرت أكثر من 90% من قدرات الدفاع الجوي السوري، كما دمرت أسرابا كاملة من طائرات “الميغ” و”السوخوي”.
الأهمية الجيوستراتيجية لسيطرة الاحتلال على مرتفعات الجولان
في المنظور الجيوستراتيجي؛ يمثل تعزيز السيطرة الإسرائيلية على مرتفعات الجولان هدفا استراتيجيا حاسما في تحقيق التفوق الاستخباراتي للاحتلال، وبصفة خاصة في جبل الشيخ الذي يبلغ ارتفاعه نحو 2800 متر عن سطح البحر، ويوفر قدرات هائلة على مراقبة المنطقة الحدودية بين سوريا ولبنان وفلسطين المحتلة والأردن، بنطاق يتجاوز 70 كم من جميع الاتجاهات، فضلا عن إمكانية رصد تحركات القوات السورية في دمشق التي صارت على بعد 20 كيلومتر فقط عن خط التمركز الإسرائيلي الجديد.
كما يوفر تعزيز السيطرة على المنطقة ميزة عملياتية إضافية لجيش الاحتلال في مواجهة أية تحركات برية قادمة من الأراضي السورية وتنفيذ عمليات القصف المدفعي والاستطلاع والدفاع السلبي، كما يزيد من تطويق جنوب لبنان ويعطي جيش الاحتلال تفوقا عملياتيا إضافيا في أي توغل بري قادم في الجنوب اللبناني لفتح محور نشط انطلاقا من هذه المنطقة.
وعلى الرغم من أن رئيس الحكومة الإسرائيلية أظهر قدرا من الارتياح في الأيام الأولى لسقوط الأسد، معتبرا أن هذه النتيجة تمثل ضربة قاصمة لقوى محور المقاومة المرتبط بإيران، إلا أن “إسرائيل” لن تشعر بارتياح إزاء السلطة الجديدة في سوريا التي يقودها إسلاميون، بصرف النظر عن التطمينات ورسائل التهدئة التي أطلقتها قيادة الإدارة السورية الجديدة. لذا فإن من المرجح أن تحرص “إسرائيل” على تعزيز نفوذها داخل المنطقة العازلة وفي الجنوب السوري عموما، سعيا لمنع الإدارة الجديدة مستقبلا من تغيير الوضع الأمني الراهن في الجولان.
مستقبل التنافس الجيوسياسي بين الاحتلال الإسرائيلي وتركيا
في السياق الجيوسياسي الأوسع؛ تتزايد احتمالات توقيع اتفاقيات تعاون عسكري موسعة بين تركيا والإدارة السورية الجديدة، بما يشمل على الأرجح وجودا عسكريا تركيا دائما في سوريا ونفوذا داخل الجيش السوري الجديد الذي ستشارك تركيا بشكل فعال في تدريبه وتسليحه. وسوف تضع هذه التطورات “إسرائيل” في مواجهة جيوسياسية غير متوقعة مع تركيا خلال السنوات القادمة، وسيكون على دولة الاحتلال التعامل مع معادلة جديدة تجد فيها القوات التركية قرب حدودها. لذا؛ فإن الخطوات الإسرائيلية جنوب سوريا يمكن قراءتها في إطار الإجراءات الاستباقية لمنع وصول أي تهديد عسكري تركي إلى حدودها، عبر تعزيز حيز الأمن الذاتي والقدرات الردعية في الجبهة الشمالية.
ولذلك؛ فإن مستقل التوازن الجيوسياسي في سوريا الجديدة يتجه أكثر ليكون محصلة التنافس بين تركيا و”إسرائيل” أكثر من أي أطراف أخرى معنية بسوريا. ومع احتمالية انسحاب القوات الأمريكية في شمال شرق سوريا والتي تتراوح أعدادها بين 1000 إلى 2000 مقاتل، فإن فرص تركيا مع الإدارة السورية الجديدة تتزايد تجاه حسم السيطرة على المناطق التي تحتفظ بها قوات سوريا الديمقراطية (قسد) والتي تعتبرها حكومة نتنياهو صديق “إسرائيل” الوحيد في سوريا. وقد يفتح هذا مجالا لعقد تفاهمات تركية إسرائيلية واسعة، برعاية أمريكية، كجزء من اتفاق الانسحاب الأمريكي، بما في ذلك إعادة تطبيع علاقات أنقرة وتل أبيب، وإن كانت هذه الخطوة ما زالت مرتبطة بالتوصل لوقف دائم للحرب في غزة.
تبدو الاعتبارات السياسية الداخلية في “إسرائيل” حاضرة أيضا في قرار استدامة توغلها في سوريا، وإن كان بصورة تالية للاعتبارات الأمنية والجيوسياسية. وفي هذا السياق وافقت “إسرائيل” على خطة مالية بقيمة تزيد عن 11 مليون دولار لمضاعفة عدد سكانها في مرتفعات الجولان والمناطق الجديدة التي ضمتها، حيث يعيش بالفعل هناك نحو 31 ألف مستوطن إسرائيلي إلى جانب نحو 24 ألف درزي، وهو ما يحقق بعض الرضا للأحزاب اليمينية المتطرفة وحركات “الصهيونية الدينية” الداعمة للاستيطان والتي لا تزال تدعم حكومة نتنياهو حتى الآن.
عربي بوست
————————-
بمناسبة عودة الحاخام يوسف حمرا إلى دمشق/ محمود الريماوي
22 فبراير 2025
بين الأخبار والتقارير الغزيرة، التي ترد من دمشق، منذ التغيير الذي شهدته سورية (في 8 ديسمبر/ كانون الأول 2024)، ثمّة خبر فريد بُثّ الأربعاء الماضي (19 فبراير/ شباط الجاري) يتعلّق بزيارة وفد من السوريين اليهود دمشق، برئاسة الحاخام يوسف حمرا، الذي كان مقيماً في دمشق حتى العام 1992، إلى أن دُفِع إلى المغادرة مع خمسة آلاف من أبناء الطائفة، ولم يتبقَّ منهم منذ ذلك الحين سوى سبعة أشخاص من كبار السنّ يقيمون في دمشق القديمة. وكان والد هذا الحاخام، إبراهام حمرا، رئيساً للطائفة في سورية، وتوفّي في 2021، ودفن في الدولة العبرية. أمّا الابن يوسف، الذي زار دمشق قبل أيام، فقد اختار الإقامة في الولايات المتحدة، التي وفد منها لزيارة بيته، واستعادة ذكرياته في حارة اليهود (حي الأمين بدمشق).
قد لا تكون للخبر دلالة سياسية مباشرة في غمرة الأنباء الأشدّ أهميةً بالفعل، وبالذات التوغلات الإسرائيلية الخطيرة، وإقامة مراكز تموضع داخل الأراضي السورية، وعلى عمق نحو 15 كيلومتراً، والاندفاع نحو تدمير الممتلكات والمنشآت العسكرية السورية، غير أن الحدث المتعلّق بزيارة وفد سوري يهودي موطنهم يحمل، في الوقت ذاته، مؤشّرات على جانب من الأهمية، فبإفساحها المجالَ أمام زيارة هذا الوفد، فإن السلطات السورية الجديدة تدلّل حقّاً على انفتاحها على جميع المكوّنات السورية، ولا تجد ضيراً أو غضاضةً في أن يعود سوريون يهود للزيارة، أو ربّما للإقامة مجدّداً في الوطن الأمّ، بغير عوائق تذكر. وقد أفيد بأن مسؤولين في الخارجية السورية، بينهم نائب الوزير، قد استقبلوا الوفد. والمؤشّر الثاني، ذو الأهمية، أن هذه الزيارة تعيد إلى الأذهان انحدار جمهرة غفيرة من اليهود من بلدان عربية، وأن بعضهم قد غادر نتيجة العسف، وبعضهم الآخر غادر بملء إرادته نتيجة الإغراءات الإسرائيلية الكثيفة، كما حدث مع يهود اليمن. وبالتالي، فإن مَواطن هؤلاء دول عربية، وهو ما عملت الدولة العبرية على طمسه، إذ يسمحون لأيّ يهودي وافد بالإشارة إلى جذوره، باستثناء من هم من أصول عربية، إذ يحظر عليهم ذلك، فيُعرَّف اليهودي العراقي بأنه “من مواليد بغداد” وكفى، وكذلك اليهودي المغربي، “من مواليد كازابلانكا”، وسواهم من يهود المنطقة العربية. وقد أُحلّ هؤلاء المهاجرون منذ العام 1950، وعلى دفعات متتالية، في أراضي الفلسطينيين وبيوتهم، التي استُحوِذ عليها بسطوة الإرهاب المسلّح في حرب 1948.
إثر صلاة قام بها الوفد في كنيس الإفرنج، أعرب رئيس الطائفة اليهودية في سورية، بيخور شمنطوب، عن سعادته لاستقبال الحاخام حمرا ونجله. وقال شمنطوب: “سعيد بمجيء الوفد من الولايات المتحدة. أحتاج لوجود يهود معي في الحارة”، آملاً أن “يعود اليهود إلى حارتهم وشعبهم في سورية”. أمّا صفحة “يهود الشام” في “فيسبوك”، فقد نشرت بياناً عبّرت فيه عن تقديرها هذه المبادرة، ووجّهت الشكر للإدارة السورية الجديدة، ورئيسها أحمد الشرع، وممثّله أحمد بدرية، لدعمهم “عودة اليهود السوريين إلى وطنهم”، في إشارة صريحة إلى أن سورية هي وطن اليهود السوريين، كما هي وطن بقية الطوائف والأديان والإثنيات. وفي رسالة وجّهها إلى اليهود السوريين، في مختلف أنحاء العالم، قال مدير فريق الاستجابة للطوارئ في المنظّمة السورية للطوارئ، معاذ مصطفى، إن “وطنكم آمن، وبإمكانكم العودة”.
وبينما تروّج حكومة بنيامين نتنياهو تهجير أبناء غزّة من وطنهم، وفق منظور استعماري تقليدي، فإن فتح الباب أمام عودة يهود سوريين إلى وطنهم تدلّل على أن الباب ينبغي أن يُفتح لعودة من يشاء من يهود عرب (أو غير عرب)، إلى مواطنهم التي غادروها كُرهاً أو طوعاً، وليس لإخراج الفلسطينيين من وطنهم، الذي لا وطن لهم سواه، كما كان يقول الكاتب الراحل إميل حبيبي، وأن أبناء قطاع غزّة، إذا كان لهم أن يغادروا القطاع، فإلى بلداتهم الأصلية في النقب، وفيما يُعرف بـ”غلاف غزّة”، وليس إلى أي مكان آخر. ويستذكر المرء بالمناسبة أن ملك المغرب، الراحل الحسن الثاني، قد دعا في 1972 من يشاء من يهود المغرب إلى العودة إلى وطنهم، واستعادة صفة المواطنة في البلاد، وهي من المرّات النادرة التي جرى فيها توجيه مثل هذا النداء من زعيم عربي. والمهم في المسألة، وبصرف النظر عن النتيجة التي آلت إليها هذه الدعوة، هو التأشير إلى أن مواطن اليهود الإسرائيليين تقع في أمكنة أخرى، بعضها ديار عربية وإسلامية مثل المغرب. وسبق لرئيس الموساد السابق يوسي كوهين أن كتب في بحر العام الماضي في صحيفة هآرتس، في معرض انتقاده فتح الجبهات على غزّة ولبنان: “اليوم، وبعد ثمانين يوماً من الأخطاء والتقديرات غير المدروسة، تجد دولة إسرائيل نفسها، للمرّة الأولى منذ 1948، في صراع الوجود واللاوجود. سأكون أوّل من يعلّق الجرس، وليسمعني اليوم جميع بني وطني، إذا استمرّ هذا الفريق في قيادتنا فنحن عائدون إلى بولندا وروسيا وبريطانيا وأميركا، وذلك إذا سمحوا لنا بالعودة”. وهي إشارة صريحة إلى المواطن الأصلية، التي ينحدر منها أفراد المجتمع الإسرائيلي، بالرغم من حديثه عن أبناء “وطنه”.
أمّا الفلسطينيون، فلم يأتوا من وراء البحار والمحيطات، بل كانوا (وما زال نصفهم) مقيمين في أرض آبائهم وأجدادهم على مرّ العصور، قبل أن تتدفّق الهجرة إلى فلسطين بصورة ملحوظة مع مطلع القرن العشرين، وتتكاثف من بلدان شتى، بدعم من الانتداب البريطاني، المولج آنذاك بتنفيذ وعد بلفور على حساب المواطنين أبناء البلاد. ومن تفاهة هذا الزمان ومساخره، أن ينشط المستوطن الأوكراني بتسلئيل سموتريتش، وزميله المستوطن الكردي إيتمار بن غفير، في حملة مسعورة، ترمي لاقتلاع الفلسطينيين من وطنهم في قطاع غزّة والضفة الغربية، فالأَولى والأقرب إلى طبيعة الأشياء ومنطق الأمور، أن يعود هذان المستوطنان إلى بلديهما، فيُريحان ويستريحان.
العربي الجديد
——————————–
ضحايا لبنان والعدالة الانتقالية/ محمد الرميحي
22 فبراير 2025 م
على الرغم مما تمر به سوريا ولبنان من مرحلة انتقالية لها مخاطرها، وقد تكون انتكاسة محتملة، فإن ما مر بالبلدين القريبين جغرافياً وسكانياً، بل وحتى سياسياً من بعضهما يحتاج إلى مراجعة جادة، تحت عنوان عريض اسمه «العدالة الانتقالية».
في العقود الخمسة الماضية ارتكب في كل من لبنان وسوريا الكثير من الفظائع السياسية والعسكرية، وكان ثمنها بشراً عوملوا بسوء، وتركت تلك الممارسات في كل من البلدين ندوباً عميقة في عقول وقلوب الضحايا وأقربائهم، بل في قطاعات واسعة من المواطنين، فقد اختفى عدد من اللبنانيين في سجون سوريا، كما تم قتل عشرات الآلاف من السوريين وغيبوا دون أن يعرف أحد أين مصيرهم حتى اليوم.
مع عمق الملف في كل من الدولتين على حدة، فإن الملف المشترك بينهما هو الأصعب، فمن السهل نسبياً معرفة من ارتكب المجازر في سوريا ضد السوريين، وفي لبنان ضد اللبنانيين، الأصعب هو الضحايا في لبنان جراء ما عُرف بعقود هيمنة (الأمن السوري اللبناني) وأشخاصه إما ما زالوا على قيد الحياة، أو قتلوا أو نُحروا، من أجل إخفاء الحقائق حتى لا تظهر.
اليوم بعد سقوط النظام في سوريا، والتغير الذي تم في لبنان، بدأت الحقائق تظهر والخائفون من لهم علم بتفاصيل ما حدث بدأوا الكلام في وسائل الإعلام، وهم عدد كبير من المسؤولين السابقين، وكيف تعامل النظام الأمني السوري اللبناني في لبنان مع أي معارض أو شبه معارض، هي قصص تشيب لها الولدان، يختلط فيها الانتقام بالشراهة المالية، وبدم الناس وخاصة كبارهم.
على سبيل المثال قام ذلك النظام الأمني المشترك بقتل سبعة من أعضاء البرلمان اللبناني هكذا وبصراحة تامة، ليسكت أقل الأصوات قدرة على الدفاع عن المصالح اللبنانية، وعلى حد قول وليد بيك جنبلاط، لقد دخل النظام الأسدي السوري إلى لبنان مع قتل كمال جنبلاط، وبدأ الخروج من لبنان مع قتل رفيق الحريري، إنها سلسلة من الدم لم تتوقف فقط مع قتل أعضاء البرلمان بل طالت كثيراً من اللبنانيين، كما اختفى بعضهم في السجون السورية.
لقد كانت مرحلة مظلمة توسلت التهديد والابتزاز، فمن أوكل إليه من كبار الضباط السوريين الهيمنة على الأمن في لبنان، وجدها فرصة سانحة للابتزاز، في الغالب برضاء النظام في دمشق، إلى درجة أن رستم غزالة، وهو أحد ضباط الأمن لفترة غير قصيرة، ابتز القيادات اللبنانية بدفع خمسين ألف دولار شهرياً كمرتب له، غير الابتزاز من الميسورين اللبنانيين، وبعضهم كان يدفع تخلصاً من الأسوأ، ولم يكن غازي كنعان الضابط الأسبق من غزالة بأفضل منه، وتحولت بلدة عنجر إلى عاصمة الاستخبارات العسكرية السورية، ومحطة لازمة للزيارة من السياسيين!
هي مرحلة مظلمة بكل ما يمكن أن توصف، فقد تم استعمال شريحة من اللبنانيين لإشاعة الفوضى أيضاً في الجوار، وأدخلوا حروباً قريبة وبعيدة، وأصبحت بيروت بوقاً للشتم واللعن والتحريض ضد العرب، والدعوة إلى الانقلابات، بل وتدريب جماعات على السلاح في سبيل تخريب أوطانهم.
إنه ملف متضخم لا بد أن يفتح لمعرفة الحقائق، ومن ثم أخذ الدروس والعبر حتى لا يتكرر ذلك العهد المظلم.
ما يجري على الأرض اليوم يتوجب ملاحظته، فذلك الملف الأسود الملطخ بالدم وشبكات المؤامرة لن يستطيع أحد أن يفك شفرته، التي غيب بعض أشخاصها، إلا من خلال تعاون وثيق بين النظامين الجديدين في لبنان وسوريا. العقدة التي تظهر أمامنا أن البعض بهدف تعطيل العدالة يضع العصي في دولاب التقارب السوري اللبناني، فقد تمت بعض المناوشات على الحدود السورية اللبنانية مؤخراً، وبدأ بعض الإعلام الموالي للنظام الأمني السوري اللبناني السابق، يضخم تلك المناوشات، ويصفها بأنها اعتداء يساوي الاعتداء الإسرائيلي على الجنوب اللبناني بالضبط، في محاولة، قد تنجح لدى البعض، بشيطنة النظام السوري الجديد، تمهيداً لعرقلة فتح الملفات المشتركة السابقة، على قاعدة العدالة الانتقالية، من فضح جرائم الاغتيال، إلى فضح جرائم الفساد، التي يتوجب التعاون الوثيق فيها.
لقد كان لبنان في العقود الخمسة الماضية مزرعة استرزاق لبعض المتنفذين السوريين الفاسدين، كما ساعدتهم شريحة داخلية أرادت الاستقواء بهم للسيطرة على البلد، في تهميش كامل للمكونات الأخرى، يبدو أن هذه الشريحة تشعر بمخاطر الوفاق الذي يمكن أن يحدث بعد استقرار الأمور، وبالتالي عليها أن تقوم بما أمكن لتعويق السلم الأهلي اللبناني بين فترة وأخرى، وأيضاً قطع الطريق على وفاق بيروت – دمشق، حتى لا يتفرغ لفتح الملفات السوداء السابقة، وهي أولوية لكل الوطن اللبناني، ومدخل للاستقرار في الشرق الأوسط.
آخر الكلام: ثورة الأرز 2005 كانت بداية إنهاء النفوذ الأسدي في لبنان، المخاطر أن ينسى بعض السياسيين اللبنانيين، في خضم صراعاتهم، مظالم تلك المرحلة.
الشرق الأوسط
———————
أوروبا في صراعها الوجودي/ بيار عقيقي
22 فبراير 2025
وجودية القارّة الأوروبية لم تعد نقاشاً بغرض قتل الملل في صالون باريسي، ولا حواراً فلسفياً متخيّلاً يتجادل فيه فلاسفة القرون المتعاقبة، من الإغريق إلى الألمان والفرنسيين. اليوم، وبعد انتفاضة الرئيس الأميركي دونالد ترامب على كلّ ما تمثله أوروبا، خصوصاً في قتالها غير المباشر في أوكرانيا ضدّ الروس، أصبح الأوروبيون أمام واقع صعب وفعلي، يستلزم التحرّك بسرعة لصياغة مستقبل أكثر تفرّداً، إلى حدّ رسم طريق التحوّل إلى “قطب” من “أقطاب” العالم. لم تعد المسألة مرتبطةً بالحاجة الدائمة إلى الأميركيين من خلف المحيط الأطلسي لنجدتهم، كما حصل في الحربين العالميتَين الأولى (1914 ـ 1918)، والثانية (1939 ـ 1945)، ذلك لأن ظروف اليوم مختلفة عن هاتيك الحربَين، تحديداً في الجغرافيا السياسية.
بالتوازي، لا يعني إضعاف ترامب مواقف أوكرانيا وأوروبا تفوّقاً روسياً، على اعتبار أن الروس أضحوا أضعف من قبل، إلى درجة أن الاستعانة بقوات كورية شمالية لتحرير أجزاء من مقاطعة كورسك الروسية كافية لفهم حقيقة “القوة الروسية”. وقد يكون ذلك أيضاً من أسباب طرح ترامب مسألة سحب القوات الأميركية من أوروبا، لأن القوة الروسية تكمن في الأسلحة النووية، لا في التقليدية منها، بعد الاستنزاف ثلاث سنوات في الحرب الأوكرانية. بالتالي، تنتفي الحاجة الأوروبية إلى الجيش الأميركي بسبب قوة الجيش الروسي وفق هذا المنطق. ومفهوم الضعف الروسي ليس جديداً على موسكو، لأن تاريخها في القرن العشرين مرّ به مرَّتَين على الأقلّ، بعد ولادة ثورة 1917، وبعد سقوط السوفييت في عام 1991. في المقابل، فإن الأوروبيين الذين تمكّنوا من بناء مسار اقتصادي صلب بعد الحرب العالمية الثانية، مستعينين بمشروع مارشال الأميركي وإفرازاته، بدأوا رحلةَ العودة إلى سنوات ما بين 1918 و1939، التي تستلزم منهم حالياً التعلّم منها لبناء وحدة سياسية، انطلاقاً من شبه إجماعهم على دعم أوكرانيا ضدّ الروس.
عدا ذلك، ما بنته أوروبا، منبع قادة الاستعمار في أفريقيا والأميركيتين والشرقين الأوسطي والآسيوي، في عقود ما بعد الحرب الباردة (1947 ـ 1991)، مُعرَّض للاندثار الذي سيستولد فراغاً عارماً، ليس بالضرورة أن يستغلّه الروس لعجزهم، بل يمهّد لنشوء موجات يمينية متطرّفة وقومية، تفضي إلى حروب داخلية أقلّوية وإثنية. هنا تكون مذابح البلقان في الحروب اليوغوسلافية مجرّد روضة أطفال أمام احتمالات أوروبية كهذه. عملياً، تحتاج أوروبا إلى قاطرةٍ من رأسَين: ألمانيا وفرنسا، مدعومةٍ من أعمدة إيطالية وبريطانية، للتحوّل إلى المبادرة في صناعة قرار أوروبي متحرّر نسبياً عن الأميركيين، من دون معاداتهم. في النهاية، لن يبقى ترامب إلى أبعد من عام 2029، مع نهاية ولايته الرئاسية.
ما تستطيع ألمانيا وفرنسا فعله أكبر بكثير ممّا يقوم به قادتهما. الجيوبوليتيك الألماني نعمة حقيقية لبرلين، بموقعها وسط القارّة الأوروبية، وبالتالي قدرتها على الإمساك بخطوط المواصلات كلّها، شرقاً وغرباً وجنوباً وشمالاً، أمّا فرنسا فتبقى المفتاح الأمثل لمحيط أطلسي لا تعرقله الجزر البريطانية. وطيلة سنوات ما بعد الوحدة بين الألمانيتين، في عام 1990، حاولت ألمانيا مراراً استغلال موقعها، رغم أن ذلك قادها إلى الاستنجاد بروسيا طاقوياً، لكنّها أظهرت حقيقة النزعة القيادية الكامنة في اللاوعي الجماعي الألماني. الفرصة فريدة اليوم أمام الألمان لقيادة أوروبا ضمن مفهوم استقلالية القرار الأوروبي، شرط ألا يقفز “البديل لأجل ألمانيا” إلى السلطة. فرنسا من جهتها، لم تفهم بعد أن المعالجات التقليدية للمسائل الدينية والعرقية والطبقية تمنحها مظهر العاجز عن التحرّك، تحديداً بعد الفشل الذريع في التفاهم مع الأفارقة، والانسحابات المتلاحقة للجنود الفرنسيين من دول أفريقية، وآخرها ساحل العاج، الخميس الماضي. تحتاج باريس عملياً إلى اعتماد مقاربةٍ مبنيةٍ على فعل لا ردّة فعل، رغم اقتران اسم الرئيس إيمانويل ماكرون بمحطّات الفشل الفرنسي كلّها. تحتاج أوروبا عملياً إلى ونستون تشرشل ما.
العربي الجديد
————————————–
انتظار ثمن أم رفض مبدئي.. هل تسلم روسيا الأسد لسوريا؟/ لين خطيب
تحديث 22 شباط 2025
منذ سقوط النظام في 8 كانون الأول/ديسمبر 2024 وفرار رئيسه إلى روسيا، يثار التساؤل حول ما إذا كان الرئيس الروسي فلاديمير بوتين سيسلم بشار الأسد إلى سوريا لمحاسبته على جرائمه ضد الشعب السوري. بالنظر إلى سياسات روسيا ومصالحها الاستراتيجية في المنطقة، يبدو أن موسكو لن تقدم على خطوة تسليم الأسد بسهولة ولكن..
تعتبر سوريا نقطة ارتكاز مهمة لروسيا في الشرق الأوسط، حيث تمتلك موسكو قاعدتين عسكريتين في البلاد، قاعدة حميميم الجوية وقاعدة طرطوس البحرية، وهما جزء مهم من لوجستيات عرض وتأكيد القوة بالمنطقة والعالم أيضًا.
ورغم تغير المعادلة السياسية في سوريا بعد سقوط الأسد على يد المعارضة السورية، فإن روسيا لا تزال تبحث عن سبل للحفاظ على نفوذها هناك وفي المنطقة عامةً. فهي تتاجر بشكل مكثف مع تركيا وإيران والإمارات العربية المتحدة، وتنفذ مشاريع واسعة النطاق في مجال الطاقة والنقل في المنطقة، وتسعى إلى القيام بدور وساطة في الصراعات المحلية، وتتعاون مع الجماعات الموالية لإيران للضغط على الولايات المتحدة لتحجيم نفوذها في الشرق الأوسط وأفريقيا. هذه مصالح كبيرة، ويبدو أن القوات الروسية تحاول إعادة تموضعها وتأمين مستقبل وجودها العسكري، رغم التغيرات التي تشكل ضغوطا متزايدة على هذا الوجود.
رغم هذا الوضع المتزعزع، رفضت روسيا التعليق على تقارير تتحدث عن احتمال تسليم بشار وامتنعت عن الإدلاء بأي موقف رسمي حول مصيره، ما يعكس عدم استعدادها لمناقشة الأمر علنًا.
على الأقل في الوقت الحالي، وعلى الرغم من الضغوط الدولية، لا تبدو موسكو مستعدة لتقديم بشار ككبش فداء، خصوصًا أن ذلك قد يعطي إشارات غير مرغوب فيها لحلفائها في المنطقة وفي العالم، مفادها أن روسيا قد تتخلى عنهم إذا تطلب الأمر.
إن خسارة روسيا لقاعدتيها في سوريا ستمثل انتكاسة كبيرة لنفوذها، وستضعف قدرتها على العمل في أفريقيا بعد سوريا، ذلك أن المركز اللوجستي التالي للقيادة العسكرية الروسية هو ليبيا. لكن طائرات موسكو لا يمكنها الوصول إلى ليبيا دون التوقف للتزود بالوقود إلا عندما لا تكون محملة بالبضائع. وهذا قد يدفع موسكو إلى إعادة تقييم علاقاتها مع القيادة السورية الجديدة بطريقة من الطرق. هناك إشارات إلى أن الدور الروسي في سوريا يتراجع بفعالية وسرعة، ما قد يدفع بوتين للتخلي عن الأسد إذا كان ذلك يخدم مصالحه.
على الرغم من هذه الانتكاسة، فإن روسيا لا تزال تمتلك أوراق ضغط، منها علاقاتها المتشابكة مع مختلف الأطراف الفاعلة في المشهد السوري، بما في ذلك قادة بعض الفصائل المسلحة الذين يدركون أن الحفاظ على قنوات اتصال مع موسكو قد يكون في مصلحة سوريا على المدى البعيد.
وبوتين ليس في عجلة من أمره، حيث يدرك أن التعامل مع الأسد كورقة تفاوضية قد يمنحه مكاسب سياسية في أي محادثات مستقبلية مع الحكومة الجديدة في سوريا أو مع القوى المحالفة لها.
بوتين يأخذ وقته، وقد أجرى مؤخرًا فقط أول اتصال مع القادة الجدد في سوريا بعد سقوط الأسد. هذا يشير إلى استعداد موسكو المبدئي للتفاوض على ترتيبات جديدة تضمن استمرار نفوذها، وربما البحث عن تسوية بشأن مصير الرئيس المخلوع. فمن الناحية العملية، لم يكن الأسد سوى أداة استخدمتها روسيا لتحقيق أهدافها، وإذا ما أصبح عبئًا غير مرغوب فيه، فقد تجد موسكو طريقة لإبعاده دون أن تبدو وكأنها خضعت لضغوط خارجية معينة.
ومع هذا، يبدو من غير المرجح أن يقوم بوتين بتسليم الأسد بسهولة، كما يتمنى السوريون، إذ إن ذلك سيشكل اعترافًا ضمنيًا بأهمية القانون الدولي، وهو أمر تتجنبه موسكو حفاظًا على ضباطها وحرسها وتجارها.. ولطالما تبنى الروس سياسة تجاهل القوانين الدولية عندما تتعارض مع مصالحهم، وتسليم الأسد سيكون خطوة غير منسجمة مع هذا النهج.
لكن في الوقت ذاته، يمكن لروسيا أن تسعى إلى التخلص من الأسد بوسائل أخرى كما فعلت مع أفراد آخرين، سواء عبر التوصل إلى صفقة مع القيادة السورية تضمن له خروجًا آمنًا إلى بلد ثالث يعتبر منفى له، أو عبر تصفيته بطريقة تحافظ على صورتها كفاعل قوي في المنطقة، كما حصل مع رئيس مجموعة فاغنر يفغيني بريغوزين.
على الرغم من أن الموقف الروسي لم يتضح بعد، إلا أن التطورات الميدانية والسياسية تشير إلى أن موسكو ستبحث عن طريقة تحمي مصالحها في سوريا دون أن تتسبب في أزمة مع حلفائها. فبوتين الذي دعم الأسد على مدى سنوات، ليس مضطرًا الآن للدفاع عنه إلى الأبد، خصوصًا إذا بات يشكل تهديدًا للعلاقات الروسية مع الحكومة السورية الجديدة. أما ما إذا كان الأسد سيظل في روسيا لفترة طويلة أم أن مصيره سيتغير قريبًا، فذلك يبقى مرتبطًا بحسابات موسكو الاستراتيجية أكثر من أي اعتبار آخر.
الترا سوريا
—————————
أكراد سوريا ومستقبل علاقتهم مع دمشق/ فيصل علوش
تحديث 22 شباط 2025
تصلح المسألة المتصلة بوضع أكراد سوريا وعلاقتهم بالإدارة السورية الجديدة لأن تكون نموذجًا مصغرًا ومكثفًا، لحجم التعقيدات الداخلية المحيطة بالعملية السياسية الجارية من جهة، ومستوى التدخلات الخارجية ودورها في الشأن الداخلي من جهة ثانية، والتي يمكن لها جميعها أن تلعب دورًا فاعلًا ومؤثرًا في التطورات المحتملة للأوضاع في سوريا، وذهابها في هذا الاتجاه أو ذاك.
وقد أعلن قبل أيام قليلة، عن توصل قوات سوريا الديمقراطية (قسد) ومجلس سوريا الديمقراطية (جناحها السياسي/ مسد) والإدارة الذاتية لشمال وشرقي سوريا، التي تشرف عليها أيضًا، إلى اتفاقات فيما بينها بشأن المحادثات مع السلطات السورية الجديدة.
ومن أبرز النقاط التي تم الاتفاق عليها؛ التأكيد على أهمية الحوار مع دمشق وتعزيز التنسيق مع الحكومة السورية، وإعادة تفعيل المؤسسات المدنية والخدمية التابعة للدولة في شمال شرق سوريا، إضافة إلى الاتفاق على تسهيل عودة النازحين والمهجرين إلى مدنهم وقراهم.
كما تم الاتفاق على مبدأ وحدة الأراضي السورية، والاستعداد لدمج قوات “قسد” والمؤسسات الأمنية التابعة للإدارة الذاتية ضمن هيكلية الجيش السوري الجديد، مع التأكيد على ضرورة انسحاب جميع المقاتلين غير السوريين من صفوف قوات سوريا الديمقراطية ومنطقة شمال وشرقي سوريا، كخطوة لتعزيز السيادة الوطنية والاستقرار.
التوافقات المعلنة وتهنئة الشرع تعكس انفتاح الأكراد على الحوار مع دمشق، في وقت تواجه فيه “قسد” لحظة مفصلية وسط المتغيرات السياسية والعسكرية
ولم تصدر أية تأكيدات رسمية من الحكومة السورية أو الجهات المعنية، حول تفاصيل هذه النقاط، أو آليات تنفيذها، خصوصًا أنها تبقى عناوين عامة وعريضة لا تقدم إجابات وافية حول تفاصيل القضايا الخلافية بين الجانبين. وكان من اللافت أن مظلوم عبدي، قائد قوات “قسد”، قام بعد صدور تلك النقاط بتهنئة (متأخرة) للرئيس أحمد الشرع بمناسبة تولّيه منصب الرئاسة للمرحلة الانتقالية، كما دعاه إلى زيارة مدن شمال وشرقي سوريا، لتعزيز الحوار والعلاقات بين مختلف مكونات الشعب السوري، وهو ما يُمهد للدخول في تفاهمات أعمق وأشمل حول صيغة العلاقة في المرحلة المقبلة.
وعلى العموم، فقد عُدّت التوافقات المعلنة، وما أعقبها من تهنئة للشرع، بمثابة مؤشرات إيجابية على انفتاح الأكراد على الحوار وحل القضايا الخلافية مع السلطات الجديدة في دمشق، خصوصًا أن “قسد” تواجه اليوم لحظة مفصلية في تاريخها، في ظل المتغيرات السياسية والعسكرية الحاصلة في سوريا، والضغوط التركية والغربية، التي تُضيّق الخيارات أمامها، والتي قد تضعها قريبًا في مواجهة أحد سيناريوهين؛ إما المضي في مسار التفاهم مع دمشق وإعادة تموضعها ضمن الهيكلية الجديدة، أو الولوج إلى مرحلة التصعيد والمواجهة، التي لا تبدو لصالحها في ظل تراجع عوامل قوتها السابقة.
وفي المقابل، ثمة من يرى أنه من المبكر التفاؤل بحل جميع الخلافات الجوهرية القائمة بين الطرفين، وخاصة ملف اندماج “قسد” في الجيش السوري، حيث يؤكد البعض على أنها ستبقى متمسكة بموقفها الرافض لحل نفسها والتخلي عن استقلالها العسكري والإداري، ربطًا بسعيها إلى الاعتراف كذلك بشكل من أشكال الإدارة الذاتية للأكراد ضمن أي تسوية سياسية مستقبلية، في حين تصرّ دمشق على دمج القوات جميعها ضمن الجيش السوري الموحد، وعدم السماح بوجود أي تشكيلات عسكرية مستقلة، أو أي شكل من أشكال الفيدرالية، معتبرة أن ذلك يهدد وحدة البلاد ويشكل خطرًا على سيادتها.
نشأة “قسد” وصعود دورها
وفي الواقع، لطالما اعتُبرت قوات سوريا الديمقراطية “قسد” طرفًا رئيسيًا في الصراع السوري، وقد تشكلت في تشرين الأول/ أكتوبر 2015؛ بُعيد التدخل العسكري الروسي في سوريا، وحظيت بدعم أميركي كبير، لا سيما في قتالها ضد تنظيم الدولة الإسلامية (داعش)، فضلًا عن أنها شكلت حاملًا اجتماعيًا وسياسيًا للتواجد العسكري الأميركي في المنطقة، في مقابل التدخل الروسي والإيراني الداعمين للحكم الأسدي آنذاك.
وتبسط قسد سيطرتها على أجزاء واسعة من ثلاث محافظات سورية هي: الحسكة ودير الزور والرقة، بواقع 25% من مساحة سوريا تقريبًا. وأغلب المناطق التي تسيطر عليها غنية بالموارد الطبيعية ومصادر المياه، وتوجد فيها أكبر حقول النفط في البلاد مثل: حقل السويدية والعُمر والرميلان، إضافة إلى أنها من أكبر مناطق إنتاج القمح في سوريا.
مناطق قسد
وأغلب سكان هذه المناطق ينتمون إلى العشائر العربية، وقد انضم كثير من أبنائها إلى قوات “قسد”، كخيار بديل عن الانضمام إلى قوات النظام السابق، (في عام 2019، كان يقدر عدد المقاتلين العرب في قسد بنحو 60% من قواتها). ولكن هذا الأمر تغير الآن وبدأ الكثير من هؤلاء المقاتلين بالانفضاض عن “قسد”، والانضمام إلى قوات الجيش السوري الذي تشكله السلطة الجديدة.
وإذا كان هناك من يقول بأن الحكم السوري الجديد يتكون من معتدلين ومتشددين إزاء التعامل مع أكراد سوريا، فإن هناك بالمقابل من يتحدث عن “تيار صقوري” داخل قسد، مقرب من حزب العمال الكردستاني (PKK)، يدفع باتجاه رفع سقف المطالب التفاوضية مع دمشق، للحفاظ على مكتسبات المرحلة السابقة والإبقاء على خصوصية وهيكلية “قسد” في شمال شرقي سوريا. وإلى جانبه، هناك تيار آخر معتدل يسعى للتوصل، عبر المفاوضات، إلى أفضل شروط تلبي طموح المكون الكردي في الحقوق السياسية والثقافية، على غرار تجربة إقليم كردستان العراق، مثلًا، أي بما يضمن الحفاظ على الهوية الكردية ثقافيًا وسياسيًا، على أن تدار موارد المنطقة في إطار دور مركزي لدمشق.
وفي حين تراهن “قسد” على أوراق قوة تحوز عليها، كتاريخ قتالها للتنظيمات الإرهابية، والسجون والمخيمات التي تحتجز داخلها مقاتلي داعش، الذين يقدر عددهم بـ10 آلاف سجين إضافة إلى أسرهم، حيث يزيد العدد ليبلغ عشرات الآلاف، بينهم عدد كبير من المقاتلين الأجانب، إلا أنّ المتغيرات المتبدلة في المشهد السياسي السوري، وتراكم العوامل التي تصب في صالح الحكومة السورية الجديدة تدفع نحو تراجع عناصر القوة لدى “قسد”، وبالتالي تضييق الخيارات المتاحة أمامها، وفي المحصلة تغليب تيار المرونة السياسية في صفوفها، وهو ما يفسر، في نظر المراقبين، الاجتماع الثلاثي الأخير وما تمخض عنه من مخرجات.
متغيرات المشهد السوري
ومن أهم المتغيرات التي تخشى منها “قسد” هو الموقف الأميركي في عهد إدارة ترامب، واحتمال سحب القوات الأميركية من سوريا، علمًا أن وجود هذه القوات (حوالي 2000 جندي) هو الذي يحول دون أي اجتياح تركي أو سوري للمناطق الكردية.
ويتذكر الأكراد أنه في سنة 2019، وبعد مكالمة هاتفية مع الرئيس التركي أردوغان، قرر ترامب فجأة سحب القوات الأميركية من سوريا، مما سمح لتركيا بشن هجوم واسع على شمال سوريا.
وفي سياق المتغيرات الجارية، ذكرت العديد من الوسائل الإعلامية أن الزعيم الكردي عبد الله أوجلان، مؤسس حزب “العمال الكردستاني”، بعث، من سجنه في تركيا، برسالة إلى “قسد”. وعلى رغم أنه لم يكشف عن تفاصيل الرسالة، إلا أن الترجيحات ذهبت إلى أنها تتضمن الدعوة إلى إلقاء السلاح ووقف الأعمال العسكرية، والذهاب نحو المفاوضات والحلول السلمية للمشاكل العالقة.
وعلى سبيل المثال، فإن التأكيد الوارد في “الاتفاقات المعلنة”، بشأن “ضرورة انسحاب جميع المقاتلين غير السوريين من صفوف قوات سوريا الديمقراطية ومنطقة شمال وشرقي سوريا”، يبدو كأنه استجابة لحالة التوجّس التي تسود لدى المكون العربي من ممارسات وتوجهات حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي في سوريا، الذي يُعد الذراع السورية لحزب العمال الكردستاني التركي (PKK)، وهو القوة المسيطرة الحقيقية على مناطق شمال شرقي سوريا، وتُعدّ “مسد” و”قسد” والإدارة الذاتية التي جرى تشكيلها في عام 2013، مجرد أذرع وتفرعات سياسية وعسكرية له.
كما يعد هذا التأكيد استجابة كذلك للحساسية التركية الفائقة تجاه وجود عناصر وكيانات غير سورية، تصنفها ضمن قائمة المنظمات الإرهابية، وتطالب بإنهاء تواجدها في شمال شرقي سوريا، كونها تشكل ما تعتبره تهديدًا لأمنها القومي، علمًا أنها تخوض حربًا منذ ثمانينيات القرن الماضي ضد حزب العمال الكردستاني.
وتنظر أنقرة إلى “قسد” بوصفها فرعًا سوريًا لـ”حزب العمال الكردستاني” المصنف على قوائم الإرهاب، وتعتبره تهديدًا كبيرًا للأمن القومي التركي، ومن هنا يمكننا أن نفهم حجم الضغط الذي تمارسه تركيا على دمشق، من أجل حلّ قسد ومنعها من البقاء ضمن الهيكل التنظيمي والسياسي الحالي، كفرع متصل، بشكل أو بآخر، بحزب العمال.
لكن، وعلى رغم تاريخية العلاقة بين “قسد” و”الاتحاد الديمقراطي”، والحزب الأب “العمال الكردستاني”، الذي تتمركز قيادته في جبال قنديل، (المتصلة جغرافيًا بمناطق سيطرة قسد)، فإن هذا لا يمنع من وجود عناصر سورية (سواء كردية أو عربية) تحاول التمايز عن “قيادة قنديل” المدعوم من إيران، والميل باتجاه التفاوض والسعي من أجل الحلول السلمية والاندماج أكثر ضمن السياسة السورية.
وقد شهدت الفترة الماضية عقد لقاءات عدة بين “قسد” والإدارة السورية الجديدة التي تتطلع حتى الآن إلى الحوار والتفاوض مع قسد بوصفه خيارها الأساسي لحل الخلافات معها، ولكن بعض مسؤولي هذه الإدارة يرون أن “قسد” تماطل، وتريد شراء الوقت بانتظار اتضاح الموقف الأميركي، وخاصة لجهة موضوع بقاء أو انسحاب القوات الأميركية المتواجدة في سوريا، والتي تستقوي بها “قسد”.
وقد لا تمانع الإدارة الجديدة في دمشق منح المجالس المحلية في مناطق الأغلبية الكردية نوعًا من الاستقلالية في إطار من اللامركزية الإدارية، التي يمكن أن تشمل مختلف مناطق سوريا، مع الإقرار دستوريًا بضمان الحقوق الثقافية للمكون الكردي، لكنها تبدي معارضتها لأي شكل من أشكال الحكم الذاتي أو الفدرالي، الذي تعتبره يتعارض مع وضع سوريا ووحدة أراضيها وشعبها.
الترا سوريا
—————————–
من ينضج أوّلاً في سوريا… الدولة أو المجتمع المدني؟/ محمد سليمان
السبت 22 فبراير 2025
بعد أن طوت سوريا عقداً وأكثر من الدماء، أصبح الحديث عن السلم الأهلي اختباراً حقيقياً لفهم معنى التعايش بعد الحرب. فهل يكفي أن نعلن عن المصالحة لتعود الحياة كما كانت؟ أو أنّ جراح الماضي ستظلّ تهدد كل محاولة لرأب الصدع؟
المجتمع المدني، الذي نشأ وتطوّر في ظلّ ظروف استثنائية، يحاول اليوم لعب دور في تعزيز العدالة الانتقالية، لكنه يصطدم بأسئلة معقدة: كيف يمكن تحقيق العدالة؟ وهل الدولة قادرة على تطبيقها؟ وهل يمكن للمجتمع المدني أن يملأ الفراغ الذي تركته المؤسسات المدمّرة؟
يبرز المجتمع المدني كلاعب أساسي في محاولة ترميم النسيج المجتمعي وتوثيق الانتهاكات، والعمل على تحقيق العدالة الانتقالية، لكن السؤال الذي يفرض نفسه: إلى أي مدى يستطيع أن يحمل المجتمع المدني على عاتقه مسؤوليات بحجم دولة؟ وهل يمكنه، في ظلّ غياب مؤسسات قوية، أن يكون أكثر من مجرد صوت في العاصفة؟
يحاول رصيف22، الإجابة عمّا سبق من أسئلة، عن طريق طرحها على ناشطين مجتمعيين لكل منهم رؤيته الخاصة حول ما يمكن، وما لا يمكن، للمجتمع المدني تحقيقه في سوريا اليوم.
هل يستطيع تعويض غياب الدولة؟
ترى حنين أحمد، الناشطة المدنية، أنّ المجتمع المدني ليس بديلاً عن الدولة، لكنه يعمل على سدّ الفراغات التي خلّفها انهيار المؤسسات، مؤكدةً أنّ دوره الأهم اليوم هو تعزيز العدالة الانتقالية، برغم التحديات الهائلة التي تعترض طريقه، ومشددةً على أنّ المسار هذا من مسؤولية النظام السياسي الجديد، كما أن متابعة مسار العمل على العدالة الانتقالية من مسؤولية الدولة.
تضيف في حديثها إلى رصيف22: “العدالة الانتقالية لا تعني فقط المحاكمات، بل تشمل التوثيق، وردّ الحقوق، وضمان عدم الإفلات من العقاب. اليوم، المجتمع المدني هو الجهة الوحيدة التي تحاول القيام بهذه الأدوار، لكنه يظل محدوداً بسبب غياب الإطار السياسي والقانوني الذي يمكن أن يترجم هذه الجهود إلى إجراءات فعلية. لا يمكن أن نطالب الضحايا بالتسامح دون أن يشعروا بأنّ هناك عدالةً تُحقق، وإلا فإنّ المصالحة ستبقى مجرد إجراء شكلي لا يغيّر شيئاً في الواقع.”
التوثيق وسط الفوضى… هل يمكن توحيد الرواية؟
مع تزايد انتشار وسائل الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي، باتت عملية توثيق الجرائم والانتهاكات أكثر تعقيداً من أي وقت مضى. الروايات المتضاربة والتقارير غير الموثقة خلقت حالةً من الضبابية، ما يجعل الوصول إلى حقيقة واضحة أمراً بالغ الصعوبة.
تتحدث مديرة فريق “دارة سلام”، رنا الشيخ علي، عن أهمية التوثيق الممنهج وأثره في تحقيق العدالة. تقول لرصيف22: “المجتمع المدني في سوريا تمكّن من تجاوز الحواجز الجغرافية والطائفية، سواء داخل البلاد أو في الشتات، وهذا يمنحه فرصةً فريدةً للعمل على العدالة الانتقالية، بدءاً من توثيق الجرائم وصولاً إلى رفع مطالب الضحايا عبر الجمعيات الحقوقية. لكن المشكلة الكبرى أننا أمام مفهوم مغيّب بالكامل عن جزء كبير من السوريين، خصوصاً أولئك الذين عاشوا تحت سيطرة النظام لعقود. هناك شرخ هائل في فهم العدالة الانتقالية، ما يجعل من الضروري أن يكون دورنا الأساسي، توعية الناس بأهميتها لضمان عدم تكرار الجرائم”.
وتضيف: “هناك مشكلة، وهي أنّ التوثيق ليس هدفاً بحد ذاته، بل يجب أن يكون أداةً للمحاسبة. المجتمع المدني يمكنه أن يجمع الأدلّة، لكن من سيستخدمها في المحاكم؟ التوثيق يجب أن يكون شاملاً وغير منحاز، وإلا فقد يفقد قيمته في أي عملية عدالة مستقبلية”.
المصالحة بالمحاسبة… إلامَ تهدف العدالة الانتقالية؟
السلم الأهلي لا يمكن أن يتحقق بمجرد تكرار الدعوة إليه، بل يتطلب محاسبةً عادلةً لمنع تكرار الانتهاكات. في هذا السياق، يشدد عضو تجمع سوريا الديمقراطية، حيان حيروقة، على أنّ أي حديث عن المصالحة من دون محاسبة فعلية، هو مجرد وهم، وأن المحاسبة هي الرادع الأساسي لأي مجرم. يقول: “لكن اليوم، وفق الحالات التي نشهدها، لا توجد أي محاسبة على الإطلاق، ما يعني أن الجرائم ستستمر، لأنّ مرتكبيها مطمئنون إلى أنهم لن يُحاسَبوا. إنما يمكن للمجتمع المدني أن يخفف من حدّة التوتر عبر مبادرات محلية، لكنه لا يستطيع أن يكون الجهة التي تضع القوانين أو تفرض العقوبات”.
وبحسب حديثه إلى رصيف22، يمكن التفكير في حلول عملية مثل إنشاء شبكة اتصالات داخل الأحياء وإنذارات للإبلاغ عن التجاوزات، أو تركيب كاميرات مراقبة في الشوارع بتمويل مجتمعي، أو حتى تفعيل لجان أهلية محلية لرصد وتوثيق الانتهاكات. لكن كل هذه الحلول تبقى جزئيةً ما لم يكن هناك نظام سياسي واجتماعي جديد قادر على فرض العدالة. اليوم، تتناقص أهمية مفهوم “الرادع”، الذي يمنع المجرمين من ارتكاب المزيد من الجرائم، وهذا ما يجعل أي محاولات للسلم الأهلي غير مضمونة النتائج”.
إعادة توصيف الحراك وتوثيق الأحداث
يوضح حيروقة، أنّ وضع الأحداث التي شهدتها سوريا منذ 2011، في سياقها الصحيح، أمر بالغ الأهمية “فقد مررنا بأطوار عدة متباينة ومعقّدة”، محذراً من أنّ أي تشخيص خطأ سيؤدي إلى تحليلات مغلوطة حول سبل بناء الدولة السورية الجديدة. ولفت إلى أنّ قرار مجلس الأمن 2254، الصادر عام 2015، كان أحد أبرز نقاط التحول التي مرت بها الأزمة السورية، ما يستوجب التوقف عنده وتحليله بشكل دقيق لما يلقاه من إجماع دولي وعربي في جوهره، وتشكيله خريطة طريق مرتبطة بجدول زمني لإدارة مرحلة انتقالية بالاعتماد على مؤتمر جنيف1.
وفي هذا السياق، يشدد على أنّ الناشطين في المجتمع المدني تقع على عاتقهم مسؤولية الاجتماع والتحاور والتوافق، وصولاً إلى إصدار بيانات تعكس مجريات الأحداث بشكل موضوعي، وتحظى بأوسع توافق ممكن بين مختلف الشرائح المجتمعية والتعاون مع السلطات الحالية للوصول إلى برّ الأمان.
السلم الأهلي… خطوة نحو المستقبل أو تهدئة مؤقتة؟
يقول حيروقة، إنّ السلم الأهلي ليس شعاراً يمكن تداوله في المؤتمرات والحوارات، بل هو عملية معقدة تتطلب توازناً دقيقاً بين المحاسبة والمصالحة وهدفه الاستقرار الاجتماعي، ولا يمكن للمجتمع المدني أن يحقق ذلك بمفرده، ولا يمكن للدولة، في حال نشوء نظام جديد، أن تتجاهل دور الناشطين والمجتمع المحلي.
وما تحتاجه سوريا اليوم، إستراتيجية واضحة تتضمن العدالة الانتقالية كجزء أساسي من أي مشروع سياسي مستقبلي، هدفها البناء وتمكين أركان المجتمع، فمن دون عدالة، لن يكون هناك سلم أهلي حقيقي، ومن دون سلم أهلي، ستظلّ البلاد عالقةً في دوامة العنف والانقسامات. هل يمكن للمجتمع المدني أن يكون بديلاً عن الدولة؟
تجيب رنا الشيخ علي: “أي محاولة لتحميل المجتمع المدني مسؤولية بناء الدولة بشكل منفرد، هي محاولة غير واقعية. خاصةً أننا في إطار مرحلة بناء دولة جديدة، قائمة على العدالة والمساءلة، والمجتمع المدني يمكنه أن يكون شريكاً في هذه العملية، لكنه لا يمكن أن يحلّ مكان مؤسسات الدولة”.
وفي سياق متصل، يؤكد المحامي ورئيس حركة “البناء الوطني”، أنس جودي، أنّ المجتمع المدني، إلى جانب القطاع الخاص، يشكل اليوم إحدى الركيزتين الأساسيتين في المرحلة الانتقالية التي تمرّ بها سوريا. ويوضح أنّ “الغياب الطويل لثقافة العمل السياسي والتصحير الممنهج للحياة العامة جعلا من المجتمع المدني فاعلاً أساسياً في سدّ الفراغ، ليس فقط في مجالات الإغاثة والخدمات، بل أيضاً في تعزيز العدالة الانتقالية والتماسك الاجتماعي”.
وفي تصريحه لرصيف22، يشدد جودي، على أنّ سوريا اليوم، مهما كان شكل التوافق القادم، أمام حكومة مركزية ضعيفة جداً، ما يجعل المجتمع المدني والقطاع الخاص اللاعبين الأساسيين في إعادة بناء البلاد. ويضيف: “يتداخل دور المجتمع المدني مع القطاع الخاص في بعض المساحات، لكن التركيز الأهم يجب أن يكون على دوره في تعزيز الأمن المجتمعي، والعمل على إعادة التوازن الاقتصادي والاجتماعي، ودفع عجلة الانتقال السياسي”.
الأمن المجتمعي… التحدّي الأكبر
يقول جودي: “التحدي الأكبر أمام المجتمع المدني اليوم هو تحقيق الأمن المجتمعي بمفهومه الواسع، الذي لا يقتصر فقط على الجانب الأمني التقليدي، بل يشمل أيضاً الأمان الاقتصادي والاجتماعي”، لافتاً إلى أنّ مسؤولية تحقيق هذا الأمن لا تقع فقط على عاتق المنظمات غير الحكومية، بل تشمل أيضاً النقابات، والاتحادات، والمبادرات المحلية، وحتى القيادات الأهلية.
يضيف: “ضعف السلطة المركزية يحتّم على المجتمعات المحلية لعب دور أكبر في إدارة شؤونها، سواء في تقديم الخدمات أو في دعم الاقتصاد المحلي، لكن تحقيق الأمن المجتمعي لا يمكن أن يتم بمعزل عن السلطة المركزية، التي لم تعد قادرةً وحدها على بسط الأمن في جميع المناطق، ما يستوجب تعاوناً وثيقاً بين المجتمعات المحلية والسلطة لتحقيق الاستقرار”.
ففي السابق، كان الحديث يتركز على دور المجتمع المدني في التعافي وإعادة الإعمار، أما اليوم، فالتحدّي أصبح أعمق: كيف يمكن تحقيق الأمن المجتمعي في بيئة لا تزال تعاني من الانقسامات والصراعات؟ يتساءل.
العدالة الانتقالية والمصالحة الوطنية: أدوار المجتمع المدني
المجتمع المدني اليوم هو أحد الفاعلين الأساسيين في صياغة المبادئ التوافقية التي قد تشكل الأساس للعقد الاجتماعي الجديد. وصياغة المبادئ فوق الدستورية، والعمل على العدالة الانتقالية والمصالحة الوطنية، ليسا مسؤولية الأحزاب السياسية أو القوى القريبة من السلطة، بل مهمة المجتمع المدني، الذي يمتلك القدرة على طرح نقاشات معمقة بعيداً عن التجاذبات السياسية، كما يرى جودي.
ويشدد على أنّ هذه العملية “لا يمكن اختزالها في مؤتمر واحد أو جولة مفاوضات، بل تحتاج إلى سنوات من الحوار مع مختلف الفئات والمناطق، للوصول إلى توافق حقيقي حول قضايا محورية مثل هوية الدولة، وشكل الحكم، وفصل السلطات، ومستويات اللامركزية، والحقوق والحريات الأساسية، فالعدالة الانتقالية تطرح أسئلةً صعبةً: هل المطلوب المحاسبة فحسب، أو المصالحة أيضاً؟ وهل يجب أن تستهدف المحاسبة طرفاً واحداً، أو أنّ هناك مسؤوليات مشتركةً يجب الاعتراف بها؟”، مؤكداً أنّ “توثيق الانتهاكات هو جزء أساسي من هذه العملية، ليس فقط من أجل العدالة، ولكن أيضاً لمنع تكرار الانتهاكات في المستقبل”.
ويشدّد على أنّ “المجتمع المدني يجب أن يكون هو من يقود صياغة سردية وطنية موحدة حول بناء السلام والمحاسبة، تحدد بوضوح: أين تبدأ المحاسبة؟ وأين يجب أن تتوقف؟ وما هي المعايير التي سيتم تبنيها؟ الأهم من ذلك، هل الهدف هو الانتقام أو ضمان عدم تكرار جرائم الماضي؟ هذا الدور لا يمكن أن يكون مجرد استجابة لتوجيهات السلطة، بل يجب أن يكون مبادرةً مستقلةً تهدف إلى تحسين الأوضاع الاجتماعية والسياسية”. فبحسب ما يقول، المجتمع المدني ليس مجرد أداة تنفيذية، بل هو مساحة للنقد البناء ولخلق بدائل أفضل. إذا تحول إلى مجرد تابع للسلطة، أياً كانت هذه السلطة، فإنه سيفقد وظيفته الأساسية كمحفز للتغيير.
اليوم، لا يمكن انتظار حلول جاهزة من القوى السياسية، فالمجتمع المدني هو الذي يجب أن يبادر إلى تقديم الأفكار والممكنات لتحقيق الانتقال السياسي، وبناء منظومة تفكير جديدة تضمن عدم العودة إلى دوائر العنف والانقسام مجدداً، يضيف.
مقاربة شاملة… وإلّا؟
ما بين العدالة الانتقالية، التوثيق، السلم الأهلي، والمحاسبة، يبدو المجتمع المدني السوري وكأنه يسبح ضد تيار جارف، لا يستطيع أن يكون بديلاً عن الدولة، لكنه أيضاً لم يعد مجرد كيان هامشي.
في سوريا اليوم، هناك حاجة إلى مقاربة شاملة، حيث تتقاسم الدولة والمجتمع المدني مسؤولية بناء مستقبل أكثر عدلًا، ودون ذلك قد تتحول العدالة إلى مجرد شعار، ويبقى السلم الأهلي هشّاً. وعليه يصير السؤال: كيف ستواجَه العاصفة التالية؟
رصيف 22
————————————-
=======================